1 - تمهيد
2 - المنبع الهليني
3 - أزمة الثقافة الإغريقية
4 - عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة
5 - مذهب المسيحية
6 - العصور الوسطى (أولا)
7 - العصور الوسطى (ثانيا)
8 - صنع العالم الحديث: (أولا) الإنسانية
9 - صنع العالم الحديث: (ثانيا) البروتستانتية
10 - صنع العالم الحديث: المذهب العقلي
11 - القرن الثامن عشر: نظرة كونية جديدة
12 - القرن التاسع عشر: (أولا) النظرة الكونية المتقدمة
13 - القرن التاسع عشر: (ثانيا) الهجوم من اليمين ومن اليسار
14 - القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
15 - منتصف القرن العشرين: عمل لم يتم
1 - تمهيد
2 - المنبع الهليني
3 - أزمة الثقافة الإغريقية
4 - عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة
5 - مذهب المسيحية
6 - العصور الوسطى (أولا)
7 - العصور الوسطى (ثانيا)
8 - صنع العالم الحديث: (أولا) الإنسانية
9 - صنع العالم الحديث: (ثانيا) البروتستانتية
10 - صنع العالم الحديث: المذهب العقلي
11 - القرن الثامن عشر: نظرة كونية جديدة
12 - القرن التاسع عشر: (أولا) النظرة الكونية المتقدمة
13 - القرن التاسع عشر: (ثانيا) الهجوم من اليمين ومن اليسار
14 - القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
15 - منتصف القرن العشرين: عمل لم يتم
أفكار ورجال
أفكار ورجال
قصة الفكر
الغربي
تأليف
كرين برنتن
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم محمود محمود
إن من دلائل النهضة المعاصرة في الشرق العربي هذه الحركة القوية في الترجمة التي تستهدف نقل كل ما وصل إليه الإنسان في أي ركن من أركان الأرض إلى لغتنا العربية، من أدب، وعلم، وفن، وفلسفة، وتاريخ، وغير ذلك من المعارف الإنسانية؛ لكي تنشر هذه الأفكار بين الناس وتختلط بتراث غني خلفه لنا أسلافنا الأمجاد، فتنبت نباتا طيبا جديدا، نرجو أن يكون دعامة التقدم في هذه البلاد ذات الحضارات القديمة، كما نرجو أن يكون هذا المزيج الثقافي الجديد، الذي يجمع بين ما يكشفه الإنسان بعقله وما يكشفه بقلبه وبصيرته، هاديا للبشرية ومنقذا لها من الضلال الذي تتردى فيه، ومن حالة القلق التي تساوره.
وبالرغم من أننا كنا نود أن تتلفت هذه الحركة إلى الشرق فتنقل إلينا تراث الهند والصين والفرس، وإلى الجنوب فتعرفنا بتفكير الإنسان الأفريقي، كما تلفتت إلى الشمال والغرب، إلا أنها اتجهت في الواقع بأكثر جهدها نحو الغرب وحده فأعطتنا صورة واضحة عن حكمة الإغريق، وسياسة الرومان، ومعالم النهضة الأوروبية ، واتجاهات الفلسفة والعلوم الحديثة.
وقد انتقلت إلينا هذه المعارف في أغلب الأحيان في صور شتيتة لا يكاد يربط بينها رابط؛ فهذا علم، وهذا فن، وهذه فلسفة، إلى غير ذلك دون أن ندري إن كان بالعقل الذي أنتج كل ذلك ميزة معينة، أو خصيصة ذاتية يتفرد بها بين عقول الأمم الأخرى ولا ندرك مقدار تغلغل هذه الأفكار في أذهان عامة الشعب وتأثرهم بها.
ثم وقع بين يدي هذا الكتاب، الذي كان أول صدوره في عام 1950م، لمؤلفه كرين برنتن، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد بأمريكا، وتصفحته فوجدت أنه يسد هذه الثغرة، ويحاول أن يميز الفكر الغربي بصفة خاصة اتصف بها منذ أقدم العصور حتى اليوم، فرأيت أن أقوم بنقله إلى اللغة العربية، وشجعتني على ذلك مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، التي سوف تتولى نشره في البلاد العربية كافة.
وأبادر إلى القول بأن أهم ما يتميز به الفكر الغربي هو توتر شديد في عقول المفكرين الذين يبغون الموازنة بين المثل الرفيعة العليا التي عرفها الإنسان من قديم، ونادت بها الأديان، وواقع الحياة الذي لا يتفق وهذه المثل؛ فهي تحاول أن ترفعنا إلى السماء، ويشدنا الواقع إلى الأرض بقوة لا نستطيع أن نقاومها أو أن نتصدى لها.
والنهج الذي سار عليه المؤلف في بحثه هو سرد التطورات التي حدثت في الفكر الغربي في هذا الاتجاه سردا تاريخيا مسلسلا. وقد حاول في ختام الكتاب أن يسلط ضوء الماضي على تفكير الإنسان الغربي الحديث لعله يستطيع أن يفسر هذه التيارات الجديدة التي ظهرت، والتي لا تؤمن بمنطق العقل كل الإيمان، وإنما ترى أن الإنسان كما يتأثر بالمعقول يتأثر كذلك باللامعقول الذي يرجع إلى رواسب عميقة في النفس البشرية لا يمكن أن تقتلع من جذورها، وهي رواسب من الخرافة والوحي والخيال لا سند لها البتة من العقل.
ولعل أهم ما يتعرض له المؤلف في كتابه هذا هو رواية قصة الحلول المختلفة التي كان يتخذها الإنسان في الغرب للإجابة عما يسميه الكاتب ب «المشكلات الكبرى»؛ مشكلات الوجود الإنساني ومصيره : ما فائدة الحياة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا حياة طيبة؟ وما هو الأمل في بلوغ مثل هذه الحياة الطيبة؟ أين نحن من هذا الكون؟ إلى أين المسير؟ ثم ما هو المصير؟ ماذا نعني بالحق والباطل؟ والخير والشر؟ والجميل والقبيح؟
هذه كلها أمور لا بد للإنسان في كل زمان ومكان من الإجابة عنها، وقد حاول المؤلف أن يقص علينا تاريخ هذه المشكلات في الغرب، وما رآه المفكرون فيها، وما آمن الناس به في مختلف العصور؛ فكان مؤرخا للفكر في الغرب، بأوسع معاني هذا التعبير، ولم يكن مجرد مؤرخ للفلسفة في حدودها الضيقة التي لا تشتمل على أكثر نواحي التفكير البشري، من دين أو فن أو علم أو أدب، والتي لا تعبأ بأي الأفكار في حياة الناس.
وفي هذا الصدد يقسم الكاتب المعرفة الإنسانية إلى نوعين مختلفين: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، ومجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة - مثلا - تتراكم منذ بدأ الإنسان يدرس هذه العلوم في شرق البحر المتوسط، وفي غضون آلاف السنين التي مرت بعد ذلك، حتى أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة كما ندرسها اليوم في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين هذه منتظمة مطردة، غير أنها كانت ثابتة بوجه عام. ولا تزال بعض النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة حتى اليوم، نظرية أرشميدس في الكثافة النوعية. كما أن كثيرا جدا من النظريات قد أضيفت إلى الرصيد القديم، وكذلك نبذنا الكثير من هذا القديم لما ثبت فيه من أخطاء. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعارف الجديدة المضافة آخذة في الاتساع. ولا يختلف العلماء في الأسس، وإنما يدور بينهم الجدل - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون القاعدة المستقرة. أما هذه القاعدة أو هذا الأساس فإن جميع العلماء يسلمون بصدقه.
وخير مثال نعرفه هنا للمعرفة اللاتراكمية يستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدمون فروضا معينة، وأفكارا معينة عن سلوك الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب فيها الأدباء الإغريق باليونانية منذ أكثر من ألف عام، وكان غيرهم من المفكرين في نفس الوقت يكتبون أيضا باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الموضوعات التي عالجها الأدباء الإغريق وبنفس الطريقة والأسلوب إلى حد كبير، وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارف وأفكارا وفروضا تربو كثيرا على ما كان عند اليونان.
ولا بد لمؤرخ الفكر من دراسة تطور المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، أن يدرس أثر كل منهما في الحضارة الإنسانية والسلوك البشري. ومن أجل ذلك فإن مؤلف الكتاب لم يهمل النظر في هذه الناحية أو تلك.
ومن الواضح أن الجهد لا بد أن يبذل لكي تتطور المعرفة اللاتراكمية - وبخاصة في الميادين الاجتماعية وعلوم النفس والأخلاق - حتى ترقى إلى مستوى التقدم العلمي الذي تم بالتراكم، وبذلك ترقي الحكمة التي توجه تطبيق العلم، والتي يسير الإنسان على هداها، فتؤدي به إلى حياة السلم والرفاهية. ولا يكفي أن تدور الحكمة في رءوس قلة من العباقرة المفكرين، بل لا بد من نشرها بين الناس كافة، بالتعليم والصحافة والإذاعة وغيرها من الوسائل، حتى يمكن لقادة الدول المخلصين أن يحققوا ضروب الإصلاح المختلفة بالطريق الديمقراطي السليم، فترفع العامة من شأن نفسها عن علم وخبرة ومعرفة، ولا تكون ثمة حاجة إلى قوة أعلى أو سلطة متحكمة تفرض عليها مسلكا معينا ترغمها عليه إرغاما دون وعي منها أو اقتناع من جانبها.
ومن هذه الأفكار التي يرى مؤلف الكتاب أن الغرب قد ألح دائما في تاريخه على نشرها بين الناس والأخذ بها، والتي كافح من أجلها كثير من المفكرين: الإيمان بديمقراطية الحكم السليمة، وبحق كل فرد في التعبير عن نفسه، قولا وسلوكا، دون أن يلحق الأذى بأخيه. وقد أراد الغرب دائما أن يثبت قواعد الحرية والمساواة لكي يحقق السعادة للجميع، بالرغم من الحربين العالميتين اللتين نشبتا في هذا القرن العشرين، فزعزعتا كيان الديمقراطية والحرية الفردية وهزت أركانهما لفترة نرجو ألا تطول.
وقد يكون من العسير على الفرد العادي أن يدرك الأساس العقلي الذي يبرر ضرورة المساواة والحرية والإخاء بين الناس، ومن ثم كان لا بد له من الإيمان بهذه المثل العليا عن طريق الدعوة الدينية. ومن أجل هذا فإن أثر المسيحية لم يختف قط في تاريخ الفكر الغربي منذ ظهورها حتى اليوم.
وترجع أسس التفكير الغربي إلى مصادر عدة، أولها المصدر الإغريقي؛ فقد وضع الإغريق أسس الأدب والفلسفة والتاريخ الغربي. وكانوا أول من استخدم العقل بطريقة مبتكرة لم يسبقهم إليها شعب من الشعوب، فكانوا بحق واضعي أسس التفكير الموضوعي، والتفكير المنطقي. وكانوا أول من حاول أن يعلل بالعلم ظواهر الطبيعة. وظهر من بينهم زعماء الفلسفة في تاريخ الغرب؛ فكان منهم سقراط، الذي استشهد في سبيل حرية الرأي والديمقراطية والتقدم الفكري، وكان منهم أفلاطون، صاحب نظرية المثل، وكان منهم أرسطو، ذلك الرجل الموسوعي، الذي ينادي بالتوسط في جميع الأمور.
اليونان هم منبع ما نعرفه بالثقافة الكلاسيكية، وهي أكثر من فلسفة مجردة، إنما هي أسلوب من أساليب العيش، يؤمن صاحبه بأن لبدنه عليه حقا، ولا يكفي للرجل المثقف أن يشبع تطلعاته العقلية، بل لا بد له أيضا من أن يسد حاجاته الجثمانية ولكن في «غير إسراف» كما كان يعبر الإغريق؛ فهم أول من بشر بأن الوسط هو خير الأمور، وقد نعتوه بالوسط الذهبي.
وبلغت الثقافة الكلاسيكية ذروتها في عهد بركليز، ثم أخذت بعد ذلك في التدهور، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد، عندما ضعف نظام المدن الحكومية، وأخذت الأفكار تميل نحو الوحدة العالمية، ونشر الثقافة في جميع أنحاء الأرض، وهو الدور الذي أرادت المسيحية أن تقوم به، والمسيحية كما نعلم تستمد كثيرا من أصولها من الثقافة العبرية؛ فعن طريقها تسربت هذه الثقافة إلى أوروبا.
ثم جاء الرومان، وقد أخذوا عن المدنية الإغريقية أصولها، وأضافوا إليها القوانين الموضوعة، وهندسة الطرق، فكانت من عناصر الثقافة الفردية فيما بعد.
واستمرت المسيحية في انتشارها وبسط نفوذها على عقول الناس، وقد انتصرت على غيرها من المذاهب؛ لأنها جاءت أملا للضعفاء والمساكين، تواسيهم وتؤازرهم، كما أتت بفكرة الخلاص للبشر من ذنوبهم عن طريق تضحية المسيح.
وربما كان أهم الأدوار التي لعبتها المسيحية في تاريخ الغرب قد تم أداؤه في الفترة التي تعرف في التاريخ بالعصور الوسطى؛ عصور الفروسية والإقطاع، التي كان الناس ينقسمون فيها إلى طبقتين اثنتين؛ فهم إما سادة وإما عبيد، ولا تكاد الطبقة الوسطى يكون لها وجود.
وفي هذه العصور كانت الكنيسة هي أهم المؤسسات الثقافية، ونفوذها أقوى من نفوذ أية هيئة أخرى، والفلسفة كلها تدور حول موضوعات الدين. ومن أجل دراسة الدين وعلومه أنشئت الجامعات في هذه الحقبة من تاريخ الغرب، وكان لها هي الأخرى سلطان يلي في أهميته سلطان الكنيسة.
وبالرغم من اتساع الهوة بين المثل الرفيعة التي ينادي بها الدين وواقع الحياة كما كان في العصور الوسطى، فقد كان المجتمع في تلك القرون من تاريخ أوروبا مجتمعا مستقرا، يعتقد فيه الإنسان أن الدنيا هكذا خلقت، وأن تقسيم الناس إلى نبلاء وأرقاء من طبيعة الأمور. وإذا كنا نقول اليوم بالتطور المستمر في الخليقة وفي المجتمع البشري، وفي التقدم المتصل في شئون الحياة، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، إذا كنا نعتقد ذلك منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وبعد الدفعة القوية التي دفعها داروين بفلسفته، فقد كان أسلافنا في العصور الوسطى يؤمنون بالثبات وبالاستقرار الدائم فوق الأرض.
بيد أن هذا الإيمان بالثبات الذي أخذت به تلك العصور الوسيطة لم يحل دون اطراد التقدم في العلوم وفي نظام المجتمع، ولم يكن الدين وحده هو كل شيء في حياة المرء؛ فقد كان هناك الفرسان والرهبان على السواء. ولا نغالي إذا قلنا إن ثقافة العصور الوسطى لم تكن ثقافة مستقلة في حد ذاتها منقطعة الصلة عما قبلها وما بعدها؛ إذ إنها - مهما يكن من شيء - كانت حلقة في سلسلة تطور الفكر الغربي، بل لعلها كانت مقدمة للفكر الحديث. وبالرغم مما كان يسودها من روح التشاؤم فلم تخل من بارقة أمل في المستقبل تحول في نهايتها وفي بداية العصور الحديثة إلى نظرة متفائلة إلى حياة الإنسان في هذه الدنيا.
ومن ثقافة تلك العصور انبثقت نهضة أوروبا في العلوم والفنون في القرن السادس عشر، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، وهما نزعتان إنسانيتان، ترميان إلى تخليص المرء من كثير من الخرافات العلمية والدينية، وإلى الدعوة إلى الاعتقاد في «الطبيعي» ونبذ كل «ما وراء الطبيعي» من الأمور الخارقة التي لا يسندها العقل أو يعللها المنطق.
واشتد الإيمان بالعقل تدريجا حتى هل القرن الثامن عشر وقامت حركة عامة في أوروبا تعرف بحركة التنوير تقرر إمكان تحقيق الكمال المنشود في هذه الدار الأولى بجهد العقل الإنساني، فتفاءل الناس واستبشروا بحياتهم بعدما كانوا ينظرون إلى هذه الحياة نظرة متشائمة قاتمة، ويؤمنون بأن الحياة الكريمة، والسعادة والنعيم، لا تتحقق إلا في الدار الآخرة، في الفردوس كما جاء وصفه في الكتاب المقدس.
وفي أواخر القرن الثامن عشر اندلع لهيب الثورة في فرنسا لتقضي على ما تبقى في حياة الناس من آثار الإقطاع، فأخذت بفكرة التقدم وأيدتها، ثم عززها بالعلم داروين. وآمن الناس بالحرية الفردية إلى أقصى الحدود، ولعلهم بالغوا في هذا الاتجاه إلى درجة تكاد تبلغ حد الفوضى، حتى أشرف القرن التاسع عشر، وكان عصر حكم الملكة فكتوريا في بريطانيا، فأخذ المفكرون يحدون من هذا التطرف، ويحاولون أن يقفوا من الحرية موقفا وسطا، فلا ينطلق الفرد دون مبالاة بحقوق المجتمع؛ فكانت فترة من فترات التوفيق والاتزان.
وهذا التوازن بين الأضداد هو من سمات القرن التاسع عشر في أوروبا؛ التوازن بين سلطة المجتمع وحرية الفرد، بين الولاء للأمة والولاء للإنسانية قاطبة، بين قبول الجديد والاحتفاظ بالتقليد، بين الإيمان بالله والإيمان بالآلة ... وهكذا، حتى كان هذا القرن العشرون الذي نعيش فيه، فاضطرب الميزان، واشتعلت الحرب العالمية الأولى في مستهله، والحرب العالمية الثانية في منتصفه، وكان الإنسان يريد أن يشق طريقه إلى المعرفة الصحيحة بقوة السلاح! وكان من أثر ذلك أن تبين لأصحاب الرأي بعد حرب فكرية ضروس أن التوسط لا بد أن يمتد أيضا إلى مجال الملكية، فلا يتملك الفرد حسبما شاء، ولا يفقد كل ما يملك، فوضعت أسس الاشتراكية السليمة. كما تبين لأهل الرأي أيضا أن العقل وحده لا يهدي؛ فكانت الدعوة إلى اللامعقول، بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح الذي يقيم للعواطف الإنسانية وزنا إلى جوار العقل البشري، وكانت الدعوة إلى دراسة علوم الاجتماع والإنسان إلى جانب علوم الطبيعة، وكانت هناك - فوق كل هذا - الدعوة إلى الإيمان بالله قوة كبرى تعلو قدرة العقل وكفاية العلم. •••
أما بعد، فهذه خطوط عريضة للمنهج الذي سار عليه المؤلف في كتابه الذي أراد به أن يستعرض تاريخ الفكر الغربي، مع التنويه بآثار القادة في توجيه الثقافة وبثها في عقول العامة. ومن ثم كان عنوان الكتاب: «أفكار ورجال».
ولعل مما يؤخذ على المؤلف أنه يميل إلى الاعتقاد بأن الفكر الأوروبي كان فكرا مستقلا لم يتأثر، إلا في القليل، بتفكير أهل الشرق، وإلى أن حضارة الغرب هي أرقى الحضارات. ولكن مما يخفف من هذه النظرة المتحيزة ما يعبر عنه من أمل في اختلاط جميع ثقافات العالم في مستقبل تاريخه بحيث تكون هناك ثقافة واحدة عالمية في القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين.
ويعزو المؤلف تفوق ثقافة الغرب - حسبما زعم - إلى أثر البيئة والمناخ في أوروبا، وإلى تفوق الأجناس الغربية على غيرها، وإلى النمو المطرد في المعرفة التراكمية في تلك البلاد. كما يعزو أسباب القلق والسخط في هذه الثقافة إلى الفجوة العميقة التي تقع بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون» أو بين «الواقعي» و«المثالي».
ولكنه - كما بينت - يتفاءل بظهور الأفكار الجديدة التي تدعو إلى الاشتراكية والاعتماد على العناصر اللاعقلية في تفكير الإنسان إلى جانب العناصر العقلية، والتمسك بالمبادئ الديمقراطية، والعودة إلى الإيمان بالله والدين.
الفصل الأول
تمهيد
هذا كتاب عن الآراء التي اعتنقها الناس - ولا يزالون يعتنقونها - في عالمنا الغربي فيما يتعلق بالمشكلات الكبرى؛ المشكلات الكونية التي تبحث عما إذا كان للعالم معنى في مقدور البشر أن يدركوه، وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن يكون هذا المعنى، والمشكلات الخلقية التي تبحث عما إذا كان لما نعمل ولما نريد أن نعمل معنى من المعاني، والتي تبحث أيضا فيما نعني فعلا بالخير والشر، والجميل والقبيح. وأن مجموع ما دون الإنسان من إجابات عن هذه المشكلات وما شابهها - وأعني بها الجانب الأكبر من فلسفتنا الغربية، وما لدينا من أدب وفن، وتاريخ طبيعي من بعض الوجوه - ليشغل ملايين المجلدات، ومن ثم فإن أية طريقة من طرق السرد لهذه الإجابات لا بد أن تهمل منها أكثر مما تستطيع أن تورد.
وهناك عدة وسائل ممكنة يسترشد بها مؤرخ هذه الآراء والأفكار؛ وسائل يمكن أن نسميها مجازا: طرق رسم مصورات الأفكار، وهو تشبيه أصدق من كثير من التشبيهات في أغلب الأحيان؛ لأن المؤرخ والصور كليهما لا يستطيعان قط أن يعرضا على قارئ الكتب أو المصورات صورة كاملة من الواقع الذي يريدان أن ينقلاه إليه. وأقصى ما بوسعهما أن يقدما إليه تخطيطا، أو مجموعة من الدلائل التي تشير إلى الواقع. وهناك وسائل متباينة للاختيار من المجموعات الضخمة من التفصيلات قد تحصل على مصور يحشد فيه صاحبه كل ظاهرة لها اسم، وكل جبل صغير، أو نهير، أو ملتقى طرق. وقد يحصل على مصور يتجاهل كثيرا من التفصيلات بقصد إطلاع القارئ على موقع الأرض، وشكل السلاسل الجبلية فيها، والعلاقات القائمة بين تصريف المياه، والتضاريس، وطرق المواصلات، إلى غير ذلك. والطريقة الأولى والطريقة الثانية نافعتان على السواء، ويتوقف نفعهما على حاجات من يستخدم الطريقة، وسنحاول قطعا في هذا الكتاب، عند رسم مخطط لتاريخ الأفكار، أن نسلك الطريقة الثانية. سنحاول في هذا الكتاب أن نرسم صورة عامة لمواقع الحركات الثقافية والفكرية، وسوف نهمل كثيرا من الأسماء الشهيرة، بل وربما نهمل أيضا قليلا من المعالم، وذلك في سبيل إيضاح ما أحسته مجموعات كبيرة من الرجال والنساء في الغرب فيما يتعلق بالإجابات عن المشكلات الكبرى في مصير الإنسان.
وهناك أيضا مجموعة أخرى لها أهميتها في الوسائل المتباينة التي يسترشد بها مؤرخ الفكر. ويتضح هذا التباين في المفارقة بين انتقاء الأفكار والآراء التي يعدها المؤرخ حقا أو صدقا، وعرض مختارات لا تحيز فيها للآراء والأفكار لكي يصدر القارئ حكمه الخاص فيها، والطريقة الأولى - في تعبير المصطلحات التربوية - تقوم على أساس المبدأ الذي يقول ب «أن التعليم هو تثبيت الأفكار»، وأما الطريقة الثانية فأساسها «أن التعليم هو عرض المشكلات».
وليست الطريقة الأولى أو الثانية - في عالم الواقع - بالعامة التي لا تقبل الاستثناء؛ ذلك أن الطريقة الأولى مهما تكن جازمة - في الغرب على الأقل - قل أن يقصد بها أربابها أن يروي المتعلم ما يسمع أو يقرأ عن ظهر قلب. كما أن الطريقة الثانية مهما تبلغ من التهاون وحرية الفكر لا يمكن أن يعني بها أصحابها أنه لا يجوز البتة النقل عن الثقات، وأن كل امرئ يصوغ آراءه الخاصة في دنياه الخاصة. كلتا الطريقتين كالقطبين في هذه الدنيا أرض باردة غير مأهولة. ومهما يكن من أمر فإن هذا الكتاب سوف يحاول أن يقترب من دائرة القطب الثاني، من المبدأ الذي يقول بأن الفرد يجب أن يبذل جهدا كبيرا تلقائيا، فيفكر وينتقي وحده، وأن تاريخ الفكر - على حد تعبير ألفرد نورث هوايتهد الواضح - إنما هو «مغامرات الأفكار» لكل من يغوص في هذا التاريخ. وكل مغامرة تتضمن شيئا من الشك.
وهذان الاتجاهان - أعني في الخطوط العريضة دون التفصيلات، والتفكير المستقل دون استيعاب المعرفة «الصحيحة» وتفسيرها - يتفقان مع الشعور السائد في الولايات المتحدة بأننا استوعبنا في الماضي من الوقائع أكثر مما ينبغي، وفكرنا فيها أقل مما ينبغي.
ويتضح هذا الشعور في الحركة التي تؤيد التعليم العام - مهما يكن الاسم الذي يطلق على هذه الحركة. وحركة التعليم العام هذه قد يغالى فيها، شأنها في ذلك شأن أكثر أمثال هذه الحركات. وتدرك العامة بحكمتها الخطر الذي يحدق بالطفل إذا ألقينا به في خضم الماء ثم تخلينا عنه، ولا يحب الإنسان العاقل أن يلفظ «الطفل » - وأعني به هنا السيطرة السليمة الطيبة على الوقائع الضرورية. وثقافتنا - بوجه عام - منظمة تنظيما يدعو إلى الإعجاب، ويسمح باستجماع الحقائق اللازمة للتفكير المثمر في مشكلة معينة استجماعا دقيقا وسريعا، كما يهيئ الاتصال المباشر بهذه الحقائق؛ فهناك كثرة من المكتبات، ودوائر المعارف، وكتب النصوص التي هي في الواقع من أمهات المراجع.
وكذلك لا يحب إنسان عاقل أن يلفظ «الطفل» الذي يتمثل في التعميمات السليمة، أو النظريات. غير أن في هذا المجال مشكلة، تلك هي الفصل بين التعميمات السليمة، والتعميمات غير السليمة. في ميدان مثل ميدان العلوم الطبيعية توجد نواة من النظريات يعرفها كل العاملين ذوي الكفاية في الميدان، ولا مناص لهم جميعا من قبولها. وليس الأمر كذلك في ميادين علوم الدين والفلسفة والأدب والفن - كما سنبين فيما بعد - فمن البين هنا أن رجال المعرفة والذوق يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا؛ لأننا في هذه الميادين لا نكتفي بالتساؤل «عما هو كائن»، وإنما نحس جميعا، بدرجات متفاوتة، أن «شيئا آخر ينبغي أن يكون».
وفي المجتمع الديمقراطي يعتقد الناس أن لكل عضو في المجتمع دورا يلعبه في العملية المعقدة التي يتحول فيها «ما ينبغي أن يكون» - أي حاجات الناس والأشكال التي يعبرون بها عن هذه الحاجات - تدريجا، وبصورة ناقصة، وربما كذلك بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، إلى «ما يكون». (والمشكلات التي يقابلها المرء في هذه العملية، وهي أولا: هل العملية وهم من الأوهام؟ - وتلك هي بعينها المشكلة القديمة: الحتمية أو حرية الإرادة - هذه المشكلات أمثلة طيبة للمشكلات التي لا تحل ولكنها - برغم ذلك - ملحة، ولها أهميتها التي لا يمكن تجاهلها، وقد اهتم بها العقل الغربي آلاف السنين.)
لا بد للفرد في المجتمع الديمقراطي أن يمارس الحكم في مثل هذه المشكلات؛ لأنه إذا لم يفعل فلا مندوحة من أن يصدر فيها الحكم خصوم الديمقراطية أصحاب النفوذ بطريقة لا ترضيه. وقد عبرت ب «الممارسة» عمدا؛ لأني قصدت إلى بذل الجهد العقلي والبدني. ولكن الجهد العقلي معناه إصدار القرارات، ومحاولة حل المشكلات التي لم يبت فيها مقدما ، ومحاولة الموازنة والاختيار بين التعميمات المتعارضة. وهذا الكتاب يعطي القارئ الجاد فرصة كافية لمثل هذه الممارسة.
ولم أهدف من هذا الكتاب أولا إلى أن أقدم للقارئ المعرفة، وليس هو بالكتاب الذي يعين القارئ على أن يتفوق في حل الألغاز، وليس تاريخا لأي نظام من النظم الكبرى، عن دين، أو فلسفة، أو بحث، أو علم، أو أدب، أو فن؛ فإن كتابا موجزا يعالج كل هذه الموضوعات لا يعدو أن يكون قائمة بأسماء، وقليلا من العناوين الملائمة، كقولنا مثلا: «شلي الهوائي»، أو «كيتس صاحب الصوت العذب». وأود أن أذكر بخاصة أن هذا الكتاب ليس تاريخا للفلسفة، ولم يكتبه فيلسوف محترف، ولا يعالج فيلسوفا واحدا معالجة كاملة شاملة من جميع النواحي. وإنما أحاول جهدي في هذا الكتاب أن أعالج ذلك الجانب من عمل الفيلسوف الذي كان له أثر فيما عند الطبقات المثقفة من آراء. إنه - على حد تعبير المستر د. س. سومرفل - تاريخ آراء (أي وجهات من النظر) أكثر منه تاريخ أفكار. ولا يمكن أن يحل محل الدراسة العميقة لتاريخ الفلسفة بشكلها المعروف لأولئك الذين يريدون أن يقوموا بمثل هذا العمل.
وثمة كلمة إيضاح أخيرة. إن القارئ الجاد قد يجد أن معالجتنا لكثير من هذه المشكلات أبعد ما تكون عن الجد، بل قد يجدها خفيفة لا وزن لها، وهذه مشقة حقيقية. ويبدو لمؤلف هذا الكتاب أن كثيرا من المشكلات الضخمة التي تتعلق بالخير والجمال كثيرا ما عولجت - وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية - بقدر كبير من التوقير، مما أدى إلى الخلط الشديد بين «ما ينبغي أن يكون» و«ما هو كائن». ويحب الأمريكيون أن يعدوا أنفسهم مثاليين، والواقع أن كثيرا منهم كذلك. غير أن الأجانب كثيرا ما يتهموننا بأننا نفصل فصلا تاما بين مثلنا وأعمالنا، وهم في هذا غير منصفين، بالرغم من أن موقفهم له سند من الواقع؛ فنحن نميل - كشعب - أن نقدس بعض الآراء المجردة إلى درجة يحتمل معها أن نخطئ فنحسب أننا بمجرد تدوين الأفكار على الورق، وبمجرد قبولنا شفويا لهدف من الأهداف باعتباره فاضلا، قد حققنا الهدف. ويشهد بذلك تاريخ حياة وودرو ولسن منذ إعلان الشروط الأربعة عشر حتى الانتهاء من معاهدة فرساي. ويشهد بذلك أيضا «التعديل الثامن عشر».
وقد بذلت في هذا الكتاب إزاء هذه الموضوعات جهدا يشبه جهد الطبيب في عيادته، وهو نظرة إلى الأمور تتطلب دقة البحث في التافه والحقير بغية إدراك ما نعالجه فعلا عندما ندرس الأفكار التي لها تأثيرها في الكائنات البشرية التي تحيا فعلا. ولا يمكن أن توصم هذه النظرة بأنها «ضد التوقير»، وإنما هي نظرة «لا يتوافر فيها التوقير» أثناء القيام ببحث المشكلة بالطريقة التي يعالج بها الطبيب مرضاه.
ولا تعني هذه النظرة إنكار وجود الخير والجمال، أو إنكار الرغبة فيهما، أكثر مما يعني الفحص الطبي إنكار وجود الصحة والسلامة أو الرغبة فيهما.
حدود تاريخ الفكر
إن مجال الدراسة الذي يعرف باسم تاريخ الفكر ليس أمرا هينا محدود الجوانب؛ فقد يندرج تحت هذا العنوان مدى فسيح من الموضوعات الفعلية، من آثار الفلاسفة الممعنين في التجرد، إلى التعبير عن الخرافات الشائعة مثل التشاؤم الشديد من العدد 13. وقد تعرض مؤرخو الفكر لأفكار الفلاسفة كما تعرضوا للآراء التي يعتنقها رجل الشارع، ومهمتهم الأساسية هي محاولة تعرف «العلاقات بين آراء الفلاسفة، والمثقفين، والمفكرين، وطريقة العيش الواقعية للملايين الذين يحملون على عواتقهم واجبات المدنية».
وهي مهمة تفرق أساسا بين تاريخ الفكر وبين تلك النظم القديمة الثابتة، مثل تاريخ الفلسفة، أو تاريخ العلم، أو تاريخ الأدب. مؤرخ الفكر تهمه الأفكار أنى وجدها، سواء أكانت أفكارا همجية أم معقولة، تأملا رقيقا أم تحيزا عاما. ولكنه يهتم بهذه الثمار من نشاط الإنسان العقلي من حيث تأثيرها في وجود الإنسان كله أو تأثرها بهذا الوجود. ومن ثم فهو لا يتعرض فقط للأفكار المجردة التي تولد غيرها من الآراء المجردة؛ فهو لا يتعرض مثلا لتلك النظرية السياسية المجردة التي تعرف بالعقد الاجتماعي كأنها ناحية من نواحي التفكير المشروع فحسب. إنما هو يعالج حتى أشد الأفكار تجريدا عندما تتسرب هذه الأفكار إلى رءوس الأفراد العاديين وقلوبهم؛ فهو يفسر ما كان يعني العقد الاجتماعي لأولئك الثوار في القرن الثامن عشر الذين قر في نفوسهم أن حكامهم قد خرقوه.
ولعمري إنها لمهمة شاقة. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يستنبط مجموعة مركبة من العلاقات بين ما تكتبه قلة من الأفراد وما يقوم به فعلا كثير من الأفراد. ومن اليسير عليه - على الأقل في الخمسة والعشرين قرنا الماضية من تاريخ المجتمع الغربي - أن يكتشف وأن يحلل ما كتبته القلة وما قالته. وقد لا يبلغ هذا السجل حد الكمال، ولكنه يصل إلى درجة نادرة من الإجادة، حتى فيما يتعلق باليونان والرومان، وذلك بفضل الجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الباحثين. غير أن مهمة مؤرخ الفكر ظلت شاقة حتى أمدته المطبعة والتعليم العام في الصحف والمجلات والرسائل وما إليها بسجل لما فكر فيه وأحس به عامة الناس؛ فقد يستطيع المؤرخ أن يصف في وضوح رأي الناس على اختلاف طوائفهم في أدولف هتلر، سواء أكانوا في ألمانيا أم في خارجها، غير أنه لا يستطيع البتة أن يعرف رأي الملايين من عامة الناس - الذين لم يسمع بهم أحد في العالم اليوناني الروماني - في يوليس قيصر؛ فلم يكن ثمة استفتاء للرأي العام كاستفتاء «جالوب» في أمريكا، ولم تكن هناك رسائل لرؤساء تحرير الصحف أو مجلات شعبية. غير أن مؤرخ الفكر - برغم هذا - لا بد أن يبذل جهدا في رسم صورة متكاملة يجمعها من شتيت المصادر للطريقة التي كانت تسري بها الأفكار في صفوف الجماهير؛ إذ كان يتحتم عليه ألا يحصر نفسه في تحليل الأفكار في صورة أفكار أخرى.
وفي الحق أن هناك ما يسوغ حصر تاريخ الفكر فيما أسماه المرحوم ج. ه. روبنسن: «الطبقات المثقفة». وقد عرف الأستاذ بومر بجامعة ييل الطبقة المثقفة ب «أنها لا تقتصر فقط على الفئة الصغيرة نسبيا من المفكرين والمبتكرين العميقين فعلا، أو على المحترفين وحدهم من الفلاسفة ورجال العلم والدين، والباحثين عامة، وإنما هي تشمل أيضا رجال الأدب والفن المبدعين، وناشري الأفكار، والجمهور القارئ الذكي.» وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إنه من المعقول أن نحصر تاريخ الفكر فيما يقوم به المثقفون من أفعال وأقوال وكتابات. وبالرغم من هذا فإن تعريف الأستاذ بومر يبدو ضيقا بعض الشيء. ثم إنه مما لا شك فيه أن الأفراد غير المثقفين - حتى بالمعنى اللفظي الذي يتصل بالبحث وقراءة الكتب - والأفراد غير الأذكياء، يتقبلون الآراء التي تتصل بالحق والباطل، ولهم أهداف يمكن أن يعبر عنها باللفظ، بل هم يعبرون عنها فعلا، كما أنهم يتأثرون بكل ضروب العقائد، والمذاهب، والخرافات، والتقاليد، والعواطف. إن تاريخ الطبقات المثقفة يستحق التدوين، ولكنه لا يشمل كل تاريخ الفكر، أما إن كان يشمله بأكمله فلا بد من البحث عن عنوان آخر لما يتعرض له هذا الكتاب.
إن مصادر دراسة الأفكار (بأوسع معانيها) التي تعتنقها عامة الناس متعددة في الواقع. ومن الجلي أن الأدب ليس على درجة من التفكير المجرد أو من المستوى الرفيع كالعلم أو الفلسفة الشكلية. وما بقي لدينا من الأيام التي سبقت الطباعة هو - بطبيعة الحال - مما يتصل نسبيا بالمستوى الرفيع؛ فلدينا من عهد الإغريق والرومان والعصر الوسيط، بل ومن عصر النهضة، ما هو أقرب إلى مستوى «النيويورك تايمز» منه إلى المختصرات الموجزة، أو أقرب إلى برنارد شو منه إلى «آني الصغيرة اليتيمة». غير أنه لا يزال لدينا - برغم هذا - قدر كبير من الواضح أنه أقرب إلى مستوى الأرض منه إلى سماء الفلسفة؛ فنستطيع أن نتصل بسقراط الفيلسوف كما ظهر لتلميذه أفلاطون إذا نحن قرأنا «السحب» لأريستوفان، وهي مسرحية يسخر فيها كاتب شعبي ناجح من سقراط. ونستطيع أن نتعرف الأفراد في العصور الوسطى من رجال ونساء لا كما وصفهم الفلاسفة ورجال الدين، ولكن كما وصفهم رجال الدنيا كما فعل شوسر في «حكايات كانتربري».
لقد خلف الرجل العادي - حقا - آثارا كثيرة غير تلك التي وصلت إلينا فيما نسميه الأدب؛ فليس لدينا في الديانات علوم الدين فقط - وأعني بها العناصر الفكرية الأوضح التي تقابل ما يسمى الفلسفة في أمور الدنيا - وإنما لدينا كذلك الطقوس، وما نؤديه كل يوم ، بل ولدينا كذلك ما نسميه - إذا جعلنا من أنفسنا حماة للتراث القديم - خرافات العصور الوسطى والقديمة. وإن جانبا كبيرا مما لا بد أن يستند إليه مؤرخ الفكر هو مما جمعه المختصون الذين نسميهم المؤرخين الاجتماعيين، وهم أولئك الذين أخذوا على أنفسهم واجب البحث عن الأسلوب الذي كانت عامة الناس من جميع الطبقات تعيش فعلا وفقا له. ولم يهتم هؤلاء المؤرخون الاجتماعيون في أغلب الأحيان فقط بما كان الرجال والنساء يأكلون ويلبسون ويفعلون لكسب عيشهم، وإنما اهتموا أيضا بما كانوا يعتقدون خطأه أو صوابه، وبما كانوا يتطلعون إليه في الدنيا والآخرة. وكم من مؤرخ اجتماعي انقلب - بمعنى ما - إلى مؤرخ للفكر، يركز اهتمامه فيما كان يدور في خلد رجل الشارع العادي.
ومن ثم فإن الواجب الكامل لمؤرخ الفكر هو أن يجمع في صورة كاملة مفهومة المواد التي تنحصر فيما بين الآراء المجردة الفلسفية وأفعال الناس المحسوسة. وهو في أحد أطراف مجال بحثه يقترب من الفيلسوف، أو على الأقل من مؤرخ الفلسفة، ويقترب في الطرف الآخر من المؤرخ الاجتماعي، أو حتى من المؤرخ العادي، الذي يهتم بحياة الناس اليومية. غير أن واجبه الخاص هو أن يجمع بين الطرفين، وأن يتابع الأفكار في مسيرها المتعرج في أكثر الأحيان من حجرة الدرس أو المعمل إلى السوق، والنادي، والبيت، وساحة القضاء، وحجرة التشريع، ومائدة المؤتمر، وميدان القتال.
وعندما يقوم مؤرخ الفكر بهذا الواجب الضخم قد يجد نفسه غازيا لميدان جديد من الدرس مهد له من قبل الباحثون، وذلك هو الميدان الغامض الشامل الذي ألفنا أن نسميه فلسفة التاريخ. إن فيلسوف التاريخ يحاول أن يستخدم علمه بما حدث في الماضي لكي يحل جميع ما يكتنف مصير الإنسان من ألغاز. والفلسفة الكاملة للتاريخ (كأي وككل فلسفة أخرى) تستهدف أن تقدم إجابات نهائية عن كل «المشكلات الكبرى»: ماذا هي الحياة الطيبة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا الحياة الطيبة؟ وما هو الأمل في إمكان حياة الناس حياة طيبة؟ أو في كلمة موجزة، أين نحن، وإلى أين المسير؟
وسنحاول أن نبين في فصل متأخر من هذا الكتاب لماذا كانت - في منتصف القرن العشرين - أكثر النظم الفلسفية الشائعة في واقع الأمر فلسفات للتاريخ، وأن أسماء شبنجلر وسوروكين وتوينبي معروفة حيثما نوقشت أمور الفكر في أعلى مراتبها. ويكفينا في الوقت الحاضر أن ننبه إلى أن مؤرخ الفكر ينبغي له أن يتحاشى أن يرتدي لبوس المتنبئ وفيلسوف التاريخ مهما اشتد إغراؤه في هذا الاتجاه. وسوف يكون عمله أجدى لو حصر نفسه في مهمة البحث عن الطرق التي أجاب الناس بها عن المشكلات الكبرى - الحياة، والمصير، والحق، والصدق، والله - فتأثرت إجاباتهم على سلوكهم بشكل ظاهر. وهي مهمة أشق وإن تكن أكثر تواضعا. وقد يكون لمؤرخ الفكر رأيه في بعض هذه المشكلات الكبرى على الأقل، بل لا بد أن يكون له هذا الرأي إذا كان إنسانا طبيعيا. ولكنه لو أخلص لتقاليد العلم والبحث كما نضجت لمؤرخ اليوم لبذل أقصى جهده في الاحتفاظ بآرائه الخاصة حتى لا يكون لها تأثير في روايته لآراء غيره.
وفي فصول قادمة من هذا الكتاب سوف أعود بشيء من التفصيل لهذه المسألة كلها، مسألة الطريقة العلمية والموضوعية، وعلاقتهما بدراسة سلوك الإنسان، ويكفيني هنا أن أنبه إلى أن تاريخ الفكر كما عرضته في هذا الكتاب لا يساق للإجابة عن كل المشكلات التي تحيط بالإنسان الحديث، وإنما أسوقه لكي أعين على تقديم بعض هذه المشكلات بصورة أوضح، وربما كان ذلك بقصد الإشارة إلى النتائج التي يحتمل أن تحدث في أثر المحاولات العديدة التي تبذل لحل هذه المشكلات.
وفي الحق يجب أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة تتبع ما كان - وما يزال - للأفكار من أثر في جميع الجماهير في المجتمع الغربي، لا يمكن إلا أن تؤدى بصورة ناقصة؛ فالمصادر التاريخية قبل العصور الحديثة إما غير ميسورة وإما من العسير جمعها. وليس الأمر كذلك فحسب؛ لأن المتخصصين ذوي الكفاية قد يستطيعون - إذا ما وجهوا اهتمامهم إلى هذه المشكلة - في الأجيال القليلة القادمة، أن يقوموا بعمل يسدون به هذا النقص في المادة. وإنما هناك صعوبة أخطر ؛ فنحن لا ندرك حتى الآن حق الإدراك - بالرغم من جهود علماء النفس والاجتماع والفلاسفة - ما يدور في عقول الناس وأفئدتهم، وكيف يتحركون نحو العمل، أو نحو السكون.
وعلاوة على ذلك فإن الأفراد الذين بذلوا وقتا طويلا في دراسة هذه المشكلات لم يتفقوا - على أية صورة من الصور - فيما يتعلق بالدور الذي يلعبه في السلوك البشري العقل، والمنطق، والأفكار، والمعرفة، مقابل الوجدان، والعاطفة، والدوافع، والبواعث.
ليس بين هؤلاء الأفراد اتفاق تام - على أي شكل - على أنه لا بد من البحث في السلوك البشري المحسوس عن مركبات مثل المعقول واللامعقول. غير أنه ليست هناك مجموعة من التعريفات العملية الفعالة لهذه المصطلحات مقبولة في جميع أنحاء العالم.
دور الأفكار
ومن ثم كانت هناك بعض المشكلات العويصة التي تتعلق بالطرق، وربما كانت تتعلق أيضا بالفلسفة، لا بد من مواجهتها قبل أن نستطيع البدء في دراسة تراثنا الفكري الغربي في مصادره الإغريقية والعبرية الكبرى. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يرى كيف تعمل الأفكار في هذه الدنيا، وأن يدرس العلاقة بين ما يقول الناس وما يقومون بعمله فعلا: ماذا يعني بالأفكار، وماذا يعني بقوله إن للأفكار تأثيرها في هذه الدنيا؟ إن هذه هي في حد ذاتها مسائل فلسفية، يدور فيها الجدل بين الأفراد بغير اتفاق. وهذه الحقيقة وحدها توضح أن هذه المسائل ليست مما يمكن الإجابة عنها كما يفعل الصبي الأمريكي عندما يجيب عن مثل هذه الأسئلة: ماذا يعني مهندس السيارات بالكاربيوريتر؟ وماذا يعني عندما يقول إن الكاربيوريتر يؤدي وظيفته؟
إن الأفكار تختلف اختلافا بينا عن الكاربيوريتر. ولكن أرجو ألا يخطئ القارئ فيحسب أنها أقل واقعية من الكاربيوريتر، أو أنها أقل أهمية في حياتنا، أو أنها مجرد ألفاظ ليست لها البتة أية قيمة.
سنأخذ «الأفكار» هنا بمعنى واسع جدا حقا كأي مثل ملموس لعمل العقل البشري يمكن التعبير عنه بالألفاظ. ومن ثم فإن لفظة «آه» التي تصدر عن رجل يؤذي إصبعه بالمطرقة ليست على الأرجح فكرة من الأفكار. أما قوله: «لقد آذيت إصبعي بالمطرقة» فهو تعبير ساذج جدا، ومن ثم فهو فكرة من الأفكار. ثم إن قوله: «إن أصبعي تؤلمني لأني آذيتها بالمطرقة» يتضمن أفكارا أشد تعقيدا. أما أمثال هذه الأقوال: «إن إصبعي تؤلمني لأن ضربة المطرقة أثرت في أعصاب معينة نقلت إلى جهاز العصبي المركزي نوعا من الإثارة يرتبط بما نسميه الألم.» أو: «إن إصبعي تؤلمني لأن الله يعاقبني على ما اقترفت من آثام.» فهي فروض شديدة التعقيد، تنقلنا إلى مجالين هامين من مجالات الفكر: المجال العلمي، والمجال الديني.
وتصنيف جميع ضروب الأفكار التي تتضافر في تأليف ما نسميه عامة بالمعرفة هو في حد ذاته المهمة الكبرى التي تضطلع بها عدة نظم، منها المنطق، وعلم المعرفة، وعلم المعاني. وتأتي بعد ذلك مهمة البت في أي أنواع المعرفة صادق، أو إلى أي حد يصدق قدر معين من المعرفة، ومهمات أخرى كثيرة لا نستطيع هنا أن نحددها. وقد أثارت في أيامنا هذه دراسة علم المعاني، وتحليل الطرق المعقدة التي تدل بها الكلمات - عند استخدامها في تبادل الآراء بين الأفراد - على معانيها اهتماما بالغا. ويكفينا فيما نحن بصدده أن نميز تمييزا أساسيا بين لونين من المعرفة: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، أو مجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة «تتراكم» منذ بداية دراسة هذه العلوم منذ آلاف السنين في شرق البحر المتوسط، كما أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة التي ندرسها في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين منتظمة، ولكنها كانت ثابتة بوجه عام، ولا تزال بعض الأفكار أو النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة، كفكرة أرشميدس في عصر اليونان عن الكثافة النوعية. ولكن كثيرا جدا من النظريات والأفكار قد أضيف إلى الرصيد الأول من الأفكار، كما أن كثيرا أيضا قد نبذ لخطئه. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعرفة الجديدة آخذة في الاتساع. والجدل يتركز بين العلماء - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون الأساس. أما هذا الأساس فإن جميع العلماء يقبلون صدقه.
ويمكن للمعرفة الجديدة بطبيعة الحال أن تنعكس خلال الأساس كله، وتسبب ما يمكن أن نسميه حقا ب «الثورة» في العلم، ومن ثم فإن نظريات الميكانيكا الكمية والنسبية قد كان لها صداها في لب طبيعة نيوتن.
أما المعرفة اللاتراكمية فخير مثال نسوقه هنا لها يستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدمون فروضا معينة، وأفكارا معينة عن الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب الأدباء باليونانية في هذه الأمور منذ أكثر من ألفي عام. كما كان غيرهم في نفس الوقت ويكتبون باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الأشياء التي كتب عنها الأدباء اليونان بنفس الطريقة إلى حد كبير وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارف وأفكارا وفروضا تربو كثيرا على ما كان عند اليونان.
وإذا أردنا أن نعرض الموضوع في أبسط صورة قلنا إن الأديب اليوناني كأريستوفان، أو الفيلسوف اليوناني كأفلاطون، إذا عاد إلى الأرض بمعجزة في منتصف القرن العشرين وتحدث إلينا (ولم يظفر بأية معرفة جديدة منذ وفاته) يستطيع لتوه أن يتكلم في الأدب وفي الفلسفة مع ج. ب. شو أو مع جون ديوي، دون أي إحساس بالغرابة. في حين أن عالما إغريقيا كأرشميدس في مثل هذا الوضع - مهما يكن عبقريا - يحتاج إلى أن يقضي أياما عدة يمحص فيها كتب الطبيعة الأولية والمتقدمة، ويكتسب فيها قدرا كافيا من الرياضيات قبل أن يستطيع الكلام في موضوعه مع عالم حديث في الطبيعة مثل بور أو أينشتين.
وفي عبارة أخرى نستطيع أن نقول إن طالب الجامعة الحديث ليس أحكم من الحكماء القدامى، وليس له ذوق أفضل من ذوق السابقين، ولكنه يعرف من علم الطبيعة قدرا أكبر مما عرف أعظم العلماء اليونان؛ إنه يعرف «وقائع» أكثر في الأدب والفلسفة مما كان يعرف أحكم الإغريق في عام 400ق.م، ولكنه في علم الطبيعة لا يعرف «وقائع» أكثر فحسب، وإنما هو يدرك العلاقات بين الوقائع؛ أي النظريات والقوانين.
وهذه التفرقة بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية واضحة ونافعة، وهو كل ما يريده المرء من التفرقة. «إن هذه التفرقة لا تعني أن العلم جيد ونافع، وأن الفن والأدب والفلسفة رديئة وغير نافعة، وإنما تعني أنها مختلفة فيما يتعلق بالتراكم فحسب.» وكثير من الناس يتخذون هذه التفرقة دليلا على أن الفن أحط شأنا من العلم، وتسوءهم هذه التفرقة إلى حد أن ينبذوا أي صدق أو منفعة تتضمنها التفرقة. وتلك من عادات الناس المألوفة التي ينبغي لمؤرخ الفكر أن يحسب لها حسابها.
وربما كانت الحقيقة هي أن العلم قد تراكم «بسرعة» في الثلاثمائة السنة الأخيرة، في حين أن الفن والأدب والفلسفة قد تراكمت «ببطء» في ألوف عديدة من السنين. وقد يكون عظماؤنا من بعض النواحي أحكم من العظماء في الماضي، وقد يكون ما لدى المواطن الأمريكي المتوسط من الحكمة والإدراك السليم أكثر مما كان لدى المواطن الأثيني. بيد أن هذه الأمور مما يشق قياسها، ومما يشق الاتفاق فيها، في حين أن صفة التراكم في المعرفة العلمية لا جدال فيها تقريبا. إن أكثر المدافعين عن تقدم الفنون والفلسفة تفاؤلا لا يمكن أن يؤمن بأن شيكسبير بالنسبة إلى سوفوكليز هو كنيوتن بالنسبة إلى أرشميدس.
وقد حاولنا فيما سبق أن نبالغ بالضرورة في تبسيط الفارق بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ويلاحظ أن ذلك الجانب من المعرفة الذي لا يقع تحت عنوان «العلوم» لم يلق - لعدة أجيال من مفكري الغرب، وعند كثير من مفكري اليوم - حقه من الإنصاف بنعته ب «اللاتراكمي». ويمكن القول بأن ما نسميه عادة ب «العلوم الاجتماعية» به في حد ذاته - وليس باعتباره تقليدا ضعيفا للعلوم الطبيعية - قدر من المعرفة المتراكمة التي تتعلق بتبادل العلاقات بين الكائنات البشرية. وهذه المعرفة ليست مجرد تراكم للوقائع، وإنما هي أيضا تراكم لتفسيرات صادقة لهذه الوقائع. وهكذا استطاع رجال الاقتصاد في مدى قرن ونصف قرن من آدم سميث إلى لورد كينز - أن يزدادوا «إدراكا» للنشاط الاقتصادي، ويمكن القول كذلك أن الفلاسفة استطاعوا على كر القرون أن يحسنوا من طرائقهم في التحليل، كما أنهم ازدادوا تحديدا للأسئلة التي يوجهونها لأنفسهم - وذلك بالرغم من أنهم لا يزالون يواجهون بعض المشكلات التي واجهها أفلاطون وأرسطو. وأخيرا قد يستطيع المتشائم أن يقول إن كل ما نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم منه شيئا قط، غير أن أكثرنا يؤمن بأن رجال الغرب قد بنوا على مر القرون هيكلا من الحكمة والذوق السليم الذي لم يتوافر للإغريق. أما مدى انتشار هذه الحكمة وذلك الذوق في مجتمعنا فذلك أمر آخر.
والحق أن مسألة «النشر» في المعرفة التراكمية واللاتراكمية على السواء، مسألة تصحيح الأخطاء الشائعة في تفكير الجمهور، هي على الأقل في أهمية مسألة اتفاق الخبراء، بل هي في المجتمع الديمقراطي ربما كانت أكثر منها أهمية. ويتضح ذلك في ميدان كميدان الاقتصاد، إلا لأولئك المصرين على ازدراء التفكير الاقتصادي. إن رجال الاقتصاد يختلفون وكذلك يختلف الأطباء. وحتى في أمريكا الحديثة، حيث يكون للطب تقدير بالغ بين جميع الطبقات، ليس من اليسير أن نعلم الجمهور حتى يتصرف عن علم في الشئون الطبية. وفي الشئون الاقتصادية لا يزال الجمهور حتى في منتصف القرن العشرين عاجزا إلى حد كبير عن الإفادة من مقدار المعرفة المتراكمة التي يملكها الخبراء، وإلا ما حاولنا أن ننشئ درجة من التجارة الدولية المتوازنة مع احتفاظنا بمستوى عام مرتفع - وكثيرا ما تكون مرتفعة جدا في نواح معينة - من ضريبة الحماية الجمركية.
ومن الواضح أن مؤرخ الفكر لا بد أن يهتم بالمعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، ولا بد أن يبذل قصارى جهده لكي يميز هذا النوع من المعرفة من ذلك، وأن يتقصى العلاقة المتبادلة بينهما، وأن يدرس آثارهما على السلوك البشري. إن كلا اللونين من المعرفة له أهميته، وكل لون منهما يفعل فعله في هذه الدنيا.
وهنا يأتي سؤالنا الثاني: كيف تؤثر الأفكار في هذه الدنيا ؟ إن أية إجابة عن هذا السؤال لا بد أن تأخذ في الاعتبار أن «الأفكار» هي في الواقع «أفكار مثالية»، هي تعبيرات عن الآمال والتطلعات عن رغبات الناس وجهودهم؛ فنحن نقول مثلا إن «الناس جميعا قد خلقوا متساوين» أو نقول مع الشاعر كيتس:
الجمال الحق، والحق الجمال،
هذا كل ما نعرفه على الأرض،
وكل ما نحتاج إلى معرفته.
ماذا تعني أمثال هذه الأقوال؟ إذا زعمت أن جسما ثقيلا وجسما أخف منه وزنا يسقطان خلال الهواء بسرعتين مختلفتين، أمكنك أن تسقطهما من فوق ارتفاع معين ثم تشهد ما يحدث. وقد فعل ذلك جاليليو، وإن لم يكن - كما نعرف اليوم - من برج بيزا المائل. ويستطيع المشاهدون أيضا أن يرقبوا ثم يتفقوا بعد مراجعة ما شهدوا، ولكن ليس بوسعك أن تختبر القول بالمساواة بين الناس، أو تطابق الحق مع الجمال، بمثل هذه الطريقة. وأنت على يقين أن أية مجموعة اعتباطية من الناس لن تتفق في الواقع في هذين الموضوعين بعد الجدل فيهما.
إن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميا؛ أي المعرفة العلمية، يخضع بوجه عام لنوع من الاختبار يجعل بالإمكان أن يتفق على صدقها أو بطلانها كل ذي عقل سليم، مدرب تدريبا صحيحا. أما نوع المعرفة الذي أسميناه لا تراكميا فلا يخضع لمثل هذا الاختبار، ولا يمكن له أن ينتهي بمثل هذا الاتفاق، ومن ثم فقد استنبط بعضهم من هذا - كما ذكرت من قبل - أن المعرفة اللاتراكمية لا فائدة منها، وليست معرفة حقيقية وليس لها معنى وليس لها - فوق هذا كله - أثر فعلي في سلوك البشر. إن هؤلاء الناس كثيرا ما يتوهمون أنفسهم واقعيين في الصميم، عقلاء يعرفون ما هي الدنيا في واقعها. وهم في الحق مخطئون، عقولهم ضيقة كعقول أولئك الأبرياء من المثاليين الذين يلومونهم.
إذ إن قولا كهذا: «خلق الناس جميعا متساوين» يعني على أقل تقدير أن فردا ما «يريد» أن يكون الناس جميعا متساوين من بعض الوجوه. ولو قلنا: «ينبغي أن يكون الناس جميعا متساوين» كان هذا القول صراحة هو ما نسميه بالفكرة المثالية . وهذا الخلط بين «ما ينبغي» وما هو «كائن» هو عند مؤرخ الفكر عادة من العادات المتأصلة في رجال الفكر. ويدرك مؤرخ الفكر فوق هذا أن «ما ينبغي» و«ما هو كائن» يؤثر أحدهما في الآخر، وهما جانبان من عملية متكاملة، لا يستقل أحدهما عن الآخر ولا يتعارضان، أو هما على الأقل لا يتعارضان في أكثر الأحيان. ويعرف حقا مؤرخ الفكر أن الجهد الذي يبذل في سبيل سد الثغرة بين المثالي والواقعي، بين «ما ينبغي» و«ما هو كائن»، هو من الموضوعات الرئيسية الهامة في تاريخ الفكر. هذه الثغرة لم تنسد قط، أو على الأقل لم يسدها المثاليون الذين ينكرون «ما هو كائن» ولم يسدها الواقعيون الذين ينكرون «ما ينبغي». إن الناس لا يتصرفون باطراد تصرفا منطقيا (معقولا) طبقا لما ينادون به من مثل. وفي هذا يكون النصر للواقعيين. غير أن مثلهم التي ينادون بها ليست خلوا من المعنى. وليس التفكير في المثل نشاطا سخيفا لا أثر له في حياتهم. إن المثل - كالشهوات - تدفع الناس إلى العمل، وفي هذا يكون النصر للمثاليين.
وربما كنا اليوم في الولايات المتحدة أقرب إلى الانسياق وراء خطأ الواقعيين منا وراء خطأ المثاليين. وإن كان كثير من المثل قد أضاء حياتنا خلال التاريخ، ثم إن دراسة تاريخ الفكر يجب أن تعيننا على أن نفهم الأسباب. ولكنا نستطيع الآن أن نكتفي بهذه الملاحظة: ليس في تاريخ البشر وقائع هامة لا ترتبط بالأفكار، أو أفكار هامة لا ترتبط بالوقائع. والجدل القائم الذي يدور بين الماركسيين وخصومهم، وهو: هل التغيرات الاقتصادية أعمق جذورا من التغيرات الأخرى؟ هذا الجدل ليس له معنى من الناحية المنطقية، وليس هناك مهندس للسيارات يحلم بالجدل فيما إذا كان الغاز أو الشرارة هو الذي يدير آلة الاحتراق الداخلي. دع عنك أيهما سبق الآخر: الغاز أو الشرارة. وليس بمؤرخ الفكر حاجة إلى الجدل فيما إذا كانت الأفكار «أو» الاهتمامات هي التي تحرك الناس في علاقاتهم بالمجتمع، ولا حاجة إلى أيهما سبق. بغير الغاز والشرارة «معا» لا يدور المحرك، وبغير الأفكار والاهتمامات (أو الشهوات، أو الدوافع، أو العوامل المادية) معا لا يكون مجتمع بشري عامل حي، ولا يكون تاريخ للبشر.
أهمية تاريخ الفكر في عصرنا
إن دراسة تاريخ الفكر لها أهميتها بوجه خاص في زماننا؛ لأن مثل هذه الدراسة لا بد أن تعيننا على مزيد من وضوح الفكر في إحدى القضايا الهامة في هذا العصر. وقد عرضت علينا جميعا هذه القضية في أشكال عديدة من التربية والدعاية، وقد تعرض علينا أحيانا في صورة معتدلة، وأحيانا أخرى في صورة هستيرية جدا. ويحب كتاب الصحف أن يضعوها في مثل هذه العبارة: العلوم والتكنولوجيا مكنت من ظهور الأسلحة التي تستطيع أن تقضي على الجنس البشري في الحرب القادمة. ويبدو أن الحكمة السياسية والخلقية لم تخترع وسيلة من الوسائل لمنع الحرب القادمة. ويقول كتاب الصحف ينبغي لنا أن نلتمس السبيل إلى أن نسمو بحكمتنا السياسية والخلقية (وهي حتى الآن لا تراكمية، أو تتراكم ببطء على أحسن الفروض) وبتطبيق هذه الحكمة إلى مستوى معرفتنا العلمية (وهي سريعة التراكم) ومستوى تطبيقها في التكنولوجيا ولا بد أن نهتدي إلى هذا السبيل على عجل حتى لا تقع حرب أخرى.
ويمكن أن يصاغ الموضوع في عبارة أخرى استخدمناها من قبل، وهي أقل من هذه إثارة. إن ما أسميناه المعرفة المتراكمة مكن البشر - وبخاصة خلال القرون الثلاثة الماضية - من تحقيق السيطرة الخارقة على ما يحيط بهم من بيئة غير إنسانية؛ فإن الناس لا يتناولون المادة غير العضوية فحسب، ولكنهم يستطيعون أيضا أن يقوموا بالشيء الكثير في تشكيل الكائنات العضوية الحية؛ فهم يستطيعون تربية الحيوان إلى الحد الأقصى من المنفعة للناس. وهم يستطيعون التحكم في كثير من الكائنات العضوية الصغيرة كما أنهم أطالوا من عمر الإنسان في البلدان المتقدمة إلى أبعد مما كان يبدو ممكنا منذ أجيال قليلة مضت.
ولكن الناس لم يحققوا بعد نصرا مماثلا في السيطرة على البيئة الإنسانية في أعلى مستويات السلوك البشري الواعي. والظاهر أن معرفة السبب الذي يدفع الناس إلى إرادة أشياء معينة ، ولماذا يقتلون غيرهم للحصول على هذه الأشياء، وكيف تتغير رغباتهم أو تشبع، ومعرفة كثير من المدى الفسيح للسلوك البشري - الظاهر أن كل هذا ينتمي إلى المعرفة اللاتراكمية أكثر من انتمائه إلى المعرفة التراكمية. وهذه المعرفة اللاتراكمية، سواء أكانت فلسفة، أم علوم الدين، أم حكمة عملية، أم مجرد الإدراك العام الساذج، لم تبلغ حتى اليوم حدا يكفي لحفظ السلام على الأرض - دع عنك أن تنفي كل ضروب الشر في العلاقات الإنسانية. وما لم يتوافر لنا نوع آخر من المعرفة والسلوك البشري - كما يقول بعض الكتاب المنذرين - معرفة من نوع ما يعلمه عالم الطبيعة أو البيولوجيا، فسوف تضطرب أمورنا إلى حد تتحطم معه حضارتنا، وربما يتحطم معه أيضا الجنس البشري.
إن إحدى المشكلات الكبرى في زماننا هي هذه في عبارة موجزة: هل يمكن أن يمكن ما نسميه ب «العلوم الاجتماعية» الإنسان من التحكم في بيئته البشرية إلى ما يشبه مدى ما مكنته العلوم الطبيعية من السيطرة على بيئته غير البشرية؟ إن مؤرخ الفكر في العصر الحاضر مرغم على أن يركز عمله في هذه المشكلة، وأن يركز فكره أولا في الطريقة التي عالج بها الناس في الماضي المشكلات الأساسية في العلاقات الإنسانية. إنه يكتب - بمعنى من المعاني - تاريخ العلوم الاجتماعية.
ويجب أن نوجه الأنظار بصفة خاصة إلى أن تاريخ الفكر في حد ذاته لا يحل المشكلات التي تزعجنا اليوم جميعا؛ إذ لا يمكن أن تحل هذه المشكلات إلا بالجهد الجماعي الذي نبذله جميعا، وبوسائل لا يمكن أن يتنبأ بها أحكم الفلاسفة أو العلماء - بل أحكم كتاب افتتاحيات الصحف. إن العلوم الاجتماعية إذا سارت في الطريق التي سلكتها العلوم، الطبيعية، فإن الذي يحل المشكلات الكبرى هو ذلك النوع من الناس الذين نسميهم العباقرة. غير أن العباقرة لا يستطيعون إيجاد الحلول إلا بسبب العمل الكامل الدءوب الذي يقوم به آلاف العاملين في البحث وفي الحياة العملية. وأهم من ذلك أن هذه الحلول لا يمكن أن تترجم إلى عمل اجتماعي فعال في مجتمع ديمقراطي إلا إذا كانت لدى المواطنين في هذا المجتمع درجة من الإدراك الأساسي لما هو حادث، ويمكن أن تصبح دراسة تاريخ الفكر نافعة لأولئك المشتغلين بالعمل الإيجابي في مشكلات العلاقات الإنسانية، ولأولئك الذين ينحصر عملهم الرئيسي في ميادين أخرى.
إن معرفة كيفية سلوك الناس في الماضي لها أهمية قصوى لأولئك الذين يعملون مباشرة في ميدان العلاقات الاجتماعية، إما كعلماء اجتماعيين أو كرجال عمليين. وسنرى في فصل مقبل من فصول هذا الكتاب أن موضوع الفوائد التي تعود من الدراسة التاريخية، وحدود هذه الدراسة، كان من الموضوعات التي ثار حولها جدل كثير في مراحل معينة من حضارتنا الغربية وقد كان هناك دائما أفراد يرون أن دراسة التاريخ ليس من ورائها جدوى، بل هي شر، وحد من إمكان تحليق الروح إذا لم يجذبها التاريخ إلى أسفل. ولكن الحكم العام لحضارتنا الغربية هو أن معرفة التاريخ هي على أقل تقدير نوع من امتداد الخبرة الفردية، ومن ثم فإن لها قيمتها للذكاء البشري الذي يستغل الخبرة. ومن المؤكد أن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميا - العلوم الطبيعية - يلتزم بالرأي الذي يؤمن بأن التعميمات الصالحة يجب أن تعتمد على الخبرة الواسعة التي تشمل ما نسميه عادة بالتاريخ. ومن ثم فإن العلوم التاريخية أو التكوينية - كالجيولوجيا التاريخية أو الباليونتولوجيا - هي في أهمية العلوم التحليلية كالكيمياء فيما تحققه العلوم الطبيعية. وللتاريخ نفس الضرورة في العلوم الاجتماعية.
وإذا أريد للعلوم الاجتماعية أن تتقدم وجب على التاريخ في الواقع أن يتمم العمل الميداني والتجربة. إن تسجيل ما أداه الناس في الماضي لازم لإنقاذنا اليوم من ضياع أوقاتنا في دياجير الظلام. وتشتغل اليونسكو - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - بدراسة تعاونية فسيحة المجال للتوتر الذي يهدد بالانفجار في شكل صراع عنيف. ولا يمكن فهم هذا التوتر دون الاهتمام بتاريخه - أعني التاريخ الخاص لهذا التوتر. فالتاريخ إذن يمدنا ببعض الحقائق الضرورية، بالمادة الخام للوقائع، يسجل التجربة والخطأ، الذي يلزم لفهم السلوك البشري في الوقت الحاضر.
وأهم من هذا الفائدة التي تعود على من يؤدي منا الواجبات العديدة الهامة في مدنيتنا - تلك الواجبات التي لا تتطلب معرفة التخصص في العلوم الاجتماعية، أو العمل الخلاق في هذه العلوم - الفائدة التي تعود على هؤلاء من معرفة التاريخ، وبخاصة تاريخ الفكر. ويستطيع المرء أن يتخيل مجتمعا تدير فيه قلة من الخبراء شئون الجماهير بمهارة وكفاية - وقد تخيل المستر ألدوس هكسلي في الواقع في قصته «العالم الطريف» مثل هذا المجتمع. كما ابتدع مستر ب. ف. سكنر مجتمعا عبقريا في كتابه «والدن الثانية». فهذا مطمع كثيرا ما يغري أصحاب المزاج الهندسي. غير أن الثمرة التي تنتج من هذه «الهندسة الثقافية» لن تكون مجتمعا «ديمقراطيا». وحتى إن أمكن تحقيق مثل هذا المجتمع - وهو ما أشك فيه - فإن الأمريكان الذين نشئوا في تقاليدنا الوطنية يتعذر عليهم العمل فيه. إننا نلتزم بالحلول الديمقراطية، التلقائية، واسعة الانتشار، لمشكلاتنا، نلتزم بالحلول التي نبلغها بالجدل والقرارات الحرة على نطاق واسع، تلك القرارات التي نصدرها بطريقة من طرق تعداد القرارات الفردية. إن العلماء وهم القلة المبدعة يقدمون الحلول بطبيعة الحال. ولكن الحلول لا تتحقق إلا إذا فهمناها جميعا، ووضعناها موضع التنفيذ لأننا ندركها، ونوافق عليها، ونريدها.
وهنا أيضا نستطيع أن نستضيء بما حدث في العلوم الطبيعية؛ فقد قام علماء الأمراض والوقاية، والأطباء العاملون، بعمل مبدع ولكنهم لم يستطيعوا معه القضاء على بعض الأمراض كالتيفود أو الدفتريا على سبيل المثال. ولكن هذا التقدم العظيم في الصحة العامة في مجتمعنا لم يصبح ممكنا إلا لأن الغالبية الكبرى من الناس في بضع عشرات السنين الأخيرة فهمت - ولو بصورة ناقصة - نظرية الجراثيم في الأمراض، وأرادت أن تمحو المرض، وعاونت بحرية وعن فهم إلى حد كبير في عمل الخبراء.
وليس من شك في أن الخبراء الذين يعملون مع شعوب جاهلة، شعوب تعتنق عن الأمراض عقائد غير التي تعتنقها، قد حققوا شيئا من التقدم في إزالة أمراض مثل التيفود أو الدفتريا. وتقدمت الصحة العامة حتى في الهند وأفريقيا. غير أن سير هذا التقدم كان أبطأ هناك منه عندنا، وأقل ضمانا، لا لشيء سوى أن الخبراء لم يستطيعوا في الواقع أن يشركوا بقية السكان معهم في معارفهم وإنما لجئوا إلى السلطة، والنفوذ، والإغراء، والحيل، لكي يقوموا بالعلاج.
إن الطريقة الناجحة للانتقال من الفكرة في ذهن العبقري إلى أثرها المنتشر بين الناس كافة - وهي موضوع الفقرات القليلة السابقة - هي من المشكلات الكثيرة الهامة التي ما زلنا لا نعرف عنها نسبيا إلا القليل. ومن المؤكد أن هناك مشكلة، وأن العبارة الأخاذة التي تنسب إلى إمرسن وهي: «لو أن إنسانا اخترع مصيدة فئران أفضل مما لدينا، لعبد الناس إلى بابه طريقا.» هي عبارة مضللة في أقل تقدير؛ لأن الطرق لا بد أن تتقاطع، وربما لم ينشأ البتة طريق. إن التطعيم كان لا بد له في أول الأمر أن يكتسب إلى جانبه مهنة الطب، ثم الجمهور، بالرغم من أن طريق انتشاره سهل نسبيا. فما بالك بآراء ماركس؟ ما هي مجموعة الطرق الملتوية التي سارت من المتحف البريطاني إلى الكرملين؟ ويلاحظ هنا أنه حتى بين الخبراء لا يوجد شيء يقرب من الاتفاق العام على حقيقة الآراء الماركسية وقيمتها مما يوجد فيما يتعلق بالتطعيم.
وإذا اهتدى خبراؤنا إلى وسائل العلاج - أو على الأقل لتخفيف - الأمراض الاجتماعية كالحرب، والتدهور، والبطالة، والتضخم، والانحراف، والجريمة، وكل سلسلة الشر الطويلة، لما أفلحوا في أن تكون هذه الوسائل فعالة إلا إذا كانت لدى البقية منا بعض المعرفة بما ينصح به هؤلاء الخبراء. وإذا كان تقدم العلوم الاجتماعية في زماننا ليس كبيرا جدا، وإذا كان لا بد لنا من الاعتماد على نوع القادة ونوع الأفكار التي تتعلق بالكائنات البشرية التي كان لا مناص لأسلافنا من الاعتماد عليها - إذا كان الأمر كذلك لكانت الحاجة أمس إلى أن يكون لدى جميع المواطنين في المجتمع الديمقراطي شيء من المعرفة بتاريخ التفكير. وإذ كان ينقصنا الخبراء في الوقت الحاضر، وركنا إلى الإدراك العام، فلا بد أن يكون هذا الإدراك العام عاما حقا، والتاريخ - كغيره من جميع ضروب الخبرة - مرشد نافع في تكوين الإدراك العام. إنه مرشد، وليس قائدا لا يخطئ ، أو صانع معجزات! فإن أردت المعجزة - وهي بالتأكيد حاجة بشرية - فعليك أن تبحث عنها في غير التاريخ: إن ربة التاريخ «كليو» من الآلهة ذوات القدرة المحدودة.
بعض أنماط تاريخ الفكر
لدينا في الوقت الحاضر في منتصف القرن العشرين سجل كامل مطبوع لما قال الناس وما فعلوا في الماضي، لدينا أصول تعليقات الأجيال المتعاقبة من المؤرخين والنقاد. لدينا من هذا ما لا يستطيع فرد واحد أن يطلع على كل ما يتعلق منه بجانب كبير من جوانب هذا السجل التاريخي. إن حياة واحدة لا تكفي لقراءة كل كلمة لدينا سطرها اليونان القدامى وكل كلمة كتبت عنهم. وعلى كتاب التاريخ وقرائه على السواء أن يختاروا من هذا القدر الكبير مما كتب. وهذه ملاحظة هامة وإن تكن من البديهيات.
والمشكلة الحرجة التي علينا جميعا أن نجابهها هي كيفية الاختيار، وكيفية تمييز المهم من غير المهم. وكيف نتعرف المهم إذا التقينا به. إن الإجابة الكاملة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى كتاب بأسره في منهج البحث للمؤرخ. ويكفينا هنا أن نحاول في إيجاز أن نبرر طريقة الاختيار في هذا الكتاب، وأود قبل هذا أن أبحث في بعض طرق الاختيار الأخرى التي نبذتها.
من مبادئ الاختيار المعقولة، الشائعة جدا في أمريكا في هذه الأيام، هي أن ننتقي ما يقال عنه إنه «حي» بالنسبة إلينا في هذه الأيام، وأن ننبذ ما يقال عنه إنه «ميت». ونعتقد أن الأول هام، والثاني لا يهم إلا المتحذلق أو الأخصائي، ومن ثم يقال لنا: دعنا بكل وسيلة نأخذ عن أفلاطون «أفكاره الحية»، ولا نأخذ من أفكاره ما كان ينطبق على الإغريق في عهده فقط.
والصعوبة في ذلك هي في معرفة ما نعني ب «الحي» في مثل هذا المجال. قد نعني «ما تعتقد الغالبية العظمى من الناس في صدقه.» ونستطيع القول إن كل ما يحتاج عالم الطبيعة إلى معرفته - بهذا المعنى من الطبيعة عند الإغريق هو الجانب الذي ما زلنا نعتقد في صحته. ولكن حتى العالم قد يستطيع أن يتعلم الكثير من تاريخ العلم . يستطيع أن يتعلم كيف يمكن الوقوع في الخطأ بسهولة، وكيف أن الرأي الجديد السليم - حتى في مثل هذا الميدان - أمر شاق عسير. ويستطيع أن يتعلم أن العلم ليس برجا عاجيا، وإنما هو جزء من الحياة الإنسانية الكاملة.
ومهما يكن من أمر فإن علم الطبيعة مثل واضح للمعرفة التراكمية. ولم يكن أفلاطون عالما في الطبيعة، إنما كان فيلسوفا، همه الأول المشكلات التي تتعلق بالحياة الصحيحة والحياة الخاطئة، ووجود الإله، وخلود الروح، والعلاقات بين الدوام والتغير، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. وهذه أمور من المعرفة اللاتراكمية، ليس من السهل فيها بأية حال من الأحوال أن نقرر ما هو حق وحي منها اليوم، وما هو باطل وميت. ومن الحقائق التي دلت عليها الخبرة أن قراء أفلاطون في القرن العشرين يتراوحون بين أولئك الذين يرون في كل ما كتب الحكمة السامية، وأولئك الذين يرونه كله هراء، وبين أولئك وهؤلاء درجات من التفاوت.
ويبدو أن أولئك الذين يتحدثون عن اختيار ما بقي من الماضي حيا اليوم يعنون بالحي أحيانا المألوف، ويعنون بالميت الغريب. خذ مثالا لذلك مأساة إغريقية قديمة: مسرحية أنتيجون لسوفوكليز. تعالج المسرحية جهود أنتيجون لضمان أداء طقوس الجناز الصحيحة إزاء جثة أخيها بولينيسيس، الذي قتل في الثورة التي قامت ضد كريون، الحاكم الشرعي لطيبة. ولما كان كريون يعتقد أن مصير بولينيسيس لا بد أن يشهر به ليكون مثالا لما يحدث للعصاة والخارجين على القانون؛ فقد رفض دفن الجثة بالطريقة الصحيحة، وعندما حاولت أنتيجون مستعطفة أن تؤدي طقوس الدفن لأخيها، حكم عليها بالموت.
إن إمكان شيوع مثل هذا الصراع بين أنتيجون وكريون وتطبيقه على قوم مثلنا أمر لا يحتاج إلى بيان؛ فإن أنتيجون تضع إحساسها الخاص بالخطأ والصواب تجاه ما يتطلبه النظام الشرعي الذي نعيش في ظله. وهناك - برغم هذا - من يرى أن ما يثير إحساسها بالخطأ والصواب في معاملة جثة أخيها - شيء غريب، بل تافه في نظر الأمريكان الحديثين، فيفوتهم لذلك مغزى الدراما، ما لم ينبهوا إليه. وطبقا لما يرى هؤلاء النقاد والمعلمون لا يمكن أن تكون هذه التحفة الفنية لسوفوكليز حية بالنسبة إلينا إلا إذا اتضح أن أنتيجون كانت فعلا أشبه بثورو أو غاندي، مشتركة في حركة من حركات «العصيان المدني».
ولم تكن أنتيجون بطبيعة الحال إحدى هؤلاء، وإنما كانت عذراء يونانية من عصر الإغريق العظيم، تتأثر تأثرا عميقا بآراء تتعلق بالكرامة البشرية غريبة عنا بعض الشيء. ولكن ما هو غريب في أنتيجون له لدينا أهمية قصوى؛ فالتاريخ - حتى تاريخ الفكر - نافع فوق كل شيء لأنه ينتزعنا من محيط حياتنا الضيق المحدود، ويبصرنا بمدى اتساع الخبرة البشرية، ومدى تعقيد ما نسميه في إهمال «الطبيعة البشرية»، وإلى أي حد يتشابه الناس ويمكن التنبؤ بتصرفاتهم، وإلى أي حد يختلفون ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم.
وإذا نحن أخذنا المألوف، أو الأشياء التي نجد فيها أدنى مشقة لقبولها كأمور إنسانية، مبدأ للاختيار في معمعان وقائع التاريخ، هبطنا كثيرا بقيمة أي دراسة للماضي. ولو كانت معرفتنا بالناس حقا تراكمية فقط، كمعرفتنا بعلم الطبيعة، لأمكننا الاحتفاظ بالجوانب الحية ونبذ الجوانب الميتة من سجل الماضي. غير أن معرفتنا بالناس ليست تراكمية، ولا نستطيع أن نأخذ عقلا بأي مبدأ «بسيط» عند الاختيار بين الحي والميت، والصالح وغير الصالح، والهام وغير الهام. ولكن لا بد من نوع من أنواع الاختبار، وكل من يكتب التاريخ أو يقرؤه يقوم بالاختيار. وإنما ينبغي أن يتسع مجال الاختيار، ولا بد أن تكون النماذج المختارة طيبة بقدر الإمكان، ولا يكون الاختيار مقررا بأي نظام مقيد من نظم الأفكار، ولا ينبغي أن يهمل تاريخ الفكر الديمقراطي تاريخ الفكر غير الديمقراطي.
وهناك مبدأ آخر للاختيار - في تاريخ الفكر على الأقل - وذلك أن تأخذ الشخصيات التي يعدها الرأي العام المثقف اليوم أصولا ككبار المفكرين والكتاب ونعرض ما كتبوه في وضوح وإيجاز بقدر الإمكان. وهذا عمل يستحق الأداء، وقد تم أداؤه بإجادة. غير أن ذلك ليس ما نعنيه في هذا الكتاب بتاريخ الفكر، إنما هو تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأدب أو تاريخ النظريات السياسية. أما ما نعنيه بتاريخ الفكر فهو شيء أكثر من ناحية وأقل من ناحية أخرى من سجل ما أنجزته كبار العقول في ميادين المعرفة اللاتراكمية. هو أكثر من ذلك لأنه يحاول أن يكتشف ما تحسه وما تفكر فيه وما تعمله العامة من الرجال والنساء دون العباقرة والعظماء. وهو أقل من ذلك لأنه لا يستطيع - دون أن يصل إلى أبعاد لا حد لها - أن يحلل تحليلا كاملا التفكير الشكلي عند العظماء وأشباه العظماء من المفكرين كما يحلل هذا الفكر المحترفون والفنيون في الكتب المعتمدة في الفلسفة والفن والأدب. لا يهمنا هنا تفكير أفلاطون في حد ذاته كما يهمنا أن نعرف إلى أي حد كان هذا التفكير جزءا من أسلوب العيش الإغريقي، وإلى أي حد ينبذ هذا التفكير ذلك الأسلوب والعيش، وإلى أي حد كانت عامة المتعلمين تقبله في المجتمعات التي جاءت فيما بعد - وباختصار نحن أقل اهتماما بأفلاطون في حد ذاته منا بما أفاد الناس من أفلاطون أو كانت أو نيتشه.
وأخيرا - وهذه أشد المشكلات تعقيدا - هناك ذلك النوع من الاختيار من بين تفصيلات الماضي التي لا تكاد تنتهي، ذلك الاختيار الذي يرتب هذه التفصيلات بقصد التدليل على شيء ما. إن كل المؤرخين في الواقع يرتبون مادتهم بطريقة تسوق القارئ إلى أن يعتقد أن بعض الفروض الخاصة بالناس ومصيرهم هي فروض صادقة، وكثيرا ما تكون هذه الفروض ضخمة وفلسفية إلى أبعد الحدود؛ فقد استخدم سنت أوغسطين في كتابه «مدينة الله» وقائع التاريخ التي جمعها لكي يبرهن على أن المسيحية لم تضعف الإمبراطورية الرومانية، وأن الإمبراطورية إنما سقطت لأن الله ينزل العقوبة بالأشرار. أما جورج بانكروفت في تاريخه للولايات المتحدة فيستخدم وقائعه المختارة لكي يبين أننا نحن الأمريكيين الشعب المختار حقا للإله الديمقراطي الحق، وأن «مصيرنا الواضح» هو أن نقود العالم إلى حياة أفضل. أما الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر فقد وجد أن التاريخ يبين بجلاء أن الناس يتقدمون من المجتمعات المقاتلة المتنافسة إلى المجتمعات المسالمة المتعاونة الصناعية.
ولا يزال التاريخ - وربما سوف يبقى دائما - أقرب إلى المعرفة اللاتراكمية منه إلى المعرفة التراكمية. نعم إن بعض طرائقه في البحث، وطرائقه في الحكم على صحة الدلالة، هي علمية أو تراكمية. ولكن المؤرخ - إن عاجلا أو آجلا - لا بد أن يقابل هذه المشكلة: ماذا تعني دلائله إذا قيست بمقاييس الحب والكراهية الإنسانية، ومقاييس الآمال والمخاوف. إنه لا بد - عاجلا أو آجلا - أن يقيم، وأن يحكم بالطيب والخبيث، وأن يدخل الفرض في حسابه. أما العلم - كعلم في حد ذاته - فلا يفعل شيئا من هذا، وإنما يقتصر على إقامة قواعد عامة أو قوانين وصفية في أساسها، وليست تقويمية.
وفي هذا الكتاب نمط من أنماط التقويم، وفكرة رئيسية، وتفسير لمجرى الحوادث الإنسانية، التي لا بد أن تظهر بصورة محددة لأولئك الذين يتابعون الكتاب حتى نهايته. وأستطيع هنا في إيجاز، قد يكون مخلا بالوضوح، أن أسارع فأقول إن هذا الكتاب سيحاول أن يبين أن المثقفين الغربيين في خلال ألفي السنة الأخيرة قد عاونوا على إنشاء مستويات رفيعة جدا من الحياة الطيبة والسلوك المعقول، وأنه في السنوات الثلاثمائة الأخيرة انتشرت فكرة - وبخاصة في غضون مذاهب التقدم والديمقراطية - تقول بأن كل فرد حيثما كان في هذا الزمان على هذه الأرض، يستطيع، أو ينبغي له، أن يعيش وفقا لهذه المستويات وأن يكون «سعيدا»، وأن الحربين العالميتين اللتين نشبتا في العصر الحديث وما أعقبهما من شرور، والانهيار الاقتصادي العظيم، وكثيرا غير ذلك، قد جعلت تأجيل هذه الحياة الديمقراطية الطيبة - بل جعلت التخلي عنها كلية - أمرا محتملا عند كثير من المفكرين، وأن أقرب تفسير إلى العقل للفشل النسبي الذي أصاب المثل الديمقراطية والتقدم يرجع إلى المبالغة من المؤمنين بها في تقدير ما عند الرجل العادي اليوم من تعقل وقدرة على التفكير التحليلي، وأنه - بناء على ذلك - ينبغي لكل المهتمين بمصير الإنسان أن يدرسوا بعناية فائقة طريقة السلوك الفعلي للناس، والعلاقة بين مثلهم وأعمالهم، وبين أقوالهم وأفعالهم، وأخيرا، أن هذه العلاقة ليست بسيطة، مباشرة، سببية، كما نشأ أكثرنا على العقيدة أنها كذلك.
وفي خلال هذا الكتاب تدور مشكلة ضخمة حقا؛ مشكلة تشغل كثيرا أذهان كل من يهتم اليوم بالعلاقات الإنسانية، وهي مشكلة يجدها المرء في فجر تاريخ الفكر الغربي عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي مشكلة يتضمنها تميزنا بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ولنسلم بأن العلم، أو المعرفة التراكمية، يستطيع أن يبين لنا في كثير من الحالات المحسوسة ما هو حق وما هو باطل، أو حتى ما هو «عملي» وما ليس بالعملي. ولكن هل هناك معرفة يعتمد عليها تنبئنا بما هو طيب وما هو خبيث؟ هل هناك علم، أو معرفة، ب «المعايير» أم هل ما نسميه عادة بالحكم على القيم (ولا أستطيع هنا أن أهبط إلى الأغوار السحيقة التي تتطلبها المعالجة الجادة لهذه المصطلحات) عاجز في أساسه عن الخضوع لقياس أداة التفكير؟
إن أهل الغرب - فيما يتعلق بالحق والباطل، والجميل والقبيح - لم يصلوا في الواقع إلى نوع من الاتفاق يشبه ما بلغوه في الأمور التي تتعلق بالعلوم الطبيعية. غير أن التقاليد الغربية يسري فيها في الواقع تيار شديد التدفق يرفض الزعم - الذي ظهر بين الحين والحين في تاريخ الغرب من السفسطائيين إلى المنطقيين الوضعيين - بأنه لا جدوى من تعليل أخلاق الناس وأذواقهم، ولا جدوى من البحث العقلي في «حاجاتهم». وبالرغم من الأقوال الشائعة مثل «لا فائدة من الجدل في الأذواق»، والادعاءات مثل «القوة تحدد الحق» فإن أهل الغرب ينبذون العقيدة بأن القيم ليست إلا نتيجة اعتباطية للرغبات الإنسانية المتعارضة. وهذا النبذ هو في حد ذاته حقيقة كبرى.
سنحاول في هذا الكتاب ألا نتحاشى هذه المسألة الكبرى؛ مسألة وجود معرفة قياسية للقيم، وإنما سوف نحفز القارئ على أن يفكر بنفسه فيها. ويعترف مؤلف هذا الكتاب أنه سار في تفكيره الخاص في الاتجاه الذي يرى أن الحكم على القيم لا يمكن - عند أهل الغرب - أن يقوم على أساس متين إلا إذا أقحمنا نوعا من النشاط الإنساني نسميه عادة ب «الإيمان». إن الناس بوسعهم أن يعتقدوا - بل هم يعتقدون - أن باخ مؤلف موسيقي أفضل من أوفنباخ، وهم يجزمون بذلك كما يجزمون بأن قمة إفرست أعلى من قمة واشنطن. إنهم يستطيعون أن يفكروا في العلاقة بين باخ وأوفنباخ وفي حكمهم على هذه العلاقة. وهم يستطيعون أن ينقلوا كثيرا مما يفكرون فيه (أو مما يحسونه) بشأن هذه العلاقة إلى زملائهم، بل إنهم ليستطيعون أن يقنعوا زملاءهم أن يقبلوا رأيهم في هذه العلاقة.
ولا نستطيع هنا إلا أن نمس موضوع الحكم القياسي من ظاهره. ومن الجلي أن المرء لا يستخدم في الحكم على العلاقة بين موسيقى باخ وموسيقى أوفنباخ نفس المعايير التي يستخدمها في الحكم على العلاقة بين ارتفاع قمة إفرست وارتفاع قمة واشنطن. إن أكثرنا عند الحكم في الموضوع الثاني يعود إلى مرجع جيد ويقبل حكمه، ولا يحاول أن يقيس القمتين بنفسه. مثل هذه العودة إلى مرجع في أمر واقعي (أو في «علم من العلوم» بمعنى ما) كثيرا ما يأخذ به المدافعون عن صحة الأحكام القياسية في الأخلاق، والجمال، وغير ذلك من الميادين، الذين يريدوننا - طبقا لذلك - أن نقبل الرجوع إلى الكنيسة مثلا فيما يتعلق بوجود الله. بيد أن هناك في الواقع فارقا بين الإفادة من المرجعين في هذين المثالين؛ ذلك أن كل فرد مدرب يستطيع أن يخطو نفس الخطى التي يراها الجغرافيون صحيحة والتي انتهت إلى قياس القمتين، في حين أن مثل هذه العملية مستحيلة بالنسبة إلى وجود الله. نعم إن الأفراد المدربين تدريبا صحيحا يستطيعون أن يتابعوا خطوات التفكير التي يبرهن بها رجال الدين على وجود الله، غير أنهم سوف يلتقون بكثير من الأدلة المتعارضة، بما فيها الأدلة التي تنتهي بالبرهان على أن الله «غير» موجود.
كذلك يستطيع الفرد المدرب، تدريبا صحيحا أن يتابع خطوات الفكر التي يبرهن بها ناقد موسيقي على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ، وسيجد هنا كثيرا من الفروق، ولكنه سوف يجد أيضا اتفاقا أكثر مما هناك على وجود الله - وسوف يجد الدليل في المراجع على أن الحكام الكفاة يتفقون على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ. وسوف يجد أدلة مركبة، تدخل في ميدان الأخلاق، تبرهن على أن باخ كان في الموسيقى أعلى مرتبة من أوفنباخ وأنه ألف قطعا موسيقية أقوى أثرا وأفضل وقعا إذا قيست بمعايير الجمال. وسوف يجد شروحا فنية جدا قائمة على رياضيات الموسيقى وطبيعتها. وأخيرا سوف يسعده أن يجد أن باخ يؤلف في الموسيقى الجادة تأليفا جيدا، وأن أوفنباخ يؤلف موسيقى خفيفة تأليفا جيدا، وأن المرء يستطيع أن يستمتع باللونين، كل في مكانه الملائم.
وإذن فليس العقل عاجزا بأية حال في مسائل القيم؛ فهو يستطيع أن يفعل الكثير، وهو يستطيع فوق كل شيء أن يقنع الناس وأن يعلمهم. ولكن العقل لا يستطيع أن يفعل المستحيل فيستبعد ما يعده العقليون الأقحاح من عناد الأفراد - أعني عقيدة كل فرد أنه عند حد أدنى معين لا بد أن يختلف عن غيره، وأن له إرادة، وشخصية خاصة به. هذه الإرادة - عند حد معين - يجب أن تجد لنفسها دعامة من الإيمان «تستند إلى الأمور التي لا تروى».
الفصل الثاني
المنبع الهليني
وصلت إلينا كتابات كلاسيكية، أو قديمة، أو إغريقية، يرجع تاريخها على وجه التقريب إلى ما بين عام 750ق.م، وعام 1000 ميلادية، تشمل مجال التفكير الذي قام به الناس في ميادين المعرفة اللاتراكمية. وقد عبر الفلاسفة الإغريق، ومراقبو الطبيعة البشرية منهم، والمؤرخون الإغريق، ورجال الأدب، في صورة من الصور، عن كل ضروب الخبرة الفكرية والعاطفية تقريبا التي عرفها أهل الغرب ووضعوا لها الأسماء. وقد يبدو هذا القول مبالغا فيه، وهو ليس بطبيعة الحال إنكارا للقوة، والوزن، والجمال والحكمة، والابتكار، بشتى المعاني مما تم إنجازه في العصور الوسطى أو الحديثة في هذه الميادين.
وتستطيع أن تلمس صحة هذا الزعم في أي ميدان تقريبا؛ ففي الأدب مارس الإغريق كل ما نعرف من أشكال، بما فيه شيء يقرب جدا من الرواية، في النهاية. وقد بلغوا في الملحمة خاصة، وفي الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، وفي التاريخ، مستويات لم نستطع بعد أن نتخطاها، بل لم نستطع أن نبلغها كما يرى بعضهم. وفي الفلسفة طرحت مدارسهم كل المشكلات الكبرى - الكينونة والصيرورة، والواحد والمتعدد، والجسم والعقل والروح والحالة - وقدموا لها حلولا كبرى. وكان من بين الفلاسفة الإغريق: المثاليون، والماديون، والعقليون، والوجدانيون، والمؤمنون بالتعدد، والمتشككون، والساخطون والنسبيون، وأصحاب المذهب التجريدي. أما التصوير فلم تصلنا منه أصول. وقد كان التدهور في أكثر وجوه الحضارة - الذي أعقب انهيار العالم الإغريقي الروماني - عظيما، إلى درجة أن الناس لم يستطيعوا أن يعنوا بهذه الصور، أو على الأقل لم يفعلوا ذلك. وهناك شك في أن فن التصوير عند الإغريق بلغ من العظمة ما بلغه فن النحت أو العمارة. ولا يخامرنا شك في عظمة الفنين الأخيرين اللذين أمكن أن يصلا إلينا، وإن يكن في صورة ناقصة في أكثر الأحيان، لصلابة المادة التي صنعتا منها. وأخيرا في ميدان العلوم والمعرفة التراكمية طور الإغريق إلى درجة رفيعة الجانب النظري من الرياضيات وعلم الفلك، وقاموا بعمل قيم في علم الطبيعة وفي الطب. وقد بنوا في ذلك إلى حد ما، على ما تم من قبل في مصر وفي بلاد النهرين. ثم بنى الرومان، إلى حد ما، على ما أنجزه الإغريق، وبلغوا مستويات رفيعة في الهندسة. أما في الحياة السياسية والاقتصادية فقد بلغت الثقافة في هذا الصدد درجة عظيمة من التعقيد. كان هؤلاء الناس، في عبارة موجزة، قوما «متمدنين» مدنية كاملة.
وفي الحق لقد بلغت هذه الحضارة القديمة مكانة عالية، حتى إن الكتاب والمفكرين، في فرنسا وفي إنجلترا، لم يستطيعوا إلا حوالي عام 1700 ميلادية أن يفكروا في إمكان أن يقتربوا - وهم المحدثون - من الإغريق والرومان ككتاب وفنانين وعلماء - أو كأشخاص متمدنين، في إيجاز. ولكن مكانة «القديم» بهذا المعنى كادت تختفي من أمريكا في منتصف القرن العشرين؛ ففي التربية العامة فقد الكلاسيكيون حتى أعمالهم الرجعية، ولم تعد اليونانية تدرس في المدارس الثانوية. وبقيت اللاتينية ولا تكاد تعدو الدراسة الشكلية الخفيفة.
وبالرغم من أن كثيرا من الأمريكان المتعلمين في جهل تام بالعمل الذي كان له في وقت من الأوقات معنى عظيم، فإن أعمال اليونان ما زالت تكون جانبا رئيسيا من المحصول الأساسي لثقافتنا، وليس من قبيل الحذلقة ، أو حتى من قبيل العامة العلمية، أن يرجع علماؤنا في السيكولوجيا - بعد كثير من علماء العلوم الإنسانية والأدباء - إلى الإغريق. وإذا كان علماء السيكولوجيا قد أخذوا عن المصادر الإغريقية «عقدة أوديب»، والعقدة النرجسية (أو حب الذات)، والفوبيا (الحب الجنوني) والمانيا (التهوس)؛ إذا كانوا قد فعلوا ذلك فلأن الميثولوجيا (الأساطير) عند اليونان هي في الواقع من الكنوز المذهلة فيما يتعلق بالملاحظات الواقعية - والخيالية في غير المعنى الرومانتيكي - عن سلوك الإنسان وآماله، وطبيعته البشرية المعهودة التي لا ينضب لها معين. وليست الأساطير النوردية أو الكلتية إذا قورنت بالأساطير الإغريقية إلا أمرا تافها، ضئيلا، ساذجا، فيما يتعلق بالطبيعة البشرية. إننا لا نعرف أنفسنا حق المعرفة إذا لم نعرف شيئا إطلاقا عن الإغريق. كما أن التجربة اليونانية الرومانية في الحضارة كانت كاملة من بعض النواحي. وهي تعرض - كما يذكرنا بذلك فلاسفة التاريخ - شيئا يشبه الدورة الكاملة، من الشباب إلى الكهولة إلى الموت، أو من الربيع إلى الشتاء. لها بداية كما أن لها نهاية.
وأخيرا، ترعرعت الديانة المسيحية في هذه الحضارة، وليس من شك في أن للمسيحية أصولا يهودية تخرج كثيرا عن نطاق التأثير الإغريقي، ولكنها في نموها ونظامها كانت جزءا لا يتجزأ من العالم اليوناني الروماني في السنوات القلائل الماضية في الحياة العملية لتلك الحضارة. ولا نستطيع أن نفهم المسيحية اليوم إلا إن فهمناها في ذلك الحين.
إن أصول الإغريق غير مسطورة في التاريخ، ولكنها تنعكس واضحة في الأساطير والخرافات الإغريقية وفي الآثار الباقية. ومن الواضح أن الشعوب التي تتكلم الإغريقية جاءت من الخارج، من الشمال من حوض الدانوب، أو حتى أبعد من ذلك شمالا. وهم ينتسبون من ناحية اللغة على الأقل إلى الجرمان والكلت والسلاف. وقد هبط هؤلاء الإغريق - أو الهلينيون كما يسمون أنفسهم - في موجات متلاحقة، كان آخرها الموجة الدورية التي أتمت زحفها في فترة تاريخية معينة عند بداية الألف السنة الأولى قبل المسيح - أو هبطوا على ثقافة وطنية سابقة نسميها اليوم «المنوانية». ويكاد يكون من المؤكد أن الهلينيين والمنوانيين قد امتزجوا عنصريا وثقافيا، مع سيادة الهلينيين، ومع هبوط المستويات الثقافية، الذي يصاحب غزو شعب أقل حضارة لشعب أعلى حضارة؛ لأن المنوانيين كانت لهم حضارة رفيعة، كما تدل على ذلك آثارهم في النحت والعمارة. ومن هذا العهد المظلم برز الإغريق بوضوح في القرن الثامن قبل الميلاد، تجارا ومحاربين - كما كانوا من قبل - وفنانين سابقين، بل ومفكرين أيضا فيما يبدو، ومنظمين ذلك النظام الإغريقي المشهور الذي يعرف بالمدن الحكومية ذات السيادة التي تحكم نفسها بنفسها. وفي المدينة الحكومية نشأت ثقافة الإغريق الكلاسيكية. وكان حجم أثينا والأرض التي تجاورها أتيكا، في القرن الخامس قبل الميلاد - وهو قرن عظمتها - يبلغ مبلغ مدينة أمريكية متواضعة في العصر الحاضر، سكانها لا يجاوزون مائتي ألف نسمة.
إن ألف العام من مدنية البحر المتوسط الكلاسيكية تقدم إلينا شيئا لا نستطيع إهماله - فرصة نشاهد فيها نوعا من تجربة مجموعة من الآراء التي ما برحت جزءا من حياتنا اليومية. وربما كنا نسلك سلوكنا الراهن بسبب ما فعلته أجيال كثيرة جدا من أسلافنا باعتبارهم أشخاصا من قبل التاريخ، أكثر مما نسلك هذا السلوك بسبب ما فعلته الأجيال القليلة نسبيا من أسلافنا باعتبارهم أعضاء في ثقافة البحر المتوسط الكلاسيكية هذه. فالأجسام البشرية، من الكبد إلى المخ، كانت في أساسها منذ ألفين وخمسمائة عام كما هي اليوم، كما أن كثيرا من عاداتنا العقلية، وعواطفنا، وحاجاتنا السيكولوجية، قد تكون بغير شك قبل أن يكون للإغريق ذكر بوقت طويل، غير أن التاريخ لا يروي لنا إلا القليل من هذه الأمور، وبالأخص تاريخ الفكر؛ فتاريخ الفكر الغربي يبدأ في الواقع إلى حد كبير بالإغريق، لأنهم كانوا أول من استخدم العقل بطريقة جديدة تلفت النظر. وقد خلف الإغريق أول سجل ثابت شامل في مجتمعنا الغربي لنوع التفكير الذي تقوم به في حياتنا بقدر كبير (وإن كان أحيانا ضد ما نهوى). وليست هناك كلمة جيدة، خالية من الغموض، لهذا اللون من التفكير. ولنطلق عليه في بساطة اسم «التفكير الموضوعي».
ولم يكن الإغريق أول شعب مفكر، بل ولم يكونوا أول من فكر تفكيرا علميا؛ فقد استخدم المساحون المصريون، وراصدو النجوم الكلدانيون، الرياضيات. ومن ثم فقد فكروا تفكيرا علميا. ولكن الإغريق فكروا أولا في مجال الخبرة الإنسانية كلها؛ بل لقد فكر الإغريق في كيفية سلوكهم. وربما حاول كل إنسان أن يفعل ما فعل الإغريق بالتفكير - أي هيأ نفسه للكون الغريب، المحير، والمعادي أحيانا، الذي ليس بالتأكيد هو ذاته، والذي يسير فيما يبدو في أغلب الأحيان غير آبه به، والذي يظهر أن له إرادة، وقوة، وغرضا، لا يتفق وأغراضه في كثير من الأحيان، وربما كان البوشمان في أستراليا، والإيروكوا، والكالموك، وسائر الشعوب الأخرى، يفكرون في هذه الأمور، ولو عرفنا فعلا كيف تعمل عقولهم استطعنا أن نفهمهم. ولكن ما نود أن ننبه إليه هو أن بعض الإغريق - في وقت قد يرجع إلى العصر العظيم - قاموا بهذا التفكير «على طريقتنا»، وفكرت عقولهم كما نفكر.
أما أسلافهم البدائيون فلم يفكروا بطريقتنا؛ فقد استمعوا إلى الرعد، وشاهدوا البرق، ونالهم الخوف، وأدركوا قطعا أن البرق أو الرعد ليسا من البشر، لكن لا بد أن يكونا من الأحياء - فكل شيء عند بعض البدائيين حي. ولذا فقد انتهوا إلى الإيمان بأن كائنا شديد القوى، أسموه الإله زيوس، يلوح بصواعقه الشيطانية خلال السماء ويسبب كل هذا الاضطراب، وظنوا أنه يلوح بها أحيانا في وجه الآلهة الأخرى، وأحيانا يلوح بها لمجرد إظهار غضبه، وأحيانا أخرى - بطبيعة الحال - يلوح بها في وجه الإنسان الفاني، فيلحق به الموت. ويعتقد الإغريقي الطيب - أو يأمل - أنه لو أدى لزيوس الاحترام الواجب فإن الإله لا يصيبه بالصواعق. وحتى في قلب أيام الثقافة الأثينية العظيمة، كان الرجل العادي يعتقد في زيوس وصواعقه.
ويلاحظ أن الإغريق الأوائل «فسروا» الصواعق، وفسروا كل شيء تقريبا بأنه من صنع الآلهة، أو الأرواح، أو الجن، أو العمالقة، أو ذلك النوع من الإنسان الراقي الذي أطلقوا عليه اسم الأبطال. غير أن بعض الإغريق - ولسنا ندري متى أو أين انتهوا إلى أن أمورا كثيرة تجري في الكون دون أن يقربها أي إله من الآلهة ؛ فاعتقدوا - على سبيل المثال - أن الجو يصنع نفسه بنفسه، ولم يعرفوا الكثير عن الكهرباء، ولم يعرفوا بالتأكيد ما يكفي لأن يربط الأمثلة البسيطة من المغناطيسية التي لاحظوها بأي شيء يبلغ في قوته قوة الرعد والبرق. ولكننا نستطيع أن نقول إنهم اعتقدوا أن الصواعق ظواهر طبيعية، تخضع للتفسير العلمي المعقول.
ويصور أرستوفان في مسرحية «السحب»، التي مثلت لأول مرة في عام 423 قبل الميلاد، الصراع بين التفسير القديم الخارق للطبيعة والتفسير الحديث الطبيعي. وبالرغم من المجون والهزل المقصود - الذي يعرض فيه مؤلف المسرحية القضية العلمية - تستطيع أن تدرك أن بعض الأثينيين كانوا يعتقدون نظرية جوية لها قيمتها، تقول بأن الرياح تسير من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض. وقد صعق أرستوفان - أو لعله تظاهر بالذهول ليؤثر في جمهور المستمعين - لهذه الآراء المختلفة، وهو يترك فينا أثرا بأن نظرية زيوس القديمة هي الأصح، ولكن بالرغم من السخافات التي يجريها على لسان الفيلسوف سقراط - وهو عنده مثال المفكر الجديد - تستطيع أن تلمس العقل الإغريقي وهو يعمل جاهدا في تفسير ظاهرة الجو.
وليس معنى هذا أن المفكرين المجددين كانوا ضد الدين، أو أنهم كانوا ماديين. نعم كان بعضهم كذلك، كما كان كثير من المفكرين الإغريق والرومان المتأخرين بتعبيرنا في الوقت الحاضر عقليين كاملين. ولكن العقل عند الإغريق في العصر العظيم كان أداة جديدة مثيرة يستخدمونها في كل التجارب البشرية بما فيها التجربة البشرية التي تتعلق بالأمور المقدسة. ويستطيع المرء على أكثر تقدير أن يقول إن الإغريق الأوائل استخدموا العقل في ثقة وفي مجال فسيح، وأنهم كانوا يحبون نسج النظريات، وأنهم لم يحسنوا ذلك الضرب من جمع الحقائق البطيء وملاحظتها واختبارها الذي يستخدمه العلم الحديث. وقد جمع الإغريق فيما بعد كثيرا من الحقائق في البحث والعلم، وقل من الناس منذ ذلك الحين من جمع من الحقائق أكثر مما فعل أرسطو.
وجدير بنا أن نسير في هذه المسألة - مسألة الطريقة التي كان يعمل بها العقل الإغريقي - شوطا أبعد من ذلك قليلا. وتواجهنا في هذه المرحلة مشكلتان فلسفيتان على الأقل غاية في القدم: مشكلة التعميم، ومشكلة المتشابه وغير المتشابه التي ترتبط بها.
وقد قلت - أولا - منذ حين «الطريقة التي يعمل بها العقل الإغريقي»، ولكن هل كان هناك عقل إغريقي؟ ألم يكن هناك الملايين من أفراد الإغريق، لكل عقله الخاص؟ في أي جمجمة محسوسة يستقر هذا «العقل الإغريقي» العجيب؟ وسنعود بشكل جدي إلى هذه المشكلة - مشكلة التعميم - حينما نصل إلى أوروبا في العصور الوسطى، حينما احتلت بين المثقفين مكانة مركزية، أما هنا فيكفينا أن نلاحظ أن هناك آراء جانبية حول المشكلة، وهناك وسائل نتجنب بها الحكم بأنه كانت هناك عقول إغريقية بقدر ما كان هناك من إغريق، ووسائل نتجنب بها الحكم بوجود عقل إغريقي واحد، هو اللب أو النمط في كل التفكير الإغريقي (وهو حكم أشد سخفا من سابقه في نظر الأمريكي العادي).
ويقع حل المشكلة في هذه العبارة المألوفة «رأيه الخاص»، وذلك أن «كلا منا» يحب بطبيعة الحال أن يعتقد أن له رأيا خاصا. ولكن هل نعتقد حقا أن لكل أمريكي من المائة المليون البالغين رأيا خاصا؟ وهل تمتلئ الملايين العديدة من هذه العقول في أكثر الأحيان بنفس الرأي، بالأفكار التي تصاغ على صورة واحدة بالراديو والصحف، وهوليوود والمدرسة، والكنيسة وكل العوامل التي تلعب بعقولنا؟ وهناك من غير شك العصاة، والمنشقون، والذين «يخالفون» عن عمد - وإن يكن حتى هؤلاء يتجمعون في طوائف صغيرة تشترك في كثير من الآراء. والواقع أن قولنا: «العقل الإغريقي»، و«العقل الأمريكي» مفيد؛ لأنه يقابل واقع الخبرة العادية.
ويمكن أن يساء استخدام أمثال هذه العبارات بالمبالغة في تبسيطها، وتجميدها، وتهوين العلاقة بينها وبين الواقع. ولكنا لا نستغني عنها في مرحلة النمو العقلي التي بلغناها نحن المحدثين.
فلنسلم إذن بأن هناك عقلا إغريقيا، وأن هذا العقل يعمل في كثير من الأحيان بنفس الطريقة التي يعمل بها العقل الأمريكي. ولكن أليست كل العقول - كالعقل الصيني، وعقل البوشمان - أقرب إلى التشابه منها إلى الاختلاف؟ إن أمامنا هنا وجها خاصا من أوجه المشكلة المنطقية التي تعرضنا لها فيما سبق على عجل. وكحل عملي - مرة أخرى - نقول إن بين الجنس البشري، والمجموعات البشرية، أوجها من التشابه وأوجها أخرى من الخلاف، وإن من واجبنا أن نحاول وصف الجانبين، وربما كان آمن - على سبيل المثال - أن نقول إن أجهزة الهضم في الكائنات البشرية متشابهة، وإن الخلاف في أدائها وظائفها خلاف بين فرد وآخر، وليس خلافا بين جماعة وأخرى، وإن يكن هذا الخلاف عظيما ويرجع إلى أسباب معقدة. ويمكن بعبارة أخرى أن نقول إنك قد تستطيع أن تقسم الناس قسمين: أصحاب الهضم الجيد وأصحاب الهضم السيئ، إلا أن الأفراد في كل مجموعة لا يكادون يشتركون في شيء. وإذن فهذه ليست بالمجموعات الحقيقية، من ذلك النوع الذي يدرسه المؤرخون وعلماء الاجتماع.
والكائنات البشرية - من ناحية أخرى - تختلف اختلافا بينا في لون البشرة. ويمكن تقسيم كل الكائنات البشرية في نوع من أنواع الطيف اللوني، كل لون فيه يدخل في غيره، من الأسود الفاحم إلى ناصع البياض - وإن يكن من العسير جمع الحقائق التجريبية التي تتعلق بهذا التقسيم؛ فالخلافات الفردية إذن لها أهميتها القصوى. ومع ذلك فالمجموعات - من الرجل الأبيض، إلى الرجل الأصفر، إلى الرجل الأسود - لها أهمية أكبر. هذه المجموعات، أو هذه العناصر، ليست كما يظن الجاهلون أو المتعصبون، «لكن لا ينكر أنها من حقائق الحياة». وربما كان بين الصيني المتوسط، والأمريكي المتوسط، والأفريقي الزنجي المتوسط - إذا جمعنا كل الصفات البشرية وكل ضروب نشاط الإنسان - من التشابه أكثر مما بينهم من الخلاف. ولكنهم يختلفون في لون البشرة، وعلى هذا الخلاف قامت أهمية كبرى في العلاقات الإنسانية.
وإذا تحدثنا عن أوجه الخلاف وأوجه الشبه بين عقول الناس، كان أمامنا بالتأكيد مجموعة من المشكلات ليست أقل تعقيدا من مشكلات اختلاف اللون. والفروق الفردية هنا عظيمة جدا، وهي تتقاطع بشكل واضح مع حدود المجموعات، من حيث القومية، والطبقة، واللون، وما شابه ذلك، وإذا قصدنا بالعقل ما يقصده الفسيولوجيون ب «الذهن»، فإن الخلافات الفردية تكون واضحة. وإذا قصدنا «عقل الجماعة»، فهناك فعلا مجموعات تشترك في الرأي، والعاطفة ، والعادات العقلية، التي تختلف من الآراء والعواطف، والعادات العقلية للمجموعات الأخرى. وليس من شك في صدق ذلك إذا نحن حكمنا «بثمار» النشاط العقلي. فإن مقطوعة من هومر حتى في الترجمة إلى الإنجليزية تختلف عن أي مقطوعة من العهد القديم العبري أو من كتاب الموتى المصري. والتمثال الإغريقي لا يشبه التمثال الهندي القديم، والمعبد اليوناني لا يشبه ناطحة السحاب الأمريكية.
فإذا قلنا إن الإغريق هم أول من استخدم التفكير الموضوعي بطريقة معينة، وإن الإغريق عاشوا في جو عقلي يشبه جونا العقلي في كثير من الوجوه، ويختلف كل الاختلاف عن تفكير جيرانهم، إذا قلنا ذلك فنحن نصدر حكما عاما جدا من نوع الأحكام التي لا مناص لنا من إصدارها في مثل هذه الأمور، إن الكيموي يمتلك من طرق التحليل ما يمكنه من التحديد، والوزن، والقياس بدقة بالغة، فيستطيع أن ينبئك من أي الوجوه يشبه مركب مركبا آخر، ومن أي الوجوه يختلف المركبان. ولا يستطيع دارس البشر أن ينبئك إن كان الناس عامة إلى الخلاف أقرب منهم إلى التشابه؛ فالناس مركبات معقدة أشد تعقيد.
وبالطبع كان هناك من الإغريق القدامى من لم يفكر تفكيرا منطقيا - وسوف نلتقي ببعضهم. كان هناك من الإغريق القدامى من كانوا بمزاجهم على الأقل يطمئنون في فلسطين أو الهند أو الولايات المتحدة في العصر الحديث. وكل ما نستطيع أن نذكره هنا ونحن آمنون هو أن مجال نشاط العقل الإغريقي فسيح جدا، وفي داخل هذا المجال معيار، أو نمط، أو طريقة من طرق التفكير المميزة أسميناها التفكير المنطقي، وهي نصف التفكير الشكلي الإغريقي (أو الفلسفة) كما تصف الثقافة العامة الأوسع التي نظنها إغريقية خاصة بالإغريق.
التفكير الإغريقي الشكل
بلغ الإغريق من القلق والطموح - وربما أيضا من مجرد التبكير في تاريخ الفكر الغربي - حدا لا يقنعون معه باستخدام التعليل البطيء، المحدود، التجريبي دائما، الذي نسميه العلوم الطبيعية. كانوا يبحثون عن حلول للمشكلات الكبرى التي لم يوفق العلماء حتى اليوم في حلها، وربما لا يوفقون البتة إلى ذلك: كيف بدأ الكون؟ ما مصير الإنسان فوق هذه الأرض؟ هل هناك حياة أخرى؟ هل الدليل الحسي وهم؟ أيهما أشد واقعية، التغير أم الدوام؟ وحتى في العلوم هنا من الإغريق من فكر في مثل الصرامة التي فكر بها أفضل العلماء المحدثين، ولاحظ بمثل الدقة التي لاحظوا بها. ويجدر بنا أن نبدأ في عرض موجز لمدى التفكير الإغريقي في العصر العظيم بمثالين من أمثلة هذا النوع من التفكير العلمي:
المثال الأول:
تلك الكتابات التي تعزى إلى أبقراط، وهو من علماء الطبيعة في القرن الخامس. وقد ترك أبقراط أو تلاميذه وصفات طبية لأمراض فردية محسوسة يمكن أن تكون حتى اليوم نافعة. وهو لم يتخط مرحلة الشيطان أو رجل الطب في التفكير في الأمراض فحسب، وإنما تخطى كذلك المرحلة التالية، مرحلة النظريات العامة الساذجة الطموحة - عن الأمراض - كأن يدمى المريض دائما للتخفيف من الحمى، وأن يتناول في كل حالة «شربة» مسهلة. إنما كان يحصل على الحقائق مباشرة، حتى يستطيع أن يتعرف المرض في المرة الثانية، ولا يخلط بينه وبين الأمراض الأخرى التي تبدي أعراضا مشابهة وإن لم تكن مطابقة.
وليس هذا بالعمل الهين. وقد كان أبقراط يدرك أنه يعرف القليل عن الأمراض، ولكنه أراد أن يعرف هذا القليل معرفة جيدة منظمة. وكان يؤمن بأن الطبيعة تميل إلى أن تعيد في المريض التوازن الذي نسميه الصحة. وكان يتشكك في الأدوية، وبخاصة تلك التي ترتبط بالنظريات الكبرى عن الصحة والمرض. ومن ثم فقد كان الغرض الأول عنده كطبيب هو «ألا يغير» وأن يريح المريض، وأن يمكن الطبيعة من أن تقوم بعملها العلاجي. وقد ظن بعض معاصريه أنه بغير قلب؛ تهمه دراسة الأمراض أكثر مما يهمه علاجها. غير أن أبقراط ظفر بالتقدير فيما بعد، باعتباره المؤسس الحقيقي لعلم الطب، وحتى عصرنا الحاضر يردد أطباؤنا قسم المهنة المشهور «يمين أبقراط»، وإن يكن هذا القسم هو بالتأكيد من وضع عهد متأخر.
والمثال الثاني:
هو المؤرخ ثيوسيديد، الذي اقترب من كتابة التاريخ بطريقة علمية كما فعل أي مؤرخ آخر. فإن ثيوسيديد - كأبقراط، الذي ربما أخذ «ثيوسيديد» عنه العلم - يكتب نوعا من التقارير الطبية. إنه يحاول أن يبين ما جرى فعلا خلال حرب بلبونيز بين أثينا وإسبرطة، حينما ثارت عواطف الناس إلى درجة تكاد تكون مرضية. لم تكن عنده نظريات ضخمة عن تاريخ البشر، ولم يكن لديه أمل في علاج شرور الحرب. ولم ينضم إلى جانب أثينا أو جانب إسبرطة، وإن يكن قد تولى القيادة من قبل في جيش أثينا. ولم يهتم بالحكايات، أو الفضائح، أو حوادث التاريخ المثيرة للخيال، وإن تكن لديه أفكار عن الحق والباطل - أو قل إن شئت أهواء. وهو يؤثر بوضوح النظام، والهدوء، ومزايا الحياة الاجتماعية، على العصيان، والمنافسة القوية، وأسباب القلق، والقسوة، والعنف. ولكنه لم يكن واعظا، إنما كان يلاحظ ويراجع ما دون عن النضال الدرامي بين كائنات بشرية معينة، ويحتفظ بهذا التدوين حتى يكون الخلف أحكم في العلاقات البشرية.
غير أن ميدان المعرفة العظيم الذي أوضحه الإغريق لأنفسهم في تلك القرون الأولى لم يكن في العلوم، إنما كان في الفلسفة. وكلية الفلسفة ذاتها إغريقية، وتعني بالحرف: «حب الحكمة» أو: «حب المعرفة»، وقد أصبح لها فيما بعد معنى فني عند الإغريق المتأخرين يقرب من معناها في أذهاننا، وهو: محاولة الإجابة عن المشكلات الكبرى التي ذكرناها من قبل. وقد تساءل الإغريق عن كل هذه المشكلات الكبرى، وأجابوا عنها جميعا، وبالرغم من أن بعض الناس قد أدخل في هذه الأسئلة والإجابات تحويرا طفيفا منذ عهد الإغريق، إلا أن المعاصرين من الفلاسفة لا يزالون يسيرون على الأرض التي تجادل فوقها الإغريق. وإذا كانت الفلسفة معرفة تراكمية، فهي ليست تراكمية كعلم الطبيعة، ولا يزال الفلاسفة يختلفون في كل شيء إلا في بعض طرائقهم في التفكير، في حين أن علماء الطبيعة متفقون في لب الموضوع. ولا يسلم الفلاسفة بطبيعة الحال - إلا إذا استثنينا المنطقيين الوضعيين في الوضع الحاضر - بأن موضوعهم تنقصه طرق اختبار صحة ما يصلون إليه من نتائج. إلا أن معاييرهم - كما يقولون - في تحديد الصدق «تختلف» عن معايير العلماء. وهم يزعمون أن موضوعهم قد تقدم كما تقدم المنطق أو الرياضة.
وبالرغم من أن أكثر ما دونه فلاسفة اليونان حتى حوالي عام 400ق.م لا يوجد إلا في صورة قصاصات، أو مقتبسات من هنا وهناك، أو روايات في الكتب التي وصلت إلينا، إلا أننا نعرف أن الإغريق قد ساروا شوطا بعيدا عندما جاء عصر أرسطو وأفلاطون، ولسنا في حاجة هنا إلا إلى أمثلة من المجال الفسيح الذي صالوا فيه.
كانت عندهم مدرسة في وقت باكر - هي مدرسة أهل أيونيا - تعتقد أن كل شيء قد تطور عن مادة أبسط، وهي المادة الأولى للدنيا، كالماء والهواء. والظاهر أن أحدهم - إنكسمندر - كان يعتقد أن الكائنات البشرية قد تطورت عن الأسماك. وكان هذا مجرد حدس؛ فإن هذا الفيلسوف الأيوني لم يسبق دارون في البحوث البيولوجية الطويلة الدقيقة، بل إن خصوم المزاج الفلسفي الإغريقي يقولون إنه مثال طيب للفيلسوف - رجل ذو أفكار ولكنه يعدم الوسيلة التي يختبر بها صحة هذه الأفكار.
وثمة إغريقي آخر - هرقليطس - كان يعتقد أن كل شيء يتدفق، وأن الصيرورة هي الحقيقة الوحيدة. يقول إن هذا النهر الذي تنظر إليه والذي تطلق عليه اسما واحدا ليس هو بعينه في أية لحظة من اللحظات. أما بارمنيدس فكان على نقيض مذهب هرقليطس تماما في التدفق؛ لأن التغير عنده وهم، والحقيقة كل واحد عظيم، كامل، لا يتجزأ.
أما ديموقريطس - وهو مادي متطرف - فكان يعتقد أن كل شيء، بما في ذلك الإنسان وعقله وروحه، يتكون من جزيئات صغيرة جدا لا ترى ولا تتجزأ، يسميها: الذرات. وأرجو أن تلحظوا هنا أن هذه نظرية فلسفية، وليست تفكيرا سابقا لعلم الطبيعة الحديث. أما فيثاغورس - الذي كان رياضيا أيضا - والذي ارتبط اسمه دائما بالنظرية التي تقول بأن المربع المنشأ على الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، أما فيثاغورس كفيلسوف فكان دائما في الجانب غير المادي، أو الروحي. كان يعتقد في الأرواح غير المادية وفي صورة من صور الميتافيزيقيا، هي تناسخ الأرواح.
وقد افتتن الإغريق بهذه القدرة التي مارسوها آخرا ، القدرة على التعليل، فتابعوها في متاهة المنطق الصرف، بل في أركان هذا المنطق وزواياه. وقد اشتهرت في هذا الباب مشكلة السلحفاة والأرنب، التي ذكرها أول الأمر زينو الذي ينتمي إلى مدرسة إليا، وباتت - بالطبع - مجرد اختبار للذهن. وهذه هي المشكلة: إذا سلمنا بأن أخيل - أسرع الرجال عدوا - يجري بسرعة تساوي عشرة أمثال سرعة السلحفاة، وأنه قد وضع السلحفاة في موضع يسبقه بعشر أقدام، فإن أخيل لن يلحق بها. لماذا؟ ذلك أن أخيل إذا تقدم عشر أقدام تقدمت السلحفاة قدما، وإذا تقدم أخيل القدم التالية، تقدمت السلحفاة عشر القدم - وهكذا إلى الأبد، سوف يفصل بينهما دائما جزء من البوصة.
وهناك أيضا لغز الكذاب الذي يعزى إلى رجل اسمه يوبليديز من مجارا. يقول أبيمنديز الكريتي: «كل أهل كريت كذابون.» ولكن أبيمنديز نفسه الذي يقول بهذا كريتي، فهو إذن كذاب؛ ومن ثم فإن قوله ليس بصحيح. ومن ثم فإن أهل كريت ليسوا بالكذابين ومن ثم ... وهكذا.
ولكن حتى واضعو الألغاز كانوا يقومون بشيء أكثر من اللعب بأداة جديدة؛ كشفوا أن العادة والإدراك العام تضلل في بعض الأحيان، وأن الأشياء ليست دائما كما تبدو، وأن التفسير المعقول أو العلمي للظواهر يناقض أحيانا الانطباعات الحسية. ونعتقد أن زينو كان يعرف أن أخيل في هذا العالم الواقعي يسبق السلحفاة في لمح البصر، ولكنه كان أيضا يعرف أن الآراء التي يكونها المرء بالإدراك العام عن الزمان والمكان والحركة لم تكن هي الكلمة النهائية في هذه الأمور. إن عالم الطبيعة الحديث يقول إن بحوث زينو في العلاقات بين المكان والزمان تؤدي إلى طريق ضيق مغلق. بيد أنها - برغم ذلك - كانت مكتشفات في مجالات مجهولة، تشير إلى العقل الإغريقي القلق المتطلع.
وكذلك لم يقم هذا النشاط الذهني في عزلة منفصلة؛ فإن فلاسفة الإغريق في تلك القرون الأولى كانوا بالتأكيد هم من نسميهم اليوم بالمثقفين، غير أنه يبدو أنهم كانوا أسرع إلى الاختلاط مع مواطنيهم في الأماكن العامة من المثقفين في العالم الحديث. وهم لم يردوا بأية حال من الأحوال كل زملائهم من المواطنين إلى الفلسفة، وسنرى في الفصل المقبل أن كثيرا من آرائهم في الدين والأخلاق سبقت رجل الشارع بمدى فسيح. ويظهر النزاع بين الآراء الجديدة والوسائل القديمة في وضوح عند أول فيلسوف نعلم عنه الشيء الكثير، وأعني به سقراط، وهو رجل ظل اسمه ما ينيف على ألفي عام رمزا للبحث الفلسفي.
كان سقراط مواطنا أثينيا، مهنته قطع الأحجار، وطبيعته طبيعة المعلم الواعظ الذي لا ينفك عن التعليم. ولا نعرفه بما كتب بنفسه فحسب - فقد كان محدثا ولم يكن كاتبا - وإنما نعرفه أساسا مما كتب اثنان من تلاميذه: أفلاطون الفيلسوف، وزنوفون المؤرخ. وقد أحبه تلاميذه. أما بقية أهل أثينا فقد ساورتهم فيه مشاعر مختلطة، وقد اعتاد أن يجر زملاءه المواطنين إلى البحث الفلسفي ويحثهم عليه، وكان يشبه نفسه بذبابة الماشية، هدفه أن يلدغ زملاءه فيخرجهم عن اقتناعهم ورضاهم بالطرق التقليدية، كما يخرجهم عن عدم المبالاة والتراخي إزاء ما في هذه الدنيا من شرور. ذلك أن سقراط كان وليد الحركة الفكرية الجديدة التي شكت في التقاليد، والمظاهر، والمسلمات، وبحثت عما يفضلها. ومهما يكن من شيء فقد كان رجل الأخلاق أقرب منه إلى الميتافيزيقي. وقد وقف متحديا عمالقة أثينا على أساس خلقي.
وآراء سقراط الأساسية عن الحق والباطل هي في صميمها آراء أكثر المذاهب الخلقية الكبرى، بما فيها «القاعدة الذهبية» و«المثل الطيبة» لم يحب الكذب، أو الغش، أو السرقة، أو القسوة في ميدان الآلهة التي نشأ هو ومواطنوه على العقيدة فيها (آلهة ما نسميه اليوم ب «الأساطير اليونانية») فقد كانت تكذب، وتغش، وتسرق بل وتفعل ما هو أسوأ من ذلك. وهذه الأفعال الخبيثة عند الإنسان، فكيف تكون طيبة في إله؟ واعتقد سقراط أن في باطنه أشياء خيرا من هذه؛ أشياء يحدثها عن ضميره، أشياء أفضل من هذه الحكايات التي تعلمها في صباه، وعليه أن يتبع ضميره، ولا يتبع التقاليد. ورأى أن «المعرفة هي الفضيلة»، وأنك إذا عرفت الطيب «فعلا»، فلن تستطيع أن تفعل الخبيث. والتقاليد القديمة ، والوسائل القديمة المتراخية لم تكن - في اعتقاده - معرفة، إنما كانت جهالة.
وقد يجذب سقراط مواطنا أثينيا في السوق العامة في أثينا، ويأخذ معه في الحديث، ويسأله في براءة: «ألست تعتقد أن زيوس يحيا حياة طيبة؟» فيجيبه الآخر: «بالتأكيد.» - وهل تعتقد أن زيوس خلف من بعده أطفالا من امرأة من عالم الفناء؟ - نعم لقد فعل، وقد نشأ محدثه على حكايات تروى عن حب زيوس لليدا، وداناي، ويوروبا، وكثيرات غيرهن، وكان يعرف كل شيء عن أبنائه الأبطال. - وهل تعتقد إذن أن زيوس قد ارتكب الخطيئة؟ (ولم يشأ المواطن المأخوذ أن يوجه إليه السؤال في هذه الصيغة، غير أن سقراط يسوقه في يسر إلى أن يقول: «نعم.» لأن زيوس على كل حال قد تزوج من الإلهة هيرا.) - وهل تعتقد أن الزنا خطيئة؟
وهنا يخضع المسكين لسقراط؛ فليس من نتائج سقراط مفر: إذا كان زيوس يرتكب الخطيئة فهو ليس طيبا، ومن ثم فهو ليس بالإله. أو إذا كان زيوس إلها، فهو طيب، ولذلك فهو لا يرتكب الزنا.
والرواية السابقة هي من غير شك تبسيط للطريقة السقراطية، ولكنها ترينا ما كان يعارض فيه الأثينيون عند سقراط؛ فقد أزعجهم، وشك في الآلهة القدامى، وبدا للأثينيين المحافظين على القديم كأنه اخترع من عنده آلهة أخرى، ولكنهم احتملوه طويلا. ولما بلغ الشيخوخة كانت أثينا في بؤرة التدهور الذي أعقب هزيمتها أمام إسبرطة، وبدسيسة سياسة لا نعرف تفصيلها، وقع سقراط فريسة للاتهام، وحوكم، لما بدا حقا لخصومه أنه إلحاد، وحرية في الكلام تنطوي على الخيانة، وإفساد الشباب. وأدانه القضاة الذين حاكموه بأغلبية يسيرة في الأصوات، وآثر أن يموت على أن ينفى من البلاد. ويعد بحق شهيدا لقضية حرية الكلام، ومن ثم فقد استشهد في سبيل الديمقراطية والتقدم. ولكن قبل أن نحكم على أولئك الذين حكموا عليه، يجب أن نسأل أنفسنا أولا: هل نحب الذباب الذي يلدغ؟
وقد طور فلاسفة الإغريق فيما بعد كل ما تعرض له من سبقوهم، وهذبوا آراءهم، وكونوا المدارس التي تشمل كل ألوان الفلسفة بتفصيلها. غير أن الخطوط العريضة قد اتضحت حتى في تلك الأيام الأولى من القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
وقد فصل الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس ذات مرة فصلا اشتهر ببساطته وقوته بين الفلاسفة أصحاب «العقول المرنة» والفلاسفة أصحاب «العقول الجامدة». وربما كان من الأوضح للقارئ أن يميز بين فلاسفة «العالم الآخر» وفلاسفة «هذا العالم». ونعني ب «هذا العالم» عالم الحواس والإدراك العام (وربما العلوم أيضا) وب «العالم الآخر» كل ما «لا» يتضح للحواس العارية والإدراك العام.
وهذا التقسيم إلى نوعين، إلى الضأن والماعز، كغيره من التقسيمات الساذجة لا تنفع في الواقع في البحث الدقيق، ولكنها تمدنا بشيء تقريبي سهل المنال. وقد أمدنا الإغريق الأوائل بمثال طيب من أمثلة الفلاسفة ذوي العقول المرنة، هو أفلاطون، كما سوف نرى. كما أمدونا بعدد آخر أقل شهرة ولكنهم أمثلة كافية للفيلسوف ذي العقل الجامد. كما أمدونا في أشهر فلاسفتهم أرسطو برجل حاول جاهدا أن يصول في المجالين، وأن يكون مرنا وجامدا في آن. ويجب أن نحلل - في إيجاز وبطريقة عامة غير فنية - الاتجاه الأساسي لكل نمط من هذه الأنماط الفلسفية الثلاثة. وأود أن أنبه القارئ مرة أخرى إلى أن كثيرين من الفلاسفة المحترفين - وربما كان أكثرهم - يشكون في صحة تقسيم جيمس الذي يميز به العقل المرن والعقل الجامد. والواقع أن المسطحات المتغيرة التي صيغ فيها مثل هذا التقسيم - كالاسمي والواقعي، أو الواقعي والمثالي (وقد تقلب معنى لفظ «الواقعي» فيما بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر)، والتجريبي والعقلي - تدل بتناوبها في التاريخ على أن الفلاسفة قد حاولوا أن يتحاشوا هذه المشكلة أو أن يتجاوزوا عنها. غير أن مشكلة التمييز بين النوعين لا تزال قائمة بالنسبة إلى الخارجين عن دائرة الفلسفة. وكثير من الأحكام على الفلاسفة المحترفين في هذا الكتاب هي من وجهة نظر الفيلسوف المحترف واقعة تحت عناوين خاطئة، كالأحكام التي سوف نصدرها - مثلا - على أفلاطون وأرسطو. والقارئ الذي يود أن يكون منصفا يجب أن يقسم بنفسه الفلاسفة. ويستطيع أن يبدأ بداية طيبة ب «جمهورية أفلاطون» و«الأخلاق عند نيقوماخوس» و«السياسة » لأرسطو.
ويمكن الحكم على أهمية أفلاطون في الفلسفة بما لاحظه ألفرد نورث هوايتهد من أن الفلسفة الغربية كلها منذ أفلاطون ليست إلا سلسلة من التعليقات على ما كتب أفلاطون، ولا تتفق هذه التعليقات بأية حال، حتى فيما قصد إليه أفلاطون. ويزداد الأمر اضطرابا لأن أفلاطون كتب محاورات يتقدم فيها المتحدثون بوجهات نظرهم، ويتفقون، ويختلفون، ويواصلون البحث عن الحقيقة طبقا للطريقة التي عرفت منذ ذلك الحين ب «الجدلية» ولا يظهر أفلاطون نفسه كمتحدث، وإن كنا قد ألفنا أن نفترض - وبخاصة في «الجمهورية» ومحاورات أفلاطون الأخرى أيام نضجه - أنه يتحدث على لسان سقراط، وحتى أولئك الذين يسلمون بأن أفلاطون لم يكن مجرد رواية، وإنما كان مفكرا أصيلا، يختلفون كثيرا في تفسيرهم؛ بعضهم يجعله جامد العقل إلى حد بعيد، وبعضهم يجعله مرن العقل تماما.
ويكفينا للوفاء بأغراضنا كمؤرخين للفكر أن نلاحظ أن مؤلفات أفلاطون كنز ثمين لا يزال الناس يغترفون منه، وأن تأثيره كان خلال العصور بوجه عام دفع الفكر الغربي نحو قطب «العالم الآخر». ولا نستطيع أن نعرض صورة مفصلة لميتافيزيقا أفلاطون؛ أي لأكثر أفكاره العامة المجردة. ولكنه يعرف في الميتافيزيقا بمذهب هام جدا، هو مذهب «الأفكار». وربما كان هذا المذهب محاولة من أفلاطون أن يتجاوز التباين الشديد بين مذهب هرقليطس في التغير ومذهب بارمنيدس في الدوام، وهي محاولة منه لأن يوفق بين «الواحد» و«المتعدد» و«الكينونة» و«الصيرورة». وهو مذهب يشق تلخيصه في لغة غير فنية. لكنك إن وجدت العرض الآتي غير مفهوم «بكليته»، فقد عرفت شيئا له قيمته، وهو أنك لم تعد لدراسة الفلسفة (وكم من رجل ذكي أو امرأة ذكية ليس عنده هذا الاستعداد). أما إن وجدت العرض «كله» غير مقبول، فقد عرفت كذلك شيئا له قيمته، وهو أنك لست مرن العقل، لست من المنتمين إلى «العالم الآخر».
يعتقد أفلاطون أن كل الأشياء التي نعرفها بخبرة الحواس، والتي نسميها، ليست سوى أشكال تقريبية ناقصة، من هذا العالم، للأشياء (أفكارا كانت أو أشكالا) المثالية، من العالم الآخر؛ أي إن جميع الخيول المعينة التي نراها صور ناقصة للحصان المثالي السماوي. ولا يمكن - بطبيعة الحال - أن يكون هناك سوى حصان واحد كامل، أبدي لا يتغير، ولا يرى أو يحس بطريقة أخرى، كما ترى أو تحس الخيول الناقصة فوق هذه الأرض. «غير أن هناك علاقة بين الحصان الناقص، أو الواقعي، والحصان الكامل، أو المثالي.» ولن يكون لدينا شيء يشبه المعرفة إلا لأن الواقعي يعكس في صورة معتمة، وفي محاولة التشبه، الشيء المثالي. ولاحظ أننا نقول: «الواقعي»، ولا نقول: «الحقيقي»؛ لأن المثاليين يرون أن «المثالي هو الحقيقي».
وترى بعض العقول أن هذه المثالية نظرة ثاقبة عميقة إلى شيء أبعد في الحقيقة من «حقيقة» اللمس، أو النظر، أو الحس السهلة، بل أبعد من «حقيقة» التفكير العلمي المنظم وهي أشق. وترى عقول أخرى أن هذه المثالية هراء لا معنى له - هراء محير. وقد بذل أفلاطون جهدا جبارا لكي يوضح مذهبه في الأفكار للمثقفين العاديين في مقالة من أشهر ما كتب الناس جميعا، وذلك في تشبيهه في «الجمهورية» بالمسجونين في الكهف.
يقول أفلاطون: تصور مجموعة من المسجونين مكبلين في الأغلال في أحد الكهوف بحيث لا يستطيعون الحركة، ظهورهم نحو الضوء الذي يتسلل خلال باب الكهف، وهم لا يرون مصدر الضوء، ولا يرون ما يجري في العالم الخارجي، وكل ما يرونه هو الانعكاس على الحائط الذي يجابهونه. ماذا يعرفون حقيقة عن ضوء الشمس والعالم الخارجي؟ لا شيء سوى الانعكاسات المعتمة الناقصة! وما يعتقد المسجونون - وهم قوم عاديون مثلي ومثلك - أنه العالم الحقيقي؛ العالم الذي نأكل فيه، ونشرب، وننام، ونجاهد، ونحب، ونعيش، ليس في الواقع إلا ظلا. ولو أن أحد المسجونين استطاع مصادفة أن يهرب ويرى العالم على حقيقته - عالم ضوء الشمس الإلهي - ثم عاد وحاول أن يقص على زملائه المسجونين شيئا مما رأى، للاقى مشقة كبرى في أن يحمل زملاءه المسجونين (الذين لا يستطيع فك أغلالهم) على أن يفقهوا ما يقول. سيكون في الواقع مثل أفلاطون رجلا يحاول أن يشرح لمواطنيه مذهبه في الأفكار.
وقد كان أفلاطون نفسه على دراية تامة بإحدى المشكلات التي عانى منها فلاسفة العالم الآخر، كان لا بد له أن يستخدم «الألفاظ»، مضافا بعضها إلى بعض في صيغة نحوية لغوية، لكي يحاول أن ينقل إلى زملائه هذه المعرفة بالحقيقة الصادقة، أو وصفها؛ لأنه كان يرى أن هذا العالم الآخر هو وحده العالم الحقيقي. ولكن الألفاظ ليست إلا ضوضاء تصدر عن حلوق بشرية، والنمو ليس إلا ترتيبا يتم في الأجهزة العصبية المركزية البشرية. واللفظ والنمو كلاهما ملوث تلويثا كاملا بما في هذه الدنيا من أصوات وأضواء وروائح. ومن المستحيل أن نستعمل لفظ «الحصان» بغير هذا التلويث. وحتى «فكرة» المخترع عن مخترعه ليست عند صاحب العقل الجامد إلا «مزيجا» من الخبرات المتقطعة عن موضوع معين من هذه الدنيا المحسوسة فعلا.
ولفظ «الله» هو عند أكثر الأفراد العاديين اللفظ الذي يمكن أن يقترب جدا من البعد عن تلويث الحواس. وبالرغم من هذا نجد أن أحدث الديانات الوحدانية العظيمة - اليهودية والمسيحية والإسلام - كان حتما عليها دائما أن تكافح ميل المؤمنين إلى تصور الإله شخصا ملتحيا حليما، وإن يكن رهيبا (والكلية العلمية التي تعبر عن هذا الميل الأنثروبومورفزم، أو نسبة صفات الإنسان إلى الله). وبالرغم من أنه من الواضح جدا أن أفلاطون سار شوطا بعيدا جدا - في لحظات على الأقل - نحو الإنكار الكامل لحقيقة عالم الحس - أو في لغة إيجابية نحو انعدام الذات الكامل الصوفي في تأمل «الواحد»، و«الكامل» و«الطيب»، فإن جانبا كاملا من نشاطه، وكتاباته، يتصل اتصالا وثيقا بمشكلات هذه الدنيا، دنيا الحواس. وفي الحق أن أفلاطون - حتى في ميتافيزيقياته - لا يقف، دائما الموقف الذي يتخيله المرء من تشبيهه المشهور - تشبيه الكهف: الذي يرى فيه أن هذا العالم الناقص - عالم الحواس - إنما هو وهم من الأوهام؛ أي إنه لا وجود له.
وبهذا نبلغ في الواقع إحدى المشكلات الكبرى التي عذبت العقل البشري - عذبته فعلا في حالة الأفراد الحساسين. ويمكن وصف هذه المشكلة في إيجاز كما يلي: إننا نحس - وبعضنا على الأقل «يعرف» - أن هناك كائنا «واحدا» كاملا لا يتغير، إلها كاملا، يجاوز تماما تلك الكائنات التافهة الناقصة التي تعيش وتموت. ولكن كيف ولماذا يسمح - بل يخلق - هذا الإله الكامل ذلك النقص؟ كيف يوجد الوثبة من «الواحد» إلى «المتعدد»، من «غير المتغير» إلى «المتغير»، من الخير إلى الشر؟ أو لماذا وضع الله الأغلال في أولئك المسجونين في الكهف من أول الأمر؟ هناك جواب منطقي ذكرناه آنفا: وهو أن هذا العالم الناقص غير حقيقي، غير موجود، وهذا جواب قلما يرد في تاريخ الفكر الغربي. وإنما الجواب في الغرب دائما هو وجه من الأوجه المختلفة لحجة واحدة أساسية، يمكن أن نوردها في هذه العبارة: أن «الواحد الكامل» لا يمكن أن يبلغ تمام الكمال وغايته إلا إذا استطاع هذا الكمال أن يواجه حالة النقص، برغم ما في ذلك من تناقض، أو أن هذا «الواحد الكامل» لا يمكن في الواقع أن يكون كاملا في عالم ثابت ثباتا كاملا. ومن ثم صدر النقص عن الكمال، وعلى هذا النقص أن يجاهد دائما نحو بلوغ الكمال. وهناك من الأدلة ما يثبت أن أفلاطون برر نفسه ميتافيزيقيا بمثل هذا الأسلوب - وليس من شك في أن الأفلاطونيين قد فعلوا ذلك.
ولكنا نستطيع عند هذه النقطة أن ننتقل من أفلاطون الميتافيزيقي إلى أفلاطون الأخلاقي والمفكر السياسي. ومهما نبالغ في تفسير ميتافيزيقيات أفلاطون التي تؤدي إلى الإنكار الكامل لحقيقة هذا العالم؛ فقد كان الرجل بالتأكيد من تلك الطائفة التي تريد أن تسلك الكائنات البشرية في هذه الدنيا مسلكا خاصا. كان مثاليا، لا بالمعنى الميتافيزيقي فحسب، وإنما بمعنى أشد منه وضوحا للأمريكيين، بالمعنى الاصطلاحي العملي، الدنيوي. وهنا أيضا سنعالج في إيجاز أفكارا بالغة التعقيد شغلت على الدوام عقول رجال الفكر خمسة وعشرين قرنا.
وكما أن المفسرين يختلفون في درجة «الصورة الميتافيزيقية للعالم الآخر» التي ينسبونها إلى أفلاطون، فهم يختلفون أيضا في الدرجة التي يرفعونه إليها كرجل صاحب نفوذ أخلاقي وسياسي - أو بعبارة معاصرة لا تضلل كثيرا رجلا دكتاتورا متسلطا من جميع الوجوه. وإذا رسمت خطا متدرجا يسير من الدفاع عن أقصى حرية للأفراد إلى الدفاع عن أقصى تسلط عليهم، كان حتما عليك أن تضع أفلاطون في نصف الخط الذي يبتعد عن الحرية. ومما له دلالته أن المدافعين عن الحرية من أمثال توماس جفرسن وه. ج. ولز، يمقتون كتابات أفلاطون السياسية مقتا شديدا. ومن العسير أن تقرأ أشهر مؤلفاته الذي يتميز به عادة أكثر من أي عمل آخر، وأعني «الجمهورية»، ولا تضعه على هذا الخط قريبا جدا من السلطة المطلقة.
نشأ أفلاطون شابا حساسا ذكيا من أسرة كريمة في أثينا بعدما هزمت هزيمة منكرة في حربها ضد إسبرطة وحلفائها. وكان الرأي الشائع بين المثقفين الأثينيين أن يعزوا هذه الهزيمة إلى عيوب الحكومة والمجتمع الأثيني الديمقراطي. ثم إن أثينا كانت - فوق ذلك - وسط سلسلة من الأزمات، الروحية والمادية، كما سوف نرى في الفصل القادم. ومن الواضح أن أفلاطون ثار ضد هذه البيئة، التي وجدها خسيسة، عنيفة، لا تطاق. وفي مقابل أثينا هذه الناقصة التي عرفها صور في «الجمهورية» دولة كاملة، وهي أفضل تجسيد دنيوي لفكرة العدالة.
وليست هذه الدولة ديمقراطية. وليس للجماهير الضخمة الكادحة - وهم إحدى طبقاتها الثلاث - صوت في إدارتها. إنهم ينتمون، وهم بمثابة المعدة من الجسد. وثمة طبقة أصغر منها، وهي طبقة المحاربين، تدرب على حياة الجندية؛ لأن العالم المثالي عند أفلاطون لا يتوافر فيه السلام العالمي. ويتصف هؤلاء المحاربون بالشجاعة، وهم بمثابة القلب، وأخيرا هناك مجموعة صغيرة جدا من ولاة الأمر، ينشئون منذ طفولتهم على أداء هذا الواجب، وهم الذين يرشدون الدولة إلى مصيرها، تتوافر لديهم الفضيلة والذكاء، وهم بمثابة الرأس. وهم يحكمون لأنهم يصلحون فعلا للحكم، لا لأنهم استطاعوا أن يقنعوا العامة الجاهلة أنهم يصلحون للحكم، وعلى رأسهم الملك الفيلسوف، وهو أصلحهم جميعا.
وليس لطبقة الولاة عند أفلاطون حق الأرستقراطية الموروث المألوف؛ فهو يدرك تمام الإدراك أن مثل هذه الأرستقراطيات مالت في الماضي نحو الانحلال من نواح عدة، وهو يتخذ في عالمه المثالي احتياطات متنوعة لتحسين سلالة الولاة من الناحية العنصرية، كما يتخذ احتياطات دقيقة لتدريبهم على جميع الفضائل التي يرى أن الطبقة الحاكمة بحاجة إليها. وربما كان أفلاطون ديمقراطيا بمعنى الديمقراطية عند نابليون - لأنه كان يعتقد في انفساح المجال أمام المواهب - ولكنها دائما تلك المواهب التي يراها هو.
وهو يقترح لولاته نوعا من الأرستقراطية الشيوعية الصارمة، تقوم إلى حد ما على ما كان يعتقد بعض الأثينيين المثقفين أنه نوع الحياة التي تحياها الطبقة الحاكمة في إسبرطة في أحسن أيامهم. كان يريد أن يلغي الأسرة بالنسبة إلى الولاة؛ لأن الأسرة عنده عش يحفز صاحبه نحو حب الذات، وهي بؤرة تتجمع فيها ضروب من الولاء التي تصرف المرء عن الدولة وعن الفضيلة. وقد أعطيت المرأة درجة كبيرة من الحرية، تدعو إلى الدهشة، ولا تتفق مع الآراء الأثينية الشائعة. وهي متساوية مع الرجل في كثير من الأمور؛ أي إن أفلاطون - بمعنى ما - من دعاة النهضة النسائية.
أما الأطفال فهم أطفال المجتمع، ينشئهم المجتمع، ويدربون على اعتبار كل من يكبرهم آباء لهم. وهم ينشئون على التربية البدنية الإسبرطية، وعلى التربية العقلية التي صورها أفلاطون بنفسه في العالم الآخر نقية إلى أبعد الحدود؛ فلا يسمح لهم مثلا بقراءة هومر، أو الشعر الغنائي؛ لأن مثل هذه القراءة تبعدهم عن الخشونة، وتمدهم بآراء مضللة عن الآلهة، وتفسدهم بوجه عام. ويلتمس أفلاطون المعاذير للشعر إلى حد ما، بل هو راغب عنه تقريبا؛ فالشعر والفن هما عنده - على الأقل - نوع من الجهد الذي يجاوز عالم الإدراك الحسي الأسفل، الذي كان يمقته مقتا شديدا. والشعراء في طريقهم نحو المثل الأعلى، ولكنهم ضلوا الطريق في مكان ما، فانصرف عنهم. وكذلك حرم أفلاطون بعض أنواع الموسيقى على صغار الولاة - الموسيقى الناعمة المسترخية. أما الموسيقى الصارمة العسكرية فيسمح لهم بها.
وكذلك كان المحاربون مجموعة منتقاة، تعلموا كثيرا من فضائل الولاة، مع استثناء الفلاسفة منهم - وهو استثناء هام. أما المنتجون، وهم الغالبية العظمى، أو الرجال الذين يمثلون المعدة، فلم يعرهم أفلاطون في الواقع اهتمامه. لهم أن يتزوجوا وأن يعيشوا الحياة العائلية التقليدية. ولهم أن يأكلوا وأن يشربوا وأن يعملوا وأن يلعبوا، كما يشاءون، ما داموا يحتفظون بسير الدولة ولا يحاولون أن يؤثروا في سياستها. وعليهم على وجه الإجمال أن يحسنوا السلوك، وأن يعرفوا مكانتهم، ولكنهم لا يستطيعون في الواقع أن يحيوا الحياة الطيبة.
لم يكن أفلاطون إذن ديمقراطيا، وهو لا يثق بذكاء الرجل المتوسط أو يحسن نيته. وهو يترك له نوعا من الحرية الحيوانية في ازدراء - وهو الحرية التي يتمتع بها الحيوان الذي أحسن استئناسه. ولكنا يجب أن نلاحظ أن أفلاطون لا يقول بالحرية بمعنى الكلمة في الإدراك العام - الطبقة العليا؛ فالولاة ينشئون في الواقع على نظام صارم. ولا يكتسب محاربوه وولاته الفضائل اللازمة لمسئولياتهم بالتجربة، بالمحاولة والخطأ، أو بالتعرض الكامل للتنوع المذهل في هذه الدنيا، فهم في وقاية تامة بنفوذ كبارهم - وبنفوذ الملك الفيلسوف أفلاطون - من التعرض لاختيار سلوك دون آخر. وهم يلقنون الرأي في صرامة، ولا يفكرون إلا في الأفكار السامية - وهو لا يكاد البتة أن يكون تفكيرا عند أصحاب العقول الجامدة.
وليس من العسير أن نعلل سحر مدينة أفلاطون الفاضلة الذي كان له أثره في عقول الناس؛ فقد كان أولا صاحب أسلوب جذاب، وكان شاعرا. وفي كتاباته - حتى عند ترجمتها - سحر قل أن يتوافر في التأليف الفلسفي، كما أن عالمه الآخر - أو إن شئت فقل تصوفه - كان دائما يجذب إليه الطبائع الحساسة، وسوف نرى كيف أمكن في يسر لكثير مما كتب أفلاطون أن يشق طريقه إلى البناء العقلي للمسيحية في عهدها المتأخر، ولكن أفلاطون لم يكن مجرد هارب من عالم الحواس؛ فقد أراد كمصلح، وكرجل أخلاقي، أن يدفع هذا العالم المسكين دفعة كبيرة نحو الهدف المثالي، وكثيرا ما انساق - في تقاليدنا الغربية - هذا الباحث عن الكمال إلى أن يحيا حياة ناقصة، يعلم فيها زملاءه الناقصين، ويحثهم بل ويهددهم، لكي يسيروا نحو الكمال الذي لم يستطيعوا أن يبلغوه. وكان على أفلاطون أن يعود إلى الكهف وأن يغمر المسجونين المغلولين بالضياء.
وربما لم يخل الكهف أيضا من الجاذبية لأفلاطون؛ فقد شعر أفلاطون - ككثير من المسيحيين الذين جاءوا بعده - بفتنة هذا العالم - ولا نعني ما فيه من إشباع ساذج لرغبة الطعام والشراب والجنس التي تحسبها العامة مغريات هذه الدنيا، بمقدار ما تعني إشباعا من درجة أرقى للعقل والبدن؛ ذلك الإشباع الذي يخلق عالم الفنان. وقد كان أفلاطون أشعر من أن يتخلى عن هذا العالم بتاتا. غير أن الشعر بالتأكيد لا يمكن إلا أن يهز ثبات «الواحد» و«الخير» و«الكمال».
وأفلاطون هو أقدم الفلاسفة الإغريق الذين وصلت إلينا منهم مؤلفات كاملة؛ إذ ليس لدينا ممن سبقه من الفلاسفة - الذين نسميهم عادة بالفلاسفة السابقين لسقراط - إلا قصاصات، وأكثرها رواية عن الباحثين المتأخرين. وقد كانت هذه المادة المتجزئة موضع درس عميق من أجيال من الباحثين، فعرفتنا على الأقل أن أكثر ضروب التفكير الفلسفي ممثل فيها. ولكن ليس لدينا شيء كامل عن أي فيلسوف قديم ثابت القدم، باحث «في هذه الدنيا» جامد العقل. وربما كان ديمقريطس الذي ذكرنا عنه فيما سبق أنه «مخترع» الذرة ماديا من جميع وجوهه، ومن ثم فهو - كأكثر الماديين - منكر لإرادة الإنسان الحرة، ولكنا في الواقع لا نملك مجموعة متماسكة مما ذهب إليه ديمقريطس.
وربما كان خير من نختار من الفلاسفة القدامى الذين بحثوا في «هذه الدنيا» هم السفسطائيين الذين ترعرعوا في القرن الخامس قبل الميلاد عندما بلغت الثقافة الإغريقية (أو الأثينية على الأصح) قمتها، وربما لم يكن السفسطائيون فلاسفة خلصا، وإنما كانوا هواة من المعلمين والمحاضرين، الذين يعلمون طلاب المعرفة - لقاء ما يتقاضون من أجر - كيف يستخدمون الأداة الجديدة التي أسميناها «التفكير المنطقي». ووقفوا موقفا معينا لا نجهله اليوم، فزعموا أن المشكلات الميتافيزيقية النهائية - مثل المشكلات التي كان يعالجها أفلاطون - لا يمكن حلها، ومن الخير ألا نتعرض لها. إنما ينبغي أن يتركز الذكاء البشري - كما يرون - في مشكلات الطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية؛ ف «الإنسان معيار كل شيء». وكان عالم الحواس عندهم حقيقيا كل الحق، ويمكن - في ظنهم - أن تكون رغبات الناس في هذه الدنيا مرشدا كافيا.
وقد آمن بعضهم - على الأقل كما يروي خصومهم - بأن مقياس الفرد هو ما يستطيع الحصول عليه، أو بعبارة أخرى القوة هي الحق، وأن العدالة هي ما يقرره الأقوى. والأداة الجديدة، أداة الفكر الناقد المنطقي، هي في اعتبارهم آلة مدهشة في أيدي الأشخاص الطموحين الأذكياء، وقد كرسوا أنفسهم لإرشاد هؤلاء الأشخاص. واستطاع تلاميذهم أن يبرروا بالحجة مسيرهم نحو النجاح على حساب العامة المتمسكة - بتقاليدها - بالأخلاق، والتي يضيق أفقها لذلك. وقد صور أرستوفان السفسطائيين، الذين كان يمقتهم، في مسرحية «السحب» وهم يعلمون شابا كيف يتحاشى دفع ما عليه من ديون. وربما كانت للسفسطائيين رسالة سيئة؛ كانوا قوما دنيويين كفلاسفة - وكغيرهم من هؤلاء - على شيء من السذاجة في دنيويتهم، كانوا أساتذة، يحاولون جاهدين ألا يكونوا محترفين، ولكنهم لم يكونوا دائما ناجحين.
وبقي أرسطو حيا في كثير من مؤلفاته. وهو ليس بالكاتب صاحب الأسلوب المصقول. ويعتقد كثير من الباحثين أن ما وصل إلينا ليس ما كتب، وإنما هو مذكرات تلاميذه عن محاضراته، وهو يعد أحيانا على نقيض أفلاطون تماما، وقد تلقى عليه العلم في شبابه. وبالرغم من أن أرسطو لاحظ الفرق بينه وبين أستاذه وقام بتحليله - وبخاصة في موضوع الشيوعية الأرستقراطية في «الجمهورية» وفي موضوع المرأة - إلا أنه ليس في الواقع بالفيلسوف ذي العقل الجامد إذا قورن بأفلاطون الفيلسوف ذي العقل المرن، وربما كان الأجدر - في الحقيقة - أن نضم أرسطو إلى طائفة أولئك الذين يجمعون، أو يؤلفون، أو يتوسطون بين المتطرفين من الجانبين: هذا العالم من ناحية، والعالم الآخر من ناحية أخرى. كان يهتم بكل أمر، وكانت لديه في الواقع غريزة الجامع، التي نسميها البحث عندما نطبقها على الأمور العقلية. وتشمل مؤلفاته شمولا موسوعيا كل مجال المعرفة في عهده، من الميتافيزيقا، إلى النظم السياسية المقارنة، حتى البيولوجيا. ولكنه كان مع ذلك الفيلسوف، الرجل الذي يحاول أن يخضع كل شيء لنظام معين، وأن يجد في الكون أغراضا خلقية يمكن أن توضع في مصاف الأمور التي لها قيمة موضوعية.
والنقطة الرئيسية في مذهبه هي في الواقع تفسير لمذهب أفلاطون في «الأفكار» بعد تعديله بعض شيء وصبغه بصبغة دنيوية. ويعد أرسطو هذه المشكلة الميتافيزيقية الرئيسية مشكلة الشكل والموضوع (أو الصورة والمادة)، وليست المادة بطبيعتها في الواقع بغير حياة، ولكنها بغير هدف، سوى نوع من الإصرار الصامت والجهاد. أما الصورة - وهي في الواقع العقل، أو الروح، وهو يؤدي عمله في هذه الدنيا، فيحول المادة إلى شيء فيه حياة وله هدف - شيء تستطيع الكائنات البشرية أن تدركه، ويمكن أن يكافح في سبيل ما يسميه أفلاطون الفكرة. الصورة خلاقة، فعالة، هادفة، أما المادة فتتنقل أو تتجمع فحسب. ويكاد المرء يحس أن أرسطو يود أن يقول إن الصورة «شيء طيب»، وإن المادة «شيء خبيث». وهو يقول فعلا إن الذكر صورة، وإن الأنثى مادة.
ومن الواضح أن «صورته» تقترب من «أفكار» أفلاطون، وأن «مادته» تقترب من عالم الانطباعات الحسية الذي يبدو أن أفلاطون كثيرا ما يوشك أن يعده غير حقيقي. غير أن أرسطو لا يشن الحرب قط على المادة، فهو يقبلها، وهو كالعالم المغرم بالتصنيف، والذي يفتنه تنوع المادة. وفي الحق أنه عندما يتعرض لتعريف أوضح للحياة الطيبة يدنو تدريجا من مكانة لا تبتعد كثيرا عن أفلاطون، أو عن بوذا، أو أي متصوف طيب. ونلمس ذلك في مذهبه المشهور الذي يعرف ب «البصيرة» أو التأمل الذي لا ينقطع في الله وهو المحرك الذي لا يتحرك. أو السبب النهائي. و«بصيرة» أرسطو هي من غير شك حالة عقلية تنتمي إلى حد كبير إلى العالم الآخر - وهي أيضا حالة بدنية؛ لأن الحكيم لا يزال له جسم حتى في هذا الوجد الصوفي. وتشبه كتب الدراسة هذه الحالة عادة ب «النرفانا» عند بوذا. غير أن أرسطو يعتقد في جلاء أنه لا يستطيع الاقتراب من مرحلة «البصيرة» إلا قلة نادرة من عقلاء الرجال. والجانب الأكبر مما كتب أرسطو عن العلاقات الإنسانية يحث على طريق وسط إغريقي إلى درجة قصوى في كل أمر من الأمور، بما في ذلك الاختيار بين مطالب الجسد ومطالب الروح. وسوف نرى بعد قليل أن وصايا أرسطو الخلقية للرجل المتوسط من أبناء الطبقة العليا في اليونان يمكن تلخيصها أحسن تلخيص في الحكمة العامة التي تقول «بعدم الإفراط في أي شيء»، وهي من الخصائص المميزة للآراء المقبولة عامة - وربما أيضا للسلوك - في ذلك الحين. وهي وصايا إغريقية بمعنى قولنا إلى حد كبير إن حكم بنيامين فرانكلين الخلقية أمريكية.
وقد عاشت آراء أرسطو في السببية حياة فلسفية طويلة - وهي تتفق تقريبا مع آرائه عن الصورة والمادة - لأنها لا تزال حية في التوماسية الجديدة الكاثوليكية، ويجد أرسطو لكل أثر أربعة أسباب: مادي، وكفء، وصوري، ونهائي. السبب «المادي» هو المادة أو أجزاء التكوين - كاللحم والخضر والماء، والمدة اللازمة لسبك الطبخ. والسبب «الكفء» هو «الطباخ» أو «العامل»، والسبب «الصورة» هو «الطبيعة»، أو «الصفة»، أو «الصورة» بالمعنى الأفلاطوني الأرسطي المعروف؛ الذي يمكن أن يقال فيه إن هناك «مثالا» أو فكرة مثالية للطبخة. أما السبب «النهائي» فهو الغرض من الطبخ - أن يكون مغذيا، مشبعا للحواس، منبها للشهية. وإنما هذه أمثلة محسوسة غير كريمة، ربما لا يوافق عليها أرسطو. وهي توحي بمشكلات كثيرة: فهل «الطباخ» مثلا هو السبب «الكفء» الوحيد؟ أين البستاني الذي زرع الخضر؟ وكيف تستطيع أن توقف سلسلة من الأسباب والمسببات؟ وهلم جرا.
ويضيف أرسطو إلى هذه الأسباب العادية الأربعة، ما يمكن أن يكون خامسا - الله، السبب الأول، وهو غير مسبب، دفع السكون إلى مسيره المحير. وهذا هو الله الذي التقينا به من قبل عندما ذكرنا أنه موضوع التأمل في «البصيرة». وقد كانت لهذا الإله حياة طويلة باعتباره بداية ضرورية لسلسلة من الأسباب والمسببات التي لولاها لما كانت بداية، ولكنه لم يكن قط إلها معبودا بحرارة شديدة.
وأرسطو كذلك رجل يدعو إلى التوفيق، ويحاول أن يقارب بين الطرفين المتناقضين، في التفكير السياسي وفي كثير من غيره. ومما يميزه حقا أنه لم يكتب «جمهورية» عن دولة مثالية، وإنما قام بدراسات مقارنة دقيقة جدا عن العمل الواقعي للنظم الحكومية في مختلف المدن الحكومية الإغريقية، وهي دراسات من النوع الذي يألفه طلاب العلوم السياسية ونظم الحكم في أمريكا. ولم تصل إلينا هذه الدراسات، فيما خلا «دستور أثينا»، غير أن لدينا عنها آراء عامة مبنية عليها في كتابه «السياسة»، وهو لا يزال كتابا يدرس بعناية فائقة.
وقد قدم إلينا أرسطو عبارة من أشهر العبارات في الكتابات السياسية، وتلك هي «أن الإنسان حيوان سياسي أو اجتماعي»، وكثير من السياسة ليس إلا توسعا في هذه العبارة، أو جهدا لعلم اجتماعي في السياسة هو أيضا مجموعة من القواعد الخلقية؛ فأرسطو، والرجل الأثيني المتعلم التقليدي - فيما نحسب - في التاريخ العظيم، يرى أن مثل هذه العبارة لهربرت سبنسر: «الفرد والدولة» لا معنى لها؛ فالفرد عند أرسطو جزء لا يتجزأ من الجماعة التي نسميها الدولة، وليس بوسعه أن يحيا حياة طيبة إلا في داخل الدولة. غير أن أرسطو لم يؤمن بالحكومة الشاملة، أو بحكم الاستبداد؛ فليس الفرد عنده مجرد واحد من رعية خاضعة لدولة تملك كل القوى؛ فالمواطن في الدولة الصحيحة له ما ألفنا أن نسميه في النظريات السياسية حقوقا. وليست الدولة وحدة، وإنما هي مجموعة أفراد؛ مجموعة فيها صراع خلقي، صراع يتضمن حقوق الأفراد.
ولم يكن أرسطو من دعاة المساواة؛ فهو يعتقد أن الرق طبيعي، وأن بعض الأفراد قد ولدوا ليكونوا أرقاء. وقد سبق بفكره، إلى حد ما، ما أمسى فيما بعد النظرية العضوية في الدولة - بمعنى أن كل فرد يولد لمكانة ما، ولوضع ما، وأن الدولة الطيبة هي تلك التي يكون لكل فرد فيها مكانته التي أرادتها له الطبيعة.
ويشغل أرسطو جانبا كبيرا من كتابه بتصنيف أنواع الحكومات القائمة ونقدها. وتحتوي «جمهورية» أفلاطون تصنيفا للحكومات يتخذه أرسطو قاعدة له. والحقيقة التي تهمنا هي أن من هذا التصنيف اشتق كثير من مصطلحات النظريات السياسية، وكثير أيضا من موضوعات الجدل السياسية، التي لا تزال قائمة حتى اليوم. يميز أرسطو بين ستة أنواع من الحكومات؛ ثلاثة منها مرغوب فيها، وثلاثة أخرى انتكاس لها. ولكل نوع من الأنواع الثلاثة الطيبة فضائله، ويمكن لكل نوع منها في الأحوال التي تلائمه أن يكون نوعا طيبا من الحكم، ويمكن لكل نوع منها أن ينحط إلى نوع سيئ جدا من الحكم.
والأنماط الستة هي: «الملكية»، وهي حكم رجل واحد متفوق، وانتكاسها «الاستبداد»، الذي يتحكم فيه الحاكم المفرد - الذي ليس في الواقع متفوقا في فضائله - بسبب امتلاكه القوة. و«الأرستقراطية»، وهي حكم الأقلية، ولكنها الأقلية الأحكم والأفضل، وانتكاسها «الأوليجاركية»، وهي أيضا حكم الأقلية، ولكنها ليست الأقلية الحكيمة، وإنما هي الأقلية صاحبة القوة، التي قد تعتمد قوتها على الثراء، أو السلاح، أو على قدرتها على تناول الآخرين. وهناك «البوليتيا» (أو الجمهورية الدستورية، وليست لهذه الكلمة ترجمة جيدة)، وهي دولة تقوم على حكم الشعب، والمساواة التقريبية، ولكنها دولة كل المواطنين فيها فضلاء. و«الديمقراطية» هي انتكاس البوليتيا، التي تحكم فيها الكثرة، وهم العامة، غير المدربة، غير الفاضلة.
ويدرس أرسطو الطريقة التي ينقل فيها الشكل من هذه الأشكال إلى غيره، وهو بعبارة أخرى لا يقف عند حد الوصف الثابت لأشكال معينة من الحكم، وإنما يحاول ديناميكية الحكم. ثم إن أرسطو - كما لاحظنا عند الإشارة إلى اعترافه بإمكان وجود أشكال مختلفة من الحكم - يهتم بإبراز العلاقات بين المثل والظروف الفعلية. ليس هناك شكل واحد كامل، وإنما هناك أشكال تطبق - تطبيقا حسنا أو سيئا - على الحدود التي ترسمها الظروف. ومن ثم فإن أرسطو هو - إلى حد ما - ما أسميناه فيما بعد بالنسبي، وكثير من هذا الجانب من تفكيره يلائم صاحب العقل الجامد، العالم، الرجل الذي يهمه أن يعرف الحدود الأرضية للجهد البشري في السياسة.
غير أن أرسطو ليس البتة جامدا (دنيويا) بالمعنى الحديث؛ فما أبعده مثلا عن أن يكون مكيافيليا، وما يسميه الديمقراطية يعده انتكاسا للبوليتيا الهادئة المتمسكة بالقانون، التي يتساوى فيها الناس ظاهرا، دون مغالاة في المساواة. ولاحظ أن تمييزه بين الأشكال الطيبة والأشكال السيئة من الحكم هو أن للأولى «فضيلة» وفيها «خير»، وأن الثانية ليس لها إلا «القوة» و«الثراء» و«الأعداد»، وما إلى ذلك. ولم يكن أرسطو واقعيا بالتأكيد بالمعنى التقليدي الحديث للكلمة، ويكاد يحس إحساسا قويا، كما أحس أفلاطون، أن مجرد النجاح فوق هذه الأرض لا يكفي، حتى في السياسة؛ فليس النجاح الدنيوي إلا بداية الإخفاق، ما لم يكن نجاحا خلقيا، نجاحا يتفق وخطة هذا الكون، أو الغرض منه.
وقد انصرف أرسطو - كما انصرف أفلاطون من قبل - عن العالم الجاف؛ عالم المدن الحكومية المتصارعة، عالم النضال الطبقي، عالم النجاح والإخفاق، إلى عالم آخر أفضل، وأنقى، وأكثر استقرارا. وهو ليس بالعالم غير الدنيوي الصارم كعالم الملك الفيلسوف عند أفلاطون، بل إن أرسطو في الواقع قد صدم صدمة قوية من رأي أفلاطون في الاستغناء عن الأسرة، ومساواة المرأة بالرجل، إنما عالمه المثالي يبتعد قليلا عن عالمنا - وعالمه - الواقعي. غير أن تلك الفجوة الصغيرة التي تفصل بيننا وبين عالم أفضل تبدو للكثيرين شديدة العمق، ولم ينجح أرسطو قط في تبيان الطريقة التي نعبر بها هذه الفجوة.
ومن الواضح أن أرسطو لم يكن ماديا، بل إن فكرته عن الهدف (أو التليولوجي)، فكرته عن الحياة هنا فوق هذه الأرض من أنها جهاد نحو الأفضل، أو نضال الصورة في أن تتحكم في المادة - هذه الفكرة جذبت أجيالا من المفكرين، واستخدمتها المسيحية دون تردد. كما أن مصطلحاته لم تمح قط من مجال الفلسفة. ويبدو لمؤسسي العلم الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر، الذين تزعموا الثورة على سلطانه، أنه يستخدم منطقا استنباطيا قاحلا، لا يترك مجالا للتجربة المثمرة والاستقراء. بيد أنه لم يفتقر إلى الإتباع، وقد يعيش طويلا باعتباره وسيطا عظيما بين الباحثين القلقين عن المثالي - أو الحقيقي.
الثقافة الكلاسيكية
من أشق الأعمال في تاريخ الفكر الوصف الواضح لذلك الشيء المعقد الذي نسميه - على تنوع الأسماء - ثقافة مكان معين ووقت معين، أو روح العصر، أو - إذا استخدمنا اصطلاحا ألمانيا حديثا - «زيتجيست»
Zeitgeist
وهناك فعلا مثل هذا الشيء، هناك انطباع شامل يتكون من عدد ضخم من التفصيلات التي يلائم بعضها بعضا بشكل ما، ويمكن توضيح ذلك - على سبيل المثال - في تعبير سهل الإدراك، بثقافة أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي، أو ما يعنيه أكثر الأمريكان عندما يتحدثون عن الأساليب «الاستعمارية». إن أزياء الرجال والسيدات، وفن العمارة كما تتمثل في وليامز برج بعد استردادها، والأثاث، وموسيقى موزار وهايدن، وصور جينزبره وكوبلي - كل ذلك، وكثير غير ذلك - ليس في الزمان والمكان إلا الثقافة الغربية في القرن الثامن عشر.
ولقد أخرج الإغريق، وبخاصة إغريق أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، ثقافة من هذه الثقافات، أو كلا من هذه الكليات التي تتكون من أجزاء عدة، وهي ثقافة ما فتئت تفتن المتعلمين من النساء والرجال، ولقد رأينا من قبل أن الإغريق في الفكر الفلسفي الشكلي وضعوا الأسس التي بنى عليها فلاسفة الغرب، ولم يتجاوزوها قط. غير أن ثقافة الإغريق العظمى كانت تفوق كثيرا الفلسفة الشكلية؛ فقد كانت - على الأقل للأقلية المثقفة - أسلوبا من أساليب العيش.
وإنا لنحكم على هذه الثقافة العظيمة بآثارها - من عمارة، إلى نحت، إلى فنون صغرى، إلى أدب - التي بقيت أكثر من ألفي عام بالرغم مما نالها من إهمال ولحق بها من حروب، ومن أسباب البلى والاختلال من جميع الضروب. ومن الجائز أن أسباب البلى هذه قد عملت على أن تحفظ لنا الأفضل دون الأوسط. ومن ثم فإن ما وصل إلينا من ثقافة الإغريق العظمى يفضل ما يمكن أن يكون مثالا صادقا لها. وربما لم يصل إلينا إلا أفضل الفن الإغريقي، ولم يصل إلينا أسوءه أو المتوسط منه. وربما كان الأمر شبيها بما قد يحدث في عام 4000 بعد الميلاد عندما لا يجد الأثريون إلا تسجيلات عن بعض أعمال باخ وموزار وبراهمز، ولا يجدون أثرا للموسيقى الخفيفة، أو الجاز، أو الأغاني الفردية الخفيفة. إنهم عندئذ لا يستطيعون الحكم على موسيقانا الغربية الحديثة. ومهما يكن من أمر فلا بد من التساؤل عما إذا كان من الممكن أن نحكم على مستويات المعيشة الأثينية بمستويات ما وصل إلينا من فن أثيني.
وسنحاول الإجابة عن هذا السؤال في الفصل القادم. وإنما ينبغي هنا أن نلاحظ أن تيارا واضحا جدا في التاريخ الثقافي في مجتمعنا الغربي يتبين في خلق أعمال فنية وفلسفية وعلمية كبرى على أيدي قلة صغيرة جدا من عباقرة الرجال والنساء الذين يعملون ويعيشون عادة وسط مجموعة مثقفة صغيرة نسبيا. وهناك - بالرغم من القطيعة الجزئية خلال العصور المظلمة - سلسلة متصلة الحلقات من هذا النوع من الثقافة من عهد اليونان حتى الوقت الحاضر. ويمكننا في صراحة أن نسمي هذه السلسلة: سلسلة الثقافة الرفيعة، وليست هي السلسلة الوحيدة التي تربطنا بالماضي، كما أنها ليست المادة الوحيدة لتاريخ الفكر، ولكنها لب الموضوع الذي نحن بصدده.
ولكن الشكوك التي تتعلق بالصفة المميزة لما نعرف عن ثقافة الإغريق العظمى يمكن أن توجه توجيها أفضل من ربطها بمسألة العلاقة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الوضيعة. يمكننا أن نضع السؤال بطريقة مباشرة فنقول: ألم «يمجد» في الواقع الإنسانيون والمربون والكلاسيكيون في أوروبا وأمريكا منذ عهد النهضة أثينا لعهد بركليز أكثر مما ينبغي؟ ألم يأخذوا قليلا من المباني، وقليلا من التماثيل، وقليلا من القصائد، وقليلا من الأبطال، وينشئوا من كل ذلك صورة طيبة عن الماضي؟ وربما بالغ المعجبون في عصرنا الحديث باليونان القديمة في فضائل معشوقهم، كما يفعل العشاق دائما. ولكنك لست ملزما بالأخذ بما يرون؛ فإن التصوير الشمسي والصحافة تمكن كل امرئ من أن يعرف شيئا بطريق يكاد يكون مباشرا عن هذه اليونان التي افتتن بها رجال الغرب أمدا طويلا، وليست الأحكام العامة التالية إلا قليلا من معالم الطريق التي تسترشد بها لكي تفهم بنفسك الإغريق.
وأول ما نلاحظه هو أن الثقافة الإغريقية في تقاليدنا الكلاسيكية هي ثقافة دنيوية إلى حد كبير، وكأن هؤلاء الفنانين، وكتاب المسرحية، والصناع، والرياضيين، لم يروا لأول وهلة حياة أخرى تستحق أن يهتم بها المرء أو يأمل فيها. ليس هناك نعيم أو جحيم، وربما ليس هنالك البتة شيء بعد الموت، أو لعل هناك على الأكثر نوعا من المظهر الذي يسبق الحياة في الجنة؛ نوعا لا يشبه هذه الأرض في خيرها أو شرها، أو في متعتها وإثارتها. وسوف نرى أن مشكلات الحياة الأخرى كانت مشكلات واقعية حقا لكثيرين جدا من الإغريق، حتى في عصر بركليز، ولكن قليلا من هذه المشاعر التي أحستها عامة الناس ما وجد سبيله إلى الثقافة العظمى. نعم إن أنتيجون قد أصرت على أن تؤدي شعائر الجناز على جثمان أخيها، وهي تقول فعلا: «إن ولائي للموتى أعمق من ولائي للأحياء؛ ففي عالمهم سوف تكون سكناي إلى الأبد.» ولكن النقطة الرئيسية في المسرحية بأسرها هي مأساة أنتيجون في هذه الدنيا، «وليست مأساة روح أخيها».
هذه الحياة إذن في الثقافة العظمى هي المقصودة. وفي هذه الحياة ينبغي أن نتطلع إلى إشباع حاجاتنا البشرية الطبيعية - وهي بطبيعة الحال رغبات طبيعية بشرية. ومن الكلمة اليونانية للطبيعة «فيزيا» نشتق كلمتنا «فيزائي» - وهي كلمة ملائمة. وقد كانت الملذات الفيزائية (البدنية) والشهوات الفيزائية عند الإغريق في عهد الثقافة العظمى طبيعية جدا، وهي لذلك محترمة بطبيعة الحال؛ فالطعام، والشراب، وممارسة الجد، والنوم، واللعب، والرقص، والاستماع إلى الموسيقى، وعزف الموسيقى، وكتابة الشعر، واللغط، والتفلسف - كل ذلك كان عند الإغريق مما يستحق الأداء، ومما يستحق الإتقان.
وهذه صفة هامة: أن يستحق الأداء الإتقان. وكان الإغريق يميزون في جميع نواحي نشاطهم الفرق بين الطيب والخبيث، والأفضل والأسوأ. ولم يفترضوا أن هذه الحاجات البشرية الطبيعية يمكن إشباعها بسهولة وبطريقة آلية، وذلك بأن يسمح لكل فرد أن يؤدي دائما ما يجده أيسر من غيره. لم يعتقدوا ما يشبه فتح الصنبور وإتاحة الفرصة لرغباتهم أن تتدفق، بل على العكس من ذلك كانوا يعتقدون في التربية، والتدريب، وفي الحد من رغباتهم. وحكمتهم الشعبية (وهي دائما مصدر مفيد لمؤرخ الفكر) تقول: «لا إسراف.» وهي بداية طيبة لكي نفهم المبدأ الإغريقي العظيم الذي يقول بالحد. ولكن الرأي الكلاسيكي يرد فيما كتب أرسطو، وبخاصة في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس».
يقول أرسطو إن أسلوب العيش الصحيح هو أن نحقق مبدأ الاعتدال بين الكثرة والقلة. فأنت تحب الطعام - ولا بأس من ذلك؛ فالطبيعة قد أرادت لك ذلك. ولكنك إن أفرطت في الطعام سمنت، وأصبحت مدعاة للضحك، ولم تعد فاضلا، وهب أنك تفكر كثيرا في ازدياد وزنك حتى إنك لتفقد متعة الطعام، أو أنك ألقيت بالا للفيتامينات والحديد وغير ذلك من آراء فيما يختص بالتغذية (والإغريق بطبيعة الحال لم يعرفوا عن الفيتامينات شيئا)، أو أنك تحولت إلى نباتي عن قصد، فإن الإغريق في كل هذه الحالات يقولون إنك تهلك نفسك من الجوع، وتحرم نفسك بحماقتك من الطيبات، وإنك تسير بنفسك نحو الهزال الممقوت، وإنك في الواقع مذنب ترتكب رذيلة الإمساك (لاحظ جيدا أن الإمساك قد أصبح في بعض النظم الأخلاقية الشكلية في المسيحية فضيلة لا رذيلة، وأن التخمة باتت إحدى الخطايا البسيطة في المسيحية). وفيما بين التخمة والإمساك تقع فضيلة الطعام الطيب عند الإغريق.
وتستطيع أن تضرب بنفسك الأمثال المحسوسة لهذه القاعدة الخلفية الإغريقية. ولذا فإن الامتناع عن الاتصال الجنسي، والعزوبة، أمر غير طبيعي عند الإغريق، أمر فيه مبالغة، ومن ثم فهو غير فاضل. كما أن الفوضى في الحياة الجنسية، وتسلط الشهوة والاهتمام المفرط بالاتصال الجنسي، هي كذلك أمر سيئ؛ ولذا فهو غير فاضل. والوسط الذهبي هنا، وفي غير ذلك من الشهوات، يقتضي السيطرة على النفس، والاتزان، والاعتدال، وكمثال أخير لذلك نقول إن الشجاعة فضيلة من غير شك، وهي فضيلة طيبة للرجولة. والجبن - وهو الافتقار إلى الشجاعة - رذيلة شديدة الوضوح. ولكن المبالغة في الشجاعة هي كذلك رذيلة، نسميها عادة: التهور، أو الاندفاع، وهي ليست صفة الرجل الشجاع، إنما هي صفة الرجل المتظاهر بالشجاعة.
وهذا المثل الأخير يمدنا بسر الإحساس الذي كان ينتاب الإغريق القدامى في تلك المشكلة الأبدية للبشرية - مشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي هو جزء منه. إن المتظاهر يفكر دائما في نفسه وفي الطريق التي تسوقه إلى مكانه تحت الأضواء، وهذه المبالغة في الاهتمام بالنفس كان الإغريق يمجونها؛ بل إنهم كانوا يحطون من شأن الفرد الذي يسعى أن يشق طريقه بغض النظر عن زملائه في المدينة الحكومية، حتى إن اللفظ الذي كانوا يعبرون به عن «الخاص» هو نفس اللفظ الذي نعبر به نحن اليوم عن «الأبله».
وما كان للأثيني في العهد العظيم أن يدرك ما يعنيه كثير من الأمريكان من قولهم: «الفردية المستوحشة». وقد كانوا بالتأكيد يمجون مثل هذه الفردية. وكانت الثقافة الإغريقية العظمى - من ناحية أخرى - تقوم بالفعل على المنافسة بين الأفراد؛ فكان الرياضيون منهم يتبارون في الألعاب الأولمبية، وفي كثير غير ذلك. وشعراؤهم كذلك كانوا يتبارون في التشرف بأداء مآسيهم رسميا، وكانوا يمنحون جوائز خاصة - للأول والثاني والثالث. وكان الفرد الذي يقوم بعمل يستحق الأداء في نظر الإغريق، والذي يتقن هذا العمل إلى درجة قصوى، يشار إليه بالبنان ويلقى التكريم باعتباره فردا. ويتضح مما نعرف عن الحياة الأثينية في العصر العظيم أن الشخصية، والصفات الذاتية، بل ربما كذلك درجة يسيرة من الشذوذ، كانت مما ينال التقدير ويظفر بالتشجيع.
وهكذا نرى في مجال آخر تلك الصفة التي تميز بها الإغريق، وهي محاولة بلوغ الوسط بين الإفراط والتفريط؛ فهم لم يريدوا مجتمعا من الأفراد المتشابهين ولا مجتمعا من الأفراد المختلفين، لم يريدوا أن يسلك الأفراد في المجتمع سلوك النمل أو النحل، في نظام، وبغير تفكير، ككثير من الأفراد الآليين - وإن يكن خصوم إسبرطة ظنوا أن الإسبرطيين قد اقتربوا من هذا الضرب من السلوك. وهم كذلك لم يريدوا أن يسلك الأفراد في المجتمع سلوك القطط، كل لنفسه، وكل يتفاخر بطريقته الخاصة، وكل على استعداد دائما لأن ينقض على فريسته - وإن يكن خصوم أثينا ظنوا أن الأثينيين قد اقتربوا من هذا الضرب من السلوك. وإنما أرادوا أن يكون الرجال مواطنين وأفرادا في وقت واحد، وأن يخضعوا للقوانين العامة والعادات العامة، على ألا يعيشوا عيشة رتيبة تتحكم فيها العادة، وأن يكونوا كفريق اللاعبين الطيب، على أن يلمع كل منهم كنجم من النجوم، ومما لا شك فيه أنهم لم يبلغوا في أدائهم في كل حالة من الحالات المثل الذي ضربوه لأنفسهم.
وإنما بلغوا هذا المثل في أحسن الحالات فيما وصل إلينا من فنونهم، أو لعلهم فعلوا ذلك في شكل واضح جدا لنا بعد ألفي عام من عهدهم. وقد حاول النقاد قرونا عدة أن يصفوا بالألفاظ ما حققه الإغريق كفنانين، فتحدثوا عن القياس، وعن الاتزان، والتحفظ، والانسجام، وعن السكون، والكرامة. وهم يستعملون صفات مثل: الهادئ، والمكتفي بذاته ، والنظامي، والمتعلم، ولكن أكثرهم - برغم ذلك - يصرون أيضا أن ذلك ليس معناه أن يكون الفن شكليا، لا حياة فيه، ولا عاطفة، وإنما معناه أن يكون عميقا، متحركا، نشطا. ونستطيع أن نقول في كلية موجزة إن النقاد يعتقدون أن قلة من نوابغ الإغريق على الأقل قد حققوا شيئا يكاد يبلغ حد الكمال في الفن - وذلك هو الوسط الذهبي، وهو ليس مجرد التوسط، وليس مجرد التوفيق بين الطرفين، وإنما شيء - كالحياة ذاتها - يتجاوز «الإفراط»، كما يتجاوز «التفريط».
وإذا أنت نظرت إلى أمثلة محسوسة من هذا الفن - ويحسن أن يكون ذلك بالموازنة مع أشكال الفن الأخرى غير الإغريقية - استطعت أن تحكم بنفسك، وبقي الإغريقي - بطبيعة الحال - مرموقا منذ الحين، وأصبح يعرف في مجتمعنا بالكلاسيكي. وقد ألف النقاد أن يوازنوا بين هذا الفن الإغريقي وفن شعوب الشمال الذي جاء بعد ذلك، والذي يسمونه الرومانتيكي، وسوف نعود إلى هذه الثنائية في الكلاسيكي الرومانتيكي عندما نبلغ العصر الحديث، ويكفينا هنا أن نلاحظ أن الأعمال الفنية المحسوسة تختلف اختلافا بينا، مهما تحاول الكتب المدرسية أن تجعل هذا الخلاف من الأمور المجردة التي لا تمت إلى الواقع بصلة.
انظر أولا إلى معبد أثيني، وليكن البارثينون في أثينا، كما هو اليوم في أطلاله، وكما صوره الأثريون (في النماذج)، ثم انظر إلى كاتدرائية غوطية، ويحسن أن تكون فرنسية، ككاتدرائية شارتر أو أميان. ثم انظر إلى مركز روكفلر أو مبنى الأمباير ستيت في نيويورك، أو إلى أي بناء أمريكي شامخ. ثم فكر في عبارات النقاد التي أوردناها. إنك سوف تجد لها مغزى. المعبد الإغريقي منته، في حين أن الكاتدرائية الغوطية وناطحة السحاب الأمريكية تبدوان كأنه قد تحتم عليهما أن تواصلا الصعود. وكأن المعبد الإغريقي - بالرغم من أعمدته الرأسية - يؤكد الأفقي، في حين أن الأبنية الغوطية والأمريكية تؤكد الرأسي قطعا. الأول يبدو كأنه راض ومرتبط بالأرض، وتبدو الأخرى طموحة منطلقة إلى السماء. الأول كالصندوق، والأخرى كالشجرة - أو الغابة.
ولا يفتقر هذا الفارق - بطبيعة الحال - إلى تفسير معقول أو طبيعي؛ أي إلى تفسير يحاول أن يلتمس السبب في المفارقة في شيء هو في النهاية خارج عن إرادة الإنسان (أو مثله، أو آرائه، أو أهدافه، أو آماله). ويعتقد بعضهم أن خطوط المعبد الإغريقي يحددها مناخ البحر المتوسط الصافي، وأن خطوط المعبد الغوطي يحددها جو الشمال كثير الضباب، وهناك نظرية تقول بأن البنائين الإغريق إنما نقلوا إلى الحجر خطوط المباني الخشبية البسيطة للإغريق القدامى. وهناك نظرية تقول بأن الكاتدرائية الغوطية تضرب في الهواء لأن المدينة في العصور الوسطى كانت محدودة المساحة مسورة بحيث لم تسمح لها بمساحة أفقية. ومن هذه النظرية اشتقت النظرية الأخرى التي تفسر ناطحة السحاب الأمريكية بالمساحة المحدودة في جزيرة مانهاتن. وهناك نظرية أخرى تقول بأن شكل العبادة (سواء أكان طقوسيا أم كنائسيا) في الديانة الأولمبية الإغريقية وفي المسيحية الغربية هو الذي حدد أشكال المباني التي تقام فيها، وهناك نظريات كثيرة أخرى.
وأكثرها له معنى، ويعاوننا على الإدراك في النهاية. غير أنه ليست هناك واحدة منها تفسر كل شيء، وبعضها - إذا أخذناه تفسيرا وحيدا لا يتفق وجميع الحقائق التي نعرفها. من ذلك أن المساحة التي تشملها مدينة إغريقية مسورة (الأكروبوليس) كانت على الأقل في ضيق المساحة التي تشملها مدينة العصور الوسطى. ومع ذلك فلم يشمخ المعبد الإغريقي إلى العلى، ولو سلمنا بأن البنائين الإغريق والمهندسين المعماريين التزموا التقاليد وكانوا ضعافا في الهندسة، فإنه مما لا جدال فيه أنهم لو تطلعوا إلى الضخامة أو الشموخ لما افتقروا إلى «المهارة الفنية»، وإن هم افتقروا إلى المصادر الاقتصادية، التي تمكنهم من تنفيذها في صورة مبسطة. وقد استطاع المصريون من قبلهم أن يحققوا الضخامة في الأهرام، بوسيلة سهلة، وهي وضع الحجر فوق الحجر.
ولا مناص لنا من الحكم بأن الإغريق «أرادوا» ما بنوا، كما أن الأمريكان «أرادوا» ناطحات السحاب؛ لأننا شيدناها فوق البراري الفسيحة، كما شيدناها فوق جزيرة مانهاتن المحدودة. إن الإغريق في عهد الثقافة العظمى لم يريدوا الضخم أو الضارب إلى السماء. ومهما تكن النظريات الطبيعية أو العقلية نافعة في تفسير بداية فن من الفنون ، فيجب ألا ننسى - إذا أردنا أن نفهم تطور الفن كله - أن الآراء التي يعتنقها الناس بشأن الجميل، والنافع، المرغوب فيه، تعاون الفن على أن يبقى حيا ناميا. وعند مرحلة معينة تتجسد هذه الأفكار، بل ويصيبها تحوير طفيف. والإغريق في عهد بركليز بنوا ما بنوا - إلى حد ما - لأنهم فكروا وأحسوا بطرق معينة، ولأنهم رغبوا في أشياء بعينها.
وإنا لنحس هذه التجربة ذاتها في فن النحت الإغريقي؛ انظر إلى الآلهة والإلاهات عند مدخل البارثينون، ثم انظر إلى القديسين عند الجبهة الغربية لكاتدرائية شارتر. هنا أيضا تجد الإغريق مطمئنين، ممتلئين، أقوياء البنية، غير جزعين، في حين أن المسيحيين في العصر الوسيط كانوا هزيلين إلى حد ما، طموحين، يفيضون بإحساس رقيق غير دنيوي، أو بالزهد، أو بالتقشف، ويمكن هنا أن يعبر عما نقول بصورة أوضح، عمل إغريقي تم فيما بعد، وقد جاوز الثقافة العظمى التي نحاول الآن أن نتفهمها. انظر إلى تمثال لاوكون وأبنائه الذين تهاجمهم الأفاعي، هذا التمثال الذي كثيرا ما ننسخ صورا منه، إنه عمل من أعمال القرن الذي جاء بعد الثقافة العظمى، وهو يدعو إلى الإعجاب. إن هذا العمل يخلو من الوقار، وهو لا يمت إلى الوسط الذهبي بصلة. إن لاوكون وأبناءه يعانون بشكل واضح، أو بعبارة أرسطو، بشكل غير كريم. وفي هذا تطرف - وربما كان يصدق على الحياة، ولكنه لا يصدق على مثل الثقافة العظمى.
أو خذ أمثلة من الأدب، واذكر دائما أن اليونانية لا بد أن تفقد شيئا إذا ما ترجمت. وإليك سطرين لسيمونيدس نقشا على النصب التذكاري الذي أقيم لثلاثمائة جندي إسبرطي (لاكيديمونى) آثروا الموت في ترموبولي على أن يستسلموا للفرس (وقد بات لترموبولي فيما بعد عند الإغريق - لا للإسبرطيين وحدهم - نفس المعنى الذي تحمله ألامو لأبناء ولاية تكساس):
سيروا أيها العابرون وقولوا لأهل لاكيديمونيا إننا نرقد هنا طاعة لما أمروا.
وقد نظم ه. ل. سيفر هذا المعنى في شعر إنجليزي ترجمته كالآتي:
انشر أيها الغريب في إسبرطة التي أصدرت أوامرها،
أننا هنا في قبورنا طائعون.
ثم تحول بفكرك نحو معركة أخرى، ونحو قصيدة أخرى تخلدها:
عند القنطرة التي تعبر النهر الفائض،
تنشر رياح أبريل أعلامهم.
هنا وقف الفلاحون في المعركة،
وأطلقوا نيرانهم
تدوي في جميع الأرجاء.
القصيدة الأولى كلاسيكية، مقيدة، تقتصد في التعبير، والثانية رومانتيكية، تطنب في العبارة الأخيرة بقصد الإثارة. ولكن اعلم أن الإغريق كانوا يفخرون بترموبولي كما يفخر أي أمريكي (يانكي) بالقتال في كنكورد. ولا يتصف نظم سيمونيدس خاصة بالتواضع؛ فهو يفخر بطريقته كما يفخر إمرسون، ولا ينبغي كذلك أن نقول إن سيمونيدس شاعر مجيد، وإن إمرسون شاعر مسف، أو عكس ذلك. وإنما هما شاعران مختلفان في ثقافتين مختلفتين.
وأسوق إليكم مثالا أخيرا في رأي ناقد بلسان آخر: كان الكاتب الإنجليزي ماثيو أرنولد في القرن التاسع عشر يلمس نغمة إغريقية أو كلاسيكية ونغمة أخرى كلتية أو رومانتيكية في تقاليد الأدب الإنجليزي، أو حتى في الشاعر الواحد. ووضح رأيه بمثال من أعمال كيتس. يقول أرنولد إن كيتس وهو يقول:
أية مدينة صغيرة هذه،
على ضفاف النهر أو شاطئ البحر،
أو على سطح الجبل،
ذات القلعة الساكنة،
تخلو من ساكنيها،
في هذا الصباح المقدس؟
إنما يكتب وفقا للتقاليد الإغريقية المعتمدة. في حين أنه عندما يقول: ... هذه النوافذ السحرية،
التي تطل على زبد البحار الخطرة،
مهجورة في بلاد من نسج الخيال.
إنما يكتب بسحر الرومانتيكية الكلتية.
وأنت قد تعجبك أو لا تعجبك بطبيعة الحال صفات الثقافة الإغريقية الكلاسيكية كما تبدو في فنها. وقد استبدل النقاد الهدامون مصطلحات هدامة بتلك التي استخدمناها في هذا الكتاب طبقا للتقاليد؛ قالوا إن الفن الإغريقي والآداب الإغريقية شكلية أكثر مما ينبغي، ضحلة، محدودة، عقلية أكثر مما ينبغي، ثابتة، لا حياة فيها، تفتقر إلى تحسس الغامض وتنوع الجوانب في الوجود البشري - فهي أرستقراطية بالمعنى السيئ المتعالي. والواقع أن عاشقا عظيما من عشاق اليونان القديمة هو جلبرت موري قد أشار إلى أن ما وصل إلينا من الثقافة الإغريقية إنما بقي عن طريق النقل الذي قام به البيزنطيون المتأخرون، والمسيحيون، والإنسانيون في عهد النهضة، ورجال التربية - أو الطوائف ذات الاحترام البالغ، في إيجاز - ومعنى ذلك بالتأكيد أن ما وصل إلينا هو مختارات من أعمال الإغريق لا تمثلهم تمثيلا صادقا. وربما كان في أثينا في القرن الخامس من المتطرفين، المتطلعين إلى السماء، الناقمين على الجحيم، ومن الشخصيات الرومانتيكية الجامحة أكثر مما سجله العرف، غير أن الحقيقة المحسوسة لا تزال قائمة تتمثل في المعابد والتماثيل كما تتمثل في الشعر والنثر. ولم يظهر بعد من النقاد الهدامين من يقول بأن الأثينيين في القرن الخامس كانوا ينظرون إلى البارثينون وفن النحت فيه كأنه من أعمال أرستقراطية غربية. ولا يزال من الإنصاف أن نقول إن أذواق أولئك الذين رسموا لنا معايير الثقافة العظمى كانت كلاسيكية ولم تكن رومانتيكية.
وتستطيع أن تدرك ما يرمي إليه النقاد الرومانتيكيون المعادون إذا تمثلت في ذهنك تمثال أفروديت - إلهة الحب - الذي وجد في جزيرة ميلوس ببحر إيجة، الذي نعرفه جميعا باسمه اللاتيني الإيطالي «فينوس دي ميلو». وربما كان هذا التمثال هو أكثر التماثيل ألفا في العالم أجمع، ولا تزال نسبه - كما يقولون - هي المقياس في «هوليوود» و«مدينة الأطلنطية» كمثل رفيعة على الأقل. ومع ذلك فإن أفروديت قل أن تحرك إنسانا إلى أبعد من الإعجاب. ومن العسير أن نفكر فيها من حيث علاقتها بالحب؛ فهي باردة جدا، حتى باعتبارها إلهة.
وقد يكون تمثال فينوس دي ميلو - بمعنى ما - نوعا من التوسط الذهبي الأرسطاطيلي بين طرفي الطول البالغ والقصر البالغ، والبدانة المفرطة والنحافة الزائدة، بل إن مقاييسها الكلاسيكية قد تكون متوسطا حسابيا لمقاييس الملايين من أخواتها الأوروبيات. ولكن أمثال هذه النسب في الأجسام الحية نادرة. إن فينوس دي ميلو هي أحد الأشياء التي يحسبها أرستقراطية حتى أكثرنا ديمقراطية. وكل الثقافة التي تحدثنا عنها هي أرستقراطية بكل جلاء.
هي أرستقراطية بمعنى واضح، وبمعنى بغيض لأكثر الأمريكان المحدثين؛ لأنها تستند في مبرراتها إلى أنه لا يستطيع حقا متابعة مثلها الرفيعة، ولا يستطيع حقا أن يحيا حياة طيبة، إلا أولئك الذين لا يتحتم عليهم العمل لكسب العيش. وهنا أيضا نجد أن أرسطو، الذي كان أحسن من يمثل مجتمعه من بعض نواحيه، بالرغم من أنه جاء متأخرا في العصر العظيم للثقافة الإغريقية، خير شاهد على ما نقول. يعتقد أرسطو أن العمل اليدوي الشاق بل والاشتغال العام بالعمل، يمنع أولئك الذين يتحتم عليهم العمل من العيش عيشة طيبة، فإن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون الوقت الذي يمكنهم من اكتساب التجارب العقلية والخلقية الضرورية للرجل الكامل. هؤلاء لا بد لهم من المبالغة في شيء ما، أو الإفراط في عمل ما، ومن ثم فإن أجسامهم لا تنمو نموا متسقا. انظر إلى عضلات الحداد البارزة، وإلى عضلات الكاتب في الديوان أو المحاسب الضامرة. ويبدو أن أرسطو لم يذهل بتاتا من هذه الحالة، بل هو العكس من ذلك، كان يدافع عن الرق، باعتباره أمرا طبيعيا وهو لذلك أمر طيب. بعض الناس يولد لكي يقوم بالعمل الذي لا بد للرفيق أن يؤديه، ومن الملائم أن يقوم به. وكذلك أحس أفلاطون إحساسا قويا أن الحياة الطيبة - أحسن حياة - ميسرة للقلة وحدها، ولم يكن أرسطو على اتفاق دائما مع أفلاطون. ويتحدث أفلاطون في تشبيه شهير له في «الجمهورية» عن ثلاثة أنواع من الرجال: رجال من الذهب (الآلهة، وهم الرأس)، ورجال من الفضة (وهم المحاربون، أو القلب)، ورجال من البرونز أو الحديد (وهم العمال، أو المعدة). ومن الطبيعي أن يكون رجال الذهب قلة لها مكانتها، وتستحق أن تكون في القمة.
كانت ثقافة اليونان في ذروة أيامها أرستقراطية؛ لأن معاييرها من النوع الذي يجده أكثر الرجال - في وضوح وجلاء - مستحيل المحاكاة في المعيشة؛ فليس من السهل - حتى على أولئك الذين ليست بهم حاجة إلى العمل من أجل العيش - أن يحقق المرء الوسط الذهبي في كل أمر من الأمور، وأن يربي الذوق السليم في كثير من الميادين، وأن يحيا حياة متزنة مختلفة الألوان. ولكن هذه الثقافة كانت كذلك أرستقراطية لسبب آخر، وربما كان أعمق من ذلك. كان الإغريقي في عهد الثقافة العظمى على استعداد لأن يقبل العالم بطريقة مشابهة لتلك التي يقبله بها العالم. كان يعمل بالمادة التي يستمدها من خبرته، ويحاول أن ينظمها حتى تشبع حواسه، ولكنه لم يحاول أن يجاوزها، إلا بالمعنى الذي تجاوز به فينوس دي ميلو هذا العالم؛ عالم الخبرة الحسية. لم يكن عنده أمل في خلوده الشخصي، أو عقيدة في إله يهتم بمصيره معنويا، أو مشاعر تقابل تمام المقابلة ما نفهمه من معنى الإحساس بالذنب، بالرغم مما كان لديه من آراء واضحة عن الحق والباطل.
وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك تعبيرا بسيطا قلنا إنه ينشد السعادة فيما لديه من عالم الخبرة المحسوسة. وهو لا يستطيع أن يستعيض إحساسا بإحساس، أو أن يسمو بمشاعره، ولا يستطيع أن يظفر باحترامه لنفسه بطريقة غير الطريقة المباشرة، وهو لا يستطيع أن يكتسب القوة والعزاء من أكثر الوسائل التي تربطها بالدين. نعم كانت لديه وطنية المدينة الحكومية، في العصر العظيم، تسمو به، ولكنا سوف نرى بعد حين أن هذا المعين لم يشف غلته. قل من الناس من يستطيع أن يبذل الجهد الروحي (وقد يكون بطبيعة الحال جهدا غير موفق) الذي يتطلبه المرء لكي يقبل هذا العالم الصارم في بساطة كما قبله الإغريق في عصرهم الذهبي.
الفصل الثالث
أزمة الثقافة الإغريقية
في الذكرى السنوية الأولى للحرب العظمى بين أثينا وإسبرطة (عام 431ق.م) ألقى بركليز قائد أثينا - الذي انتخب انتخابا ديمقراطيا - خطابا في الصلاة التذكارية التي أقيمت للأثينيين الذين ماتوا في العام الأول من القتال. وهذا الخطاب في ذكرى الموتى - كما رواه المؤرخ ثيوسيديد - تقويم بليغ أكيد لعظمة أثينا، قال:
إننا نسمي دستورنا ديمقراطيا؛ لأنه في أيدي الكثرة دون القلة، ولكن قوانينا تكفل المساواة في العدل للجميع في منازعاتهم الخاصة. والرأي العام عندنا يرحب - ويكرم - بالموهبة في كل ناحية من نواحي العمل، يرحب بها، لا من أجل سبب طائفي، ولكن من أجل الإتقان وحده ... ولكن مدينتنا برغم هذا ليست مدينة عمل يومي فحسب؛ فليست هناك مدينة أخرى تمد مثلها للروح أسبابا للترفيه متنوعة - من مباريات وتضحيات طوال العام، وجمال منشآتنا العامة - تحيي القلب وتسر العين يوما بعد يوم ... نحن نعشق الجمال بغير إسراف، ونعشق الحكمة - دون أن نفقد الرجولة. والثروة عندنا ليست مجرد مادة للتفاخر، وإنما هي فرصة من فرص الإنتاج. وليس الفقر عندنا عارا نشهر به، ولكنه حطة ينبغي أن يعمل المرء للتغلب عليها. ونحن نظفر بالأصدقاء لا عن طريق تقبل المعروف، ولكن عن طريق أدائه. ومن ثم فنحن بالطبيعة أشد ثباتا في صلاتنا؛ لأننا مشغوفون - باعتبارنا أصحاب فضل - أن نوثق بالعمل الطيب علاقاتنا إزاء الأصدقاء. فإذا لم يستجيبوا بمثل هذه الحرارة، فذلك لأنهم يحسون أن خدماتهم لن تؤدى تلقائيا، وإنما تؤدى وفاء لدين. ونحن وحدنا بين البشر من يؤدي لغيره المنفعة لا لحساب مصلحة خاصة، ولكن ثقة قوية منا بالحرية. وأنا أزعم في إيجاز أن مدينتنا هي في جملتها تربية للإغريق، وأن كل فرد من أعضائها لا يلي غيره في استقلال الروح، وتنوع الإنتاج، والاعتماد الكامل على النفس في الذهن والأطراف.
ويستشف الأمريكان في هذا الخطاب نغما مألوفا؛ فهو خطاب مليء بالثقة والأمل، يؤكد أن لأثينا رسالة، وهي أن ترفع العالم إلى مرتبة النجاح العظمى التي بلغتها، وهو خطاب يشيد بقيمة اللحظة الحاضرة والمكان الحالي، وبما تقتضيه حياة العمل، الحياة الطيبة، من ضروب للنشاط والكفاح. ولكنا لو فرضنا أن طفلا قد ولد عندما ألقي هذا الخطاب، ثم عاش حتى سن الشيخوخة المتأخرة الممكنة، لرأى أثينا مهزومة في الحرب، محرومة من استقلالها، وهي وإن تكن ناجحة من الناحية المادية، إلا أنها فريسة للنزاع المستمر بين الطبقات والأحزاب، بحيث لم تعد قادرة على أن تنتج ثقافة عظمى في أي ميدان، وتكاد تكون عاجزة عن الاحتفاظ بمثل هذه الثقافة.
إن المشكلات التي تدور حول ما يمكن أن نسميه في مجاز لا يضللنا ميلاد الثقافة وحياتها وموتها؛ هي مشكلات أساسية في أية دراسة لتاريخ الفكر. لماذا لم تعد أثينا هي أثينا في عهد بركليز؟ إن الأثينيين لم يصابوا بالفناء، كما أن الحشائش لم تنم في طرقات المدينة - إلا بعد عدة قرون على الأقل. والجماعة ، أو المجتمع، ما دامت متماسكة على أية صورة من الصور، هي جماعة خالدة بمعنى ما. والتدهور البيولوجي، ومجرد الانحلال المادي، لأية سلالة من السلالات، يستغرق وقتا طويلا نسبيا. ومع ذلك فليس هناك ما هو أشد تأكيدا من أن كل الجماعات، وكل ضروب المجتمعات قد نهضت، وانتعشت، وماتت خلال الفترة التي تربو على خمسة آلاف عام من تاريخ العرب المسطور. ولا يستطيع أن يكتب رواية مستقيمة، وأن يتحاشى كلية تصور تاريخ الجماعات التي يدرسها في إطار الارتفاع والسقوط، وفي دورة الربيع والصيف، والخريف والشتاء، دورة الموت، والشباب، والنضج، والشيخوخة، والموت. لا يستطيع ذلك إلا المؤرخ الذي يعوزه الخيال.
كان أسلافنا واثقين - وهم على حق - أنهم بلغوا ثقافة لن تتحول إلا في طريق التقدم، ولن تنهار، وسنعود في فصل متأخر من هذا الكتاب إلى هذا المذهب المعروف؛ مذهب التقدم. بيد أن حربين عالميتين قد حدتا بالكثيرين - وبخاصة في بلاد مثل فرنسا وألمانيا - إلى أن يدركوا أن بلادهم قد تأخرت بالفعل في أثناء حياتهم، على الأقل من بعض الوجوه التي يمكن قياسها إحصائيا كالسكان والثروة الحقيقية. وإذن فمشكلة تدهور الجماعات البشرية التي كانت في وقت من الأوقات ثابتة، ناجحة، موفقة - الجماعات التي كانت في وقت ما في الحالة التي وصفها بركليز في خطابه الشهير - هي مشكلة تبدو اليوم واقعية، حتى بالنسبة إلينا نحن الأمريكيين، بصورة لم تكن ممكنة لآبائنا.
ولكن مشكلة ارتفاع المجتمعات البشرية وسقوطها لم تحل بعد، وقد تكون أعقد من أن تحل - أقصد أن تحل بمعنى أن تتمكن الكائنات البشرية من أن تقوم بعمل يحول دون تدهور المجتمعات، بالمعنى الذي نفهمه من حل مشكلة أسباب الدرن بحيث نستطيع أن نقترب بدرجة ملحوظة من القضاء على الدرن نهائيا. غير أن التقليد الطويل في مجتمعنا الغربي، وهو تقليد نابع إلى حد ما من هؤلاء الأثينيين أنفسهم، تقليد مجرد وجوده يدل على أن الجماعات التي تشبه أثينا في عهد بركليز، والثقافات التي تشبه ثقافة الإغريق الكلاسيكية، لن يدركها الفناء الشامل بمعنى من المعاني - وهذا التقليد يسوقنا إلى أن نحاول إدراك العمليات الاجتماعية كي نوجهها أو نسيطر عليها.
ونستطيع على الأقل - إذا أثبتت العلوم الاجتماعية بحق أنها علوم تراكمية - أن نحصل على إجابات جزئية لمشكلات انهيار مجتمعات معينة، ويمكن لهذه الإجابات الجزئية في النهاية أن تضيف محصولا جديدا إلى أكثر المعارف النافعة. وهناك عناصر متعددة، وصور كثيرة من المعادلة المعقدة (لا يدركها الحصر) في مسألة التدهور في حالة بلاد اليونان في القرنين الخامس والرابع. وكثير من هذه العناصر أدخل في باب تاريخ الاقتصاد والسياسة منها في باب تاريخ الفكر. ولكن لما كان من واجبات تاريخ الفكر أن يحدد المشكلات الكبرى التي تعترض سير الحياة البشرية فوق هذه الأرض، وأن يحاول أن يجد لها الحلول، فسوف نحاول في نهاية هذا الفصل أن نعرض موجزا مختصرا لهذه الأزمة في ثقافة الإغريق العظمى. أما الآن فسوف نوجه اهتمامنا الأكبر إلى العناصر الفكرية في حدودها الضيقة. سوف نحاول أن نكتشف ما أصاب أسلوب الحياة من خلل - وهو أسلوب جذاب بالتأكيد لكثير من الكائنات البشرية - وهو الأسلوب الذي حاولنا أن نرسم صورة له في الفصل السابق، وربما لم يحدث أي خلل، ولعل الثقافة الإغريقية قد انتقلت إلى دور الشيخوخة الذي نحس إحساسا ذاتيا أنه أقل من الشباب جاذبية. ومهما يكن من شيء فإن مثل هذه الحتمية العضوية لا تزال تعترض تيار الفكر الغربي الحديث.
عمق الثقافة الكلاسيكية
ربما لم تكن الثقافة العظمى التي نربطها بأثينا القديمة سوى ثقافة الأقلية الممتازة، وربما كانت الجماهير - حتى في أثينا - بعيدة في الواقع عن الاستمتاع بهذه الثقافة. ويستحق هذا السؤال منا البحث، وإن تكن الإجابة عنه لن تعيننا بالضرورة على بيان السبب في انهيار هذه الثقافة؛ فقد كانت هناك مجتمعات بشرية كثيرة، عاشت طويلا بالنسبة إلى غيرها، وكانت للطبقات الممتازة فيها آراء عن الفضيلة والجمال، لا تكاد الجماهير البتة تشاركهم فيها. وإن يكن «شيء» من مثل هذه المشاركة يبدو شرطا من شروط المجتمع السليم حقا، وهو قطعا من شروط المجتمع الذي يعد نفسه ديمقراطيا ، بالمعنى الذي نقصده من هذه الكلمة. ومن الأمثلة الواضحة لنوع الانفصال الاجتماعي الذي لا يتفق وآراءنا في الديمقراطية، وقد لا يتفق وأسلوب الحياة الذي يصوره بركليز في خطاب الذكرى، ذلك الانقسام الذي كان قائما في الجنوب الأمريكي في العهد السابق بين مجموعة صغيرة من الأرستقراط أصحاب المزارع وجمهور ضخم من البيض الفقراء والعبيد، وربما كانت «الهوة العميقة فعلا» في نظر الرجل الغربي بين ثقافة الطبقة الحاكمة وثقافة الطبقة المحكومة هي بالفعل من دلالات الأزمة، ومما ينذر بالتدهور.
ومع ذلك فالإجابة عن هذا السؤال: إلى أي مدى بلغ عمق الثقافة العظيمة في أثينا في القرن الخامس؟ شاقة جدا. ولا يسعنا إلا أن نجمع شذرات من الأدلة، وأن نحاول وزنها.
والدليل الأدبي غامض يحتمل وجهين من أوجه التفسير؛ فإن أفلاطون بتشبيهه الرجال بالذهب، والفضة، والحديد، والبرونز، وأرسطو بتأكيده أن بعض الناس يولدون عبيدا، وكذلك كثير من الكتاب، يشيرون إلى أن المثقفين - على الأقل - يرون الفصل الشديد بين طبقة ممتازة جديرة بالعيش على مستوى الثقافة العظيمة، وطبقة منحطة من العمال ليست قمينة بالمشاركة في مثل هذه الثقافة، يرون ذلك أمرا مرغوبا فيه، وليس هناك ما يدل من ناحية أخرى - سوى علمنا المستقل بأن الرق كان موجودا فعلا - على أن بركليز في خطاب الذكرى كان يخطب في مجموعة لا تشمل جميع سكان أثينا. وليس هناك ما يدل على أنه كان يعتقد في وجود مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين آخرين من الدرجة الثانية، ومن الجائز أن الكتاب من أمثال أفلاطون وأرسطو كانوا من المفكرين الذين خاب أملهم فعلا، ومن شهود انهيار الثقافة العظمى، وأن كليهما كان إلى حد ما يكتب باعتباره هاربا سياسيا.
والواقع أن دلالة الهجمات على الديمقراطية التي وجهها هذان الكاتبان إلى الديمقراطية، والتي وجهها بطريقة أخرى رجال من أمثال زينوفون المؤرخ، والكاتب المسرحي الهزلي أرستوفان، والكاتب الذي نشر رسالة باهرة من غير توقيع، الذي يسميه الباحثون «أوليجارك العجوز»، وغيرهم؛ دلالة هذه الهجمات على أن ثقافة أثينا في القرن الخامس في عهدها المتأخر قد تغلغلت في حياة الرجال والنساء، وعلى أن أثينا كانت تمارس الديمقراطية من بعض الوجوه - أقول الواقع أن دلالة هذه الهجمات لا تخلو من المعنى. ولم يكن بالإمكان أن يتحمس هؤلاء الكتاب كل هذه الحماسة ضد فكرة مجردة.
وليس لدينا - لسوء الحظ - عن أثينا شيء يشبه تلك المعرفة التي تمكننا من قياس عمق الثقافة المعاصرة على صورة من الصور. ليس لدينا إحصاء - مثلا - عن عدد المتعلمين في أثينا، ولدينا في الواقع علم ضئيل جدا بالتربية الرسمية فيها. لم يكن هناك نظام مدرسي تحت إشراف الدولة، ولم تكن هناك قطعا طباعة أو شيء يشبه صحافتنا اليومية والدورية. وكانت الكتب عبارة عن صحائف من المواد المكلفة منسوخة باليد، ولم يكن هناك شيء يشبه المكتبة العامة. ولما أسست في القرن الثالث قبل الميلاد فيما بعد مكتبات عامة ضخمة، كانت المكتبات للباحثين، ولم تكن لنشر المعرفة بين الجماهير. ولم يستطع في الواقع أن يمتلك الكتب إلا أصحاب اليسار.
ومع ذلك فإن لدينا دليلا طيبا على أن نوع الثقافة الذي عرضناه كان واسع الانتشار في أثينا على الأقل - حتى على مستوى التربية العامة والتعليم العام. وقد أصبحنا اليوم خاضعين كل الخضوع لسلطان الكلية المكتوبة، حتى إنه ليشق علينا أن ندرك كيف يمكن لمجتمع أن يتثقف ثقافة غربية دون استغلال الكلمة المكتوبة على نطاق فسيح. وقد يسيطر على أبنائنا - بطبيعة الحال - التليفزيون، أو ما يشبهه، كما تسيطر علينا الكلمة المكتوبة، فيعجب الأبناء كيف أن مخلوقات مثلنا اعتلت ظهورها الكتب تعد نفسها متعلمة. ومهما يكن من أمر فإن ثقافة أثينا الأدبية كانت تعتمد على الكلمة المقولة أكثر من اعتمادها على الكلمة المكتوبة. وكانت أسواقها، ومسارحها، ومعابدها، وغير ذلك من الأماكن العامة، في خير أيامها تعج بكل صنوف الرجال، يلغطون، ويتبادلون التجارة، ويتحدثون في السياسة، والجو، والفلسفة. وقد كانت فنون النحت، والتصوير، والعمارة، التي يشهدها الجميع في المنشآت العامة، وفي الطقوس الدينية، وفي الأداء المسرحي، كانت - فوق ذلك - بمثابة تربية عامة دائمة على تقدير الجمال.
كما أننا نعرف جميعا أن الشئون العامة كانت في أثينا، وفي كثير غيرها من المدن الحكومية التي تتمتع بشكل من أشكال الحكم الديمقراطي، من الأمور التي يهتم بها جميع الذكور من المواطنين اهتماما مباشرا. وحتى الحكومة الأكثر أوليجاركية مثل إسبرطة لم تكن مطلقة، بل لقد كان مواطنوها يعلمون أنهم يشتركون في شيء ما، وكان لهم على الأقل حق الموافقة أو عدم الموافقة في المجالس على قرارات حكامهم. وهذه المدن الحكومية الصغيرة - وحتى أثينا كانت صغيرة بمعاييرنا - ربما كانت أشبه بالمدن القديمة في إنجلترا الجديدة منها بأي شيء آخر في تجربتنا؛ فكانت الموضوعات ذات الصبغة العامة تناقش دائما علنا، وكانت القرارات النهائية في الديمقراطيات الرسمية كأثينا تصدر بتصويت آلاف المواطنين المجتمعين للمناقشة العامة. كان الحكم عند الإغريق - في إيجاز - يقوم على أساس المناقشة، وكانت عندهم سياسة من النوع الذي نعرفه بهذا المصطلح، بل إن كلمة بولوتيقا (أو سياسة) ذاتها، إغريقية في أصلها.
والسياسة من هذا النوع لون من ألوان التربية، وضرب من ضروب الثقافة لأولئك الذين يشتركون فيها. ولكن النقاد من أصحاب العقول المرنة أصروا حينئذ - كما يصرون اليوم - على أن الرجل المتوسط يضعف عند الاستماع إلى الكلام البليغ، ويتأثر بالدوافع الذاتية الضيقة، ميال إلى العمل الجماهيري غير البصير، لا يقبل الامتياز أو التفوق الحق - أي كان باختصار - بمثابة المعدة (في جمهورية أفلاطون) وضعت - لسوء الحظ - موضع الرأس والقلب. ولم يهاجم الديمقراطية العملية أحد بمثل العنف الذي هاجمها به أرستوفان في مسرحية «الفرسان»، حيث يمثل ديموس (أي الشعب) بشخصية هزلية، نصفها شر، ونصفها الآخر حماقة. ومع ذلك فقد كان ديموس بآلاف الأعداد من المشاهدين - فيما نظن - في المسرح، يضحكون من هذا القذف فيهم، كما يشتري رجال الأعمال في أمريكا مسرحية «بابت» لسنكلير لويس ويقرءونها. وإذن فقد كان الناس من جميع الأنواع - على أقل تقدير - في أثينا وكثير من المدن الحكومية الإغريقية الأخرى في القرن الخامس، يدركون إمكان الاختيار في السياسة، وعليهم أن يقرروا، بالرغم من أن هذا العمل لم يكن على المستوى العقلي الرقيق الذي أراده الفلاسفة، وربما لم يكن عند هؤلاء الإغريق في الواقع إلا تلك الأناقة وذلك التنبه المدلل، وذلك الاهتمام السطحي بأمور الساعة الجارية، أو تلك السفسطة العامة التي نعرفها عند الرجل العامي من أهل لندن أو باريس أو نيويورك. ولكنا نسلم لعشاق الإغريق بشيء يسير: وذلك أنه من الجائز، بل من الراجح، أن المستوى العام في الفكر والذوق كان أعلى في أثينا لعهد بركليز منه في أية جماعة يمكن أن تقارن بها في الحضارة الغربية.
وهناك شذرات من الدلائل التي تؤيد أولئك الذين يحسنون الظن بالمستوى المتوسط في الثقافة لدى الأثينيين في العهد العظيم. وأشهر شاهد في الأدب الأثيني على أن مستوى الثقافة كان رفيعا حقا هو خطاب الذكرى لبركليز. ولكن بركليز كان سياسيا، وربما كان يداهن المستمعين إليه.
ونحن نعلم أن ألوف الأثينيين كانوا يقضون الساعات الطويلة في المسرح يشاهدون روايات كبار كتاب المسرحية الإغريق. وقد كانت هذه المسرحيات - والمآسي منها خاصة - على مستوى عقلي رفيع جدا من أولها إلى آخرها. ولم يكن في هذه المسرحيات هبوط، ولم تكن فيها مشاهد لأصحاب الثقافة الوضيعة أو مشاهد لكي تقابل مطالب «الواقعية»، كمشهد حفاري القبور في «هاملت». وكذلك كانت الموسيقى والرقص اللذان يصاحبان هذه المسرحيات على نفس المستوى الرفيع بكل تأكيد، وربما كان خير ما يماثل ذلك في العصر الحديث الأوبرا - ولا أعني الأوبرا الإيطالية، بل ولا أعني فاجنر، وإنما أعني الأوبرا العسيرة المقيدة التي سادت في القرن الثامن عشر - وليس من شك في أن المقارنة خطرة، ولكن هل يمكنك أن تتصور أن كل سكان مدينة من المدن الأمريكية تقريبا (على دفعات معقولة بطبيعة الحال) يشهدون أداء «دون جيوفاني» لموزار أو «أورفيوس» لجلك برمتها؟ ربما كانت الجماهير في أثينا ترتاد هذه المسرحيات نظرا لانعدام الملاهي الأخرى، ولكنهم كانوا على الأقل يفهمون شيئا مما يجري؛ لأن موضوعات المسرحيات كانت جزءا من الفولكلور عندهم. أما عند الأمريكان فموضوعات الأوبرا العظيمة ليست جزءا من الفولكلور الخاص بهم، ربما كانت «أوكلاهوما» هي النظير الحقيقي.
وقد يكون من المعقول بطبيعة الحال أن نزعم أن هذه المسرحيات الأثينية كانت أداء دينيا في حقيقتها، كانت جزءا من العقيدة المتصلة بالإله ديونيسس، وأن المشاهدين كانوا دائما يحسنون السلوك لأنهم كانوا يحسون إحساس رواد الكنيسة؛ أي إن الجموع كانت في الحقيقة ترتاد المآسي؛ «لأن» ذلك هو السلوك الديني الصحيح، وربما كانوا لا يفقهون للألفاظ الفخمة معنى، بل ربما كانوا يملون ما يسمعون. وفي الكوميديات - حيث تختلف المواصفات - كثير من الخشونة والفحش. وكان أرستوفان بالتأكيد أحيانا يحاول أن يجتذب انتباه الأفراد الذين لا يسبحون خاصة في بحار الأفكار العميقة. ولكن أرستوفان لم يقدم شيئا يخلو من المعنى، أو يبلغ من السوء مبلغ قصة مصورة من قصص هوليوود من الدرجة الثانية، أو شيئا سخيفا كالأوبرات الشعبية التي تذاع في الراديو عندنا. وكثير من أعماله يبلغ من الدقة والفكاهة الرفيعة مبلغ المسرحيات الحديثة لكتاب مثل ج. ب. شو، ويتطلب تنبها ذهنيا من المستمعين كما تتطلب هذه المسرحيات.
وليس من شك في أن سمعة الإغريق قد تأثرت من الحركة الرجعية في القرن التاسع عشر ضد عبادة كل ما هو إغريقي، وهي العبادة التي بدأت في الغرب في عصر النهضة. وما زلنا حتى اليوم نجد المعجبين باليونان القديمة - وبخاصة في أثينا في القرن الخامس - الذين يرون كل أثيني جديرا بتقدير خير ما في الفكر البشري والأمل الإنساني. وهؤلاء المعجبون هم الكلاسيكيون الذين يعتقدون أن الرق نفسه لم يكن في الحقيقة رقا، وأن أفضل ترجمة للفظ اليوناني للرقيق (دولوس) هو «زميل في العمل». ومن الطبيعي في جيلنا الواقع أن يتعجب المرء كيف أنه لم يكن في أثينا - حتى في ميدان الفن والأدب - ما يماثل موسيقانا العاطفية العامة، وصورنا الفكاهية الشائعة، ومجالاتنا الشعبية، وألواننا البراقة، وهدايانا التي لا نفع فيها، وطرقنا الرئيسية للسيارات التي تقع على جوانبها المباني القبيحة. لم يصل إلينا ما يماثل ذلك، ولكن ربما كان الزمن يتخير للبقاء أفضل الأشياء.
وليس بالإمكان اليوم أن نرى رأيا نهائيا موضوعيا يقع وسطا بين حكم أفلاطون على مواطنيه وحكم بركليز عليهم، وربما أمكننا أن نطبق هنا كذلك مبدأ الوسط الذهبي الإغريقي وكانت الثقافة الأثينية في أوجها ملكا لجميع الأثينيين من بعض الوجوه، ولكن الأثينيين جميعا لم يعيشوا وفقا لمقاييسها في كل لحظة من اللحظات. وقد كانت أوسع انتشارا في الميادين الجمالية منها في الميادين العقلية البحت. وفي الحياة السياسية والخلقية كان الأثيني من العامة أبعد ما يكون عن الوسط الذهبي، وعن «الفضائل المدنية» التي يتحلى بها أي اجتماع في أية مدينة من مدن إنجلترا الجديدة. ولم يكن رجال خياليون من أمثال جلبرت مري على خطأ تام في صميم الأمر؛ فقد كانت في أثينا - في واقع الأمر - حماسة، وطاقة مندفعة، ومغامرة، لم تتمثل في الآراء التي وردت في كتب الدراسة عن الثقافة العظمى. ويستطيع المرء أن يجرد الموضوع من كل ما يحوطه من أحكام عاطفية، ويقول إن الإغريق في الثقافة الكلاسيكية ربما وضعوا المثل العليا في الاعتدال، وضبط النفس، والانسجام «لأنهم كانوا في واقع حياتهم مندفعين نحو المبالغة في كل أمر من الأمور». وربما كان الإغريق الكلاسيكيون متطرفين مشاغبين، متقلبين غير ثابتين، غير مروضين، فكانت مثلهم الثقافية نوعا من التعويض عما فقدوه.
ولعل خير من يصور في إنجاز روح الحياة الأثينية ثيوسيديد، وقد كان هو ذاته محافظا معتدلا، رسم لأهل كورنثيا صورة حية تمثل المفارقة بين حيوية الأثينيين وتراخي الإسبرطيين: «الأثينيون ثوريون، وتتميز خططهم بالسرعة في التصوير والتنفيذ. أما أنتم أيها الإسبرطيون فعندكم القدرة الفائقة على الاحتفاظ بما لديكم، وهي قدرة مصحوبة بالافتقار الكامل إلى الابتكار. وعندما تضطرون إلى العمل قلما توغلون. هم مغامرون فوق قدرتهم، وجريئون إلى حد أبعد من أحكامكم. وهم عند الخطر شديدو الحماسة. أما أسلوبكم فهو المحاولة على مستوى أدنى مما تمكنكم قدراتكم، والشك حتى فيما تؤكده أحكامكم، والظن بأن أخطاركم ليس لها نهاية. هم يعجلون، وأنتم تؤجلون. ليسوا مطمئنين في ديارهم، ولستم مطمئنين بعيدا عنها. هم يأملون بهجرتها أن يمدوا من أملاكهم، وأنتم تخشون أن يتعرض ما تملكون للخطر من أي مشروع جديد . ما أسرعهم إلى متابعة النجاح، وما أبطأهم في التراجع عن نقيضه. هم يبذلون أجسامهم بذلا سخيا في سبيل الوطن، ويجندون عقولهم في غيرة لخدمة البلاد. والمشروع الذي لا ينفذ هو في أعينهم خسارة واضحة، والمشروع الناجح فشل نسبي. إذا أخفقوا في محاولة عوضوا الخسارة بالتعلق بآمال جديدة. وعلى خلاف أي شعب آخر، الأمل عندهم تحقيق، فما أسرعهم في تنفيذ الأفكار. إنهم لا يكفون عن العمل في وجه المتاعب والأخطار طوال حياتهم، ينهمكون في التحصيل، وقلما يستمتعون بما يحصلون. ولا يرون في يوم العطلة إلا أن يعمل المرء ما تتطلبه المناسبة. وليس العمل الشاق عندهم من سوء الحظ كانعدام العمل والراحة. ويستطيع المرء في إيجاز أن يقول - وهو على حق - إنهم ولدوا في هذه الدنيا لكيلا يريحوا أنفسهم أو يريحوا غيرهم».
الديانة الإغريقية كمقياس للثقافة
إننا لم نجد إجابة مباشرة لهذا السؤال: إلى أي حد تغلغلت الثقافة العظيمة في المجتمع الإغريقي؟ ولا يسع الأمريكي المثقف الحديث إلا أن يقيس بمشاعره، وفروضه، وتساؤله في الثقافة الأمريكية، الثقافة الإغريقية. إنه يعتقد في وثوق أن إمرسن وهويتمان - بالرغم مما ترى المعلمات - ليسا عند أكثر الأمريكيين إلا مجرد اسمين، وهو يشك في أن سقراط وإيسكلس في أثينا القديمة - التي لم يكن فيها حتى المعلمات - لم يكونا كذلك سوى اسمين عند أكثر الأثينيين. وقد تبين لنا أخيرا أن هذه النظرة على الأرجح تحريف للحقيقة، وأنه لم يكن هناك في الواقع في أثينا - تلك المدينة الصغيرة نسبيا - في القرن الخامس تمييز واضح بين أصحاب الثقافة العميقة وأصحاب الثقافة الضحلة.
ومن حسن الحظ أن يجد تاريخ الفكر مصادر غير الأدب والفلسفة، ومن أفضل هذه المصادر تاريخ الديانة. وليس من اليسير حتى في هذا المجال أن نتعرف عقائد الرجل العادي وسلوكه، ولكن من الجلي الواضح أنه كانت لديه معتقدات دينية، وأن هذه المعتقدات كانت لها علاقة بمسلكه، وليس من شك في أن هناك من أرباب الفكر المتطرفين من يؤمن حقا بأن ما وصف به لابريير الفيلسوف الأخلاقي عامة الفلاحين الفرنسيين قبل الثورة العظمى من أنهم «حيوانات تشبه الآدميين»، إنما هو وصف موضوعي لعامة الرجال والنساء، وأن أمثال هؤلاء الرجال والنساء ليسوا حقا ذوي كفاية للحياة العقلية. ولكن هذا الرأي المتطرف، وإن كان يجعل صاحبه يحس بالاستعلاء وهو مطمئن، لا يتفق وواقع السلوك البشري؛ فإن فكرة الإله قد تعني الكثير لرجل الدين المتعلم مما لا تعنيه عند عامة المؤمنين الجهلاء. ولكن من الخطأ الفاحش أن نقول إن فكرة الإله لا تعني «البتة شيئا» للمؤمنين الذين تعوزهم القدرة على التعبير.
وقد كانت هناك ديانة إغريقية رسمية، بل وثابتة من بعض النواحي، في العهد الأعظم للثقافة الإغريقية. وأما ما يجعل من العسير علينا أن نصف - بله أن نفهم - هذه الديانة الرسمية، فهو أنه لم تكن لها أصول ذات قواعد، ولم يكن لها كتاب مقدس، أو كهنة محترفون، أو كنائس - لم يكن لها على الأقل شيء من هذه العناصر في صورها التي تجعلها تربيتنا المسيحية مألوفة لنا. وهذه العقيدة في آلهة الأولمب لم تعن - في مصطلح العقيدة - أكثر من الاعتقاد بأن الآلهة موجودة، وأن لكل منها قدرات خاصة وصفات خاصة، وأن ما تقوم به يمكن أن يكون له في حياة المرء أثر. لم تكن هناك مذاهب، أو أصول الدين، ولم تكن هناك - فوق هذا - عقيدة بأن هذه الآلهة هي وحدها الموجودة. نعم كان هناك قساوسة وقسيسات يقومون فعلا بالكثير من الطقوس الدينية في المعابد، ولكنهم لم يكونوا كأسباط اليهود أو أكليروس الكاثوليك، جماعة تنفصل تمام الانفصال عن بقية الناس، وإنما كانوا إلى حد ما قساوسة غير متفرغين. وكانت هناك بطبيعة الحال مبان للمعابد، ولكن ديانة الإغريق التي تعتقد في آلهة الأولمب لم تكن لها كنائس بالمعنى الذي تحمله لفظة «كنيسة» لنا من أنها جماعة من المؤمنين توجد في داخل مجتمع الدولة الأوسع. وما كان الإغريقي ليفقه فكرة الأمريكان عن حرية العقيدة الدينية، أو فصل الكنيسة عن الدولة، وعندما كان يشترك في عيد الإلهة آثنا في أثينا - مثلا - ويدخل معبد آثنا في البارثينون، كان في حالة عقلية تشبه من بعض وجوهها ما نسميه بالوطني، ومن بعض وجوهها الأخرى ما نسميه بالديني. ويشق علينا كثيرا أن نسبر غور حالته العقلية «بكليتها».
وليس معنى هذا كله أن الرجل الإغريقي العادي لم يعتقد في آلهته. وحتى عندما حل عام 400ق.م ظهرت أقلية من المثقفين لا تعتقد في هذه الآلهة، وكانوا يبحثون عن عقيدة في إله آخر، أبسط وأرقى من الناحية الخلقية. كما ظهرت أقلية أخرى من المتشككين، اللاأدريين، والعقليين، نبذت الآلهة القديمة دون الشعور بالحاجة إلى آلهة غيرها. كما أن بعض الإغريق قد أخذوا يمارسون عقائد أكثر صوفية، إما بالإضافة إلى الديانة الرسمية وإما بدلا منها. غير أن غالبية الإغريق العظمى في عهد الثقافة العظمى كانوا - فيما يظهر - يمارسون الديانة الرسمية. وليس في وسعنا أن نعرف إلى أي حد كان إيمانهم حارا أو عميقا. ربما كانوا لا يتجاوزون أداء الحركات، بيد أن أداء الحركات معناه الاشتراك في طقوس دينية رسمية، ومثل هذه المشاركة عمل له أهميته من الناحية الاجتماعية. وفي القرون الستة أو السبعة التالية اندثرت الديانة الإغريقية الرسمية كما يمكن لأية ديانة من الديانات أن تندثر اندثارا كاملا. ولكن ليس لدينا ما يبرر الاعتقاد بأنها لم تكن جانبا هاما من جوانب الحياة الإغريقية في هذا العهد.
وحتى في أمريكا الحديثة التي حطمت تحطيما أشمل مما فعل أي بلد آخر من البلدان العظمى السحر الذي ألقته الثقافة الإغريقية العظمى على أسلافنا في عصر النهضة، حتى في أمريكا الحديثة هذه لا يزال هناك من الميثولوجيا الكلاسيكية شيء يذكر؛ فنحن نعرف أن زيوس (أو جوبتر باللاتينية) كان أبا للآلهة، أو زعيما لها، وأنه كان يقذف الصواعق، وكانت له بالإلاهات كما كانت له بالأحياء من النساء علاقات غرامية. وفي أذهاننا صورة غامضة عن صندوق باندورا، ورأس جورجون، وأعمال هرقل (أو هيركيوليز باللاتينية) الشاقة، وغير ذلك من الحكايات. ومجموع هذه الحكايات عن الآلهة والأبطال التي تتألف منها مادة الديانة الإغريقية الأولمبية، ضخمة في الواقع، ولكنها لم تثبت أو تدون في كتاب مقدس.
وربما استمد أكثر المتعلمين من الإغريق معرفتهم عن الآلهة من قصائد هومر خاصة، التي كان الكثيرون يحفظونها عن ظهر قلب في شبابهم، ولكن هناك مصادر أخرى كثيرة، بعضها يرجع إلى ماضي الإغريق الأوائل السحيق، وربما كان بعضها منقولا عن أولئك الذين كانوا يقطنون اليونان قبل أن يهبط الإغريق من الشمال أو وسط أوروبا إلى حوض البحر المتوسط ليغزوهم. ويمثل التطور في تعدد الآلهة الذي حدث في القرنين الخامس والرابع في بلاد اليونان تاريخا طويلا، اشتغل به طويلا علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والتاريخ. وليس من واجبنا هنا - على أية حال - أن نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تثار حول منشأ الديانات، أو حول الاعتقاد بالأشباح، أو وجود الحياة (الروح) في الريح، والأشجار، ومساقط المياه، وفي كل ما يسميه المحدثون الطبيعة. ولما حل عام 400ق.م كان قد انقضى على الإغريق قرون تساءلوا فيها، وفكروا، واعتقدوا، ووصلوا إلى مجموعة من المعتقدات والمراسم، ليست منظمة كل التنظيم، وليست شائعة كل الشيوع حتى بين الإغريق أنفسهم، ولكنها كانت - برغم ذلك - نظرة معينة إزاء مشكلات الوجود البشري الكبرى.
وهذه نظرة عامة وصفية بسيطة نهائية: كانت هناك آلهة محلية كثيرة، وجنيات، وأبطال، بل وأرباب وربات محلية، أو اتجاهات محلية في عبادة أرباب وربات أكثر عالمية. وكانت آثنا بمعنى ما الآلهة المحلية الخاصة في أثينا، ولكنها كانت في كل أنحاء العالم الذي يتكلم اليونانية آلهة معترفا بها باعتبارها ربة الحكمة. وبالرغم من هذه المحلية الشديدة، وبالرغم من أن الآلهة الجدد قد يظهرون في أي مكان، كان هناك ما يشبه النظام الإغريقي الفيدرالي في الدين أكثر مما كان في أي نشاط بشري آخر. وكانت معابد زيوس في أولمبيا، حيث كانت الألعاب الأولمبية تقام، ومعابد أبولو في دلفي، تعتبر ملكا روحيا لبلاد اليونان كلها.
وأكثر شراح شئون الإغريق يتفقون على بعض الأحكام العامة الأخرى التقديرية المعينة فيما يتعلق بالديانة الأولمبية؛ فالأرباب والربات أولا «كائنات بشرية»، لا تموت، وهي مجيدة بالمعنى الطيب لهذه الكلمة التي أسيء استخدامها. وهي أقوى من الأحياء بدرجة لا توصف. وهي لمن يعتقد فيها مخلوقات تتجاوز فعلا هذه الحياة الدنيا، ولا يمكن وصفها، وربما كانت أشبه بتلك الرسوم التي تمثل السوبرمان في صورنا الفكاهية للطفل، بل ولغير الطفل، «ولكنها» - فيما خلا ذلك - كانت كالكائنات البشرية؛ فأسرة الأرباب والربات تأكل، وتشرب، وتتشاجر، وتتبادل الحب، وتستغرق في كل لذة ممكنة في كل حين - شأنها في ذلك شأن بني الإنسان. وهي لا تظفر دائما بما تريد؛ لأن رغبات الأرباب والربات الأخرى قد تعترض رغباتهم، وحتى زيوس نفسه لم يكن قادرا على كل شيء. والواقع أنك حينما تقرأ عن محاولات زيوس للسيطرة على أسرته العاصية، تحس أن زيوس هو أكثر الأرباب إخفاقا في تحقيق آماله، ولكنه يسترد دائما نفوذه بالنسبة إلى البشر؛ لأنه في علاقته بالرجال والنساء على كل شيء قدير.
ويترتب على ذلك أنه يتحتم على البشر أن يبذلوا قصارى جهدهم لكي يظفروا برضا الآلهة ويتجنبوا غضبها. وكان كذلك دائما عملا شاقا، إذا صدقنا ما رواه هومر؛ لأن بطله أوديسيس أرضى آثنا كل الرضا، ولكنه أساء إلى منافسها وعمها بوزيدون - إله البحر - إساءة شديدة. وفي النهاية أفلح أوديسيس لأن آثنا إجمالا - وفي هذه الواقعة بالذات - كانت أعلى مقاما من بوزيدون. ولكن الرجل العادي من الأحياء لا يستطيع أن يتثبت من الحكم على الإله الظافر أكثر مما يستطيع أن يتثبت من الحكم على أي الخيول يربح في السباق.
ولكن هذا الشك لا يثني - بطبيعة الحال - أكثر الناس عن الرهان. وكان الإغريق يراهنون على الآلهة بمعنى ما. كان الأحياء يقومون بأداء الطقوس - يضحون بالحيوان، وينصبون لوحات النذور، وما إلى ذلك. ويتوقعون، أو يأملون، أن يظفروا من الآلهة بالثواب لقاء ذلك. والعبارة الوصفية المألوفة في هذا الشأن هي أن هذا الوجه من أوجه الديانة الإغريقية كان يسير وفقا لهذه العبارة اللاتينية: إنني أعطيك لكي تعطيني. والكاتب الحديث يشير دائما - وهو على حق - إلى أن العابد الإغريقي وهو يضحي بالحمل لبوزيدون لكي يقوم برحلة بحرية آمنة، لم يكن يدعو إلها شخصيا، ولم يكن يحاول أن يكفر عن إثم ارتكبه أو قد يرتكبه، ولم يكن يتحد مع إله من آلهة الحق الذي يهتم بالحياة الباطنية كما يهتم بالحياة الخارجية لمن يعبدونه فوق هذه الأرض. وأقول في إيجاز إن ديانة آلهة الأولمب لم تكن ديانة المسيح، أو ديانة محمد، أو ديانة بوذا.
ومن المعالم الكبرى لديانة الإغريق وجود الكاهن. وأكبر الكهان هو أبولو في دلفي. وكان كل امرئ تقريبا في وقت من أوقات حياته يستشير الكاهن في مشكلة من المشكلات العائلية العويصة، أو في أزمة مالية، أو رحلة خطرة يوشك أن يقوم بها، أو ما يشبه ذلك. وكانت إجابة الإله - الذي يتكلم عن طريق قساوسة المعبد - تحتمل وجهين في أغلب الأحيان، أو «تكهنية» (أي مبهمة)، ولكنها كانت كذلك عادة معزية، لا تتطلب قط عملا خياليا أو غير تقليدي، وليس من شك في أن هؤلاء الكهان كانوا يعاونون كثيرا على الاحتفاظ بالطرق المستقيمة في الحياة الإغريقية. واختلاف وجهات النظر إزاء الكهان ربما كان - على الأقل في عهد بركليز - شبيها باختلاف وجهات النظر إزاء المعجزات بين المسيحيين المحدثين. وهناك أدلة كافية على أن كثيرا من الإغريق المتعلمين لم يعتقدوا فيهم، ومع ذلك فقد كانوا من غير شك جزءا من الديانة الرسمية.
ومهما يكن من أمر فقد كان الكهان على غير اتفاق مع الأداة الجديدة للعقل البشري التي أسميناها التعليل الموضوعي؛ فكان الكهان في أغلب الأحيان يتدخلون، وكذلك لم يكن من المعقول لإله مشغول أن يهتم بشئون خاصة شخصية كثيرة. ولا غرو إذا كان صاحب العقل المرن من المعجبين المحدثين بالإغريق القدامى لا يرضى عن التوجه إلى الكهان، كما لا يرضى عن أمثلة كثيرة أخرى من الخرافات الغليظة التي شاعت بين هؤلاء القوم - أبناء النور. ولكنه يعزي نفسه - إلى حد ما - بملاحظة الإعلانات الكثيرة عن المنجمين والعرافين في الصحف الأمريكية المحترمة. وهو يلاحظ كذلك - بحق - أن الإغريق كانوا أقرب جدا منا إلى المجتمع البدائي الذي نشئوا عنه. ومن ثم فلم تكن هناك مندوحة - حتى في ثقافتهم العظمى - من بقاء شيء من ذلك النوع من الأعمال التي يربط الأنثروبولوجيون في العهد الحديث بينها وبين الشعوب «البدائية». وهو أخيرا يرى أن الإغريق لم يكونوا من العقليين ذوي العقول الضيقة. ولكنهم قوم يدركون تمام الإدراك عمق الحياة ولغزها، كما يدركون كل ذلك الجانب من الخبرة البشرية، الذي لا يخضع خضوعا واضحا للعقل المدبر. والكهان، والنذور، والضحايا، والمعاملات الشخصية مع آلهة وإلاهات ليسوا نبلاء كل النبل - كل ذلك ليس بعيد الصلة عن الكفاح الأكثر روحانية الذي يقوم به كتاب المسرحية والفلاسفة في عالم يبدو كأنه لم يخلق في الواقع - في إصرار وعناد - لكي يكون الإنسان سعيدا فيه.
والمشكلة هي أن الانطباع الواضح لكل هذا على القارئ الأمريكي العادي هو - على الأرجح - أن الإغريق لم تكن لهم في الواقع ديانة، أو على الأقل لم يكن لديهم ذلك النوع من المشاعر التي نربطها بالدين. وليس من شك في أن هذا الانطباع خاطئ لم يحس الإغريقي إزاء آلهته كما نحس، أو كما نرى أنه يجب علينا أن نحس، إزاء إلهنا، ولكنه أحس إحساسا واضحا أن هذه الآلهة واقعية، وأن لها عليه وعلى بقية الكون سلطانا، وأنه يستطيع بنوع معين من السلوك (أي بأداء الطقوس) أن يستخدم هذا السلطان لمصلحته، ولو أنه، بطبيعة الحال، أهمل هذا السلوك، فهو يخاطر باستخدام هذا السلطان فيما يؤذيه. وليس هذا البتة هو أسمى ما حلق إليه الخيال الديني عند الإنسان، ولكنها كانت ديانة صادقة، وفي الفترة التي كان الناس يعتقدون فيها، كانت تؤدي جانبا من جوانب الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي، والإحساس بالمشاركة في شيء عام، لا بد منه للإبقاء على كل مجتمع بشري، وكانت أشكال طقوسها عديدة، معقدة، تقابل الاهتمامات البشرية كلها، على الأقل على المستوى التقليدي للحياة اليومية.
وإنما يبدو لنا اليوم النقص في هذه الديانة بعد قرون عديدة من التجارب؛ فلم تكن ديانة فيها عزاء كاف. ولعلها كانت تكفي الراضين، والناجحين. ولكنها للخاسرين، وللفاشلين دائما، لا تكاد تقدم شيئا - حتى ولو كان تفسيرا مرضيا لما أصابهم من فشل. إنها لم تعد بالمثوبة في حياة أخرى تعوض الآلام التي يكابدها المرء في هذه الدنيا، وإذا منيت المدن الحكومية بالفشل السياسي والاقتصادي، وإذا ازداد عدد الأفراد الذين يجدون أن الآلهة - على وجه العموم - لم تمنحهم ما في هذه الحياة من أشياء طيبة، الأشياء التي تقيم لها الثقافة العظمى وزنا كبيرا - إذا حدث هذا تحتم على الفرد العادي من الأحياء أن يلتمس في مكان آخر الرضا الذي لم تمده به آلهة الأولمب.
ولم تكن هذه الديانة الرسمية الأولمبية تخلو من جنة واضحة وجحيم واضح فحسب، ولكنها كذلك لم تقدم في الحاضر نوعا من الرضا، يشق وصفه، ولكن ربما كان خير تعبير عنه أن نقول إنه المشاركة في الغبطة الدينية. وشكل من أشكال هذه الغبطة، يكفي لأن نعرف الأمريكان بها تعريفا تقريبيا، هو ذلك النوع من السلوك الذي نربط بينه وبين «حركة الأحياء الإنجيلية»، أو اجتماعات المعسكرات، أو الجماعات الدينية المقدسة. وليست بنا هنا حاجة إلى أن نبحث عن مدى تهذيب هذه الغبطة، أو نبلها، في بعض الديانات. والمهم هنا هو أن نذكر - بقدر ما نستطيع الحكم - أن مثل هذه الغبطة لم يصدر عن الخدمات المدنية الموقرة التي كانت تؤدى تكريما لآثنا، أو عن الألعاب التي كانت تقام تكريما لزيوس: نعم كانت هناك إثارة، وكان هناك شعور لا يختلف كلية عن المشاعر التي نحسها نحن الأمريكيين يوم 4 من يوليو. ولكن لم تكن هناك غبطة دينية معينة، ولم تكن هناك «جلالة».
وأخيرا، بدأت هذه المجموعة من الحكايات عن الآلهة تبدو للكثيرين عبثا من الناحية العلمية، وشيئا يصدم المرء من الناحية الخلقية؛ فقد كان زيوس - على سبيل المثال - يتخذ شكل الإوزة العراقية لكي يتبادل الحب مع ليدا، وهي من النساء الحيات. ومن لقائهما ولد المحاربان التوءمان كاستور وبولكس.
ونحن اليوم نرى أن العمليات البيولوجية التي تنطوي عليها هذه القصة تبدو لبعضنا أمرا غير عادي إلى حد ما. ولكنك حتى لو استطعت أن تقبل قصة ليدا والإوزة باعتبارها معجزة، أو حادثا خارقا للتاريخ الطبيعي، فإنك برغم ذلك تحس - كما أحس سقراط وأفلاطون - أن الغواية والزنا شين لا تليق بالآلهة. وليس بالإمكان أن نزن في هذا التاريخ الذي بلغناه التأثير النسبي لهاتين الطريقتين: العلمية والخلقية، عندما نسبر غور الديانة الأولمبية. وربما كان الرجل المتعلم العادي متأثرا بالطريقتين، ومع ذلك فإن هذا النقد العقلي العام ربما يتغلغل كثيرا بين السكان، حتى في أثينا، عندما حل عام 400ق.م وكان القذف في الدين - أو الشك في الديانة القائمة والتعبير عنه صراحة - أحد المبررات التي من أجلها حكم على سقراط بالموت.
وإذن فإن ما يجده المرء عند نهاية عصر الإغريق الأعظم هو تلك الديانة التقليدية التي وصفناها، مع خلافات كثيرة محلية، وقد استقرت عقيدة عند جمهرة الإغريق. كما يجد المرء - بوجه عام - نوعين من الانحراف عن هذه الديانة التقليدية، أو نوعين من تطورها: النوع الأول هو الفلسفي الذي نعرف عنه الكثير، والثاني هو العاطفي أو الصوفي الذي نعرف عنه قدرا أقل، والذي ربما كان أكثر أهمية.
ونحن نجد منذ العهود القديمة جدا إشارات مبعثرة فيما كتبه الإغريق إلى مراسم الجماعات، أو مذاهبها، التي تدخل في النطاق الواسع جدا للديانة التقليدية. ويبدو أن في هذه المذاهب عناصر عاطفية معينة لا تتوفر في الديانة، أو تتوفر فيها بدرجة طفيفة. والموضوع شديد التعقيد، وقد أجريت فيه مباحث عديدة، وليس بوسعنا هنا إلا أن نذكر أن هذا الضرب من «الألغاز» يرتبط بدميتر، إلهة النمو، وقوى الحياة، أو يرتبط بديونيسس، أو باكس، إله الخمر، أو بأورفيس الموسيقي الأكبر الذي سحر حتى إله العالم السفلي. أما إلى أي حد كانت تقوم هذه المذاهب على الآلهة الأجانب، أو على ثقافة مستوردة من الشرق، وأما إلى أي حد كانت هذه المذاهب بقايا عبادة بدائية جدا، هي عبادة قوى الأرض، وإلى أي حد كانت هذه المذاهب نموا مستقلا في بلاد اليونان المتمدنة، أما هذا وذاك فهو من المسائل التي يختص بها جدل الباحثين. ويبدو أن كل المذاهب كانت تتوافر فيها عناصر لم تتوافر في الديانة الأولمبية، أو اشتقت منها بعد تهذيبها.
وقد وعدت هذه المذاهب خاصة لمعتنقيها نوعا من الخلود الشخصي الحقيقي. وكانت «الأورفية» في الواقع تبشر بمبدأ تناسخ الأرواح. وصاحب هذا المبدأ شيء شديد الشبه بفكرة الخطيئة الأولى، وتطابق الخطيئة مع المادة، أو حياة الحواس، الحياة في هذه الدنيا. وإذا كانت الروح لا تستطيع التخلص من الجسد - طبقا للأورفية - فقد حكم عليها بدورة أبدية من التناسخ، ومن الآلام تبعا لذلك. غير أن المرء إذا أخذ بألغاز الأورفية، فإنه يستطيع بهذا التحول أن ينجو من هذه الدورة، وأن يخلص روحه لحياة أبدية في النعيم، ولسنا نعرف على وجه الدقة أي الطقوس والعبادات يلزم لتحقيق ذلك، وأي نوع من التدريب المتواصل على هذه الأرض - فوق كل شيء - يلزم لأن يجعل هذا الخلاص أكيدا، ويقول الخصوم من النقاد إن الأورفية لم تكن إلا لونا من ألوان السحر، خلوا من الأفكار الخلقية الرفيعة، وأن معتنقها يظفر بالخلاص بترديده عبارات معينة، وبتطهير نفسه بالطقوس، وبدفع المال للكهان. ولكن هذا الضرب من الجدل المعادي للعقائد يظهر دائما في تاريخ كل دين.
ثم إن هذه المذاهب فيها فكرة الإله الذي يموت ويبعث، فيبرهن بذلك للمؤمنين على أن الموت يخدع، وأن خلود الفرد موجود بغض النظر عن ظاهرة الموت والجسم يموت، ولكن الروح تخلد - إذا كنا قد جعلناها جزءا من روح الله. وهذه المطابقة بين روح الإنسان والإله الخالد تتم باعتناق المذهب وتبقى بممارسة الطقوس. ثم إننا لا نعرف على وجه الدقة تفصيلات هذه الحفلات، ربما أحس عبدة «باكس» عندما يبلغون قمة الغبطة الدينية أنهم أصبحوا هم أنفسهم «باكس». وكان المؤمنون يأكلون الوجبات التي أعدت للحفلات، وربما أحس بعضهم وهم يتناولون هذه الوجبات أنهم يأكلون لحم إلههم، فيكتسبون بذلك في بساطة تامة وبطريقة مباشرة قوته الخالدة.
قلنا إن الديانة الأولمبية لا تشجع العبادات، بل ولا تسمح بها، أما مذاهب الألغاز فهي تشجعها وتسمح بها صراحة. بيد أن تفصيل ذلك مضطرب متناقض. ولكن من المؤكد أن معتنقي هذه المذاهب كانوا قادرين على أداء جانب كبير من الحركات المثيرة والتوتر العصبي بالمشاركة في الطقوس؛ فكان المؤمنون المخلصون لباكس يرقصون حتى درجة الجنون. ومع ذلك فإن عبادة باكس ذاتها لم تكن لمجرد إلهاب الأعماق الدنيا من الطبيعة البشرية. وإذا أخذنا بكلية الكاتب المسرحي يوربيديز - الذي لم يكن بالتأكيد من معتنقي أي مذهب من المذاهب، والذي ربما كان عنده تشكك العقليين في الغبطة الدينية - فإن أولئك الذين كانوا يسعون إلى باكس إنما كانوا يلتمسون الطمأنينة التي تلتمسها كل الديانات العليا. وفي نشيد مشهور في مسرحية «الباكيون»
The Bacchae
تغني بعض العذارى هذه الكلمات:
آه لو عدت إلى تلك الرقصات الطوال،
فأنفقت فيها ظلام الليل حتى تخبو النجوم!
آه لو أحسست بالندى في حلقي،
وبنسمة الصباح تداعب شعري،
وظهر بياض قدمي في الفلاة المظلمة!
أيها الظبي الفار إلى الحقول الخضر
وحيدا وسط الأعشاب والجمال،
أيها الصيد،
اقفز إلى الأمام بغير وجل،
وتخط الشباك والمطاردة القاتلة.
إن في الأفق البعيد صوتا يسمع،
هناك صوت، وهناك خوف، وهناك كلاب مسرعة،
وعمل شاق، وعدو وحشي
صوب النهر والوادي ...
أيتها الأقدام المسرعة،
أمن سرور أم من فزع تسرعين؟
إن الأشياء الصغيرة تعيش مختفية في الغابة،
حيث الأرض العزيزة الموحشة،
التي لا يزعجها إنسان،
حيث لا تتردد الأصوات
وسط الخضرة الوارفة الظليلة،
ماذا تكون الحكمة غير ذلك؟
ولأي شيء غير هذا يبذل الإنسان جهده،
أو يهبنا الله نعمته الكبرى، بعظمتها وجمالها؟
أي شيء بعد التحرر من الخوف،
وتنفس الصعداء والترقب؟
وأي شيء بعد أن يرفع المرء يده فوق الأحقاد؟
عندئذ نحب الجمال إلى الأبد.
وما كان أشد شيوع هذه الديانات التي تدعو إلى الغبطة! ولعلها كانت ديانة رجل الشارع. وهل كانت ديانة أولمب - شبيهة بما أسميناه الثقافة العظمى - جزءا من واقعها فقط من حياة أقلية، أرستقراطية، حتى في أثينا؟ إننا لا نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة ونحن واثقون. وإنما الراجح أن مذاهب الألغاز هذه لم تكن في أي فترة من فترات عهد الإغريق الأعظم ديانة غالبية الإغريق في الواقع، إن ما نعلمه عن الأورفية، ومذهب ديونيسس، وحتى الألغاز الأشد تمسكا بالعرف التي تنسب إلى دميتر في الوزيا القريبة من أثينا، إنما حققناه من ضم أشتات، ومراجع متناثرة، ونتف من المعرفة مبعثرة هنا وهناك، ومن الحق أن هذه المذاهب كانت سرية، وأن الحقائق التي تتعلق بطقوسها لم تنشر في حينها. ومن الحق أن هذه المذاهب كانت تخرج عن نطاق التقاليد المهيبة للثقافة العظمى، وأن الكتاب في هذه الثقافة كانوا عادة من خصوم هذه المذاهب، أو ممن لا يكترثون بها. ومن الحق أننا لا نملك على أحسن تقدير إلا سجلات متقطعة من الثقافة اليونانية، وأننا لا نملك شيئا يشبه البتة أن يكون حصرا للمذاهب الدينية، بيد أن الظاهر - برغم ذلك - أن مذاهب الألغاز كانت على هامش صميم الحياة الإغريقية في العهد الأعظم، وأنها «لم تكن» عقيدة رجل الشارع. وهي أشبه، من الناحية الكمية وبالقياس إلى تيار الثقافة الإغريقية الرئيسي، بجماعة «العبادة المقدسة» و«شهود يهوه» منها بطائفة المعمدان أو النظاميين، أو بالأحرى منها بالكاثوليك.
وأما ثورة الفلاسفة ورجال الأدب على الديانة الأولمبية فنحن نعلم عنها الكثير؛ إذ إن لدينا رسائل بأكملها، لا مجرد شذرات من المعرفة. وفي هذا الكتاب رأينا من قبل أن في أعمال سقراط مثالا من الطريقة التي كان الفلاسفة يسلكونها لتفسير الكون بصورة أقرب إلى العقل من أسلوب الحكايات القديمة، وكيف كانوا يسعون إلى مستويات من السلوك أفضل من التي كانت هذه الحكايات تدعو إليها، وكان بعضهم يقف عند حد الرضا بالمعقولية، وقبول هذه الدنيا التي تميزها معايير الوسط الذهبي من الناحية الخلقية والجمالية. ولم يكن بعضهم الآخر - وبخاصة أفلاطون - على هذه الدرجة من الرضا. إنما كانوا يريدون عالما أفضل - أو عالما آخر. وأخذ الفلاسفة بالتدرج يؤثرون في الألغاز، ويمدونها بأصول دينية مهذبة - أصول دينية كتب لها أن تكون ذات أثر بالغ في الأصول الدينية المسيحية، كما حدث مثلا في فكرة الإله الذي يموت ثم يولد من جديد التي ذكرناها من قبل.
وأكثر الأثينيين المثقفين في أواخر القرن الخامس تجاوزوا كثيرا المعتقدات والطقوس التقليدية التي تتصل بالديانة الأولمبية، ولكنهم لم يبلغوا في ذلك مبلغ سقراط أو أفلاطون. ومهما يكن من شيء فإن عبادة آثنا كانت مشاركة في أثينا المتفائلة الناشطة في أيامها العظمى. وقد نشأ هؤلاء الأثينيون المثقفون على قصص هومر. ولما شهدوا هذه القصص وغيرها مترجمة إلى مسرحيات تأثروا، على الأقل كما تأثر الناس في عهد إليزابث بمسرحيات شيكسبير التاريخية.
وقد ارتفعت هذه الحكايات التي عالجها كتاب المسرحية - حتى أكثرها توحشا بدائيا، الذي يعج بجرائم القتل والانتقام العنيف - إلى مستوى الجدل في مصير الإنسان. وكانت مآسي يسكلس، وسوفوكليز، ويوربيديز عبارة عن مناقشات رفيعة، شعرية، محسوسة، لذلك الضرب من الأسئلة الذي كان يقض مضاجع الفلاسفة. ما هو العدل؟ وما هي الفضيلة؟ وهل العالم الذي نعيش فيه مكان عادل؟ وهل الإنسان حر في اختيار الحق والباطل؟ وكيف يستطيع المرء أن يميز بين الحق والباطل؟ إن كتاب المسرحية لم يقدموا جميعا نفس الإجابات. وحتى الثلاثة الذين نملك مسرحياتهم كانوا ذوي أمزجة مختلفة.
ولا نكون - برغم هذا - بعيدين عن الإنصاف إذا قلنا إن هذه المآسي تشترك في قواعد خلقية تعلو كثيرا على المستوى الذي ينعكس في الميراث الحقيقي للأساطير اليونانية، وأنها تقف موقف القبول في إباء وشجاعة لهذه الدنيا الصارمة التي لا تفترق عن الدنيوية الأكثر تفاؤلا التي عرضناها عرضا موجزا عند دراستنا للثقافة العظمى. المأساة في أتيكا لا تقوم على حكم العقل، ولا تتجاهل أعماق المشاعر الإنسانية، ولا يغيب عنها كثير من الألغاز. ولكنها بالتأكيد لا تفرق تفرقة واضحة بين عالم الحواس هذا وبين عالم آخر من الحقيقة الإلهية كذلك الذي رسمه أفلاطون أو المسيحية. إن هذا الكون عند هؤلاء الأثينيين المثقفين لم يخلق قط لسعادة الإنسان الميسرة. وكثيرا ما يعاني الناس بسبب أعمالهم الطيبة، وليس بسبب ما يقترفون من آثام فحسب. وليست الآلهة - إن كان هناك آلهة - تلك الصور المعظمة البريئة للإنسان، كما كانت تصور في الحكايات القديمة على ما يبدو؛ فالآلهة أيضا تخضع للقدر، وللحاجة، ولتلك الارتباطات الغامضة التي لا مفر منها التي تربط الناس أجمعين. والناس يحملون مصيرهم في ثنايا شخصياتهم، التي لم يخلقوها كلها لأنفسهم؛ لأنهم يحملون عبء الميراث الثقيل، وهو ميراث اجتماعي وبدني. غير أن الناس يستطيعون - مع ذلك - أن يواجهوا هذا المصير، وهذه الحاجة، بشجاعة وإباء، ويفوزون من المعركة بالشرف، بل وبنوع من الطمأنينة. إن الحياة الطيبة ليست حياة سهلة، وليست حياة رخيصة، وليست دائما حياة ناجحة بمعنى النجاح الشائع. ولا بد من قضائها هنا فوق هذه الأرض إن كان لا بد أن تقضى، ولكنها حياة ممكنة.
ولم يكتف أفلاطون، ولم يكتف كثيرون غيره من الإغريق المتعلمين، بهذا القبول الصارم للدنيا. والواقع أن أفلاطون استمد شيئا من جماعة منظمة تسمى الفيثاغوريين، وهي جماعة تكون حلقة بين مذاهب الألغاز الشائعة وعمل الفلاسفة. كان الفيثاغوريون نوعا من أصحاب المذاهب المتحذلقين استمدوا اسمهم من زعيمهم ومؤسس طائفتهم الفيلسوف الرياضي فيثاغورس، الذي أشرنا من قبل إلى نظرياته في المثلثات ذات الزوايا القائمة. كانوا يقولون بتناسخ الأرواح، وكثير غير ذلك من الآراء الأورفية أو الشرقية في منشئها. وكانوا يخلطون رياضياتهم (وهي رياضيات متقدمة ممتازة بالنسبة إلى عصرها) بالإيمان الصوفي، الطرق الصوفية، بطريقة ربما كانت شبيهة بالطريقة التي يمزج بها بعض الفلكيين المحدثين علمهم ببحثهم الصوفي عن الإله الذي لا يحد. وإحساسهم الأساسي بأن العلم لا يكشف عن عالم آلي، منته، أوتوماتيكي (وهو عالم يشبه عالم الفيزياء المتوسط في القرن التاسع عشر)، وأن العلم إنما يكشف عن عالم غامض يدعو إلى مغامرة الفكر، هذا الإحساس يتفق تمام الاتفاق وموقف كثير من علمائنا المعاصرين. لقد كانوا محترمين من الناحية العقلية قطعا، وربما أخذ أفلاطون عنهم الكثير.
ويأتي أفلاطون في النهاية بمعايير خلقية هي - وإن لم تنكر الجسم كل الإنكار، وتنبذه نبذا كاملا، وتحاول أن تعذبه - على الأقل متطرفة في تعلقها بالعالم الآخر. إن الشهوة - وحتى الشهوة المعتدلة - ليست عند أفلاطون شيئا مستحبا. إن كثرة الناس تتمرغ في حمأة الحواس، ولكن القلة المفتداة قد ترى النور، وتعيش عيشة طاهرة، وتحيا حياة الفكر والمثل الأعلى. الجسم يفنى ، ولكن الفكرة - أو الروح - خالدة. وربما اعتنق أفلاطون في وقت من الأوقات صورة من صور المذهب الفيثاغوري الذي يقول بتناسخ الأرواح، ولكنه ينتهي آخر الأمر إلى مثال خالص فريد، ويكاد في الواقع يكون مسيحيا ومن المتطهرين. إلهه واحد، أبدي، كامل، حقيقي، غير محدود. والروح البشرية تستطيع - بل يتحتم عليها - أن تتطلع إلى الاتحاد مع هذه الألوهية، ولكن بغير طريق الطقوس، أو السحر، أو أي عمل دنيوي. لا بد للروح أن تطهر نفسها من الجسم المادي بازدرائها الأشياء التي يحتاج إليها الجسم ولسنا نعرف هل كان أفلاطون نفسه زاهدا؟ وفي كثير من محاوراته - كمحاورة فيلبس على سبيل المثال - يقترب من الفكرة الإغريقية التقليدية عن متعة الجسد، وهو لم يشر قط إلى تحرير الروح بالانتحار، وإن يكن في لحظاته الثائرة يسوي بين الجسم، والمادة، والشر. إن الخلاص يتوقف على حياة مادية إلى أدنى حد مستطاع، روحانية إلى أقصى حد ممكن. والواقع أن هذا تعبير عام - بل ومضلل في عين أتباع أفلاطون - عما يصوغه أفلاطون في ألفاظ بلغت غاية الجمال. ولكنه يبين لنا إلى أي حد ابتعد أفلاطون، لا عن رجل الشارع فحسب، بل عن التقاليد والمثل في الثقافة العظمى. وتدل هذه الأفكار على أقل تقدير على أن كثيرا من الناس لم يعد يجد هذه الدنيا مكانا طيبا مثيرا، جذابا، كما وجده قطعا بركليز، وكما وجده رجال الفن ورجال الأدب في العصر الأعظم.
أزمة القرن الرابع
تحولت الثقافة التي سبق شرحها تحولا كبيرا في القرن الذي يقع بين بداية حرب البلوبونيز في عام 431ق.م وانتصار الملك فيليب المقدوني على المدن الحكومية اليونانية في عام 338ق.م، ولم تعد المدينة الحكومية - التي نشأت فيها هذه الثقافة كما نشأت ثقافتنا في الحكومة القومية - مستقلة استقلالا حقيقيا. وبالرغم من أن كل المدن الحكومية قد احتفظت بكثير من مظاهر حكمها المحلي ومن الأشكال القديمة، إلا أنها وقعت تحت السيطرة النهائية للمقدونيين أولا، وللرومان فيما بعد، واندمجت في نوع جديد من الدولة سوف نتعرض له بالدرس في الفصل التالي. وبنهاية استقلال هذه المدن اختفى من ثقافتها شيء ما، ولم يسترد الإغريق قط بعد القرن الرابع الأصالة، ووحدة القوة مع الرقي، والانتشار والتنوع، الذي اتصف به ما أسميناه الثقافة العظمى. وأطلق المؤرخون لفظة «الهلينستية» عنوانا للثقافة التي سادت في القرون الثلاثة الأخيرة قبل ميلاد المسيح، تمييزا لها عن الثقافة «الهلينية» أو الإغريقية. وارتبط هذا الاصطلاح (الهلينستية) دائما بالدلالة على الحذلقة، والأكاديمية، والتقليد، والمهارات الفنية، دون عمق أو إلهام.
ويجب أن نقف هنا لحظة أخرى عند إحدى صعوبات تاريخ الفكر، وهي صعوبة التقينا بها من قبل، وتلك هي مشكلة الحياة والموت، أو الازدهار والتدهور، في ثقافة من الثقافات. وإن احتفاظ مجتمعنا الغربي بدوام البقاء ليدل على معنى من المعاني. وكانت المدن بين الحين والحين تتحول إلى دمار شامل بحيث لا يبقى فيها ساكن واحد، كما حدث في مدينة بلميرا الصحراوية. ولم يبق من أثينا ذاتها في عام 1600م سوى منازل قليلة متناثرة بين أطلال أكروبوليس، وإن تكن اليوم - بالرغم من الحروب والاضطراب المدني - تحوي سكانا أكثر مما حوت في عهد بركليز. أما روما فلم تتدهور قط إلى المستوى الذي انحدرت إليه أثينا. ومن الواضح أن حياة الاستمرار في الأجيال لم تنقطع قط كلية. كما أنه لم يوجد من الأجيال ما عاش بغير اضطراب مدني، أو شغب، أو قلقلة اقتصادية، أو شكاوى فردية.
ونستطيع أن نقول - برغم هذا - كمثال محسوس، إن أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ومنتصفه كانت نقطة مرتفعة في بلاد اليونان، كانت من أوقات الأعمال الثقافية العظمى، ومن أوقات الاستقرار والأمن النسبي، كانت وقتا سعيدا. ونستطيع أن نقول إن القرن الذي تلا نشوب حرب بلوبونيز كان عهد تدهور، وقلاقل، واضطراب في الأمن، كان وقتا تحمل فيه حتى الأعمال الثقافية العظمى طابع النضال، أو قل كان وقتا غير سعيد. وبالرغم من أن أمثال هذه المقارنات لا تكون دقيقة إطلاقا، ولا تعدو أن تكون مجرد إشارة من الإشارات، إلا أن القرن التاسع عشر قد يبدو في لوحة التاريخ نقطة مرتفعة في الأمن والثقافة، كما يبدو القرن العشرون عهد اضطراب وقلاقل.
ومن ثم فقد كانت حرب بلوبونيز نقطة تحول. نعم كان هناك إغريق سعداء بعد هذه الحرب، وكان هناك إغريق تعساء قبلها، كما كان هناك كتاب وفنانون عظام بعد الحرب، إلا أن شيئا قد اختفى من الحياة اليونانية، وهو ذلك الشيء الذي تظهر حقيقته في أحسن صورها في خطاب الذكرى لبركليز. ولقد فشل الإغريق في مقابلة الأزمة التي اعترضتهم في عام 431ق.م بنجاح.
وقد كانت تلك الأزمة في غاية التعقيد. ولم تكن قط روحية فقط أو فكرية فقط. وأحس بها - بطبيعة الحال - الناس ككل حي في خبرة حياتهم. وإذا اردنا لأغراض التحلل أن نفتتها إلى عناصر سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وفكرية، فإننا نفتت كلا كما يفتت الكيماوي - من بعض الوجوه - الماء إلى هيدروجين وأكسيجين. فليس الماء وحده وليست حرب بلوبونيز وحدها، وليس نضال الطبقات المرير وحده في ذلك الحين، وليس انهيار المدينة الحكومية، وليس انحلال القيود الخلقية القديمة وحده، ليس هذا ولا ذاك وحده هو أزمة الثقافة الإغريقية.
واتخذت الأزمة «السياسية» بشكل ظاهر، صورة تماثل بدرجة مذهلة صورتها في يومنا هذا، لم تستطع في الواقع المدن الحكومية ذات السيادة أن تعيش مستقلة بعضها عن بعض كالقوالب العديدة في الفسيفساء، أو البقع الملونة في المصور الجغرافي. غير أن تبادل العلاقات المستمر بينها كان ينتهي دائما بالحروب. وأخذت هذه الحروب تشتد وتطول تدريجا، حتى اقتربت من موقف يجعل المدن المتحدة الظافرة في مثل الإنهاك الذي تكابده المدن المهزومة. وقد كانت هذه المدن الحكومية اليونانية في وقت من الأوقات - في التسعينيات والثمانينيات من القرن الرابع - قد اتحدت، مع قليل من الفتور لا يعدو تلك الخلافات العادية بين الحلفاء، لكي تهزم تلك القوة الأجنبية، الآسيوية، الفارسية العظمى. ومن الارتفاع الذي حدث من هذا الانتصار على الفرس يبدأ تاريخ بلوغ القمة في الحركة الصاعدة في الثقافة التي درسناها. فنمت أثينا خاصة في ثروتها وقوتها، وشرعت تبني المدن الحكومية في المساحة الإيجية على غرار النظام الأثيني، فكانت في أول الأمر اتحادا دفاعيا ضد الخطر الماثل دائما - خطر عودة الفرس - ثم تقاربت إلى ما نسميه منطقة نفوذ، وانتهت إلى إمبراطورية أثينية. وهذا التهديد للنظام القديم؛ نظام المدن الحكومية المستقلة استقلالا تاما، التي لم ترتبط إلا بأنواع من التحالف المتغير، هذا التهديد هو الذي جر إسبرطة إلى الحرب لكي تحتفظ باستقلال اليونان.
ولم تكف المدن الحكومية اليونانية عن التقاتل فيما بينها، وقد أخذ هذا التقاتل يشتد حتى بات من المؤكد أن سلطة خارجية، إن عاجلا أو آجلا، سلطة غير إغريقية، لا بد أن يستهويها التدخل وتغزو الإغريق جميعا. ولم تكن الإمبراطورية الأثينية قط جهدا مقصودا لتجاوز نظام المدينة الحكومية، إنما كانت امتصاصا عن طريق الغزو، لم تحاول فيه إلا قليلا أن تكتسب الولاء الفعال للبلدان الممتصة. وهذه المدن الحكومية التي امتصتها أثينا انتهزت جميعا في الحرب البلوبونيزية فرصة انتصارات إسبرطة لكي تتخلى عن أثينا وتؤكد «استقلالها». ولم تكن إسبرطة أو طيبة - بعد هزيمة أثينا - أكثر نجاحا في توحيد العالم الإغريقي.
وإذا أنت استبدلت «الحكومة القومية في القرن العشرين» ب «حكومة المدينة في القرن الخامس»، وجدت موقفا يشابه موقفنا من بعض الوجوه في جلاء ووضوح. ليس من المحتمل أن تحتمل الحكومات القومية ذات السيادة في عهدنا التكاليف المادية والروحية لحروب كالحربين الأخيرتين. وكذلك ليس من المحتمل أنها تستطيع أن تتحاشى الخوض في هذه الحروب، ما دامت ترغب في الإبقاء على سيادتها. والمشكلة التي تدعو إلى السلام (كمسرحية لسستراتا الممتعة على سبيل المثال) واضحة اليوم في أعين الكثيرين منا، بيد أنها ربما لم تكن في مثل هذا الوضوح للإغريق القدامى، وليس عليك إلا أن تقرأ مسرحيات أرستوفان في بداية القلاقل - أو نهاية الجدل العظيم بين ديموستنيس وخصومه بشأن تدخل مقدونيا في السياسة الإغريقية؛ لكي تتحقق من أن الإغريق أحسوا طبيعة الأزمة.
وفي عهد متأخر جدا، في القرن الثالث، حاولوا أن يضموا المدن الحكومية طوعا في وحدة فدرالية حقيقية، كما انضمت المستعمرات الأمريكية الثلاث عشرة فيما بين 1787م و1789م. ولكن بالرغم من أن اتحاد إيجة واتحاد إيتوليا كان كلاهما تجربة شائقة في تجاوز المدينة الحكومية ذات السيادة، فإن نجاحهما كان جزئيا، ولم يحدث إلا في عهد متأخر جدا. وفي هذا الوقت كان أعظم الدول الاستعمارية في تاريخنا الغربي، وأقصد روما، على استعداد لأن تحل محل مقدونيا المستضعفة.
وإذن فلم يكن هناك في ذلك الحين تخطيط واضح لقيام حكومة عليا، أو حركة قوية أو محاولة مقصودة لتجاوز الشكل السياسي الذي يسبب المتاعب، كما يحدث اليوم. ويبدو أن صاحبي النظريات السياسية العظيمين في وقت القلاقل هذا - وأعني بهما أفلاطون وأرسطو - كانا لا يبصران أوجه النقص في المدينة الحكومية. والظاهر أن كليهما افترض أن الإغريق يمكن أن يعيشوا على الدوام في المدينة الحكومية في عهد الثقافة العظمى، أو في صورة معدلة لهذه المدينة الحكومية. ونستطيع أن نقول إن الإغريق دخلوا «العالم القديم» الذي مهد لهم دون أن يدركوا تمام الإدراك ما هم فاعلون. ونستطيع في الوقت عينه أن نقول - ونحن مطمئنون - إن شر الحروب المستمرة في الأعوام المائة التي سادت فيها القلاقل التي تهمنا، كان أحد العوامل الرئيسية في اضطراب عقول الناس.
وكانت الحروب إلى حد ما من أجل الثروة، وكذلك من أجل النفوذ والكرامة، حروب لفرض الجزية على المهزوم، وللحصول على الاحتكارات التجارية، بل وربما للحصول على العيش والمجال الحيوي لمقابلة ازدياد السكان الذي يؤثر في مستوى المعيشة - وإن يكن التثبت من ذلك غير ممكن بسبب عدم وجود أرقام إحصائية. ومما لا شك فيه أن أثينا - باعتمادها على التجارة الخارجية لتوفير الطعام لكثرة سكانها - كانت في موقف يجعل الدوافع الاقتصادية من العوامل الهامة في شن الحروب. ونحن نعلم أن المدن الحكومية كانت آخذة في الثراء وازدياد السكان على وجه العموم لعدة قرون. وهذا النمو أدى - وبخاصة في المدن التجارية العظمى مثل أثينا وكورنث - إلى نمو طبقة تجارية من أصحاب الأموال. وكان ذلك سببا في اقتلاع الفلاحين من الأرض، وقذفهم إلى الحياة المدنية بما فيها من قلق وإثارة. وانتهى الأمر - وبخاصة في أثينا - إلى مجتمع متنوع، يحتك فيه الأغنياء بالطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة، مجتمع يستطيع فيه حتى العبد الذي يقوم على مشروع ناجح أن يكسب المال، مجتمع يقوم على أسس الطبقات، ولكن في غير صرامة - أو مجتمع شبيه بمجتمعنا في كثير من وجوهه. وكان هناك في أوقات الرفاهية ما يكفي جميع الطبقات، وكان هناك أمل في حالة أفضل. ولم يكن هذا المجتمع المختلط عرضة للإجهاد الشديد. ولكن بتوالي الحروب، وبتراكم أسباب النقص، وباشتداد التوتر، أضيف نضال الطبقات إلى الحرب الفاشية بين المدن الحكومية، والصراع بين الأغنياء والفقراء، بين الأرستقراطية والديمقراطية، بين اليمين واليسار، تحول في النهاية إلى نضال بين أثينا وإسبرطة؛ لأن الحزب الديمقراطي أو الشعبي في كل مدينة من المدن - عندما اشتدت أزمة الحرب - انضم إلى جانب أثينا، وانضم حزب الأوليجاركية أو الأرستقراط إلى إسبرطة.
وقد عبر ثيوسيديد تعبيرا بسيطا عن نتيجة ذلك كله، عندما كتب عن نشوب أول حرب طبقية في إطار حرب بلوبونيز، التي وقعت في كوركيرا على الساحل الغربي لبلاد اليونان. قال: «وهكذا نشبت الحرب الأهلية في المدن، وابتدع الثائرون المتأخرون - ونصب أعينهم أمثلة سابقة - أفكارا جديدة، تجاوزت كثيرا الآراء القديمة، وكانت مشروعاتهم محكمة، وطرق انتقامهم طريفة. وتغيرت المعاني العادية للكلمات وفسرت الألفاظ بمدلولات جديدة. واعتبر التهور في استهتار شجاعة عند المحارب المخلص، وبات التردد المتسم ببعد النظر مسوغا للجبن، والاعتدال حجة في ضعف الشهامة، وأمست القدرة على رؤية جوانب الموضوع عجزا كاملا عن العمل. وعد الاندفاع التلقائي علامة الرجولة، والحذر من المؤامرة مسوغا ظاهرا للتهرب من العمل. يثق الناس دائما بأسلوب العنف، ويشكون في معارضيه. والنجاح في التآمر ذكاء، وأشد منه ذكاء أن تبتكر المؤامرة. أما إذا أنت ابتكرت سياسة تجعل مثل هذا النجاح في المؤامرة أو هذا التشكك أمرا لا حاجة بأحد إليه، فأنت خارج على حزبك، تبدي الخوف لخصومك.»
وقد يبدو هذا الوصف العام لبعض العقول كلاما مجردا أو غير واقعي. ولكن دعنا نسمح لثيوسيديد بالاستمرار في أسلوب الرواية المحسوس، الشائع بين المؤرخين. فر بعض أهل كورسيريا من حزب الأرستقراط إلى حصن جبلي، وأسلسوا القيادة مطمئنين لأهل أثينا. وبحيلة غير شريفة استطاع أهل كورسيريا من الديمقراطيين - بموافقة سلبية على الأقل من جانب حلفائهم الأثينيين - أن يخرجوا من تحت الحراسة بعض الأفراد، ويغتالوهم. يقول ثيوسيديد: «بهذه الطريقة أخرج ستون رجلا وقتلوا دون علم أصدقائهم المقيمين في نفس المبنى، الذين ظنوا أنهم إنما ينقلون من سجن إلى آخر. وأخيرا فتح أحد الناس أعينهم للحقيقة، وعلى أثر ذلك دعوا الأثينيين ليقتلوهم - إن شاءوا - ورفضوا أن يتركوا المبنى، وقالوا إنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لكي يمنعوا تسلل أي امرئ إلى الداخل. ولما كان أهل كورسيريا راغبين عن اقتحام الأبواب، فقد تسلقوا المبنى، واخترقوا السقف، وألقوا الأحجار التي اقتلعوها جانبا، ثم سددوا نحوهم السهام، التي اتقاها المسجونون قدر المستطاع. وقد انتحر أكثرهم، وحزوا رقابهم بأنفسهم بنفس السهام التي صوبها العدو نحوهم، أو شنقوا أنفسهم بالحبال التي خلعوها من بعض الأسرة التي كانت بالمكان، وبأشرطة صنعوها من ملابسهم واتخذوا - في إيجاز - كل وسيلة ممكنة لقتل أنفسهم، كما وقعوا كذلك فرائس للقذائف التي رماهم بها خصومهم من السقف. وبينما كانت هذه الأهوال تشتد فزعا حل المساء، وانقضى الجانب الأكبر منه قبل أن تنتهي المعركة. ولما بزغ النهار ألقى أهل كورسيريا الجثث أكواما في العربات ونقلوها خارج المدينة. وبيعت كل النساء - اللاتي كن في الحصن أسيرات - إماء. وبهذه الطريقة قضت العامة على أهل كورسيريا المتحصنين في الجبل. وهكذا انتهت الحرب الطبقية بعد أعمال بالغة العنف، انتهت على الأقل فيما يتعلق بالفترة التي اشتعلت فيها؛ إذ لم يبق في الواقع أحد من حزب واحد من الأحزاب.»
وامتزجت الصعاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقل اليوناني وكونت أزمة القرن الرابع. وتبدو هذه الأزمة - من الناحية العقلية - ثورة على العقائد القديمة، والأخلاق القديمة في المدينة الحكومية، وأساليب «الرجال الذين خاضوا معركة ماراتون». وهي تبدو في أعمال رجال مختلفين كأرستوفان، الذي ود لو فر من الموقف بالعودة إلى الأيام القديمة الطيبة، وأفلاطون الذي ود لو فر إلى المستقبل في مدينة فاضلة. وهي تبدو في بحث سقراط عن الروح، وفي سخرية السفسطائيين الثابتة. ثم إن لها طابعا حديثا جدا. ويستطيع المرء أن يتصور أن علماء التحليل النفساني كان من الممكن أن يلقوا عند الناس قبولا خلال هذه الفترة العصيبة في حياة الإغريق.
إن الأرستقراطي من كورسيريا الذي نجا بمعجزة من الفتك الذي وصفه ثيوسيديد لا يستطيع أن يجد العزاء لفقده كل شيء وكل عزيز لديه بتفكيره في الحياة الطيبة التي تسير وفقا للوسط الذهبي «ولا تبالغ في شيء»، وقد مر بالفعل بموقف فيه كثير من المبالغة. وما حدث في كورسيريا كان يحدث في كل أنحاء العالم الإغريقي. وربما احتفظت قلة من الطبقات المثقفة، ذات عزم وتصميم، بالمعايير الخلقية والجمالية للثقافة العظمى. ولكن حتى هؤلاء كان لا بد لهم من موقف صلب ومن تجميد أسلوب حياتهم في النظام الرواقي المتشائم الواعي بنفسه.
أو خذ صبيا عاديا من الطبقة الوسطى في أثينا؛ صبيا محدود القدرة فيما يتعلق بالألفاظ، واعرض عليه دقائق سقراط، وتبادل الأفكار تبادلا حيا؛ ذلك التبادل الذي نعلم أنه كان شائعا في أثينا في ذلك الحين، ليس من شك في أن مثل هذا الصبي سوف ينتهي إلى أن الحكايات القديمة عن الآلهة التي تعلمها في حداثته ليست صادقة. وليس من المحتمل أن يساير سقراط أو أفلاطون حتى يرتفع إلى وحدانية خلقية رفيعة، بل الأرجح أن ينتهي إلى الاضطراب والشك، أو إلى نوع من السخرية الرخيصة لسنا نجهلها في جيلنا هذا. ومهما يكن من أمر، فهو ليس بالرجل الذي يصلح للقيام بما يفرضه عليه نظام الحكم والثقافة في أثينا.
واذا أنت ضاعفت من مثل هذه الحالات، وأضفت إليها كثيرا، من اللاجئين، والمحاربين العاجزين، وأولئك الذين فقدوا أملاكهم أو تجارتهم، من الظافرين والمهزومين على السواء. إذا أنت فعلت ذلك كانت لديك المادة البشرية التي كان السخط العقلي في ذلك الحين يفعل فيها فعله. وينبغي هنا أيضا أن نتجنب المبالغة. كم من إغريقي في وقت الأزمة احتفظ بإيمانه بالآلهة، وبالمدينة الحكومية، وبأسلوب العيش الذي تعلمه من هومر، ومن أبويه، ومن الناس الذين خالطهم في السوق وقاعة المجلس والجيش . إن أساليب العيش، والمعتقدات، والعادات، قلما تموت موتا كاملا فوق هذه الأرض. ولكن المتاعب الجديدة قد أخلت بالتوازن بين القديم والحديث، واقتلعت الكوارث من الأساليب القديمة لبها. وأحس المبتكرون والأذكياء خاصة بأنهم مسوقون إلى نبذ القديم، كما أحس كثير من الفرنسيين بعد الهزيمة في عام 1940م أنهم مسوقون إلى نبذ الجمهورية الثالثة.
وبالنسبة إلى المتعلمين كانت الأزمة - إذا صورناها في شيء من التجريد - هي الانحلال النسبي في الروابط التي كانت تصل بعضهم ببعض في المدينة الحكومية، والاتساع النسبي في المجالات التي بات حتما عليهم أن يتصرفوا فيها بأنفسهم، وذلك هو النظام المعروف في الحياة الإغريقية الذي تحطم من أثر الفردية المتزايدة. والأفراد إذا تركوا وشأنهم يسلكون مسالك مختلفة، وإن تكن أهدافهم عالمية - كالثراء، والمتعة، والسلطان، وكل ذلك بروح المنافسة القوية التي كان يتميز بها الإغريق دائما، وهذه المنافسة المهلكة كانت محتملة من القلة الناجحة، بل وكانوا يرحبون بها. وأما للفاشلين فقد جعلت الحياة شيئا لا يكاد يحتمل.
ولم تنج الجماهير الغفيرة من هذه الأزمة؛ فقد حملوا عبء الكوارث التي حاقت بهم في أوقات الضيق. ولم تمدهم الديانة التقليدية في المدينة الحكومية - كما رأينا - إلا بجانب يسير من العزاء عن شرور هذه الحياة، وأمل ضعيف في حياة أخرى. والراجح أنهم لم يجابهوا المشكلات الفكرية المعقدة التي جابهتها الطبقة العليا، غير أن مجرد شيوع الحرب الطبقية ليدل على أنهم فقدوا الثقة بالطبقات الحاكمة.
ولنلخص الموضوع في إيجاز، وفي صورة محسوسة بالنسبة إلى المدينة الواحدة: كانت آثنا - إلهة أثينا - بالنسبة إلى الأثينيين كالكنيسة والدولة «معا» بالنسبة إلينا. كانت آثنا بمثابة واشنطن، ولنكولن، والقوة السماوية التي تتحكم في حياتنا، في آن واحد. ولكن آثنا أخفقت في الأمرين معا لما حل عام 400 قبل الميلاد؛ فهي لم تمنع عن مدينتها الهزيمة، ولم تبق على أثينا مدينة رزينة يصدر عنها النور. ومن المؤكد أن كلمات بركليز لم تعد تصدق عليها في هزيمتها، وذلك حينما قال: «ليست هناك في الوقت الحاضر مدينة غيرها تقابل محنتها بعظمة لم يحلم بها إنسان، وليست هناك مدينة غيرها بلغت من القوة ما يجعل الغازي لا يحس بالمرارة لما يكابد على يديها، وما يجعل رعيتها لا تشعر بالعار من اعتمادها على غيرها».
لم تعد آثنا كافية، ولم يعد الاعتدال، والتوسط، والوقار، وتربية الشهوات الطبيعية وإشباعها بالعقل والحكمة، و«الابتعاد عن التطرف»، وكل قائمة الفضائل الأبولية - لم يعد كل ذلك يكفي، بل ولم يعد ممكنا في هذه السنوات القلاقل الأخيرة. ولا بد للناس من البحث عن الهداية في مكان آخر - مكان بعيد جدا في نهاية الأمر - لا بد من التطلع إلى جزء من الأرض المعرفة به ضئيلة، وهو جزء مما كان يعرف عند الإغريق دائما بالشرق المتبربر - لا بد من التطلع إلى الأرض التي اغتصبت من فلسطين والتي يطلق عليها اليوم مرة أخرى اسم «إسرائيل المزعومة».
الفصل الرابع
عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة
كان القرن الرابع قبل الميلاد، قرن أفلاطون وأرسطو، هو آخر القرون التي كانت فيها المدينة الحكومية الإغريقية مستقلة حقا، تلك المدينة التي بنيت عليها الثقافة التي قدمنا دراستها. وقد نشأت في القرون الثلاثة التالية على وجه التقريب وحدات سياسية أكبر كثيرا من عالم البحر المتوسط. وكانت هذه الوحدات هي «الدول المتعاقبة» بعد إمبراطورية الإسكندر الأكبر الزائلة، وهي: مقدونيا، ومصر، وسوريا ودول أخرى أقل منها شأنا في آسيا الصغرى. وفي الغرب روما وقرطاجنة. وظلت هذه «القوى الكبرى» تتصارع فيما بينها حتى أمكن لروما في عام 100ق.م أن تهزمها وتمتصها جميعا، وكان إذن - لما يقرب من ثلاثة قرون - للثقافة الإغريقية تأثيرها في مجتمع يخضع لروما من الناحية السياسية. وتحول عالم القبائل والمدن الحكومية المتقاتلة إلى «عالم واحد» من الثقافة الإغريقية الرومانية المتأخرة. وكان عالما موحدا بدرجة غير مألوفة، عالما تسمح فيه الطرق البرية الجيدة والخطوط البحرية المنظمة للأفراد، والأفكار، أن يتنقلوا بحرية، عالما كانت الطبقات المتعلمة فيه على الأقل، مهما تكن مواطنهم الأولى: البريطانيون، والغال، والإسبان، والإيطاليون، والأفريقيون ، والإغريق، والمصريون يشتركون في ثقافة عالمية حقيقية، عالما يتحرر مؤقتا من الحروب بين وحداته التي يتألف منها، ويخضع إجمالا لإدارة سلمية يقوم عليها إداريون تثقفوا بالقانون الروماني.
وفي هذه القرون نشأت مراكز مدنية كبرى، مثل روما ذاتها، وأنطاكية، والإسكندرية. وفي هذه المراكز أقيمت المكتبات والجامعات، التي رفعت البحث العلمي، بل وبعض العلوم، إلى مكانة رفيعة. وليس للبحث العلمي (أو الدراسة الدقيقة) لأكثرنا اليوم إلا معنى يسير، ولكنها - بمضاعفة النصوص - جعلت بقاء العمل العظيم في الثقافة العظمى أكثر احتمالا. أما العلوم - وبخاصة الرياضيات، والفلك، والفيزياء - فقد كونت أساس ما نعرف اليوم، وانتقل إلينا جانب كبير منها عن طريق العرب ورجال الدراسة في العصور الوسطى.
وأهم من ذلك أن هذه القرون الستة شهدت أثر كثير من الأفكار، وكثير من النظرات إلى الحياة - في إطار العالم الجديد الأوسع؛ عالم مقدونيا وروما - التي نشأت في المدينة الحكومية في عهد اليونان الأعظم. وانتشرت في الخارج الأفكار التي تطورت قصرا عن الأخلاق والميتافيزيقا عند المفكرين الإغريق الأوائل، وربما لم تنتشر بين جمهرة الناس، ولكنها ذاعت على الأقل بين الأقليات المتعلمة في خمسين قبيلة وجنسا بشريا. وفقدت الأفكار الإغريقية حدتها، وذوقها الأولي، وانثلمت، واختلطت، لكي تلائم استخدام الصفوة العالمية لها. ولا يزال هذا العمل للعاشق المخلص لثقافة اليونان العظمى ترخيصا للأصل وانحطاطا به إلى المستوى الشعبي. ولكنه عمل هام بالنسبة إلينا، ما دام عن طريقه أمكن للأفكار الإغريقية أن يكون لها تأثيرها في المسيحية. ولا يزال مدى هذا التأثير أمرا يناقش ويمكن الجدل فيه.
وأهم من هذا كله إذن أن المسيحية نشأت في هذه القرون، وهي - بالإضافة إلى القانون الروماني ك «نظام حي» - ما بقي لدينا من هذا العالم الأوحد في الثقافة اليونانية الرومانية. ويستطيع فلاسفة التاريخ أن يبحثوا في الألف العام التي عاشتها الثقافة الإغريقية الرومانية عن بعض ما يفسر لنا مدى حياة جميع الثقافات، كما يستطيعون أن يتبينوا - بالقياس إلى هذه الثقافة - إن كنا اليوم في رائعة النهار، أو في وقت الأصيل. ويستطيع مؤرخو القانون والنظم، واللغة والأدب، أن يتلمسوا ألف حلقة مباشرة تربط بيننا وبين أسلافنا من العهد اليوناني الروماني . أو يستطيع أولئك الذين يبتهجون بغزارة التفصيلات التي يمكن أن نعيد بها بناء هذا العصر - عصر التمدن والتعقيد - أن يستمتعوا بالعالم اليوناني الإغريقي لحد ذاته. أما لأولئك الذين لا بد أن يجدوا بيننا وبين الماضي رابطة أكيدة واضحة، فإن الحقيقة الرئيسية الطاغية في هذه القرون هي أنها كانت أساس المسيحية.
وسوف نتعرض في هذا الفصل على التوالي لأثر اليهود، والإغريق المتأخرين (الهلينستيين) والرومان في ميراثنا الفكري.
العنصر اليهودي
إن بذرة المسيحية جاءت من خارج العالم الإغريقي الروماني. كان يسوع المسيح يهوديا، وقد ولد في وقت كان الوطن اليهودي - تحت حكم هيرود الذي تحول إلى الهلينية - يعتبر وحدة شبه مستقلة في مجموعة الأمم المتشابكة التي نسميها الإمبراطورية الرومانية. ومن الحق أنه كان هناك كثير من اليهود في وقت ميلاد يسوع ممن يتكلمون اليونانية، بل واللاتينية، وكانوا مواطنين من جميع النواحي في ذلك العالم الشامل من الأفكار المتعارضة، والمذاهب الدينية، والعواطف. غير أن أساس المسيحية الأولى يهودي بدرجة قصوى، ينطبع بطابع الخبرة اليهودية الفذة، وهي خبرة أكثر إقليمية وعالمية في آن واحد من أي مدينة حكومية إغريقية كبرى (وليس هنا مفر من هذا التناقض).
وهنا بالذات نلتقي بصعوبة سوف نلاقيها بصورة أحد عند دراسة المسيحية ذاتها. ويجب على المؤرخ أن يسأل نفسه لماذا كان اليهود دون سواهم من جميع قبائل وشعوب شرقي البحر المتوسط الذين يتشابهون معهم في البيئة الجغرافية والظروف المادية الأخرى، ولا يختلفون كثيرا في تاريخهم القديم، لماذا كان اليهود دون سواهم هم الذين صدرت عنهم الديانة التي لا تزال بعد ألفي عام الديانة الرسمية في عالمنا الغربي. وربما أجاب المؤرخ عن هذا السؤال - مسترشدا بالمسيحية الأولى - بأن الله اختار اليهود، وأن كل شيء كان يسير وفقا لخطة مقدسة، وهذه إجابة واضحة لا ترد، وهي إجابة تيسر على المؤرخ واجبه إلى حد كبير. وهي ليست الإجابة التي ينبغي أن نقدمها هنا.
وبغض النظر عن تسليمنا بالإيحاء السماوي الكامل للإنجيل، بعهديه القديم والجديد، فإن هناك مواقف متعددة جدا، تنتشر في الواقع على مدى فسيح من الإيمان الكامل بالإنجيل إلى إنكاره عن عقيدة، هناك مواقف تدعو إلى القول بأن الإنجيل لا يعدو أن يكون مجموعة من الوثائق التاريخية نعاملها كغيرها من الوثائق المشابهة، كإلياذة هومر والأوديسى، أو نبلنجنليد. وأعداء المسيحية من أمثال نيتشه الذين سوف نلتقي بهم في أواخر هذا الكتاب، يميلون أحيانا بعيدا إلى الخلف، ويعلنون أن المكتوب في الإنجيل يحتمل بصفة خاصة أن يكون باطلا.
وسأحاول في هذا الكتاب ألا أتخذ موقفا عقائديا، ولن أقف بالتأكيد في موقف عقائدي ضد المسيحية. ومهما يكن من أمر فإني أفترض هنا أن أفكار اليهودية والمسيحية وعباداتهما هي - من حيث الغرض من التحليل التاريخي - من ثمار الثقافة البشرية في العصر التاريخي. كما أنه من الممكن كل الإمكان أن ننظر إلى حقائق المسيحية - كما ننظر إلى حقائق الأفلاطونية - على أنها حقائق تتجاوز حدود التاريخ - أو لا تتجاوزه - ولكنها في النهاية بالتأكيد لا يمكن تفسيرها في حدود مسير التاريخ. وربما لا يستطيع أحد أن يكون متشككا في الزمان ومؤمنا بالخلود. وعلى أية حال سوف أحاول في هذا الكتاب أن أحتفظ بقدر من التشكك الذي لا يؤذي، بل وبقدر معين من التواضع.
وقد كان اليهود - في ضوء ذلك - قبيلة صحراوية صغيرة، تنتمي إلى الأمة التي عرفت فيما بعد بالعرب، أو البدو، والتي نشأت على الأرجح في الجزيرة العربية. وبعد عدة جولات استقروا، فيما بين عامي 1700ق.م و1500ق.م غالبا، في المساحة الجبلية التي تقع بين وادي النيل والوادي الذي ينحصر بين دجلة والفرات، أو بين الدولتين العظيمتين - مصر في واد، وبابل أو آشور أو الفرس في واد آخر - كانت كل هذه الرقعة في الأزمنة القديمة منطقة منقطعة، تسكنها قبائل متعددة تتقاتل فيما بينها، وتتعرض بين الحين والحين للغزو و«إقرار الهدوء» من إحدى الدولتين الكبيرتين المجاورتين، إحداهما من الشرق والأخرى من الغرب. وفي مجال السياسة على الأقل كان لليهود تاريخ يشبه كثيرا تاريخ جيرانهم الصغار. وبعد فترة وجيزة، عندما اتحد اليهود كشعب، وعندما كانوا تحت حكم داود وسليمان الشعب صاحب السيادة في المنطقة، انقسمت إسرائيل دولتين: إسرائيل في الشمال، واليهودية في الجنوب. وقامت بين الدولتين منافسات، كما قامت بين اليهود وجيرانهم. وكانت هناك محالفات، ودسائس، وحملات، ومعارك، وكل الأمور المعقدة في التاريخ كما تروى في «سفر الملوك» وفي التواريخ القديمة. وفي الوقت عينه كانت هناك دولة عظمى ناشئة في الشرق، هي آشور، التي قضت نهائيا على إسرائيل في القرن الثامن ق.م، وعندئذ استولت عليها دولة عظمى شرقية أخرى، هي بابل. وسيق في الأسر إلى بابل زهاء عشرة آلاف يهودي من بينهم أكثر الصفوة المتعلمة، وربما كان ذلك جزءا من سياسة بابلية معينة ترمي إلى تشتيت الجماعات الوطنية العاصية. وبالرغم من أن هؤلاء اليهود المبعدين قد عادوا أخيرا إلى بيت المقدس، وبالرغم من أن اليهود تمتعوا مرة أخرى بنوع من المكانة السياسية (مع العلم بأنهم لم يكونوا من قبل قط مستقلين) إلا أن تشتيتهم الأكبر كان بالفعل قد بدأ. وكان الوطن اليهودي جزءا من الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في القرنين السادس والخامس ق.م، ووقع تحت نفوذ الثقافة الإغريقية بعد غزوات الإسكندر الأكبر. وفي أيام المسيح كانت هناك دولة يهودية تحت حكم الملك هيرود الذي تحول إلى الهلينية، وهي نوع من المملكة الوطنية تحت الإمبراطورية الرومانية المركبة. غير أنه كان هناك أيضا آلاف اليهود المشتتين، والذين كانوا يتجمعون عادة في أحياء يهودية خاصة بهم، في أنطاكية، والإسكندرية، وكورنثيا، بل في الواقع في كل الجانب الشرقي من الإمبراطورية. وكان اليهود بالفعل - ما عدا في فلسطين ذاتها - في الأغلب مشتغلين بالبيع، والتجارة، وتسليف الأموال وشئون الثقافة، منعزلين عن البلاد.
ويتضح حتى من هذه الصورة المجردة أن هناك ما يفرق بين اليهود والفلسطينيين، والمالكيين، والمعابيين، والعاموريين، وكل الشعوب المجاورة التي نجد أسماءها مبعثرة في العهد القديم، وهذا الفارق، في أبسط صورة له، هو الإصرار على البقاء، وعلى أن يكونوا يهودا، وأن يكونوا شعبا. والآن بعد ألفي عام من تاريخ تحطيم الرومان لدولة اليهود ظهرت مرة أخرى على الخريطة السياسية في فلسطين المغتصبة . وليس هناك إجماع في الرأي عن السبب الذي جعل لليهود هذا التاريخ الفذ. ويستطيع اليهودي المتدين - بطبيعة الحال - أن يزعم أن الله خلق اليهود واحتفظ بهم، وسوف يفي بوعده بالمسيح. ولكن الأجنبي الذي يحاول تفسيرا طبيعيا أو منطقيا لا يجد هذا الحل المبسط بين يديه. وهناك من يعتقد أن اليهود هم فعلا جنس بشري، ولهم في الواقع صفات بدنية وعقلية موروثة هي التي وجهت تاريخهم وجهته. ولا يقبل اليوم أي طالب جاد ممن يدرسون العلاقات البشرية أمثال هذه العقائد الساذجة في الجنس والوراثة الجنسية. غير أنه من الواضح أن التفسير السائد المعاصر للعلاقات البشرية الذي يأخذ الظروف الاقتصادية والبيئات الجغرافية في الاعتبار، والتفسير المادي للتاريخ، هو - بالرغم من ذلك - في هذا الصدد غير شاف؛ لأن الظروف المادية التي نشأ فيها المعابيون، والمالكيون، والعاموريون، وغيرهم ممن لم نذكر، كانت على الأرجح مطابقة للظروف التي عملت على تشكيل اليهود على صورتهم.
وإنما يجب أن نبحث عن جانب من جوانب تفسير ما جعل لليهود صفتهم الخاصة في تاريخ الفكر. كان اليهود بين شعوب عالمنا الغربي أول من آمن بحرارة وتعصب بإله واحد، قادر على كل شيء، غيور، وعلى عزم أكيد بأن يحمي شعبه «ما دام هذا الشعب يثبت بعمله أنه شعب الله». وسوف نرى أن كبار كتاب اليهود القدامى وصفوا إلههم بأكثر من ذلك وأنبل. ولكن هذا الحد الأدنى كان دائما موجودا: يهوه، إله المعارك، إله غيور، إله لا يمت بصلة إلى زيوس، أو ديونيسس، أو بعل، بله أن يمت بصلة إلى ربات من النساء كأفروديت، أو أشتارت. وتماسك اليهود خلال كل ما مر بهم من محن؛ لأن عندهم يهوه.
ولك بالطبع أن تسأل كيف تأتى لليهود أن يروا في إلههم هذه الصفات. ولو سلمنا بأن الفارق بينهم وبين جيرانهم هو - بتعبير مجرد مألوف - إيمانهم في النهاية بوحدانية خلقية رفيعة، بقي أن نسأل: ولماذا تمسكوا وحدهم دون جيرانهم بهذه العقيدة؟ والمؤرخ - كما يحدث في أكثر الأحوال - لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، على الأقل في عبارة بسيطة محدودة المعاني. إنما هذه العقائد استخلصت من التاريخ اليهودي، وبخاصة فيما بين عامي 1500ق.م و600ق.م، وقد يرجع بعضها إلى وجود رجال عظام، مثل موسى، تكتنفهم الظلال وتحيط بهم الأساطير بالنسبة للمؤرخ. وقد يرجع بعضها إلى نوع الجنس، والصلابة الموروثة في سلالة إبراهيم. ويرجع بعضها بالتأكيد إلى الكهان القدامى الذين احتفظوا بما كان يروى عن القومية اليهودية؛ لأن هذه العقائد في أرقى صورة خلقية لها تعتمد على أولئك الكهان المتأخرين الذين كانوا يعرفون بالأنبياء. ويرجع بعض هذه العقائد إلى الاضطهاد الذي نال الأقلية التي أبعدت إلى بابل في عام 586ق.م، وهو اضطهاد حدا بهذه الأقلية إلى الشعور برسالتها في رد «طائفتهم الخاصة» إلى ما أحسوا أنه وضعها الصحيح، وهو اضطهاد دفعهم إلى التسامي بهذا الوضع، وذلك بأن جعلوا يهوه إلها أفضل، وأرفع من الناحية الخلقية. وقد كان ما حققه اليهود في الدين - كما كان ما حققه الرومان في السياسة والأثينيون في الفن - ثمرة تاريخ طويل لا نستطيع أن نفهمه كله أو نستعيده بأكمله.
وإن لدينا عن اليهود سجلا رائعا يعرف بالعهد القديم، وما جاء به من وجهة نظر المؤرخ الحديث العادي إنما قد ضم بعضه إلى بعض في أوقات متفرقة وعلى أيدي أفراد مختلفين، وبعضه كالملاحم، شيء يشبه هومر، وبعضه قواعد كهنوتية قصد بها الاستخدام المباشر في «المعهد» وبعضها قصائد، وحكم، ودراسات خلقية وطنية. ولما جاء المسيح كان أكثر هذه المواد قد أضيف بعضه إلى بعض، طبقا لما وافق عليه المسئولون إلى حد كبير، وأمسى في خدمة اليهود باعتباره مجموعة مقدسة، وهي ما نعرفه جميعا باسم «الإنجيل». وبات الإنجيل عند المؤمنين كلمة الله، أملاها الله على كتابه، وهو ليس مجرد كتاب بأية حال من الأحوال.
وظلت هذه المجموعة من الأدب القومي اليهودي - بعدما أدمجت مع العهد الجديد في إنجيل مسيحي - عدة قرون كلمة الله، وهي لذلك لا تخضع لأية دراسة نقدية، ولا تخضع إلا للتفسير، أو التأويل. ثم شرع الناس على مهل بعد النهضة وعصر الإصلاح الديني ، وعلى عجل خلال القرن الثامن عشر، أن يدرسوا هذه النصوص دراسة نقدية، كما درسوا نصوص هومر، وفرجيل، وثيوسيديد، وهيرودوت. وتمخض هذا في القرن التاسع عشر عن ذلك النصر الذي أحرزه البحث، أو ما يسمونه «النقد الأعلى» الذي أزعج ضمائر أجداد أجدادنا إلى درجة قصوى. ولم يصل «النقد الأعلى» إلى اتفاق تام. وفي أعلى مستوى يعالج العهد القديم مشكلات المصير البشري، وهي تلك المشكلات الهامة التي لم نتفق عليها قط.
كما أن النقد الحديث القائم على البحوث الأثرية قد تعرض بالشك لبعض الوقائع المادية في النقد الأعلى في القرن الماضي. غير أن الجهد الذي بذلته عدة أجيال من الباحثين في هذا الميدان هو - كمثال للعمل الملموس الذي تحققه طريقة من الطرق - أثر رائع لإمكان تحقيق نوع من المعرفة التراكمية في مجال من أشق المجالات. ولا يرفض قبول نتيجة هذا البحث العلمي اليوم «في خطوطه العريضة» إلا المتمسكون بالأسس الأولى.
ومن هذا يتضح للمؤرخ أن العهد القديم قد جمع من مصادر شتى في فترات متعددة. وليس الباحثون على اتفاق في التفصيلات بأية صورة من الصور، وهم لا يزالون يختلفون في الرأي عمن كتب هذه الرسالة أو تلك - فردا كان أم جماعة. وكمثال محسوس لما قام به النقد الأعلى نذكر أسفار موسى، أو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، التي تعزى عادة إلى موسى؛ هنا يشير الباحثون إلى ثلاثة مصادر على الأقل: المصدر الأول يسمى «ج» وهو الحرف الأول من الكلمة الإنجليزية جيهوفا، وهي تعني ما نطلق عليه بالعربية «يهوه»، وهو أقدم المصادر وأكثرها بدائية. ويهوه هو إله اليهود القبلي، وهو لا يزال إلها معروفا له صفات الإنسان، إلها كان بوسع هومر نفسه أن يفهمه. أما المصدر الثاني فيشار إليه بحرف «أ»، وهو الحرف الأول من كلمة الوهيم، وهو اسم من أسماء الله، وهو مصدر جاء بعد الأول، وفكرته عن الله هي قطعا أكثر تمسكا بالأخلاق، وأشد تجريدا، وأكثر عالمية. ثم المصدر الثالث ويشار إليه بحرف «ب»، وقد جاء متأخرا جدا، ويكاد يكون من المؤكد أنه من وضع الكهان المختصين بالشريعة، والطقوس، والعبادات الظاهرة التي كانت تضم اليهود بعضهم إلى بعض في وحدة اجتماعية دينية - أو ما نسميه الكنيسة. وقد اتحدت هذه المصادر الثلاثة أخيرا، وربما كان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، وتكون منها التاريخ الإنجيلي للأصول اليهودية التي نعرفها. ولم يتم هذا التوحيد نفاقا لخداع أي إنسان، إنما هو يمثل الأفكار التي كانت عند المثقفين اليهود الجادين في السنوات التي أعقبت خروجهم، عن الرسالة الوطنية لليهود والتاريخ القومي.
وكثير من بقية العهد القديم هو في الواقع نفس هذا النوع من التاريخ، وهو تاريخ مستمد من المصادر القديمة، مع بعض الوثائق المعاصرة، ولكنه كتب بقصد تحويل اليهود إلى يهود أفضل، وقد كتب وفزع الخروج مخيم على الأذهان دائما، كما أنه كتب ليكون في النهاية شعرا، وفلسفة، وأصولا دينية، لا لكي يكون مجرد تاريخ. وعلى ذلك فإن تاريخ اليهود الملحمي يصبح من عمل الأنبياء، أو من «كتاباتهم» ومن أمثال ذلك سفر أيوب، والأمثال، وسفر الجامعة.
واعتصار هذه المجموعة الكبرى من الكتابات ليس أمرا مألوفا، بل وليس من ورائه جدوى.
ليس العهد القديم كتابا، ولكنه سجل - متقطع وإن لم يكن مضللا - لخبرة شعب له صفاته الخاصة. وهو لا يشبه في شيء ما نسميه العلم إلا في القليل؛ أي إن به في الواقع قليلا من تلك النظرة إلى العلاقة بين الإنسان والكون التي نسميها أحيانا التفكير المنطقي. ليس في العهد القديم ما يشبه ثيوسيديد، أو أبوقراط، أو حتى أرسطو. وحتى تلك المجموعة من الحكم التي تسمى سفر الجامعة، الذي يبدأ بهذه العبارة: «باطل في باطل، الكل باطل»، ليست محاولة لتحليل سلوك الإنسان تحليلا واقعيا، إنما هي شكوى يائسة من إنسان يجد أن التعمق لا يكفي لسبب ما. وإذن فهذا القدر الكبير من الأدب هو في الأغلب أدب يستهدف تلمس النهائي، وتلمس الشعرى، وشيء يتجاوز هذه الحياة. إنه أدب لا يقبل قط عالمنا هذا، عالم الحواس، والأدوات، والآلات - بل ولا يتطلع إلى دراسته.
إن ما يؤديه العهد القديم بصورة رائعة هو متابعة تطور الضمير اليهودي، والنظرة اليهودية إلى العلاقة بين الأفراد كأفراد وربهم المقدس. وهذه العلاقة هي الجانب الرئيسي من الخبرة اليهودية التي انتقلت إلى الخبرة المسيحية. ويهوه - كما ذكرنا - يشبه في أول الأمر نوع الإله الذي شاع في الزمان القديم، وهو ليس البتة إلها رحيما، وعند أول لقاء لنا به نجده - كالإله اليهودي القبلي - عليا، مفردا، وليس مجرد عضو في مجموعة متنازعة من الآلهة، ولكنه إله اليهود وحدهم.
وكانت للقبائل الأخرى آلهة أخرى. وقد كان يهوه إلها غيورا، ولم يشأ أن يعتنق شعبه الإيمان بأي إله من هذه الآلهة القبلية. والواقع أن بعض الفقرات التي لا يرتاح إليها القارئ في الإنجيل - من وجهة نظر الإنساني أو العقلي في العصر الحديث - إنما تروي كفاح يهوه الطويل الظافر في سبيل الدفاع عن نفسه وعن شعبه ضد إغراء الآلهة والإلاهات المتصارعة. ولم يكن يهوه كأولئك الأشخاص الذين تتحدث عنهم في مدارس الأحد. وكانت له - فوق ذلك - صفات أخرى مما يتميز به إله شعب بدائي؛ كان يمشي على الأرض، ويتحدث إلى إبراهيم، ويمتحن رسول الله، ويظهر لماما ولكن بصورة مجسدة في عظته لموسى في سيناء.
وقد يميل خصوم الكهنوت، والمناطقة، والعقليون الدينيون المحدثون من كل الطوائف، إلى المبالغة في صفة الشخصية البدائية القبلية الشبيهة بالإنسان التي كان عليها يهوه هذا الذي ورد ذكره في أسفار موسى الخمسة. وربما أكون قد بالغت عن غير قصد في الفقرة السابقة، ومع ذلك فمن العسير أن يقرأ المرء في شيء من العناية كتابا كسفر التكوين ولا يحس أن الإله الذي يصور فيه يبعد كل البعد عن الإله في أية ديانة حديثة عليا قد نكون على علم بها - كاليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبوذية.
ولا يتطرق الشك إلى الأسفار المتأخرة في العهد القديم، في الإصحاحات الستة والعشرين الأخيرة من سفر أشعياء، وفي سفر أرميا وسفر أيوب. لقد شق اليهود طريقهم إلى فكرة ديانة واحدة عالمية، إلى وحدانية خلقية رفيعة، يعتقد أنبياؤها أنها صادقة لجميع البشر. ويقول أشعياء الثاني خاصة: «أنا الرب ... أقدمك عهدا للناس، ونورا للكفار.» وربما بات اليهود حقا - أكثر من أي عهد سبق - الشعب المختار. ولم يخترهم إله الرعاة القديم الصاخب لكي يستمتعوا بالمراعي الخضراء بعد أن يحزوا رقاب عدد كاف من الفلسطينيين، وإنما اختيروا لكي يبينوا للناس بسلوكهم - إن هم استطاعوا ذلك - أن الله يريد للناس أن يعيشوا في سلام وعدل: «أنتم شهودي ... وخادمي الذي اخترت، لكي تعرفوني وتؤمنوا بي، وتفهموا أنني هو. لم يسبقني إله، ولن يأتي بعدي إله، إنما أنا الرب، وليس هناك غيري مخلص.»
وسفر أيوب هو من عمل شاعر وفيلسوف يهودي متأخر (أو من عمل عديدين؛ لأن أكثر الباحثين يعتقدون أن هناك على الأقل جزءا واحدا رئيسيا مدسوسا على الكتاب) يجاهد في حل مشكلة تواجه كل الأديان السامية الأخرى؛ وتلك هي مشكلة الدفاع عن العناية الإلهية مع وجود الشر في الدنيا، أو تبرير تصرف الإله مع الإنسان. الله على كل شيء قدير، عليم بكل شيء، خير من كل وجه من الوجوه. فكيف إذن نفسر وجود الشر؟ إننا لا نستطيع القول بأن الله يريد أن يقضي على الشر، ولكنه عاجز عن أداء ذلك. كما أننا لا نستطيع كذلك أن نقول إنه - إذ يسمح بالشر - يصنع بنفسه الشر، ولكن العقل الحازم الذي يؤمن بعالم آخر يستطيع أن يرى في حاجة كل فرد إلى التغلب على الشر، أو في نقص الفرد، الخطوة النهائية اللازمة نحو الخير، أو الكمال.
ولكن متاعب أيوب - من أحد الوجوه - محسوسة بدرجة أكبر: إنها صورة من صور مشكلة الدفاع عن الإله بالرغم من وجود الشر، وهي المشكلة التي كانت دائما تزعج المسيحيين. وإذا سلمنا بأن الله يسمح بالشر حتى تتاح لنا فرصة التغلب عليه، وحتى نحيا حياة طيبة بالرغم من الإغراء بالحياة السيئة، ترتب على ذلك بالتأكيد أن السلوك الطيب يؤدي إلى النجاح والسعادة، والسلوك السيئ يؤدي إلى الفشل والشقاء. غير أنا نرى في كل ما حولنا أن الشرير يفلح والطيب يعاني، وكان أيوب رجلا طيبا، ثريا، سعيدا ، وسمح الله للشيطان أن يمتحن إيمان أيوب بإصابته بسلسلة من الكوارث، وقد احتمل أيوب فقدان ثروته بهذه العبارة الشهيرة: «الله أعطاني، والله أخذ مني. بارك الله في اسم الرب.» واستطاع أيوب أن يحتمل المصائب البدنية. ولما تراكمت على أيوب الآلام، ولما أظهر أصدقاؤه إيمانهم بأن وراء هذه الآلام البادية لا بد أن يكون هناك شر عظيم، بدأ أيوب - لا أقول يشك في الله - محاولة البحث عن الحق بنفسه من خلال آلامه. وأخيرا ظهر الله بنفسه وذكر أيوب بأن الإنسان تافه جدا، وأن كلمة الله عظيمة جدا، وأن إشفاق الإنسان على نفسه هو في الواقع شر وادعاء. عندئذ يتوب أيوب، ويقول: «أعلم أنك تستطيع أن تفعل كل شيء ... ولذلك قلت إني لست أفهم. كم من أمر يدعو إلى العجب لم أدركه ... ومن ثم فإني أمقت نفسي. وأتوب حتى في التراب والرماد.» عندئذ عادت إلى أيوب صحته وثروته، وعاش بعد ذلك عيشة سعيدة.
هذه خلاصة مجردة - وقد تكون خلاصة عقلية بمعنى الكلمة السيئ - لشيء لا يمكن تلخيصه في يسر. إن معنى سفر أيوب معنى عاطفي، وهو شيء يثيره الشاعر نفسه، حتى وإن كان أكثرنا لا يستطيع معرفته إلا مترجما. ومع ذلك فإننا إن أردنا أن نفيد من سفر أيوب في هذه الحياة الدنيا، فإنما يكون ذلك إن عرفنا أن عقولنا الصغيرة البشرية الحاسبة لا تستطيع أن تبلغ مبلغ علم الله بأية وسيلة من الوسائل، بل ولا تستطيع القرب منه. وليست هناك مشكلة فيما يتعلق بإرادة الله للشر؛ لأننا لو فرضنا وجود هذه المشكلة كان هذا الفرض تصويرا لأعلى حد من تقرير الذات البشرية الشريرة. إن علاقتنا بالله لا يمكن أن تكون قياسا، أو تساؤلا، أو علاقة مفصلة، نفكر فيها كما يفكر المحامي، أو العالم، أو التاجر، في مشكلاته: «أعلم أن الله عظيم، وأننا لا نعرفه.» إننا لا نعرفه، ولا نستطيع أن نعرفه، لأننا لو استطعنا ما كنا بشرا. ولكوننا لا نستطيع معرفته نؤمن به.
ولم يبلغ كل اليهود مستويات الفكر والشعور التي حاولنا التنويه عنها، وهم في ذلك كالأثينيين؛ فإنهم لم يبلغوا جميعا مستويات أفلاطون وأرسطو. غير أن اليهود صاغوا من خبرتهم الطويلة ديانة منظمة، ومجموعة من النظم، وأسلوبا من العيش، وعن هذا الأسلوب نشأت المسيحية. ويجب أن نذكر مرة أخرى أن تاريخ الفكر لا يهتم بالأعمال العظيمة التي قام بها العقل البشري وحدها، كأعمال الأنبياء اليهود، وإنما يهتم كذلك بالطريقة التي طبقت بها هذه الأفكار على السلوك العادي في حياتنا اليومية التقليدية.
إن الشعب اليهودي لم ير كله إله اليهود كما رآه أشعياء. وهم كشعب لم يخسروا قط إلههم يهوه في يهوه العالمي. وليس من شك في أن الدين عند الكثيرين منهم كان معناه مراعاة قواعده؛ أي الاحتفاظ بنقاء الطقوس، وذلك بأداء مجموعة من الأحكام والقوانين بكل دقة. وكثير من هذه الأحكام نواة، من ذلك النوع الذي يألفه الكثيرون منا اليوم، ويعرفونه باسم المحرمات، وكذلك الحكم مثلا الذي يحرم على اليهودي أكل لحم الخنزير. وهناك أحكام أخرى - كالختان - تتطلب أعمالا إيجابية. وكان الأنبياء ثوارا على المعنى الحرفي لأحكام الدين. وكانوا على أقل تقدير مثاليين دينيين يستهدفون تجاوز الشريعة، وقد وسعوا في الواقع وعمقوا الحياة الدينية لشعبهم.
ولما جاء المسيح كان هناك أسلوب من العيش يهودي، لا ينطبق تمام المطابقة على أعلى مثل للأنبياء، كما لا ينطبق أسلوب العيش الأمريكي تماما على المثل العليا لإمرسون وهويتمان، ولكنه أسلوب يختلف كل الاختلاف عن الأسلوب اليوناني، أو الروماني. كان اليهودي يعتقد بإله واحد على كل شيء قدير. وهو - لأسباب لا يستطيع أحكم الحكماء أن يسبر غورها - يسمح على هذه الأرض بنشوب ذلك النوع من النضال، الذي نحس نحن بني آدم كأنه نضال بين الخير والشر، بل إن الله ليريد هذا النوع من النضال. وكان اليهودي يعتقد أن الله اختار الشعب اليهودي ليكون رأس الحربة للخير في هذا النضال، وأن الله قد كتب في الواقع على اليهود أن يقودوا بني الإنسان إلى انتصارهم نهائيا على الشر. ومن أجل هذا أراد الله أن يبعث لهدايتهم رجلا عظيما حقا، موسى آخر، هو المسيح الذي سوف ينشئ لهم أورشليم الجديدة.
وليس من شك في أن كثيرا من عامة اليهود - بل أكثرهم - استشعروا في كل ذلك وعدا بالمجد في هذه الدنيا لليهود، وتصحيحا للإساءات التي لحقت بهم على أيدي البابليين، والمصريين، والفرس، والإغريق، والرومان؛ أي استشعروا في ذلك بإيجاز ما نعرفه ونسميه إرضاء الآمال الوطنية. وقد ظن بعض اليهود - قطعا - أن هذا النصر النهائي لن يكون. في العالم الآخر، وهو ليس انتصارا صوفيا للخير على الشر، وإنما يتم النصر لهم في هذه الدنيا فيما يزعمون، وليس ذلك إلا من باطل الوهم ومحض الخيال.
ولم يكن بالإمكان - برغم ذلك - أن تكون هذه الصورة من صور الأحلام مادية محضة. ولن تستطيع أن تقرأ في أي سفر من أسفار الأنبياء دون أن تجد الدليل على أنهم أحسوا أن هذه العظمة اليهودية المرتقبة هي عظمة الله أولا؛ ففي سفر زكريا جاء أنه: «في تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودي قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم.» ولم يأمل اليهود أن يكونوا مثل روما أو بلاد فارس إلا بمقدار ما يستطيع أن يأمل الإيرلنديون أن يكونوا الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي - مع التسليم بالفوارق بين العالم القديم والعالم الحديث. ولم يشك بعضهم في أن المسيح سوف يسترد عظمة سليمان في مساحة محدودة من الأرض. أما أولئك الذين جاوزوا هذا المثل، فقد كانوا يرون أن المسيح مبشر بنصر روحاني أكثر منه مادي.
وثمة حكم آخر: كان عند اليهودي، حتى ذلك الذي يعدم الخيال، المطاوع، الذي يكتفي بالشريعة، ما كان عند قليل من الإغريق، وأعني به الإحساس بالذنب. كان عند الإغريقي من العامة إحساس بالحق والباطل، ولكن الحق والباطل عنده هما في الواقع نوع من المحاولة والخطأ، الفعل الخاطئ غلطة يمكنك إن كنت عاقلا أن تصححها في المرة التالية. وبعض الناس - بطبيعة الحال - لم يكن عاقلا، وعاقبة انعدام العقل يمكن في الواقع أن تكون وخيمة، بل ومأساة. ولم تكن الآلهة نفسها على بينة تامة من الفارق بين الحق والباطل، وهي أيضا كانت خاضعة لأحكام القدر المبهمة. ولكن هذا العالم - على أسوأ الظروف - إذا لم يكن قد خلق لراحة الإنسان، فلم يخلق - كما كان يرى الإغريقي العادي - لتعذيبه إيثارا لعالم آخر بشكل ملحوظ.
أما اليهودي فكان يحس أن ارتكاب الخطأ ذنب، وهو دليل على أن مرتكبه دنس، فاسد، في أعماقه. لم يكن ارتكاب الخطأ غلطة، إنما كان مرضا. وتستطيع أن تجرب الدواء، وربما كان الدواء في سلوكك في الطقوس سلوكا مستقيما. ولكن الله وحده هو الذي يشفيك، وبوسع الله دائما أن ينفذ وراء سلوكك حتى يبلغ أفكارك ومشاعرك الباطنة. ولا بد أن تكون أفكارك ومشاعرك طاهرة، صالحة؛ لأن الله لا يخدع. وإذا أمكنك فعلا أن تكون صالحا، من كل نواحيك، فقد نجوت. والحق أن اليهود لم يعبئوا كثيرا بمذهب خلود الفرد المباشر، كما فعل المسيحيون فيما بعد. ولكن من المحتمل أن تكون فكرة الخلاص الشخصي عن طريق الصلاح قد شاعت بينهم في الوقت الذي جاء فيه المسيح. ولكن بلوغ الصلاح عند اليهودي أمر شاق. والله يمتحن الأرواح امتحانا شديدا. وليست هذه الدنيا في الواقع مكانا سارا، أو حتى مكانا معقولا. ولم تخلق في الحقيقة لكي يعيش فيها الناس كما يتصور الناس المعيشة - وأقصد أولئك العامة من الناس، العاقلين، الأنانيين، الذين لا يتصفون بالبطولة، المنطقيين. إن أمثال هؤلاء الناس إنما يعيشون الحياة التي يريدها لهم الشيطان، وتريدها لهم أمزجتهم، وهي ذلك النوع الواضح من أنواع الحياة؛ حياة الإثم. الآثام تتحوطنا من كل جانب، ولا نستطيع قط أن نكون على ثقة بأننا لا نرتكب الذنوب.
وأرجو ألا تسيئوا الفهم. لم يكن بوسع اليهودي العادي أن ينفق حياته وسط مخاوف تلازمه دائما، وهي مخاوف ارتكاب الذنوب. وأهم من ذلك أن السلوك الخاص الذي كان يراه اليهودي آثما لم يكن يشبه السلوك الذي نحسبه نحن الأمريكيين آثما - إذا تذكرنا هذا المذهب إطلاقا. لم يكن اليهودي متطهرا، أو لم يكن بالتأكيد ما نعده متطهرا في تفكيرنا حينا بعد حين، ولم يكن زاهدا، وكان يسمح له بالتمتع المعتدل بكثير مما نسميه المتعة الحسية، ولكنه كان - برغم ذلك - أقرب إلى فكرتنا المألوفة عن المتطهر منه إلى أسلوب العيش الإغريقي. إنه لم يحرم متعة البدن، ولكنه لم يضع ثقته فيها. ولم يكن لديه فوق هذا - العقل المنطقي، عقل من يدرس الهندسة، العقل الذي يسعى إلى فهم الكون في حدود الأشياء التي يمكن قياسها. كان العالم عنده مكانا لا يخضع للقياس وهو مكان معاد، على المرء أن يتحسس فيه طريقه كالكفيف، إلا أن يضيئه الله له بنور خاص ليس من هذه الدنيا بتاتا، نور سرعان ما يضل عنه الإنسان الآثم.
العنصر الهلينستي
في الفترة التي تنحصر بين أيام المدن الحكومية العظمى فيما بين القرنين السادس والرابع، وبين توحيد عالم البحر المتوسط توحيدا سياسيا تحت حكم روما في القرن الأول ق.م، يقع عصر من عصور النضال المضطرب بين الدول العظمى - مصر، وسوريا، ومقدونيا، وروما، وقرطاجنة. وقد انتشر الإغريق فوق الجزء الشرقي من البحر المتوسط كله تحت حكم الإسكندر وجعلوا ثقافتهم - من بعض النواحي - ثقافة كل الأفراد المتعلمين فيما نسميه اليوم الليفانت، أو الشرق الأدنى. ولم تكن هذه الثقافة التي انتشرت على هذه الصورة مطابقة لثقافة المدينة الحكومية. فإن مجرد انتشارها يحتم تحويرها. وقد نعت المؤرخون - كما ذكرنا من قبل - هذا العصر بصفة «الهلينستي» ليدلوا بذلك عموما على ترخيص، وعلى تحوير غير مستحب.
والعصر الهلينستي بالنسبة إلى مؤرخ الفكر له ناحيتان تثيران الاهتمام: الناحية الأولى أنه - باعتباره مرحلة هامة في تطور الحضارة الإغريقية الرومانية، وهي في الواقع المرحلة المؤسفة التي زادت فيها درجة النضج عن الحد المطلوب، وظهرت فيها بداية التدهور - اجتذب دائما أنظار فلاسفة التاريخ الذين يرون في تاريخ العالم القديم نمطا معينا، بل ونبوءة لا مفر منها، لما سوف يحدث لنا نحن المحدثين، والقرون الهلينستية - باعتبارها هذا النمط - توافق إلى حد كبير القرون الرومانية، فيجدر بنا أن نؤجل إلى فصل مقبل من هذا الكتاب النظر في هذه المشكلة ، هل يسير المجتمع الغربي اليوم على طريق يشبه الطريق الذي سلكه المجتمع الإغريقي الروماني؟
والناحية الثانية هي أن الثقافة الهلينستية جزء من ميراثنا الكامل. وقد ساعدت علومها وفنونها وآدابها وفلسفتها على تكوين تلك التربية الشكلية التي نسميها التربية «الحرة» أو «الكلاسيكية»، بالقدر الذي ساعد به في ذلك عمل العصور الإغريقية التي سبقتها. وكان الباحثون - في هذه الثقافة الهلينستية - وأمناء المكتبات، والنساخون، حلقة أساسية في نقل أعمال الأجيال السابقة إلينا. وأهم من هذا كله بالنسبة إلينا أن هؤلاء الإغريق الهلينستيين - العامة منهم والمثقفين - كانوا أولئك القوم الذين تحولت في عقولهم وأفئدتهم خاصة المسيحية من مذهب يهودي، أو هرطقة، إلى العقيدة العالمية التي بقيت بعد إمبراطورية روما العالمية.
وهذه القرون الثلاثة التي سبقت المسيح كانت القرون العظمى للعلوم الإغريقية، وقد تفوق الإغريق الهلينستيون في الرياضة (وبخاصة الهندسة)، والفلك، والطبيعة. أما في الطب وعلم الأحياء فلم يتحقق ما توقعه أبقراط وأرسطو بأكمله. ولم تكد الكيميا تكون ميدانا من ميادين الدراسة المعترف بها. ومهما يكن من أمر فقد كانت جملة التقدم العلمي عظيمة جدا. والعلم يعني عندنا اليوم جماعة من الباحثين المدربين، ومؤسسات غنية تعينهم، ونقل النتائج إلى الزملاء العاملين في الميدان، وبحث لا يني عن النظريات لتفسير الوقائع، وعن وقائع لاختبار صحة النظريات. ومن الجائز أن العلم بهذا المعنى الحديث - حتى أواخر القرن السابع عشر - كاد يتحقق في متحف الإسكندرية تحت حكم البطالسة الأوائل.
ولسنا نعرف على وجه الدقة شيئا عن تنظيم هذا المتحف. وقد كانت الإلاهات الإغريقيات التسع التي عرفت باسم «ميوزس» - وهو الاسم الذي اشتقت منه كلمة متحف بالإنجليزية - في الواقع سيدات أديبات أكثر منهن عالمات. ولكن الأدب تحت النظام الإسكندري الذي كان يشجع على البحث وراء المعرفة كان تحت رعاية «المكتبة» العظمى، التي عني القائمون عليها بما يسمى في الجامعات الحديثة بالعلوم الإنسانية. والظاهر أن المتحف كان من بعض نواحيه شبيها بمتاحف التاريخ الطبيعي في العصر الحاضر - مكانا تعرض فيه نماذج لها أهميتها. ولكنه كان - من ناحية أخرى كذلك معهدا للبحث العلمي، وللتعليم، على الأقل فيما يتصل بالعلاقة المباشرة بين الأستاذ والتلميذ.
وليس من شك في أن شرطا من الشروط الأساسية لازدهار العلم، أعني وجود مركز معد للتعليم والبحث، قد توافر في العصر الهلينستي. وليست هناك فائدة كبرى من سرد الأسماء هنا. ومهما يكن من أمر فقد كان أرشميدس في سرقسطة عالما طبيعيا من طبقة نيوتن. كما كتب إقليدس كتابا مدرسيا استعمل في تدريس الهندسة أكثر من ألفي عام. وكذلك وضع أرستارخوس في ساموس نظاما لميكانيكا الأجرام السماوية، الشمس بمقتضاه تتوسط الكواكب، والأرض وغيرها من الكواكب تدور حول الشمس، ولما كانت كتاباته الرئيسية لم تصل إلينا وجب علينا أن نصدق في ذلك ما ذكره عنه أرشميدس أساسا. كما أن أراستوثينس قد أخذ بالنظرية العلمية السابقة التي تقول بأن الأرض كرية. وعلى هذا الأساس قدر طول محيطها برقم يقترب من الحقيقة بدرجة تدعو إلى العجب. أما مدى صحة الرقم الذي قدره فيتوقف على المقياس الحديث المضبوط المساوي لوحدته في القياس، وهي الاستاديوم (وهو نحو 202 ياردات، وإن كنا لا نعرف على وجه الدقة). ولكنه على الأرجح قدر رقما يبلغ نحو 28000 ميل بدلا من 25000 ميل تقريبا بتقدير الجغرافيين المحدثين.
وبالرغم من أن جانبا كبيرا من هذا العمل العلمي نظري بحت، تم بالدراسة كما تتم الفلسفة، إلا أن الإسكندريين لم يتخلوا عن العمل الشاق المحط بالكرامة الذي يتعلق بالملاحظة والتجربة. وقد قدر أراستوثينس - على سبيل المثال - طول محيط الأرض بقياسه قياسا دقيقا الظل الذي يلقيه عمود رأسي في الإسكندرية وقت الظهيرة تماما في يوم الانقلاب الصيفي، وقد عرف أن الشمس عند سايين (وهي جنوبي الإسكندرية تماما) في تلك اللحظة من ذلك اليوم لم تلق البتة أي ظل - وإذا أخذنا بالتعبير الحديث قلنا إن سايين كانت على مدار السرطان، وعرف المسافة بين الإسكندرية وسايين. وبهندسة مبسطة جدا استطاع أن يقيس ذلك القوس من سطح الأرض الذي تمثله المسافة بين الإسكندرية وسايين، ووجد أنها 7° 12
أو 50 / 1 من الدائرة. وقد نشأ خطؤه الأساسي من عدة أخطاء ثانوية؛ فسايين لا تقع جنوبي الإسكندرية تماما، فهي ليست على مدار السرطان تماما، وربما لم يأخذ في حسابه نصف قطر الشمس ذاتها عند قياس زاويته الرئيسية. ومهما يكن من أمر فقد كان العمل الذي قام به جليلا، وكان مذهبا علميا يقوم على النظريات والوقائع.
وقد قام بعض الإسكندريين المتأخرين - وإن لم يكونوا فنيين أو مخترعين بالمعنى الحديث - بجانب كبير من التجريب في الميكانيكا، ورثوا عن أسلافهم جزءا كبيرا من المعرفة الأساسية عن صفات السوائل والغازات، وعن الروافع، و«السيفون»، والمضخات، وما إلى ذلك (وكان العلم قد أمسى بالفعل من قبل معرفة تراكمية بصورة واضحة)، فصنعوا آلات بخارية صغيرة، وآلات تدور بوضع العملة فيها، وعصافير تصفر وتكف عن الصفير من تلقاء نفسها، وأبواب المعابد التي تتفتح من تلقاء ذاتها إذا اشتعلت النار. ومن المحتمل أن القسس كانوا يستخدمون بعض هذه المخترعات عن قصد لكي يضاعفوا من تأثير الحفلات التي يقيمونها. ولكن ليس لدينا سجل عن أي تاجر إسكندري كان يستخدم الآلات التي تدور بوضع العملة فيها في بيع سلعة، أو أي مهندس إسكندري يستخدم الآلة البخارية في تحريك أي شيء.
وإذن فقد كان تاريخ العلم في العالم الإغريقي الروماني المتأخر متقطعا غير متصل. كانت هناك عقول جبارة كرست نفسها لدراسته، وكانت هناك على الأقل بداية لنظام تربوي وتنظيم اجتماعي يكفل الاستمرار في دراسة العلم والتزيد فيه. ولكن لم تقم - مع ذلك البتة أية علاقة مثمرة بين العلم، وتطبيقه، والإنتاج الاقتصادي. وفي القرون الأولى من حكم العالم الروماني توقف العلم عن النمو، وتوقف عن توسيع نطاقه. ومشكلة توقف العلم عن النمو بهذه الصورة من أشد المشكلات تشويقا في تاريخ الفكر. وليس بالإمكان تفسير ذلك ببساطة؛ فهنا - كما في تاريخ البشر دائما تقريبا - تواجهنا عدة عوامل، وعدة اتجاهات، ولكل منها ضلع في تطور الموضوع. ولا يمكن أن نرتب هذه العوامل والاتجاهات في صورة معادلة وليس بوسعنا إلا أن نزنها وزنا تقريبيا.
وأحد هذه العوامل كثيرا ما يبالغ فيه، بالرغم من وجوده قطعا، وذلك هو ما نستطيع أن نسميه عنصر «التهذيب والرقة» في التقاليد الإغريقية، وأقصد أن رجال الثقافة المهذبين إنما يهتمون بالموضوعات الرشيقة كالموسيقى والفلسفة، ولا يهتمون بالعمل الدقيق، الشاق، غير الكريم، في المعمل أو في حقل التجارب. وإذا عبرنا عن ذلك بأسلوب عقلي آخر، قلنا إن هذا العامل هو الإيمان بأن المرء يبلغ الحق بالتأمل الباطني، وبالوحي، وبالاطلاع على الأعمال العظمى للأساتذة، ولا يبلغه بالكشف عن وقائع التجربة الحسية وتناولها. وبعبارة أخرى نقول إن رجال الفكر من الإغريق والرومان ساروا في أثر أفلاطون ولم يسيروا في أثر أبقراط.
وقد يكون هذا القول صادقا من بعض نواحيه، ولكن من غير المحتمل أن دقة التقاليد وتهذيبها في حد ذاتها قد اعترضت العلم القديم؛ فقد كان هناك كثرة من الأفراد العلماء، من أبقراط إلى أرشميدس وأراستوثينس، ممن أسلموا أنفسهم للمهمة غير الكريمة؛ مهمة التنقيب عن الوقائع. وربما لم تنجذب خير العقول نحو العلم، وإن يكن مثل هذا التفسير لا يقوم على دليل مقطوع به.
وهناك عامل آخر ينبغي أن نقر به؛ فسوف نرى مرة أخرى الرأي الذي يقول بأن انتصار المسيحية - باهتمامها بالعالم الآخر - هو الذي يعزى إليه فشل الإغريق والرومان في علاج المشكلات المتعددة في هذه الدنيا، بما فيها - بطبيعة الحال - مشكلات العلم، ولكن عامل الزمن - في هذه الحالة بعينها على الأقل - يبرئ المسيحية من المسئولية، ذلك أن المسيحيين لم يكن لهم في الواقع تأثير في الإمبراطورية الرومانية حتى ختام القرن الثاني بعد الميلاد. وكان العلم الهلينستي قد بلغ قمته وبدأ يتدهور، أو يتطور مع الزمن، قبل ذلك بعدة قرون.
وإنما العامل الهام هنا إنما ينبغي في الواقع أن يلتمس في فشل العلوم البحتة في تأثيرها في الهندسة ونواحي النشاط الاقتصادية الأخرى، أو التأثر بها. ونستطيع أن نؤكد أن العلم الحديث قد اتخذ صورته، وأنه تقدم وعاش بسبب الثورات التجارية والصناعية في الأزمنة الحديثة إلى حد كبير. وإذا عبرنا تعبيرا مبتذلا قلنا إن العلم قد عاد علينا بالمنفعة، في حين أنه لم يكن نافعا في العالم القديم. والواقع أننا نرتد هنا إلى سؤال آخر، وهو لماذا لم تقم في الأزمنة القديمة ثورة صناعية؟ كانت هناك بداية في التطبيق، وفي أعمال البنوك وفي التكنولوجيا على السواء. ولكن لم يكن هناك نقص في العمال. وكيف تكون هناك مشكلة العمال مع وجود الرق؟ ومن ثم فلم يكن هناك حافز على إنتاج الآلات التي توفر العمل.
ونستطيع أن نقول في إيجاز إن من بين المصادر المعقدة كلها التي تمخضت عن العالم العلمي الحديث - الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والروحية - لم يتطور تطورا كاملا إلا المصدر الفكري في العالم الإغريقي الروماني.
أما الفرض بأن زيادة التقدم في العلوم وما يتبعها من صناعات كان من الممكن أن يحمي العالم القديم من التدهور الذي أصابه أخيرا؛ فمسألة تستحيل الإجابة عنها. وقد كان المتفائلون في الغرب في القرن التاسع عشر يميلون إلى الاعتقاد بأن نشوب ثورة صناعية وعلمية كان من الممكن أن ينقذ العالم القديم. وهناك كثير من المفكرين في الوقت الحاضر يشكون في أن هذه الثورة قد أنقذت عالمنا فعلا.
ويرى أكثر النقاد المحدثين أن كل الإنجازات الفنية والأدبية الهلينستية، بل والإغريقية المتأخرة، أقل شأنا من مثيلاتها في العصر الأعظم الذي سبقها. ومع ذلك فإن بعض أولئك الذين لعبوا أعظم دور في التربية الكلاسيكية في الأجيال المتأخرة في أوروبا وأمريكا ينتمون إلى هذه السنوات المتأخرة - كاتب السير والأخلاق بلوطارخ، والمؤرخ بوليبيس والشاعر ثيوقريطس، والإمبراطور المفكر ماركس أوريليوس. ثم إن تلك الظاهرة الثقافية - حسنة كانت أم سيئة - التي نسميها البحث العلمي ظهرت أول ما ظهرت بوضوح في العالم الغربي في تلك السنوات.
ويقابل «المتحف» العلمي في الإسكندرية من الناحية الأدبية «المكتبة». وربما كانت هذه المكتبة في أوجها تشتمل على ما يقرب من خمسمائة ألف ملف، أو مجلد بتعبير اليوم. وكانت هذه الكتب مخطوطة باليد على صحائف طويلة من أوراق البردي، وهو نوع من الورق مصنوع من غاب عادي، وملفوف على صورة قريبة الشبه بصحائف عازف البيانو القديمة. وكان لا بد من فضها - بطبيعة الحال - لكي تمكن قراءتها. وكانت «تنشر» عن طريق نسخها باليد، وهي عملية شاقة كانت تقوم بها عادة الطبقة العليا من الرقيق.
وبالرغم من انعدام الجهاز الآلي الحديث في البحث، فإن الباحثين الإسكندريين - كمعاصريهم من العلماء - قد طوروا ما نعرفه في العصر الحديث بالنقابة. وكانوا في القديم يقابلون ما نعرفه في الوقت الحاضر بحملة الدكتوراه. كانوا يجمعون، ويصنفون، ويذيلون، ويحللون ويلخصون أعمال أسلافهم العمالقة من هومر إلى أرسطو. وقد بقيت إلى اليوم هوامشهم وتعليقاتهم بين السطور، التي دونوها في مخطوطات حقيقية وأسموها الحواشي، فيسرت كثيرا من الدراسة الكلاسيكية الحديثة. وهكذا ترى أن الإسكندريين كانوا حلقة أساسية في السلسلة التي تربطنا بثقافة الإغريق العظمى. وكما يحدث للباحثين منذ ذلك الحين، نظر أصحاب الخيال والكتاب المبدعون إلى عملهم بعين الازدراء، وحط النفعيون من شأنهم، ورمقتهم الجماهير عامة بشيء من الحيرة. ولكني أرى أن أي شيء عاش بمثل النجاح الذي عاشت به هذه الدراسة لا بد أن تكون له عند المجتمع قيمة، على الأقل طبقا لنظرية دارون. ومهما يكن من أمر فإن من المخاطرة في الرأي أن نقول إن ظهور هذا النوع من البحث هو في حد ذاته دليل على التدهور الثقافي.
ولم تكن المكتبات التي يقوم فيها هؤلاء الباحثون بالدراسة شبيهة بمكتباتنا الأمريكية الدورية؛ إذ لم تكن ميسرة للجماهير. إنما كانت أماكن تحفظ فيها الكتب التي لا يستخدمها إلا الباحثون. ومع ذلك فلا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير معرفة الكتابة والقراءة كمقياس لسهولة الوصول إلى الأفكار. وقد كانت القدرة على الكتابة والقراءة محصورة في نسبة ضئيلة من السكان. وقد لاحظنا أن الأثينيين كانوا يتحدثون عن الأفكار أكثر مما يقرءون عنها. وبانتشار أسلوب الحياة اليوناني في الشرق، حمل الإغريق معهم عادتهم في الجدل العلني الحي. وكذلك حملوا لغتهم التي فقدت شيئا من رشاقتها في أتيكا ولكنها لم تهبط قط إلى مستوى الرطانة بالإنجليزية التي يستخدمها أهل الشرق الأقصى، وأصبحت اليونانية تعرف باسم «كويني» أي اللسان الشائع، لغة القديس بولس. ثم إن نظام المحاضرة الإغريقي القديم قد تطور حتى أمكن للمفكرين أن يكسبوا عيشهم - وكان الكسب عظيما جدا في الأزمنة المتأخرة للموهوبين بصفة خاصة وللمحظوظين - بطريقة تشبه طريقة الشوتوكوا الأمريكية في أول أمرها، أو الليسيه (أي إلقاء المحاضرات العامة لقاء أجر يتقاضاه المحاضر في شتى فنون المعرفة). ويعرف أكثرنا أن المصارعين المتفوقين - كلاعبي البيسبول المجيدين اليوم - كانوا يتقاضون أجرا عاليا في العالم الإغريقي الروماني، وكذلك أيضا كان الخطباء الناجحون، أو المحاضرون العامون. وكانت الثقافة الأدبية والفلسفية في العالم الإغريقي الروماني منتشرة بوضوح من بعض نواحيها. ولم تكن بالتأكيد محصورة في طبقة صغيرة عليا. وانتشرت المسيحية بين قوم ألفوا تبادل الأفكار علانية.
أما فيما خلا ذلك فقد كانت الثقافة الهلينستية تختلف اختلافا بينا عن ثقافة العصر العظيم، وإن يكن الأسلوب الكلاسيكي ما برح ملحوظا حتى في حالة التدهور والانحراف. وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى بعض اللمحات أو الصفات في الثقافة الهلينستية.
فأولا زادت الموضوعات التي كانت تتناولها الثقافة القديمة وتنوعت. وإنك لتلمس في الفن والكتابة الإغريقية والرومانية المتأخرة المدونة كل لون من ألوان الخبرة البشرية تقريبا. ولنضرب مثلا له أهميته وإن لم تكن له كرامته: إن الإنسان الغربي الحديث لم يضف جديدا إلا في القليل لمجموعة ما وصل إلينا من أدب فاحش، وربما كان هذا التنوع انعكاسا - إلى حد كبير - للفردية التي حلت محل التربية النظامية العامة والمعايير العامة في المدينة الحكومية. كان هناك في العالم الهلينستي تطلع إلى المكانة والنفوذ، والثراء، والتفات الجماهير (وهو هدف إنساني كثيرا ما يحط من شأنه رجال الاجتماع وعلوم السياسة). وكان من بين الوسائل التي يميز الفرد بها نفسه أن يؤدي غير المألوف، وأن يتطرف، وأن يكون مبدعا مبتكرا؛ فظهر مثلا ذلك الشاب الذي أشعل النار في معبد ديانا في أفيسس كي يخلد اسمه في التاريخ - وقد خلد. ومن السيكولوجيين من يسمي شهوة الشهرة المتطرفة «عقدة البطولة».
وإذن فقد امتدت أنماط الثقافة القديمة، وتحورت، وانتشرت بعدة وسائل. ومن اتجاهاتها - التي تتجلى خاصة في فن النحت - السعي وراء المعبر، والمحرك للشعور ، والمؤسي، والمثير. وقد حل محل الهدوء البادي في تماثيل البارثينون لاوكون وأبناؤه يتضورون ألما وسط الأفاعي الملتوية، والغال الميت، وتماثيل هومر الكفيف التي تدعو إلى الحسرة. ومن الحق أن الوسائل القديمة كذلك ظلت باقية؛ فهناك فينوس دي ميلو والنصر المجنح في ساموزريس، وهي من أعمال العصر الهلينستي.
وهناك اتجاه آخر يتمثل في زيادة الزينة، وزيادة الترف، وبخاصة في المساكن الخاصة. وحتى في بناء المعابد حل الطراز الكورنثي الذي يتميز بأوراق الأقنثا (نوع من النبات الشوكي) الذي كان يؤثره الرومان محل الطراز الدوري البسيط. وبدأ الناس يتفاخرون بضخامة المباني، وإن يكن المهندسون المعماريون في العالم الإغريقي الروماني القديم عامة لم يحاولوا أن يقيموا ارتفاعا رأسيا شامخا، كما فعل بناة الكاتدرائيات في العصور الوسطى وبناة ناطحات السحاب في العصر الحديث.
وهناك اتجاه آخر نحو ما نألفه في العصر الحديث وما نسميه التهرب. وربما كانت دقة البحث والعلوم مهارب للإغريقي الهلينستي، ولكن أوضح مثال هو شيوع الشعر الرعوي في مجتمع مدني؛ فقد كان الرجال والنساء من الطبقة العليا، الذين كانت تحوطهم أسباب الدعة والراحة في مدينة غاية في التقدم، يحبون أن يقرءوا عن الرعاة والراعيات، وعن الأودية التي تنمو فيها الغابات، وعن وجبات الخبز والجرجير، وعن الحب الصادق. ومما لا شك فيه أن كثيرا منهم تحول من القراءة إلى حماماتهم الساخنة، وأدوات الزينة، والرق، والولائم، والحب غير الصادق. وبقيت قلة منهم لا تسيغ هذه الأشياء. ولكنهم لم يكونوا يتهربون بمعنى ساذج. كانوا ثائرين، مستعدين للقيام بأمور أكثر جدية من أناشيد الرعاة لثيوقريطس. كانوا في الواقع مستعدين للمسيحية، وسوف نعود إليهم.
والفكاهة أيضا صفة هلينستية مميزة. وهي صفة تظهر دائما في كل ثقافة ناضجة. حقا لقد كانت الفكاهة موجودة عند أرستوفان، مصحوبة بكثير من الابتهاج والصراحة. غير أن الفكاهة الهلينستية أشد حقدا، وأكثر تهذيبا، وهي تتحول إلى سخرية في يسر وسهولة. وقد كانت أسلوبا يقول به المؤلف شيئا ظاهرا للعامة، وشيئا آخر يفهم تلميحا للأذكياء والمطلعين. وأحيانا توجه الفكاهة إلى النقائص ومواطن الضعف في طبيعتنا البشرية المشتركة. وكان الإغريق المتأخرون، وأتباعهم من اللاتينيين، مغرمين برسم الشخصيات رسما دقيقا، وبالسخرية، التي قد تكون مريرة جدا، أو مرحة جدا. وكثيرا ما كان هؤلاء الساخرون واقعيين كذلك. وفيما يلي - على سبيل المثال - ترجمة لقصيدة لأحد الكتاب المتأخرين، قد حفظت ضمن مجموعة رائعة من الشعر اليوناني عرفت باسم «مجموعة بالاتين». وهي تبين لنا عرضا أن العالم الوثني كان به نباتيون:
انطلق وسط جذور النبات في بستانه،
وتناول سكينا وحز رقاب الجذوع،
وقدم لنا كومة فوق كومة من طعام أخضر،
كأن ضيوفه غنم لها ثغاء،
من سدب، وخس، وبصل، وحبق، وكرات،
وفجل، و«شكوريا»، وحلبة، وجنجل، ونعناع،
وترمس مسلوق - ولم يقف عند حد.
ولما أقبلت آخرا من خوفي،
حسبت الطعام المقبل برسيما مجففا.
أما بالنسبة إلينا فإن أهم اتجاه سارت فيه الثقافة الهلينستية هو الواقعية، أو الاتجاه نحو استعادة جانب من جوانب الحياة الخارجية، أو الطبيعة، أو استعادة أمينة بالمجهود البشري. والواقعية بهذا المعنى تتغلغل في الثقافة الهلينستية لدرجة التطرف؛ لأن الصدق في هذه الدنيا يمكن في الواقع أن يساير الخيال. وفي العالم الخارجي مجال فسيح أو مدى واسع من الأمثلة المحسوسة تبلغ من العظمة بمقدار ما يستطيع الخيال البشري أن يحيط. والتطرف نادر، وهو نادر جدا أحيانا، واستخدامه قصدا في عمل فني، وبخاصة في الفنون التشكيلية، كان مما لا يرضى عنه الإغريق في العصر العظيم. في حين أن استخدامه بهذه الطريقة كان مما يتفق ومزاج الإغريق في العصر الهلينستي، بل لعله كان يشبعه ويرضيه. ومهما يكن من أمر فإن الإغريق الهلينستيين تمادوا فصوروا كل تجعيدة في الجلد، وكل زائدة، وكل نتوء.
وفي هذا العصر - على سبيل المثال - تروى حكايات عجيبة عن الواقعية التي حققها كبار المصورين، وتروى قصص عن الناظرين إلى الصور الذين حاولوا أن يجمعوا الثمار من الصورة أو أن يجذبوا الستائر المصورة فوق الجدران. واحتلت الكوميديا الواقعية الجديدة لميناندر، الذي وضع على خشبة المسرح رجالا ونساء عاديين، وجعلهم يسلكون سلوك الذكور والإناث، واحتلت هذه الكوميديا مكانة الكوميديا القديمة لأرستوفان، التي كانت لا تزال مرتبطة بتقاليد الطقوس التي تقام في حفل ديونيسس. وقد كتب أحد النقاد المعجبين بميناندر عنه هذه العبارة: «أي ميناندر ... أيتها الحياة ... إني لأعجب أيكما نقل عن الآخر؟» ولم يصل إلينا من أعمال ميناندر إلا مقطوعات مجزأة، ويجب أن نذكر أن العبارة السالفة بمقاييسنا فيها شيء من المبالغة؛ لأن تعلق ميناندر بحكايات اللقطاء، والإغواء، وتقلبات الحظ المفاجئة، ومشاهد اللقاء، يبدو لنا فيه شيء من الافتعال والتكلف.
ولكنا نستطيع على وجه العموم أن نرى في هذه الواقعية الأدبية والفنية شيئا مألوفا لنا. وإذا كان هؤلاء الواقعيون يجدون الواقع في كثير من الأحيان كئيبا أو تافها، أو كلا الأمرين معا، فكذلك كان الواقعيون في القرن التاسع عشر. وإذا كان الواقعيون أحيانا يثبون من المألوف العادي إلى العجيب الرائع فنحن أيضا على علم بهذا الوثب. ونستطيع أن نرى أنفسنا في رجال ونساء الفن الهلينستي، أيسر كثيرا مما نرى أنفسنا في رجال ونساء فن الثقافة العظمى؛ لأنهم يبتعدون عنا إلى درجة ما بما لديهم من كمال - وبما لديهم من أسباب النقص. وإليك جزءا من تمثيلية صامتة لثيوقريطس، وقد رددته الألسن أجيالا عدة مع التعليق بأن هذا الجزء كان من الممكن أن يكتب بالأمس فقط. هنا نجد جورجو، وهي سيدة من الإسكندرية، تنادي صديقتها براكسينو، التي كانت في دارها مع طفلها ووصيفتها:
جورجو :
هل براكسينو بالدار؟
براكسينو :
أنا هنا أخيرا يا عزيزتي، على أتم استعداد ...
جورجو :
إن بلوغي هذا المكان قصة تدعو إلى العجب ...
براكسينو (إلى الوصيفة) :
يونو، هات للسيدة مقعدا، وأتي لها بوسادة.
جورجو :
المكان مريح كما هو.
براكسينو :
اجلسي هنا هنيهة.
جورجو :
لماذا لا يبقى الناس في بيوتهم؟ كدت ألا أبلغ هذا المكان حية ... الجمهور في كل مكان يسير بغير هدف، ومئات من الناس ينتقلون في العربات ... هنا أحذية أعقابها عالية، وهناك جنود، والطريق لا نهاية له ... لقد اخترت لنفسك مسكنا قصيا.
براكسينو :
إنه ذلك المجنون ... الذي طار إلى أقصى العالم، ثم جاء إلى هنا. واختار جحرا ، ولم يختر بيتا، حتى لا نتجاور، وكل هدفه - هذا الوحش الغيور - أن يفرق بيننا، وهذا طبعه، وهو كذلك دائما.
جورجو :
احذري يا عزيزتي في حديثك عن زوجك، كوني حريصة، وبخاصة حينما يكون صغيرك بجوارك. ما أقسى نظرته إليك! (إلى الطفل)
حسنا يازوبريون، يا حبيبي الصغير، إنها لا تعني أباك، إن أمك لا تعنيه.
إنه يلاحظ - ولا يزال الوقت مبكرا وربتي ... هل أنت في انتظار أبيك الحبيب؟
براكسينو :
هذا «الأب الحبيب»، كنت ذات يوم في حاجة إلى صابون وأحمر الشفاه، وطلبت إليه أن يعنى باختيارهما، فتوجه إلى الحانوت، وعاد إلي هذا الأحمق، هذا الأخرق الضخم الطويل، بملح! وإني لأصدقك القول ...
إن التفكير الشكلي الهلينستي يتمم الفلسفة الإغريقية. وقل ما أضافوه إلى عمل الفلاسفة في عصر الثقافة الأعظم في أكبر المشكلات، مشكلات الميتافيزيقا والكون. بيد أن المفكرين الهلينستيين توسعوا - في مشكلات الحياة اليومية، والأخلاق - بشيء من التفصيل، وبكثير من التنوع في الاتجاهات الرئيسية التي أخذوها عن الفلاسفة الأولين. وتناولوا بالدرس الدقيق وفي شغف شديد الفلاسفة والأدباء، واتسع مجال الفلسفة، أو أصبح على الأقل أشد وضوحا، حتى إنا لنستطيع أن نقول مرة أخرى إن الغرب الحديث لا يكاد يضيف جديدا على ميراثه الفلسفي الكلاسيكي.
وإذن فقد كانت هناك أولا كل صنوف الخبرات الفلسفية الأساسية والفرعية، وهذا التنوع يتمثل - كما تمثل في الحكايات التي رويت عن فن التصوير - في التفسير الشعبي لما كان يفكر فيه الفلاسفة. وكان هناك المتشككون الذين شكوا في أنهم يشكون فيما كانوا يشكون فيه. وهناك ديوجنيز الساخر، أو الفيلسوف الكلبي، الذي كان يعيش في حوض، وعرفناه رجلا مر اللسان، فطنا، ثائرا على التقاليد، أكثر مما عرفناه زاهدا متطلعا إلى العالم الآخر. وهناك العقليون الأبرياء، أو المناطقة، الواثقون بأنفسهم، الذين كان بوسعهم أن يفسروا (أو يعللوا) كل شيء، وبخاصة العقائد الدينية التي نبذوها. وقد تأملوا بغير هوادة ذلك الذي نسميه الأساطير اليونانية، وفسروها تفسيرا دقيقا؛ ففسر العقليون قصة أكتايون، ذلك الصائد الذي التهمته كلابه؛ لأنه أساء إلى الإلهة أرتميس، على أنها قصة شاب بوهيمي مسرف، استنفد كل أمواله في تربية قطيع من كلاب الصيد، فانقض عليه دائنوه.
وكذلك كان للاعقليين - إذا جاز لنا أن نستخدم في حياء لفظا أسيء استخدامه - من يمثلهم. ولم تحدث المبالغة في فلسفة أفلاطون التي تنتمي إلى العالم الآخر، والتي نسميها في كتب الدراسة «الأفلاطونية الجديدة» إلا في العصر الروماني، لا في العصر الهلينستي على وجه التحديد. غير أن أفلوطين، الذي ولد في عام 204 بعد الميلاد، وهو أعظم فلاسفة الأفلاطونية الجديدة، ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة من المتصوفة، وبعضهم مسيحي، وبعضهم الآخر وثني. وقد كان أفلوطين يؤمن بتلك العقيدة الشائعة بين المتصوفين، وهي أن الفرد إذا درب تدريبا صحيحا يمكنه أن يبلغ حالة من النشوة التي «لا يدري» فيها بنفسه كحيوان، أو إنسان واع، يكتسب الخبرة بحواسه. إن الروح الصافية - عند أفلوطين - يمكن بالفعل أن تخفي العالم المادي في الوجود الذي هو حقيقته، وتتحد مع نور الإله.
وفي هذا العصر أيضا انتهى الفلاسفة وتلاميذهم إلى تكوين جماعات خاصة، تعرف بالمدارس، التي كانت تحتفظ بفكرة الأستاذ، وورثوا الفكرة للأجيال التالية، بعد تحويرها تحويرا ليس منه مناص. واتخذ أتباع أفلاطون اسمهم من الأكاديمي، وهو تلك الغرفة الأثينية التي كان يعلم فيها. أما أتباع أرسطو فقد أطلق عليهم اسم «المشائين» (أو المتحركين)، وذلك على الأرجح لأنهم كانوا يمشون وهم يحاضرون ويتفلسفون. ولكن مدارس الفلسفة الهلينستية التي يتميز بها هذا العهد هي تلك التي عرفت بالرواقيين والأبيقوريين، وكلاهما مستمد من المدارس التي سبقتهما بشكل واضح، وكلتا المدرستين تهتم بالمشكلات الكبرى التي تتعلق بملاءمة الإنسان لبيئته الطبيعية والبشرية أكثر مما تهتم بالمشكلات الكبرى في الميتافيزيقا، وكلتاهما فلسفة يتعزى بها الإنسان، ووسيلة يتحصن بها الفرد في عالم قاس شديد.
والأبيقورية، التي تسمى باسم أبيقور، زعيم المدرسة، أصبحت منذ أيام زعيمها من أكثر الفلسفات التي أسيء استخدامها. يؤمن الأبيقوري بإله بعيد، ولكنه رحيم، وبحياة هادئة فوق الأرض، وبتحاشي النضال والألم. وكان أبيقور يعتقد أن هدف الحياة الطيبة هو اللذة (وتوصف فلسفته وما يشبهها من فلسفات باللفظة اليونانية هيدوني «أي اللذة» التي اشتقت منها الكلمة الإنجليزية «هيدونزم»؛ أي مذهب اللذة). واكتفى خصومه، كما اكتفى الجمهور العام بكلمة «اللذة»، ففرضوا في الحال أن أبيقور قصد الانغماس في اللذة الحسية وفي كل ضروب الفساد، وهذا بالذات ما لم يقصده، أو كما قال: «حينما نقول إن اللذة هي الهدف وهي القصد، لا نعني ملذات الإسراف أو ملذات الحس، كما يفهم بعضهم أننا نعني ذلك عن جهالة، أو تعصب في الرأي، أو تفسير خاطئ مقصود. إنما نعني باللذة انعدام الألم في الجسم والطمأنينة في الفؤاد، ليست اللذة سلسلة متصلة من مجالس الشراب والعربدة، وليست الحب الجنسي، وليست الاستمتاع بأكل الأسماك وغيرها من لذائذ الموائد المترفة التي تؤدي إلى حياة سارة. إنما اللذة هي التفكير الصاحي، والبحث عن أسباب كل اختيار وكل مجانبة، والقضاء على تلك العقائد التي تسيطر على النفس بسببها الجلبة والضجة العظمى.»
ومن الطبيعي أن يصبح بالإمكان تطبيق الفلسفة التي ترى أن اللذة هي الخير على الأمزجة المختلفة؛ فكان هناك - من غير شك - أبيقوريون أشرار، ولكن يجب أن نذكر أيضا أن في كل عقيدة فلسفية رجالا أشرارا. وقد مال إلى الترحيب خاصة بالأبيقورية كفلسفة، بعض أفراد الطبقات صاحبة الامتياز الذين اتجهت أذواقهم نحو الفنون والشعر والدراسات الهادئة، وكان يظهر بين الحين والحين أبيقوري من النوع الصارم حقا، كالشاعر اللاتيني ليوكريشس، الذي يدافع دفاعا حارا في كتابه «العودة إلى الطبيعة» عن الإلحاد. ولكن الطبقات العليا كانت رواقية على وجه العموم - وبخاصة أولئك الذين انتهى إليهم تدريجا حكم «العالم الواحد» في الإمبراطورية الرومانية.
فالرواقية إذن هي أهم مجموعة من مجموعات العقائد في العالم الإغريقي والروماني المتأخر، ما خلا المسيحية الناشئة بطبيعة الحال. ومؤسسها زينو - الذي لم يصل إلينا من أعماله إلا شذرات - كان يعلم في «ستوا بويكيل» في أثينا، ومن هذا المكان اشتق اسم أتباع المذهب، وهو بالإنجليزية «ستويك»، أو أولئك الذين ينتمون إلى السقيفة (أوستوا). وبتطور الرواقية إلى أسلوب من العيش أصبحت عند الخاصة في الإمبراطورية الرومانية ديانة كما كانت فلسفة، ومن الجلي أنها لم تسيطر كثيرا على قلوب عامة الناس في أي مكان. كانت العقيدة عقيدة تقشف، ولكنها لم تكن عقيدة زهد. وكانت تقوم أساسا على العقل، وتنطوي على الوعي بالمسئولية الخلقية، ولا تضع أملا كبيرا في هذه الدنيا أو في الدار الآخرة. ولن نلتقي بعقيدة شديدة الشبه بهذه، أو عقيدة اتسع انتشارها بين المتعلمين على هذه الصورة، حتى نصل إلى الاعتقاد بالله وحده مع إنكار الوحي والنظم الدينية، ذلك الاعتقاد الذي ظهر في القرن الثامن عشر.
وكان الرواقي يؤمن بإله واحد، وإن يكن قد عبده تحت أسماء عدة. وكان إلها رحيما قادرا على كل شيء، يهتم بأبنائه ويريد لهم أن يحيوا حياة فاضلة. أما لماذا لم يحيوا حياة فاضلة - وتلك هي مشكلة الرذيلة - فقد كان موضوعا شائكا بالنسبة للرواقيين كما كان لغيرهم ممن يعتقدون بوجود الله. ولكن الرواقي العادي كان يؤمن بأن الرذيلة أمر لا بد من مكافحته، ومن واجب المرء أن يلبي دعوة الجهاد، والحياة الفاضلة لا تختلف في ممارستها عند الرواقي عنها عند الأبيقوري - البساطة، والرقة، وأداء ما يطلب إلى المرء عمله في هدوء. وكذلك لا تختلف الرواقية العملية كثيرا عن المسيحية العملية من الناحية الخلقية. وقد أعجب الكتاب المسيحيون إعجابا شديدا بخير كتاب أخرج في الرواقية، وهو «التأملات» للإمبراطور ماركوس أوريليس. ولكن الرواقية لم تتحول قط إلى كنيسة أو إلى منظمة إكليريكية، ولم يكن لها قط مجموعة رسمية من العقائد. غير أن ما قدمته للإمبراطورية الرومانية كان جليلا؛ فإن أكثر الرجال الذين أقاموا صرح هذه الإمبراطورية كانوا رواقيين - لم يكونوا مؤمنين مذهبيين، ولم يكونوا مفكرين متزمتين، ولم يكونوا ممن يؤلفون الكتب وإنما كانوا رجالا الرواقية عندهم أسلوب من أساليب العيش. ثم إن النظرة الرواقية العقلية إلى المساواة بين الناس كانت - كما سوف نرى في القسم الآتي - جزءا أساسيا من المواطنة الدولية في الإمبراطورية.
وفي كل هذه النظم الأخلاقية، بل وفي كثير من ثقافة العهد الفنية والأدبية، تستطيع أن تلمس عنصر التهرب؛ فإن الحياة الطيبة عند الأبيقوري والرواقي على السواء يمكن أن تعني - بل لقد عنيت فعلا بكل وضوح في أواخر عهد الإمبراطورية - بالنسبة إلى كثير من الرجال المهذبين، تجنب الأمور المبتذلة، وتجنب عرق النضال وقذارته، والتراجع إلى شيء يشبه العالم الآخر الصوفي الذي لمسناه عند أفلاطون وأفلوطين. إن شعارات المدارس الأخرى قد توحي بالهروب بدرجة أوضح - مثل الراحة عند المتشككين، و«الاكتفاء الذاتي» عند الكلبيين المتشائمين. ولكن عنصر التهرب لا ينبغي المبالغة فيه، وبخاصة بالنسبة للرواقيين؛ فإن أساليب العيش هذه التي نادوا بها لم تكن متطرفة، ولم تكن مدعاة إلى الحيرة، كما عبر عنها الأدب - وذلك على الأقل عندما تسربت هذه الأساليب إلى عقول عامة المتعلمين. وبين هذه الأساليب شيء مشترك، وهو أنها تميل إلى قبول العالم، لا كما هو، وإنما كشيء لا يمكن تعديله كثيرا على وجه الإجمال، وهي تحاول أن توفق بين الفرد وبين قبوله في تواضع وكرامة لما أتى له به «الله»، أو الآلهة، أو «القدر»، أو «العناية الربانية». وليس هذا القبول سلبيا إلى آخر حد؛ فالفرد - والرواقي خاصة - يؤدي واجبه في زمانه ومكانه، ويعاون معاونة إيجابية على استمرار هذه الدنيا في مسيرها. والواقع أنه لم يعبر عن وجهة النظر هذه في إيجاز مثلما فعل رجل فرنسي بعد ذلك بنحو ألفي عام: وذلك هو فولتير الذي كان بالإمكان أن يكون من الإغريق المتأخرين مثل لوشيان، عندما أنهى روايته «كانديد» بهذه العبارة: «لا بد أن نزرع حديقتنا.»
العنصر الروماني
عندما حل القرن الثاني قبل الميلاد كانت سلسلة الحروب الدولية العظمى التي بدأها الإسكندر الأكبر قد انتهت بانتصار إحدى القوى العليا المتنازعة، وتلك هي المجموعة الرومانية. ثم كان قرن آخر من الاضطراب عندما اختلف فيما بينهم قادة الجمهورية: يوليوس قيصر، وبومبي، ومارك أنتوني، وأغسطس، وغيرهم، فيما كان من وجهة نظر المؤرخ محاولة صادقة لتطبيق أداة دولة واحدة على حكم العالم بأسره. وقد تم هذا التطبيق في عهد أغسطس، وعند بداية العصر المسيحي تقريبا ظهر في الوجود ما نسميه الإمبراطورية الرومانية. ولنحو أربعة قرون بعد ذلك أصبح مجتمعنا الغربي، من بريطانيا وغربي ألمانيا إلى مصر وبلاد النهرين، وحدة سياسية، هي العالم الواحد الروماني. ولم يكن هذا العالم في سلام كامل بأية حال، بل كانت الحروب الأهلية بين المتنازعين على العرش الإمبراطوري كالوباء المتوطن في بعض الأحيان. وكان هناك ضغط مستمر في القرون المتأخرة من البرابرة الجرمان المهاجرين. أما في الشرق فقد كان الفرس والبارثيون - وهما لم تكونا قط من الدول الكبرى - مستقلتين برغم ذلك، وخطرا دائما يهدد الإمبراطورية. ومع ذلك فقد ساد السلام على رقعة من الأرض أكبر من أية رقعة أخرى استمتعت منذ ذلك التاريخ بمثل هذا السلام في مجتمعنا الغربي، وبخاصة في عصر الأنطونيين الذي يمتد بين عام 96 بعد الميلاد وعام 180 بعد الميلاد.
وقد بدأت روما ذاتها كمدينة حكومية أخرى بناها شعب يتكلم اللاتينية، وهي لغة أوروبية هندية. وربما كانت تتألف من أجناس مختلطة كما كان الأيونيون في أتيكا. وليس من شك في أن روما تدين بشيء من عظمتها لموقعها الجغرافي؛ إذ كانت تقع فوق تلال في موقع حصين على بعد بضعة أميال من مصب نهر تيبر، وهو أهم الأنهار في غربي إيطاليا. وربما كانت مدينة إلى ظهورها في فترة متأخرة على مسرح السياسة الدولية، وقتالها المعركة الأخيرة وهي في عنفوانها نسبيا. ولا ينفي هذا أن روما قد دفعت إيطاليا الموحدة إلى القتال. وبمعنى آخر، حلت روما المشكلة التي عجزت أثينا وإسبرطة وكل وحدة إغريقية أخرى عن حلها، وهي مشكلة تجاوز المدينة الحكومية. كانت إيطاليا الرومانية عندما حل القرن الأول قبل الميلاد وحدة أرضية عظمى على الأقل - إن لم تكن حكومة قومية بالمعنى الحديث - ذات مواطنة عامة، وقوانين عامة، ومصلحة مشتركة بين أجزائها (كومنولث)، ولم تكن مجرد دولة استبدادية. ولا تزال الأعمال السياسية والقانونية التي قام بها الرومان أشد ما يلفت النظر إليهم، حتى عند مؤرخ الفكر.
ومن لغو القول أن نقول إن ثقافة الرومان الفلسفية والأدبية والفنية مستمدة من الإغريق. ويعرض الموضوع بعضهم في صورة أقوى فيقولون بأنهم «قلدوا » الإغريق. ومع ذلك فإن مجموع الكتابات اللاتينية الوثنية، والأمثلة الباقية من الفن الروماني، يستحق أكثر من تلخيص مخل؛ ذلك أنه حتى عام 1450م على وجه التقريب كان الميراث الإغريقي المباشر مجهولا لنا في الغرب، وكانت روما لغرب أوروبا كله الناقلة الكبرى للثقافة اليونانية. وهي من هذه الزاوية وحدها ذات أهمية عظمى في تاريخ الحضارة. وإذا كنا نفتقد في الفلسفة الشكلية أية كتابة لاتينية ممتازة (وقد كتب الإمبراطور ماركوس أورليس باليونانية) فقد كان الأدب اللاتيني، لاتينية فرجيل، وشيشرون، وتاسيتس، وكاتلس، وأضرابهم، من أروع آداب العالم، لما تدين به للإغريق بالذات. كان أدبا له ذوقه الخاص، ولكتابة شخصياتهم الخاصة.
والتعميم في مثل هذه الأمور - كما ذكرنا من قبل - لا يحتمل الصياغة العلمية؛ فإن أولئك الذين يحاولون وصف الروح الروماني، والأسلوب الروماني، يختلفون كما يختلف أولئك الذين يحاولون أن يصفوا ما هو أمريكي، وما هو فرنسي، وما هو روسي، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية أكثر من الثقافة اليونانية واقعية، وتسبقها من الناحية العملية، ومن اليسير أن نقول إنها أقل شغفا بالسير نحو ما يمكن معرفته في النهاية - أو ما يمكن تصوره - في الكون، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية، هي الثقافة التي تلائم شعبا استطاع أن يرتفع من توفيق إلى توفيق حتى حكم العالم. لو قلنا ذلك لكنا في كل ما نقول صادقين. واللاتينية - برغم كل شيء - حتى باعتبارها لغة، أشد ألفة من اليونانية.
ولكن الكتاب اللاتين لا يصرون دائما بأية حال من الأحوال على مكانتهم. وهم إن لم يستطيعوا أن يتسنموا الذرى، يستطيعون أن يسبروا الأغوار. وكان كاتلس - وهو من أقدم الشعراء اللاتين - يكشف عن نفسه في صراحة كأي أديب رومانتيكي في القرن التاسع عشر. والسخرية - وهي تعبير عن نوع من أنواع الاشمئزاز الخلقي - في أيدي اللاتين أرقى منها في أيدي الإغريق. وكان الروماني يستطيع أحيانا أن يندفع نحو حياة الفحش والتطرف، والفجور - شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره من الرجال العمليين ذوي العقول القوية. وهذه البذاءة - بذاءة العيش في ثكنات عسكرية - تنعكس انعكاسا مباشرا في كثير من الكتابات اللاتينية، وتنعكس بطريق غير مباشر في صدود رجال الأخلاق عنها.
ولكن الروح الرومانية في أحسن حالاتها - كما يعبر عنها الأدب - تبلغ درجة عظيمة من الوقار، كما يتبين في فرجيل - وإن تكن هناك على الأقل أقلية تجد هذا الوقار الروماني ثقيلا، جافا، مملا، كما يحدث دائما في مثل هذه الأمور، وليس طلاب المدارس وحدهم هم الذين يجدون شيشرون ثقيلا متكلفا. وإنك لتستطيع - على أية حال - أن تجمع مما خلف الرومان من أدب جانبا كبيرا من الحكمة المتعلقة بالكائنات البشرية؛ وذلك لأن الرومان وجهوا اهتمامهم إلى السلوك البشري أكثر مما وجهوه إلى الميتافيزيقا، أو علوم الدين، أو العلوم الطبيعية. وبعض هذا الأدب حديث بدرجة مذهلة، مثل ذلك الذي قاله كاتلس عن لزبيا «إنني أحب وأكره»، وبهذه العبارة كان سباقا لجانب كبير من الأدب الحديث الذي يتصل بالثنائية السيكولوجية. ثم إن الروماني - كرجل من رجال الأخلاق يبدو لبعض النقاد عاديا وواعظا - كما كان سنكا على سبيل المثال - أو أرستقراطيا زائدا في نضجه - كما كان هوراس مثلا.
أما في الفنون التي تتعلق بالأشياء أكثر مما تتعلق بالألفاظ، فقد بلغ الرومان أعلى مستوى لهم في المنشآت العامة التي صممت لاستغلالها دنيويا. كانت معابدهم، مثل «ميزون كاري» في نيم جنوبي فرنسا، الذي حوفظ عليه محافظة شديدة، مصممة على الطراز الإغريقي إلى حد كبير، ولكن المهندسين الرومان طوروا القوس بصورة لم يعرفها الإغريق. واستطاعوا أن يقيموا القنوات فوق القناطر، وملاعب السرك، والملاعب الكبرى، والقاعات العامة الفسيحة، التي كانوا يسمونها «الكنائس المستطيلة». وربما كانت بقايا القناطر - وتوجد منها واحدة كذلك تدعو إلى الإعجاب قريبا من نيم، تعرف باسم قنطرة دي جار - هي اليوم أشد الآثار المرئية تأثيرا، التي تدل على عظمتهم، وهي أمثلة رائعة لفن العمارة الذي تقصد منه المنفعة. وقد أقام الرومان هذه القنوات المقوسة العظيمة عبر الأودية، لا لجهلهم بقواعد «السيفون» أو ضغط الماء، وإنما فعلوا ذلك لأنه لم يكن بوسعهم أن يصنعوا المواسير التي تحمل تحت الضغط كمية كبيرة من الماء بتكاليف زهيدة.
أما في فن النحت، وربما في فن التصوير أيضا، فقد كان الرومان مقلدين للإغريق مباشرة. ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا سلسلة التماثيل النصفية التي بقيت لدينا من العصر الروماني المتأخر - وإن كان الإغريق الهلينستيون قد أغرموا بالواقعية في النحت كذلك. وكانت هذه التماثيل - بطبيعة الحال - لرجال من ذوي المراتب العليا، كالأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ وكبار ملاك الأراضي. أما عامة الناس فلا يمثلون بالحجر. وكان حكام العالم الروماني هؤلاء رجالا جذابين، ضخام الجسوم غالبا، أكتافهم عريضة، صلع في كثير من الأحيان، لا يشبهون كثيرا الذكور الإغريق المنحوتين في الحجر في عصر بركليز، وإنما كانوا رجالا من الواضح أنهم يعرفون كيف يشقون طريقهم في هذه الحياة. وهم في الواقع كمجموعة يشبهون شبها عجيبا صور رجال الأعمال ورجال السياسة الأمريكيين الناجحين.
إن أية مجموعة أمريكية من هذه المجموعات لا بد أن تشمل بعض رجال القانون، وكذلك كانت أية مجموعة رومانية؛ فقد كان أكثر رجال الأعمال الرومان على شيء من المعرفة بالقانون. والواقع أن ما نربطه أولا بروما الوثنية ليس أدبها، أو حتى هندستها، وإنما هو صنعهم للقانون الروماني. والحق أن هذا القانون لم يمت قط، وإنما هو باق على صورة من الصور في النظم القضائية الحية في المجتمع الغربي خارج البلاد التي تتكلم الإنجليزية، وحتى في هذه البلاد التي تتكلم الإنجليزية كان للتشريع الروماني أثر كبير في صياغة النظام القضائي الحديث. وإن كنت إلى الناحية العملية أشد ميلا منك إلى الناحية الجمالية أو الفلسفية فإنك تحس أن روما بقانونها وهندستها خدمت حضارتنا أكثر مما فعل الإغريق اللامعون.
إن كلمة «القانون» - بخاصة في اللغة الإنجليزية - تؤدي عدة معان، وهي من نوع الألفاظ الذي يهم علماء المعاني؛ فهي لا تستخدم فقط في المتشابهات في ميادين العلوم - كقانون الجاذبية مثلا - ولكنها في اللغة العادية كذلك اللفظ الوحيد لما تدل عليه في أكثر اللغات الغربية الأخرى لفظتان: «القانون» و«الحقوق» بالفرنسية، وما يماثلهما في الألمانية واللاتينية. نعم إن بالإنجليزية اصطلاحا للقانوني المحترف يدل على «العدالة»، وهو اصطلاح نشأ في إنجلترا نتيجة لمحاولة مقصودة لعلاج المظالم التي قد تترتب على التطبيق الحرفي الصارم للقانون. واللفظة الأولى من اللفظتين الفرنسيتين، أو الألمانيتين، أو اللاتينيتين، تدل على القانون بمعنى القاعدة الحقيقية التي تطبقها السلطات القضائية، واللفظة الثانية تدل على القانون بمعنى القاعدة السليمة من الناحية الخلقية. واللفظة الإنجليزية ل «العدالة» هي محاولة تعديل اللفظة الأولى بالرجوع إلى الثانية. وهذان الضربان (أو هاتان الفكرتان) من القانون، يكادان يتطابقان - على وجه العموم - عند الأفراد الراضين في المجتمع. أما الأفراد الساخطون فيميلون إلى التفرقة بينهما. وأقول بهذه المناسبة إن أداء لفظة «قانون» في اللسان الإنجليزي والأمريكي للمعنيين معا ربما جاء عرضا، وقد يدل على «جمود عقلنا»، ولكنا من الناحية العملية ندرك تمام الإدراك الفرق الكائن في القانون «كما هو» وفي القانون كما ينبغي أن يكون.
وكذلك كانت بشكل واضح كل الشعوب القديمة التي تعرضنا لها في هذا الكتاب. والواقع أنه من الراجح أن أكثر الشعوب بدائية تفرق بين الظروف القائمة والظروف المستحبة، وهذا التمييز هو من الناحية السيكولوجية الفارق الأساسي البسيط الذي بحثناه، ولكنا - دون أن نتعمق مشكلات فلسفة القانون المعقدة - نجد فارقا آخر يتصل بما نحن بصدده، وهذا الفارق يبين بصورة أكمل صفة الابتكار في القانون الروماني بشكله الناضج، وأهمية هذا القانون. قد ينظر إلى «القانون» نظرة تقديس حتى تتعلق جميع تطبيقاته العملية بذلك النوع من القانون الذي يستهدف «ما ينبغي أن يكون». ومثل هذا القانون يمكن كسره في عالم «الكينونة»، ولكنه في مثل هذه الظروف في نظر الرجل البدائي ينكسر بالمعنى الذي نفهمه من كسر قانون الجاذبية - وهنا يجب على الأمريكي الحديث أن يستخدم خياله لكي يفهم الشعوب البدائية. ويستطيع المرء أن يقفز من فوق سطح في محاولة كسر قانون الجاذبية، غير أن المحاولة بطبيعة الحال لا يمكن أن تنجح. ويستطيع اليهودي البدائي أن يمس تابوت العهد بالرغم من أن قانون يهوه يحرم عليه ذلك، ولكنه يهلك بطبيعة الحال لتوه إن هو حاول ذلك. ف «القانون» إذن من هذه الناحية شيء يسمو على قدرة التفكير البشري، شيء أوحي به أو وجد، لم يصنعه البشر، ولكنه كامل، لا يتغير، وهو شيء مطلق.
هذه المشابهة التي ذكرناها آنفا بين القانون الموحى به، والشريعة الموسوية مثال معروف له، وقانون الجاذبية كما يفهمه أكثرنا هذه المشابهة - كأكثر المشابهات - لها نقائصها المنطقية، ولكنها نافعة من الناحية السيكولوجية، ويمكن أن نتابع السير فيها قليلا للانتفاع بها. قد يطرأ على ذهنك من يتحدى الجاذبية «وقد يكون مزودا بالباراشوت» (أو بالبالون أو الهليكوبتر). إنه في هذه الحالة «لا يكسر» أو يتحدى قانون الجاذبية، ولكنه على الأقل «يتحايل عليه» بطريقة ما، أو قل إنه يطبقه على أغراضه. وكذلك - من وجهة نظرنا الحديثة على الأقل - فإن الرجال الذين وكل إليهم حكم هذه المجتمعات القديمة تحت «القانون الموحى به» فعلوا شيئا من هذا القبيل بهذه المجموعة من الأحكام الجليلة المطلقة؛ فقد تحايلوا عليها واخترعوا ما نسميه (لا ما يسمونه هم) الشكل القانوني. لقد قاموا بالفعل بشيء جديد، شيء مختلف، شيء من المواءمة، ولكنهم استخدموا الأشكال القديمة، والألفاظ القديمة، والوسائل القديمة «الصحيحة»، يقول القانون لا يفعل كذا وكذا إلا الابن. ولم يكن لسمبرونيس ابن، ولكنه يستطيع أن يتخذ له بالتبني ولدا، ويزعم أن ابن غيره هو في الحقيقة ابنه. ثم يؤدي طقوسا معينة، فيكون له ولد يقوم بالأعمال التي ليس لغير الابن أن يقوم بها. إنه بذلك لا يتحدى القانون، ولكنه يتحايل عليه قطعا. وليس هذا الضرب من السلوك معدوما بأية حال من الأحوال حتى في المجتمعات الحديثة كما قد يظن بعض العقليين منا.
ومع ذلك فقد ألفنا نحن المحدثين أن نحسب أن القوانين إن هي إلا تنظيمات لتيسير المعاملة في العلاقات الإنسانية، فإن أردنا أن نقوم بعمل جديد، فمن عادتنا أن نفسح قانونا قديما ونضع قانونا جديدا. ولدينا في التعديل الثامن عشر والحادي والعشرين للدستور الأمريكي مثال طيب. ويبدو أن اليهود، والإغريق، والرومان، جميعا قد بدءوا بفكرة القانون الموحى به الذي لا يتغير، ولكنهم حوروا هذا القانون من الناحية العملية. أما إلى أي حد كان زعماؤهم - وبخاصة في الأزمنة القديمة - يدركون ما هم فاعلون، وإلى أي حد كانوا بالفعل يزعمون أنهم يتبعون القانون في حين أنهم في واقع الأمر لا يتبعونه - أما هذا فهو أمر شائق ولكنه شائك. ويجوز لنا أن نتغاضى عنه هنا.
وقد تجاوز الرومان بصورة أوضح عما فعل أي شعب قديم آخر مرحلة تحوير قوانينهم مع الزعم بأنهم لا يقومون بأي تحوير. وعندما حل العصر الإمبريالي كان القانون الروماني في الواقع مجموعة من القواعد المذهبية المعقدة اعترف المشرعون أنفسهم أن لها مصادر متعددة، أساسها قوانين الجمهورية، معدلة باللوائح، وأحكام القضاة، وتفسير الخبراء الباحثين، والقرارات الإمبراطورية - أو المراسيم - منذ عهد أغسطس. تغير القانون بشكل واضح، وكان لا يزال يتغير. وأدرك الناس إدراكا تاما ما نستطيع أن نسميه اليوم الأساس الاجتماعي للقانون، تقريبا في الوقت الذي توقف فيه عن النمو القانون الروماني - في صورته الأولى ومداه الأولي. وقد تمت في «الشرق» أعظم صياغة قانونية - وهي التي أنجزت تحت حكم الإمبراطور جستنيان في القرن السادس بعد الميلاد - قبيل حلول العصور المظلمة «بالإمبراطورية الشرقية». أما التطوير الآخر للقانون الروماني، وتطبيقه على الكنيسة المسيحية، وعلى المجتمعات الأوروبية في العصر الوسيط والعصر الحديث، فقصة أخرى.
لقد جعل الرومان أولا القانون شيئا حيا ناميا، يطبقه رجال القانون عن وعي على المطالب البشرية المتغيرة. وكذلك يرجع إليهم الفضل في عمل آخر يتصل بهذا الصدد. لم يكن القانون عند الشعوب الأولى، عند اليهود على سبيل المثال، مجرد مجموعة من القواعد السماوية، كاملة لا تتغير، إنما كان مجموعة من هذه القواعد التي وضعت لهم دون غيرهم؛ فليس لأحد غير اليهودي أن يطيع الشريعة الموسوية. ولا يحاكم طبقا لقانون أثينا إلا الأثيني. وقد رأينا أن الأنبياء اليهود قد ارتفعوا إلى تصور إله - يهوه، وقانون سماوي، يشترك فيه الناس أجمعون. وكذلك استطاع الإغريق من الناحية الفلسفية - حتى عندما بلغت المدينة الحكومية أوجها - أن يتصوروا بشرية تتجاوز التمييز بين الإغريق والبرابرة. أما الرومان - بصفة خاصة - فقد فعلوا شيئا من هذا القبيل لا بالمعنى الفلسفي أو الديني، ولكن بطريقة عملية؛ «ذلك أنهم نقلوا قوانينهم إلى غيرهم من الشعوب».
والظاهر أن روما - تلك المدينة الحكومية الصغيرة القائمة على سبعة تلال على ضفاف التيبر - كانت لها في أول الأمر قوانينها السماوية الخاصة بها وحدها دون سواها. وكانت هذه القوانين امتيازا وملكا للمواطنين الرومان مولدا. ولم يمد الرومان قاعدة المواطنة الرومانية إلا تدريجا. وكان حكامهم - مستعينين في حذر بمجلس الشيوخ - يمنحون المواطنة الرومانية للأفراد الأجانب الذين يحبون أن يضموهم إلى جانبهم، ثم للمجتمعات، وأخيرا لمساحات أفسح. وفي وقت مبكر اخترعوا نوعا من المواطنة الوسط، وهي اللاتينية، التي كان صاحبها يشترك في الامتيازات التجارية النافعة وما إليها، ولا يشترك في الامتيازات الشخصية، والسياسية، وشبه الدينية، التي يتمتع بها المواطن الروماني الكامل. وفي الفترة التي تقع بين عام 500ق.م وعام 100ق.م، التي كان يتشكل فيها الرومان قطعا، فلم يكن ذلك كله يتم طبقا لنظرية مقصودة تستهدف توسيع رقعة السيادة السياسية، أو على غرار طريقة الأمريكان في اكتساب المواطنة بالتجنس - بمنح الجنسية الرومانية قصدا.
وقد وسع من المواطنة الرومانية، ومن الحكم الروماني عامة، رجال أعمال حاولوا أن ينجزوا أمورهم بتخفيف التوتر، والشد والجذب، بين شعوب كثيرة. ولما حل الوقت الذي واجهت فيه روما المنازعات الدولية في السنوات القليلة الأخيرة قبل الميلاد، كان لديها ما لم يكن لدى أية مدينة حكومية إغريقية، رقعة أرضية ممتدة، حكمها فيها مقبول، وقانونها فيها سائد. ويدل على بطء عملية التوحيد السياسي هذه أنه، حتى في عام 90 قبل الميلاد - وهو وقت متأخر - ثار على روما حلفاؤها الإيطاليون، لأسباب لا تختلف كثيرا عن الأسباب التي ثار من أجلها حلفاء أثينا عليها في القرن الخامس. وقد هزمت روما الثوار في الميدان - ثم أعطتهم ما يريدون؛ المواطنة الرومانية الكاملة. وفي النهاية أصبح كل الأحرار مولدا، كما أصبحت كل الشعوب المختلطة من بريطانيا إلى سوريا، مواطنين رومانيين تحت حكم الإمبراطور كراكلا. وبالرغم من أن الرومان كان لديهم قانون متقدم للحكم بالنيابة ، إلا أنهم لم يفيدوا قط من هذا القانون من الناحية السياسية، ولم تكن لديهم مجالس تمثيلية؛ إذ كان لا بد للمواطن الروماني من أن يقطن روما لكي يكون له حق التصويت. ومن الطبيعي أن تحكم الدولة الرومانية العالمية بواسطة الإمبراطور، والبيروقراطية، والجيش. والواقع أن المواطنة في عهد كراكلا لم تعن إلا القليل من الناحية السياسية.
وما زلنا بحاجة إلى قاعدة عامة أخرى بشأن القانون الروماني. لقد وصفنا هذا القانون بأنه شيء تام، وأنه لم يكن ثمرة للتفكير المجرد، وإنما كان ثمرة للحاجات العملية لشعب لم يتجه كثيرا نحو التفكير المجرد. وما ينبغي لنا - برغم ذلك - أن نحسب أن القانون الروماني هو من إنتاج قوم غير مفكرين، انتهازيين يغتنمون الفرص، رجال معادين للمنطق، فخورين بالمسير العشوائي. إنما كان القانون الروماني - على نقيض ذلك بشكل واضح - ثمرة أجيال من التفكير المنطقي الصارم. وأهم من ذلك أن رجال القانون لم تغب عنهم قط فكرة المثل الأعلى، وفكرة القانون «كما ينبغي أن يكون» - وأعني بإيجاز فكرة العدالة، وهي (بالإفرنجية) لفظة لاتينية، ولكنهم لم يستطيعوا في العالم الروماني المعقد الذي جاء في عهد متأخر أن يحتفظوا بالعقيدة الساذجة القديمة بأن الآلهة قد أوحوا مباشرة بقانون العدالة. ولما كانوا قوما عمليين، معقولين، تعودوا حمل المسئولية، فقد كان لا بد لهم من الإيمان بالعدالة. ولم يكن بوسعهم أن ينظروا إلى العدالة كفكرة نبيلة، ولكنها فكرة مجردة غير واقعية، أو أن المرء يستطيع أن ينصرف عنها، أو أن الحق هو القوة. إن ما فعلوه هو أنهم وضعوا الطبيعة مكان الآلهة. اخترعوا فكرة «القانون الطبيعي» التي لعبت دورا هاما في كل ما جاء بعد ذلك من تفكير سياسي.
والقانون الطبيعي بهذا المعنى ليس وصفا عاما لما يجري فعلا في هذه الدنيا الطبيعية، دنيا خبرتنا الحسية. وهو ليس قانونا طبيعيا بمعنى أن قانون الجاذبية قانون طبيعي . إنما هو تحديد ووصف للعالم «كما ينبغي أن يكون». ومع ذلك فإن لفظة «ناتورا» (أو الطبيعة) باللاتينية، ومقابلتها «الفيزيقا» بالإغريقية، تحمل بالتأكيد الدلالة على الموجود، على ما يكون في الزمان والمكان، على «هذه» الدنيا. وربما كان من بين الأسباب الكبرى لنجاح فكرة القانون الطبيعي هو أنها، وإن كانت في الواقع فكرة من العالم الآخر، فكرة مثالية، إلا أنها تشير إلى هذه الدنيا في ثبات يجعلها فكرة عملية، وليست فكرة خيالية قط. إن الطبيعي ليس طيبا فحسب، إنما هو ممكن جدا أيضا.
وقد تسربت إلى المعنى الخاص للقانون الطبيعي كما تطور في العالم الإغريقي الروماني اتجاهات فكرية وتجريبية مختلفة متعددة، وكانت الفكرة الكلاسيكية الناضجة عن القانون الطبيعي - بشكل ما - إحدى النواحي الناجحة التي امتزج فيها التفكير الإغريقي بالتفكير الروماني.
وأبسط هذه الاتجاهات الفكرية ما اتجه إليه المشتغلون بالقانون في روما، وقد رأينا أن الدولة الرومانية مدت حق المواطنة - أو جزءا من هذا الحق - في وقت مبكر إلى أفراد وجماعات متعددة. وبقيت بعض هذه الجماعات - مع ذلك - أجنبية في الواقع وإن كانت محالفة، وسرعان ما تولدت عن التعامل التجاري بين هؤلاء الأفراد ذوي الأوضاع المختلفة مشكلات عرضت للحكم فيها أمام المحاكم الرومانية، ولم يستطع رجال القانون تطبيق القانون الروماني تطبيقا كاملا، ذلك القانون الذي كان لا يزال حقا، أو احتكارا شبه ديني، للمواطنين الرومان الخالصين وبيد أن المتخاصمين - وقد يكون أحدهما من نابلي والآخر لاتيني - قد نشآ في ظل قانونين مختلفين. فكان ما يفعله القاضي الذي ينظر في أمثال هذه الأمور هو أن يحاول أن يجد حكما عاما، أو نوعا من المضاعف البسيط في كل هذه القوانين والعادات والتقاليد المحلية؛ فالاتفاق التجاري في مكان ما قد يعني مجموعة الصيغ التي يجب تنفيذها، وقد يعني في مكان آخر مجموعة أخرى من الصيغ مختلفة عنها كل الاختلاف. ولكن ما هو المشترك بين الاتفاقين، وماذا وراءهما كليهما، ما هو الاتفاق الذي يصلح في المكانين معا؟ هذه هي الأسئلة التي وجهها رجال القانون الروماني إلى أنفسهم . وعند الإجابة عنها انتهوا إلى ما أسموه قانون الشعوب، الذي يتميز عن القانون الروماني الصحيح.
وقد انتهوا إلى هذا القانون الدولي العملي، إلى هذه الأحكام للبت في القضايا التي تنشأ بين أفراد من مواطن مختلفة، أو من وحدات سياسية مختلفة، بالموازنة بين القوانين الوطنية، أو المدنية، أو القبلية، القائمة ومحاولة إيجاد المشترك بينها. وفعلوا ذلك بنوع من التفكير ينطوي على التصنيف طبقا لمميزات «مستخلصة» من الكليات الحية المحسوسة التي بدءوا منها. ولم تكن القوانين التي وازنوا بينها شديدة التشابه باعتبارها كليات تخضع للممارسة. وإن كنت على معرفة يسيرة بعلم النبات أدركت أن ما فعلوه يشبه كثيرا ما يفعله العالم بتصنيف النباتات التي يقل بينها التشابه، كالتوت والورد، والتفاح، والأعشاب المتسلقة، أعضاء في الواقع من أسرة واحدة، هذا الضرب من التفكير في التصنيف والتبويب نوع شائع من التفكير، يستخدم على مستويات مختلفة من الإدراك العام إلى العلوم.
وإلى هذا الحد لم يفعل رجال القانون الرومان أكثر من إخراجهم أداة نافعة في البت في القضايا القانونية التي تشتبك في نظم قضائية مختلفة. لم يفعلوا في الواقع أكثر من أنهم مدوا إلى النظم المختلفة ما قاموا به بالنسبة إلى الأحكام القانونية المختلفة المتعارضة داخل نظامهم الخاص. إلا أنهم لم يكن بوسعهم إلا أن يحسوا أن «قانون الشعوب» المستحدث كان أكثر «عالمية» بشكل ما، وأكثر كمالا، وأشد صلاحية لجميع الناس، من النظم المحلية المنفصلة التي بدءوا منها. وهنا تدخل الفلاسفة الإغريق - وبخاصة الرواقيون - ليعاونوهم، ويحولوا قانون الشعوب إلى «القانون الطبيعي».
ذلك لأن الرواقيين كانوا قد توصلوا إلى نوع من العالمية الأرستقراطية التي تؤكد ما عند الناس من قدر مشترك يقابل ما بينهم من خلاف ظاهر، وما يلاحظه الرجل العادي، غير الحكيم - كما يرى الرواقيون - هو المظهر المختلف في هذه الدنيا وسكانها من بني آدم. أما ما يلاحظه الرواقي الحكيم فهو الوحدة الكامنة في كل خلق الله. إنه يرى الدائم، ولا يرى المؤقت أو العارض. والطبيعة تخدع غير الحكيم فتحمله على الظن بأنها متغيرة، متقلبة ، متعددة الجوانب، والطبيعة في الواقع عند أولئك الذين يستطيعون التغلغل في أسرارها، منتظمة، مرتبة، موحدة، لا تناقض فيها. ويرى الفيلسوف الرواقي أن «قانون الشعوب »، وهو القانون الدولي الشائع بين كثير من الأمم أقرب إلى الطبيعي من القوانين المنفصلة المتعددة، ومن نظم المدن، والقبائل، والأمم، وقد أمسى «قانون الشعوب» عند الطبقات الحاكمة في العالم الروماني، الذين نشئوا على دراسة القانون والأفكار الرواقية على السواء، نمطا معينا ل «القانون الطبيعي»، ولكنه لم يتحقق قط تحقيقا كاملا.
وجدير بنا ألا نغفل أن العام، والعالمي، و«الطبيعي» الذي ينشده رجل القانون أو الفيلسوف لا يعني بالضبط ما يعنيه أكثرنا ب «المتوسط» أو «الأكثر شيوعا». وكثير من النقاد المعادين لرجال القانون والفلاسفة زعموا أن فكرتهم العليا عن الطبيعي هي التوسط المميت، أو النقطة المتوسطة التي لا تثير الشعور في الخط البياني المنحني الذي يمثل انتظام الترداد في أمر من الأمور. وهم بالتأكيد لم يسووا بين «العالمي» و«المتوسط». ولم يكن العالمي عند رجل القانون هو أكثر الأعمال القضائية شيوعا، وإنما كان ذلك الذي يستطيع أن يميزه عقله على أنه المبادئ الخفية التي توحد جميع النظم القضائية. لم يكن المثل الأعلى عند الرواقي هو سلوك الرجل المتوسط، رجل الشارع، كلا لم يكن ذلك، وما كان أبعده عن هذا، وإنما مثله الأعلى قواعد السلوك التي تستخلص من الاتصال الطويل بحكمة الأجيال. «الطبيعي» في القانون الطبيعي «ليس ما هو كائن، وإنما ما ينبغي أن يكون» ولكنه يستند إلى نوع من أنواع «الكينونة» - وتلك هي «كينونة الإيمان».
الطبيعي أمر «ينبغي أن يكون»، وهو أمر نعلم من التاريخ أنه استهوى على الأقل المواطنين المتعلمين من الأصول الجنسية المتنوعة - من بريتون، وغال، وإسبان، وإغريق، ورومان، ومصريين، وسوريين. القانون الطبيعي - أو ما يظهر أنه أقرب تجسيد دنيوي له، وهو القانون الروماني المتطور في أروع نظام له - وضع لجميع الناس، لا كما كان القانون اليهودي أو الأثيني. ولم يكن القانون الروماني ملكا لقبيلة وحدها دون سواها. كما أن هذا القانون الطبيعي - من ناحية أخرى - لم يكن مجرد مجموعة من القواعد العملية التي يقصد منها أن يبقى كل شيء على ما هو عليه. إنما كان هو الآخر مجموعة من المثل، قانونا أعلى، محاولة لإنزال العدالة من السماء إلى الأرض. كان القانون الطبيعي - وهو ثمرة من ثمار القانون الروماني والفلسفة الإغريقية - من أكثر الأفكار المجردة أهمية في المجتمع الغربي. وسوف نلتقي به مرة أخرى، وبخاصة في القرون الوسطى، وفي القرن الثامن عشر، وسوف نلتقي أيضا عند ختام هذا الكتاب بمفكرين محدثين من غير العقليين يرون أن فكرة كهذه - فكرة القانون الطبيعي - كلام فارغ ليس له معنى، أو هو على أحسن الفروض محاولة لإخفاء حقيقة أن المجتمعات البشرية تحكمها دائما جماعة صغيرة لها امتيازات. ونستطيع هنا أن نتخلى عن مشكلة أهمية الأفكار المجردة كفكرة القانون الطبيعي في العلاقات الإنسانية، ونكتفي بالتنويه عن أن الفكرة الإغريقية الرومانية عن القانون الطبيعي كانت ك «مثل أعلى» فكرة عن الوحدة بين جميع البشر، فكرة ديمقراطية في أساسها.
الفصل الخامس
مذهب المسيحية
لا يستطيع أحد في العالم الغربي أن يفر من المسيحية فرارا كاملا، حتى أولئك الذين يعارضون ما يسمونه الديانة المسيحية لا مناص لهم من التأثر بما يعارضون فيه؛ ذلك لأن المسيحية قد لونت تفكير ومشاعر ما يقرب من سبعين جيلا من الرجال والنساء في الغرب، كما أنها سرت في القرون القلائل الأخيرة عن طريق المبشرين مع امتداد المجتمع الغربي في جميع أنحاء العالم. وقد برهنت المسيحية في الألفي العام التي عاشتها أنها قادرة - كأسلوب من أساليب العيش - على الانتشار والتنوع بدرجة لا يكاد يتصورها العقل. وظهرت بأشكال مختلفة في ثنايا كل ناحية من نواحي النشاط عند الإنسان في الغرب. «الانتشار والتنوع»، «بأشكال مختلفة» - هذه العبارات البسيطة الواضحة تسوقنا تجاه مشكلة التقينا بها من قبل عندما كنا نناقش عقائد اليهود الدينية، المسيحية ديانة «وحي» إلهها كامل، وهو يسمو عن الصور البشرية للزمان والمكان، بل ويسمو عن العملية التاريخية ذاتها. ولكن المسيحية هي كذلك ديانة تهتم كثيرا بسلوك الإنسان فوق هذه الأرض، وبرسالتها في الزمن التاريخي، وبالرغم من أن علماءها الدينيين قد جاهدوا جهادا شاقا حقا لكي يجعلوها ديانة فردية، إلا أنها ثنائية من بعض النواحي؛ فهي تعترف بوجود (أو بواقعية) الطبيعي وما فوق الطبيعي، أو بوجود الروح والجسد، أو الروحاني والمادي. والمشاهد من الخارج يرى أن المسيحية قد أظهرت قدرة فائقة ومقدرة على التكيف عندما واءمت بين نفسها وبين العالم الطبيعي، دون أن تفقد تحكمها في فكرة العالم الذي يقع فوق الطبيعة.
وسوف أحاول في هذا الكتاب أن أدرس المسيحية من الخارج، من الموقف الذي ينكر «وجود» ما فوق الطبيعي، وإن كان - بطبيعة الحال - لا ينكر أن البشرية في واقع الأمر تتطلع إلى ما فوق الطبيعة. وكثيرا ما شرحت المسيحية - وخاصة منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر - من وجهة نظر طبيعية تماما، وكان يقوم بهذا الشرح أحيانا رجال يسمون أنفسهم مسيحيين. وأكثر من ذلك أن هؤلاء الذين كتبوا في المسيحية، وأنكروا الوجود الحقيقي لما فوق الطبيعي، كانوا خصوما للمسيحية كديانة منظمة؛ أي كانوا - في الواقع - ضد المسيحية، وكثيرا ما كانوا ماديين أو وضعيين بالعقيدة. وهناك آخرون كتبوا عن المسيحية باهتمام شديد وخيال بعيد، لما فيها من جمال، أو أعجبوا بأخلاقها، وإن لم تعجبهم أصولها الدينية. كتبوا ذلك وإن لم يكن بوسعهم قبول العنصر فوق الطبيعي في العقيدة المسيحية، والواقع أن سلوك الكتاب الذين نبذوا المسيحية دليل واضح على أنه ليس من غربي يستطيع أن يفر فرارا كاملا من تأثيرها.
وسوف أحاول في هذا الكتاب أن أتحاشى أخطاء الكتاب غير المسيحيين الذين كتبوا في المسيحية، ولكن ليس هناك من قارئ مسيحي يتسرب إلى قلبه الشك لحظة؛ فإن لب الإيمان بالمسيحية، واعتقاد وجود ما فوق الطبيعة، وما هو سماوي، وما إلى ذلك، يقي المؤمن ضد الهجمات الطبيعية والتاريخية، وليس ذلك فحسب «ولكنه يتضمن أيضا نبذ التفسير الطبيعي والتاريخي». حصل مرة قسيس إنجليزي من المؤمنين بالعقل من مذبح إحدى الكنائس الكبرى خبزا مقدسا، ونبيذا مقدسا، تحولا بالتقديس إلى لحم الرب ودمه، فقدم الخبز والنبيذ إلى كيموي، ونشر تقريرا من هذا الكيموي بأن الخبز خبز والنبيذ نبيذ، ولكنه بذلك لم يهدم مركز الكنيسة البتة؛ فإن الكيمياء التي تختص كلية بالوقائع والنظريات في الطبيعة، وبالعمليات الطبيعية، ليس لديها ما تقول عن أي شيء يخرج عن نطاق هذه العمليات الطبيعية.
نمو المسيحية الأولى
العهد الجديد هو قصة حياة يسوع المسيح، وموته، وبعثه، وقصة المشاق والصعاب التي لاقتها الأجيال الأولى من المبشرين بالإيمان الجديد الذي يسمى بالمسيحية. ويعتقد المسيحي أن هذه القصة من وحي سماوي، وأن صدقها النهائي لا يخضع للتفسير التاريخي. غير أن الباحثين - برغم هذا - في القرون القلائل الماضية أخضعوا في الواقع نصوص العهد الجديد - كما فعلوا بالعهد القديم تماما - لنفس نوع الدراسة اللغوية والتاريخية الصارمة التي استخدموها في النصوص التي لم تعد وحيا أو مقدسة بأي معنى من المعاني، وما أسماه ألبرت شويتزر ب «البحث عن يسوع في التاريخ» استمر لعدة أجيال، وانتهى إلى نتائج غريبة. ولعل أغرب هذه النتائج ما استنتجته إحدى المدارس من أنه لم يكن هناك يسوع في التاريخ، وأن الشخص المسيحي الذي يمثل يسوع أسطوري، أو على الأصح مركب من عدة أساطير متنوعة. ومن العدالة أن نذكر أن مثل هذا الشك حتى في دنيا العلم يعد غاية في التطرف.
وإن كان الباحثون لم يتفقوا على مصادر الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم على اختلافها، فهم أيضا ليسوا على اتفاق مطلق على مصادر أو دقة ما يرويه العهد الجديد عن حياة يسوع وتعاليمه، وعن رسالة القديس بولس وأصحابه في أول العهد بالمسيحية. غير أن هؤلاء الباحثين يتفقون اتفاقا تاما على أنه «ليست لدينا رواية معاصرة مباشرة عن أي شيء مما قال المسيح أو فعل» وقد تسيء المشابهة التالية إلى الباحثين المدققين، ولكنها واضحة واقعية للأمريكيين العاديين، وهي ليست مضللة في أساسياتها. هب أنه لا توجد لدينا نسخ من خطب ورسائل لنكولن، ولا توجد لنا عنها سجلات مكتوبة معاصرة. هب أنه لا توجد لدينا صحف، أو روايات تاريخية، أو شيء مطبوع أو مكتوب فيما بين مولده في عام 1809م ومماته في عام 1865م مما يشير إليه أية إشارة، سوى مرجع غامض أو مرجعين يمكن الرجوع إليهما في مذكرات خاصة لرجل من رجال السياسة البريطانيين. وهب - مع ذلك - أنه قد كانت هناك روايات موجزة عن حياته كتبها في شيخوختهم رجال عرفوه في واشنطن على الأغلب، وربما عرفوه معرفة جيدة حقا. ونفرض أنهم اطلعوا على مجموعات مخطوطة تقص حكايات نلسن، وعلى تقارير هواة كتبوها مباشرة عن بعض خطب لنكولن، ونسخة مخطوطة عن ملخص حياة لنكولن بقلم سكرتيره هاي، كتبها في السبعينيات من القرن الماضي - من أمثال هذه المصادر دبج في عصرنا هذا ثلاثة من خير كتاب الحزب الجمهوري روايات مختصرة شاعت قراءتها، وكذلك فعل مثل هذا أستاذ - جمهوري أيضا - في العلوم السياسية، متحمس. وفي كل هذا وصلت إلينا عبارات مثل «دون حقد لأحد» و«حكومة الشعب بالشعب للشعب»، ولكن ربما لم تصل إلينا خطبة كاملة، سوى خطبة جتزبرج. وصلت إلينا روايات عن عفوه عن الحارس النائم من فرمونت، وعن إصداره الإعلان التحرير، وعن تأييده لجرانت. ولكن لم تصل إلينا قصة حياته وزمنه كاملة متتابعة.
ومن الواضح أننا لا يمكن أن نعرف عن لنكولن في هذه الظروف شيئا يقرب مما نعرفه اليوم. ولكننا - من ناحية أخرى - لا بد أن نعرف أكثر الأمور الأساسية عنه. ولن يكون تصويرنا للنكولن كما كان في الحقيقة مضللا بأية حال. ومن ثم فإنه من المؤكد تقريبا أن تصويرنا ليسوع ليس مضللا في الحقيقة بأي معنى من المعاني، بالرغم من أننا نستمده في الأغلب من القصص الإضافية التي رواها متى، ومرقص، ولوقا. ومن الحكايات التي يروى أنه رواها، ومن موعظة الجبل (التي ربما كانت نسبتها من حيث اللفظ إلى يسوع في التاريخ كنسبة خطبة جتزبرج إلى لنكولن في واقع التاريخ من حيث نص العبارة).
غير أن هذه المقارنة بلنكولن ليست على أحسن الفروض إلا للاسترشاد. وبالرغم من أن لنكولن جزء من ثقافة أمريكية وطنية، وبالرغم من أن كثيرا من الأمريكان قد عبدوه بمعنى ما، إلا أنه لم ينشأ حوله نظام ديني أو فلسفي عظيم. أجل لقد فسر عبارته المفسرون بشتى الطرق، ولكن أقواله لم تبلغ في شمولها مدى ما تشمله الديانة، وهي واسعة جدا في حقيقة الأمر. وليس بوسعنا هنا إلا أن نذكر بعض المشكلات المعينة الكبرى التي تتصل بالمسيح ورسالته.
ونحن نتساءل أولا: هل زعم يسوع التاريخي أنه ابن الله، أو أنه الله ذاته؟ لقد لقي رجال الدين المسيحي - كما سوف نرى بعد قليل - مشكلات عسيرة في سنوات تكوين الكنيسة في إيجاد حل مرض لما عرف فيما بعد بمشكلات المسيحية، في الأناجيل الثلاثة المجملة - كما تسمى كذلك - وهي القصص التي رواها متى ومرقص ولوقا، وفي الإنجيل الرابع - بطبيعة الحال - وهو أمعن في الميتافيزيقية، إنجيل يوحنا. في هذه الأناجيل الأربعة يروى أن يسوع قد استخدم عبارات بحاجة شديدة إلى التفسير الديني - مثل قوله: «مملكة الرب» و«ابن الإنسان» و«أبي» و«ابن الله». إن إنجيل يوحنا غاية في الوضوح، وقد كتب كما يقول مؤلفه: «كي تؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ابن الله، وإنكم بإيمانكم سوف تكون لكم من اسمه حياة.» والواقع أن ثقل التفكير المسيحي كان يميل خلال القرون نحو تأليه المسيح. وكانت آراء الوحدانيين - تحت أي اسم من الأسماء - آراء زنادقة خارجين على الأرثوذكسية.
ويستطيع المرء - برغم هذا - إذا أخذ بالتفسير التاريخي الطبيعي لمصادر العهد الجديد، أن يزعم أن يسوع لم يدع لنفسه الألوهية قط، وأن مثل هذه العبارات التي ذكرناها آنفا إنما رويت محرفة أو استعملت مجازا، أو كانت هذا وذاك، وأن يسوع في الواقع لم يكن يهتم بعلم الدين أو بالديانة المنظمة حقا، وإنما كان شديد الاهتمام بحث إخوانه من البشر على أن يعيشوا ما نستطيع أن نسميه من غير تعقيد الحياة البسيطة فوق الأرض، بل لقد غالى بعضهم وزعموا أن يسوع التاريخي كان شاذا متحمسا للعودة إلى الطبيعة، بل يرى بعضهم - إن كانوا على ضحولة في المعرفة وتعصب في الفكر - أن يسوع كان مزورا عن عمد ، دجالا، يبرئ المرضى بالطبيعة. والمهم في هذا الصدد هو أنك إذا اعترفت بأن مصادرنا التاريخية ناقصة وغير دقيقة لا تستطيع أن تستبعد استبعادا كاملا أي تفسير لشخصية يسوع تبدو ممكنة ومعقولة من الناحية الإنسانية.
ومن ثم فإننا إذا اعتبرنا العهد الجديد مجرد مصدر تاريخي كغيره من المصادر، فإننا لا نستطيع أن نبت ب «صفة قاطعة» بالطرق التاريخية الطبيعية في مشكلات مثل هذه: هل زعم المسيح أنه إله؟ وهل زعم أنه مسيح اليهود؟ ولا نستطيع حتى أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة الهامة، وإن تكن غير دينية: هل اعتقد المسيح وبشر بالمقاومة السلبية أو عدم المقاومة؟ إن النصوص الموجودة تتضارب تضاربا واضحا لأصحاب العقل.
ونذكر فيما يتعلق بمشكلة عدم المقاومة نصين معروفين متطرفين، أولهما: «سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا.» وما يناقض ذلك ظاهرا: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.» وقد ورد هذان النصان عن يسوع في صفحة واحدة تقريبا من إنجيل متى. ويمكن التوفيق بينهما، بل لقد تم بالفعل التوفيق بينهما في ملايين الألفاظ التي طبعت، وبشر بها، تستطيع أن تقول إن يسوع في الصفحة الأولى حذر من العراك المبتذل، ومن التوحش، ومن القتال كما يبدو في فيلم رخيص من هوليوود، أو في صورة هزلية. وفي العبارة الثانية كان يحث تلاميذه وأتباعه على قتال روحي من نوع أنبل. والواقع أن هناك ما يستدعي التفسير، وقد كان الإنجيل - بعهديه القديم والجديد - من وجهة النظر الخارجية بالنسبة إلى الرجل الغربي حتى الأزمنة الحديثة جدا هو في الحقيقة المصدر الرئيسي لما أسميناه في مقدمة هذا الكتاب المعرفة اللاتراكمية. وليس معنى ذلك أن دراسة الإنجيل ليست لها أهميتها، بل إن دراسته - على نقيض ذلك - ذات أهمية قصوى.
ومن التهور في الرأي بعد هذه المقدمة أن نحاول سرد رواية إيجابية عن يسوع في التاريخ. ويجدر بالقارئ - وبخاصة إذا كان يشكو الجهل الحديث بالإنجيل - أن يقرأ ترجمة حديثة، إن شاء، لإنجيلي لوقا ويوحنا على الأقل، ويكون لنفسه رأيه الخاص. أما كاتب هذا الكتاب فإنه يميل - بتأثير أسباب كثيرة شعورية ولاشعورية وشبه شعورية - إلى الإيمان بأن يسوع في التاريخ كان ما يسميه الألمان «شوورمر» أي متحمس للدين، كان ذا نفس رقيقة وإن تكن قوية العزيمة، متصوفا في هذه الدنيا على ما في ذلك من تناقض؛ فهو لم يحط البتة من شأن الملذات الحسية، ولكنه يتمنى أن تتحرر المتعة من الغيرة، بل ومن المنافسة. وكان رجلا له جاذبية عظمى للمضطربين والبائسين، ذا موهبة كبرى في تفهيم عامة الناس ما يعني (وهذا مما يجعل مثل لنكولن الذي ضربناه آنفا مثالا طبيعيا). وربما كان يسوع أكثر رجولة بدرجة عظيمة مما صوره الفن الديني أخيرا. ومن الواضح أنه استطاع أن يحقق مجد الأنبياء العسير في تحقيقه.
ثم إن الدراسة التقليدية الطبيعية التاريخية للمسيحية تصر على أن هناك قدرا كبيرا في المسيحية المتطورة مما لم يكن من عمل المسيح بأية حال من الأحوال. وهنا أيضا يغالي الخصوم من النقاد، فيزعم بعضهم أن المسيحية المنظمة في أكثر وجوهها الهامة هي «نقيض» ما دافع عنه يسوع - فهي زاهدة لا مرحة، تميل إلى الاضطهاد دون التسامح، حربية وليست مسالمة، وحتى إن فرضنا أن في ذلك شيئا من المبالغة، فمن الجلي أن المسيحية المنظمة بها الكثير مما لا يتضح في معرفتنا التاريخية المتقطعة عن يسوع؛ فعندما حل القرن الثاني على الأقل كانت لدينا أصول دينية كاملة دقيقة، وقانون للأخلاق، وجمهور منظم من المؤمنين، ومجموعة مقدسة من القادة - كانت لدينا في إيجاز ديانة عظمى. لقد تجاوزت المسيحية المسيح - أو تجاوزت على الأقل المسيح الذي جمع حوله صيادي الجليل: «ثم جاء تلاميذ يسوع قائلين له: من هو أعظم من في مملكة السماء؟ فنادى يسوع طفلا صغيرا وأجلسه في وسطهم، ثم قال: الحق أقول لكم، ما لم تتحولوا، وتصبحوا أطفالا صغارا، فلن تدخلوا مملكة السماء؛ فمن منكم يتواضع كهذا الطفل الصغير يكن أعظم من في مملكة السماء.»
والرجل الذي قام بأكبر جهد في تحويل المسيحية من مذهب يهودي غامض إلى ديانة عالمية هو شاول الطرسوسي، المعروف في المسيحية بالقديس بولس، وهو يهودي يتصف بصفات الهلينية، ومواطن روماني. ولدينا، بالمقاييس العادية لمادة المصادر التاريخية، معرفة مباشرة عن القديس بولس أكثر مما لدينا عن يسوع. ويتفق العلماء عامة على أن أشهر رسائل العهد الجديد التي تحمل اسمه هي في الواقع من عمله، وأن قصة الجهد الذي بذله بولس ومعاونوه في «أعمال الرسل» هي في مجملها قصة دقيقة. وليست لدينا عن بولس - بطبيعة الحال - تفصيلات كثيرة عن حياته الخاصة مثلما لدينا عن كثير من المحدثين ممن هم أقل أهمية منه، كنابليون على سبيل المثال. ولكن لدينا على الأقل ما يكفي لما ينفي الشك عند كل امرئ في وجوده التاريخي.
وتتنوع الآراء الحديثة عن بولس وأعماله وأفكاره تنوعها عن يسوع. وهناك تطرف ملحوظ يظهر جليا في عنوان الكتاب الذي وضعه بنتام؛ ذلك الكاتب الإنجليزي الثائر في القرن التاسع عشر، وهو «يسوع، لا بولس». وهناك - على وجه العموم - تفسير متطرف يقول بأن الأهداف الإنسانية التي دعا إليها يسوع الرحيم قد تحولت على يدي بولس - الذي كان يسعى إلى السلطة ويدعو إلى التقشف الصارم - إلى ظلم آخر منظم، وهذا رأي شائع بين الراديكاليين العاطفيين خارج الكنيسة المسيحية، من أمثال بنتام. أما الرأي المناقض في الطرف الآخر فهو أن يسوع كان ثائرا شيوعيا خطرا، وإن يكن بغير تأثير. أما بولس فهو الإداري الحكيم، وصاحب النظام الواقعي الذي حد من تطرف تلاميذ يسوع، وجعل الكنيسة المسيحية وسيلة سليمة معقولة تحفظ الجماهير في أماكنها، ويتعذر على المسيحيين الطيبين أن يأخذوا بهذا الرأي كذلك، وإن يكن قريبا من رأي المكيافيليين الذين جاءوا فيما بعد، مثل جماعة «العمل الفرنسي» في الجمهورية الفرنسية الثالثة.
وقد آمن المسيحيون عامة، كما آمن بولس نفسه، أن عمل الرسول ليس إلا تحقيقا لعمل السيد، وهو توسعة لرسالته ولكنه ليس إفسادا لها إطلاقا. ولم يعرف بولس نفسه يسوع قط، بل إن شارل الطرسوسي في الواقع - كيهودي أصيل - قد عاون في وقت من الأوقات على اضطهاد مجموعة المسيحيين اليهود الصغيرة بعد صلب المسيح. وقصة الإنجيل التي تروي تحوله إلى المسيح وهو في طريقه إلى دمشق باتت مثلا كلاسيكيا لتحول القلب تحولا مفاجئا ومعجزا بشكل ظاهر. ويستدل من هذه القصة عن بولس أنه كان في حالة من حالات الذهول، كما يستدل من شذرات الأخبار المبعثرة في المصادر، على أن بولس كان - كما يرى بعضهم - مصابا بالصرع. ومثل هذا التشخيص الطبي البعيد هو، بطبيعة الحال، مستحيل من الناحية العلمية. ومن الجلي أن بولس لم يكن شخصا غبيا متمسكا بالقديم عديم الخيال، وإنما كان عبقريا. ومن خصائص عصرنا الحديث تردد ظهور الفكرة التي تقول بأن عظماء الرجال يمثلون حالات مرضية خاصة. وهذا الرأي يزيدنا علما عن بعض مقتضيات الأفكار الديمقراطية الحديثة أكثر مما يبصرنا بحقيقة عظماء الرجال، وبخاصة ذلك الجانب من الرأي الذي يعتقد أصحابه أن التوسط مقياس خلقي وجمالي.
إن أعظم ما قدمه بولس لنشر المسيحية هو تمهيد الطريق للانتقال من المذهبية اليهودية إلى العالمية. وقد تمت الخطوة الأولى نحو العالمية في ذلك الزمان والمكان - بطبيعة الحال - على أيدي الإغريق. وإنما كان بولس يعبر بالكتابة والكلام عن عالمية الإغريق الهلينستية، وكان على علم بالأفكار الدينية والفلسفية الإغريقية. والظاهر أنه وقف في باكورة حياته كمسيحي في وجه الاتجاه التهويدي في الديانة الجديدة. وقد أكسبه عمله كمنظم لقب «رسول الأمميين» وكانت العقبة الكبرى في وجه الأمميين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذابا «قانون اليهود»، تلك المجموعة المعقدة من الطقوس التي كان يتعلمها اليهودي الوليد كجزء من النمو. والمشكلة في أبسط صورة يمكن أن توضع في هذا السؤال: هل يمكن للرجل أن يكون مسيحيا بغير ختان؟ وإذا كنت تتوقع من الأممي البالغ أن يتحمل العملية التي كانت قطعا جد أليمة في ذلك الحين، فأنت تتطلب الكثير من الطبيعة البشرية الضعيفة. وقد أجاب بولس عن هذا السؤال بصراحة فقال: إن الإغريق، والمصريين، والرومان، الذين يقبلون المسيحية، في حل من الختان، وفي حل من الامتناع عن لحم الخنزير، وفي حل من التقيد بحرفية القانون؛ «لأن الحرفية تقتل، والروح تهب الحياة».
ولكني أرجو ألا يضلكم هذا النص المشهور؛ فلم يكن بولس فوضويا، ولم تكن هذه دعوة إلى المسيحيين الذين اعتنقوا المسيحية فيما بعد إلى أن يفعلوا ما يشاءون؛ فالروح - طبقا لحياة بولس وأعماله - أمارة، وإن تكن مواسية لصاحبها. وحياة الروح طريقة محددة معينة من طرق العيش. وإن بولس ليبدو في الواقع ل «رجل من الخارج» كأنه استبدل بالشريعة اليهودية شريعة مسيحية. كما يبدو حقا للمتعقل كأنه يحب أن يتلاعب قليلا باللفظ؛ فهو يقول: «كل شيء عندي شرعي، ولكن ليس كل شيء ضروريا، كل شيء عندي شرعي، ولكن كل شيء لا يزيدني علما.»
إننا نلتقي هنا بإحدى المشكلات الكبرى العقلية والعاطفية الإنسانية المتكررة. إن الرجل الذي يريد للناس أن يسلكوا سلوكا جديدا لا بد له أن يصرفهم عن السلوك القديم، لا بد أن يقول لهم إنهم - وينبغي لهم أن يكونوا - «أحرارا» في السير في مسالك جديدة، وإن الشريعة، والمواصفات، والعادات، التي نشئوا على طاعتها لا تقيدهم «في الواقع». إن المصلح ثائر بالضرورة باسم الحرية، ولكنه لا يريد للناس في الواقع أن يؤدوا الأعمال المتنوعة المذهلة التي يؤدونها لو كانوا أحرارا في اتباع دوافعهم وشهواتهم الطبيعية، أحرارا من حساب الضمير والقانون ورجال الدين. إنه يريد لهم أن يؤدوا الأعمال «الصحيحة». ومن الحق أن «الروح يهب الحياة»، وهو يعتقد ذلك فعلا. ولكن كما قال أحد معاوني بولس: «لا تصدق كل روح، وإنما استمع إلى الروح إن كانت من عند الله؛ لأن كثيرا من المتنبئين قد انتشروا في الأرض.» والمصلح يجد أيضا أنه لا مناص له من الرجوع إلى القانون. الناس أحرار، ولكنهم أحرار في عمل الحق فقط. ولا يمكن إلا أن تكون النتيجة في صيغة متناقضة، كتلك العبارة الشهيرة لروسو، وهي «إرغام المرء على أن يكون حرا». وقد صاغ الفكرة يسوع في عبارة أفضل، فقال: «من يريد إنقاذ حياته لا بد أن يفقدها، ومن يفقد حياته من أجلي فسوف يجدها.»
أما بولس - كرجل إداري، كشخصية عظمى من السلسلة الطويلة للقادة الذين عملوا على أن تصبح الكنيسة المسيحية مؤسسة بالغة التأثير كما كانت - فهو ينتمي بشكل واضح إلى جانب أصحاب النفوذ. ويتبين من رسائله أنه كان يمسك في براعة بقبضة قوية على الجماعات الصغيرة المكافحة التي كانت تنتشر في جميع أنحاء العالم الإغريقي، واستقرت بالفعل في إيطاليا. وليس معنى هذا أن بولس كان من أصحاب السلطة الصارمين المتعسفين، أو حتى النظاميين - وذلك أدهى وأمر. كان يعتمد على فصاحته الشديدة، وعلى جاذبيته الشخصية التي كانت قطعا عظيمة جدا، وعلى المعرفة الإنسانية التي يدركها رجل ولد ليشفي الأرواح. ولكن بولس من الناحية العملية لم يكن لينا البتة، ولم يكن قطعا على شاكلة من نعده نحن الأمريكيين المحدثين متحررا أو إنسانيا.
ومع ذلك فقد كان بولس أكثر من رجل إداري، كان عليما بأصول الدين، كرس - كما رأينا - كل قوته لعملية نشر الكنيسة الجديدة في جميع أرجاء العالم، ولأن يجعل رسالتها جذابة للأمميين. وقد عاش بين آباء الكنيسة ثقة كبرى في المذهب الذي يدعو إلى «التبرير بالإيمان» الذي سوف نعود إليه. أما هنا فيجدر بنا أن نركز اهتمامنا في مسيحية بولس العملية، أو نوع الحياة التي أراد للمسيحيين أن يسلكوها.
ولكنا يجب أن نلاحظ أولا أن بولس لم يكد قط ليعتقد أن المسيحيين سوف يعيشون أمدا طويلا فوق هذه الأرض - شأنه في ذلك شأن أكثر أبناء جيله. وقد قال المسيح نفسه - كما جاء في الإنجيل الأول: «سوف يكون هنا نوع من البقاء، الذي لا يعرف طعم الموت، حتى يشهدوا «ابن» الإنسان قادما إلى مملكته.» واعتقد المسيحيون الأوائل أن المسيح سوف يعود في يوم من الأيام ويقضي على هذه الدنيا، دنيا التجربة الحسية. وسوف يكون هناك حساب في النهاية، ونعيم أو جحيم أبدي في عالم آخر. ومن الطبيعي أن أولئك الذين كانوا يؤمنون بهذه العقيدة لم يأبهوا بالمشروعات بعيدة المدى، أو بقياس الميول والاتجاهات، أو بالعمل البطيء الذي يؤديه المرء بتفكيره العام. ولو أن بولس اعتقد أن الكائنات البشرية سوف تبقى في ألفي العام المقبلة على الأقل، لكانت آراؤه - فيما أتصور - أكثر اتفاقا مع الطبيعة البشرية.
ذلك أن كثيرا من تعاليم بولس كانت متزمتة بمعنى الكلمة الأمريكي الحديث الشائع على وجه العموم؛ فقد كانت آراء بولس فيما يتصل بالعلاقات الجنسية - على سبيل المثال - صدمة للكثيرين، حتى قبل جيلنا الذي تأثر بفرويد، والإصحاح السابع من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، والعبارة الصريحة التي جاءت فيه، وهي «التزوج أصلح من التحرق» هو في الواقع كلام غامض. ليس من شك في أن بولس كان يود لو امتنع الجنس البشري بأسره عن الاتصال الجنسي. ولكن جانب التجربة والخبرة في هذا الرجل العملي جعله يدرك استحالة ذلك، حتى وإن كانت نهاية العالم قريبة منا. ولذا نصح بالزواج المسيحي، وله في الزواج المختلط بين المسيحيين والوثنيين رأي شائق فيه شيء من التسامح.
الحياة الطيبة إذن عند بولس حياة زهد فيما يتعلق بالمتع الحسية، سواء كانت متعة الفراش أو متعة الطعام («لكن اللحم لا يوصلنا إلى الله. وإذا أكلنا لا نتحسن، وإذا لم نأكل لا نسوء»). وهي حياة بسيطة، خالية من الغرور العقلي الذي أسماه الإغريق خاصة بالحكمة: «ألم يجعل الله حكمة الدنيا حماقة؟» وهي حياة خالية من النميمة، والتفاهة، والمنازعات، والغيرة في شئون الحياة اليومية في هذه الدنيا المبتذلة. وهي كذلك حياة خالية من الخطايا البطولية، بل هي فوق هذه الخطايا؛ ذلك لأن بولس - وأقولها مرة أخرى - كان يعمل مع عامة الرجال والنساء، وإليهم كان دائما يوجه الخطاب. أراد لهم أن يخلصوا أنفسهم من حياتهم الفردية الصغيرة الأنانية، إلى ذلك التيار العظيم الذي لا يتلاطم فيه الموج، وهو حياة الروح.
ذلك أن بولس كان يجمع في شخصه الناحية العملية مع الناحية الصوفية - شأنه في ذلك شأن كثير من الشخصيات الجذابة الأخرى في تاريخ المسيحية. أراد أن يتخلص الناس من الاشتباك بهذا العالم القذر، عالم الحواس، لكي يعيشوا في عالم الروح الطاهر. ولكن حياة الروح الأخرى - عند بولس - ليست حياة الفرد الفذ الذي يبلغ «النرفانا»، أو الذي يتابع أفلوطين إلى النشوة الفلسفية المنعزلة. الحياة الأخرى عند بولس لم تتجاوز أن تكون حياة إنسانية، حياة جهد مشترك، حياة مشاركة، وإيمان، وأمل، وإحسان. وأفضل ما قال بولس هو ما جاء في الإصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس؛ حيث قال:
المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد والمحبة لا تتفاخر، ولا تتعالى، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدا، وأما النبوات فستبطل، والألسنة ستنتهي، والعلم سيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض. لما كنت طفلا، كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذ وجها لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عرفت. أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة. هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.
والخلاص أخيرا، وحتى في هذه العبارة بما فيها من تأكيد على المحبة، وهي عند بعضهم ترجمة عن الإغريقية أفضل من كلمة
Charity
يقحم بولس وعد المسيحية الأعظم، وهو: «الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت. هذه الدنيا (الآن) - حتى هذه الدنيا كما يحاول المسيحيون أن يصنعوها - ليست سوى مكان اختبار للحياة في العالم الآخر (حينئذ). إن من يخلص فسوف يستمتع في ذلك العالم بالنعيم الأبدي. أما من لم يخلص فسوف يعاني هناك عذابا أبديا. وكل المسيحيين الصادقين سوف يخلصون.»
ما هو مقياس المسيحي الصادق؟ يبدو أن بولس - في نظر الرائي من الخارج - يفرض مقياسا ذا شقين. وهو يعتبره بشكل واضح مقياسا واحدا لا مقياسين؛ فالمسيحي الصادق ينبغي أولا أن ينتمي إلى جماعة مسيحية منظمة (أو كنيسة)، بعد أن يكون قد أدى - ويستمر في أداء - طقوس معينة، مثل التعميد والتناول. ويجب ثانيا أن يكون مسيحيا من الداخل، في روحه، وأن يكون قد بلغ تلك الحالة التي لا يفلح الصوفي قط في التعبير عنها بالألفاظ، بالرغم من أنه قد يسميها «نعمة الله» أو «الإيمان»، أو غير ذلك.
والتباين بين الأعمال والإيمان، بين أداء الطقوس والنور الداخلي، يسري خلال تاريخ المسيحية بأسره. و«المسيحي الأرثوذكسي يرى أن أحدهما يستحيل دون الآخر»؛ ف «المسيحي الذي لا يكون طيبا في داخله لا يمكن بطبيعة الحال أن يسلك سلوكا طيبا في الخارج». «بيد أننا» نستطيع جميعا أن نرى خارجه، ولا يستطيع إلا الله وحده أن يرى داخله، ومن أجل هذا فإن المجتهدين في الدين قد يبدءون في أغلب الأحيان بالرجوع إلى مذهب التبرير بالإيمان (أو الروح)، ولكنهم ينتهون - إذا هم أفلحوا في جمع شعب يسير وراءهم - بالرجوع إلى مقياس خارجي، إلى التبرير بالأعمال (أو الحرفية)، وسوف نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى عندما نتحدث عن لوثر.
والشخصية الثانية الكبرى في التفكير المسيحي القديم هي يوحنا، الذي يعزى إليه الإنجيل الرابع، وثلاث رسائل موجزة رعوية، والكتاب الختامي الرائع في العهد الجديد؛ «رؤيا يوحنا اللاهوتي». ولا بد أن يكون يوحنا هذا - الذي يمثل في التصوير والنحت المسيحي شابا غير ملتح، والذي يتميز بذلك بين البقية الملتحية - شيخا هرما عندما كتب الإنجيل الرابع، إذا صح التاريخ الذي حدده العلماء لكتابته. والواقع أن شكا علميا عظيما يخيم على الحقيقة التاريخية ليوحنا، حتى إن العلماء المسيحيين المخلصين الممعنين في الأرثوذكسية أنفسهم قد ألفوا أن يذكروا في كتاباتهم: «مؤلف الإنجيل الرابع أو مؤلفيه» و«مؤلف الرؤيا».
و«الرؤيا» كتاب من الوحي مليء بالتنبؤات الممعنة في خفاء المعنى. وقد كان كتاب «الرؤيا» لمدة ألفي عام المستودع الذي يستمد منه أسباب القوة كل من يسميهم العقليون - بل والمسيحيون الهادئون التقليديون - متهورين مندفعين. «الرؤيا» كتاب يعجز أمامه من لا يعتقد فيه، بل ومن يعتقد فيه من عامة الناس. ويستطيع من يبحث عن الخفايا أن يجد فيه أي شيء تقريبا . وتكاد تجد في الرؤيا كل ما حدث في بضعة آلاف السنين الماضية.
أما الإنجيل الرابع فهو من أهم الكتابات المسيحية. ومؤلفه شخص تحوطه الظلال إذا قيس إلى بولس، ونحن نميل إلى معرفته مما كتب؛ لأننا لا نعرف عنه إلا القليل. ويظهر أن مؤلف الإنجيل الرابع لم يكن إداريا، أو رجلا عمليا يحمل نفسه تبعة علاج النفوس. ولكن ربما كان من الخطأ - من ناحية أخرى - أن نلمس فيه الميتافزيقي، أو رجل الدين الذي يعزل نفسه عن الدنيا. ومن الواضح أن مؤلف الإنجيل الرابع كان يكتب متأثرا بتوتر خلقي شديد. ومن رأيه أن من يسمونهم المسيحيين، أولئك الذين لم يعرفوا المسيح قط، لا يدركون المغزى العظيم للمسيحية، وهو أن المسيح هو ذلك الاتحاد المستحيل بين الله والإنسان، أو بين العالم الآخر وهذا العالم، أو اللامحدود والمحدود. وما جاهد المتصوفون الأوائل عبثا في بلوغه بلغه المسيح لمجرد كونه المسيح، ولكن هذا الاتحاد بين الله والإنسان كان يتهدده دائما خطر سوء تفسير العامة من الناس، الذين يميلون دائما إلى تبسيط فهم الأمور لأنفسهم بتصويرهم للمسيح إما إنسانا كاملا وإما إلها كاملا.
والاصطلاح الذي يستعمله مؤلف الإنجيل الرابع للتعبير عن هذا الاتحاد المعجز بين الله والإنسان هو «الكلمة». «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسدا وحل بيننا (ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب) مملوءا نعمة وحقا.»
وقد كتبت ألوف الصفحات عن هذه «الكلمة»، وعما يتعلق بها من تصور ديني عن الروح القدس، التي سعت عن طريقها المسيحية الأرثوذكسية منذ ذلك الحين إلى أن تقدم للمؤمنين حلقة مفهومة عن العالمين المنقسمين، عالم الرب وعالم الإنسان. والإنجيل الرابع بأسره يتركز حول هذه المعجزة - معجزة الإله الإنسان، ولكنه - فيما خلا العبارات التمهيدية المشهورة - ليس رسالة في أصول الدين. إنه تاريخ المسيح، ولكنها حياة تتركز دائما في المسيح باعتباره «الكلمة» التي صارت جسدا. «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه.»
إن الأفكار والمثل في المسيحية الأولى ليست إلا جزءا من تاريخها، حتى عند مؤرخ الفكر. إن أفكار بولس ويوحنا ومئات ممن لم يبلغوا شأوهم في العمل في هذا الحقل كانت تتحول إلى حقائق يلمسها المؤمنون في الطقوس، وفي سلسلة من حفلات التناول المشترك. وكان المؤمنون ينتظمون، ويتماسكون، وتشتد قواهم بما نسميه صراحة في مجتمع غير ديني بالحكومة. وهذان الموضوعان - الطقوس أو الصلاة، والتنظيم الكنسي - لهما أهمية بالغة. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أهميتها بالنسبة إلى أسلوب الحياة المسيحية.
وأهم عمل من أعمال الطقوس في المسيحية هو القربان المقدس. والمصدر الرئيسي للقربان هو الوصف الذي ورد بنصه تقريبا في أناجيل متى ومرقص ولوقا لعشاء المسيح الأخير مع تلاميذه. ويصفه متى بهذه العبارة:
وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.
وهذا مثال رائع لما يراه بعض المؤرخين الطبيعيين إفسادا للحقائق، أو على الأقل إضافة جاءت في وقت متأخر. هنا كثير من أصول الدين، وبخاصة في عبارة «مغفرة الخطايا». إن أمثال هؤلاء المؤرخين يسلمون بأن المسيح نفسه ربما تناول طعاما أخيرا في أسف مع تلاميذه، بل ولعله طلب إليهم أن يذكروه. وهم يسلمون بأن المسيحيين الأوائل وهم يمارسون التناول المشترك للطيبات - وهو ما نعلم أنهم فعلوه - وسموا بعض وجباتهم المشتركة، بعض ولائم المحبة التي أقاموها، بالاحتفال بذكرى المسيح. وهم يسلمون بأن هذا الاحتفال سرعان ما تحول في الواقع إلى سر مقدس، إلى المشاركة في حياة المسيح الإله مشاركة معجزة متجددة دائمة، وهي مشاركة - بل مشاهدة للإله - كتلك التي تحدثنا عنها من قبل عند ذكر ديانات الألغاز عند الإغريق. عندئذ، وعندئذ فقط، صيغت الأناجيل كما نعلم، وأجرى على لسان المسيح قوله: «هذا هو جسدي.»
ومهما يكن ما تنطوي عليه العملية التاريخية، فمن الواضح أن الكنيسة طورت العشاء الرباني في وقت مبكر جدا. والعشاء المقدس - أو التناول المقدس - تطلب أول الأمر أداء بعض الطقوس، وتطلب ثانيا تحقيق هدف ما - وهو هدف روحاني بطبيعة الحال - من أداء هذه الطقوس. إن المؤمن، وسط العشاء المقدس، يأكل قطعة من الخبز ويحتسي قليلا من النبيذ من مائدة مشتركة تحولها قدرة الله المعجزة، التي انتقلت في خيط متصل إلى المسيح ثم إلى تلاميذه ثم إلى رجال الدين، إلى مادة سماوية، هي على التوالي جسد المسيح ودمه. وإذا كان سلوك المؤمن كله وحالته العقلية وقت التناول مسيحيا حقا؛ أي إذا كان في حالة من حالات النعمة، فإن خطاياه السابقة - بهذا العمل - يعفى عنها، وتمحى، ويشهد له أمام الإنسان والله بالانخراط في سلك الصفوة المختارة، أولئك الذين سوف يخلصون ويظفرون بالحياة الأبدية في النعيم.
ويتضح حتى من هذا الحديث الموجز أن مذهب العشاء المقدس - إذا نظرنا إليه كمشكلة عقلية مطلقة - يستدعي تفسيرات متعددة، فإن كلمة «التحول» التي استخدمناها فيما سلف قد تسيء إلى كثير من علماء الدين؛ فهم يصرون على أن الخبز والنبيذ لا «يتحول» بالمعنى السوقي لهذه الكلمة؛ أي لا يتحول كيمويا. وهناك أيضا مشكلات عن دور القسيس. هب أنه قسيس لا قيمة له، وأنه هو نفسه من الآثمين، فهل يكون العشاء المقدس الذي يقدمه صحيحا؟ لقد أجابت الكنيسة الكاثوليكية عن هذا السؤال أخيرا بالإيجاب، وذلك عندما تحداها جماعة من الزنادقة الناشطين (يعرفون بالواهبين) الذين أجابوا بالنفي. وهناك مشكلات تتعلق بالمتناول، أو الذي يتعاطى العشاء المقدس. ما هي حالة النعمة؟ وكيف يتأكد المؤمن أنه في حالة من حالات النعمة؟ وهل لا بد له من التأكد؟ وهناك مشكلات تتعلق بشكل العشاء المقدس كتلك المشكلة التي فرقت فيما بعد بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي: هل يتناول المتناول من النوعين (الخبز والنبيذ على السواء) أو من نوع واحد فقط؟
وبرغم أهمية هذه المشكلات من الناحية العقلية في تاريخ المسيحية قديما، فإنه لا ينبغي لنا أن نعطيها كل الأهمية. إن المسيحية تدين بالكثير لتنظيمها، كما تدين بالكثير لأصولها الدينية. والحقيقة الرئيسية التي تتعلق بتنظيم المسيحية الأولى هي نمو التفرقة بين العلمانيين ورجال الدين؛ فالمسيحية - على خلاف مع الوثنية الإغريقية والرومانية - تكونت فيها طبقة أكليريكية تتميز تميزا واضحا عن المؤمنين العلمانيين. وكثير من النقاد يعتقد أن يسوع لم يخطط مثل هذه الكنيسة، ولكن ليس بالإمكان إثبات ذلك. ومن المؤكد أن بداية التفرقة بين العلمانيين والأكليروس ظهرت بظهور المسيحية المنظمة؛ أي عند بداية القرن الثاني قطعا.
وهنا يجب أن نقف مرة أخرى لكي نؤكد العلاقة المتبادلة بين الأفكار وبقية الحياة الإنسانية. إن العقلي المحصن قد يقول إن المسيحية قد وضعت حدا فاصلا قاطعا بين الله والإنسان، بين هذه الدنيا والدار الآخرة، فكان لا بد لها من أن تكون أكليروسا محددا قاطعا يتوسط بين الله والإنسان، كما اضطر مؤلف الإنجيل الرابع إلى إيجاد «كلمته». وقد يقول خصوم العقل المتطرفون إن المسيحية نشأت بين جماعة من رجال الدين «الطبيعيين» المتعطشين إلى السلطان، فكان لا بد من ابتكار أصول دينية تبرر وجود رجال الدين، ومجموعة من الأسرار المقدسة التي تتطلب رجالا للدين يحتكرونه، ولا بد أن يكون لهم سلطان معجز. وفي هذا يخطئ العقليون واللاعقليون على السواء؛ فإن المسيحية قد بدأت في عالم شامل من الحروب، والرق، وكل صنوف الشقاء البشري المنتشر. ونداؤها الأساسي هو نداء الخلاص، والكمال العقلي والروحي في عالم منقسم. والأصول الدينية للمسيحية، وأخلاقها وحكومتها، كلها «عوامل مشتركة في تحديد نموها». كل عامل يؤثر في العوامل الأخرى ويتأثر بها.
ومما يسترعي النظر في التنظيم المسيحي القديم شدة تأثير مشكلة الخلايا الفردية، أو الكنائس. لقد تماسك المسيحيون؛ تماسكوا في السنوات الأولى ضد الحماسة المتطرفة، وتلك المغالاة الشديدة في النسك من الرهبان والراهبات كما تماسكوا في السنوات المتأخرة ضد الاضطهاد الشديد - وإن يكن في فترات متقطعة - الذي قام به الموظفون الرومان الذين عدوا رفض المسيحي أن يضحي في سبيل الإمبراطور الإله دليلا على الخيانة للدولة، بل تماسكوا ضد المنازعات الدينية الداخلية، وموجات الزندقة، التي صاحبت ما أحرزته الديانة الجديدة من نجاح .
ويشبه تنظيم الكنيسة في شكله كل المشابهة التنظيم المدني للإمبراطورية الرومانية. والواقع أن إحدى الوحدات الرئيسية في التنظيم المسيحي - وهو الأبرشية - كانت بهذا الاسم ذاته قسما إداريا في الإمبراطورية. وكان الأكليروس بعدما تميزوا من قديم عن العلمانيين مرتبين على درجات من السلطة كما هي الحال في الجيش، كانوا يكونون سلما (هيرارشية) من صبيان المذبح وغيرهم من صغار خدم الكنيسة، حتى القسيس، والأسقف، وكبير الأساقفة، والبابا. وكانت الوظيفة الحرجة في تلك القرون الأولى من المسيحية هي وظيفة الأسقف، وهي كلمة مشتقة من اللفظة الإغريقية التي معناها «العريف». وكان الأسقف - كضابط الجيش الكفء يعمل مباشرة مع القسس والعلمانيين ذوي الأهمية في دائرة نفوذه. أما من يعلونه من كبار الأساقفة والبطارقة والبابا نفسه فيميلون - كضباط أركان الحرب - إلى الاشتغال باستراتيجية الحركة وتكتيكها، مع الابتعاد عن العامة.
وربما لم يكن هناك فارق في المجتمعات المسيحية الأولى بين العلمانيين والأكليروس - وربما كان رجال الأكليروس الأوائل يعينون أنفسهم، ولكنهم يثبتون في وظائفهم بحسن نية إخوانهم من المؤمنين. ثم جاء التنصيب، وهو التقديس الرسمي الذي يؤهل المرء لكي يؤدي وظيفة القسيس المعجزة. ولم يظهر التنصيب بسبب بعض التعاليم مثل العشاء الرباني فحسب، وهي التعاليم التي كانت تتطلبه، وإنما ظهر أيضا لأن حمى الحماسة التي انتابت الإخوان والأخوات في الدين بلغت حد التطرف. والواقع أنك تستطيع أن تجد مشكلات القائمين على التنظيم وحلول هذه المشكلات واضحة جدا حتى في كتابات بولس. ومع ذلك فقد كان في بعض هذه الأصول الديمقراطية - وبخاصة فيما يتعلق بوظيفة الأسقف - شيء من العقل؛ لأن هؤلاء الموظفين المختارين كانوا ينتخبون بتصويت الجماعة، بما نسميه «الانتخاب». كان الأساقفة الأوائل ينتخبون بتصويت الأكليروس وبعض العلمانيين ذوي النشاط. وحتى في العصور الوسطى كان أساقفة الكنيسة الكاثوليكية ينتخبون انتخابا شرعا من الأكليروس المنتظمين في سلك الكاتدرائية. وإنما كان السلم الوظيفي (الهيرارشية) في الكنيسة المنظمة - في واقع الأمر - قائما بوضوح على نظام التعيين. وكان الأسقف بالتأكيد معادلا في أبرشية للملك، أو على الأقل للكولونيل. والأساقفة المجتمعون في المجالس كانوا هم الجماعات الناشطة المنظمة التي توجه المسيحية وجهتها الأخيرة.
ولم يكن للكنيسة - خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى التي تهمنا في هذا المقام - رئيس واحد على الأرض. وكان لا بد للتنظيم النهائي للسلم الكامل وعلى رأسه البابا أن ينتظر فصل الشرق عن الغرب في الإمبراطورية، بين ما صار الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية وما صار الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ومن الحق أن أسقف روما في الزمان القديم قد زعم لنفسه حقوقا خاصة للسيادة على الأساقفة الآخرين. ويعتقد الذين يميلون إلى الشك ممن هم خارج الكنيسة أن الرومانيين أصحاب المصالح منذ الجيل الثالث أو الرابع قديما بعد المسيح قد أقحموا على العهد الجديد تلك الفقرات التي أقامت التقليد البطرسي على أساس من الكتاب المقدس، والمسيح - طبقا لهذا التقليد - هو الذي خطط البابوية الرومانية. جاء في إنجيل متى أن يسوع قال لتلميذه: «وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس، وفوق هذه الصخرة سوف أبني كنيستي. ولن تسود ضدها أبواب جهنم.» وفي هذه العبارة ما نسميه في الموضوعات غير الموقرة تورية؛ لأن اللفظة الإغريقية التي تدل على «بطرس» هي بعينها اللفظة التي تدل على «الصخرة». وجاء في التقاليد القديمة أن بطرس رحل إلى روما ذاتها، وأسس الكنيسة هناك، ثم مات شهيدا.
وليس بوسع أحد اليوم أن يميز بين ما رسمه المسيح وما جاء عرضا في هذه السلسلة من الحوادث. ومهما يكن من أمر، فإن أسقف روما - طبقا للتقاليد البطرسية - يتعين أن يكون رئيس الكنيسة. ومركز روما الأدبي، ومكانتها في الأوضاع العامة التي كانت لها في ذلك الحين صفة القدم، وهجرة الأباطرة منها فيما بعد مؤثرين عليها القسطنطينية؛ كل ذلك جعل رياسة أسقف روما ما نحب أن نقول إنه أمر لم يكن منه مفر. ومهما يكن من أمر فإن كلا من بطارقة القسطنطينية (والبطريق لقب شرقي)، وأنطاكية، والإسكندرية، كان يؤمن إيمانا ثابتا بأهميته، إن لم يكن بسيادته. وفي المجادلات الكبرى التي ثارت بشأن الزندقة لم تكن أسقفية روما في موقف السيادة دائما بأية حال من الأحوال. وقد ذكرنا من قبل أن الكنيسة الشرقية قد انفصلت نهائيا عن الكنيسة الغربية. وقد بذلت جهود للجمع بينهما؛ لأنه من العار أن يكون هناك طريقان متنافسان إلى السماء ، ولكن ما إن حل القرن الحادي عشر حتى كان الفصل نهائيا.
ولما بلغت الموجة الكبرى للهرطقة أوجها في القرن الثالث كانت المسيحية قد بلغت رشدها. أصبحت عقيدة قوية يتجادل فيها الرجال والنساء في كل أمر يمكن الجدل فيه تقريبا. ولا نستطيع في كتاب من هذا الطراز أن نحاول أن نسرد حتى الهرطقات الرئيسية، وهي تمتد على مدى فسيح لما أسميناه المعرفة اللاتراكمية. وهي تمثل للخارجي ما يبدو كأنه رد الفعل الطبيعي لعدد كبير من المتعلمين وأنصاف المتعلمين الذين تتاح لهم فرصة المناقشة الحرة لهذه المسائل الكبرى، مسائل الحق والباطل، والخلاص والنقمة، وسلوك الإله مع الإنسان. أما ما يجعل هذه المناقشات هرطقة بدلا من أن تكون مجرد اختلاف في الرأي (كما يحدث في المناظرات) فهو أن مثل هذا الاختلاف في الرأي في الأوقات المضطربة يترجم إلى عمل اجتماعي وشعبي. بيد أن توالي الانقسام إلى جماعات متضاربة يفسد وحدة العمل التي تبدأ بها الحركة، والتي تحاول جاهدة أن تتمسك بها.
أما جماعة المسيحيين الرئيسية، وهي المجموعة التي شقت طريقها خلال الاضطهاد والهرطقة وأمست الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فقد احتفظت بوحدتها وعززتها - كما يبدو للمشاهد من الخارج - لأنه كان يتحتم عليها أن تكافح الهرطقة أحيانا وأن تهادنها أحيانا أخرى؛ ذلك لأن سيادة الهرطقة - وأعني بها الخلاف في الحكم على القيم - قد تكون في شباب أية حركة من الحركات علامة على القوة دون الضعف. ولكن ربما كانت المبالغة في الانقسام في الرأي سببا في قتل الحركة. في حين أن قدرا معينا من الخلاف يعززها. والظاهر أن الكنيسة الكاثوليكية قد اشتد ساعدها بسبب الهرطقة التي تغلبت عليها.
وقد امتدت هذه الهرطقات فشملت الجانب الأكبر من السلوك والعقائد البشرية. وتركز بعضها حول الأسرار المقدسة، كسر صلاحية العشاء المقدس الذي يدبره قسيس آثم. وتركز بعضها الآخر حول الطقوس الفعلية، كذلك النزاع الذي نشب حول الطريقة التي يتحدد بها تاريخ عيد القيامة. ويتركز بعضها حول مسائل السلوك، مثل امتناع القسيس عن الاتصال الجنسي. ويتركز بعض منها حقا في موضوعات سامية من موضوعات أصول الدين (أو فلسفته). وهناك مجموعة من الهرطقيين يسمون «أصحاب المعرفة» اشتقوا اسمهم من اللفظة الإغريقية التي تدل على المعرفة. وتتألف من هذا المذهب دراسة ممتعة وسط الأمور المعقدة - كأنها رقعة الشطرنج - التي يستطيع العقل البشري أن يبنيها بالألفاظ والمشاعر. وقد كان «أصحاب المعرفة» هؤلاء في الأغلب من المثقفين في العالم الإغريقي الروماني، يبحثون عن السحر - السحر المركب - وكانوا على دراية بأكثر المذاهب المتنافسة في العالم الإغريقي الروماني، وبفلسفاته، وبخاصة فلسفة نابلي. وبالرغم من تنوعهم الذي يحير الألباب، فإنهم يميلون إلى الاشتراك في أمر واحد معين، وذلك هو الاعتقاد بأن عالم الحس هذا شر، أو هو غير موجود، أو - بصورة أبسط - إن الحياة التي نحياها كل يوم وهم باطل. وكان شخص يسوع عندهم جذابا، ولكنه يسوع صانع المعجزات، يسوع الرب. أما طبيعته البشرية، وأما مشاركته في هذه الدنيا، فلم يعترفوا قط بها.
ونستطيع على أية حال أن نأخذ الجدل النهائي الذي ثار حول العلاقة بين يسوع والإله الواحد - الإله الآب - مثلا لعصر الهرطقة كله. وينطوي هذا الجدل في كثير من نواحيه على أكثر مما ذهب إليه «أصحاب المعرفة». وأخيرا قبلت المسيحية الرسمية في عام 325م في مجلس نيقية بالقرب من القسطنطينية عقيدة التثليث، أو ما نادى به أثانسيوس. والثالوث الله الآب، ويسوع المسيح الابن، والروح القدس - طبقا لهذه العقيدة - أشخاص حقيقيون، عددهم ثلاثة، ولكنهم واحد أيضا. وبقيت المسيحية وحدانية، تثليثها يسمو على الرياضيات. أما المذهب المضاد، مذهب آريوس، فهو على الأقل يميل إلى التوحيد في كثير من نواحيه - إن لم يكن توحيديا بالضبط كما نعرف مذهب التوحيد في أمريكا في القرن العشرين - وكانوا يميلون إلى أن يخضعوا يسوع للإله، وأن يتصوروا وجوده لاحقا له في الزمن، ونابعا منه أو - وأحب أن أقرر هنا أن علم الدين أمر دقيق - إنه أدنى من الإله الآب بشكل ما. والتعابير الحرجة التي تصور النزاع هي: أثاناسي (أي من نفس جوهر الآب)، وآري (أي شبيه بجوهر الآب). والفارق في المصطلحين اللذين يعبران عن هاتين الفكرتين ينحصر في حرف واحد هو باليونانية
i
وباللاتينية
j ، وقد اتخذت العامة التي تميل إلى النكتة، والتي لا تفوتها مثل هذه الأمور، هذا الفارق الحرفي، موضعا للفكاهة، وتندرت بأن هذين الحزبين من رجال الكنيسة الموقرين إنما يختلفان في حرف من حروف الأبجدية. وقد انحدر إلينا من هذا الموقف تعبير بالإنجليزية ما زلنا نستعمله هو
jot
ومعناها ذرة أو نقطة، وتستخدم للدلالة على الأمر التافه.
ولا ينبغي أن يسوقنا هذا المثل القديم من التشكك القديم الذي يقوم على أساس لفظي إلى الاعتقاد بأنه لم يكن هناك فارق حقيقي بين الأثناسيين والآريين، ومن ثم فإن مجلس نيقية كان بوسعه أن يختار أثناسيوس أو آريوس لأنهما سواء. وقد ذكرنا من قبل عند الحديث عن الإنجيل الرابع كيف أن التجاذب المثمر بين هذا العالم والعالم الآخر كان أمرا واقعيا وحاسما في المسيحية. وليس بوسع المسيحية أن تقبل المنطق الذي يلزم للاختيار بين هاتين العقيدتين اللتين لا تتفقان من الناحية المنطقية. ولو أنها أخذت بمذهب «أصحاب المعرفة» لانساقت إلى متاهة من السحر، والغثيان، وإنكار هذه الدنيا. ولو أخذت بمذهب آريوس لانساقت إلى قبول مجرد لهذه الدنيا يقوم على أساس من العلم أو الإدراك العام. أما الكاثوليكية - وهي المسيحية التقليدية - فقد وضعت قدما ثابتة في كل من العالمين.
وكان الإمبراطور قسطنطين - وهو مسيحي على الأقل من الناحية السياسية - هو الذي دعا مجلس نيقية إلى الانعقاد. وما إن حل عام 325م حتى سادت الهرطقة اليهودية التي كانت غامضة فيما سبق العالم الإغريقي الروماني. وعاشت بقايا الجماعات الوثنية عدة قرون أخرى، واتخذت المسيحية الظافرة كثيرا من المعتقدات والعادات الوثنية وجعلت منها قديسين محليين وعادات وخرافات محلية. ولكن النصر كان برغم هذا كاملا بدرجة تدعو إلى العجب، وأصبحت المسيحية في القرن الرابع ديانة العالم الغربي.
العقيدة المسيحية
وهنا، والكنيسة ظافرة منتصرة، يجب علينا أن نحاول عرض العقيدة المسيحية بين عامة النساء والرجال في صورة منظمة. وسوف أقوم بذلك دون أن ألجأ إلى دقائق علوم الدين، مركزا اتجاهي نحو تلك الشخصية الأسطورية ؛ شخصية الرجل المتوسط. وعلى القارئ أن يدرك أن الخلاف في الرأي - في كل نقطة تقريبا مسجلة في الصفحات القلائل الآتية - كان قائما في مكان ما، وفي وقت ما، وفي أكثر الأوقات غالبا، بين أولئك الذين يسمون أنفسهم المسيحيين. وبعض هذا الخلاف يمس نقطا دقيقة حقا.
ولما حل القرن الرابع كانت العقيدة في ظهور المسيح للمرة الثانية في وقت قريب، وما يترتب على ذلك من انتهاء العالم، قد فترت بطبيعة الحال. ومن حين إلى آخر يظهر المتنبئون المسيحيون الذين يتنبئون بظهور المسيح للمرة الثانية في وقت قريب، ويجمعون حولهم فرقا صغيرة من المؤمنين، ومن ثم فقد تجمع الميلارايت وسط ولاية نيويورك، في القرن التاسع عشر المستنير، يرتدون الثياب البيضاء، وهم على يقين، يتوقعون نهاية العالم. ولكن هذه العقائد الكلياستية (أي التي تؤمن بعودة المسيح وسيادته ألف عام) كما يسمونها فنيا، عقائد جريئة، لا تدخل في العقيدة الرسمية المسيحية المقبولة. كما يجب أن نلاحظ أن المسيحية - من وجهة نظر مصير الفرد - لم تفقد البتة إحساسها بقضاء الله في الناس قضاء مباشرا لا راد له. ويتوقع كل مسيحي عند الموت أن يواجه حساب ربه النهائي.
والمسيحي يعتقد في إله واحد، يتجسد في الثالوث، وهو كائن كامل خلق الدنيا والإنسان، وأراد للإنسان أن يحيا الحياة السعيدة التي تحكي عن جنات عدن. ولكن آدم - أول إنسان - الذي خلقه الله حرا، اختار أن يعصي الله بارتكابه الخطيئة. ونتيجة لخطيئة آدم طرد الإنسان من الجنة بإرادة إله عادل، وحكم عليه بحياة ناقصة على الأرض. ولكن الله لم يتخل عن أتباعه. ويروى في العهد القديم أن شعب الله المختار أقاموا الصلاة لله في هذه الدنيا القاسية، وبعد ألفي عام من الظلام أرسل الله ابنه الوحيد - يسوع المسيح - لكي يمكن للناس من الغفران من الإثم، والعودة لا إلى جنة عدن، ولكن إلى مملكة شبيهة بها ليست على هذه الأرض، ولكنها في السماء. والمسيح، وهو الإله الذي صار إنسانا، قد مات على الصليب حتى تتاح الفرصة لكل امرئ لكي يتحاشى الموت.
إمكان الخلاص، والفرصة لتجنب الموت عن طريق بعث المسيح، تلك هي هبة الله، ولا بد للمرء أن يكون مسيحيا صادقا لكي يظفر بالخلاص، ولا بد من أن يمر بتجربة «التحول»؛ أي الإدراك الروحي لهبة النعمة التي أتى بها المسيح. ويجب أن يكون عضوا في كنيسة، في موقف طيب، وأن يؤدي بعض الطقوس المعينة. وعندما تتلقاه الكنيسة يخضع لمراسم التعميد المقدسة، التي تطهره من آثامه عن طريق بعض الطقوس، ويشارك بالعشاء المقدس في إحياء المعجزة التي جاء المسيح بالخلاص للبشرية عن طريقها وذلك بين الحين والحين. وإذا ما سقط في الإثم عاد إلى الكمال الروحاني بالاعتراف إلى أحد القسس، وبالتوبة المقدسة. وزواجه أيضا أمر مقدس. وأخيرا، والموت يقترب، يقوم له أحد رجال الدين - إذا أمكن ذلك - بمسح جسده كله بالزيت المقدس، ليعده بطريقة كريمة للقاء حسابه الأخير.
وإذن فإن للمسيحي شريعته التي ينبغي له مراعاتها، كما أن له قواعده الخلقية - وهي أقل دقة - التي يتبعها. ولم تعد المسيحية في القرن الرابع طائفة من الناس المتواضعين أو العصاة، تمارس الاشتراكية في السلع المستهلكة، وتزدري المكانة في المجتمع والثراء؛ فقد يكون المسيحي غنيا، وقد يكون ما نسميه في هذه الدنيا ذا نفوذ، بل لقد كان هناك بالفعل أخلاقيون مسيحيون شكوا من أن المسيحيين الأغنياء كانوا يحاولون أن يشتروا لأنفسهم الخلاص، بالرغم من فشلهم في العيش طبقا للمثل المسيحية في حياتهم، وهذه المثل هي، إلى حد ما، نفس المثل التي تنادي بها أكثر الديانات السامية: الأمانة، والرحمة، والصحو، وحياة تميل إلى الزهد، ولكنها ليست بالنسبة إلى المسيحي العادي حياة الأكفان والرماد. وأود أن أؤكد أن حياة الحواس لم تكن عند المسيحي العادي كما كانت في كثير من الديانات الشرقية وهما من الأوهام. ولم تكن شرا كلها، بل ولم تكن بشكل واضح مجرد مرحلة من مراحل تقدم الروح، ولم تكن بالتأكيد مرحلة من مراحل التقمص الروحي الذي ورد في أية ثقافة من ثقافات الشرق المعقدة. إن هذه الدنيا لا يمكن أن تكون كلها سوءا في نظر المسيحي؛ لأن الله هو الذي خلقها. وهذه الدنيا في نظر المسيحي تهيئ الفرصة لأن يحيا المرء حياة طيبة تعد صاحبها لحياة الخلاص الكاملة.
وبالرغم من أن المسيحية باعتبارها كنيسة عظمى قد قبلت التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في هذه الدنيا، فإن العقيدة المسيحية لم تكف عن توكيد المساواة بين جميع بني الإنسان أمام الله. إن الأرواح البشرية لا يمكن أن تمنح الرتب. وسوف تبعث يوم الحشر، إما بين المنعم عليهم، وإما المغضوب عليهم، ولن يكون للمرتبة أو الثروة أو النفوذ أي تأثير في هذا الحكم الرهيب. ويجب أن نقر حقا - لكي نكون واقعيين - أن تعاليم المسيح تميل إلى أن تقول للمسيحي العادي إن علو المرتبة، والثروة، والنفوذ، إن لم تكن حواجز في طريق الخلاص، فهي على الأقل معوقات. وفي رأي بعض الناس أن مذهب المساواة بين الأرواح هذا أمام الله الذي تؤكده المسيحية باطراد هو إما كلام لا معنى له، وإما نوع من المخدر لكي يبقى الفقير فقيرا، ونستطيع أن نتواضع أكثر من ذلك ونستنبط أن هذا المذهب قد أمد ثقافة الغرب بنوع من التقدير الأدنى لكرامة الإنسان، أو بالفصل الواضح بين الكائنات البشرية وغيرها من الكائنات الحية.
وأخيرا فإن المسيحي - وبخاصة في القديم وفي العصور الوسطى - قبل نمو العلم الحديث، كان يعتقد أن الله ورسله (من ملائكة وقديسين) يسهمون دائما في كل ما يجري في هذه الدنيا. أجل إن المسيحي كان يميز بين الحدث الطبيعي - وهو أمر عادي - والحدث فوق الطبيعي، وهو أمر غير عادي. ولكن لم تكن لديه قطعا آراء علمية أو عقلية عن الأحداث العادية في هذه الدنيا، بل لم ير أن المتوسط شيء عادي. كان يرى أن الله يستطيع أن يصنع أمورا - بل هو قد صنعها - لا يستطيع الإنسان والحيوان وعناصر الطبيعة أن تصنعها من تلقاء نفسها. وإن شئت فقل إن المسيحي كان يؤمن بالخرافة، وإنه كان يعيش في عالم من المخاوف والآمال غير المعقولة. كان يهوذا الإسخريوطي عند الرجل المسيحي الثالث عشر من مجموعة محزنة للغاية؛ فلم يشأ أن يربط نفسه بأي شيء قد يعيد بأية صورة سوء هذا العدد. وإذن فقد كان الأمر غير الطبيعي في ذهنه واقعيا كالأمر الطبيعي، وبل وغالبا ما يمكن التنبؤ به مثله كذلك - هذا إن لم يكن غير الطبيعي شائعا شيوع الطبيعي. ويمكنك أن تقابل غير الطبيعي بالوسائل العتيقة الدينية المجربة. إن الشيطان قد يعود بطبيعة الحال، ولكن المسيحي كان يعرف وسيلة - بل وعدة وسائل في العصور الوسطى - يطرد بها الشيطان. وليست الأمور الطبيعية، أو الأمور غير الطبيعية، في هذه الدنيا في نظر المسيحي الصادق معادية في أساسها. كلاهما جزء من خطة الله. والمسيحي الصادق كان «يعرف» على الأقل ما يكفي لأن يلائم بين سلوكه في هذه الدنيا وبين الأحداث الطبيعية وغير الطبيعية على السواء، وكان «يعتقد» بما يكفي لأن يجعله يحس أن أمامه فرصة طيبة للخلاص - وذلك بالرغم من أن المسيحي لا ينبغي له قط أن يثق كل الوثوق، وفي بذاءة وصلف - في خلاصه.
أسباب انتصار المسيحية
إذا أنت سألت: لماذا شقت المسيحية طريقها بين المذاهب الكثيرة المتنافسة في العالم الإغريقي الروماني؟ كان الجواب على ذلك يسيرا؛ وذلك أن المسيحية صادقة، وأن الصدق يسود بإرادة الله. ولكن المسيحيين - حتى الطيبين منهم - على الأقل منذ بداية الكتابة التاريخية والاجتماعية الناقدة الحديثة، عجزوا عن مقاومة الإغراء بأن يقدموا لانتصار المسيحية أسبابا تاريخية طبيعية ملموسة. وقد تنوعت الإجابات وكثرت، وكثيرا ما كانت كراهية المسيحية دافعا إليها. ومن ثم فإن بعض العقليين من غير المسيحيين اعتقدوا أن المسيحية قد انتصرت لأنها اجتذبت إليها الطبقة العاملة المستعبدة في العالم الإغريقي الروماني بجهالتها وخرافتها وضعفها. وأصر بعضهم على أن المسيحية قد قدمت لكل امرئ شيئا ما، وأنها أخذت بغير خجل عن كل منافسيها. وأكد بعضهم ما نسميه اليوم جانب الهروب في المسيحية، وجاذبيتها للمتعبين واليائسين من الرجال والنساء في مجتمع مريض.
ويجب أن نؤكد هنا - وفي كل صفحات هذا الكتاب - أننا إذا اعتبرنا انتصار المسيحية حدثا طبيعيا في التاريخ، فإن عوامل كثيرة جدا كان لها أثر في هذا الانتصار. وليس بوسعنا - بما لدينا من علم ومعرفة - أن نزن هذه العوامل وأن نقيسها ونصوغها في معادلة. وليس بوسعنا إلا أن نؤكد بأن ظهور المسيحية لا يمكن أن يكون له تفسير دون أن يكون هناك عنصر من عناصر الصدق، ولا نستطيع هنا إلا أن نستعرض العناصر الأرضية المألوفة، وأن نحاول الملاءمة بينها على صورة تقريبية.
هناك أولا سلسلة كاملة من العوامل التي تدور حول عنصر التوفيق في المسيحية، وهذا العنصر التوفيقي (وأقصد بالتوفيق الجمع بين العناصر المستمدة من الأديان المختلفة) يتناوله مبسطو الأمور باعتباره التفسير الكامل، في حين أنه لا يعدو أن يكون جزءا من التفسير فحسب. فإنك قد تجد في روايات الألغاز الإغريقية، وفي قصة إيزيس، وقصة مترا، وفي اليهودية، وفي العقائد الأخرى من العالم الهلينستي «نماذج» من كل ما اعتقد فيه المسيحيون - كطقوس الطهارة والإله الذي يموت ثم يبعث، والعذراء التي تحمل، ويوم الحساب، وحفلات الربيع، وحفلات الانقلاب الشتوي، والشياطين، والقديسين، والملائكة. أما ما لا تجده خارج المسيحية فهو ذلك «الكل» الذي يكون العقيدة والعبادات المسيحية. فإذا قلت إن المسيحية استعارت من الثقافات الأخرى، فإن ذلك من الناحية التاريخية الطبيعية ليس بالتفسير الكامل للمسيحية، وهو كقولنا إن دراسة مصادر مؤلفات شيكسبير تفسير كامل لعظمتها. ويهمنا أن نذكر هنا بطبيعة الحال أن المسيحية فيها من عناصر العقيدة والعبادات ما هو مستمد من مصادر متنوعة، بل قد يكون من الحق أن القلة المعروفة والكثرة المجهولة التي شكلت العقائد المسيحية في القرون الأولى كانت ماهرة من الناحية العملية في اختيارها مسحة أرفية هنا، ومسحة مترية هناك، في العقيدة الجديدة. غير أن هذه الصورة، صورة الآباء الأوائل يرسمون خطوط المذهب الجديد قصدا، كأنهم مديرو شركة أمريكية يخططون للسوق إنتاج سلعة جديدة، هذه الصورة غير صحيحة من الناحية التاريخية والسيكولوجية، فوق أنها مبتذلة تسيئ إلى الشعور. كلا، إن الآباء الذين أسسوا المسيحية لم يكونوا من واضعي الخطط المتعمدين، ولم يكونوا قطعا يفكرون على نسق هؤلاء. إنما كان عملهم التوفيقي إلى حد كبير عملا لا شعوريا. نعم إن المسيحية تشترك في جانب منها مع قصة إيزيس - مثلا - غير أن ذلك لا يرجع إلى أن المسيحيين رسموا عامدين مريم العذراء على صورة ما ورد في قصة إيزيس، وإنما يرجع إلى أن إيزيس ومريم كلتاهما عاونتا على سد الحاجة إلى صورة للأم المواسية.
ثم إن هناك - ثانيا - بعض الصدق في قولنا إن المسيحية - بما وعدت من خلاص في عالم آخر لتعويض ما في هذه الدنيا من فقر وظلم وآلام - أثبتت أنها عقيدة شديدة الجاذبية للعامة في الإمبراطورية الرومانية المتداعية، كما أن هناك أيضا بعض الصدق في الإيمان - الذي يتصل بهذا القول اتصالا وثيقا - بأن المتعبين، والسئومين، والمنهوكين والمثاليين بالطبيعة من الطبقات الممتازة، يرون في المسيحية إما طريقا خلابا للهروب من عالم لا يحبونه وإما تحديا مثيرا للنهوض بهذا العالم. والمسيحية تفسح مجالا واسعا لإرضاء البشر، ليس بسبب التوفيق بين مصادرها فحسب، بل كذلك بسبب رفضها البات أن تختار إما هذه الدنيا وإما الدار الآخرة دون توسط. ومن الحق أن كثيرا من أسباب الرضا هذه كانت من النوع الذي يشير إليه السيكولوجي في العصر الحديث بألفاظ مثل التعويض والهروب، والتي أطلقنا عليها دائما لفظا مألوفا جميلا، هو السلوى. وإذن فقولنا إن المسيحية ديانة للضعفاء، والبسطاء، والمظلومين، قول صادق، والأناجيل صريحة في ذلك.
ومن ناحية ثالثة أحرزت المسيحية تقدما ملحوظا بين الطبقات العليا ورجال الفكر، سواء أكانوا من الإغريق أم من الرومان. وإنا لنجد في وقت مبكر جدا أمثلة مبعثرة هنا وهناك لرجال ونساء من أسر كريمة تحولوا إلى هذا المذهب الجديد المزدرى. وليس من شك في أن مثل هذا التحول من وجهة نظر رجال الاجتماع شديد الشبه بتحول ابن صاحب رأس المال إلى الشيوعية في العصر الحاضر. وواضح أن المسيحية في قرونها القلائل الأولى لم ترق للراضين المطمئنين. أما أولئك الذين تحولوا إلى المسيحية فقد سبق لهم أن خرجوا على التقاليد التي نشئوا عليها. بيد أنه من الخطأ أن تتحدث عن جاذبية المسيحية باعتبارها جاذبية عاطفية محض؛ فإن القواعد الدينية الناشئة لهذا المذهب الجديد بلغت درجة من التعقيد والتقدير العقلي تكفي لأن تجتذب رجالا من ذوي الميول الفلسفية. وإذن فإن من عوامل النصر النهائي للمسيحية قواعدها الدينية التي اتحدت في نهاية القرن الثاني اتحادا قويا بالتقاليد الفكرية الإغريقية. والواقع أن الإغريق المتأخرين أحلوا المحاورات الدينية محل المحاورات السياسية القديمة في المدينة الحكومية إلى حد كبير، وامتدت هذه المحاورات الدينية - كما امتدت المحاورات السياسية من قبل - حتى بلغت طبقات من السكان ليس من عادتها أن تشتغل بالبحث المجرد. ولما بلغ الجدل الآري قمته لم يكن عجيبا أن يسألك حلاقك في القسطنطينية أو الإسكندرية عما إذا كنت تظن أن الابن كان في الحقيقة قديما قدم الآب.
والمسيحية من ناحية رابعة كانت تجتذب نوعا آخر من الأفراد الذين لهم أهميتهم القصوى، أولئك هم الرجال «العمليون» المبرزون في النشاط والتنظيم. ومن الأوهام التي أزالتها المسيحية، وهو وهم يقوم في أذهان المحافظين أحيانا بشأن الثائرين (وقد كان المسيحيون الأوائل ثائرين)، هو أن الحركات الثورية تموج كلها بأشخاص غير عمليين. ويصدق هذا بطبيعة الحال على حركات جريئة صغيرة هامشية - وحتى في هذه الحركات يحتمل أن يوجد قليل من الرجال أصحاب العقول القوية. ومن قديم كانت الحركات الثورية تجتذب رجالا يرون فيها ولا شك فرصة لإشباع أطماعهم وحبهم للنفوذ، بل ورغبتهم في الثراء، ولكنهم يرون فيها أيضا فرصة لإنجاز بعض الأعمال، ولتطهير هذا العالم المضطرب وجعله مكانا أفضل، والرجال الذين اشتغلوا في الكنيسة المسيحية الأولى: الشمامسة، والقسس، والأساقفة، أولئك الرجال المسئولون عن التنظيم المسيحي الذي يدعو إلى الإعجاب، والمسئولون عن تلك الصفات الكامنة في القوة «السياسية» الداخلية التي تفوقت فيها المسيحية بشكل ظاهر على منافسيها في الثقافات الشرقية؛ هؤلاء الرجال - مهما يكن شأنهم - يستحقون أن ينعتوا بألفاظ الثناء الأمريكية الحديثة المباركة، وهي قولنا عن الرجل إنه «كفء» أو «عملي».
والمسيحية من ناحية خامسة ورثت عن أصولها اليهودية شمولا أوقفها موقفا قويا، وقد استطاعت خلال سنوات نموها الحرجة أن تتمسك به ؛ ذلك أن المسيحية كانت دائما ترفض أن تحالف أي مذهب آخر. وحتى ما أسميناه التوفيق في المسيحية - وقد رأينا أن المسيحية من وجهة نظرنا فيها عنصر توفيقي - يستحق أن يوصف بكلمة أقوى في التعبير من كلمة «الاستعارة». كان المسيحيون يضمون أو يتخذون لأنفسهم عقيدة أو عبادة، ويصرون في غيرة أنها احتكار للمسيحية. كانت الثقافات الأخرى كلها من غير شك تتفق وعبادة الإمبراطور. ولم يستطع المسيحي أن يضع ذرة من بخور على مذبح مقدس لقيصر ويبقى مع ذلك مسيحيا طيبا. ومن المؤكد أن التقاليد المسيحية بالغت في أهوال الاضطهاد - الرسمي وغير الرسمي - التي كان يتعرض لها المؤمنون، كما أنها بالغت في مدى إيثار المسيحيين المضطهدين القسوة الشديدة على الارتداد عن الدين. ومع ذلك فقد تعرض المسيحيون للاضطهاد حينما كان المؤمنون بمترا مثلا هم المفضلين عند الجيش الروماني القوي. والاضطهاد - عندما يبلغ درجة معينة - يقوي الفئة المضطهدة بطريقة دنيوية بحت. والاضطهاد على أقل تقدير يدفع المضطهدين إلى وحدة أشد تماسكا وأكثر نظاما. وقد تميز المسيحيون الأوائل بالوحدة بالرغم من ظهور الزندقة عندما خف الضغط.
وموجز القول أن المسيحية - من وجهة نظر طبيعية وتاريخية - لم تتغلب على منافسيها لسبب واحد، وإنما تغلبت عليهم لتوافر عدة عوامل مساعدة في آن واحد، وهي عوامل يؤثر أحدها في الآخر. كان وعد المسيحية بالخلاص وعدا محسوسا جذابا كأي وعد تقدم به منافسوها. والخلاص في المسيحية لا يأتي إلا بعد الموت، ويمكن - بمعنى ما - أن يكون مؤكدا إذا كان الفرد فقيرا، متواضعا، محروما. وقد أكسبت هذه الحقيقة المسيحية جاذبية عظمى للجماهير العاملة في الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك فقد أفسحت دقائق القواعد الدينية في العقيدة الجديدة المجال لأصحاب الفكر، كما أن مداها في التصوف جعل الفرار من هذه الدنيا مسكنا لكثير من أصحاب النفوس العاطفية والخيالية. وكذلك كانت للمشكلات العملية المتصلة بتنظيم ما كان من غير شك قوة عظمى فوق هذه الأرض جاذبية عظمى للرجل العملي الذي يتميز بطاقاته الإصلاحية. كما أن الإحساس بالرسالة، والإحساس بالانفصال عن الجماعات الوثنية والاستعلاء عليها، وصنوف الاضطهاد التي كانت تقوم بها حكومة كانت ترى في سلك أتباع المذهب الجدد ما يحيرها وما قد تعده خيانة، كل ذلك اتحد ليجعل من المسيحيين الأوائل فريقا متضامنا في العمل؛ فتماسك المسيحيون، وتعاونوا، طوال عهد الإمبراطورية. وكان المسيحيون يديرون الإمبراطورية وهم على بعد زمني من المسيح يساوي بعدنا عن المهاجرين الأوائل إلى فرجنيا وإنجلترا الجديدة.
لم يكونوا مثل الصيادين في الجليل الذين أنصتوا لكلمات يسوع. ومع ذلك فقد كانت هذه الكلمات أمامهم، كما هي أمامنا اليوم: «إنه لأيسر للجمل أن يدخل في سم الخياط من أن يدخل الرجل الغني مملكة السماء.» و«بارك الله في الوديعين؛ فهم الذين سوف يرثون الأرض.» «ولذلك أقول لكم لا تفكروا في حياتكم، وفيما تأكلون، وفيما تشربون. ولا تفكروا في أبدانكم، وفيما تلبسون.» والمقابلة التي تقدمها الآن ليست عادلة - كما أود أن أوضح - وإن تكن واقعية؛ لأن الأغنياء، والمتكبرين، وأولئك الذين يهتمون بما يأكلون، وما يشربون، وما يلبسون، يرودون الكنائس في هدوء منذ نحو سبعين جيلا، وينصتون إلى هذه الآيات، ولا يلبثون على ثرائهم، وتكبرهم، وعلى شديد اهتمامهم بما يأكلون، وما يشربون، وما يلبسون.
وإذن فهناك مشكلة. هل كان انتصار المسيحية هو في الوقت عينه فشل المسيحية «الحق»، المسيحية البدائية، مسيحية يسوع؟ إن العصاة داخل الكنيسة المسيحية وخارجها قد اتهموها خلال هذه الأجيال السبعين أو ما يقرب منها بالتخلي عن الطريق المسيحي لكي تسير على الطريق الدنيوي. وقد وجهوا إلى هؤلاء المسيحيين الظافرين قول المسيح: «ماذا يجدي المرء، إذا هو كسب الدنيا كلها، وخسر نفسه؟» وقد حان الوقت لكي نقدم على تلك المهمة الشاقة؛ مهمة تقدير مكانة المسيحية المنظمة في تقاليد المجتمع الغربي.
أسلوب الحياة المسيحية
ربما يزعج القارئ أننا نصر دائما على أن نكتب عن المسيحية من الخارج باعتبارها سلسلة من العلاقات بين الكائنات البشرية. ولكننا يجب أن نذكر الحكمة في ذلك في ثبات مرة أخرى؛ لأننا إذا نظرنا إلى المسيحية هذه النظرة، توقعنا أن تكون المسيحية الظافرة في مجلس نيقية - العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم - مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل، ولو أن المرء - من ناحية أخرى - اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية، لخرج من ذلك قطعا لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب، بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتا.
ولنضرب لذلك مثالا وضعيا: إن الولايات المتحدة في عام 1950م لا تشبه كثيرا إنجلترا الجديدة في عهدها الأول. قف لحظة في بليموث عند التل الذي يتمتع بالحماية وتقوم عليه المنازل الأنيقة، التل الذي يعرف باسم «صخرة بليموث»، وراقب جمهور السائحين الصاعدين التل في عرباتهم، وانظر إليهم وهم يفحصون الصخرة (بمختلف التعليقات، وكثير منها نكات) ويشترون التذكارات، والملبن الممزوج بالماء الملح، وزجاجات الصودا من الباعة المتجولين، ثم ينطلقون. إنك لو فعلت هذا لما وجدت مندوحة عن التعجب عما عسى أن يظن آباؤنا المهاجرون بكل هذا. هل يتعرفون إلى أبنائهم الذين خلفوهم؟ أم هل يشعرون أن أمريكا التي نجحت كل هذا النجاح الضخم قد كسبت الدنيا ولكنها خسرت نفسها.
كل منا منذ القرن الرابع مسيحي على صورة من الصور، وهو على أقل تقدير مسيحي ب «الاعتراف». ولم يكن بوسع الكثيرين من أفراد المجتمع الغربي أن يعترفوا صراحة وجماعة بالإلحاد، أو اللاأدرية، أو بمذهب الاتصال بالله، أو بأية عقيدة أخرى غير المسيحية إلا خلال القرون القلائل الأخيرة، وقد كان الكفار الذين يجاهرون بكفرهم قلة نادرة في ألف السنة التي استغرقتها العصور الوسطى. ولما كان الناس جميعا مسيحيين، فلم يكن هناك مفر من أن تكون المسيحية هي كل شيء لكل الناس؛ فلقد كان القديس فرانسيس، وأرازمس، ولويولا، ومكيافيلي، وباسكال، ووزلي، ونابليون، وغلادستون، وجون روكفلر، جميعا مسيحيين، ونستطيع بطبيعة الحال أن نقول إن بعضا من هؤلاء فقط كانوا مسيحيين حقا، ولكنك لا تستطيع أن تصنف المسيحيين كما يستطيع عالم النبات أن يصنف النبات. ومهما يكن من أمر فإنك لن تستطيع في تصنيفك أن تظفر بنوع الاتفاق الذي يظفر به العالم بأنواع النبات.
ولو أنك أردت أن تتجنب الأفكار المجردة وما ليس بالأمر الواقع مما لا بد أن يصاحب أية محاولة للتعميم على مستوى رفيع، فلا مناص لك من أن تقصد الآباء أنفسهم، أولئك المواطنين في الدولة العالمية الرومانية الذين التمسوا في المسيحية طريقا للخلاص من المصاعب التي واجهوها في مجتمع ملحد، وهم في كثير من النواحي صفوة مجتمعهم، رجال صمموا على أن يصلوا إلى جذور المتاعب التي يحسونها. وهم ليسوا بالتعبير الحديث - من المتهربين. وبعضهم من الباحثين، رجال ربما لا يعدون أن يكونوا باحثين - مثل جيروم - لو كانوا في مجتمع آخر وثقافة أخرى، وقد ولد بعضهم إداريين، ولكنهم تحولوا إلى باحثين فكريين أو عاطفيين بسبب الأزمة التي واجهوها، مثل إمبروز، بل وأوغسطين، وبعضهم طموح، مثالي، يريد الإصلاح، والكمال، لا يرضيهم حتى العالم الآخر، مثل ترتوليان، ولكنهم يشتركون جميعا في إحساسهم بالرسالة، وإحساسهم بالانتماء إلى شيء يتجاوز أي أمر عرفه الناس أو أحسوه من قبل. يوجهون جميعا أنظارهم نحو إيمان عاطفي جديد، إيمان مستحدث، مغامر، غاز - وإن يكن من بينهم الرجل المتحذلق ورجل العمل.
وقد سمحت فعلا الكنيسة المسيحية - من الناحية التاريخية - بتنوع أساليب الحياة، بل وسمحت بقدر من التنوع في تفسير الحياة تفسيرا عقليا، في ظل الإطار العام للمسيحية. وكلنا يعرف تكاثر الطوائف الذي بدأ منذ الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر واستمر بعد ذلك. والمدى واسع بين الموحدين و«العبدة المقدسين» وأتباع الكنيسة الأسقفية العليا، وهو مدى يمس النواحي العقلية والعاطفية. ولم تكن الوحدة مذهبا لا مناص من اتباعه، ولم تكن وحدة شاملة، ولم يقصد بها التشابه في كل مكان، لم تكن كذلك حتى قبل لوثر، في تلك الأيام التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدم فيها للغرب وحدة دينية.
وقد كان القداس، والمذاهب، وطريقة تعليم أصول الدين، وكثير غير ذلك متشابها بطبيعة الحال، وكانت لغة القسيس في الصلوات هي اللاتينية. وكانت هناك حكومة كنسية منظمة طبقا لسلم متدرج، يمكنها أن تفض المنازعات، وبوسيلة عنيفة - إذا اقتضى الأمر ذلك - وهي استبعاد حزب من الأحزاب من المجتمع المسيحي. وقد تم كل ذلك بحلول القرن الرابع، وهو من مميزات المسيحية في العصور الوسطى. ودعنا الآن ننظر في قطاع كامل ممكن من العبادات الفعلية في القداس في الغرب خلال القرون الأولى من المسيحية بعد استقرارها. إنك ترى الرهبان في الدير يتوقفون عن أعمالهم الصامتة في الحديقة أو المكتبة، كما ترى في بلاط الزعيم الجرماني - الذي اقتطع لنفسه جزءا غنيا عندما تدهور الحكم الروماني - قسيس الأمير يقدم العشاء المقدس لبلاط الأمير، الذي يضم محظياته الكثيرات. وفي روما يرأس البابا بنفسه قداسا عظيما في كنيسة لاتيران، ويحضره المتسولون، والتجار، والجنود، والموظفون، وكل من تبقى في المدينة المتداعية. وفي القرية الفرنسية الصغيرة ترى القسيس يتعثر في طقوس لا يكاد يفهمها أمام جمهور من المصلين يتكون من الفلاحين الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. وبالقرب من ذلك، في إحدى «الفيلات» المحصنة ضد عصابات السلب والنهب العديدة المتزايدة، ترى السيد، وهو روماني غالي فخور بثقافته، ملحد في قلبه وفي حياته الخاصة، يتثاءب في أثناء القداس الذي ساقته إليه زوجته. وعلى ضفاف الراين، ترى فرقة صغيرة من الجند وهي تستمع إلى قداس من قسيس ملتحق بالجيش يلقيه قبيل انطلاق الجند في دورياتهم. والنقطة التي أود إبرازها هي أن أسلوب الحياة، أو «ما يمارسه» الراهب، والزعيم، والمحظية، والتاجر، والمتسول، والفلاح، والرجل المهذب، والجندي، كان مختلفا جدا في واقع الأمر، ومتصلا بطرق شتى بما يسمى في أصول الدين المسيحي ب «هذه الدنيا».
وقد اندفعت المسيحية - رغم هذا - اندفاعا شديدا نحو ما يسميه الفلاسفة بالوحدانية. وإن ما يجعل الرجل وحدانيا - في الصميم - هو اعتقاده أن الكون يدور في تصميمه بطريقة ما حول «الجنس البشري»، أو على الأقل حول ناحية من نواحي الإنسان، أو قدرة من قدراته؛ فالمسيحي لا يستطيع أن يقبل النظرة التعددية التي تقول بأن الإنسان كائن عضوي بين كائنات كثيرة أخرى، في كون لم يصمم للإنسان، أو لأي كائن عضوي آخر. أو قل هو كون لم يخطط في الواقع من قبل. المسيحي يريد أن يفهم؛ لأن المسيحية ديانة عقلية رفيعة، ولكنه يريد أن يفهم فهما كليا، كاملا، لا فهما جزئيا كفهم رجل العلم، ويستطيع بعض المسيحيين في الواقع أن يكتفوا بالخضوع التام لإله يفهم كل شيء، ولا تستطيع مخلوقاته أن تفهمه. غير أن هذه العقيدة في عجز الإنسان عجزا مطلقا عن الفهم كانت تعد في تاريخ المسيحية بعد استقرارها هرطقة، أو هي على حافة الهرطقة الخطرة. وهذا الموقف شبيه بموقف المتصوفين الذين يرون أن هذا العالم المحسوس ليس إلا وهما باطلا.
وهذا الاندفاع نحو الوحدانية (ولا أقصد مجرد الوحدانية في الدين) أصبح إذن إحدى خصائص المسيحية العقلية الكبرى. وقد قاومت المسيحية بحزم شديد الدعوة إلى قبول ثنائية «رسمية» برغم الفوارق الهامة التي بينها اتجاه التفكير في المسيحية الأرثوذكسية بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الجسم والروح، بين الطبيعي وما وراء الطبيعي. والواقع أن الهرطقة التي ربما كان الأرثوذكس يخشونها ويمقتونها أكثر من غيرها من الهرطقات التي ظهرت في القرون الأوائل الأولى، هي الثنائية الصريحة، وهي لا تكاد تكون مسيحية البتة، وإنما هي فارسية في نشأتها، وتعرف باسم «المانيكانية». وقد حلت المانيكانية مشكلة وجود الشر بسماحها للإله (النور) وخصمه الشيطان (الظلام) أن يفضا النزاع بحل وسط. كان الإله في هذا المذهب خيرا، ولكنه لم يكن قادرا على كل شيء، وعلى أتباع الفضيلة في هذه الدنيا أن يحاربوا في جانب الإله، ولكنهم لا يضمنون النصر، وهذا الموقف - الذي أثبت تاريخيا أنه جذاب لكثير من الناس - قد لفظته المسيحية الأرثوذكسية، ونبذه في حزم، كما لم ينبذه أحد، أعظم الآباء اللاتينيين، وهو القديس أوغسطين، الذي كان مانيكانيا قبل تحوله إلى المسيحية.
وهذا الاندفاع نحو الوحدانية كان معناه من الناحية العملية أن المسيحية الأرثوذكسية باعتبارها هيئة متحدة - لم تتابع اتجاها من اتجاهاتها المميزة، أو حكما من أحكامها، أو أسلوبا من أساليب الحياة ، حتى نهايته. ولو أنها فعلت ذلك لتحتم عليها أن تتخلى عن مطلبها الأعظم في الكثلكة، أو العالمية؛ فإن مذاهب الوحدانية لا تؤدي بأية حالة من الحالات إلى التوفيق والشمول بأي نوع من أنواع التتابع المنطقي - بل إنها على عكس ذلك تماما؛ فالمثالية الوحدانية أو المادية الوحدانية يمكن أن تكون ضيقة الأفق، متعصبة، لا تقبل عقيدة غير عقيدتها. وإنما هي الحاجات الفعلية للكنيسة الكاثوليكية الكبرى في إمبراطورية عالمية - الكنيسة الكاثوليكية التي تتبع بمعنى ما دور مثل هذه الإمبراطورية، وإنما هي هذه الحاجات التي جعلت الوحدانية المسيحية واسعة الأفق، شاملة لكل شيء، على غير منطقها، بل وعلى غير ما يتوقع الإنسان. إن المسيحية في صميمها - بكل تأكيد - وحدانية مثالية تنتمي إلى العالم الآخر، ولكن شيئا ما كان دائما يقيمها وسط حرارة هذا العالم وأرضه؛ ففي الغرب نرى - حتى الرهبان الذين فروا من هذا العالم المادي - قد اشتغلوا بتطهير مستنقعاته المادية وأرضه الخراب، كما اشتغلوا بتحسين محصوله، ونسخ كتبه وتصنيفها. نعم إنهم أماتوا الجسد، على الأقل ودام الدافع الروحاني للهيئة التي ينتمون إليها قويا. ولكن بعد ما ضعف هذا الدافع كان هؤلاء الرهبان أنفسهم يأخذون من هذه الدنيا بنصيب كبير حسبما واتتهم الظروف، مما ترتب عليه تنظيم هيئات جديدة مصلحة.
ولست أرمي من هذا كله إلى القول بأن المسيحية نفاق منظم، كما اتهمتها أجيال عديدة من النقاد العقليين المرة تلو الأخرى. وإنما أردت أن أقول على الأقل إن كثيرا من الرجال الذين تصدوا لقيادة المسيحية المنظمة قد اكتسبوا من قديم نوعا من الصبر الحكيم مع الكائنات البشرية، وهو صبر يشبه صبر الطبيب الممتاز - إنهم ما لبثوا يعتقدون في مملكة الإله، ولكنها لم تكن مملكة على هذه الأرض، ولم تكن بالتأكيد في زمانهم. أفلا يكون إذن من الحكمة في هذه الدنيا أن تؤخذ مخلوقات الإله كما هم - إلى حد ما - دون محاولة لتغييرهم بعنف شديد؟ ثم إن القديس بولس نفسه قد أقر بأن العذرة قد تكون أفضل الأمور، ولكنها فيما يظهر ليست ممكنة عند كل فرد في العالم، حتى مع اقتراب العودة. إن بولس نفسه يؤثر لأتباعه أن يتزوجوا على أن يتحرقوا.
وإذن فإن العناصر المثالية التي تتصل بالعالم الآخر في المسيحية لم تبلغ حدا يمكنها من تحويل «الكنيسة» إلى طائفة صغيرة لا تعترف إلا بأعضائها، طائفة مصممة على أن تعيش وفقا لأعلى المثل، أو أن توجه الجماهير - وذلك أشق - إلى أن تعيش وفقا لأعلى المثل، وقد سمحت المسيحية إلى حد ما، عن طريق الرهباني وعن طريق إصرارها على توافر مؤهلات خاصة في القساوسة الدنيويين، بدور تقوم به الأقلية المثالية، ونجحت - كما سوف نرى في الفصل المقبل - حتى عهد لوثر في السيطرة على أولئك الذين كانوا يريدون فعلا أن ينزلوا السماء إلى الأرض، سماء إلههم الخاصة بهم - وذلك بامتصاص هذه الفئة أحيانا، وبنبذها أحيانا أخرى. غير أن هذه الأوجه من العقيدة المسيحية التي تتعلق بالعالم الآخر لها برغم ذلك أهمية قصوى؛ ذلك أن هذه الأوجه هي النغمات الصادقة للمسيحية، التي تجعل منها - مجتمعة - شيئا أكثر من الملاءمة التجريبية الانتهازية مع عالم معقد. وقد كتبت ملايين الكلمات في هذا الموضوع. وليس بوسعنا هنا إلا أن ننتقي بعض الملاحظات الواضحة.
ومن أوضح هذه الملاحظات، بل لعلها نوع من الأساس في المسيحية في شتى صورها، ملاحظة يمكن أن نعبر عنها تعبيرا بسيطا إذا قلنا إنها عدم الثقة بالجسد، ونبذ ما للشهوات الطبيعية البشرية، وما للغرائز البشرية من قدرة على توجيه السلوك البشري. وقد ذكر انعدام الثقة هذا بطريقة عقلية - وإن تكن من الواضح أقرب إلى أن تكون أسلوبا عاطفيا عميقا منها إلى نظرية من النظريات - في أحد تعاليم المسيحية الكبرى، وهو الخطيئة الأولى، أو «ميل الإنسان الطبيعي نحو السوء» (وسوف نرى في فصل مقبل أن أشد أنواع الهرطقة الحديثة هولا مما جابهته المسيحية المذهب الذي يقول ب «ميل الإنسان الطبيعي نحو الخير»، وهو المذهب الذي شاع أول ما شاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر). وهذا الشعور بعدم الثقة في الإنسان الطبيعي، الذي يتكون من لحم ودم، يسري خلال المسيحية كلها، ويتخذ صورا متعددة. ويميل عصرنا هذا الذي تسوده آراء فرويد إلى الاعتقاد بأن المسيحيين الأوائل كانوا مشتغلين بأمور الجنس، وأن خطيئة آدم وحواء الأولى كانت الاتصال الجنسي، وأن الشهوة عند الإنسان الطبيعي التي لا تضع المسيحية فيها أي نوع من أنوع الثقة هي الشهوة الجنسية. وليس من شك في أن هناك جانبا كبيرا من الأدب المسيحي يؤكد هذا الانطباع. ونستطيع من مجموعة هذا الأدب المسيحي أن نستخلص عددا من الحالات التي قد يشغل تاريخها محللا نفسانيا طوال حياته.
وقد يكون من الأقرب إلى الإنصاف أن نقول إن أكثر الفكر المسيحي لا يضع ثقة في الإنسان الطبيعي كله - شهواته للطعام، والشراب، واللعب، والقتال، والزهو، وكذلك الانهماك في الجنس. وقد كانت المسيحية الكاثوليكية دائما تجعل مكانة للإنسان الفذ الذي يحب أن يخضع الجسد، وإن كانت لم تشأ - بطبيعة الحال - أن تسمح للفرد بإخضاع جسده إلى حد الانتحار. وكانت المسيحية البروتستانتية أقل من ذلك نجاحا مع أمثال هؤلاء الناس الذين اضطروا في ظل البروتستانتية إلى تحويل دافع الزهد عندهم نحو إصلاح سلوك الآخرين فوق هذه الأرض. ولم تتخذ المسيحية الكاثوليكية أي إجراء بطولي مع الإنسان العادي. والواقع أن أسلوب الحياة الكاثوليكية التقليدي لم يختلف - من الناحية العملية - عن أسلوب الحياة عند الإغريق في عهد الثقافة العظمى، كما قد يحسب رجل من رجال الفكر المحض، يبدأ بفكرة الخطيئة الأولى وبالأدب المسيحي القديم. وقد ذكرنا أن الإغريقي في العصر العظيم كان يرى أن الإفراط في الأكل والتفريط فيه، وأن النهم والامتناع، هذا وذاك كلاهما شر، وأن الرجل العاقل يأكل باعتدال ويتخير الطعام. وكذلك الأمر أيضا عند الكاثوليكي الطيب. وكان النهم من غير شك عند المسيحي أسوأ كثيرا من الامتناع عن الطعام - أو هو على الأقل أكثر احتمالا، وهو لذلك أشد خطرا. وبقي بعد هذا في أساس المشاعر المسيحية (وربما كان في البروتستانتية وحدها) مما يتصل بهذا الموضوع شيء ينعكس انعكاسا حسنا في القول المشهور: «خير للمرء أن يأكل ليعيش من أن يعيش ليأكل.» ولكن الرأي القائل بأن المسيحية عقيدة كئيبة، وأن المسيحي ليس له أن يستمتع بالطعام، والشراب، وممارسة الحب، في هذه الدنيا، رأي خاطئ. إن الاتجاه نحو الزهد موجود في المسيحية، وإذا أنت أصغيت إليه بأذن ودية، أو أذن معادية، رن في أذنك في كلتا الحالتين. غير أن هناك نغمات كثيرة أخرى، ترن في وقت واحد على أوتار معقدة تعقيدا لا يصدق.
وثمة نغمة أخرى، وهي نغمة الإيثار، أو انعدام الشعور بالذات. وهنا أيضا نلتقي بإحدى المشكلات المجردة الكبرى في الفلسفة، وهي مشكلة الفردية أو الجماعية. وهنا أيضا نجد في أدب المسيحية الفخم مجالا يكاد يكون كاملا، يمتد من طرف إلى طرف؛ فرأي يقول بأن المسيحية عقيدة فردية جدا، تهتم بخلاص الروح عند كل فرد من الأفراد. والمسيحي في لحظات التجلي ينفرد بالله، ويكون مسئولا أمام الله وحده. والدولة، والمهنة، والأسرة، كلها أمور تشغل الذهن في هذه الدنيا عن الطريق القويم. ويمكن أن نستشهد بيسوع ذاته ضد روابط الأسرة: «وإذ هو يتحدث إلى الناس تجد أمه وإخوته واقفين في الخارج، يريدون أن يكلموه. فقال له أحدهم: انظر تجد أمك وإخوتك واقفين في الخارج، يريدون أن يكلموك. ولكنه أجاب قائلا لمن سأله: من تكون أمي؟! ومن يكونون إخوتي؟! ثم مد يده نحو تلاميذه، وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي ... لأن من ينفذ مشيئة الآب في السماء يكون أخي، وأختي، وأمي.»
ومع ذلك فإن هذا القول بعينه يشير إلى الطريق، إلى وجه من أوجه الجماعية المسيحية؛ فالناس جميعا في الحياة المسيحية الصادقة وحدة، وليست الجماعات الثانوية إلا انحرافات، بل هي أسوأ من ذلك؛ فهي اتجاه نحو الذات المحبة لنفسها. والمهم أن يتجنب الفرد كل ضروب الانتصار على الآخرين، وكل نجاح على أساس المضاربة، وكل أمر من الأمور التي تثير ذاته وتزيد من حدتها. وكما أن المسيحية - باعتبارها ديانة عظمى في هذه الدنيا - وبخاصة في صورتها الكاثوليكية، لم تبالغ قط في الزهد، فكذلك نجد أنها لم تبالغ قط في إبادة الذات الفردية. إن الأفراد المتنافسين قد اعترفوا بالمسيحية في هذه الدنيا بنجاح تام. وحتى نابليون كان مسيحيا بالاعتراف. ولكن المثل الأعلى لإنكار الذات كان - برغم هذا - قائما. إن المسيحية تحاول أن تروض الجموح الشارد في الروح الإنسانية المتنافسة، وتحاول أن تخضع حب التسلط الذاتي، والتوحش، والزهو، والكبرياء. وغير ذلك من مظاهر «الإنسان الطبيعي»، وهي مظاهر لا تثق بها كما لا تثق بشهواته الأبسط في الطعام، والشراب، والجنس.
وثمة نغمة ثالثة في المسيحية، ليست إلا الوجه الآخر من انعدام الشعور بالذات؛ فليس من واجب المسيحي أن يخضع ذاته فحسب، إنما ينبغي له كذلك أن يفتح قلبه بالمحبة والرحمة لكل زملائه. وكثيرا ما كان العقليون المحدثون يصعقون عندما يعرفون أن بعض المسيحيين يحرقون، ويسجنون، أو - إن لم يفعلوا ذلك - يكبتون زملاءهم الذين يختلفون معهم في الأمور التي تتعلق بأصول الدين. كان العقليون يصعقون لذلك حتى لقد رفضوا أن يستمعوا إلى نغمة الحب (أو الإحسان) هذه في المسيحية، ولكن الحب قائم، والمسيحية بدونه لا تتم. وليست هذه النغمة هي بعينها التي نسميها اليوم الإنسانية العاطفية. وهي ليست نغمة الإشفاق بصوره المختلفة: على المجرمين، والعاجزين، والفاشلين، وكل أولئك السفلة الذين نتعرف إليهم بين المصلحين الصليبيين من أي نوع من الأنواع، وذلك لأمر واحد، وهو أمر هام؛ ذلك أن المسيحي يجب عليه أن يحب السفلة كما يحب العلية، وهو واجب يبدو أن أكثر الإنسانيين الدنيويين لا يقرونه. إن الرحمة الممزوجة بالمحبة - بكل ما لها من علاقات بالعواطف الرقيقة - فيها مسحة من الشدة، ومن الاستسلام، والخضوع في وجه عالم لا يتشكل كله بإرادة الإنسان؛ لأن المسيحي ينظر إلى الخطيئة كأنها حقيقة، ولا بد له من العفو عن المذنب، ولا بد له من الإشفاق عليه، أو لا بد له في الواقع أن يحب المذنب بشكل ما. ولكنه لا يحب المذنب لذنبه، وهو إذ يمقت الذنب لا بد له أيضا من أن يمقت المذنب بشكل ما. وفوق هذا كله لا ينبغي له أن يعتبر الذنب وهما، أو نتيجة لبيئة مادية واجتماعية سيئة فحسب، أو نتيجة لعوامل إنسانية بحت. فالرحمة الممزوجة بالمحبة عند المسيحي إذن لا يمكن أن تكون تفاؤلا عاما فيما يتعلق بكمال الإنسان، ولا يمكن كذلك قط أن تكون محض إنسانية.
ونغمة رابعة تسري في المسيحية، هي انعدام ثقتها بضروب معينة من التفكير. وهنا نلتقي بصعوبات تتعلق بمعاني الألفاظ، كما نلتقي بالصعوبات العادية فيما يتصل بمدى التفكير المسيحي وعالميته. إن المسيحية ليست ضد الفكر بمعنى مبسط؛ فلقد رأينا من قبل أن أصولها الدينية بناء عقلي على كثير من الدقة والتعقيد. وسوف نرى أن المسيحية المنظمة لما بلغت أوجها في العصور الوسطى أولت العقل تقديرا كبيرا. ولكن المسيحية كانت دائما تعدم الثقة في نوع التفكير الذي تسميه اليوم «التعقل»، وكانت دائما تخشى أن يستبعد العقل البشري بتفكيره عنصر ما وراء الطبيعة. ومن ثم فإنه وإن يكن من الظلم الفاحش للمسيحية أن نقول إنها كانت دائما تقف في وجه الحرية العقلية الكاملة، ومن الظلم الفاحش أن نقول إن العلم الحديث قد تطور رغما عما في المسيحية من غموض، أقول إن كان هذا أو ذاك من الظلم، إلا أن في كلا هذين الحكمين المتطرفين مسحة من الصدق؛ فالمسيحي - على أقل تقدير يجب عليه عند نقطة معينة أن يبدأ في الإيمان بما لم تقم الدليل عليه تجربته الحسية، وأدواته، وعلمه. والواقع أن المسيحي يرى في العقل المحض تقريرا من المتعقل لذاته غير مستحب، أو ربما يرى فيه إثما أسوأ من تقرير الذات الذي يبديه الرجل الحسي أو المتظاهر. إن الرجل الطبيعي يستطيع أن يفكر كما يستطيع أن يشتهي. ولا يستطيع أن يكون ذا إيمان إلا الرجل الروحاني، ولا يستطيع غيره أن يملك «مادة الأمور التي يضع فيها آماله، والدليل على الأمور التي لا ترى»؛ لأن المسيحية خلال عصورها كلها آمنت إيمانا ثابتا بوجود الله. وهذا الكون في نظر المسيحي مشكلة في نهاية الأمر - مشكلة عقلية، كما هي مشكلة خلقية وعاطفية. وهناك إله لا يجد مشكلة في أي أمر من الأمور، إله - إذا أجزنا لأنفسنا أن نستخدم في وصفه تعبيرا بشريا - يفهم الكون. وليس بوسع الناس أن يضعوا أنفسهم في مكان الله، وهم لا يستطيعون ذلك قطعا بنوع النشاط الذي يألفونه في علاقاتهم اليومية بعضهم ببعض فوق هذه الأرض. وإنما يستطيعون عن طريق تدخل الإله تدخلا حرا معجزا أن يكتسبوا - بلون آخر من ألوان النشاط. نوعا من الوثوق يتجاوز ما نسميه المعرفة.
يستطيعون أن يكونوا على ثقة - وإن كانوا لا يستطيعون أن يعرفوا كما يعرفون مثلا أن شجر البلوط ينمو من جوزة البلوط - من أن الله موجود، وأن الكون ليس بالمكان المحير، أو حتى المعادي، كما يبدو للرجل حينما يفكر، أو يدبر، أو يساوره القلق، وأن الكون حقا قد خلق للإنسان ولقصة خلاصه. ونوع النشاط، وحتى «النشاط» هنا كلمة يشك في استعمالها من ناحية الأصول الدينية، الذي يصل الناس عن طريقه إلى الوثوق، يجب أن يكون له اسم من الأسماء - على الأقل كأنواع النشاط البشري الأخرى، ما دمنا نحن البشر مرتبطين بالألفاظ بدرجة ليس منها مفر. هذا النشاط نسميه «الإيمان» وهو ليس بالتفكير، أو الشعور، أو أي شيء آخر يستطيع السيكولوجي أو الفسيولوجي أن يحققه في معمله، كما لا يستطيع الكيموي في معمله أن يحقق معجزة العشاء الرباني.
المسيحي إذن يتشبث بوجود الله، ويثبت على الاعتقاد بأن هذه الدنيا، دنيا الحواس، ليست بالكون كله، ولكن المسيحية - وهذه هي النغمة الأخيرة التي سوف أطرقها - تعزو إلى عالم الحواس أهمية عظمى، ودرجة كبرى من الواقعية؛ فهذه الدنيا هي المكان الذي يمتحن فيه المرء لدخوله في العالم الآخر. إن إيمان المسيحي الذي جاهدنا فيما سلف أن نفصل فصلا تاما بينه وبين أنواع النشاط البشري الأخرى، يعلمه أن أنواع النشاط الأخرى هذه لا غنى عنها لخلاصه، وأنه لا بد من إحكام قيادتها هنا في هذه الدنيا. إن المسيحي الطيب رجل طيب، وأقصد أنه طيب بالمعنى الذي أوضحه رجال الأخلاق من الإغريق والعبرانيين وضوحا تاما.
ولكن المسيحي - فوق هذا - يريد غيره من الناس أن يكون طيبا. إنه يريد أن يجعل هذا العالم الناقص أقرب ما يكون إلى ذلك العالم الكامل الذي يحدثه عنه إيمانه.
إن المسيحية عقيدة مصلحة جدا من الناحية الخلقية، وهي - كما سوف نرى بالتباين عندما نبلغ العقيدة المتفائلة في الكمال الإنساني الذي نادى به أسلافنا في عصر النور في القرن الثامن عشر - عقيدة متشائمة من عدة نواح، ليس لديها أفكار محسوسة خاصة بها تتعلق بالتقدم في هذه الدنيا، في حين أن لديها أفكارا محددة جدا بشأن هذه الدنيا باعتبارها، واديا لا بد أن تسيل فيه الدموع. ومع ذلك فقد كانت المسيحية قبل القرن الثامن عشر بوقت طويل، وقبل ظهور نظريات التقدم أو التطور والإيمان بها بوقت طويل أيضا، ديانة مصلحة من الوجهة العملية، يهمها أن تجعل هذه الدنيا مكانا أفضل للبشر، مكانا أكثر سلاما، وأكثر رفاهية، وأكثر ودا، وأكثر رقة مما هو. كانت المسيحية تؤمن بالإصلاح، إن لم تؤمن بالتقدم الحتمي.
وبالرغم من أن التواضع من أعظم فضائل المسيحية، إلا أن المثل العليا لأسلوب الحياة المسيحية تبدو «أرستقراطية» للناظر إليها من الخارج، وهي على الأقل أرستقراطية مثلما كان المثل الأعلى لأسلوب الحياة عند الإغريق؛ فإن ترويض شهوات المرء الكبرى، والقضاء بتاتا على الشهوات الأخرى التي لا تظهر ظهور الشهوات الحسية، كشهوة الشهرة، والثراء، والنفوذ، والموازنة الدقيقة بين العقل والإيمان، والعمل الثابت مع تصور العطف دائما نحو الزملاء حتى تكون هذه الدنيا مكانا أفضل؛ إن مثل هذا العيش لم يكن قط ممكنا للغالبية العظمى من الناس. ولكن المسيحي برغم هذا لا بد أن يأمل دائما أن يعيش الناس جميعا على هذه الصورة. وهنا نلمس الفارق الحقيقي بين المثل الرفيعة الشاقة التي سادت العصر الأعظم في تاريخ الإغريق، وبين مثل تلك المثل في المسيحية. إن الرجل المهذب الإغريقي - كما يتمثل في أرسطو - لا يأمل أن يرفع الجماهير إلى معاييره، ويكفيه أن يعدوا الأساس المادي الذي يمكنه من أن يحيا حياة الجمال والخير. أما «الرجل المهذب» المسيحي فلا يمكن أن يكون كذلك بالمعنى الذي اكتسبته هذه الكلمة في عصرنا، وهو المعنى المحدود الذي فيه شيء من التعالي. إنما هو يريد للعالم كله أن يكون مسيحيا. ولا بد له من أن يمد المعايير الأرستقراطية إلى مستوى ديمقراطي.
ونستطيع بصفة عامة جدا أن نقول إن «المسيحية» المنظمة - بروتستانتية وكاثوليكية - قد أنجزت ما كان قادتها يرونه توفيقا بينها وبين هذه الدنيا، دنيا اللحم والدم، وإنها لم تحاول أن تفرض الاتجاه نحو الزهد عنوة، أو تفرض إنكار الذات إنكارا تاما، أو حب الزملاء، أو تجاوز العقل المتحفظ في استعلائه وتصوفه، أو الرغبة القوية في القيام برسالة تطهير هذه الدنيا القذرة؛ فالمسيحية خففت وطأة الريح على الحمل الذي جذ شعره، بل وخففت قطعا. باعتراف خصومها - وطأة الريح على راعي الحمل. أي إن الكنيسة قد قبلت عالم الغني والفقير، والقديم والمذنب، كما هو، ولم تتطلع إلى أكثر من أن تبقى الأمور على أرض مستوية إلى حد كبير. أما مسيحية كل يوم، التي تخلو من البطولة، فقد تعرضت طوال القرون لنوعين من الهجوم: هجوم من الداخل، وهجوم من الخارج.
أما الهجوم من الداخل فمأتاه رجال ونساء يريدون أن يدفعوا المسيحية فوق هذا التوفيق مع اللحم والدم. وليس من شك في أن محاولة فهم التجربة المسيحية من الخارج بالطرق التاريخية الطبيعية، يشوه هذه التجربة. ولكنا يجب أن نتمسك بالتجربة الأخيرة؛ فمن ناحية من النواحي، وهي الناحية التي اخترنا هنا عمدا أن نسير وفقا لها، كان سنت فرانسيس الأسيسي، وكالفن ووزلي، ومسز ماري بيكر إدي - مهما اختلفت تجربتهم المسيحية الباطنية - مسيحيين هاجموا جميعا المسيحية الرسمية القائمة باسم مسيحية أنقى وأعلى في مثاليتها. وفيما خلا ذلك كانوا - بطبيعة الحال - أشخاصا مختلفين. وعملهم في هذه الدنيا شديد الاختلاف. ولكن نمط التفكير يجب أن يتضح؛ ذلك أن الكنيسة في لحظة معينة من الزمان والمكان تبدو لأحد أعضائها غير مخلصة للمثل المسيحية؛ فهي تظهر كأنها تسمح للمسيحيين أن يزدادوا قوة وثراء، وتسمح لهم بارتكاب الزنا، وتسمح لهم بالتخمة والكبرياء، وأن يكونوا عاديين، ما داموا يرودون الكنيسة. وهذا ما لا يطيقه الثائر ؛ فهو يعود إلى المسيح، ويطهر المسيحية من انحلالها، ويحث العامة من الرجال والنساء أو يوحي إليهم أن يأخذوا دينهم مأخذ الجد.
وهذا الثائر المثالي مشكلة دائمة للمحافظين الذين يديرون الكنائس المسيحية، كاثوليكية كانت أم بروتستانتية، كما يديرون في الواقع أكثر المؤسسات البشرية. وليس من شك في أن الكثيرين من هؤلاء المحافظين يقولون كذلك - أمام الجمهور على الأقل - إن هذا الثائر هو بوجه عام باعث على التنبيه والإيحاء. ومهما يكن من أمر فإن على المحافظ أن يقابله. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى لوثر تنجح عادة - ولا تنجح دائما - في ترويض هؤلاء الثائرين، وفي امتصاصهم في جسم التقاليد المسيحية، التي كانوا من غير شك يؤدون فيها عملية التخمير التي لها قيمتها. هكذا يبدو للخارجي - على سبيل المثال - مصير سنت فرانسيس الأسيسي، الذي ربما انصرف إلى الهرطقة لو أن سلطات الكنيسة عاملته بصرامة أشد. أما لوثر فإن المثاليين المسيحيين والمجددين الأكثر تطرفا كانوا في الواقع من المنحرفين - وقد ثاروا فعلا على الكنائس التي لم تكن لها - فيما يبدو - عقائد ثابتة يثور المرء عليها. وفيما دون هؤلاء الثائرين المتطرفين، الذين كانوا كذلك مثاليين متطرفين، كان هناك دائما مسيحيون ممن يمارسون المسيحية يسمون فوق المستوى غير البطولي للمسيحية العادية - وهؤلاء رجال ونساء لا يكفون عن حث زملائهم على حياة أقرب - على الأقل - إلى المثل المسيحية من حياة الغالبية.
أما الهجوم من الخارج فهو ينبذ المثل المسيحية، أو كثيرا منها، وكان لا بد للمسيحية المنظمة أن تواجه صعوبة التوفيق بين مثلها الأرستقراطية وبين ضرورة الوصول إلى المبتذل وقبول هذه الدنيا الناقصة بعض القبول، وكان عليها كذلك أن تواجه رجالا لا يحبون مثلها، حتى المخففة منها التي قبلتها المسيحية في أكثر الأحيان من الناحية العملية. وكان هؤلاء الخصوم عديدين متنوعين، وبخاصة عندما تمتعوا بشيء من حرية الكلام في الأربعمائة السنة الأخيرة أو ما يقرب منها. وكان من بين هؤلاء دعاة مذهب اللذة، والطبيعيون، وهم أولئك الرجال الذين يعتقدون أن الكائنات البشرية يجب أن تعمل ما تشاء بقدر استطاعتها، وأن الحاجات البشرية طيبة في أساسها، وأن الجسم البشري شيء جميل، وأن الملذات الجسدية شيء كذلك جميل، هؤلاء هم الرجال الذين يرون المسيحية، حتى في ممارستها العادية ، كئيبة، زاهدة، غير واثقة بالجسم وملذاته. وقد كان من بين خصوم المسيحية الماديون الفلسفيون، وأصحاب العقول الجامدة الذين لا يحبون أفلاطون ومؤلف أو مؤلفي الإنجيل الرابع، والوضعيون الذين يستنكرون مثل هذه الألفاظ، والروح، والإيمان والنفس. وكان من بينهم كذلك المتشككون الحقيقيون، وهم رجال لا يثقون بالسماء كما لا يثقون بهذه الدنيا، وكان من بينهم كذلك كل من ينكر إمكان وجود ما فوق الطبيعة، أو المعجزة، أو المقدس - على اختلاف آرائهم الوضعية في الكون. وكان من بينهم أيضا العاطفيون الإنسانيون الذين ينبذون مذهب الخطيئة الأولى فيعتقدون تبعا لذلك أن الناس طيبون بالطبيعة، وأن بعضهم لا يتصف بالخبث إلا لأن المجتمع يريد لهم أن يكونوا كذلك.
وقد كان للهجوم من الخارج في القرون القلائل الأخيرة من الأهمية ما لم يكن له منذ الأيام الأخيرة من عهد الوثنية الإغريقية الرومانية. وكان على المسيحية في الأزمنة الحديثة لا أن تقابل هؤلاء وحدهم، من أمثال سنت فرانسيس، الذي كان يرى أن المسيحيين لا يشبهون المسيح بدرجة كافية، إنما كان عليها أن تقابل أولئك الذين كانوا يرون أن المسيح نفسه أسطورة، أو رجلا جريئا في الرأي، أو بدائيا، أو حتى رجلا منحرف التفكير. كان على المسيحية في إيجاز أن تقابل تحديات كثيرة وأن تواجه جبهات متعددة. وقد شغلت قصة أصول هذه التحديات أو قصة نشأتها، وصراعها مع قيم المسيحية القائمة، مكانة رئيسية في تاريخ الفكر في بلاد الغرب.
الفصل السادس
العصور الوسطى (أولا)
إن مصطلح «العصور الوسطى» هو في ذاته حكم على قيمتها. وقد كان هذا الحكم أصلا محطا من شأنها. ويمثل هذا المصطلح ما كان يعده واضعوه فترة امتدت ألف عام، وكانت أشبه بالوادي أو المنخفض بين قمتين شاهقتين: إحداهما تمثل الماضي، والأخرى تمثل الحديث. وقد شاع استخدام هذا المصطلح، كما شاعت لفظة «الوسيط» التي اشتقت منه وذاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر. ولما حل القرن التاسع عشر تأكد هذا التقسيم الثلاثي إلى القديم، والوسيط، والحديث، حتى لقد استخدمه رجال الغرب في تواريخ أخرى مثل تاريخ الصين؛ حيث لا يكون له أي معنى من المعاني البتة.
وللتسمية التقليدية الثابتة على كل حال ميزة واضحة؛ فهي تفقد أكثر ما في مضمونها الأول من معنى الثناء أو الهجاء. ونحن ننظر إلى «الوسيط» اليوم على أنه يدل في التاريخ الأوروبي على وجه التقريب على ألف العام التي تمتد من عام 500م إلى عام 1500م. ولا تزال قرونه الأولى فيما بين عام 500م وعام 900م أو 1000م تعرف بالعصور المظلمة، وهو اصطلاح لم يستطع حتى استعماله الدائم أن يمحو عنصر الهجاء فيه. وتعتبر العصور الوسطى الحقيقية فترة تمتد من شرلمان في القرن التاسع إلى كولمبس في القرن الخامس عشر، مع شيء من التداخل وعدم الدقة. وكما أن القرن الخامس قبل الميلاد يعتبر عادة عصر ازدهار ثقافة المدينة الحكومية اليونانية، فكذلك يعتبر القرن الثالث عشر عادة عصر ازدهار ثقافة العصور الوسطى. وأخيرا أود أن أقول إن هذه الثقافة كانت ثقافة الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى الامتداد الجديد الذي شمل وسط أوروبا، وأيرلندة، واسكتلندة، وإسكنديناوة. أما الجزء الشرقي من الإمبراطورية، الذي طالما اعتدى عليه السلاف، والعرب، والأتراك، فقد لبث في القسطنطينية حتى عام 1453م. غير أن تاريخه هو في الواقع تاريخ مجتمع منفصل، بل إن تأثيره الثقافي المباشر في الغرب ربما كان أضعف من تأثير الإسلام.
وقد اختلف الحكم على العصور الوسطى اختلافا كبيرا في القرون القلائل التي أعقبت نهايتها. إن الثقافة الإغريقية الرومانية لم تهاجم إلا منذ عهد قريب جدا. ولم يتصد للهجوم عليها إلا أولئك الذين يزدرون التربية الكلاسيكية، في حين أن الكتاب والفنانين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في ذيول العصور الوسطى بدءوا فعلا ينظرون بعين الاحتقار إلى أسلافهم في تلك العصور. وكثير من القذف المعروف الذي وجه إلى ثقافة العصور الوسطى ، كذلك الذي يقال من أن فلاسفة تلك العصور كانوا ينفقون وقتهم في جدل يدور حول عدد الملائكة الذين يستطيعون أن يقفوا على طرف دبوس، يرجع في أصوله إلى هذه السنوات الأولى من الأزمنة الحديثة. أما القذف الذي شاع في العصر الحديث على العصور الوسطى فقد تميز بعبارات كهذه: «ألف عام من غير حمام». بل إن صفة «غوطي» ذاتها التي نستخدمها اليوم بنغمة الثناء على فن العمارة في العصور الوسطى، كانت في بداية الأمر اصطلاحا ينطوي على الازدراء، ويعادل قولنا «بربري».
وقد هبطت سمعة العصور الوسطى إلى أدنى درجاتها في منتصف القرن الثامن عشر، «عصر النشر والعقل». ثم أغرمت الحركة الرومانتيكية في الجيل التالي، التي تزعمها سير ولتر سكوت، بشعر العصور الوسطى وبما حسبوه لا معقولا فيها. وبدأ الناس فعلا في إعادة البناء على النمط الوسيط. ويقال إن الدرجات الحجرية الغوطية الجديدة في إحدى الجامعات الأمريكية المعروفة قد جوفت عمدا كي تبدو قديمة من فعل الأجيال العديدة التي استخدمتها، كما ينبغي أن تبدو الدرجات الغوطية، وكذلك الصبية خلال الإحياء الرومانتيكي لروح العصور الوسطى مثلوا في ألعابهم روبن هود، كما أن من يكبرونهم زخرفوا المخطوطات وكتبوا القصص الشعرية.
ثم كانت هناك في أخريات القرن التاسع عشر حركة مضادة أخمدت هذه الحماسة للعصور الوسطى، وإن لم تطفئها تماما. أما الطالب الأمريكي المتوسط اليوم فلا يكترث مطلقا بالعصور الوسطى. وهو على الجملة يميل إلى الحكم عليها حكما غامضا ويصمها بالتأخر والخرافة. ولكن الأقلية من العشاق والكارهين تعبر عن نفسها تعبيرا واضحا، وكلاهما يمدنا بمشكلتنا الكبرى في هذا الفصل. ويرى بعضهم، وأكثرهم - وإن لم يكونوا كلهم - من الرومان الكاثوليك، أن العصور الوسطى والقرن الثالث عشر خاصة - تمثل قمة العمل الإنساني، وهي مجتمع وإن يكن بغير الثراء الحديث والتكنولوجيا العلمية، إلا أنه يقوم على أساس اجتماعي وخلقي متزن، وعلى عدالة اجتماعية عملية، وأسلوب مسيحي من العيش فيه أكثر من عوض عن اختفاء الوفرة المادية. ويرى آخرون، وأكثرهم - وإن لم يكونوا كلهم - من الوضعيين، الراديكاليين، المضادين للمسيحية ، المؤمنين بالتقدم إيمانا جازما، أن العصور الوسطى زمن بربري، متخلف، يعتقد في الخرافة، وتسوده الفوارق الطبقية، وهي عصر آلام للكثرة من الناس، وعصر عنف وتظاهر كاذب للقلة منهم. وكل من هاتين النظرتين يهدينا إلى عناصر هامة تعيننا على فهم العصور الوسطى، وكلاهما إذا أخذ ككل بغير تعديل بعيد عن الصواب.
مؤسسات الثقافة في العصور الوسطى
أول ما يجب أن يتضح في الأذهان فيما يتعلق بثقافة العصور الوسطى هو أنه كان من المحتم عليها أن تبني في بطء على ما ليس من باب المجاز أن نسميه بالخرائب. وقد شهدت العصور المظلمة - بالرغم من أنها لم تكن منقطعة الصلة تماما بمجموعة الخيوط المعقدة التي تربطنا بالماضي - انقطاع جميع هذه الخيوط تقريبا ونحولها. وليس بوسعنا هنا أن نحاول قياس مدى هذا الانقطاع. ولعله كان كاملا في المستويات العليا من السياسة والإدارة والحياة الاقتصادية، ولم يكن بمستطاع أحد أن يقوم بعمل على نطاق واسع - في التجارة، أو شئون الدولة، أو الاجتماع على أية صورة من الصور - سوى الكنيسة الكاثوليكية بطبيعة الحال. وبقيت الكنيسة خلال هذه العصور المؤسسة «الأوروبية» الوحيدة التي كانت تعمل فعلا، والتي كانت متماسكة فعلا؛ إذ إنا لا نستطيع أن نعد تقاليد الإمبراطورية الرومانية، أو حتى قوانينها، من المؤسسات المستقرة الفعالة ذات الأثر في هذه القرون. ويبدو أن بعض البلديات الرومانية على الأقل قد استمر، وحتى الكنيسة قد جمعت بحلول القرن العاشر عددا من المساوئ، مثل زواج القسس أو اقتنائهم المحظيات، وبيع وظائف الكنيسة، والعلمانية بجميع ضروبها، مما كان يتطلب الإصلاح العاجل.
وقد اختفت من أوروبا بهذه الصورة كل مظاهر الحضارة المدنية تقريبا. ولم تعد المدن في غرب أوروبا سوى أسواق محلية. وأما تلك المدن التي كانت تقترب من تصورنا للحياة المدنية فقد كانت عادة مراكز لإدارة الكنيسة، ومقرا للأساقفة وكبار الأساقفة، أو كانت تنمو حول مراكز الأديرة العظمى. وكان الناس في أغلب الأحيان يعيشون في قرى زراعية صغيرة تكتفي بذاتها من الناحية الاقتصادية. وندرت التجارة، وانحصر أكثرها في أدوات الترف، أو في المعادن اللازمة لتسليح السيد الإقطاعي وصنع سيوفه. وحتى الطرق الرومانية قد هجرت، وانحصر الارتحال في السير على الأقدام أو على ظهور الخيل. وانقسم المجتمع انقساما واضحا إلى الرؤساء المحاربين الإقطاعيين والفلاحين وأرباب الحرف. وكادت تنعدم الطبقة الوسطى. واقتتل الرؤساء المحاربون فيما بينهم، مما كان يؤثر عادة في ضعف محصول العامة وفيما يملكون. ولكن الفلاحين على الأقل لم يتحتم عليهم القتال.
أما في فترات الهبوط في القرن السابع أو القرن العاشر، فقد تم انقطاع خيوط ثقافية أخرى كثيرة، واحتفظت الكنيسة بالتفكير الرسمي، ولم تختف اللاتينية اختفاء تاما قط. غير أن لاتينية العصور المظلمة كانت - على أية حال - لاتينية مبسطة ولا تسير أحيانا وفقا لقواعد اللغة. وقد اهتمت الكتابة الجديدة كلها تقريبا بأمور الدين، وكانت في أغلب الأحيان مجرد جمع لأعمال قديمة وشرح لها. أما ما يسمى أحيانا بالنهضة الكارولنجية في القرنين الثامن والتاسع، التي ترتبط بالإمبراطور شرلمان، فلا تكاد تعدو مجرد إحياء مبدئي للاتينية تكون أشد التزاما لقواعد اللغة، وبداية للتربية الرسمية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي سوف نعود إليها بعد حين.
ولكنا يجب ألا نغالي؛ ففي القمة كانت الكنيسة الكاثوليكية متماسكة، وفي الأسفل، في الحياة المحلية، في الأمور التي تمس حياة الفرد، كانت هنالك خيوط كثيرة متماسكة. وربما كانت وسائل الحصول على العيش في جملتها أقل معاناة مما ظن مؤرخو القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن المهارات الزراعية قد هبطت عن أعلى مستوى روماني، فإن هذا المستوى كان أبعد ما يكون عن الانتشار الكامل في الإمبراطورية، وربما عانت كذلك المهارات الفنية بالمعنى التقني، كما أن الخيوط التي تربط الأستاذ بالتلميذ قد وهنت، ولكن ما برح هناك - بالرغم من هذا - شيء من النحت في الحجر على مستوى ممتاز في كل قرن من القرون تقريبا. ولعل الرغبة في الإخلاص لنقل الطبيعة في الفن نقلا فوتوغرافيا قد اختفت. ولكن القدرة عليها ما زالت قائمة. ومع أن مهارات الصانع العادي في النسج، والأسلحة والأثاث، وما إلى ذلك، قد اخشوشنت، إلا أنها لم تختف على الإطلاق. وقد أدخل الرهبان الذين طهروا الغابات وجففوا المستنقعات وسائل جديدة، وحسنوا، واخترعوا.
وأخذ هيكل الحضارة برمته يعود تدريجا، ولم يعد ينكر وجود ثقافة كاملة التطور في ذروة العصور الوسطى؛ أي في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، إلا من يكره كل شيء وسط كراهية عمياء. وقد بلغت الثقافة في مراكز هذا العالم الجديد في فرنسا، وإنجلترا، والأراضي المنخفضة، وشمالي إيطاليا، والراين - من الناحية المادية - مثل ذلك المستوى الذي بلغه الإغريق والرومان. أما من الناحية العقلية والناحية العاطفية فإن هذه الثقافة الجديدة تمثل أسلوبا من الحياة، لا يزال يفتتن به الكثيرون حتى اليوم كما ذكرنا.
وبقيت الكنيسة في ذروة العصور الوسطى المركز العظيم للحياة العقلية. وظهرت في المجتمع الغربي لأول مرة تربية منظمة متدرجة تخضع للرقابة العامة. ولم تكن تربية عالمية، ولكنها كانت تربية متاحة للصبيان الأذكياء حقا - المنكبين على الكتب (ولم تتح للبنات بطبيعة الحال)، حتى من كان منهم من أدنى الطبقات. ولم يكن الإشراف العام من حق مراقبة بيروقراطية وحيدة، كمراقبة الولاية، على التعليم. وإنما كانت للكنيسة الكاثوليكية، بأعضائها العديدين للتربية والإدارة، وبأكليروسها المنظم تنظيما يدعو إلى الإعجاب، وبرأسها الأعلى ممثلا في البابا.
وقد نشأت المدارس الأولية حول مراكز الأديرة، أو كملحقات للكاتدرائيات وأحيانا كمدارس في المدن. وكانت تعلم مبادئ الأشياء، واللاتينية خاصة، التي لم تعد لغة للكلام العام اللهم إلا فيما بين العلماء، فقد كانت بالنسبة لهؤلاء لغة للكلام كما كانت لغة للكتابة، وكان الأذكياء من الصبية الصغار يبدءون تعلمها في سن جد مبكرة. أما تعليم الطبقات العليا، الذي أهمل في العصور المظلمة، فقد انتهى تدريجا إلى معرفة القراءة والكتابة أو شبه المعرفة بهما لعدد كبير من النبلاء، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن أكثر تعليم الطبقة العليا كان في الصيد وفنون الحرب وفي التدريب على إدارة الضياع.
أما المؤسسة التربوية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي تعد من ميراثها العظيم، فهي الجامعة. ولا يلي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها سوى بعض الجامعات، في باريس ، وأكسفورد، وبولونيا على سبيل المثال، من حيث كونها أقدم المؤسسات البشرية المتصلة في العالم الغربي في يومنا هذا (وقد يقال إن فرنسا وإنجلترا أقدم كأمم، ولكنهما لم تكونا بالتأكيد مؤسستين متصلتين من الناحية السياسية). وقد نشأ أكثر هذه الجامعات في وقت مبكر جدا في العصور الوسطى، كمدارس كنسية أو ما يشبه ذلك. ولما حل القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر، بلغت شكلها الذي تميزت به، وهو عبارة عن رابطة رسمية من المدرسين والدارسين في كل متحد يتمتع بتحرر كبير من السلطات السياسية، ويتمتع على الأقل بحرية الكيان في داخل النظام الكنسي. وكانت هذه الجامعات، بعد امتحان صحيح، تمنح الدرجات العلمية، وتمنح درجة الأستاذية في الآداب التي تؤهل الحاصل عليها لأكثر الوظائف الثقافية، غير أن درجة الدكتوراه سرعان ما أنشئت لتكون مؤهلا لأعلى الوظائف.
وكانت هذه الجامعات تعلم أقصى ما وصلت إليه الموضوعات التي كانت تتألف منها القاعدة الثابتة للتربية الرسمية في العصر الوسيط، وهي تتكون من مجموعتين: الأولى رباعية وتشمل الهندسة والفلك والموسيقى والحساب؛ والثانية ثلاثية وتشمل قواعد اللغة والمنطق والبلاغة، وأرجو ألا تضللنا هذه الأسماء الرسمية؛ فالواقع أن أكثر ما لا يزال يكون قاعدة التربية الحرة يقع متخفيا تحت هذه الأسماء الغريبة. ويلاحظ أن العلوم التجريبية غير موجودة، وكذلك لم توجد - بطبيعة الحال - الموضوعات العملية المتنوعة تنوعا مدهشا، من الآلة ذات الاحتراق الداخلي إلى النجاح في الزواج، التي دخلت بطريقة ما في مناهج التعليم الأمريكية الحديثة. وبعدما كان الطالب في العصور الوسطى يتم تأسيسه في اللاتينية كلغة حية للبحث وكأدب، ويتمه في العلوم الرياضية، وهي المجموعة الرباعية، يحق له أن يبدأ بدراسة إحدى المهنتين اللتين تطلبان المعرفة فعلا، وهما القانون والطب، أو يحق له أن يلتحق بما يعادل في أساسه دراستنا في الفلسفة والأدب التي يقوم بها الطالب بعد التخرج. والفلسفة والأدب «اللاتيني» كلاهما كان أمرا مقيدا بالنسبة إلى الدارس الحديث الذي ألف قائمة الاختيار المطولة التي تشمل عدة موضوعات للدراسة في المدارس العليا الحديثة. غير أن الفكر الرسمي في العصور الوسطى كان يتناول - كما سوف نرى - كل مشكلات المعرفة الكبرى.
ولما حل القرن الثالث عشر كان العمل العلمي قد أمسى جزءا معترفا به كل الاعتراف من التنظيم الاجتماعي في العصور الوسطى في المستوى العقلي، فكانت هناك وظيفة الإدارة السياسية، ووظيفة القسيس، ووظيفة العالم، بل لقد كان هناك - بين طلبة الجامعة أنفسهم - شيء يشبه ما نعرفه بالحياة الجامعية. إن التباين المعروف بين «حياة المدينة وحياة العلم» قد بدأ منذ العصور الوسطى؛ فقد كان الطلبة يلعبون، ويشربون، ويغنون، وينظمون الألاعيب والمواقف المضحكة. وكانت هناك مشاغبات الطلبة التي كثيرا ما كانت تسيل فيها الدماء، وقد كان كل هذا أقل تنظيما بدرجة قصوى، وأقل عكسا لعالم الكبار، من ثقافة الشباب الأمريكية كما نعرفها. ولكنا إذا وازنا بين حياة الشباب في اليونان وروما وحياة الطالب في العصور الوسطى ألفينا في الحياة الثانية لونا حديثا جدا.
إن المعجبين بالعصور الوسطى - وبعض منهم في الواقع من طلبة العلم بالعصور الوسطى الممتازين جدا - يصرون على أن الروح الأساسية التي تقوم عليها وظيفة العلم في العصور الوسطى تختلف حقا كل الاختلاف من وظيفة العلم في التعليم العالي الحديث. ومن الفوارق الواضحة اختفاء العلم التجريبي من التربية الرسمية في العصور الوسطى، ووجود إيمان ديني واحد يعترف به في كل مكان. وهذه الفوارق تميز عموما الحياة العقلية كلها في العصور الوسطى، وسوف نعود إليها مرة أخرى. والفارق الذي يلاحظ عادة في حياة الطالب ذاتها هو اختفاء روح المنافسة الحادة الحديثة، والرضا بمركز الإنسان في الحياة في العصور الوسطى. والواقع أن الطلبة المساكين لم يتوقعوا بصورة واضحة أن يستخدموا الجامعة في العصور الوسطى عتبة توصل إلى رياسة البنك أو مجلس الإدارة، وذلك بالرغم من أن علماء العصور الوسطى كانوا في الأمور العقلية البحتة على أشد ما تكون المنافسة، وكانوا يتصفون بكل ما يتصف به العالم من غرور، وجدل، ورغبة في التغلب في النقاش على الخصوم. وربما كان الطالب في العصور الوسطى يتصف بزيادة في تكريس ذاته للعلم من أجل العلم بدرجة لا تتوافر لزميله في العصر الحديث، وبالرغم من ذلك كانت وظيفة العلم في كثير من وجوهها عملا مفتوحا لأصحاب المواهب. وفي هذا المجال - كما في غيره من المجالات في العصور الوسطى - يدهش المرء إذ يجد قدرا كبيرا من المنافسة والمضاربة بالنسبة إلى مجتمع المفروض أن يلزم كل امرئ فيه مكانته.
إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية - حتى في أوج العصور الوسطى - كانوا ينتمون إلى نوع من أنواع المنظمات الدينية، وكانوا بمعنى من المعاني جزءا من الكنيسة. حقا إن أكثرهم لم يحصلوا على شفاء الروح؛ أي مسئولية الأبرشية عن الواجب الكهنوتي الذي يحمله راعي القطيع، وكان مفهوما أن الكنيسة كانت أخف في رقابتها على حياتهم الخاصة منها مع قسس الأبرشيات. بيد أن الكنيسة كانت بدرجة لا نكاد نفهمها اليوم - تتدخل في كل لون من ألوان النشاط البشري وتوجهها، وبخاصة النشاط العقلي. وفي أوائل العصور الوسطى كانت القدرة على القراءة وحدها تعتبر دليلا على أن المرء قسيس؛ ومن ثم ظهر ذلك الاصطلاح، الذي لم يندثر تماما حتى الآن، وهو «ميزة الأكليروس»، ومعناه أن الرجل الذي يستطيع أن يثبت قدرته على القراءة، يستطيع من أجل ذلك أن يعتمد - عندما يقع مع السلطات في مشكلة ما - على محاكمته في محكمة دينية لا في محكمة عادية. وكان كل عمل في العصور المظلمة يتطلب المعرفة بالقراءة والكتابة - مثل التسجيل ومسك دفاتر الحسابات وكتابة الرسائل، وتسويد الوثائق - يعهد به إلى القسس؛ لأن القسس وحدهم هم الذين كان يتوافر لهم التعليم اللازم لذلك، وبالرغم من أن هذا الاحتكار قد اختفى في أوج العصور الوسطى، فإن الأكليروس - حتى في هذه الفترة - تحملوا عبئا أضخم من العمل الإداري في الحياة أكثر مما يتحملون اليوم.
ثم إن القسيس - في ألوف الأبرشيات الريفية، بل وفي أبرشيات المدن - كان الحلقة الفعالة التي تصل المرء بالعالم الخارجي؛ عالم الأفكار، وعالم الحروب، والضرائب، والدسائس. وكانت الموعظة هي السبيل إلى نشر المعرفة، وذلك بالرغم من أنها لم تكن قط في مباشرة الكاثوليك لها ذلك الأمر المتسلط كما أمست في بعض المذاهب البروتستانتية. وفي الحق أن المنبر قد أعطى الكنيسة في العصور الوسطى تلك الميزة الكبرى التي كادت تكون احتكارا لوسائل التأثير على الرأي العام. وكانت الكنيسة وحدها هي التي تستطيع نشر الدعاية المؤثرة، لانعدام الصحف، والراديو، أو ما يشبه الأستاذ الكلاسيكي المتجول (أو الخطيب). ولم تكن هناك وسيلة أخرى لنشر الأفكار بين الجماهير سوى الكلمة الرسمية المنطوقة. ولما كانت البابوية في العصور الوسطى هي التي تملك ما كان يعادل نفوذ الصحافة والراديو، فقد كان ذلك بالتأكيد أحد الأسباب التي جعلت بابوات العصور الوسطى يحتفظون بنفوذهم في وجه نفوذ الحكام العلمانيين الآخذ في النمو لفترة طويلة من الزمن.
وأخيرا أقول إننا مدينون للكنيسة باحتفاظنا بالأدب الإغريقي واللاتيني. وبالطبع كان المتطرفون من المسيحيين يرون أن الآداب الوثنية من عمل الشيطان، ويطالبون بإعدامها. غير أن الفاكهة المحرمة التي تتمثل في الأدب الخيالي الوثني كان فيها شيء من الجاذبية حتى بالنسبة إلى رجل الدين الورع العادي. وكان الرهبان كذلك يجمعون وينسخون في الشرق والغرب. وبالرغم من أن الخسارة كانت فادحة، وبخاصة خلال السنوات الطويلة التي انهارت فيها الإمبراطورية الرومانية، فإن ما بقي كان مع ذلك يكفي لأن يعرفنا معرفة جيدة بثقافة الإغريق والرومان. ولم يقتصر عمل النساخين في الأديرة على نقل الآداب الكلاسيكية، بل لقد نسخوا كذلك - أو نشروا بالتعبير الحديث - ما كتبه باللاتينية علماء الدين والفلاسفة المعاصرون في العصور الوسطى، وما كتبه باللغات القومية الشعراء والقصاصون في هذه العصور. ونحن لا ندين لهم بشيشرون وحده، بل كذلك بأكويناس و«أغاني رولان».
وإذن فقد كان الرجال الذين يتلقون تعليمهم في الكنيسة، يكادون يحتكرون الحياة العقلية، فكانت الكنيسة منصة المحاضرة، والصحافة، والنشر، والمكتبة، والمدرسة، والكلية. بيد أنه من الخطأ برغم هذا أن نظن أن العصور الوسطى كانت خاضعة كل الخضوع للقسس. كما أنه من الخطأ قطعا كذلك أن نظن أن كنيسة أساسية بيوريتانية رقيبة كانت صاحبة السيادة عليها، وكذلك كانت هناك أوجه هامة في الحياة العقلية في العصور الوسطى لم تكن حكرا للأكليروس بأية حال من الأحوال. وإذا كانت الطبقات العليا في العصور المظلمة لا تكاد تعدو أن تكون جماعة من المحاربين المحترفين، فقد اكتسبوا في أوج العصور الوسطى اهتمامات أوسع نطاقا - في القانون والإدارة، وفي الشعر والقصص الخيالي، وفي أسلوب الحياة العجيب الذي يعرف بالفروسية، بل وأحيانا في البحث والدراسة. وقد كان أعظم فلاسفة العصور الوسطى، سنت توماس أكويناس من النبلاء الإيطاليين مولدا. وفي الآداب القومية، الإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، وغيرها مما سار شوطا بعيدا في العصور الوسطى، نجد كل ضروب العناصر المستمدة من الحياة الشعبية، التي تشتمل على قدر كبير من العربدة والخشونة لكي تثبت أن الإنسان البدائي لم يفقد صفاته كلها بالتدين، وربما لا يتيسر لنا أن نتبين في العصور الوسطى العلاقة بين مستوى الفكر الرسمي وبين حياة الرجل العادي، كما يتيسر لنا ذلك - على سبيل المثال - في القرن الذي عاش فيه فولتير، وروسو، وجيفرسون، وزملاؤه في عصور النور. غير أن فلسفة العصور الوسطى الشكلية المدرسية لم تكن - برغم هذا - نظاما قائما في فراغ؛ فقد كانت الفلسفة الرسمية في تلك العصور آمن في توجيهها للآمال البشرية العادية منها في عصر كعصرنا، حيث تكون الفلسفة في الوقائع دراسة أكاديمية شديدة العزلة، وذلك قطعا بسبب بناء المجتمع الوسيط، وبسبب المركز الأدبي للأكليروس.
علوم الدين والفلسفة في العصور الوسطى
كانت أصول الدين حقا بالنسبة إلى الفكر في العصر الوسيط «سيدة العلوم». وكان المفكر في العصور الوسطى يستخدم لفظتين منفصلتين، هما «أصول الدين» و«الفلسفة»، ولكنهما في الواقع مختلطتان اختلاطا لا انفصام فيه. وكان هناك دائما مجال للغموض، أو للإيمان، ولكن العالم بأصول الدين - كالفيلسوف - كان مفكرا، وكان رجلا يعلل ما يجري في الكون، وكان يعتقد أن هناك مكانا لله، وإن تعذر على كل الناس الوصول إليه، ويستطيع المفكر البشري بالتعليل أن يتوصل إلى مجموعة من الآراء التي تتعلق بمكان الله، وهي مجموعة نافعة بل وضرورية وإن تكن ناقصة.
وقد بنى المفكرون في العصور الوسطى - بطبيعة الحال - على أساس ما قام به الآباء المسيحيون الأوائل من عمل، وعلى تصرفات الكنيسة ونظراتها التي ذكرناها في الفصل السابق. ولعل أهم ما كتبه الآباء بالنسبة إلى العصور الوسطى، بل وبالنسبة إلى المسيحية التي جاءت بعد ذلك، كتابات سنت أوغسطين، أسقف هيبو ، الذي عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس. وهو ينتمي إلى سلالة رومانية أفريقية نبيلة، أبوه وثني، وأمه مسيحية (تلقبت بالقديسة مونيكا). وقد مات في عام 430م في أثناء حصار الوندال - إحدى القبائل الجرمانية - لمقره الأسقفي. ولذلك فهو ابن العالم القديم بمعنى، وأحد رجال العالم الوسيط بمعنى آخر. ومن المؤكد أن هذا العالم قد عده فيما بعد أعظم الآباء اللاتينيين.
إن أوغسطين إحدى الشخصيات الكبرى في الفكر الغربي، وهو يقف على قدم المساواة مع أفلاطون وأرسطو. ولا نستطيع في كتاب كهذا أن ننصفه، وإنما يجب أن يقرأ مباشرة، على الأقل في «اعترافاته»، وهو سيرة حياته بقلمه، وهي من السير القلائل التي بقيت من العالم القديم. وبفضل هذا الكتاب، وبفضل بقاء كتاباته الجدلية كلها التي كتبها عرضا، وبفضل كتابه «مدينة الله»، ذلك العمل العظيم المنظم، نستطيع أن نتعرف أوغسطين كشخص أحسن من معرفتنا بأية شخصية أخرى في العالم القديم. وهو كثير التناقض، كثير الالتواء والالتفاف، لأنه كان شخصا عظيم الموهبة، متأثرا بدنيا الثقافة الرومانية المنحلة. وإن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه اعتنق المسيحية باعتبارها المبدأ الوحيد السليم المتكامل في عالم مضطرب - وبعبارة أخرى يميل المرء إلى الاعتقاد بأن هذا الرجل الذي ينحدر من الرجال المهذبين العمليين المتأثرين بالرومان كان مخلصا للتقاليد الرومانية المتزنة الدنيوية القائمة على الإدراك العام السليم. ولكن أوغسطين - مع ذلك - كان يجري فيه الدم الإغريقي وإن يكن رومانيا. ويستطيع المرء أن يتبين لديه كذلك بنفس الوضوح دافعا عاطفيا، قويا، وتعمقا في الأغوار استمد منه أوغسطين بطريقة ما الهدوء الإلهي المعجز. ومهما يكن من أمر فقد اختبر أوغسطين قبل تحوله إلى المسيحية أكثر الملذات الحسية، وكثيرا من أسباب العزاء الروحاني في دنياه، بما في ذلك مذهب مانيكان والأفلاطونية الجديدة.
وإنا لنلمس في أوغسطين الأسقف المسيحي هذا الصراع الشاذ، أو هذا التوتر بين الجسد والروح، وهو صفة مسيحية، ولكن الجسد لم يعد يجذب أوغسطين إلى الانغماس في الشهوات، وقد باتت الدنيا عالما يستطيع الأسقف - بل وينبغي له - أن يتناوله، وأن يعاون في تنظيمه، ويعاون في إنقاذه من شرور الفوضى، وقد كان لدى أوغسطين - كما كان لدى بولس - شفاء للنفوس لا يكل، وكان رجلا عمليا ينهمك في تفصيلات الأمور الجارية التي لا حصر لها. ويجب أن نلاحظ أن الدنيا في التفكير الصوفي المحض كمكان لا بد من تطهيره هي أقرب إلى غواية الشيطان بسورة أدق وأخطر منها إلى أن تكون مكانا يتمرغ فيه المرء. ومع ذلك فإنا إذا نظرنا من خارج هذا التفكير الصوفي، وجدنا أوغسطين نوعا من المتصوفين، وهو نوع صادق تماما. ولم تكن طريقته في التطهير عملية، تؤدي إلى التقدم فيما يبدو، وإنما كان يرى أن واجبه الأبدي المستحيل هو التطهير الروحاني الكامل. كان أوغسطين لا يهبط إلى مدينة الأرض إلا لكي يجعلها مدينة الله، ومن الواضح أن هذه النظرة إلى العالم الآخر لم تتسلط عليه وهو يؤدي واجباته اليومية، وإلا لما بقي أسقفا لهيبو، ولكنها - برغم ذلك - أساس لمذهبه، وهي التي تضعه في المكانة التي يتميز بها في التفكير المسيحي.
ونستطيع أن نذكر هنا ثلاثة أمور عن هذا العمل الضخم: أولها، أن عمل أوغسطين كله عمل مركب موسوعي؛ فقد مس كل ما يتعلق بالمذاهب تقريبا، واستطرد في التفصيل الشديد في الأمور الهامة. ونظرته من أكثر الوجوه تتوسط التجربة المسيحية اللاتينية بدرجة تجعلها صالحة لأن تكون أساسا للأرثوذكسية في العصور الوسطى؛ فلقد كان أوغسطين فيما يتعلق بالتثليث، وبالتقديس - وبخاصة فيما يتعلق بمعالجة المأساة المسيحية، مأساة الخطيئة والخلاص، بطرق شتى - مصدرا وأساسا يدعو إلى الإعجاب والتقدير.
والأمر الثاني، هو أن مؤلف أوغسطين العظيم «مدينة الله» قد وضع وجهة النظر المسيحية، أو علم الكون في المسيحية، في صيغة كانت تجتذب دائما أهل الغرب بشدة، وهي صيغة تعبر عن فلسفة للتاريخ؛ ذلك أن أوغسطين لم يجعل المسيحية مجرد دراما، وإنما تقدما عبر الزمن. وقد كتب «مدينة الله» من ناحية؛ لأنه أراد أن يرد على التهمة الوثنية الشائعة بأن ضعف الإمبراطورية الرومانية الآخذ في الظهور الشديد إنما يرجع إلى عقيدة المسيحية بوجود عالم آخر ، بل ربما يرجع إلى مجرد ما في المسيحية من سوء. ولم يجد أوغسطين مشقة في إثبات أن كثيرا من المدن والإمبراطوريات قد انحل وسقط قبل وحي المسيحية بزمن طويل؛ فإن من طبيعة المدن في هذه الدنيا أن تزول، وليست هناك مدينة أبدية إلا «مدينة الله». ولم تظهر هذه المدينة بعد على الأرض، بالرغم من أنا قد وعدنا بها في هذه الدنيا، ولكن الله قد كشف لنا عن وجودها، وهيأ لنا جميعا عن طريق ابنه يسوع فرصة المواطنة فيها. غير أن مدينة الأرض الأخرى سوف تعيش، والمدينتان في حرب أهلية أبدية حتى تنفصلا أخيرا وإلى الأبد في يوم الحساب. ولا ينقسم بعد ذلك المواطنون فيهما بإمكان التحول من مدينة إلى أخرى؛ فمن يرضى عنهم الله يباركون إلى الأبد، ومن يغضب عليهم يعذبون إلى الأبد.
والأمر الثالث - كما يبدو لرجل من الخارج على الأقل - هو أن هناك عند أوغسطين جانبا يدعو دائما إلى الهرطقة، وهي هرطقة من يعتقد الكمال، وهذا الجانب من عمل أوغسطين يظهر بوضوح فيما قد يكون أقوى مبادئه الدينية، وهو مبدأ القدرية، أو الحتمية. وقد اكتسب هذا المبدأ حدة عندما اصطرع مع بلاجيوس، وهو راهب بريطاني كان يدافع عن حرية الإرادة بدرجة يجعل الدفاع نوعا من أنواع الهرطقة. والمشكلة في أساسها من أقدم المشكلات التي واجهت التفكير الإنساني، وهي مشكلة حرية الفرد في الاختيار إزاء نوع من أنواع الحتمية. وقد كانت المسيحية دائما تجد مشقة في اعترافها بأن الكائنات البشرية تستطيع أن تختار اختيارا حرا (أي تمتلك حرية الإرادة)، وذلك على الأقل لأن مثل هذه الحرية تنم عن الإقلال من السلطان المطلق الذي تعزوه المسيحية إلى الله. كيف يتسنى لدودة كالإنسان أن تريد شيئا لم يرده الله؟ إن الله هو كل شيء حرفيا ، بما في ذلك أفكاري وأفكارك، ورغباتي ورغباتك. وهو الذي خلق مدينة الله ومدينة الأرض، وله الحكم فيهما، فإذا أصبح بعضنا في الواقع مواطنين في مدينة الله، فليس مرد ذلك إلى أننا نملك القوة لكي نتجنس بجنسية هذه المدينة - إذا جاز هذا التعبير، وإنما مرده إلى أن الله منذ البداية قد أراد لنا أن نكون مواطنين، ولأنه وهبنا نعمة لا تقاوم. وهذه الهبة، هبة النعمة - وهي هبة ليس بوسع إنسان أن يكسبها، أو حتى أن يستحقها بمعنى ما - هبة حرة من الله للمختارين من عباده، وهي تمكنهم من الخلاص؛ أي من التخلص من عواقب الخطيئة الأولى. ويستطيع الرجل العادي أن يتعطش إلى النعمة، وأن يدعو الله أن يهبها إياه، ولكن الأمر في ذلك لله، بحكمته المطلقة التي أبرمت من قبل كل أمر في كل زمان.
كل هذا منطق طيب (ما دمت تفترض وجود إله على كل شيء قدير)، وهو كذلك منطق طيب للعواطف؛ لأن الخضوع التام لمثل هذا الإله عند من تهزهم العواطف إن هو إلا محو الذات، أو السلام. وقد استنفد الناس عقولهم في وضع الاستعارات التي يعبرون بها عن هذا الشعور. وقد سبق لي أن استخدمت إحداها، عندما شبهت الإنسان بالدودة. إلا أن هناك - مع ذلك - بعض المشكلات التي تعترضنا في هذه المبادئ الحتمية، وبخاصة من وجهة نظر أولئك الذين يجاهدون في سبيل الإبقاء على سير الأمور في هذه الدنيا. وليس أوضح هذه المشكلات هو أكثرها شيوعا بأية حالة من الحالات، وإن تكن هي المشكلة التي كانت تبعث القلق دائما في نفوس الأرثوذكس المعقولين، وتلك المشكلة هي هذه: إذا كان الله قد قدر كل شيء من قبل فلماذا لم يقدر للإنسان رغبته في شرب الخمر، وفي السرقة، وفي الزنا؟ وإذا لم يكن الإنسان حر الإرادة فكيف يتحمل أية مسئولية خلقية؟ إن الله هو المسئول عن كل شهوات الإنسان، فكيف يستطيع أن يقاومها، ما دام في مقاومتها إنما يقاوم الله؟!
والواقع أن هذا موقف قلما كان يقفه أحد من الناس . وحقيقة الأمر أن أولئك الذين يعتقدون في القدرية اعتقادا جازما يتصرفون كأن كل لحظة من لحظات حياتهم ليست إلا قرارا ضخما لاتباع الصواب والابتعاد عن الخطأ. غير أن التهديد - عقلا - بعدم المسئولية الخلقية يحلق فوق كل مبادئ الحتمية، وفي الطبيعة البشرية العادية شيء يتصل بالعقيدة التي يصل إليها المرء بإدراكه العام في واقعية الاختبار الفردي، أو في حرية الإرادة. والكنيسة الكاثوليكية ذاتها هي من الناحية العملية شبه أوغسطينية في هذه النقطة؛ فهي تقبل ضرورة الحتمية المفزعة بسبب عظمة الله التي لا تحد. ومن الواضح أن الإنسان لا يستطيع في الواقع أن يقاوم الله، ولكنا يجب أن نعزو إلى الإنسان نوعا من المسئولية الخلقية المفوضة إليه لكي تتحقق المأساة التي يريد الله أن تحدث فوق هذه الأرض حتى يكون الجهاد واقعيا.
وفي الحتمية المتطرفة على كل حال خطر آخر على الأرثوذكسية أكثر شيوعا. والظاهر أن فكرة وجود قوة عظمى لا تقاوم «تبعد الأمور عن واقع الأشياء الواضح العادي المبتذل» لها جاذبية عظمى لأصحاب الميول الشديدة نحو العصيان على بيئاتهم. ولم يكن أسقف هيبو دائما بأية حال من الأحوال في مثل هذه الحالة من العصيان؛ إذ كان يعتقد أن إرادة الإنسان الحرة تتفق ومعرفة الله المطلقة السابقة - ولكن أوغسطين المتصوف، أوغسطين الذي يحب الله في حماسة شديدة، كان بالفعل عصيا. ويبدو من المحتمل بدرجة عجيبة أن الرجل الذي يريد ألا تكون الدنيا كما هي يؤمن بأنه يعرف كيف ولماذا بالضبط لا بد للدنيا من أن تتحول إلى شيء آخر. والمصلح - في كثير من الأحيان ولا أقول دائما - يريد أن يعرف بأن خطته هي خطة الله، أو خطة المادية الجدلية. ومما له دلالته بالتأكيد أن اثنين - بعد أوغسطين - من أكبر مؤيدي الحتمية الصارمة، وهما كالفن وكارل ماركس، كانا كذلك قائدين من قواد الحركات الإصلاحية الكبرى، حركات من وحي احتقار المألوف، والمريح، ورتابة الحياة اليومية، فوق كل شيء، وفي الكاثوليكية ميل من جانب الجماعات الإصلاحية إلى الرجوع إلى أوغسطين، كما أن الجماعات الرجعية تعود إلى سنت توماس أكويناس.
ومن أوغسطين يمتد خط - معتم مضطرب في أول الأمر - يؤدي إلى أوج الفكر الرسمي في «المذهب المدرسي» في العصور الوسطى. وهذا المذهب المدرسي نظام من التفكير ناضج، وقد تم نضجه في عصر من عصور الثقافة الغربية العظمى. والمؤلفات الأصيلة فيه عديدة، وقد حفظت حفظا جيدا. والتعليق الحديث عليها مسهب مطول. غير أن سعة هذا الكتاب لا تتيح لنا أكثر من الإشارة إلى بعض النقاط المعينة الكبرى ذات الأهمية في المذهب المدرسي، آملين أن يرجع القارئ مباشرة إلى بعض ما كتب المدرسيون.
ويجب أن نذكر أولا أن أساس الفكر في العصور الوسطى يمثل قصة لها جاذبيتها في ذلك النوع الخاص من التاريخ الفكري الذي يهتم بانتقال المعرفة، وبالدراسة المعقدة للمخطوطات، والترجمات، وتبادل الإخصاب الثقافي. وقد أضيفت إلى مجموعة المواد الثابتة برغم صغرها، والتي احتفظ بها الغرب خلال العصور المظلمة - وبخاصة في القرن الحادي عشر - كمية ضخمة من المواد المترجمة عن اللغة العربية؛ فالعرب في عهد محمد
صلى الله عليه وسلم
وخلفائه توغلوا في فتوحاتهم في الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، ولما انتصف القرن الثامن كانوا قد اجتاحوا إسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا، واحتفظوا بهذه المنطقة العامة خلال القرون القلائل التالية. وفي الحق أنهم لم يخرجوا كلية من إسبانيا حتى نهاية العصور الوسطى. وقد أغرم المؤرخون المعارضون للأكليروس طويلا بموازنة الحرية العقلية وقوة النفوذ عند العرب في هذه القرون بالسبات والظلمة التي سادت المسيحيين في الغرب. ومن الحق أن العرب فيما بين عامي 700م و1100م كانت لديهم طبقة مفكرة ناشطة، تهتم - فوق كل شيء - بالعلم والفلسفة. وسوف نعود بعد قليل إلى عملهم العلمي. والواقع أنهم لم يكونوا من الناحية الفلسفية مبتكرين بدرجة تسترعي النظر، ولكنهم اتصلوا بالأصول الإغريقية، وبخاصة بأصول أرسطو التي كانت أفضل وأكمل مما كان متيسرا للغرب، وقد ترجمت هذه الأصول إلى اللغة العربية، ولما خرج الغرب من العصور المظلمة، وزادت الحروب الصليبية من الاتصال بين المسيحيين والمسلمين، ولما نمت - بصفة خاصة - جماعات العلماء التي وصفناها آنفا وتعطشت لمزيد من الكتب، قام المترجمون بنقل هذه المؤلفات الإغريقية من العربية إلى اللاتينية. ويقال إن أشهر هؤلاء المترجمين، جيرارد الكريموني، الذي كان يعمل في توليدو بإسبانيا، قد نقل من العربية ما يقرب من تسعين مؤلفا منفصلا.
وإذن فلقد كانت هناك المادة الأساسية للمجموعة الثلاثية والمجموعة الرباعية من العلوم، كما كانت هناك مكتبات الكتب الجديدة سريعة النمو، من اليونانية والعربية، ومن الهندية في النهاية فيما يتعلق ببعض كتب الرياضيات، كلها الآن ميسورة باللاتينية. وكانت هناك طبقة كبيرة من النساخين الرهبان المتخصصين، كما كانت هناك مكتبات طيبة، وجماعات علمية، برغم عدم وجود المطبعة. والواقع أن المفكرين العاملين في هذه الجماعات كانوا منذ القرن الحادي عشر يضيفون إلى رصيد المعرفة، ويضعون أسس الفلسفة في العصور الوسطى. ولكي ندرك الروح العامة لهذه الفلسفة دعنا ننظر إلى المشكلة التي ربما كانت أم المشكلات في ذلك الوقت، وأعني بها تلك المشكلة القديمة؛ مشكلة الكليات.
والمشكلة، التي لمسناها عند أفلاطون في صورة أخرى، تتركز عند مفكري العصور الوسطى في واقعية الصورة النوعية. والحصان مثال كثيرا ما يذكر في هذا الصدد. يرى أحد الطرفين (الاسمي) أنه بالرغم من وجود عدد كبير جدا من الخيول المتفرقة، وكل منها واقعي، إلا أن الصورة النوعية (التي يعبر عنها ب «الحصان») لا تقابل شيئا واقعا، وليست سوى حيلة يبسط بها الناس التفكير، ليست إلا لفظة، أو قل هي نوع من الاختزال الفكري. ذلك أنه بالرغم من أن دوبين ورانجر وسلفر وبيوسيفالوس هي في الواقع خيول فردية متفرقة - وهي حقيقة نعترف بها بإعطائنا كلا منها اسما خاصا - إلا أنه لا وجود لشيء مثل «الحصان عامة». والواقع أنه ليست هناك شجرة واحدة من شجر البلوط تشبه غيرها، ولكنا إذا أردنا أن نعرف هذه الحقيقة بإعطائنا كل شجرة من أشجار البلوط اسما خاصا بها كان ذلك علينا عسيرا. وإذن فاسم النوع ليس إلا للتيسير، وهو ليس أمرا واقعا.
والطرف الآخر الذي يناقض هذه النظرة هو فكرة «الواقعي». كان الواقعي في العصور الوسطى يعتقد أن الخيول المفردة ليست إلا اقترابا ناقصا من الحصان الكامل، الحصان المثالي، وهو وحده الواقعي. ومن الحق - كما يعترف الواقعي - أننا في هذا العالم، عالم المحسوسات، نقابل عن طريق تجاربنا المستقبلة (إحساساتنا) خيولا مفردة متفرقة فقط، ولكن قدرتنا على الارتفاع إلى فكرة «الحصان عامة» يجب - برغم هذا - أن تسوقنا إلى الاعتقاد بأن ما نعرفه عن طريق القدرة السامية على التفكير هو أصدق مما نتعلمه من التجربة الحسية وحدها. وإذن فالنوع - دون الفرد - هو الحقيقة العليا.
ولو أنا سرنا مع المذهب الاسمي إلى غايته، وجدنا أنه من العسير أن نوفق بينه وبين المسيحية؛ فهو يميل إلى القول بأنه لا وجود قط إلا لما أدركه مفردا، أو مثالا يتصل بمعرفتي عن طريق حواسي أو إرهافها بالآلات؛ فالحصان، وورقة العشب، بل والميكروب - عندما اخترع الميكروسكوب بعد ذلك ببضعة قرون - هذه الأشياء واقعية عند صاحب المذهب الاسمي. ولكن الله، أو حتى الكنيسة منعزلة عن الأفراد الذين تتكون منهم، إنه يتعذر على الاسمي المتطرف أن يجعل منهما أمرا واقعا حقا. والواقع أن المقتضيات المنطقية للمذهب الاسمي الذي ساد في العصور الوسطى وضع هذا المذهب في صف واحد مع ما أطلق عليه فيما بعد المادية، أو الوضعية، أو المذهب العقلي، أو المذهب التجريبي.
وكذلك كان للمذهب الواقعي أخطاره من وجهة نظر الأرثوذكسية المسيحية وإن تكن أقل شدة وأقل وضوحا. نعم إن المذهب الواقعي قد عني بالله وبالكنيسة، كما عني بالعدالة وبكل الأفكار الخلقية الأخرى. ولكنه تعرض - كغيره من مذاهب العالم الآخر - لخطر المغالاة على يد أحد المفكرين المنطقيين - أو المبالغين في التصوف - إلى حد إنكار ما يشق على الرجل العادي أن يفر منه، هذا العالم المبتذل، عالم الطعام، والشراب، والعمل، والحساب، وغير ذلك من ضروب النشاط اللاأفلاطونية. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية فيما يقرب من ألفي عام شديدة الحفاوة بالعامة من الرجال والنساء، واهتمت بألا تبالغ في الابتعاد عن عقولهم وقلوبهم.
فالمذهب المدرسي إذن مذهب توفيق من ناحية ما. وقد سمي أعظم المدرسيين (أكويناس) «أول الأحرار»، كما سمي الرجل السياسي البريطاني المعتدل المحب للتوفيق في القرن الثامن عشر. وإنما ينبغي أن نؤكد - برغم هذا - أن الفكر الرسمي في العصور الوسطى كان يفسح في المجال لجميع ألوان الفلسفة - ربما مع استثناء مذهب الشك الذي كان ينبذه المتعلمون بالإجماع تقريبا بالرغم من ظهورها أحيانا عند رجل مثل الإمبراطور فردريك الثاني. ولا ينبغي للمرء أن تضلله مصطلحات مثل «وحدة العصور الوسطى» أو الرأي الذي يقول بأن الفرصة - منذ ارتفاع الكنيسة في الغرب إلى الذروة - لم تتح للجدل في القضايا الفلسفية الأساسية. بل إن المدرسيين - على نقيض ذلك - كانوا يتبارون على منصة الخطابة وفي الكتابة بإخلاص لا يقل عما وجد في أي عصر آخر عظيم من عصور الفلسفة الغربية. وأحد هؤلاء، أبيلارد - على سبيل المثال - كان من الاسميين المتشددين، وقد أعجب به كثيرا الوضعيون المحدثون الذين يمقتون العصور الوسطى عامة. وعلى عكس ذلك نجد أن أولئك المحدثين الذين يعشقون العصور الوسطى لوقارها المفروض ولاتجاهها نحو العالم الآخر يمقتون أبيلارد على وجه العموم. والواقع أنك تستطيع - إن عرفت استجابة أحد الأفراد إلى أبيلارد - أن تتنبأ باستجابته لكل ثقافة العصور الوسطى. ولكن أبيلارد كان كشخص - في كثير من الأمور ذلك الفيلسوف المحتج الخالد - مزهوا منازعا، موهوبا في الجدل بدرجة عجيبة، معلما اجتذب إليه أتباعا متحمسين له، ينقصه التواضع المسيحي، يميل بطبعه إلى الوقوف في وجه الاستقرار، والجمود، والاعتدال، والملل، والنجاح في هذه الدنيا. وإنك لتتوقع مثل هذا المزاج في المجتمعات الحرة؛ فهذا سقراط، أو توم بين، أو برتراند راسل، ولكنك تدهش أن تجده بكل هذا البروز في العصور الوسطى، ما لم تكن بعيدا عن الآراء الأمريكية الشائعة في هذا الصدد. وتعليل ذلك أن العصور الوسطى في الغرب كانت في أوجها مجتمعا من المجتمعات الحرة. وفي هذا المجتمع نال أبيلارد التكريم بارتفاعه إلى مكانة مرموقة، وقد أحس بالطبيعة معارضة الناس الذين هاجمهم هجوما مريرا. وعامله خصومه في الواقع معاملة سيئة، ولكنه لم يكف عن الكلام.
وفي بداية التفكير المنظم في العصور الوسطى نجد في القرن التاسع سكوتس إريجينا، وهو أحد طلائع الواقعية، مفكرا يقترب جدا من الأفلاطونية الحديثة، حتى لقد وجدته العصور المتأخرة شديد الخطورة. وفي نهاية القرن الثالث عشر نجد في دنز سكوتس مثالا آخر من مخاطر الواقعية المدرسية؛ لأن هذا الفيلسوف لم يرض البتة عن الحجج الناقصة التي يثبت بها بعضهم وجود الكمال. وقد كتب نقدا لاذعا لسابقيه، الواقعيين منهم والاسميين. وصاغ دنز سكوتس حججه الخاصة التي يثبت بها موقف الواقعية، وأصبحت مؤلفاته مثالا يضرب للمبالغة في الدقة، وأيد بعمله العيوب العامة التي لحقت بالمذهب المدرسي في نهاية العصور الوسطى. وكان وليام الأوكهامي - من ناحية أخرى - أشهر الاسميين المتطرفين. وقد وجد أن موقفه الفلسفي جعل من المستحيل عليه أن يقبل معقولية الكثير من المبادئ الأساسية للكنيسة. ومن ثم اختار أوكهام أن يعتقد في هذه المبادئ على أية حال من الأحوال - شأنه في ذلك فيما نحسب شأن الرجل الإنجليزي الطيب؛ لأنه كان كذلك - وإذا نحن لجأنا إلى لغة رسمية بدرجة فوق ذلك قلنا إنه تخلى عن المحاولة التي تميزت بها العصور الوسطى، وأقصد بها التدليل على أن حقائق المسيحية يمكن إثباتها بالعقل البشري، وارتد إلى موقف يقترب جدا من موقف أحد الآباء الأولين، الذي قال: «إني أومن «لأن» هذا مستحيل.»
وقد وقف مثل هذا الموقف منذ البداية - بطبيعة الحال - كثير من المتصوفين المتحمسين. وفي غضون الفكر الوسيط نجد كثيرا من هذه المعارضة للمعقول عند الناسك، والتائب، والرجل البدائي الخيالي. غير أن تصوف العصور الوسطى لم يكن كله من لون واحد بأية حال من الأحوال؛ فإن أكثر عظماء المتصوفين لم يكونوا في الواقع من المعارضين للمعقول بمعنى معارضة استخدام العقل استخداما عاديا باعتباره شرا أو عديم الأثر. إنما كانوا يعيشون فوق مرتبة الحساب، وكانوا من الناحية الروحانية على مستوى جعل الكثيرين منهم قديسين. ويعتبر أشهر كتاب وسيط في التقوى، وعنوانه «تقليد المسيح» الذي يعزى إلى توماس آكمبس، مثالا رائعا للتصوف الكامل، الذي يوفق ويواسي بدلا من أن يخز وينخس. وقد رأينا في الفصل السابق أن عدم الوثوق بالعقل إحدى سمات المسيحية الكامنة فيها. وليس من شك في أن انعدام الوثوق هذا ظاهر في عصر مسيحي جدا كالعصر الوسيط؛ فقد كان هناك آدم السنت فكتوري، وسنت برنارد، وسنت فرانسيس الأسيسي. وكان الدور الذي لعبه أولئك الذين عارضوا مناشدة العقل بالطريقة المدرسية طويلا متنوعا.
ولما بلغت ثقافة العصور الوسطى أوجها في القرن الثالث عشر كان هناك إذن تنوع وتلقائية في التفكير الفلسفي كذلك الذي لمسناه في العصر اليوناني العظيم. وكان هناك كذلك - مثلما كان في اليونان - اتزان، وتوسط ووسط ذهبي. وهذا الاتزان في العصور الوسطى هو المذهب المدرسي الناضج، وهو من أنجح الجهود لتخفيف التوتر بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الواقعي والمثالي. وقد رجع المدرسيون الناضجون إلى العقل، ولكنه العقل الذي يعمل طبقا لقواعد وضعها أصحاب النفوذ؛ نفوذ الكنيسة الذي يؤيده نفوذ أرسطو. ولم يكن العقل عندهم تلك القوة القلقة، الفاحصة، الساخطة، والجامحة في أساسها كما كانت في كثير من المواقف في التاريخ البشري - وربما كان فيه تاريخنا أيضا. وقد ذكرنا أبيلارد مثالا لهذا النوع من العقل الثائر تماما، بيد أن أبيلارد كان أبعد ما يكون عن المدرسي المجيد. إنما المدرسي المجيد يتصف بالتواضع الفكري الذي يبدو جبنا في نظر الثائرين في الفكر.
ومن الأمثلة الجيدة لهذه القوة المتزنة، والتي تقوم على أساس من الفكر في التفكير الرسمي في العصور الوسطى، ما نجده في بعض المذاهب الدينية، التي أخذت شكلها النهائي في هذه السنين؛ فالعشاء الرباني مثلا وضع بشكل صارم تلك المشكلة المسيحية التي لا تنتهي، مشكلة هذا العالم والعالم الآخر، وذلك في صورة الظاهر والواقع؛ فالعناصر لا يمكن أن تكون خبزا ونبيذا، ولكن لا مناص لها من أن تبدو في شكلها ومذاقها كالخبز والنبيذ. ومخرج الدار الآخرة من ذلك هو إنكار أن العناصر - بعد تقديسها - هي أي شيء بأي حال، سوى جسد المسيح ودمه. أما مخرج هذه الدنيا فهو قبول العناصر كخبز وخمر، والقول بأنها إنما ترمز للمسيح، وتجدد ذكرى المسيح عند من يتناولها. وهذا المخرج الثاني كان يبدو للكاثوليك الأرثوذكس دائما مخرجا خطرا؛ لأنه يستبعد المعجزة ويفتح لطرق العقل والإدراك العام مسالك أخرى. وبالرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية كانت دائما تجد للعقل وللإدراك العام مكانا، فإنها كانت تسعى دائما إلى أن تبقيهما في المكان الذي تراه ملائما لهما.
إن مذهب تحول الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه الذي كان من خصائص العصور الوسطى، والذي قبله رسميا مجلس لاتيري الرابع في عام 1215م (وهو أحد المجالس الخمسة العامة في الكنيسة الغربية)، اتخذ - بعد عدة قرون من الجدل بين علماء الدين - وجهة نظر سليمة تنتمي إلى العالم الآخر، ولكنه احتفظ بدقائق الإحساس العام. إن للخبز والنبيذ «مادة»، وهي كيان أساسي أو صفة أساسية، ولهما «أغراض»، وهي الصفات التي نحسها ونراها ونتذوقها، والتي تعاوننا في الظروف العادية على أن نكتسب معرفة تقريبية بمادتهما. وبمعجزة القداس يحول المسيح مادة الخبز والنبيذ إلى مادة جسد المسيح ودمه، ولكنه لا يحدث أي تغيير في الأعراض التي تبقى أعراض الخبز والنبيذ. ونحن لا نذوق إلا الأعراض، ولا نذوق المادة إطلاقا؛ ولذا فنحن بالطبيعة عند التناول إنما نذوق ما نذوقه دائما على مائدة الطعام في المنزل، ولا يحلل الكيموي إلا الأعراض، وهو لا يحلل المادة قط. ومن ثم فإن الكيموي الذي يحلل الخبز والنبيذ المقدس بغير ورع لا يجد تحولا، بيد أن التحول قائم، وهو ذلك التحول المعجز من الخبز والنبيذ إلى الجسد والدم، الذي يتجاوز حواسنا، ولكنه لا يسحقها أبدا.
وكانت مبادئ الخلاص الأولى تفتقر إلى العمق المنطقي والعاطفي، بالرغم من أنها لا تمثل من مخاطر الهرطقة الكبرى ما يمثله العشاء الرباني. كان آباء الكنيسة الأولى قد اطمأنوا إلى مذهب الفداء، الذي استرد بمقتضاه المسيح الإنسان من براثن الشيطان بما عانى على الصليب. وكانت هذه العقيدة مقبولة جدا عند عامة الناس، وشاعت إلى درجة كبيرة لعدة قرون. ولكن مثل هذا الفداء بدا للعقول المدققة أشبه بالتبادل التجاري. وذلك فوق أنه وضع الإله في مكانة لا تليق بكرامته وقدرته على كل شيء . وقد أظهر القديس أنسلم في مبدأ التكفير تفسيرا منطقيا أكثر قبولا للطريقة التي أتى بها المسيح بالخلاص، وأنسلم هذا هو أول الواقعيين الكبار في العصور الوسطى، وربما كان أشد المفكرين في ميدان العلوم الدينية ابتكارا في العصر الوسيط. قال إن خطيئة آدم ضد الإله لا يمكن محوها بأي نوع من أنواع المحاسبة التجارية، ولا يمكن قطعا محوها بأي تبادل تجاري مع الشيطان. إن الإنسان مدين لربه بالصلاح، ولكنه في حالة سقوطه لا يستطيع البتة أن يقوم بهذا الصلاح. وإنما يستطيع يسوع كإله أن يخطو الخطوة الأولى نحو سد الدين الذي سده فعلا كإنسان مكابد. كان يسوع بغير إثم، ربا وإنسانا، ومن ثم فقد كان بوسعه أن يكفر في حرية عن خطيئة آدم، أو قل إنه كان بوسعه أن يخفف بشفاعته من غضب الله مع أبنائه، وهو غضب له ما يبرره. وقد حمل يسوع النقص طائعا - وحمل الآلام التي تلازم النقص؛ لأنه كابد الآلام كإنسان - وذلك حتى يستطيع الناس أن يخطوا الخطوة الأولى نحو الكمال الإنساني، وهي الخطوة التي كانت تستحيل عليهم بغير هذا. وهذا مذهب دقيق، وهو عند كثير من أصحاب العقول الحديثة خلو من المعنى. ولكنه محاولة لإرضاء عنصر التفكير عند الإنسان - وهي محاولة خطرة عند أولئك الذين يميلون بحماسة نحو الإيمان بعالم آخر. وأقول مرة أخرى إنه من الأيسر لنا أن نردد ترتوليان ونقول إن يسوع يخلص بطريقة يجب أن تبقى دائما سحيقة لا يسبر غورها الإنسان الذي يربط بين الألفاظ في تفكيره.
غير أن هذه الطريقة لم تكن الطريقة المدرسية، ولم تكن قطعا طريقة أعظم المدرسيين، وأعني به سنت توماس أكويناس، الذي خلف لنا قدرا كبيرا من الكتابة، بالرغم من أنه مات في سن التاسعة والأربعين. وكتابه: «بحث في معارضة الأمميين»، وكتابه الآخر: «بحث في قواعد الدين»، موسوعتان للمعرفة والفلسفة في العصور الوسطى، ولكنهما موسوعتان منظمتان، كل شيء فيهما منسق طبقا لنظرة أساسية واحدة، وليستا مجرد معارف متنوعة، ضم بعضها إلى بعض، كالموسوعة الحديثة، في ترتيب أبجدي . والنظرة الأساسية هي المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية يعرضها واقعي معتدل (بمعنى هذه الكلمة في العصور الوسطى الذي استخدمناه في هذا الفصل)، منطقي مرتب لا يميل قط إلى المبالغة حتى في المنطق، باحث عظيم اتصلت حلقاته بطريقة ما بعالم الإدراك العام .
كان أكويناس يرى هذا العالم معقولا، وإن لم يكن البتة موقرا، سعيدا، ميسرا. وقد خلق الله هذه الأرض أصلا كمكان ملائم للإنسان الذي خلقه على صورته. ومن الجلي إذن ألا يتناقض مع خلقه أي نشاط بشري هام كالتفكير، ولا يمكن أن يعتبر في الواقع أي نشاط، من الواضح أنه من طبيعة الإنسان، في حد ذاته خطأ - نعم إن هناك احتمالات كثيرة يرتكب فيها الناس الأخطاء، والحياة فوق هذه الأرض نضال مستمر ضد قوى الشر الحقيقية. ولكن هنا يعطينا الله ابنه الأوحد، ويعطينا في الكنيسة التي أسسها هذا الابن فوق هذه الأرض مرشدا لا يخطئ في تنفيذ مشيئته.
وإذن فلقد بدأ أكويناس بالعقلية الثابتة في الديانة المنزلة من عند الله، وبدأ بتلك الحقائق التي ننالها مباشرة من الله. وكل تفكيرنا - إذا أديناه صوابا - طبقا لأكويناس، إنما يثبت هذه الحقائق، ويعاوننا في حياتنا اليومية التي نحياها على تطبيقها. وقد وقف المذهب المدرسي وقفة ثابتة في تلك المشكلة - المسيحية الأبدية، مشكلة الإيمان ضد العقل (وأذكر هذه العبارة: إنني أومن لأنه مستحيل). ليست هناك مشكلة؛ إذ ليست هناك معارضة بين الإيمان والعقل مفهومة فهما صحيحا. فإذا ما ضم المرء حجة إلى حجة وانتهى إلى نتيجة تناقض ما كان يعتقد فيه الكاثوليك الأرثوذكس، فهو آثم، وإثمه استخدام منطق خاطئ، ويمكن باستخدام المنطق الصحيح أن نتبين على الفور موطن خطئه. والواقع أن توماس أكويناس - كأكثر المدرسيين المتأخرين - كان يستمتع بالتلاعب بالحجج الموضوعة ضد العقائد المقبولة، ثم يقابل بين هذه الحجج وبين مجموعة أخرى من الحجج أشد براعة تتجاوز قليلا مقتضيات الإيمان البسيطة. ثم يوفق بين هذه وتلك بمهارة عقلية تذكر بقدرة الرياضي المدرب على السيطرة على التوقيت والتنسيق. وليس في هذا التشبيه ما يضلل؛ فالرياضي - كالمفكر المدرسي - يجب أن يتجنب الإفراط والتفريط، والتبكير والتأخير، ويجب أن يوجه القدر الصحيح من طاقته نحو المكان الصحيح.
والمنطق الصحيح عند أكويناس هو طريقة أرسطو بعد إحيائها وفهمها فهما تاما مرة أخرى. وقد بينا أن أرسطو نفسه كان بطبيعته رجلا يقف وسط الطريق؛ فهو لم يستطع أن يقبل العالم الآخر المثالي لأفلاطون، ولم يستطع البتة أن يقبل هذه الدنيا كما هي. وقد اتفقت مشاعر أرسطو نحو الاستهداف في الحياة البشرية اتفاقا تاما مع ميول المسيحية نحو الإصلاح. وكذلك اتفقت طريقة أرسطو في التفكير، التي تبدأ بالحقائق البينة، والتي يتفرع عنها باستمرار نمط من الفروض الواضحة المنسقة، وذلك بطريقة طبيعية للإنسان فيما يبدو، أو للإنسان في الغرب على الأقل - اتفقت هذه الطريقة اتفاقا تاما مع قبول أتباع المذهب المدرسي لحقائق الوحي وعادات التأمل عندهم. وقد عرفتم أن هذه الطريقة في التفكير يشار إليها بالاستنباط، ويكاد يكون من المؤكد أنكم قد انسقتم إلى موازنتها بطريقة أخرى للتفكير، نالت التقدير بانتصار العلم الحديث، وعرفت بالاستقراء، وحكمتم بفضل الطريقة الثانية على الطريقة الأولى. والواقع أن هذه المباينة بالغة التبسيط - إن لم تكن خاطئة - وسوف نعود إليها عندما نتحدث عن شخصية فرانسيس بيكون العظمى.
أما الآن فيكفينا أن نذكر أنك أذا طبقت طريقة الاستنباط هذه من نقطة بداية ثم سرت بضع خطوات في صف واحد دون الرجوع إلى الوقائع (أو التجربة الحسية) فالراجح أنك سوف تصل إلى نتيجة لا تطابق الوقائع. غير أن هذا لا يتحتم بالضرورة أن يكون هداما إلا إذا كنت من ذلك الضرب من الناس الذي نعرفه بالعالم التجريبي، أو إلا إذا كنت تحاول - كالطبيب الباطني أو ميكانيكي السيارات - أن تؤدي عملك على أساس التفكير العام كما يفعل العالم. وقد تريد - مثلا - كما يريد المدرسيون، أن تبحث عن أنماط من السلوك تشجع رغبتك في العيش حياة طيبة. وقد تحب أن تجد شيئا أفضل من الوقائع. وقد تحب أن ترى إلى أين يؤدي بك عقلك كما يفعل الرياضي. وفي كل ذلك وفي أغراض كثيرة أخرى يخدمك الاستنباط خدمة كبرى، وبخاصة إذا رجعت من تفكيرك - كما يفعل المدرسيون - بين الحين والحين على الأقل إلى حقائق السلوك البشري.
ومن المؤكد أن أكويناس كان يستند إلى قاعدة لم يبتعد عنها قط كثيرا، حتى في جدله الذي بلغ غاية الدقة و«المدرسية». وتلك القاعدة هي مجموعة حقائق الديانة المسيحية الملهمة، يكملها الإدراك العام والتجربة في كثير من نواحي العلاقات البشرية، ويفسرها عقل معتدل في طبيعته، يميل إلى التوفيق، ويستطيع الوصول الكامل إلى الآباء، وإلى الرجال المدرسيين الأوائل، وأرسطو خاصة، الذي كثيرا ما يشار إليه في «البحث» بمجرد الفيلسوف.
وإليك مثالا من طريقة أكويناس وعقله. وهو جزء من «البحث في أصول الدين» قليل الأهمية نسبيا، ولكن من اليسير لنا أن نتابعه، كما أنه يبين في وضوح أشد مما تبين الأجزاء الأعظم، كالجزء الخاص بحرية الإرادة، كيف كان أكويناس قريبا جدا من الإدراك العام. في هذا الجزء يناقش الشروط الخاصة ل «حالة الإنسان الأولى»، حالة البراءة قبل «السقوط». وهنا يلقي سؤالا - وهو سؤال تقليدي في الأدب، بالرغم من غرابته في نظر المحدثين - وهو: كيف كان الأطفال في حالة البراءة؟ بل نراه يلقي السؤال في صيغة أخص، فيقول: هل ولدوا بقوة بدنية كاملة تمكنهم من استخدام أعضائهم استخداما كاملا عند الميلاد، أم هل كانوا كأطفال اليوم، كائنات متحركة عاجزة عند ميلادها؟ قد يتصور المرء أن أية صورة من صور العجز - في جنات عدن - تحط من قدر الكمال، وما دام الله قد جعل الحياة البشرية شديدة الاختلاف عما صارت إليه فيما بعد، فلماذا لم يخلق الطفل البشري قويا كاملا منذ البداية، بل ولماذا لم يشأ أن يولد الرجال والنساء بالغين؟ والواقع أن فكرة الكمال المطلق في العالم الآخر تميل إلى أن تبعد جنات عدن عن صفات الأرض بقدر المستطاع، ولم يكن كذلك أكويناس؛ فقد كانت حتى عدن عنده «طبيعية» بقدر ما يستطيع تصويرها. «بالإيمان وحده ندرك الحقائق التي تعلو على الطبيعة. وما نعتقد فيه يستند إلى الرواية، ومن ثم فلا بد لنا عند افتراض أمر من الأمور من الاسترشاد بطبيعة الأشياء، إلا فيما يتعلق بتلك الأشياء التي تعلو على الطبيعة، والتي تصل إلى علمنا بالإرادة السماوية، وواضح أنه من الطبيعي ومن الملائم لمبادئ الطبيعة البشرية ألا تكون لدى الأطفال قوة تكفي لاستخدام أعضائهم بعد الميلاد مباشرة؛ وذلك لأن الإنسان بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى له بالطبيعة ذهن أكبر. وعلى ذلك فمن الطبيعي بالنسبة إلى ليونة الذهن الشديدة عند الأطفال ألا تكون الأعصاب - وهي أدوات الحركة - معدة لتحريك الأعضاء. ثم إن الكاثوليك - من ناحية أخرى - لا يشك في أن الطفل يمكنه بقوة السماء أن يستخدم أعضاءه بعد الميلاد مباشرة.»
وطبقا لما جاء في الكتاب المقدس (في سفر الجامعة، الإصحاح السابع، العدد 30) «صنع الله الإنسان مستقيما.» وهذه الاستقامة - كما يقول أوغسطين - تنحصر في خضوع الجسد للروح خضوعا تاما. ولذلك فكما كان من المستحيل في الحالة البدائية أن نجد في الأعضاء البشرية أي شيء تنفر منه إرادة الإنسان المنظمة، فكذلك كان من المستحيل على تلك الأعضاء أن تعجز عن تنفيذ توجيهات الإرادة. وإرادة الإنسان تكون منظمة حينما تميل إلى الأعمال التي تلائم الإنسان. غير أن الأعمال عينها لا تلائم الإنسان في كل مرحلة من مراحل الحياة. ومن ثم وجب علينا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي أن الأطفال لا يصح أن تكون لديهم القوة التي تكفي استخدام أعضائهم بقصد أداء كل ضرب من ضروب العمل، فيما خلا تلك الأعمال التي تلائم حالة الطفولة، كالرضاعة وما إليها.
وفي هذه الفقرة التافهة في ظاهرها نجد الكثير مما يمثل التوماسية - كالسيادة الواضحة التي تعطى ل «الحقائق التي تعلو على الطبيعة»، التي نتمسك بها بالإيمان ونصل إليها بالنص السماوي، وقبول القدرة السماوية الكاملة قبولا تاما، والاعتقاد في أن الله عموما يؤثر أن يجعل الطبيعة تسير في مجراها، وأن هناك «لياقة» في أعمال البشر تتفق وقوانين الطبيعة التي تمكن ملاحظتها، وأن قوانين الطبيعة هذه هادفة في أساسها من حيث حدود الحياة البشرية، ثم أخيرا الرجوع إلى النص، وهو في هذه الحالة نص العهد القديم وأوغسطين.
ومن المؤكد أن قراءة أكويناس تشق على الأمريكي العادي في القرن العشرين، وإن تكن ليست أشق من كانت، أو من أرسطو نفسه. ويرجع جانب من المشقة إذن إلى أن أكويناس فيلسوف محترف له قدرة فنية فائقة، ولديه اهتمام الرجل الفني في الدقة والتحديد، مما لا يتوافر عند الهواة. والواقع أنه في «البحث في أصول الدين» خاصة قد كتب بأبسط ما يستطيع؛ لأنه وجه الخطاب إلى الطلاب الجادين، ولم يوجهه إلى زملائه الأساتذة وحدهم. وليس من شك في أن جانبا من المشقة التي يلاقيها رجل حديث غير مؤهل في قراءة أكويناس تنحصر في الفروض شديدة الاختلاف التي كان يفترضها الفيلسوف في العصر الوسيط، كما تنحصر في غرابة الجو الفكري (بالنسبة إلينا) في العصور الوسطى. وسوف نعود إلى هذه الغرابة فيما بعد في محاولة للتعبير عن «روح العصر» في العصور الوسطى.
ومن البين بالرغم من هذه المشاق أن أكويناس ينتمي إلى أصحاب النظم الفلسفية العظام في الفكر الغربي. ونظامه نظام جميل البناء، استحق الثناء لهذه الميزة فيه، حتى من الوضعيين والماديين المحدثين - وإن يكن مشوبا بشيء من الحقد - وهم أولئك الذين يخالفون كل ما يعتقد في صحته المذهب المدرسي تقريبا. وهو نظام يضع - في جملته - الإنسان موضعا مريحا، وإن لم يكن مريحا بدرجة زائدة في عالم يمكن للعقل البشري أن يدركه، في عالم لا تستطيع الإرادة البشرية حقا أن تحوره كل التحوير، ولكنها تستطيع أن تتلاءم معه، عالم أكويناس عالم مسيحي، ينتمي إليه الإنسان، ويطمئن إليه. ونظام أكويناس أخيرا نظام متزن بدرجة مذهلة، يقف موقفا وسطا في كل مشكلات الفلسفة الكبرى، ويقف هذا الموقف في يسر المهارة الفائقة. وهنا نضع مرة أخرى صورة الرياضي، ونذكر ذلك الذي يمشي على الحبل المشدود. ولكن أكويناس لم يكن قط متظاهرا، ولا يبدو قط كأنه يجاهد في سبيل بلوغ هذا الطريق الوسط، هذا الطريق الوسط - إذا استخدمنا لفظة محببة إليه لفظة لم تزعجه كما تزعج عصرنا هذا الذي يهتم بتحليل معاني الألفاظ . جزء من «طبيعة» الإنسان.
إن ما أداه أكويناس من أعمال لا بد بالضرورة أن يبدو مملا لكثير من أصحاب النفوس المتحمسة، المتطلعة، أو الساخطة إن لم تكن هذا أو ذاك. لم يكن أكويناس صليبيا - وهو شبيه ببيرك - يريد الإصلاح لكي يحافظ على التقاليد. وهو لا يضحك، ولا يخاطر بالاستخفاف. وقد كانت الفلسفة وأصول الدين بالطبع في عهده موضوعات ذات طابع جدي رفيع. ولكن أكويناس لم تكن لديه أية لمسة من لمسات السخرية. وقد ذكرنا أن جنات عدن عند أكويناس طبيعية بقدر ما استطاع تصويرها وربما لم تكن لديه صورة عاطفية عن جنة عدن. وقد كان لديه قدر كبير من الإدراك العام. ولكن لا تحسبوا أنه يستخدم هذا الإدراك العام لكي يطهر، أو يصحح، أو يخفف العبء الضخم من عدم الإدراك العام الذي تحمله المسيحية، بل الذي يحمله الجنس البشري كله. إن أكويناس الذي يبدو لمؤلف هذا الكتاب قليل التصوف حقا، كان - برغم هذا - يأخذ الميراث المحسوس من التصوف المسيحي، أو النظرة المسيحية إلى العالم الآخر، في يسر يدعو إلى العجب، وبغير كفاح، على أنه جزء مما قدر له. كان يسالم هذا التصوف، أو قل إنه كان يروضه. ولم يكن أكويناس فيلسوفا للمسيحي الذي يود لو أن السماء انفطرت. وإنما كان فيلسوفا يدعو إلى العجب للمسيحي الذي يسعى إلى هدوء النفس، وكان فيلسوفا مزعجا للطمأنينة النفسية التي قد يحسها غير المسيحي.
نظريات العصور الوسطى في العلاقات الإنسانية
حاولنا أن نبين كيف أن فلاسفة العصور الوسطى ورجال العلم فيها بنوا على المواد التي تركها لهم آباء الكنيسة، وعلى جانب كبير من التقاليد الكلاسيكية، حتى وصلوا إلى الفلسفة الشكلية التي نسميها المذهب المدرسي. وقد رأينا أن التفكير الرسمي في العصور الوسطى يشمل مجالا يكاد يبلغ في اتساعه ما يشمله الفكر الكلاسيكي. وقد وجدنا أن النظام الذي يتسنم الذروة في المذهب المدرسي هو اعتدال أكويناس الشامل، الجامع مع هنا وهناك لكل شيء تقريبا، الذي يقوم على الإدراك العام. وقد كانت حلول العصور الوسطى للمشكلات الكبرى مختلفة جد الاختلاف عن حلول الإغريق. أما طرق التفكير في العصور الوسطى فلم تبلغ هذه الدرجة من الاختلاف. وهذا من الأسباب التي مكنت الرجال المدرسيين من الإفادة من أرسطو مباشرة. أما في المشكلات الأخف - والتي يمكن أن تعد أيضا من المشكلات الكبرى في سلوك البشر وفي التنظيم السياسي، فقد كانت حلول العصور الوسطى كذلك جديدة. ولا مفر من أن تبدو الآراء المسيحية في الخير والشر، كما تبدو ظروف الحياة الوسيطة الملموسة - في مجال الأخلاق والسياسة - أشد وضوحا منها في مجالات علوم الدين والفلسفة الأشد تجريدا. ومن العسير - فوق كل شيء أن نتجاهل في مشكلات العلاقات الإنسانية تلك المشكلة الملحة، مشكلة العلاقة بين النظرية والتطبيق، وهي العلاقة التي يمكن دائما أن ينبذها الميتافيزيقيون الواثقون في الميتافيزيقية وثوقا كافيا باعتبارها لا تدخل في الموضوع أو باعتبارها علاقة لا توقير فيها.
وقد يقال أحيانا إن الفجوة بين المثل وتطبيقها في العلاقات البشرية تبلغ أقصى مداها - بالنسبة إلى الرجل الغربي - في العصور الوسطى. إن مشكلة العلاقة بين النمط النموذجي والواقع في المجتمع مشكلة دائمة في تقاليدنا. وليس من شك في أن أفلاطون كان مدركا لها كل الإدراك. ولا يمكن أن تكون هذه الفجوة مما يمكن قياسه على خط بياني، كالفارق بين الهدف من جمع الأموال لمشروع خيري وبين ما جمع فعلا من معونات. وإني أتصور أننا إذا استطعنا أن نقيس في المجتمعات الغربية المختلفة الفجوة بين المثل والواقع لوجدناها واحدة في كل حالة من الحالات. أما أولئك الذين يعتقدون أن هذه الفجوة كانت أعمق في العصور الوسطى فيقدمون الدلائل الآتية: كانت العصور الوسطى - في المثل - تمد الناس على هذه الأرض بحياة منظمة مرتبة ترتيبا حسنا؛ فالكنيسة ترعى نفوس البشر، والنبلاء الإقطاعيون يحتفظون بالنظام المدني، والفلاحون وأرباب الحرف يؤدون أعمالا نافعة، باطراد وبغير حقد. وهناك مجموعة من الحقوق والواجبات منسقة تنسيقا جميلا وتربط بين كل فرد وآخر، من راعي الخنازير إلى الإمبراطور والبابا. كل رجل يعرف مكانته، آمن فيها، سعيد بها؛ فلقد كان هذا مجتمعا «مستقرا» بدلا من المنافسات الجنونية والشكوك التي نلمسها في المجتمع الحديث، ولكنه مجتمع وضعت فيه الفكرة المسيحية عن مساواة جميع الناس أمام الله أرضا صلبة - إن جاز هذا التعبير - تحت قدمي أكثر الناس تواضعا وفقرا. كان مجتمعا - في عبارة موجزة - من الأفراد المتحررين خلقيا، مجتمعا منظما، مقسما إلى طبقات واضحة.
أما من الناحية العملية - ويسرد في ذلك خصوم العصور الوسطى تفصيلات مرعبة - فقد كان هناك - حتى في القرن الثالث عشر، وهو أعظم القرون، وحتى في وسط إنجازات العصور الوسطى شمالي أوروبا (فرنسا الحديثة، وإنجلترا والأراضي المنخفضة، وبلاد الراين) - حروب عصابات دائمة بين النبلاء الإقطاعيين. وكان هناك فساد، وتراخ، واهتمام بشئون الدنيا، تجده حتى عند رجال الدين، وفقر بين الجماهير الضخمة، وأمراض متوطنة، ومجاعات متكررة، وانفجارات في حروب طبقية - كان هناك في إيجاز، وعلى أحسن الفروض - سوء السلوك والبؤس المألوف الذي يجده المرء في الجنس البشري، بل ربما كان أسوأ من المعتاد في بعض النواحي.
إن الفجوة بين المثالي والواقعي موجودة في جميع المجتمعات. ولسنا في حاجة إلى أن نذكر الفجوة بين النظرية الديمقراطية الأمريكية وتطبيقها. وما ذكرنا آنفا مبالغة في الكمال البريء الذي يدل عليه «ما ينبغي أن يكون» في العصور الوسطى، كما أنه مبالغة أيضا (ربما بدرجة أشد) في انحطاط «ما هو كائن» في العصور الوسطى. ولكنا يجب مرة أخرى أن نؤكد أن في الفكرة الشائعة عن وجود فجوة ملحوظة بين النظرية والواقع في العصور الوسطى، بين النوايا الطيبة عند الأخلاقيين في العهد الوسيط، وما يسميه رجل معجب بهذه الصور أيما إعجاب، مثل هنري أزبورن تيلور «الواقع الملطخ»، أقول إن في وجود هذه الفجوة شيئا من الحق.
وقد يرجع اتساع الفجوة، إلى حد ما، إلى أن الطبقة المثقفة في العصور المظلمة وفي أوائل العصور الوسطى كانت أبعد عن معاملات الحياة اليومية منها في أي مجتمع غربي آخر، وربما مال قادة الفكر في المجتمع النامي الجديد إلى تأكيد أهمية الترتيب، وأهمية النظم الثابتة التي تربط كل فرد بدور معين في المجتمع، ربما مالوا إلى ذلك عندما واجهتهم الفوضى، وانهيار السلطة المركزية، والعودة الجزئية إلى بربرية العصور المظلمة. ومهما يكن من أمر فإنه مما يذهلنا اتجاه المثل الخلقية والسياسية عند أكثر مفكري العصور الوسطى نحو مجتمع مستقر. غير أن مجتمع العصور الوسطى منذ القرن الحادي عشر كان في الواقع مجتمعا متطورا، يزداد في عدد السكان، والثروة، والسيطرة الفنية على الموارد، وهو لذلك يخضع لحكم الظروف وضغطها، وهو ما كانت النظريات الاجتماعية في ذلك العهد تميل إلى إنكار وجوده. ودعنا الآن - دون أن نحاول أن نحشو ميدان البحث بأسماء الكتاب - نختار ناحية واحدة من الميدان ملموسة مما يتميز به، ونحاول أن نجعل المشكلة واقعية.
ومن المفارقات الشائعة بين النظرية الاجتماعية وتطبيقها ذلك الفارق الذي يفصل مجتمعا تتجمد فيه الطبقات ومجتمعا يستطيع الفرد فيه أن يتحرك حركة كاملة من طبقة إلى أخرى. في الطرف الأول يولد المرء في مكان معين من المجتمع - من حيث الوظيفة، والدخل، والدور الاجتماعي، ومجموعة الآراء - يبقى فيه طوال حياته. ويبدو المجتمع المثالي الأفلاطوني لبعض المفسرين قريبا جدا من هذا الطرف، كما أن النمل والنحل بطبيعة الحال تحيا فعلا في مجتمع كهذا، وفي الطرف الآخر مجتمع نجد فيه جميع الأعضاء متحررين بعضهم عن بعض قدر المستطاع، وكل فرد فيه يؤدي ما يبدو له مستحبا في أي وقت من الأوقات، لا يرتبط فيه أحد بوظيفة، أو أسرة، أو وضع اجتماعي، أو بمكانة معينة بإيجاز. ومن الطبيعي أنه لم يوجد مثل هذا المجتمع الأخير في أي عصر من العصور، ولكنا نستطيع أن نقول إن كثيرا من الأمريكان يحسبون أن مجتمعنا يتألف من أفراد أحرار، متساوين، متنقلين. ونستطيع فوق ذلك أن نقول إن مجتمعنا في الواقع - إذا قورن بالمجتمعات البشرية التي ولى عهدها في الماضي - أقرب من أكثرها إلى الطرف الذي يقع فيه إمكان التنقل الاجتماعي للأفراد. ومن الأقوال الشائعة: «ثلاثة أجيال تنقلك من طبقة إلى طبقة.» وهذا القول مثل محسوس لهذا الوضع.
إن مثل هذا القول لم يكن ليحمل أي معنى لرجال العصور الوسطى ولكنه في الفترة الأخيرة من هذه العصور لم يكن البتة بعيدا جدا عن الواقع؛ فقد شهد القرن الخامس عشر خاصة كثيرا من النبلاء الإقطاعيين الذين لحقهم الفقر، وكثيرا من التجار الأغنياء المحدثين والمقربين إلى البلاط . المجتمع نظريا عند المدرسيين، بل وعند المفكرين الذين تأثروا بالقانون أكثر مما تأثروا بأصول الدين، كل مرتب، أو كائن عضوي، الأفراد فيه أجزاء أو أعضاء. ولدينا في «بوليكراتيكس» الذي ظهر في القرن العشرين للراهب الإنجليزي جون سولزبري عرض كامل لما أطلق عليه فيما بعد «النظرية العضوية» للمجتمع. والأمير - طبقا لسولزبري - هو الرأس في جسم الأمة، ومجلس الشيوخ (الهيئة التشريعية) قلبها، والقضاة وحكام الأقاليم عيونها، وآذانها، ولسانها، والموظفون والجند أياديها، والموظفون الماليون معدتها وأمعاؤها، والمزارعون «يقابلون الأقدام، التي تلتصق بالأرض دائما». وهذا التشبيه، أو إذا حسبت أنه يستحق اسما أسمى من ذلك فقل هذه النظرية العضوية للدولة أو المجتمع، تلقى استحسانا شديدا عند أولئك الذين يقاومون التغيير؛ لأنه من الواضح أن القدم لا تحاول أن تمسي ذهنا، كما أن اليد لا تغار من العين. والجسم في أحسن حالاته - وأجزاؤه في أحسن حالاتها - حينما يؤدي كل عضو ما أرادت له الطبيعة أن تؤديه.
إن العامل في الحقل، والحداد، والتاجر، والمحامي، والقسيس، والملك نفسه - كل من هؤلاء وكل إليه جزء من عمل الله على الأرض. والفكر الوسيط يصر على كرامة كل حرفة وقيمتها، حتى أقلها شأنا. ويستطيع أقل الناس شأنا فوق هذه الأرض - بطبيعة الحال - أن يأمل في «سعادة كاملة» أبدية كأي ملك من الملوك في العالم الآخر. وإنك لن تجد احتقارا - أو على الأقل لا مبالاة - لطبقة العمال كما تجد عند أفلاطون الذي يسميهم «معدة المجتمع». ولم تكن النظرية السياسية في العصور الوسطى - فوق ذلك - مطلقة بأية حال من الأحوال. وبوسع المرء أن يفترض أنه في مجتمع منظم - كما يبدو في هذه المجموعة من الآراء - لن تكون هناك وسيلة ما لمقاومة ما يقوم به إنسان أعلى. ومن المؤكد أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا ديمقراطيين بمعنى أنهم يعتقدون بأن للناس حق إبعاد حكامهم. ولو نمى إلى هؤلاء المفكرين قول جيفرسون المشهور بأنه ينبغي أن تهب الثورة كل تسعة عشر عاما أو ما يقرب من ذلك لصعق أكثرهم، بل ولما كان هذا القول مفهوما لديهم، ولكنهم لم يعتقدوا - كما كان يحتم عليهم المنطق - بأن الاحتفاظ ب «الحالة كما هي» أمر واجب، ما دام الله قد فرض السلطة والكرامة كما هما الآن في هذه الدنيا.
ولكنهم سرعان ما وجدوا لهم مخرجا من هذه الورطة. قالوا إن الله قد خلق الناس درجات في هذه الدنيا، وجعل العلاقة بين الأعلى والأدنى ركنا من أركان عمله فوق الأرض. ومن المصطلحات التي تميزت بها العصور الوسطى التي تعبر عن هذه العلاقة استعمالهم لفظة «الدومنيوم» أو «السلطان»، وأول من استخدمها بهذا المعنى في أوائل القرن الرابع عشر أجديوس رومانوس، أحد المبررين لسلطة البابا؛ إذا كان وضع المرء فوق غيره فله عليه «سلطان»، وعلى غيره أداء الخدمات. ولكن المرء قد يسيء استخدام «سلطانه»، وقد يعامل غيره كأنه مجرد حيوان وليس نفسا خالدة. وفي هذه الحالة فإن المرء لا يمارس «السلطان»، وإنما مجرد «التملك». «السلطان» هو العلاقة الإنسانية الصحيحة الكريمة، و«التملك» هو العلاقة الإنسانية الخاطئة التي لا تحتمل. وللمرء أن يمتلك شيئا، وليس له أن يمتلك شخصا. وعليك أن تقبل «سلطاني»، ولكن عليك أن ترفض «تملكي» إذا كانت ممارسته تثير حسك الخلقي. ولا ينبغي أن يعامل إنسان إنسانا كشيء أو أداة. ويقول جون سولزبري: إن الأمير نفسه إذا أساء السلطة التي أعطاها إياه الله حق عليه القتل كحاكم ظالم، ولن يكون قاتله إلا أداة الله وليس في الواقع كائنا بشريا مسئولا يرتكب جريمة القتل. ومذهب جون هذا مثال طيب ملموس يوضح كيف كان مفكرو العصور الوسطى يختلفون، ولم تكن بينهم في الواقع تلك الوحدة التي تعتبر أحيانا من صفات العصور الوسطى. ولم يكن مذهبه في قتل الظالم يتفق مع الأرثوذكسية.
وفي هذا المجتمع الطبقي حيث يكون لكل فرد مكانه الذي يستحق ، كان كل امرئ يتناول - نظريا على الأقل - حقه الاقتصادي العادل. وقد أعجب المفكرون المحدثون كثيرا بهذه الآراء الاقتصادية الوسيطة ليعارضوا بها حياة العمل في عصرنا التي يرون فيها منافسة مستنكرة. كان العمل عند أصحاب النظريات في العصور الوسطى شرفا كله، وهو جزء مما قدر الله للإنسان، ولم يكن العمل طريقا يرتقي به العامل في السلم الاجتماعي. وأهم من هذا أن المرء لم يعمل لكي «يكسب المال» بالمعنى الحديث؛ لأن اكتساب المال بهذا المعنى لا يتحقق إلا بخداع شخص آخر، أو بأن يأخذ المرء أكثر من نصيبه العادل. فإن العمل، ولنفرض أنه حذاء من صنع صانع ماهر، لم ينظر إليه كسلعة في السوق الحرة، تطلب ما يدفعه فيها الشاري، وتباع بثمن مرتفع إذا قلت الأحذية وقت المبيع، وبثمن بخس - بل وبالخسارة - إذا كانت هناك وفرة من الأحذية. إنما الحذاء يستحق ثمنا محددا، هو «ثمنه العادل». وهذا الثمن العادل يشتمل على تكاليف المادة الخام، وعلى المبلغ المطلوب للعامل لكي يحفظ أوده على مستوى الحياة التي ألفها، وذلك خلال الفترة التي يقضيها في صنع الحذاء (أعني قيمة العمل)، ويضاف إلى ذلك قدر ضئيل من المال لا يعد ربحا بمقدار ما يعد أجرا للبائع على إدارته.
ولضمان هذه العدالة الاقتصادية وضع المجتمع الوسيط - وبخاصة في القرون المتأخرة - نظاما دقيقا لما نسميه اليوم بالرقابة. وكان التجار والصناع على السواء ينتظمون في روابط مهنية تسمى النقابات. وهذه النقابات هي التي تحدد الأسعار والمستويات وتهيمن على التحاق العمال الجدد وأصحاب الأعمال في كل حرفة من الحرف، ولكنها لم تحدد بالضبط القدر الذي تنتجه كل شركة من شركات الحرفة، ولم «تخطط» الإنتاج بالمعنى الحديث لهذه الكلمة. ومن الواضح أن الشركة (وهي صاحب العمل والعمال) في مجتمع ثابت تؤدي من العمل ذلك القدر الذي كانت تؤديه منذ القدم. وتتحكم العادة في المقدار الذي تنتجه. أما عن التخطيط فذلك قد قام به الله نفسه منذ زمن بعيد. وكذلك كانت العادة تحل محل التخطيط في مجتمع العصور الوسطى. وقد كانت قوانين الحكومات المحلية تعزز هذه الرقابات.
وأخيرا أقول إن المجتمع الوسيط لم تكن به من الوجهة النظرية رأسمالية للتمويل، لم يكن به مدد من المال السائل أو الرصيد يستطيع أن يسحب منه المرء إن أراد أن يتوسع في عمله. وكانت نظريات العصور الوسطى - وهنا نجد أكويناس مصدرا واضحا جيدا بصفة خاصة - تعتبر قبول الربح على السلف المالية بمثابة الحصول على شيء نظير لا شيء، وهو استغلال الدائن لحاجات المدين العاجلة؛ فإن أنا أدنتك مبلغا من المال مدة اثني عشر شهرا، ثم استرددته كما هو، فأنا لم أربح ولم أخسره، وإن أنا استرددت أكثر مما أدنت فإنني أحصل على دخل غير مكتسب. نعم إن المدين إذا لم يدفع خلال الفترة المتفق عليها فمن حقي أن أطالب بنوع من التعويض؛ لأن ذلك قد يخل بمشروعاتي. غير أن هذا الإجراء وما يشبهه لا يوازي الاعتراف بمشروعية الربح. والواقع أن ما نسميه الربح في العصور الوسطى كان يعد من الربا. وما كان يرفضه الناس في العصور الوسطى - وهذا الرفض طبيعي جدا في مجتمع مستقر يسوده حكم مطلق - هو أن المال الذي يستدينه صاحب مشروع يمكن أن يستثمر استثمارا منتجا بحيث يوجد في نهاية فترة التسليف مزيد من السلع الاقتصادية يفوق ما كان موجودا في بدايتها. ولكن حتى عندما بدأت مثل هذه السلع الاقتصادية المتزايدة في التدفق، وحتى عندما صار الاقتصاد في أواخر القرون الوسطى ديناميكيا (متحركا)، فإن المفكرين في تلك العصور لم يستطيعوا إدراك هذا التحول، ومن المؤكد أنهم لم يروه. وسوف نعود إلى هذه التفرقة بين الديناميكي والاستاتيكي (أو الثابت والمتحرك)، وهي تفرقة لها أهمية قصوى في فهم نظرة العصور الوسطى التي تباين نظرة العصر الحديث.
وإليكم مثالا أخيرا. وقد بينا من قبل أن الفكرة الحديثة، فكرة سن القوانين، ووضع الدساتير التي تغير من النظم القضائية القائمة، لم تكن موجودة في أكثر المجتمعات القديمة الساذجة. والواقع أن التعبير ب «النظم» الذي استخدمناه الآن بالغريزة ربما كان لا يلائم مثل هذه المجتمعات البتة إذا نحن طبقناه على شيء له ما للقانون من توقير وتقديس. والقانون في ذهن الرجل في العصور الوسطى - بل في ذهن رجال القانون أنفسهم - يوجد ولا يوضع؛ فالقانون بالنسبة إلى الأغراض العامة اليومية هو ما نسميه العرف، وطريقة معرفة العرف هي البحث بين الناس المستقرين في بيئة معينة من أصحاب التجارب، ثم معرفة ما تم عمله في ناحية من النواحي من قديم الزمن. والعادات (أو العرف) قد تتضارب في حالة ما، ولكن البحث الصحيح بين الأفراد المعنيين يعزز الدليل الذي يرجح رأيا دون رأي في هذه الحالة.
وفي الحق كان هناك شيء وراء العرف، وراء القانون بمعنى ما ألف الناس أداءه؛ ذلك أن الفكر الوسيط في أوجه كان يعزز فكرة «قانون الطبيعة» الذي عرفنا أنه صادر من العالم الإغريقي الروماني، وهي فكرة لم تختف كلية حتى في العصور المظلمة. وقانون الطبيعة عند المفكر في العصور الوسطى كان يشبه كلمة الله مترجمة إلى عبارات يمكن للرجل العادي فوق هذه الأرض أن يستخدمها. كان هذا القانون هو المعيار، والمثل الأعلى، وما «ينبغي أن يكون» الذي يمكن لأصحاب الإرادة الذين يصيبون التفكير أن يروه. ولما كان رجال من أمثال أجديوس رومانوس والثائر الإنجليزي المشهور وايكليف يميزون كما بينا بين «السلطان» و«الملكية» فإنهم يضعون وراء السلطان القوة الكاملة لقانون الطبيعة، و«الملكية» إذا كانت تشمل الأشخاص حتى تكون ضد قانون الطبيعة.
وقانون الطبيعة هذا ليس قانونا طبيعيا كما يفسره أكثر العلماء المحدثين. والواقع أن العالم الذي يألف الاختبارات العملية لبيان صحة الفوارق عنده، قد يرى هذه الفوارق التقليدية الخلقية غامضة، ذاتية إلى حد كبير، وعرضة دائما للخلاف وسوء التفاهم. إن الترمومتر - بل والإدراك العام - يهدينا إلى تجمد الماء. ولكن أين الآلة، وأين القدرة البشرية، التي تهدينا بوضوح متى يصبح «السلطان» «ملكية»؟ وإذا زعم زاعم أن «السلطان» عند فرد ما هو «الملكية» عند الآخر، أو أن «السلطان» ليس إلا لفظة جميلة تصف نفس الظاهرة التي تصفها «الملكية» وصفا غير مستحب، إذا زعم هذا لنا زاعم، فبماذا نجيبه؟ إن أمثال هذه الصعوبات التي نصادفها من جراء عدم الدقة الظاهر وحالة التغير في الأحكام الخلقية كانت شائعة شيوعا كافيا بين الأثينيين في أيام سقراط، وهي كذلك شائعة بيننا اليوم، ولكن هذه الصعوبات لم تزعج المفكر في العصور الوسطى، حتى إن كان «جامد الفكر» كما حاول أبيلارد أن يكون.
ذلك لأن المفكر في العصور الوسطى يجيبك بأن الترمومتر - بل وإدراكك العام - لا يمكن أن يبت إلا في مسائل محدودة من الواقع المادي. أما إذا استخدمنا قدراتنا البشرية كاملة كما أراد لنا الله استطعنا أن نجيب بوثوق أشد عن المشكلات الكبرى، مشكلات الحق والباطل. إن مصادر المجتمع البشري كلها مطلوبة: كلمة الله كما تتبين في الكنيسة المسيحية، والحكمة التي ورثناها عن الأسلاف، والمهارات والمعارف التي اكتسبها كل منا في حياته، والإدراك العام للمجتمع، مع زيادة الاعتماد على أولئك الذين تؤهلهم مراكزهم تأهيلا خاصا. إننا في حاجة إلى كل ذلك لكي نتمكن من إصدار قرارات إن لم تكن كاملة فهي عادلة عملية. والشيطان يفعل فعله دائما فوق هذه الأرض، ويمكن أن يلحق الإغراء أفضل الناس. والعادة أننا إذا أخطأنا كأفراد أو جماعات فإن الخطأ لا يكون في نقص المعرفة إنما يكون في نقص الإرادة. والفكر الوسيط يصر - على وجه العموم - أن المرء لا يتصرف بالضرورة تصرفا صحيحا، حتى إن جاز أن يعطيك اختبارك بالإدراك العام، أو تعطيك أداتك، الجواب الصحيح. وليست هناك أداة (أي ليست هناك معرفة علمية) تستطيع أن تحمي المرء مما يسميه الناس في العصور الوسطى - في التقليد المسيحي - ذنبا. ولا يحمينا من الذنب إلا قبولنا شفاعة المسيح المعجزة، وانتماء المرء بالمعنى الاجتماعي الكامل إلى الكنيسة المسيحية. إن العضو في هذه الكنيسة يعرف عن طريق عضويته الفارق بين الحق والباطل، وبين الطبيعي وغير الطبيعي.
ووراء هذه الأمثلة المحسوسة الثلاثة من موقف العصور الوسطى إزاء الإنسان في المجتمع - وأعني بها فكرة الطبقية في المجتمع الذي يؤدي فيه كل فرد الدور الذي أرسله الله لأدائه، وفكرة الثمن العادل والنظام الاقتصادي الذي لا يتوقف على تلاعب العرض والطلب، وفكرة القانون الطبيعي الذي يدرك بالعقل الطبيعي، والذي ينظم ويفسر العلاقات الإنسانية فوق الأرض - وراء هذه الأفكار كلها فكرة العصور الوسطى عن هذا العالم، هذا العالم «الواقعي»، الذي ترى أنه عالم لا يتغير ، أو إذا عبرنا عن ذلك تعبيرا سلبيا، قلنا إن هذه الآراء تتفق وفكرة العصور الوسطى التي ترى التغير عرضا، عشوائيا، وليس ما نسميه تقدما مطردا.
ومن الحق الظاهر أن نقول إن أكثر الأمريكان يعتقدون في صورة من صور التقدم، وإنه ليس في العصور الوسطى من كان يعتقد، أو يمكن أن يعتقد في التقدم بمثل هذا المعنى. وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - أننا نختلف وإياهم كل الاختلاف في النظر إلى أي لون من ألوان التغير فيما يمس الحياة اليومية؛ فلقد كان العاشق في العصور الوسطى الذي تتخلى عنه معشوقته يحس إحساس العاشق في العصر الحديث الذي تهجره معشوقته. وكان العمال في العصور الوسطى - كما سوف نرى - يحسنون آلاتهم فعلا، وينغمسون في تلك الصورة الحديثة من صور التغير التي نسميها الاختراع. وكان بعض التجار في العصور الوسطى يجمعون المال بوسائل لا تختلف كثيرا عن الوسائل التي نجمعه بها اليوم. وفي الواقع الملطخ في القرون القلائل الأخيرة من العصور الوسطى، ظهر الفساد، والمنافسة، والتغير الاجتماعي السريع، بصورة واضحة جدا، رآها كل فرد حتى أصحاب النظريات. وقد أدرك وايكليف وكثير غيره من العصاة تمام الإدراك أن مجتمعهم مجتمع متغير. ولكنهم كانوا يرون أن مجتمعهم قد تدهور عما أراد له الله وأراد له القانون الطبيعي، ولم ينظروا إليه كأنه مجتمع في الطريق إلى مثل جديدة تصدر عن ظروف واقعية جديدة وتؤثر فيها.
وإذن فإن النظرة العالمية (وهي بالألمانية لفظة ثقيلة ولكنها معبرة
Weltanschauung ) حتى عند المثقف في أواخر العصور الوسطى تختلف جد الاختلاف عن نظرة الرجل المثقف في العصر الحاضر، لمجرد أن الأول يفترض أن الكون في أساسه ثابت، والثاني يفترض أن الكون في أساسه متغير. الأول يفترض أن القوانين التي تحكم العمل الإنساني الصحيح قد وضعها الله في سمائه لكل العصور - إن جاز لنا أن نقول ذلك - وأن هذه القوانين واضحة للرجل المسيحي الطيب. والثاني يفترض أن القوانين التي تحكم العمل الإنساني الصحيح يتم وضعها في الواقع في نفس عملية الحياة، والقتال، والحب، والتخطيط، وكسب المال، ولا يمكن لأحد أن يعرفها تمام المعرفة مقدما، وأن هناك قوانين جديدة يتم وضعها باستمرار خلال الحياة البشرية. ولما كان الإنسان لا يعيش في جو فكري خالص لأحد الطرفين المتناقضين، فقد كان الرجل في العصور الوسطى يخلط مع فكرته عن الاستقرار قدرا كبيرا من إمكان التغير عمليا. كما أن الإنسان في العصر الحديث يعتقد إلى حد كبير في بعض الأمور المطلقة التي تعلو عملية التغير الثوري، مهما يكن الإنسان الحديث في ذلك على شيء من التناقض. أو قل إن الإنسان في العصر الحديث يعتقد على أقل تقدير بأن التغير الثوري هادف بشكل ما. غير أن الاتجاه العقلي عند الرجل في العصر الوسيط وعنده في العصر الحديث يختلف اختلافا بينا في السلوك في كثير من ميادين النشاط البشري.
إن الإنسان الوسيط في حيرته يميل إلى أن يحل هذه المشكلة بالرجوع إلى سلطة الرأي، وهي السلطة الطبيعية، أو أفضل السلطات، التي نشأ على الإيمان بها - سلطة أرسطو إن كان من المدرسيين، والقانون الأرضي العرفي إن كان من رجال القانون، وعادات أبيه في الزراعة إن كان من المزارعين، وهو يميل إلى الاعتقاد - وهذا أمر هام جدا - بأن مشكلته ليس لها حل كامل مرض ميسور فعلا، أو يميل إلى الشعور أنه لا يصلح حالا حتى يرقى إلى السماء. أما الإنسان الحديث في حيرته فيميل على الأقل إلى أن يستشير سلطات مختلفة متعددة ويوازن بينها قبل أن يقر قراره. وقد يحاول أن يجرب، وأن يقوم بمحاولات مبدئية في اتجاهات جديدة يوحي إليه بها رجوعه إلى سلطات مختلفة وإلى خبراته الخاصة، إن كان قد نال تدريبا حسنا في بعض النظم ذات الصبغة العلمية أو العملية. وهو يميل إلى الشعور بأنه قد يحل في الواقع مشكلته إن هو سار سيرا صحيحا في هذا الاتجاه. والاتجاه الصحيح للرجل الوسيط قائم فعلا، وما عليك على الأكثر إلا أن «تجده»، أما الاتجاه الصحيح للرجل الحديث فقد «يشق» أو «يخلق».
وبالرغم مما بين النظرتين من تباين، فإن هناك الكثير في الفكر الاجتماعي والسياسي مما ثبت أنه أساسي لتفكيرنا. نعم إنك لن تجد فكرة التقدم أو التطور المطرد المادي في تفكير العصور الوسطى، ولن تجد تأكيدا قويا للمنافسة والفردية أو حتى التخطيط المنظم، ولن تجد الجو الذي يشير إلى «الأعظم والأفضل»، بل ولن تجد جدلا حول «طريقة الحياة الديمقراطية»؛ ذلك أن نظرية العصور الوسطى - كما رأينا - تؤكد الخضوع، والاستقرار، والعرف، والبناء الطبقي الثابت، والسلطة. ولكن العلاقات الاجتماعية في تلك العصور لم تكن في الواقع ثابتة مستقرة كما كانت كذلك من الوجهة النظرية؛ فقد ظهرت التغيرات المادية، والتقدم الذي ساعد على تحطيم النظريات الوسيطة، من بعض ضروب النزاع الفعلي في حياة العصور الوسطى. وكذلك ظهرت - حتى في أوج العصور الوسطى - أفكار أو «ميول» لا تتفق إلا بمشقة زائدة مع مبادئ السلطان، والخضوع، ونظام المراتب الاجتماعية الذي لا يتغير. وسوف نعود إلى النوع الأول من التغير في الفصل اللاحق. وليس النوع الثاني مستقلا بتاتا عن النوع الأول، ولكنه يتوقف أيضا على ضروب من الصراع سبقت في تاريخها كثيرا نوع الصراع الاقتصادي الذي ظهر في الأزمنة الحديثة.
ويمكن عرض الموضوع في إيجاز وبساطة شديدة كما يلي: إن المجتمع البشري الذي لا يتغير، الصارم نسبيا، الذي يعتمد على السلطة، يحتاج إلى سلطة عليا تكون لها السيادة، وتكون قراراتها في الواقع نهائية. وطالما كانت إسبرطة مجتمعا كهذا - على سبيل المثال - كانت قرارات الكبار إجماعية ومقبولة. وفي الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية القديمة كان الإمبراطور وخليفته القيصر في روسيا، يمثل هذه السلطة العليا، ويملك أن يملي إرادته حتى على الكنيسة. ومن ثم ظهر هذا الاصطلاح الثقيل «البابوية القيصرية» الذي يعني النفوذ المطلق لخلفاء قيصر في الشرق. في حين أن أقل دراية بالتاريخ السياسي في الغرب خلال العصور الوسطى تبين في جلاء أنه لم يقم في الغرب قط ذلك القبول للسلطة الفردية النهائية التي لا مناص منها لقيام ذلك النوع من المجتمع الذي يظن كثير من مفكري الغرب أنه كان يسود - أو على الأصح يوشك أن يسود. كان البابوات والأباطرة - في أعلى المستويات - يزعمون أن لكل منهم في الغرب سلطة عليا. وكان الأباطرة القادرون المحظوظون يمارسون شيئا من هذه السلطة التي ربما كاد يبلغها في الواقع البابا أنوسنت الثالث في أوائل القرن الثالث عشر. وكان لكل من الجانبين انتصاراته في النضال الطويل. وكان لكل جانب من يؤيده من أصحاب النظريات البالغين في قدرتهم، والواقع أن كل مفكري العصور الوسطى تقريبا انحازوا في هذا النضال - إن عاجلا أو آجلا - إلى هذا الجانب أو ذاك. وقد أنفق دانتي - على سبيل المثال - جهدا كبيرا في رسالة سياسية طويلة «عن الملكية» يحث فيها على حكم الإمبراطور للدنيا كحل للشرور التي جلبتها الحروب في عهده. وكذلك كان لسلطان البابوية الأعلى من يدفع عنه، ومن بينهم أجديوس رومانوس. وقد انتهى توماس أكويناس إلى أن للبابا «سلطانا غير مباشر في شئون الدنيا»، وفي هذا مثال آخر لميله نحو الاعتدال.
وقد استنفد هذا الصراع بين سلطة البابا وسلطة الإمبراطور جانبا كبيرا مما يعده المختص موضوعا جذابا للتأمل. ومن النتائج الواضحة التي ترتبت على ذلك أن المطالبة المتطرفة بالسلطة من كلا الجانبين لم تعد تلقى قبولا في أواخر القرون الوسطى. ولم يقف الأمر في هذا النضال في سبيل الدعاية - وقد كانت في الواقع كذلك - عند حد إساءة الإمبراطوريين للبابويين، والبابويين للإمبراطوريين. ولم يقف الأمر عند حد ثبوت الإساءة بدرجة أشد من ثبوت الثناء الذي كان يضفيه كل جانب على نفسه، كما يحدث عادة في الدعايات. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كل جانب كان عليه فوق ذلك أن يلتمس ما يؤيده مطالبته بالسلطة، وقد كان بعض هذا التأييد حديثا جدا؛ فقد وجد مارسيجليو البادوي، مؤلف «دفاع عن السلام» في القرن الرابع عشر، وهي رسالة إمبريالية، أن المصدر الوحيد للسلطة في أية مجموعة من الأمم (كومنولث) هو مجموع المواطنين. وليس من شك في أن مارسيجليو قد أخذته الحماسة، وربما لم يقصد أن يكون حديثا كما صوره شارحوه. فما عتم يستخدم المصطلحات الوسيطة، والنظم الدستورية والأفكار التي تتصل بالسيادة الشعبية التي تعزى إليه تبعد كثيرا عن فكرتنا عن الاعتماد على تعداد السكان عندما نريد البت في قرار سياسي. ولكن مارسيجليو كان يقصد جادا كل الجد ما قصده كثيرون غيره من مفكري العصور الوسطى، حتى أولئك المنحازين إلى الجانب البابوي: وذلك هو أنه ليس من حق إنسان مهما بلغت مكانته في سلم المراتب - حتى إن كان في أعلى درجات هذا السلم - أن تكون أوامره دائما وبغير جدل مطاعة منفذة ممن يدنونه في المرتبة.
والعلاقة الإقطاعية ذاتها - التي يرتبط فيها الناس برباط السيد والتابع طوال الفترة التي سادها نظام النبلاء - مثال رائع لإصرار العصر الوسيط على أن سلم المراتب لا يستند إلى مجرد القوة. وقد ابتذل معنى «التابع» بمرور الزمن، ونكاد نعتقد اليوم - بمقدار ما بقي هذا الاصطلاح حيا - أنه يعني العبودية المفروضة على صاحبها. ولا يزال الناس - فوق هذا - يخطئون إذ يحسبون أن العصور الوسطى كانت فترة من فترات الفوضى والاستبداد الشخصي. والواقع أن أتباع السيد كانوا من بين الرجال المهذبين وحدهم. وكانت العلاقة ترسم في حفلات معقدة في بدايتها. وكانت علاقة «ولاء» - وكانت تعتبر دائما علاقة متبادلة، فيها أخذ وعطاء؛ أي إنها كانت في الواقع نوعا من علاقات العقود المبرمة بين طرفين. وكان التابع يدين للسيد بخدمات معينة، والسيد يدين للتابع بخدمة كبرى، هي الحماية. ويعتبر أسلوب الحياة المعقد الذي يعرف بالفروسية، الذي تطور تدريجا في هذه الطبقة الإقطاعية، من أشد النظم البشرية إصرارا على الكرامة الشخصية والمكانة التي يتمتع بها الأعضاء الجدد في نظام الفروسية.
وحتى هنا لم تتفق النظرية مع تطبيقها. وقد كان للتطبيق شأن كبير بانبثاق المجتمع الحديث عن المجتمع الوسيط. كانت العلاقة الإقطاعية نظريا نظاما ثابتا لسلم المراتب، كنظام الجيش، يبدأ بأدنى الفرسان وينتهي بالإمبراطور (أو لعله كان البابا). فإذا كان الكونت تابعا للدوق، والدوق للملك، فإذن فلقد كان على كل منهم واجبات وله حقوق، تؤدى بطريقة واضحة سبق وضعها. وإنما كانت تنشأ المشكلة إذا امتلك الكونت أرضا عليها واجبات إقطاعية لدوق آخر ، أو للملك مباشرة، أو حتى لمن هو أدنى منه في المرتبة. عندئذ ينشأ الخلاف، وفي اضطراب العلاقات الإقطاعية قد يجد التابع نفسه مقاتلا ضد سيده - على الرغم من تناقض ذلك مع النظرية. وأقول بإيجاز، إن نظام الإقطاع ربما كان من الجائز أن يتجمد في صورة مجتمع طبقي ثابت، إلا أنه لم يفعل ذلك؛ لأن أعضاءه قلما كانوا يرضون عن مكانتهم في سلم المراتب، بل كانوا أحيانا غير واثقين البتة بالدرجة التي يحتلونها في هذا السلم؛ فقد كانت هذه المكانة في النهاية، في أذهان الناس في العصور الوسطى، تعتمد على الحق دون القوة. وبالرغم من أن «الحق» هنا - كما كان في غير ذلك من المواضع في العصور الوسطى - كان من اليسير جدا وفي أغلب الأحيان يفهم على أنه «العادة»؛ أي الأسلوب الذي جرت عليه الأمور، إلا أن استناد الحق إلى إرادة الله في النهاية كان ماثلا دائما يعبر عنه قانون الطبيعة.
وأعود ثانية إلى ذلك الحكم العام الشامل الذي ساد العصور الوسطى، وأعني به النظام الطبيعي، أو قانون الطبيعة وهو قانون أرضي يقترب بقدر ما يستطيع الإنسان من قانون السماء، وهذا المبدأ الذي يتميز به الغرب من الأدلة الميسورة دائما التي تساق لتأييد فكرة التغير، والتغير الثوري إن اقتضى الأمر؛ لأنه يبرز في جلاء - كما بينا من قبل - فكرة النظام الأفضل، وهو مع ذلك نظام واضح - ما دام «طبيعيا» أنه ممكن التحقيق، وليس نظاما مثاليا من العالم الآخر. وإذا كانت الفكرة - عند كثير من الناس - عن الأمر الطبيعي، تختلف كل الاختلاف - كما حدث في القرن الثامن عشر - عنها عند من يعلونهم اجتماعيا وسياسيا، كان الموقف ثوريا. أما إذا كان هناك على الأقل اتفاق عام بين المتعلمين على ما هو طبيعي، كما كانت الحال عموما في القرن الثالث عشر، فإن المجتمع يكون مستقرا نسبيا. ولكن فكرة القانون الطبيعي - في أواخر القرن الثامن عشر عندما زاد من حدة العداوات الطبقية النامية الحروب، والأوبئة، وغير ذلك من أسباب الخلل في زمن تسوده القلاقل - انقلبت إلى إيحاء بالعصيان ضد أصحاب السلطان الذين لا يحققون النظام - أو العدالة - الذي يسعى القانون الطبيعي إلى تحقيقه. وقد كان القرن الخامس عشر - بالرغم من الفوارق الواضحة في المصطلحات وفي العادات والتفكير إلى حد ما - يتفق في كثير من الأمور مع القرن الثامن عشر.
ومع ذلك فإن العصور الوسطى - حتى في سنواتها الأولى، وحتى في أوجها - لم يكن من المستحيل فيها أن تتحد الفوضى وخلل النظام في الواقع (أو في التطبيق) مع الوحدة في المثل كما تصورها الكتب الدراسية الأمريكية أحيانا. ولم تكن العصور الوسطى في الغرب قطعا زمنا يسود فيه الإيمان بالمطلق. الله وحده - في نظريات العصور الوسطى - هو المطلق. أما البشر الذي يعمل عن طريقهم فوق الأرض فليسوا سوى عملائه. وهم كبشر يمكن أن يحكم عليهم غيرهم من البشر إذا هم عارضوا قانون الله - أو قانون الطبيعة. ومما جعل الحكم المطلق المستقر جد مستحيل في المعاملات الغربية في العصور الوسطى انقسام السلطة بين القوى العلمانية والقوى الروحية، والمطالب المتعارضة لألوف السادة الإقطاعيين، والرجوع إلى العرف ليكون حكما في كل مكان. إن جذور الديمقراطية الحديثة تمتد إلى العصور الوسطى، في حين أن مبدأ الإيمان بالمطلق لم يحتل مكانة بارزة إلا في القرون القلائل الأولى من العصر الحديث.
الفصل السابع
العصور الوسطى (ثانيا)
هناك فكرة شائعة بأن العصور الوسطى - وأعني بها ألف العام كلها التي تقع بين نهاية الثقافة الإغريقية الرومانية والنهضة - لم تضف شيئا إلى مجموعة المعرفة التراكمية التي نسميها العلوم. وهذا الرأي خاطئ؛ فنحن نعرف اليوم بأن الأسس الاجتماعية، والاقتصادية، بل والعقلية، للعلم الحديث في الغرب، قد وضعت في العصور الوسطى. ومنذ القرن الثاني عشر مهد ظهور المدن والتجارة، ونمو طبقة مغامرة من أصحاب المشروعات التجارية الراغبين في تحسين الوسائل التقنية، كما مهد جمع رأس المال الذي يسمح بالإسهام في هذا التحسين، كل ذلك مهد للظروف الاجتماعية التي يمكن أن يرقى فيها العلم. ومن الناحية العقلية كانت العادات الفكرية تستند إلى دراسة المنطق، والرياضيات، والآداب، وهذه العادات بعدما اتجهت نحو المدركات الحسية المألوفة، تحولت تدريجا إلى العلم الحديث.
وفي الحق أن الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى لم تكن عصورا علمية، بل إنها كانت عصورا ضد العلم، له أساس من الواقع. وقل من هذه الآراء واسعة الانتشار، أو المكررة، ما كان «كله» خطأ. وكثير من كبار المفكرين في العصور الوسطى كتبوا قدرا كبيرا بأسلوب يناقض تماما ما نعده أسلوب العلم. وكان روح العصر - بمعنى ما - لا يؤدي إلى التفكير العلمي الرسمي. ولكنا هنا - كما ينبغي لنا في أكثر المشكلات المعقدة من هذا القبيل - يجب أن نحتاط من ناحيتين؛ فإن مجال الرأي الواقعي كله، ومداه في موضوع معين، يجب التثبت فيه بقدر الإمكان، ويجب أن نحاول معرفة ما يعمل ومعرفة ما يقال ويكتب على السواء. ومثل هذه الدراسة تبين لنا أن عملا نافعا كثيرا على المستوى التأملي أو الفلسفي قد تم في العلوم في أواخر العصور الوسطى، بل وإن أكثر من ذلك قد تم على المستوى العلمي للتكنولوجيا والاختراع.
إن التطرف في الاتجاه نحو العالم الآخر لا يتفق البتة والعلوم، بل ولا يتفق والمعرفة، وتستطيع تأييدا للرأي القائل بأن العلم كان ميتا موتا كاملا في العصور الوسطى أن تسوق عدة نصوص، كالنص الشائع المنقول عن سنت أمبروز، وهو: «إن البحث في طبيعة الأرض ومركزها لا يعيننا في أملنا في الحياة الأخرى.» وتستطيع أن تجد حشدا من المعادين للعقل، والمتصوفين، والرجعيين من كل الصنوف في هذه السنوات. ولكنك تستطيع أيضا أن تجد عددا من هؤلاء في أية فترة من فترات التاريخ الغربي، حتى عصرنا هذا. والواقع أن العلوم الطبيعية لم تبلغ القمة في قيمتها العقلية إلا خلال الأجيال القليلة الماضية. والمسألة دائما هي مسألة توازن بين النظريات المتعارضة. وكانت القيمة الكبرى في أواخر العصور الوسطى تعطي لنوع المعرفة الذي نسميه «المدرسية». وليست المدرسية ضد العقل بأية حال من الأحوال. إنما هي في الواقع مصدر من مصادر العلم الحديث.
ومن المؤكد حقا أن «المدرسية» في العصور الوسيطة كانت في جملتها تختلف اختلافا تاما عن العلم الحديث؛ فالمدرسية تركز اهتمامها في الاستنباط من المبادئ التي تأخذها بالنقل. أما العلم فيركز اهتمامه في التجربة لاختبار ما يعد حجة في نوعها (أي النظريات السابقة في موضوع معين). ولكن أرجو ألا تنحازوا في الرأي كما انحاز أتباع بيكون الذين أنكروا المدرسيين. وليس العلم كله «استقراء»، وليس البتة جمع واقعة إلى واقعة حتى تفرخ الوقائع بالمعجزة تفسيرها. العلم استنباطي إلى حد ما، وهو بهذه الصفة يدين بالكثير لتنقيب المدرسين. وهنالك في الواقع تلك الفئة التي ترى المدرسية الوسيطة بداية النهاية للعقيدة الصوفية الصادقة، أو بداية لذلك الجهد الحديث المضني - في ظنهم - ل «فهم» الكون الذي سار شوطا بعيدا ربما يمكن الإنسان «اليوم» من أن يهدم على الأقل كونه الخاص.
كان التقديس العقلي في العصور الوسطى للكلمة المنقولة عقبة في سبيل نمو العلم أشد من طرق التفكير الاستنباطية لدى الرجل من أبناء تلك العصور. وربما كانت «عادة» الاعتقاد بأن الكلمة المكتوبة الثابتة حجة حتى في وجه الإدراك العام، ثابتة في أصلها عن قبول المسيحيين للإنجيل باعتباره كلمة الله، غير أن التسليم بالإنجيل أساسا كان في العصور الوسطى عقبة في طريق التجربة العلمية أخف من كتب أرسطو والأدب الكلاسيكي القديم الذي وصل إليها. وقد مالت العصور الوسطى إلى الأخذ بكلمة أرسطو، وكلمة بلايني - وهو مؤرخ طبيعي روماني شديد التصديق - وكلمة جالن - وهو طبيب مجيد ولكنه ربما كان نظريا أكثر مما ينبغي - وذلك خاصة في كل ما يتعلق بما نسميه اليوم علم البيولوجيا (علم الأحياء).
وكانت العصور الوسطى - فوق ذلك - زمنا ذاع فيه التصديق الشديد بين الناس إلى درجة الاعتقاد في الخرافة كما يبدو لنا. ومهما يكن من شيء فقد كان القرن الثالث عشر قريبا جدا من العصور المظلمة. وكان على المفكرين في العصور الوسطى أن يكافحوا لانتشال الحقيقة من أعماق الجهل. ومع ذلك فإن التصديق والخرافة - بل والقبول المطلق لحجة منقولة معينة في شئون قد تكون هذه الحجة فيها على خطأ أو غير ذات صلة بالموضوع - لم تختف البتة من المجتمع الغربي الحديث. وقد تجد في أية مكتبة شعبية في أمريكا كتبا في التنجيم، ثم لماذا تكون ممثلة السينما حجة في تأثير تدخين السجاير على الحلق؟ وكذلك تظهر ثعابين البحر في الصحف بانتظام شديد.
ومن الحق أن البيولوجيين المحترفين يرجحون عدم وجود ثعابين البحر أو السمكة الخرافية ذات القرن. ومن الحق أن كثيرا من المتعلمين في العصور الوسطى اعتقدوا فيما يبدو أن أمثال هذه المخلوقات - بل وأغرب منها - موجودة. أي إن بعض أنواع العقائد التي نجدها اليوم مناقضة لتجاربنا كان يؤمن بها في العصور الوسطى أفراد من مرتبة اجتماعية وعقلية عالية جدا. وقد نشأ هؤلاء العقليون في العصور الوسطى في ثقافة حية مسيحية تؤمن بوجود الله، وهذه الثقافة وضعت حدا بين الطبيعي وما فوق الطبيعي في مستوى أدنى بكثير - بمقياس التجربة العادية - مما يمكن أن يكون عليها مستوانا، اللهم إلا إذا نال أحدنا تربية استثنائية حقا. ولم يكن ظهور «العلامات» (على الأيدي والأعقاب في المواضع التي سمر فيها المسيح فوق الصليب) في قديس مثل فرانسيس الأسيسي مما يحتاج إلى دليل لإثبات الحقيقة أو إلى نظرية لإثبات إمكان حدوثها؛ فإن الكاثوليكيين المخلصين اليوم يسعدون جدا لو عثروا على تفسير طبي لهذه الظاهرة، ولقد حاول بعضهم فعلا إيجاد مثل هذا التفسير.
هذا القبول التام للمعجزة لم يكن ليؤدي إلى الدراسة الوئيدة الصابرة للحوادث الطبيعية التي لا تقع فيها مفاجآت معجزة. غير أن العقبة الأكبر في طريق العلم التجريبي في العصور الوسطى كانت تتمثل في مجموعة المحرمات التي كانت تحول دون دراسة تشريح الإنسان - ومع ذلك فإن هذه المحرمات كانت تفوق هذه الدراسة ولا تحول دونها في أخريات القرون الوسطى. هذه المحرمات - وهي اجتماعية بمقدار ما هي دينية - حالت دون تشريح الجسم البشري؛ فإن العقيدة المسيحية التي تؤمن إيمانا ثابتا بمبدأ بعث الإنسان بجسده لم تكن لتسمح بتقليع الجسم الذي لا بد أن يظهر أمام خالقه في يوم من الأيام. ومع ذلك فإن جانبا كبيرا مما قد نسميه ونحن عابسون التجربة في جثث الموتى التي كانت تجرى في مدارس الطب الشهيرة في العصور الوسطى، كمدرسة ساليرنو في إيطاليا ومنتبلير في فرنسا - بالإضافة إلى ما أنجزه القدامى والعرب في هذا الميدان - وضع الأساس العريض الذي أقيم عليه فيما بعد العلم التجريبي.
يجب إذن أن نسلم بأن العلم التجريبي في العصور الوسطى في جميع الميادين - وبخاصة علوم الحياة - واجه عقبات كثيرة: السيادة الشاملة نسبيا للإيمان بعالم آخر إيمانا يزدري الاهتمام العلمي بشئون هذه الدنيا، وعادة التفكير الاستنباطي الذي لا يميل إلى الاعتراف بضرورة اختبار سلسلة التفكير - بين الحين والحين - بالرجوع إلى ما يسميه العالم «الوقائع»، وتقديس الكلمة القديمة المنقولة بغير نقد وتصديق شديد، أو - بتعبير سلبي - اختفاء ذلك الضرب من التشكك الذي يراه العالم ضروريا، وقبول المعجزة قبولا شديدا يضعف من دراسة الواقع المألوف، وهي دراسة تعد من أساسيات العلوم، وأخيرا قبول الواقع المألوف باعتباره عملا إلهيا معجزا، ومن ثم فهو غير مفهوم في حقيقته بالتعبير العلمي. وبرغم هذه العقبات كلها فقد كان ما أنجزته العصور الوسطى التي استغرقت ألف عام من الناحية العلمية عملا عظيما جدا.
فقد أدخلت العصور الوسطى تحسينات كثيرة على الآلات الرياضية التي لولاها لما كان هنالك علم حديث. وبمعونة ما نقلوه عن العرب والهنود احتفظت هذه العصور بما أداه الإغريق في الهندسة واخترعت علم الجبر الجديد. وهنا أيضا وضعت هذه العصور أساسا عريضا استطاع أن يصل عن طريقه نيوتن وغيره إلى حساب التكامل والتفاضل وغير ذلك من قواعد الرياضة الحديثة. ولكن ربما كانت هذه الأعمال أقل في أهميتها من حيلة فنية ليست رفيعة جدا، بل هي تكاد تكون وسيلة عملية لا غنى لنا جميعا عنها؛ ذلك أن علماء الرياضة في العصور الوسطى - عن طريق الهنود والوسطاء العرب - استطاعوا في النهاية أن يفيدوا من الحيلة البسيطة التي نسميها «الصفر»، وباقي الأعداد الأخرى التي نعرفها. وإن كنت تعتقد أن هذا الأمر لا أهمية له فحاول أن تحل مسألة بسيطة كقسمة
MDCCIV
على
LXVI (أي 1704 على 66 بالكتابة الرومانية) مع التزامك دائما بطبيعة الحال لهذه الطريقة الرومانية في كتابة الأعداد.
إن أبرز إنجازات العصور الوسطى في العلوم الرسمية كان في هذا الميدان، ميدان الرياضة الاستنباطي، الذي كانت بعض العقبات التي ذكرناها بالنسبة إليه أقل في أهميتها بكثير منها في الميادين التجريبية. وبالرغم من ذلك فقد حدث تقدم محدد في كثير من العلوم الرسمية الأخرى قبل نهاية القرن الخامس العشر بوقت طويل، وهو القرن الذي يعين عادة بداية العصور الحديثة. ويكاد كل منا يعرف اسم روجر بيكون، وهو راهب بريطاني عاش في القرن الثالث عشر، يسبق عمله في الإطراء على الاستقراء والتجربة عمل سميه المشهور فرانسيس بيكون الذي جاء بعده بأكثر من ثلاثة قرون. ولم يكن روجر بيكون العالم الوحيد في العصور الوسطى، ولم يلاق اضطهادا بسبب آرائه. وفي حياته الطويلة التي امتدت ثمانين عاما أسهم في الحياة العقلية في عصره، وهي الحياة التي كانت تعني آنئذ، كما تعني اليوم، الانحياز إلى أحد الجانبين في المشكلات الكبرى. ومن الواضح أن بيكون كان اسميا أو تجريبيا بشكل ما، يعارض الواقعيين أو المثاليين، ولكنه لم يكن زنديقا، ولم يكن ماديا متخفيا، وكثير من الآمال التي عقدها على طريقة التجربة كان يتجه نحو زيادة توضيح حقائق الديانة المسيحية، ومع ذلك فظاهره ولا شك حديث، أو ربما كان بريطانيا فحسب، يقول: «هناك ثلاث طرق يظن الناس أنهم يستطيعون بها أن يحصلوا على معرفة الأشياء، وهي: النقل، والتعليل، والتجربة. والطريقة الأخيرة وحدها من بين الطرق الثلاث هي الفعالة التي تستطيع أن تجلب للعقل الطمأنينة.»
وكان يظن في وقت ما أن روجر بيكون كان شخصية فذة في تفكير العصور الوسطى. غير أن البحوث التي قام بها رجال من أمثال ك.ه. هاسكنز، ولين ثورندايك، وجورج سارتون، ألقت مرة أخرى الضوء على عمل أجيال من العلماء الصابرين في العصور الوسطى، من الباحثين المنكبين على ترجمة البحوث العربية في الرياضيات أو الفلك إلى الكيماويين الذين، وإن كانوا في الحق يرمون إلى هدف لا يتفق والأغراض الصحيحة للعلم الحديث، إلا أنهم كانوا برغم ذلك ينشئون في داخل مجموعتهم الفريدة البدايات الحقيقية لتعرف الكيميا. والكيميا القديمة كانت بحثا غير منظم، إن لم يكن مظلما، ولكنه أمسى علما من العلوم. ومن هوامش العلوم أيضا في العصور الوسطى الصيد بالباز، وهي معرفة أقيمت لتحسين طرق هذا الضرب الأرستقراطي من الصيد، ولكنها أدت إلى جانب كبير من البحث الدقيق المنهجي في أحد الميادين التي خاضها علماء الطيور فيما بعد.
وتؤدي بنا معرفة الصيد بالباز إلى مواجهة إحدى الحقائق الكبرى عن نمو العلم الحديث، وهي حقيقة كثيرا ما غفلنا عنها في هذه الأيام؛ فقد ألفنا - وبخاصة منذ الحرب الأخيرة - الظن بأن العلم البحت هو منبع، أو أصل، التغير التكنولوجي الحقيقي. إننا نتفق على أن الخبرة الصناعية الأمريكية كانت ضرورية لإنتاج القنبلة الذرية، ولكنا مع ذلك نرفع من شأن علماء الطبيعة النظريين في إنتاج القنبلة. والموقف - من الوجهة التاريخية - معكوس في العصور الوسطى وفي أوائل العصور الحديثة؛ فقد كان العلماء النظريون هم التابعين، الذين يسيرون في إثر العمال العمليين، وأصحاب الحرف، وأصحاب المهن، ورجال الصناعة الناشئين، وأصحاب الضياع الذين يبذلون الجهد في سبيل تحسين تربية الماشية. لا ينبغي لنا بطبيعة الحال أن ننظر إلى العلاقة بين العلم البحت والحاجات العملية كأنها تلك العلاقة المحيرة بين البيضة والكتكوت. فإن أحدهما يبعث على الآخر في كل حين. والمهم هو أن التكنولوجيا (أو الجانب العملي) في العصور القديمة كانت تبعث في كل خطوة تقريبا على العلم البحت. أما اليوم فالعلم البحت يمكن أن يغذي نفسه وأن يتقدم بنفسه دون أن يكون لا تراكميا، وبغير الرجوع دائما - مع ذلك - إلى التكنولوجيين.
ولو أردنا سرد الاختراعات والتحسينات التي تمت في العصور الوسطى لكانت القائمة طويلة جدا، ويمثل هذه المخترعات أحسن تمثيل اختراع قديم من إنتاج العصور المظلمة، وأقصد به رباطا للرقبة خاصا بالحصان. وهي حيلة بسيطة، ولكنها لم تكن معروفة للإغريق والرومان؛ فباستعمال هذا الرباط الطري الذي ينزلق على رأس الحصان، كان من الممكن استخدام قوة الجذب التي لدى الحصان بأسرها دون إجهاد قصبته الهوائية . وكذلك استعمال الأنجلو ساكسون في بريطانيا محراثا أفضل من المحراث الذي كان يستخدمه أسلافهم من البريطانيين الرومانيين، فأمكنهم بذلك لأول مرة أن يحرثوا الأرض الخصبة الغنية في الوديان. وإلى الرهبان الذين اشتغلوا بقطع الغابات وتجفيف المستنقعات يرجع الفضل في كثير من أسباب التقدم الفني. كما مهد صناع المعادن الطريق للدراسة الرسمية لعلوم التعدين والفلزات. وكذلك تحسنت على أيدي الأوروبيين صناعة الورق التي أخذوها عن الشرق بفضل العرب. ولما حل القرن الخامس عشر كان من الممكن صناعة الورق الصحيح من الخرق والكتان بثمن بخس. فلما اخترعت الطباعة في القرن الأخير من القرون الوسطى (أو لما أخذت أوروبا الطباعة من الصينيين) سرعان ما أمست الكتب المطبوعة رخيصة، أو أرخص على الأقل وأكثر عددا مما كانت المخطوطات اليدوية في أي وقت سبق.
وليس من شك في أن الكتب المطبوعة لا غنى عنها للعلم الحديث. ولكن العلاقة بين هؤلاء الصناع في العصور الوسطى والعلم الحديث ربما كانت أوضح في صناعة الساعات. إن قياس الزمن قياسا دقيقا ضروري لأي عالم من علماء الطبيعة. ولا جدال في أن الإسكندريين كانوا يستخدمون لأغراضهم مقاييس للزمن تفي بالمطلوب. وقد عادت العصور المظلمة كلية إلى المزولة والساعة المائية، ولما حل القرن الثالث عشر أضحت صناعة الساعات حرفة معروفة، وقد نهضت بإنتاجها حتى أمست الساعات، والدقائق، والثواني في القرن الرابع عشر ممكنة القياس. وازينت أخيرا بعض الكنائس وقاعات المدن بالساعات المعقدة؛ ساعات تترنح فيها بعض الأشكال الصغيرة وتدق الساعات التي تدل على الزمن، وساعات تبين أوقات السنة، وغيرها. وكان العمال الذين يصنعون هذه الآلات المعقدة هم الأسلاف الحقيقيين للعمال الدقيقين في العصر الحديث.
وربما كانت البوصلة من بين الصناعات الدقيقة في ذلك الوقت أوسعها انتشارا. وليس من شك في أنها كانت تستخدم قبل قيام كولمبس برحلته البحرية بنحو قرن، وهي رحلة ربما لم يكن بوسعه أن ينجزها لولا هذه الآلة الدقيقة. ولكني لست أرى جدوى من سياق المثال في أثر المثال؛ فالنقطة الهامة لمؤرخ الفكر هي أنا نجد في العصور الوسطى منذ القرن الثالث عشر - أي منذ الازدهار الكامل للمدرسية التي يقال لنا عنها أحيانا أنها طرف النقيض للاتجاه الحديث - روح العمل المادي، والرغبة في تجربة الطرائق الجديدة، والشغف بالسيطرة على الطبيعة. أي إننا نجد - في عبارة موجزة - الأرض التي منها نبت العلم الحديث.
ثقافة العصور الوسطى
لقد أكدت من قبل - وربما كنت مبالغا في تأكيدي - أن العصور الوسطى لم تكن مجرد فجوة بين قمتين من الثقافة الإغريقية الرومانية من ناحية وثقافتنا من ناحية أخرى. إنما كانت العصور الوسطى فترة من فترات الازدهار في ثقافتنا الغربية لها قيمتها الذاتية، مرتبطة بما سبقها وما لحقها، ولكنها مع ذلك كل يستطيع مؤرخ الحضارة أن يحاول فهمه ووصفه. ولم تكن هذه الفترة أكثر استقرارا من أية فترة أخرى، ولم تكن البتة بسيطة، ومن سوء الحظ أن المرء لا يجد مفرا من أن يصدر بشأنها أحكاما عامة انطباعية وهي كل ما يستطيع العقل البشري أن يلم به في مثل هذه الأمور.
واللفظة التي ينتهي إليها المرء دائما إن عاجلا أو آجلا عند البحث في العصور الوسطى هي «الوحدة». في تلك السنوات كانت ثقافتنا الغربية في الواقع واحدة، عندما كان هناك مجتمع مسيحي واحد، يرتبط فيه الروحاني بالدنيوي بصورة لا تتجزأ، حيث لا توجد مذاهب دينية معارضة، أو قوميات متنافسة. ويتضح من الفصل السابق أن هذا الوصف للثقافة الوسيطة ينطبق على وجه العموم على الحضارة المتنوعة نظريا أكثر مما ينطبق عليها من الناحية العملية. والتصريح بوحدة المسيحية هذه من الناحية النظرية من الحقائق التي تهمنا عند محاولة فهم العصور الوسطى؛ فنحن نعرف على الأقل ما كان يريده رجال الفكر. ومن المحتمل أن تحد وحدة المسيحية الغربية المزعومة - إلى درجة ما - من الانقسامات والمنازعات التي امتلأت بها الحياة في العصور الوسطى عندما بلغت أوجها في القرن الثالث عشر.
ومن المؤكد أنه كان هناك تنوع خصب داخل هذه الحدود. ويحب العاشق الصادق للعصور الوسطى أن يعتقد أن الناس لاتفاقهم في الأساسيات - أساسيات النظرة المسيحية إلى الكون - يستطيعون أن يهضموا تلك الفروق المحلية الخلابة التي تجعل العصور الوسطى جذابة للمحدثين الذين يملون النظم الموحدة في حضارة آلية على نطاق واسع. وفي هذا لا يسعنا إلا أن نقول إننا لسنا على دراية كافية بعلم الاجتماع كي نحكم إذا كان المبدأ الأساسي الذي تتضمنه هذه العبارة صادقا أو غير صادق - وأعني بالعبارة أن الاتفاق المزعوم على المبادئ الدينية يسمح للأفراد بحرية التنوع الفردي في مجال فسيح. إننا في الواقع لا نستطيع أن نكون على ثقة من أن المقارنة بين التوحيد الحديث والتنوع الوسيط مقارنة صحيحة تعبر عن حقائق واقعة دقيقة.
ومن الحق أن الناس في فرنسا الوسيطة - على سبيل المثال - الذين كانوا يقطنون أودية متجاورة ربما كانت لهم لهجات تبلغ من الخلاف فيما بينها حدا يستحيل معه التفاهم المتبادل، وأن الناس جميعا في فرنسا الحديثة في نفس هذه الأودية يتكلمون الفرنسية الصحيحة مع فروق يسيرة على أكثر تقدير في النبرات. وربما كان لكل واد في فرنسا الوسيطة نظامه الخاص في الأوزان والمقاييس، في حين أن هذه الأودية تستخدم اليوم مقياسا واحدا مقننا يعتبر مثالا طيبا للتقنين، وأعني به النظام العشري، ومع ذلك فإن التنوع يوجد اليوم كذلك، بالرغم من إنذار المثقفين لنا الذين يعلنون أننا جميعا سوف ندفع بالوسائل الشمولية الحديثة بحيث نصبح أنماطا موحدة، وأننا قد أمسينا بالفعل أناسا آليين أو نماذج على صورة واحدة. وربما كان مدى التنوع في الشخصية والمزاج أوسع - في الواقع - في المجتمع الحديث منه في العصور الوسطى؛ فالكائنات البشرية تصر على التنوع ما دامت فرصة الاختيار تتاح لهم. والواقع أن الثقافة الحديثة - إن كانت قد ضيقت فرصة الاختيار في اللهجات والمقاييس، وفي أمور مادية كثيرة أخرى - إلا أنها ضاعفت الفرصة بذلك التنوع الفذ في الأشياء والخدمات التي تيسر لنا، وكذلك التنوع في «الأهداف» (وإن كان فلاسفتنا لا يتفقون جميعا في هذا الرأي) وفي أشكال الحياة الطيبة.
ومهما يكن من أمر فإنا نستطيع أن نقنع أنفسنا بالحكم الظاهر بأن النوع صفة من الصفات البارزة في ثقافة العصور الوسطى. وإذا كانت اللاتينية قد بقيت لغة العلم، فقد نمت منذ القرن الثاني عشر آداب في عدد من اللغات الشائعة، أو اللغات المحلية، التي أصبحت فيما بعد لغات أوروبا الحديثة. وإذا كانت الكنائس الكبرى قد بنيت على طراز أسميناه منذ ذلك الحين بالطراز «الغوطي»؛ فقد اختلف هذا الطراز اختلافا كبيرا من إقليم إلى إقليم بحيث لا يخطئ المرء التمييز بين الغوطي في جزيرة فرنسا والغوطي في الأراضي المنخفضة أو في إنجلترا، وحتى الفروسية، المثل الأعلى لأسلوب الحياة في الطبقات العليا في العصور الوسطى في الغرب لم تكن هي بعينها تماما في كل أنحاء أوروبا، بالرغم من تطلعها إلى الوحدة وارتفاعها بالتأكيد فوق المستوى الإقليمي. والواقع أن الإقطاع والفروسية لم يكونا عامين موحدين في الطبقات العليا في الغرب بدرجة أكبر مما كانت عليه المثل وأسلوب الحياة بين «النبلاء» في أوائل العصر الحديث، وهي المثل والأساليب التي كانت أساسا - كالفروسية - فرنسية في وحيها.
ولم تكن الأوجه الجغرافية المختلفة في ثقافة العصور الوسطى هي بعينها الانقسام الحديث إلى قوميات. إن هذه القوميات، وبخاصة فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، وألمانيا وإيطاليا (من الناحية الثقافية على الأقل، إن لم يكن من الناحية السياسية) قد برزت بروزا واضحا من العصور الوسطى. بل إن هناك نوعا من «القومية» - يستحق الدرس - في كثير من الأوجه في حياة العصور الوسطى، كتلك القومية التي تظهر في عالم الجامعات، أو معاهد الدراسة التي تبدو على الجملة في ظاهرها عالمية تماما. كان بعض الجامعات - وبخاصة الجامعة الشهيرة في باريس - تنظم في شكل مجموعات طبقا لجنسية الطلاب. وما إن حل عام 1300م حتى كان لأكثر اللغات الحديثة الهامة بدايات على الأقل في آدابها تتجاوز المستوى الشعبي البحت. وكان أكثر الكتابات الجدية - الفلسفة (وتشمل «الفلسفة الطبيعية»، وهو الاسم الذي كان يطلق على العلوم)، وعلوم الدين، والنظريات السياسية، والعمل العلمي عامة - باللاتينية، حتى أواخر القرن السابع عشر. وحتى في هذه المجالات كانت الحاجة إلى مخاطبة الناس - كما هي الحال في حركات الإصلاح في القرنين الرابع عشر والخامس عشر - تدعو إلى قدر كبير من الكتابة الجادة باللغة القومية.
والواقع أن الطباعة قد جاءت بعدما انتهى احتكار رجال الدين للكلمة المكتوبة، ولصناعة المخطوطات التي كانت تعادل ما نسميه اليوم بالنشر، بنحو قرنين أو ثلاثة قرون. وقد كتب اثنان من أكبر الشخصيات في أدبنا الغربي، وهما دانتي وشوسر، بالإيطالية والإنجليزية قبل ظهور الكتاب المطبوع بزمن طويل. وقد نشرت مؤلفاتهما بنفس الطريقة التي نشرت بها مؤلفات فرجيل وهوراس من قبل. ولم يتعفف النساخون عن عمل مجموعات من «فابليو»، وهو ذلك النظم الفرنسي الشائع الذي يستحق أن يسمى بالأدب الشعبي. وبالطبع قد دون شعر البطولة التقليدي، شعر الطبقات العليا - وأشهره «أغاني رولان» الفرنسية - في شكل مخطوطات، كما دونت أناشيد الرحالة فيما بعد. وكانت المؤلفات الموسوعية للرهبان العلماء، والسجلات، والتواريخ التي جمعوها في عناء شديد، كثيرا ما تحتوي على تفصيلات محسوسة للعقائد والعادات الشائعة.
وإذن فنحن بهذا كله نعرف جانبا كبيرا من الآراء والمشاعر التي كانت تجول في خواطر كل أنواع البشر من رجال ونساء في العصور الوسطى، وبخاصة في القرون القلائل الأخيرة منها. لدينا مجموعة من المصادر أشمل مما لدينا عن الإغريق والرومان. وما زلنا بالضرورة نعرف القدر الأكبر عن الطبقات العليا وطبقات المتعلمين؛ إذ لم تظهر الطباعة بعد، دع عنك الصحف والمجلات والإحصاء كما يقوم به معهد جالوب. غير أن المختصين بدراسة الماضي لبثوا أجيالا عدة ينقبون في مراكز الوثائق والمكتبات، يجمعون وينشرون كل جذاذة تسجل شيئا عن العصور الوسطى مما يستطيعون الاستيلاء عليه.
إننا لو أخذنا العصور الوسطى وفقا لرأيها في نفسها قلنا إن المجتمع فيها كان مجتمعا طبقيا، وقد تعرضنا بالدرس في الفصل السابق لدنيا العلماء وما برحت في أواخر العصور الوسطى دنيا رجال الدين. وقد كان هناك عن طريق العقائد والحياة العملية المسيحية شيء من أثر دنيا العلماء ظاهر في دنيا النبلاء، غير أن الطبقات العليا في الغرب كانت لها ثقافتها الخاصة، وهي ثقافة الفروسية. ولم تكن الفروسية أسلوبا من أساليب التفكير المجرد، ولم تكن فلسفة بالمعنى المألوف، وإنما كانت تتعرض لكل ضروب الفكر والمثل، ولارتباطها بطبقة مميزة تركت لنا سجلا وافيا عنها. وأخيرا أقول إن الفروسية كانت تنمو، وتتغير، وكان لها تاريخ، بل إن تاريخ اللفظة ذاتها له جاذبية، إن الفروسية وهي بالإفرنجية
chivalry
لم يعد معناها في أول الأمر كما يبدو «الفرسان من الجنود»
cavalry
أما معناها الحديث في أمريكا فلا يعدو في الظاهر أن يكون نوعا من التأدب الغريب نحو السيدات. أما في أوج العصور الوسطى فقد كانت تعني أسلوبا من العيش.
وتمتد جذور الفروسية إلى تكوين الطبقة الحاكمة الإقطاعية خلال العصور المظلمة. وقد كانت طبقة من ملاك الأراضي، محاربين محترفين، وظلوا قرونا يمثلون وحدهم قوة الشرطة والقوة الحربية في المجتمع. وطبقا لنظام تمليك الأراضي الإقطاعي الذي يقسم الأراضي إلى دوائر، كان أصحاب الأراضي هؤلاء ينخرطون بطريقة معينة في نظام للسلطة ينتهي بالملك أو الإمبراطور. غير أن سلسلة النفوذ كثيرا ما كانت غير واضحة؛ فكان جانب كبير من المبادأة، وجانب كبير من الاستقلال في العمل، يترك للأفراد في هذه الطبقة العليا. والواقع أن نوعا من المساواة الأساسية كان يسود دائما داخل الطبقة بالرغم من الفوارق العظمى في الثراء والسلطان. كان الفارس فارسا، كما أصبح فيما بعد الرجل المهذب (جنتلمان) رجلا مهذبا.
وكانت العضوية في هذه الطبقة - في القرون الأولى من العصور الوسطى، وفي أوجها إلى حد ما - مفتوحة للموهبة، ولكنها الموهبة التي تقترب من تلك التي تكفل للصبي الأمريكي الطموح الالتحاق بالجامعة، وليست بالموهبة التي تكفل له درجات الشرف الدراسية، ولكنها موهبة على أية حال. والعلامة الظاهرة للعضوية في الجماعة هي لقب الفارس (وتساوي كلمة
Knight
بالإنجليزية كلمة
Chevalier
بالفرنسية). ولقب الفارس يمنحه الإقطاعي الأعلى مرتبة للشاب عندما يبلغ سن الرشد، أو يمنحه لمن يستحقه من الأتباع في سنواته الأخيرة، ولم يكن قط يحرم منه أبناء النبلاء، وكان يمنح للعامة - فوق ذلك - لسبب قوي، كالشجاعة في القتال. وكانت هناك دائما في المجتمع الإقطاعي فئة من المقاتلين أو من مساعدي المقاتلين من غير النبلاء. وكان هؤلاء في السنوات الأولى يرتفعون في كثير من الأحيان إلى مرتبة الفروسية وينضمون إلى الطبقة صاحبة الامتياز. أما فيما بعد فقد أمسى الانتقال من الطبقة السفلى إلى الطبقة العليا أمرا شاقا، إن لم يكن مستحيلا، كما يحدث في أغلب الأحيان في تاريخ هذه الفئات.
وكانت هذه الطبقة الإقطاعية تعيش على القتال الذي ينشب عادة فيما بينهم، وكانت هناك بطبيعة الحال الحروب الصليبية ضد المسلمين، وضد الزنادقة الذين ظهروا فيما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر جنوبي فرنسا والذين اضطهدوا لنقدهم مفاسد رجال الدين، وضد الوثنيين من السلاف. ثم ظهرت صورة من الحروب الوطنية التي تشبه حروبنا - وبخاصة في حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا. كما كانت هناك حملات تأديبية ضد النبلاء الذين جاوزوا بالفعل حدودهم وأصبحوا قطاعا للطرق صراحة. وبرغم هذا فمن الحق أن كثيرا من الحروب الإقطاعية كانت حروبا خاصة بين قوم ليس بوسعهم أن يؤدوا إلا قليلا من العمل سوى القتال، والذين كانوا ينتهزون الفرص الاستثنائية للقتال. وتحت هذه الظروف كان لا بد لموازنة الميول الفوضوية تدريجا، ثم التغلب عليها في الموازنة، وذلك عن طريق مجموعة من القواعد والقيود وأنواع السلوك النبيل يفرضها الناس على أنفسهم طوعا. ولما حل القرن الخامس عشر لم يعد قتال الفروسية أشد خطرا من أي لهو عنيف. والواقع أن ما حدث في الفروسية يشبه على وجه التقريب ما حدث لكرة القدم في أمريكا من عهدها الأول عندما كانت مشاجرة وشغبا إلى أن أصبحت اليوم لعبة لها قواعدها.
وقد كانت هذه الفئة المقاتلة حتى في أيامها الأولى - كما كان يؤكد أفرادها تأكيدا شديدا - مسيحيين، ويكاد المرء يرى في عنف حياتها الشديد شيئا يشبه ما نسميه العصابات. ومن المؤكد أن الكونت الفرنسي في القرن العاشر كان أقرب إلى أن يكون فردا في عصابة منه إلى أن يكون الفارس الكامل المهذب كما يصوره عشاق العصور الوسطى في العهد الحديث. ولم يكن يعرف الكتابة والقراءة، ويجيد في شبابه المهارات اللازمة لركوب الخيل، والمبارزة بالسيف، وما شابه ذلك. وكان بوسعه أن يكل إلى حشمه وكتابه الإدارة والحكم، والتعامل مع الأفراد الذين لا بد للطبقة الحاكمة عادة من الاتصال بهم للاحتفاظ بنفوذها، كان بوسعه هذا، وكثيرا ما كان يفعله. وأقول في إيجاز إن وقت فراغه كان طويلا، وكانت لديه فرص كثيرة لكي يفكر فيما يلحقه من إهانة، ولكي ينتقم، ويحتفظ بسمعته، التي كان يسميها شرفه وكرامته. وكان من الجائز أن تصيبه نوبات من الغضب الذي لا يكبح جماحه - بل إني لأظن أنه كان أحيانا يفتعل هذه النوبات - ومن الممكن أن يرتكب في ثورة الغضب، القتل، والبتر، والغواية، وأن يخالف أكثر التعاليم التي لم تكف المسيحية قط عن أن تضعها أمام عينيه.
ولكنه كان يؤمن بالمسيحية، وكان قوي العقيدة في السماء وبخاصة في الجحيم، وكان له ضمير، ولم يكن في الأغلب ضميرا سيئا. وهذا التشاؤم الساخر الذي كثيرا ما تلمسه في أمريكا الحديثة يبلغ أشد مواطن الزلل إذا افترض وجود مثل هذا التشاؤم في طبقة حاكمة كطبقة الحكم في العصور الوسطى؛ ذلك أن الفارس الذي يستسلم لميوله يدرك تمام الإدراك أنه أذنب، وقد يبالغ في إظهار الندم. وقد يحمل الصليب، ويرهن كل ما يملك لكي يلتحق بحرب صليبية في الأرض المقدسة، وقد يقدم إلى الكنيسة ملكا له قيمته أو يوصي لها به. والواقع أن الكنيسة خلال هذه الفترة التي امتدت لألف عام جمعت من أصحاب الضمائر السيئة كما جمعت من أصحاب الضمائر الطيبة هبات ضخمة من السلع الدنيوية مما جعلها قوة اقتصادية كبرى. وما زال هناك من يعتقد أن الإصلاح البروتستانتي كان في أساسه حركة اقتصادية، وهي نهب الكنيسة على أيدي فئة جديدة من النبلاء اللصوص الذين ليست لديهم ضمائر البتة.
بيد أنه من الخطأ أن نحسب الفروسية حتى في بدايتها مجرد مجموعة من الرياضيين لا تخضع لنظام، ارتفعت بطريقة ما إلى مراكز لها نفوذ اقتصادي وسياسي، ولا يمسكها عند حد أدنى من مستويات السلوك إلا الخوف من نار الجحيم. وإني أحذر قراء هذا الكتاب تحذيرا شديدا من الخطر الذي ينجم عن اعتبار أية قطعة أدبية وصفا دقيقا لطريقة سلوك الناس فعلا. ومع ذلك فمن العبث أن نحسب أن الأدب ليست له بالحياة الواقعة علاقة، أو أن علاقته بها علاقة سلبية محض؛ فقد تجسد الجانب المثالي من الفروسية الأوروبية الأولى في سلسلة من الملاحم، لعل أشهرها وأشدها تمثيلا لها «أغاني رولان»، وقد روت هذه القصيدة، التي تعالج شخصية شرلمان التاريخية في القرن التاسع، أجيال من الشعراء الذين كانوا يتنقلون من قلعة إلى قلعة لإقامة حفلات الترفيه، ولم تتخذ صورة مكتوبة إلا في وقت متأخر نسبيا في العصور الوسطى. وإذن فلقد كانت الشعر الشعبي عند الطبقة العليا، وهي تبين على وجه التأكيد تقريبا كيف كانت طبقة النبلاء في الغرب قديما تحب أن تنظر إلى نفسها.
وما برح شرلمان وأبطاله كما تصورهم هذه القصيدة (وكذلك الملك آرثر وفرسانه كما تصورهم قصائد أخرى ترجع إلى نفس الأصول تقريبا) رياضيين، ولكنهم ظرفاء، سذج، لا يتقاضون إعانات مالية، يلعبون دورهم منصفين حتى مع الوثنيين، يحبون الله والإمبراطور بروح المدرسة القديمة. وإن كنت تحسب هذه المقارنة لغوا من القول في غير موضعه، وآثرت أن ترى «أغاني رولان» في عرض دقيق لأحد عشاقها فاقرأ الصفحات القلائل الأولى من «مونت سنت مايكل وتشارتر» لهنري آدم. هنا تجد هذا الرجل المثقف من إنجلترا الجديدة، المجهد، الممرور، ينصرف مرتاحا من عالمه الحديث المجنون المنحرف (كما أحسه) إلى هذا العالم الغض، البسيط، القوي، عالم الكرامة الرجولية، والعمل الرجولي، والآراء اليقينية الرجولية. ولكن لا تندفع في انسياقك، وارجع كذلك إلى صفحات قلائل - أيا كانت - من الراهب المؤرخ لعهد الفرنجة، وأعني به جريجوري التوري، فإن حياة الفرنجة كما يصورها جريجوري أشبه بالحياة ممثلة في حبة دواء أمريكية مركزة، أو هي على الأقل في شدتها ولا تكاد تتفوق عليها في قيمتها. وهنا نلتقي مرة أخرى بالتباين بين الواقعي والمثالي؛ ذلك التباين الأبدي - البشري - الذي ظهر في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمر فمما لا شك فيه أن الفروسية الأوروبية كأسلوب من أساليب الحياة بدأت عقيدة مبسطة عند الرجال المقاتلين، ثم تطورت - كما تطور أكثر ما ينتمي إلى العصور الوسطى - إلى أفضل حالاتها زهاء القرن الثالث عشر، حينئذ أصبح لها قانون للعمل معقد، قانون يحسن أن يرتبط بتلك السلسلة الطويلة المتشابكة من العلاقات الشخصية التي رفعت مجتمع العصور الوسطى إلى أوجه. أقصد في إيجاز أنها باتت أقرب إلى أن تكون نظاما من نظم العلاقات البشرية، نظاما مجربا متزنا، أو طريقة من طرق أداء العمل في هذه الدنيا. وهي - بهذا المعنى - تظهر في أحسن حالاتها في مذكرات سيير دي جوانفيل، الرفيق الصليبي للملك لويس التاسع المقدس، ملك فرنسا. وكانت عند جوانفيل بصورة واضحة تلك الفضائل التقليدية الإقطاعية، الولاء لملكه، والإيمان المطلق في المسيحية الكاثوليكية، وفوق هذا وذاك صفحة البراءة الرياضية التي حاولنا أن ننقلها إلى القارئ فيما سبق. ولم يكن جوانفيل من غير المثقفين فحسب، بل إنه لم يكن كذلك مفكرا على مستوى مرتفع ويقاتل مع رفاقه كما تدربوا على القتال. ومن الواضح أنه لم يكن البتة مبتكرا، ولم يألف قط أن ينظر إلى العالم باعتباره متغيرا، ولم يألف بالتأكيد أن ينظر إليه باعتباره متقدما. وكان جوانفيل من ناحية أخرى بشكل واضح أيضا رجلا معقولا عمليا، يحسن معاملة زملائه، لا تظهر فيه البتة تلك الصفات الخلابة التي أصر الرومانتيكيون في القرن التاسع عشر على وجودها في العصور الوسطى. تجد عنده - كما تجد عند أكويناس في ميدان آخر - إحساسا بالتوازن، يناقض تماما ما تعلمناه في كثير من الأحيان عن العصور الوسطى.
وقد خدم جوانفيل في حرب صليبية مع لويس التاسع، الذي لقب فيما بعد بسنت لويس. وكان يقدس ذكرى الملك الذي قال عنه: «إنه كان يحب الحق إلى درجة تجعله حتى عندما يتعامل مع العرب لا يرتد عن كلمته.» غير أن لويس المقدس لم يستطع أن يسوق هذا الشاب معه إلى الفضيلة المطلقة التي تتعلق بالعالم الآخر. وفي عبارة مشهورة يحدثنا كيف أن الملك استقبل راهبين، وشرع يحدثه عن الدين قائلا: «قال الملك: إني أسألك الآن أيهما تفضل: أن تكون أبرص ، أو أن ترتكب ذنبا بشريا؟ وأجبته - وأنا ذلك الرجل الذي لم يكذب عليه قط - إني أوثر أن أرتكب ثلاثين ذنبا بشريا على أن أكون أبرص. ولما رحل الراهبان، استدعاني منفردا، وأجلسني عند قدميه، ثم قال لي: ماذا قلت لي منذ لحظة؟ وذكرت له أني ما زلت أقول نفس القول. فقال لي: لقد كنت تتكلم كالمجنون؛ لأنه ينبغي لك أن تعرف أنه ليس هناك أبرص أقبح من رجل يرتكب إثما بشريا؛ لأن الروح في حالة ارتكابها الإثم البشري تكون كالشيطان، ولذلك فلا يمكن أن يوجد أبرص في مثل هذا القبح. ومن الحق في الواقع أن الرجل عندما يموت يشفى جسده من البرص، ولكن الرجل الذي ارتكب إثما بشريا لا يعرف عندما يموت إن كان في حياته قد ندم ندما يجعل الله يعفو عنه. ولذلك وجب عليه في الواقع أن يخشى دوام هذا النوع من البرص معه ما دام الله في فردوسه. ومن ثم فإني أرجوك رجاء حارا أن تعود قلبك من أجل محبة الله ومحبتي أن يؤثر إصابة بدنك بأي شر من الشرور بسبب البرص أو غيره من الأمراض على أن يحتل روحك إثم بشري.»
وكان الاتزان - كما هي الحال دائما في تاريخ الغرب - وجيزا غير ثابت. كانت الفروسية أسلوبا من أساليب العيش يتأثر سريعا بالمبالغة. ولم تأخذ البتة صفة الشيخوخة الموقرة. وسرعان ما حلت بثقافة الفروسية هذه، التي لم تتحل بفضيلة الشيخوخة، تلك الشكلية، وذلك التقليد الأعمى، وجمود الدم في شرايين الفكرة المستحدثة، مما يلحق بكل ثقافات الغرب، وما تعلق بهذه الثقافات. ومن الواضح ومما يلفت النظر أن القتال الذي ربما كان فيما سبق مبررا لوجود طبقة إقطاعية مميزة، كما يفسر وجودها كذلك، من الواضح أن هذا القتال بدأ بظهور الجيوش المحترفة المأجورة الحديثة في القرن الرابع عشر يتحول إلى لهو صريح. وبهذه الصفة تحول إلى مباراة مملة شديدة التعقيد، تعرف في الفروسية بالمبارزة. وأخذت قواعد هذه المبارزة تزداد تعقيدا، وأسلحة الدفاع تشتد قوة، حتى لم يكن أحد في النهاية يصاب بأذى بدني، بالرغم من وقوع الحوادث.
ولم تكن نظرة الفروسية إلى الحب والنساء - حتى في أشد عهود الفروسية اتزانا - إعزازا للفكرة التي يمليها العقل؛ إن كان هناك في مثل هذه الأمور عقل.
إننا كلما ازددنا في القرن العشرين علما بالشعوب غير الغربية أدركنا أن ما نسميه - وهي أفضل تسمية - بتقاليد الحب الخيالي، إنما هو في كثير من نواحيه من خصائص مجتمعنا وحده؛ فإن الصينيين والهنود وشعوبا كثيرة أخرى لا تشترك معنا فيه. وهذه التقاليد - حتى في الغرب - أبعد ما تكون عن الثبات، وربما كانت اليوم سريعة التغير، ولكنها تقاليد معقدة، عميقة الجذور، لها صور محلية متعددة، وكثير من الأصول المعقدة. والمسيحية قطعا أصل من هذه الأصول.
وهناك أصل آخر له أهميته القصوى يتمثل في الصور المختلفة التي أدخلتها الفروسية في العصور الوسطى. ولا نستطيع اليوم حتى أن نقرأ عبارة معتدلة عن مثل الحب الرقيق ووسائله كما وردت في «قصة الفارس» لشوسر، دون أن ينتابنا شعور غريب. في هذه القصيدة يقع رجل وابن عمه، وهما بالامون وأركيت، وهما فارسان من طيبة وقعا في الحرب في أسر دوق أثينا (ولم تهتم العصور الوسطى كثيرا بالدقة التاريخية) في حب أميلي الحسناء، التي لا يكادان أن يلمحاها من داخل السجن. وفي خلال سنوات عدة قضياها في السجن وخارجه، ينشب بين ابن العم - بالرغم من ارتباطهما بصلة الدم وشرف الفروسية - نزاع مميت على أميلي، ويحدث كل هذا دون أن يتعرفا إليها، ودون استجابة منها.
وتعلم الفتاة أخيرا بالتنازع على حبها، ولكنها - كما يصور الشاعر - تدعو ديانا في الليلة السابقة للمبارزة العظمى بين بالامون وأركيت التي ينظمها الشاعر في نهاية الأمر، فتقول:
أيتها الربة الطاهرة،
اشهدي أني أحب أن أبقى عذراء طوال حياتي،
لن أقع في حب، ولن أصير زوجا،
أشهدك أني سوف أكون من زمرتك،
فتاة، يطاردني الحب، وعني أبعده،
أهيم في الأحراش،
لا أتزوج، ولا أحمل طفلا،
ولن أعرف قط صحبة الرجال،
ساعديني، سيدتي،
فأنت تستطيعين وأنت تقدرين،
ولديك جميع الصفات،
هناك بالامون يواجهني بحبه،
وهناك أركيت يحبني بكل قلبه،
وهذا دعائي إليك يكفيني.
كوني عليهما بردا وسلاما،
واصرفي عني قلبيهما،
وخففي ما عندهما من عشق وحب،
وما يكابدان من عذاب ونار،
أو وجهيهما وجهة أخرى،
فإن كنت لا تستجيبين للدعاء،
وإن كان لا مفر من القدر،
وإن كان نصيبي واحدا منهما،
فابعثي إلي بأشدهما حبا لي.
انظري أيتها الربة النقية الطاهرة،
هذه دموعي تنحدر حارة على خدي،
أنت عذراء، ونحن في رعايتك،
فاحفظي لي عذرتي وتعهديها،
وما دمت عذراء فأنا في خدمتك.
ويزل حصان أركيت في وثبته، ويموت الرجل من جراحه. ويحظى بالعذراء بالامون.
هذه قصة خيالية معتدلة. ويسخر شوسر في قصة أخرى من «قصص كانتربري» عنوانها «نظم سير توباز»، وهو هنا يتهكم على الخيال الأدبي. وهو حتى في «قصة الفارس» لا يعدو أن يكون ساخرا في شعره من حقيقة الحب الرقيق. وكان غيره أقل منه ارتباطا بهذه الأرض. ومن ثم فإن العشاق في خيال العصور الوسطى كانوا يكابدون كل ما يمكن تصوره من أهوال ومحن، ويسترسلون في صفوف مختلفة مجردة، بل ميتافيزقية، من ضروب الصراع الذي يمكن أن ينشب بين الواجب، والشرف، والحب، ويتمسكون بالفضيلة كما يتمسك الشهيد المسيحي بعقيدته. وفي صورة غامضة باهتة يتوقع المرء أن تكون وراء هذا كله فكرة ما عن الاتصال الجنسي. ولكن ربما يكون الأمر كذلك - وربما لا يقحم هذه الفكرة إلا عصرنا الفرويدي. ومع ذلك فمن الإنصاف أن نقول إن الفروسية بذلت جهدا جادا وناجحا في أغلب الأحيان لتتحكم في ظاهرة من ظواهر النشاط البشرى، تسيل - في الطبقة المتميزة خاصة - إلى ألا تخضع للتحكم، وإلى أن تنتهي إلى نوع من الفوضى التي تقضي على النظام الذي تحتاج إليه مثل هذه الطبقة. كانت الفروسية تتضمن بحكم نظامها تساميا حقا بدوافع غاية في القوة - تساميا يحس الكثيرون ممن لا يكتفون ببث الرعب في النفوس أنه معدوم في الغرب الحديث.
ومهما يكن من أمر فإن تقليد الحب الرقيق قد طبع ثقافة الغرب بطابعه، ووضع المرأة على قاعدة مثالية تجد اليوم مشقة حتى في أن تتظاهر بملاءمتها. وفي النضال الأبدي بين هذا العالم والعالم الآخر المثالي الذي يعد بالتأكيد من حيث قوة أثره خصيصة من الخصائص الفذة في الثقافة الغربية، اتخذ الحب الجنسي - بفضل المسيحية والعصور الوسطى - جانبا يميل إلى العالم الآخر. وأرجو ألا تخطئوا فهم ما أقول؛ فحتى الإغريق القدامى قد عرفوا الحب بين الرجل والمرأة، وكذلك من الواضح أن شعوبا كثيرة حديثة لم تأخذ بعد بالتقاليد الغربية كاملة. وقد عرفته، ولكنهم لم يعرفوا «الحب الخيالي» المستحيل الذي لا يرتبط بهذه الدنيا، الحب المثالي الذي لا يعرف الفراش، الحب الذي يتجاوز المحبة، بل إننا لا نعرف اليوم هذا الحب الخيالي كما عرفه أسلافنا في القرن التاسع عشر، ولكنه ترك أثره اللاواقعي فينا - وبخاصة في هوليوود.
وهناك أمور كثيرة أخرى تتعلق بالفروسية بعدما تدهورت أو زاد نضجها مما يستحق الالتفات إليه - من ذلك الضعف العاطفي الذي تحولت إليه فضيلة الفروسية التي تدعو إلى احترام الأدنى والضعيف ومنكود الحظ، ومن ذلك أن شدة التطلع إلى كل ما هو عجيب قد نمت حتى بدت الوحوش الخيالية أمرا طبيعيا، ومن ذلك أن الفروسية أمست نوعا من الحماية لشخص النبيل ضد نفوذ أصحاب الأموال والتجار وأرباب البنوك الآخذ في النمو. وليس بوسعنا هنا أن نتوسع في أكثر من نقطة إضافية أخرى، ربما كانت بالنسبة إلى الفروسية بأسرها أكثر أهمية من الدين والحب، وهي بالتأكيد أكثر أهمية بالنسبة إلى تدهور الفروسية، وأعني بها فكرة الشرف. فإذا كانت الفروسية الأولى تبدو في أساسها قانونا يحاول أن يخضع الفرد للمجموعة، وإذا بدت كأنها في كثير من النواحي تجعل الرجل المقاتل عضوا في فريق، إلا أنها - بالرغم من ذلك - تؤكد بشدة أهمية الفرد، على تباين في ذلك مع نظام إسبرطة. كان الفارس دائما على وعي شديد بشرفه، وبنفسه كفرد، وهو الحكم النهائي فيما يلائم وما لا يلائم كرامته. وفي السنوات الأخيرة من الفروسية كان كل أمر يتركز حول فكرة الشرف، وبات الفارس شخصا حساسا إلى درجة هستيرية ، منقطع الصلة عن عالم القيم العادية، حتى تأهب في الواقع لذلك الوصف الذي صوره فيه سرفانتيس. وربما لم يكن من المصادفة أن الأمة التي غالت أرستقراطيتها في الشرف، وأعني بها أمة الإسبان، هي التي أخرجت في «دون كيشوت» كتابا يعد في أكثر أنحاء العالم هجوما قاتلا على مثل الفروسية.
الفروسية هي إحدى تلك المركبات الكبرى - أو المجموعات - من الأفكار، والعواطف، والعادات - شأنها في ذلك شأن الرومانسية، أو الديمقراطية، أو الجماعية - التي تتحدى فينا الإدراك. ومن الطرق المفيدة في معالجة مثل هذا التحدي أن نوازن بين مركب من هذه المركبات ومركب آخر، بينهما شيء مشترك. والفروسية من غير شك تشترك مع المسيحية في شيء ما، بل إن الفروسية الأولى هي إلى حد ما محاولة إلى مسح جماعة من المقاتلين الوثنيين البدائيين بمسحة المسيحية. وطقوس رسم الفروسية تكون جانبا من طقوس المسيحية. والفارس كصليبي كثيرا ما يكون الفارس في أحسن صورة له. والواقع أن الصليبيين قلما كانوا من القديسين - وربما بدا جوانفيل - ذلك الصليبي الذي التقينا به منذ حين - الرجل المثالي أقرب إلى الوثني منه إلى المسيحي. ومع ذلك فإن إحساس جوانفيل بالشرف والواجب، وضميره، وإدراكه بأنه قد يكون هناك من الناس قديسون، كل ذلك من مميزات المسيحية - المسيحية العملية، البطولية التي تمارس كل يوم.
وحتى في الحدود المتطرفة من مثالية الفروسية، في الحب الرقيق وفي شرف الفارس، نستطيع أن نحس باللمسة المثالية، بالتجاوز عن المحسوس، وهو ما لم تتخل عنه المسيحية قط. غير أنا إذا وضعنا الفروسية في الميزان وجدناها إحدى القوى الاجتماعية التي كانت تميل إلى هدم المسيحية. فإذا كان من الدوافع الكامنة في المسيحية محاولة إخضاع النفس، وإذا كان التواضع هو حقا من الأهداف الكبرى في الحياة المسيحية، فإن الفروسية إذن لم تكن مسيحية للغاية. الفروسية في أعلى درجات الإيثار فيها لا تزال تشير إلى ذات الفارس، وتجعل من المنافسة في سبيل الشرف وفي سبيل التظاهر عملا يعتبر من الفضائل الاجتماعية. وفي مستواها العادي تشحذ الذات في نضالها مع العالم. وفي تدهورها تمجد في شرف الفرد تركيزه في نفسه تركيزا كثيرا ما يكون هستيريا، وغرورا يحمل صاحبه الهم، وهو غرور انحصر في الأغلب في طبقة المثقفين في الغرب. ولكن الفارس في عهد الفروسية المتأخر كان مثقفا على كل حال. ألم يكن كذلك دون كيشوت؟
والخلاصة أن الفروسية كانت أسلوبا من أساليب العيش في الطبقات العليا من الغرب في العصور الوسطى، تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه الرواقية كأسلوب للحياة بين الطبقات العليا في العالم الإمبريالي الإغريقي الروماني. وبطبيعة الحال لم يكن البارون العادي شبيها بدون كيشوت، أو حتى ببلامون وأركيت إلا بمقدار ما كان الموظف الروماني العادي شبيها بزينو، الفيلسوف الرواقي. ومن أجل ذلك استعملنا عبارة «أسلوب من العيش»، في كلتا الحالتين. غير أن درجة التطرف - أو المثالية إن شئت - تؤثر في الرجل المتوسط بطريقة ما من حيث السلوك البشري بين الجماهير؛ فكان الكونت أو البارون، ووكيله والرهبان المجدون والأساقفة الذين كانوا يدبرون جانبا كبيرا من حياة العصور الوسطى، يمثلون حتى في اتجاهاتهم العملية بعض الأهداف التي رسمتها الفروسية، كما تمثل الفروسية ذاتها بعض نواحي نشاطهم المألوفة. إن التباين بين النظري والعملي، بين إخلاص الفارس لربه، ولسيدته، ولواجبه، وانكبابه على القتال، والمقامرة، والصيد، وممارسة الحب، أو لما يزال في الحقيقة أشد ما ينكب عليه الرجل، هذا التباين كان يسري خلال الحياة كلها في العصور الوسطى. وفي هذه العصور كان الفارس في صراع مع ضميره في كثير من الأحيان كلما أدرك أن هذا التباين أمر لا مفر منه. وفي هذه العصور كان الفارس في حركة لا تستقر، مزهوا بفرديته، وهي صفة الكفاح التي يكاد أكثر المحدثين أن يحسها في العصور الوسطى، حتى عندما يصرون على أن تلك العصور كانت تتميز بالاستقرار والاتزان الهادئ.
ولا بد للمرء أن يقفز مباشرة من ثقافة الطبقات الحاكمة في العصور الوسطى إلى ثقافة الشعب. وليس من الحق أنه لم تكن هناك طبقة وسطى في العصور الوسيطة؛ فقد كان التجار، وأصحاب المشروعات، وأرباب البنوك، يتزايدون في العدد والأهمية وبخاصة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. غير أن أسلوب معيشتهم، وآراءهم، كانت تتشكل في بطء على صورة تبتعد عن الطرق العامة التي كان يسلكها غير النبلاء، ويجدر بنا أن نؤجل إلى فصل قادم تحليل ما كان يعنيه ظهور طبقة متوسطة حاكمة في تاريخنا الفكري.
كانت الأغلبية العظمى من السكان في الغرب في العصور الوسطى من الفلاحين. وكانت مدن التسويق الصغرى، بل والمدن القليلة الكبرى - ومنها باريس، ولندن، وفلورنسة - مساحات مدنية محاطة بالأسوار، تقع المزارع عند مداخلها. وكانت على صلات دائمة بالفلاحين المجاورين الذين كانوا يستمدون أكثر مواد غذائهم منهم. أما أرباب الحرف فكانوا يقطنون القرى أو المدن، وقد ينفقون نصف أوقاتهم في الزراعة. وإذن فقد كانت هذه الثقافة الشعبية بسيطة، ثابتة نسبيا، واضحة محددة المعالم، ينقصها ذلك التعقيد السطحي الغامض العجيب الذي نلمسه بين الجماهير الساذجة في مدننا الحديثة الكبرى، ولكنها لم تكن البتة ثقافة بريئة. والواقع أن المرء ليدهش حين يطلع على القطع المنظومة الفرنسية وعلى غرائب الشواهد التي تشف عن أحاسيس الجماهير في العصور الوسطى، من تلك الواقعية الصارمة الدنيوية، وذلك الإعجاب بالماكرين، وأولئك المخادعين الذين يغررون بالسذج من الناس، ومن التشكك في اللفظ الرقيق والمهن الرفيعة. إن هذه الصفة الريفية الدائمة في العصور الوسطى لا بد أن تذكر؛ فهي تشير مرة أخرى إلى حدود الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى تمثل أسلوبا من العيش مسيحيا، ثابتا، وقورا.
لا بد أن نتوقع الكثير من الخشونة في هذه الثقافة، وقد كانت هذه الخشونة موجودة فعلا. وحتى فيما خلفه شوسر نجد الألفاظ ذات المقطع الواحد التي يعرفها كل إنسان إلى جانب لغة المثقفين - على الأقل - عندما كان يجعل أحد العامة يتكلم. وكما كانت «قصة الفارس» لشوسر مرآة صقيلة تعكس الفروسية من بعض جوانبها، فكذلك كانت «قصة صاحب الطاحون» انعكاسا أدبيا رائعا لبعض جوانب الذوق الشعبي. إنها قصة عامة هزلية فاجرة، يستخف فيها تماما بأروع أساليب الفولكلور بالزوج الغبي الغيور. إنها أبعد ما تكون عن المسيحية حتى إن المرء لا ينظر إليها قط من حيث علاقتها بالمثل المسيحية. ولكنها موجودة مع ذلك، وصاحب الطاحون الذي يرويها في طريقه إلى معبد كانتربري كي يؤدي الصلاة كما يؤديها رفاقه، الفارس الرقيق، وقسيس أكسفورد الرحيم، وزوجة باث صاحبة القلب الحار، وصاحبة الدير التي تلمس فيها الخروج على المسيحية بصورة خفية، وغير هؤلاء من حجاج كانتربري الذين قد تجد اليوم نظراء لهم يتجمعون للقيام برحلة إلى «الحجر الأصفر».
والظاهر أن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريبا في ثقافتنا الغربية. وهناك فيما يتعلق بمثل هذه الأمور كل صنوف مشكلات الذوق الشائقة. وربما كانت هناك في بعض العصور، كالعصور الوسطى، بساطة على طبيعتها مما لا يجده المرء عندما تختفي تقاليد التهذيب من الطبقات المحتشمة. وما كان مجرد خشونة في العصور الوسطى قد يصبح أدبا بذيئا في الأزمنة الحديثة. غير أن هذه المسائل شائكة، وليست لدينا البتة لحلها وسائل تجمعت على مر العصور. ومهما يكن من أمر فالظاهر أن الميل نحو الفحش في الطبيعة البشرية ميل ثابت، لا يمكن لأية ثقافة مهما تعمقت في التفكير أن تمحوه، أو حتى أن تنجح في كبته.
وبعض هذه الفكاهة البذيئة كان يوجه إلى القسس ورجال الدين. وأقول مرة أخرى إننا إن أردنا صورة متزنة فلا بد لنا من أن نأخذ في الاعتبار ما يجب أن نسميه الحركة الشعبية المعادية لرجال الدين في العصور الوسطى. وهذا الميل المنتشر نسبيا لم يكن في العصور الوسطى في أغلب الأحيان ذلك البغض المرير الذي ظهر في القرن الثامن عشر، بل لقد كان في كثير من الأحيان فكها، بل وينم عن طبيعة طيبة، والظاهر أن بعضه كان يسر رجال الدين أنفسهم. ولا يزال زوار الكنائس الفرنسية التي شيدت في العصور الوسطى يطلعون على نقوش منحوتة في جوانب مقاعد المرتلين، أخذ فيها على ما يظهر النقاش حرية كاملة؛ لأن كثيرا منها يعبر عن تفصيلات شخصية سارة في الحياة اليومية تبدو لنا - إلى حد ما - في غير موضعها في الكنيسة كما يرد كثيرا في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع، والقسيس الفاسق، والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا. وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين باستثناء قسيس أكسفورد، وقد كان شوسر يعرف بالتأكيد ما كان يدور في خلد العامة. كان رجال الدين يحملون عبء الضعف البشري كاملا على عواتقهم.
ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام. ولم يقصد إلى تحدي بناء المسيحية الفلسفي والديني - أي نظرتها الشاملة إلى الكون - كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين. إن القطع المنظومة الفرنسية، والفلاحين وأرباب الحرف بكل تأكيد، لم يشكوا في وجود الله، أو في الحاجة إلى حضور القداس، بل ولا في مجموعة الخرافات المعقدة التي نمت في المسيحية الشعبية في العصور الوسطى. وربما تلمس أحيانا في هذا الاتجاه المعارض لرجال الدين في العصور الوسطى روح البغض للكنيسة باعتبارها مؤسسة غنية تستغل الفقير، وهو ما سوف نعود إليه بعد حين، ولكن المرء في أكثر الأحيان يحس أن الرجل في الحياة العامة في العصور الوسطى كان لا يثق بالقسيس إلا لأن القسيس بعزوبته، وفقره، وتواضعه، وبعبء مثله المسيحية كلها، كان يبدو إنكارا للإنسانية العامة. وقد أخذ الرجل في العصور الوسطى عن تعاليم المسيحية شيئا من عدم الثقة بإنسانيته العامة فحد ذلك من فكاهته عندما كان يسمع بالفتاة التي هربت إلى الدير في سلة الغسيل. كان الرجل في العصور الوسطى ينظر إلى القسيس - وإن يكن من ناحية واحدة فقط من نواحي تفكيره - كما ينبغي فقط أن يكون، أو متخلفا قليلا في رجولته. ولكنه كان من ناحية أخرى من نواحي التفكير - ينظر إلى القسيس باعتباره وكيل الله على الأرض، يمثل الاحترام، والقوة ، رجلا يدعو إلى الإعجاب، رفيع الشأن على وجه العموم؛ فكان الرجل في العصور الوسطى باختصار يحس نحو القسيس والكنيسة ما يشبه الشعور الغامض الذي يحسه الأمريكي المتوسط نحو الأساتذة والتعليم.
وإنا لنضل كثيرا إذا حسبنا الجماهير في العصور الوسطى مجرد سائمة، ليس لها مثل عليا البتة. وقد بينا في وضوح من قبل أن عامة الرجال والنساء من الجماهير في العصور الوسطى، كانت تشترك في ميراث المسيحية المشترك بالرغم من نقص تعليمها، والافتقار إلى الطباعة، وغير ذلك من الأجهزة الحديثة لنشر الثقافة. وكان هذا الميراث يدعو إلى العصيان إلى حد ما، كما كان جهدا متجددا لتحقيق جانب أكبر، على الأقل، من المثل المسيحية، في هذه الدنيا وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه. وهذه المثل - كما ذكرنا من قبل - كانت ولا تزال معقدة متعددة الجوانب تعقيد الثقافة الغربية وتعدد جوانبها. وكان في كثير من الثورات الشعبية في العصور الوسطى، بل وخاصة في الحركات الدينية، مثل الفرنسيسكان، عنصر مما نسميه اليوم الاشتراكية، أو الديمقراطية الاشتراكية. وبالطبع لم تكن الثورات الشعبية الوسيطة من وحي المثل الماركسية، إنما كان الثوار يريدون العودة إلى الفضيلة والبساطة المسيحية الأولى. وليس من نسبة الظواهر إلى غير زمانها إن نقول إن الناس في الغرب لأكثر من ألف عام ممن كانوا يسعون إلى تحقيق مساواة اقتصادية واجتماعية أكبر، ويحاولون أن يحطموا مجتمعا من طبقات تتميز إحداها عن الأخرى - أولئك الثائرون الاجتماعيون في إيجاز - إن هؤلاء الناس كانوا يدعون إلى ما يعتبرونه التقاليد المسيحية الصادقة، وليس من شك في وجود عنصر المساواة في المسيحية التاريخية.
ومن الطبيعي أن يستخدم الناس في العصور الوسطى لغة الدين لتبرير ثورتهم. وأشهر ثورات العصور الوسطى في الشعوب التي تتكلم الإنجليزية تلك الحركة المتأخرة في القرن الرابع عشر التي ترتبط بوات تايلر، وأحد قادتها جون بول، أحد القسس، ولا يزال شعارها باقيا في كتب التاريخ، وهو: «أين كان الرجل المهذب عندما كان آدم يحرث الأرض وحواء تنسج الثياب؟»
ولسنا بحاجة هنا إلى أن نشغل أنفسنا برواية تاريخ هذه الحركة أو تلك من الحركات الاجتماعية في العهد المتأخر من العصور الوسطى، مثل حركة جاكري في فرنسا، أو حرب الفلاحين في ألمانيا في عهد لوثر في القرن السادس عشر، التي يمكن أن تعتبر آخر هذه الحركات الوسيطة أو أولها في العصر الحديث. والواقع أن حرب الفلاحين أقرب إلى العصور الوسطى في كثير من النواحي منها إلى العصر الحديث. ولم تنجح إحدى هذه الحركات في الظاهر أمدا طويلا. وجميعها في نظر الباحث الاجتماعي في الثورات ثورات غير ناضجة. ولكنها مع ذلك شائقة بالنسبة إلى الضوء الذي تلقيه على فشل المجتمع الطبقي الذي ساد في العصور الوسطى، أو في أواخرها على الأقل، فشله في مقابلة حاجات الطبقات الدنيا، وهي تؤكد مرة أخرى العناصر الثورية الكامنة في العقيدة المسيحية، وهي أمثلة طيبة لانتشار الأفكار في مجتمع يجهل القراءة والكتابة نسبيا. وهي كذلك مليئة بالعنف والقسوة، من جانب الثوار والمدافعين عن النظام القائم الفائزين في نهاية الأمر، على السواء. ومن العسير أن تثبت أن قسوة الإنسان على الإنسان كانت أشد في إرهاب عام 1794م منها في حركة جاكري في فرنسا في القرن الرابع عشر، كما كانت أشد من الفتك بالناس الذي حدث في الأربعينيات من القرن العشرين منها في حرب الفلاحين في العشرينيات من القرن السادس عشر في ألمانيا.
لم يوجد في تلك العصور رجل نظري أو أيديولوجي مفرد، لم يوجد شبيه لروسو، أو ماركس. بل كانت تلك الحقبة من التاريخ تستمد الكثير من أفكارها من المثقفين - قسسا كانوا أم رهبانا - الذين كانوا هم إلى حد ما قواد الحركة. ويصدق هذا بصفة خاصة على رجل مثل وايكليف في إنجلترا، وهو عالم مدرب، وأحد الرجال العديدين المعروفين باسم: «خاتمة العلماء»، وقد كتب في أواخر حياته مذكرات بالإنجليزية بدلا من اللاتينية الأكاديمية، ونقل الإنجيل إلى الإنجليزية. ولكن حتى زعماء هذه العصور الأقل درجة في الثقافة كانوا على علم بالكثير من الميراث الثقافي الوسيط. والواقع أن هذه الحركات المتأخرة، كحركات الإصلاح الرومانتيكية القديمة، والزندقات الشائعة القديمة، وحركة البيوريتان في بيدمونت ودو فيني وبروفانس، وحركة الهرطقة التي سادت جنوبي فرنسا واضطهد أصحابها لانتقادهم مفاسد الكنيسة، وما شابه هذه الحركات - كل هذه الحركات كان لا يزال يدور حول الدراما المسيحية العظمى، وكلها هرطقات مسيحية بمعنى من المعاني. ومن المبالغة في تبسيط الأمور أن نقول إن الموجة الكبيرة الأولى من الهرطقة، موجة المعرفة الروحية، والآريين، وغيرهما، في القرنين الثاني والثالث، كانت في أساسها دينية وفلسفية، وإن الموجة الثانية من حركة الهرطقة الفرنسية التي ذكرناها إلى ثورة لوثر التي نجحت في النهاية كانت في أساسها اجتماعية واقتصادية. إنك لا تستطيع أن تقسم الحركات التي تقوم على أساس جميع الحاجات والقدرات البشرية تقسيما واضحا كهذا. ولكن هذه الثورات التي نشبت في العصور الوسطى كانت برغم ذلك تتجه نحو هذه الدنيا بشكل واضح. إنها تستخدم ألفاظ الديانة المسيحية، وهي في بعض أشكالها تنم عن العقيدة الجازمة في ألف عام سعيدة وهي من العقائد المسيحية، ولكنها في أكثر الأحيان لا تتوقع ظهور المسيح فعلا للمرة الثانية. إنها ترمي إلى إعادة توزيع الثروة في هذا العالم، وإلى إذلال الغني والمتكبر، وإلى تطوير العالم المنظم تنظيما بالغا في العصور الوسطى على أساس الطبقات الاجتماعية تطويرا أساسيا. وهي تفشل في غرضها الأساسي، وهو حل مشكلة الفقر، ولكنها تحطم المجتمع الإقطاعي - في غرب أوروبا على الأقل - شيئا فشيئا، وبمعونة ظهور اقتصاد أساسه العملة وظهور طبقة وسطى، كما سوف نرى في الفصل القادم.
وقد اتجه وايكليف وأتباعه، قسس «لولارد» الفقراء (ويسمون أصحاب السر) رأسا إلى الناس، وبقصد أو بغير قصد أثاروهم نحو ثورة الفلاحين. وقد أخمدت الحركة باتحاد الطبقات القديمة صاحبة الامتياز أصحاب الثراء المحدثين. وليس هذا على أية حال هو النمط الوحيد لمثل هذه المحاولات الوسيطة للاتجاه نحو الناس. فإن من بين الحركات الشعبية الوسيطة الرائعة حركة الإخوان الفقراء في القرن الثالث عشر. وأذكر هنا مرة أخرى أن النظم الكبرى، نظم سنت فرانسيس وسنت دومينيك، إذا رئيت من الخارج، ومن وجهة نظر المذهب الطبيعي التاريخي، تمثل نمطا آخر من عمل الكنيسة في وجه القلق الشديد الذي استولى على الجماهير.
والنمط الذي نشير إليه كان في إيجاز وبساطة على هذه الصورة، كان التطور في الظروف الاجتماعية، وأي تدهور في النظام السائد والترتيب القائم، كحدوث الحرب والمجاعات والأمراض على غير انتظار، وحركات الاضطراب بين أعداد كبيرة من الناس (كما حدث في الحروب الصليبية) والتغيرات التكنولوجية التي تجعل طرق العيش العتيقة أمرا مستحيلا (كما حدث عند الانتقال من زراعة الحبوب إلى الرعي، أو عند ظهور المدن الكبرى المتخصصة في صناعة النسيج)؛ إن كانت أية مجموعة من التطورات من هذا القبيل تبصر المقلقلين والمضطربين من الناس، بل والذين لا يجدون قوتهم أحيانا، بالهوة التي تقع بين المثل المسيحية والحياة الواقعة، ويتأثر بهذه الهوة تأثرا بالغا رجل موهوب، يكاد يكون دائما عضوا في الطبقة المميزة بحكم مولده، ويقوم مرة أخرى بدور النبي والزعيم.
ولم تكن ثمة مندوحة عن أن يكون وحي مثل هذا الرجل في العصور الوسطى، وطريقة تفكيره، على غرار المسيحية؛ فكان ينادي بإحياء الروح المسيحية القديمة التي لا ترضى أن يبقى العالم في حمأة الشرور. كان يريد للمسيح أن يعود إلى الأرض مرة أخرى، لا بالمعنى الحرفي الساذج الذي آمنت به الأجيال المسيحية القلائل الأولى، التي كانت تتوقع أن ترى المسيح بلحمه ودمه، ولكن بمعنى أن يحاول الناس أن يعيشوا كما أراد لهم المسيح أن يعيشوا، وهو نفسه - إن كان مثل فرانسيس الأسيسي - يتخلى عن مركزه الدنيوي ويحذو حذو المسيح في فقره وازدرائه لهذا العالم، عالم الجسد. إنه يعيش مع الفقراء ويجمع حوله تلاميذه الذين ينقلون بدورهم كلمة الله إلى الفقراء والتعساء، ولا يثيرون فيهم الحقد ضد الأغنياء، ولا يحدثون ثورة اجتماعية من نوع الثورة التي نربطها نحن أبناء هذا العصر بالماركسية أو الشيوعية، ولكنهم يحدثون ثورة روحية فيهم وفي جميع الناس، ثورة تعود عليهم بطمأنينة النفس عن طريق اتحادهم مع الله. ويتخذه أكثر تلاميذه وأتباعه مثالا، ويسير النظام الذي يؤسسه لفترة ما طبقا لمعاييره إلى حد كبير.
ومهما يكن من أمر فإن الحد الفاصل بين الروح والجسد صعب التحديد، فكانت العامة تميل إلى الانجذاب نحو الغايات المادية في الثورة الاجتماعية، أو تميل إلى العودة إلى قبولهم نصيبهم من الدنيا. ولكن الزعماء اهتدوا إلى وسائل أدق وأكثر تنوعا للتوفيق مع هذه الدنيا. وكان سنت فرانسيس نفسه صوفيا لا يثق بتعليل العقل، يمقت كالمجددين عالم الكتب المنظم الذي يدعي ما لا قدرة له عليه، وأراد أن يأخذ الناس عنه نظامه لا تعوقهم الملكية المجسدة ولا تفسدهم الكتب. ومع ذلك فلم ينقض عام بعد وفاته حتى كان النظام الفرانسيسي قد جمع ثروة كبرى، وكان الفرانسيسكان يشتركون اشتراكا كاملا في عالم البحث في العصور الوسطى. وقد كان روجر بيكون، الذي التقينا به من قبل كشخصية كبرى في تاريخ العلم، فرانسيسكانيا من أكسفورد.
وأما النظام الآخر الفقير، نظام الدومينيكان، فأصوله أبعد عن روح الثورة النزيهة ضد نظام المجتمع القائم من الأصول التي رجع إليها سنت فرانسيس. أحس سنت دومينيك إحساسا عميقا بنكبة الجماهير، وثار ضد فشل الرعاة المكلفين برعاية الرعية، ولكنه كان هو وإخوانه منذ البداية أقل تطرفا في التمسك بالإنجيل. وقربوا الإنجيل إلى الناس بالمهارة والحماسة في الوعظ، وأخذوا شفاء نفوسهم مأخذ الجد. وقد رسموا هم أيضا - كما فعل الفرنسيسكان - طريق التوفيق مع الدنيا، وتميزوا في السنوات الأخيرة بإخلاصهم العلمي لتاريخ الكنيسة.
وإذن فقد وجد بين شعوب العرب في العصور الوسطى - وبخاصة في نهاية هذه العصور - موقفان من الصعب التوفيق بينهما وبين الفكرة التي ترى أن هذه الجماهير كانت رعية راضية في رعاية القسيس والمحارب: الأول سيل من الفكاهة الجافة، بلغت حد الوقاحة، الفكاهة التي يروق لها أن تشير إلى التباين بين النظرية الخيالية والأداء الدنيوي، والثاني سلسلة من الثورات الشعبية، مسيحية في وحيها، يتزعمها في الأغلب القسس والرهبان، تستهدف تحقيق شيء يشبه الشيوعية المسيحية هنا فوق هذه الأرض. وبرغم هذه القوى الهدامة فقد جلبت العصور الوسطى للإنسان في الغرب درجة من الاتزان الاجتماعي، ونوعا من الأمن، يندر أن تجده اليوم في الغرب.
وقد كان مجتمع القرية أو المدينة في أحسن أيام العصور الوسطى حقا مجتمعا أقامت فيه التقاليد، يعززها سلطان الدين، شبكة من الحقوق والواجبات المتبادلة، يستطيع كل امرئ - من الرقيق إلى السيد الإقطاعي - أن يجد ذلك الأمن الذي يأتي به العلم بأن لكل امرئ مكانته، أو وضعه، وسط مجموعة منظمة من قواعد السلوك تقوم على فكرة دقيقة عن الكون ومكانة الإنسان فيه. ولم يقرأ الفلاح بطبيعة الحال أكويناس. غير أن شيئا من أكويناس، ومن فلسفة الكون كلها في العصور الوسطى، تحدر إلى الفلاح. وتستطيع أن ترى كيف أن هذا التوازن الاجتماعي قد اتبع تفصيلا، من زراعة المحصول إلى توزيعه، ومن قواعد توريث الأرض إلى قواعد الحياة اليومية، وفي كتب ككتاب جورج هومان «القرويون الإنجليز في القرن الثاني عشر»، وكتاب مارك بوخ الذي جاء متأخرا، وعنوانه «الصفات الأساسية لتاريخ الريف الفرنسي». ولم يكن هذا التوازن - كما عرفنا من قبل - كاملا. وسرعان ما تحطم - بظهور ما نسميه اليوم الاقتصاد الرأسمالي وبكثير غير ذلك - مما نظنه حديثا. وربما كانت أبسط الصيغ التي تعبر عن ذلك وأكثرها اعتدالا هذه العبارة: كانت الحياة في العصور الوسطى للرجل العادي في الغرب أكثر أمنا من الناحية النفسية، وأقل تنافسا، من حياتنا اليوم، بالرغم من تعرضها للكثير مما نجد فيه مشقة وتعبا. كانت حياة تكاد تخلو من الشك والارتياب الأساسي في الدين والأخلاق.
تقويم ثقافة العصور الوسطى
إن المؤرخ الذي يحاول أن يصوغ أحكاما عامة عن ظهور الثقافات وازدهارها وسقوطها (أو المجتمعات، أو الحضارات) يواجه في العصور الوسطى مشكلة خطيرة. إن التقسيم الشائع الذي يتخذه أمثال هؤلاء المؤرخين - أو فلاسفة التاريخ - في الأزمنة الحديثة هو تحديد ثقافة إغريقية لاتينية تمتد على وجه التقريب من الإغريق لعهد هومر إلى الرومان في القرن الخامس بعد الميلاد وثقافة غربية حديثة تبدأ في العصور المظلمة وتمتد إلى الحاضر (وهو الحاضر الذي يعده الكثيرون منهم أيام التدهور الأخيرة في ثقافتنا). ويعد أزولد شبنجلر الألماني مثالا طيبا في القرن العشرين لهؤلاء المؤرخين. يرى شبنجلر أن هذه الثقافات نوع من الكائنات العضوية لها عمر يبلغ نحو ألف عام، ولها طفولة، وشباب، وشيخوخة، أو ربيع، وصيف، وخريف، وشتاء. كان شبنجلر يرى أن الثقافة الإغريقية الرومانية ثقافة «أبولية»، وثقافتنا «فاوستية». غير أن هناك كثيرين، ومن بينهم المستر أرنولد توينبي، يرون القديم، أو الكلاسيكي، نوعا من الثقافة، والغربي الحديث نوعا آخر، ربما يتصل بالنوع الأول، ولكنها ثقافة منفصلة من حيث أهدافها - وذلك بالرغم من أن هؤلاء المؤرخين لا يقبلون كل آراء شبنجلر في عمر الثقافات وفي كثير غير ذلك. وإذا أخذنا بهذا الرأي كانت العصور المظلمة هي طفولة ثقافتنا الحديثة، والعصور الوسطى شبابها؛ أي إن العصور الوسطى - بعبارة أخرى - ليست ثقافة في حد ذاتها. في حين أن كثيرين ممن تعمقوا دراسة العصور الوسطى ومن بينهم أكثر عشاق هذه العصور من المحدثين، يرونها ثقافة في حد ذاتها - إن جاز هذا التعبير، وليست مجرد مقدمة لثقافتنا. وهم يرون أن العصور الوسطى قد بلغت أوجها في القرن الثالث عشر، ثم تدهورت في القرنين التاليين. وأولئك من بينهم الذين يمقتون العالم الحديث أشد المقت يحسبون هذا التدهور مستمرا إلى الحاضر، ولا يرى المستر بتريم سوروكين - مثلا - سوى نقطتين اثنتين ثقافيتين مرتفعتين في تاريخ العرب - أثينا في القرن الخامس، وغرب أوروبا في القرن الثالث عشر. ويضع غيرهم المحدثين في القمة، التي يميلون اليوم إلى أن يردوها إلى القرن التاسع عشر.
إن تنوع الصور الذي تتضمنه أية محاولة لقياس الارتفاع والانخفاض في حياة الجماعات البشرية معقد إلى درجة يتعذر معها تحقيق الدقة أو حتى الاتفاق في دراسة هذه الصور. ومن الواضح أننا هنا نعالج المعرفة اللاتراكمية. غير أن الجماعات لها من ناحية أخرى ارتفاعها وانخفاضها. وإنكار هذه الحقيقة يجرد التاريخ من كل معنى من المعاني.
ومن العقبات الأولية في دراسة المجتمع الغربي أن هذا المجتمع لم يكن قط وحدة «سياسية»، اللهم إلا لفترة وجيزة في عهد الإمبراطورية الرومانية. كان هذا المجتمع ينقسم سياسيا إلى مجموعات مستقلة - هي المدن الحكومية، أو الولايات الإقطاعية، أو الدول القائمة على القوميات - وقد مرت بهذه الوحدات فترات من الازدهار والاندحار. ولما كانت روما في أوجها كانت أثينا مجرد مدينة جامعية. وكذلك إسبانيا هوت إلى مكانة تافهة بعدما بلغت القمة في القرن السادس عشر. وأي صحفي يشعر الآن بالحرية في وصف فرنسا بأنها دولة من الدرجة الثانية، بعد ما كانت في وقت من الأوقات توصف بأنها «الأمة العظيمة». ثم إن تنوع النشاط البشري يشكل هنا مشكلة من المشكلات. ذلك أن «ازدهار» حضارة ما ليس ثمرة زهرة واحدة، وإنما هو ثمرة كائن عضوي معقد. وقد تزدهر بعض أنواع النشاط البشري في مجتمع معين ويذبل غيرها، وقد يبدو نوع من أنوع النشاط أشد دلالة من غيره كناحية من نواحي الثقافة، وقد يزعم زاعم أن القمة الثقافية التي بلغتها إنجلترا الضئيلة لعهد إليزابث كانت أعلى من القمة التي تسنمتها بريطانيا الغنية القوية في أيام فكتوريا. وقد انتشر التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي عرفه المجتمع الغربي انتشارا واسعا في القرنين الأخيرين، حتى لقد بات مستوى المعيشة في إسبانيا المنهارة في القرن العشرين أعلى منه بالتأكيد في إسبانيا لعهد سرفانتيس، ولوب دي فيجا، والكنكستادور. ويكاد الكل يجمع على أن القمة الثقافية في ألمانيا من باخ وكانت وجيته إلى الأعمال العلمية والدراسية العظمى التي قامت بها الجامعات الألمانية في القرن التاسع عشر، تسبق في تاريخها القمة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي بلغتها ألمانيا في عهد وليام الثاني أو هتلر.
وبهذا التحذير نصب أعيننا نستطيع أن نعود إلى المشكلة التي بدأنا بها. ومن الممكن أن نوفق بين الرأي القائل بأن العصور الوسطى كانت بداية، أو كانت فترة الشباب، بالنسبة إلى المجتمع الغربي الحديث والرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى كانت في حد ذاتها قمة، وازدهارا، ونوعا من أنواع النضج، وذلك بالرغم من المبالغة البادية في هذا النوع من التقسيم التاريخي. وإذا أنت وجهت اهتمامك نحو التكامل السياسي والاقتصادي في الجماعات الفرعية الجغرافية في المجتمع الغربي (وأقصد بها القوميات) لاقيت نتيجتين واضحتين في تاريخنا - إحداهما - من التنوع الملموس في المدن الحكومية والقبائل والأمم حوالي عام 1000ق.م، التي كانت في حالة بدائية من الناحية الاقتصادية، مستقلا بعضها عن بعض، إلى العالم الأوحد المتحد، الغني، المركب، في الإمبراطورية الرومانية. والنتيجة الثانية من الانحلال الإقطاعي المتطرف والبدائية الاقتصادية في العصور المظلمة، إلى الوقت الحاضر ، حيث لا يوجد سوى سبعين وحدة مستقلة منفردة في العالم بأسره، وحيث بلغ التقدم الاقتصادي درجات لم تعرف من قبل، وحيث تبدو عملية التكامل هذه للكثيرين خطوة في الطريق نحو الدولة العالمية. وإذا أنت وجهت اهتمامك إلى المشكلات الصغرى وتفصيلاتها الدقيقة، كتطور نظم التمثيل النيابي، أو نمو البنوك، أو التفكير العلمي، وجدت مستوى منخفضا يكاد يكون تصدعا في العصور المظلمة، ووجدت بدايات لا تخطئها في العصور الوسطى اتصل منها التقدم بصورة ما حتى العهد الحاضر. وفي مثل هذا الضوء تبدو العصور الوسطى في وضوح شديد بداية للأشياء الحديثة.
وأما إذا أنت وجهت اهتمامك بقدر المستطاع نحو الثقافة الوسيطة ك «كل»؛ نحو ما أسميناه في ضعف ب «أسلوب العيش»، نحو الأفكار الوسيطة عن الحق والجمال ومكانة الإنسان في النظام العام، لما وسعك إلا أن تؤمن بشيء من الرأي القائل بأن العصور الوسطى تستحق باعتبارها درجة من درجات العيش أن توضع في مكانة تغاير مكانة الدرجة التي بلغناها اليوم، وإن تكن وثيقة الصلة بها بشكل واضح. إنك لا تستطيع أن تقرأ دانتي، أو أكويناس، أو شوسر، أو أن تتطلع إلى كاتدرائية شارتر، أو حتى أن تدرس مصورا مفصلا لإقطاعية وسيطة قائمة بذاتها، دون أن تحس أنك في عالم آخر. ومن الحق أن هذا العالم ربما بدا للرجل الأمريكي في القرن العشرين الذي يكلف نفسه مشقة العيش في هذا العالم وفي ذاك، عالما أشد اختلافا من عالمه عن عالم أثينا في القرن الخامس.
وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى أحكام عامة عريضة عن هذا العالم الوسيط، وإلى نبذ عن ثقافة العصور الوسطى، وإلى دلالات معينة على ذوقها أو طعمها.
فهناك أولا الوجود المباشر لما هو فوق الطبيعي، وقبول الإدراك العام له. وقد التقينا من قبل بهذا العنصر غير الطبيعي. وهناك في القرن العشرين الملايين من النساء والرجال الذين يؤمنون بالمسيحية إيمانا صادقا. وكثيرون منهم يشعرون بالإساءة الشديدة إذا نحن ذكرنا لهم أن إيمانهم أقل ولو قليلا في شدته عن إيمان أسلافهم في العصور الوسطى. ولكن المؤمنين اليوم قد أبعدوا عنهم حدود ما ليس بالطبيعي، وخضعت نواح بأكملها من حياتهم الواعية للنظم التي نحسبها طبيعية. إنهم قد يدعون الله أن ينزل عليهم ماء من السماء، ولكنهم إلى جانب ذلك يقرءون النشرة الجوية التي يعدها المختصون بالأرصاد الذين لا يعتقدون - مهما تكن دياناتهم - بأن الله يتدخل تدخلا مباشرا في هبوب الرياح الباردة. وهناك أيضا ملايين من الرجال والنساء في الوقت الحاضر، لا يدري إلا الله كم يبلغ عددهم، ممن لا يعتقدون خلود الروح البشري، ومن ثم فإن فكرة النعيم والجحيم لا تعني لهم شيئا، أو لعلها تصدم مشاعرهم فعلا. وهناك عدد آخر أكبر من هذا بكثير ممن أصبح النعيم والجحيم بالنسبة إليهم أفكارا غامضة حقا. إنهم يؤمنون بالخلود، والفردوس، والجحيم، ولكن باعتبارها أمورا بعيدة، يمكن تأجيل التعرف الدقيق إليها إلى ما لا نهاية. وقد فقدت «النار» بصفة خاصة جذوتها بالنسبة إلى كثير من أبناء العصر الحديث. وباتت في رأيهم مكانا للمذنبين المتميزين وحدهم، كما كانت النار عند الإغريق.
ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى أهل العصور الوسطى. كان الإله - كما أشرنا إلى ذلك من قبل - بالنسبة إليهم حقيقيا موجودا كالجو بالنسبة إلينا، والجنة والنار لكل امرئ، أمرا أكيدا كضوء الشمس أو المطر. وكان رجال الفكر في العصور الوسطى في أكثر الأحيان يعتقدون أن الله يحدث الأشياء على هذه الأرض طبقا لنظم معينة وضعت أساسا لصالح الإنسان - أي إن الكون في أساسه خلقي، ومن ثم فإن أمورا كثيرة معروفة ويمكن التنبؤ بها. كان إلههم إلها يعتمد عليه، بمعنى يشبه إلى حد ما ما يؤمن به العلماء المحدثون من أن الطبيعة يعتمد عليها. وكانت الجماهير تشعر بشيء من هذا الإحساس بالانتظام على الأقل بالصورة التي نسميها الإدراك العام، وإلا لتعسر عليهم أن يعيشوا حياتهم اليومية. وقد شاع بين الجماهير في العصور الوسطى، بل وبين المثقفين، بالرغم من ذلك شعور بعدم المعقولية، وعدم اليقين، و«المفاجأة» في الحياة في هذه الدنيا. ويظهر ذلك - على مستوى واضح جدا - في سيادة ما نسميه اليوم الخرافة في العصور الوسطى. ولو تعمقنا قليلا في آداب العصور الوسطى ظفرنا بمثال لما نقول - كانوا يعتقدون أن البيض الذي يوضع يوم الجمعة اليتيمة ينفع في إطفاء النيران، وأن الجنيات تجعل اللبن حامضا، وأن لمسة الملك تشفي من داء الخنازير ... إلخ ... إلخ. ومن الحق أن كثيرا من هذه الخرافات لا يزال باقيا، وأننا زدنا عليها بعضا من عندنا. غير أن امتداد الخرافة في العصور الوسطى وعمقها تجعل الخرافة في عهدنا تبدو شيئا تافها. وقد أحال انتشار العلوم بين العامة - على أقل تقدير - أكثر خرافاتنا إلى الجانب العاطفي المحض. من ذلك «لمس الخشب» على سبيل المثال. ونحن لا نعتبر هذه الخرافات - كما كان يعتبرها أهل العصور الوسطى - تفسيرا للظواهر، أو نظريات أساسية.
إن تأثير ما فوق الطبيعة (وليست الخرافة إلا جانبا تافها غير كريم منها) واضح في عمل ينبغي أن يتنبه إليه على الأقل أي فرد يحاول أن يفهم العصور الوسطى. ذلك أن الجحيم، والمطهر، والفردوس كانت بالنسبة إلى دانتي في «الكوميديا الإلهية» حقيقة، كما كانت لندن بالنسبة إلى دكنز. والجحيم - كما قيل مرات عديدة - هو أكثر الثلاثة محسوسية. كان دانتي شاعرا عظيما، ولكنه كان كذلك سياسيا ممرورا مبعدا، رأى بلده فلورنسة وإيطاليا تسير في اتجاه يثير حسه الخلقي. فألقى بخصومه في الجحيم - في كتابه - وكان ذلك عنده جزءا طبيعيا من عملية الصراع، كما كانت الانفجارات المعنوية التي يقنع بها الرجل من أتباع تروتسكي في العصر الحديث. إن صفة الوهم، التي لا يستطيع أن يتحاشاها الرجل الحديث وهو يحاول أن يعالج ما ليس بالطبيعي، لم تكن ماثلة في «جحيم» دانتي. إنه يسوق قارئه إلى جحيم يراها القارئ واقعية حتى إذا ما حاول أحد المصورين أن يرسمها بلون من عنده أزال عنها واقعيتها وجعلها أقل صدقا. وينطبق ذلك بصفة خاصة على أشهر مصوري دانتي، جوستاف دوري الفنان الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر. ولم يفلح جوستاف إلا في أن يجعل جحيم دانتي «رومانسية» كما نقول، في حين أنها لم تكن كذلك.
إلا أن الكتاب الرومانسيين في القرن التاسع عشر - وهنا يقفز إلى الذهن والتر سكوت مباشرة - عثروا على شيء كانوا يبحثون عنه في القرون الوسطى، التي أعادوا إليها سمعتها الثقافية الطيبة، وذلك الشيء الذي عثروا عليه أفسدوه بالمبالغة، ولكنه موجود، وهو النغمة الثانية التي يرن صداها في ثقافة العصور الوسطى، وينبغي لنا أن ننبه إليها الأسماع. وهي وجه آخر من قبول العصور الوسطى لما ليس بالطبيعي كأنه طبيعي. إننا نحب أن نقول إن الصدق أغرب من الخيال. ولكنا نحن المحدثين لا نعني بهذا القول أن حياتنا اليومية مليئة بالعجائب وإنما نعني - على سبيل المثال - أن من بين مئات حالات القتل الواقعية التي تقدم إلى محاكمنا لا توجد سوى حالة واحدة تنم عن درجة من الفساد البشري وعن الحيلة التي تفوق الخيال الذي نجده في أغرب القصص البوليسية. أما الغالبية العظمى من حوادث القتل الواقعية فلا تبلغ - كما نعلم - من التشويق مقدار ما تبلغه القصص الخيالية. إنها في الواقع أمور عادية في باب الجرائم. ولو عبرنا عن ذلك تعبيرا عاديا، وأخذنا بنوع من النظر الإحصائي الذي يقبله الإدراك العام - وهي النظرة التي تضع الأمثلة في خط بياني تقليدي يبين نسبة التوزيع - قلنا إن مائة في المائة هي في ندرتها كصفر في المائة، والكثرة العظمى تقع حول الخمسين في المائة.
إن الناس في العصور الوسطى لم يكونوا ذوي عقول إحصائية. ونحن نبالغ في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة - في تقدير الرجل في العصور الوسطى - هي في عموميتها كالحالة المعتادة. ولكنا لا نبالغ كثيرا في التناقض إذا قلنا إن الحالة النادرة - في تقدير الرجل في العصور الوسطى - هي بالتعبير الإنساني، حالة «نمطية» تدل الإنسان - أو تفوق في دلالتها له - على الكيفية التي يسير عليها الكون، أكثر مما تدل على ذلك الحالة المعتادة. إن الرجل في العصور الوسطى لم يكن يجفل من الحالة المتطرفة، بل كان يتوقعها، ويبحث عنها، ويضعها في فنه صورة ملموسة، وعالم خيال (ولا نحسب أنه كان يقر بأن هذا العالم مجرد عالم من الخيال) كان يموج بالأهوال والعجائب، وبالأبطال، والأشرار، وغرائب المخلوقات، والقديسين، الذين بلغوا حد الكمال. ولسبب ما ترسبت في عقولنا اليوم صور غرائب المخلوقات أكثر مما ترسبت صور القديسين. وعندنا أن جحيم دانتي أشد إقناعا من فردوسه. ولو أن أولئك الذين تأثروا منا بتاريخ ثقافة العصور الوسطى استحضروا إلى أذهانهم عفوا نوعا من التماثيل المحسوسة من العصور الوسطى، لربما كان أقربها إلى الذهن الصنبور الذي نحت على شكل رأس إنسان مفكر الذي تراه في نوتردام في باريس، والذي صور على آلاف بطاقات البريد.
وهذا الاندفاع في العصور الوسطى نحو التطرف، نحو الغريب أو نحو السامي، كثيرا ما يوصف بأنه سعي نحو اللانهائي، واللاغائي، وهو عزوف عن قبول الحدود الظاهرة لعالم الخبرة الحسية المادي. ويحب مؤرخو الثقافة المتفلسفون - ويصلح شبنجلر هنا مرة أخرى أن يكون لهم مثالا محسوسا - أن يبينوا وجه التباين بين المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية. المعبد الإغريقي مربع الشكل يقوم على أرض صلبة، يقبل أبعاد الإنسان المألوفة، وشكله الأساسي لا يزيد في إشارته إلى البطولة وإلى التطلع إلى السماء عن الصندوق. في حين أن الكاتدرائية الغوطية تحلق إلى أعلى، وهي تتجاوز - بالمبتكرات الجريئة كالقبو المدبب والدعامات الطائرة - الحدود الرأسية التي نلمسها في المباني القديمة. وهي تحاول أن تنقل إلى الحجر تشوق النفوس في العصور الوسطى إلى اللانهائي. المعبد الإغريقي كعلم الهندسة، والكاتدرائية الغوطية كعلم الجبر. المعبد الإغريقي قابل للواقع، والكاتدرائية الغوطية تتطلع إلى البعيد. المعبد الإغريقي يبدو كأنه من صنع الإنسان، أما الكاتدرائية الغوطية فتبدو من نمو الغابات.
هذه المباينات صحيحة في أساسها؛ ذلك أن المعبد الإغريقي والكاتدرائية الغوطية شيئان مختلفان جد الاختلاف. والخلاف تعبير - إلى حد ما - عن نظرتين إنسانيتين مختلفتين إلى الجمال والخير. وقد تزعم أن هناك أسبابا مادية وفنية جعلت المهندسين المعماريين في العصور الوسطى يبنون على طريقة، والإغريق على طريقة أخرى - لاختلاف الحفلات الدينية التي تتطلب بناء معينا، واختلاف الوسائل الهندسية الفنية التي تخلق مشكلات مختلفة. ولا ينفي ذلك أن الناس في العصور الوسطى كانوا يتطلبون شيئا لم يتطلبه الإغريق. كانوا يتطلبون الارتفاع. وقد ألح هذا الطلب على بناة كاتدرائية بوفيه في فرنسا حتى اضطروا إلى إقامة القبة المستحيلة نصف الدائرية ذات الأضلع الكثيرة الباقية حتى اليوم، وحاولوا أن ينشئوا برجا أشد استحالة، ولكنه لسوء الحظ قد انهار، وكان انهياره أمرا طبيعيا.
وتشبيه الغابة المشهورة - الذي ذكرناه - لا يخلو من التلميح إلى إحدى الحقائق. ولكنا نتجاوز التلميح إلى الإغراق في الخيال إذا قلنا إن أهل العصور الوسطى شيدوا ممرات كنائسهم شبيهة بممرات الغابات لأن أسلافهم من الجرمان والكلت نشئوا في غابة بدائية في المناخ الشمالي، في حين أن الإغريق لم يكن لديهم في بيئة البحر المتوسط هذا النمط. ولكن الكنيسة الغوطية في صورتها النهائية بالتأكيد، لا من حيث خطوط بنائها فحسب، ولكن من حيث تفصيلاتها الزخرفية كذلك - من أوراق الشجر في رءوسها، إلى الرسوم في قبابها، إلى التماثيل التي تبدو كأنها نابتة من البناء كله - أقول إن الكنيسة الغوطية على هذه الصورة تبدو أبسط في تخطيطها، وأكثر تلقائية، من بناء إغريقي، أو بناء من العصر الحديث.
ويقوي هذا الانطباع أنه قل من الكاتدرائية الغوطية ما أنشئ دفعة واحدة. إنما امتدت فترة تشييدها أجيالا عدة، كلما توافر المال. وكان البناة في كل مرحلة يشيدون طبقا للنموذج الغوطي الشائع في عهدهم (ونلاحظ هنا أن انتقاء نمط معين من جعبة التاريخ، كالدوري، والغوطي، والاستعماري، والتبشيري، وما إلى ذلك، إنما ينحصر انحصارا تاما في الأزمنة الحديثة. وحتى هذه الأزمنة كان الناس دائما يبنون على نمطهم المعاصر، كما يلبسون ممثليهم دائما على طراز زمانهم. ولذلك فإن الكنيسة الغوطية التي يغرم بها هواتها، مثل كاتدرائية شارتر في فرنسا لا تزال تحتفظ في سراديبها بالأقبية المستديرة التي أقيمت على الطراز الرومانسي السابق للطراز الغوطي، تجد في جبهتها الغربية برجا جنوبيا على الطراز الغوطي القديم البسيط الذي لا تتناوله الزخرفة إلا قليلا، وبرجا شماليا غنيا بزخرفته على طراز أحدث، وتجد في أمكنة أخرى تماثيل وأسقفا للأبواب ، ونوافذ وردية، صنعتها أيد مختلفة كثيرة في عدة قرون، ومع ذلك فالبناء كل رائع، وليس صورة شائهة، وليست كذلك الغابة بطبيعة الحال).
وهذه النغمة الثانية من نغمات الثقافة الوسيطة - سمها إن شئت التلقائية، أو الخيال الخصب، أو البحث عن الشاذ، والغريب، والرومانس، أو السعي نحو اللانهائي، سمها هذا أو ذلك، فليست هناك عبارة واحدة يمكن أن تحيط بالحقيقة - هذه النغمة تلمسها في كل شيء وسيط. وقد اخترنا فن العمارة مثالا لها، ولكنها توجد واضحة أيضا في أدب العصور الوسطى الخصب. كان عقل دانتي بالنسبة إلى العصور الوسطى عقلا منظما، وليس في أسلوبه شيء من التفكك والغرابة، والخصب التي نلمسها في قصص الفرسان الخيالية. ولكن أثر ملحمته في جملتها، إذا قورن بأثر ملحمة أستاذه فرجيل أشبه بأثر الكاتدرائية الغوطية إذا قورن بالمعبد الإغريقي، وحتى كتابه العظيم في السياسة، «الملكية» الذي ألفه باللاتينية، خليط من التعليل المنطقي والخيال إذا قورن بالدقة المنطقية فيما كتب أرسطو.
وهناك نغمة ثالثة ترن في ثقافة العصور الوسطى لا تبعث مثل هذا السرور في المعجبين من المحدثين بمثل هذه الثقافة، وتلك هي كثرة حدوث العنف. فلم يكن القتل والموت المفاجئ أمرا غير عادي للرجل في العصور الوسطى كما هما للرجل في العصر الحديث، ويجب أن نحذر هنا كما نحذر دائما في الأحكام العامة الكبرى - إن عاشق العصور الوسطى قد يرد علينا بأن الحرب الحديثة تفتك فتكا ذريعا لم تعرفه العصور الوسطى، وأن تاريخ العصور الوسطى لا يروي شيئا أسوأ مما حدث في معسكرات الأسر في الحرب الماضية. وهو مصيب بالطبع، ولكنه يجب أن يذكر إلى جانب ذلك نجاحنا الحديث في الطب وفي تموين أعداد ضخمة من السكان. وبرغم كل حروبنا المفزعة استطعنا أن نبقي حتى اللحظة الراهنة على عدد من السكان في الغرب أكبر منه في أي عهد سبق. بيد أن النقطة الأساسية التي نود أن نذكرها هي اختفاء الشعور بدوام الحياة البشرية دواما نسبيا في العصور الوسطى، بالرغم من الديانة المسيحية؛ فالناس في تلك العصور لم يتوقعوا أن تسير الحياة بغير مخاطرة، بل إنهم كانوا يرون يد الله عندما يصدرون قرارا عنيفا. ومن النظم الوسيطة المشهورة الحكم بالمبارزة، وهي طريقة كانت تقتصر على المنازعات التي تنشب بين طبقة الفرسان. كان النزاع في نهاية الأمر يفض بالمبارزة بين المتنازعين أو بين بطليهما. وكانت النتيجة تعد تدخلا مباشرا من الله الذي يكتب الظفر للحق. وقد حلت النظم القضائية تدريجا خلال العصور الوسطى محل هذه الطريقة، وأمست هذه النظم أساسا لنظامنا الحاضر.
ولسنا بحاجة إلى الإفاضة في هذه النقطة؛ فإن الطبقات العليا، وريثة المقاتلين الخشنين في العصور المظلمة، حافظوا محافظة جيدة في ثقافة العصور الوسطى الأكثر تقدما على تقاليد العنف التي نشأ عليها آباؤهم. وقد رأينا كيف أن هذه التقاليد قد صيغت تدريجا في الصورة الهزلية للعنف الذي اتصفت به الفروسية أخيرا. وقد اشتركت الكنيسة مع الدول الدنيوية النامية في استبدال الإجراءات القانونية النظامية بالالتجاء إلى القوة، تدريجا. كما أدى نمو التبادل التجاري إلى مزيد من حماية التجارة والصناعة، حتى أمكن ترويض البارون قاطع الطريق. وحتى عندئذ جلبت المنازعات الاجتماعية الخطيرة في أواخر العصور الوسطى نوعا جديدا من العنف، وذلك بالإضافة إلى ما فرضته الأوبئة المريعة، كالموت الأسود في القرن الرابع عشر. وانشغل الأدب والفن فيما بعد - كما وصفهما وصفا رائعا هويزنجا في كتابه «زوال العصور الوسطى» - بظاهرة الموت.
وإذا نحن ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض كان لنا كل لا يتفق تمام الاتفاق مع بعض ما ذكرناه آنفا عن العصور الوسطى. إن النغمات التي بيناها يمكن أن تتلخص في أنها كانت إحساسا شاملا بما في الحياة من قلق وخلل، أو أنها «استنبات» لهاتين الصفتين. عندنا ثقافة لا تكاد تميز بين ما ليس بالطبيعي والطبيعي، ثقافة سذاجة في التصديق واعتقاد في الخرافة، ثقافة تصوف غير دنيوي وبدائية - وعنف دنيوي، ثقافة المتطرفات والمتناقضات، ثقافة تتذبذب دائما بين البحث عن الكأس المقدسة والبحث عن وجبة الطعام المقبلة. وما الرأي إذن في «الاعتدال» أو في «تجديد» أكويناس؟ أين صفة النضج التي جعلتنا نضع القرن الثالث عشر من بعض وجوهه مع القرن الخامس قبل الميلاد؟ يبدو أن ثقافة العصور الوسطى هذه كانت نوعا من الطفولة، أو الشباب الصاخب، الذي يرمز له رمزا ملائما تمثال الصنبور الذي نحت على شكل رأس إنسان مفكر.
ولا بد لنا من الإبقاء على كثير من متناقضات العصور الوسطى، بل هي أبرز في وجودها منها في أية ثقافة أخرى؛ لأن الثقافات الإنسانية كلها تنطوي على عناصر متناقضة، عناصر لا تقوم على منطق واحد، ولكن العصور الوسطى تظهر في تاريخ الغرب كعصر من المتباينات شديدة الوضوح. ومن أقوى الصفات في ثقافة العصور الوسطى صفة التباين والتناقض التي بلغت أعلى درجة من الوضوح في التناقض بين المثل المسيحية العليا في ثقافتها الرسمية، والمدرسية والفروسية، و«الواقع الملطخ». ولما كانت العصور الوسطى في أوجها قد أخذت أسلوب الحياة المسيحية مأخذ الجد، بل أخذته مأخذا حرفيا، فإن الخشونة، والعنف، والشذوذ، وكذلك «الرتابة» والركود في كثير من نواحي حياتهم اليومية، ترغمنا على التنبيه إليها.
وإذا كانت صفات النظر إلى العالم الآخر، واعتقاد ما ليس بالطبيعي، والسعي إلى اللانهائي، والعنف، والتباين بين المثل المسيحية والعمل الذي ليس كله مسيحيا، إذا كان لا بد من بقاء هذه الصفات، فلا بد لنا - مع هذا - من أن ندخل فيها تعديلات عديدة. فأولا: بالرغم من أن جانبا كبيرا من ثقافة العصور الوسطى يبدو كأنه ثقافة عصر غير ناضج - ففيه التصديق، وحب التطرف، والصفات البهيجة كجدة الخيال، وانطلاق السرور، والبساطة التي أسرت لب الرومانسيين المتأخرين - إلا أن الاعتقاد بأن ثقافة العصور الوسطى قد بلغت درجة حقيقية من النضج ليس اعتقادا خاطئا البتة، ويظهر هذا النضج واضحا في أي شكل من أشكال الفن في العصور الوسطى تقريبا. وربما اشتد اهتمامنا عند سرد تاريخ هذه العصور بالمعالجة التحليلية التي أهملت التطور الزمني لثقافة العصور الوسطى. إن العصور الوسطى لم تكن صورة موحدة البتة. كان لها شبابها، ومرحلتها البدائية التي نسميها العصور المظلمة. وقد ازدهرت في القرن الثالث عشر، وهو في نظر المدرسيين الجدد «أعظم العصور». ثم كان لها عصر انهيارها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وإليكم بعض الأمثلة: كان لعالم «أغاني رولاند»، عالم القرن التاسع كما احتفظت به الملاحم، صفات الشباب، صفات البدائية. كان عالما بسيطا جليلا من أقوياء الرجال، يعرف كل منهم حق المعرفة لمن يعطي ولاءه. كان عالما بسيطا من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، بقدر ما نستطيع التوغل في هذه الأمور، ولكني لا أحسب أن أحدا عاقلا يسمي العالم الذي تصوره الكوميديا الإلهية لدانتي عالما بسيطا شابا. كان دانتي - كما كان أكويناس - رجلا ناضجا يعيش في حضارة غاية في التعقيد. وإذا وصلنا إلى القرن الخامس عشر وجدنا شاعرا مثل فرانسوا فيون، الذي نجد في إنتاجه وعيا بعالم بلغ سن الشيخوخة، كان فيون يعيش في العالم السفلي من باريس، التي تم تمدينها. وكتب عن المتسولين واللصوص، والعاهرات، ممن ليس لديهم ذرة من براءة. كان رجلا مثقفا في مجتمع لم يعد معنى المثقف فيه أن يكون بالضرورة قسيسا، له - تبعا لذلك - مركز ثابت في المجتمع. كان مثقفا انحدر إلى أدنى السلم. وللفرنسيين تعبير أفضل من هذا، فهم يقولون ما معناه: «هبط من طبقته.» وإن حياة عملية كالتي عاشها فيون لم تكن ممكنة إلا في مجتمع أدركته الشيخوخة فعلا.
وهذه الدورة من الشباب إلى الشيخوخة تظهر على أوضح صورة في فن بناء الكنائس في العصور الوسطى؛ فهذا الفن في بدايته يتبين في الأقواس المستديرة الرومانسية الثقيلة في الفترة الأولى من العصور الوسطى. وباختراع القوس المدبب يبدأ الفن الغوطي الصحيح. وفن البناء الغوطي في عهده الأول - الذي يعده بعضهم اليوم ذروة هذا الفن - بسيط نسبيا. وهو يقنع بتسقيف أخف وأعلى من الرومانسي، وهو تسقيف لا يجاهد فيما يبدو في سبيل الارتفاع. والنحت فيه طبيعي رشيق، خاضع لخطوط البناء. وتماثيله قد أعدت كذلك بمهارة لتقابل هدف المهندس المعماري. وأحسنها - كتلك التي تراها مثلا في الجبهة الغربية في شارتر - تتميز بتلك الصفة التي يطلق عليها مؤرخو الفن البدائي، وهي صفة تجدها كذلك في النحت الأثيني قبيل عصر فيدياس العظيم. ولا تزال زخرفة النوافذ بسيطة، وربما كانت هذه الزخرفة في الحجر أيسر علامة يستدل بها الرجل العادي على فترة غوطية معينة. ويأخذ الطراز تدريجا في التعقيد وفي زيادة الزخرفة. وهناك فترة متوسطة ناضجة يستخدم فيها مهندسو العمارة الدعامات السامقة وغيرها من الحيل استخداما جريئا يمكنهم من طبع المشاهد بأثر الارتفاع العظيم، ومن نشر الضوء في كنائسهم من عدة نوافذ. إن فن النحت يبلغ كما لا يختلف عن واقعية الإغريق، ولكنها واقعية سامية أخرى لا تجد فيها أثرا من التحريف البدائي لأعضاء الجسم الإنساني. على هذه الصورة نجد - على سبيل المثال - التماثيل في كاتدرائيات أميان وريمز. هنا نجد كذلك زخرفة النوافذ أكثر حرية، وأشد انطلاقا، وأكثر زينة.
ولما تحل القرون الأخيرة في العصور الوسطى نجد زيادة في النضج، وهو دليل على أن طراز البناء قد أدركته الشيخوخة؛ فهناك جهاد نحو بلوغ ارتفاع مستحيل - وبخاصة في فرنسا - وهو ارتفاع يجلب الكوارث، كما حدث عند سقوط البرج المركزي في بوفيه. كما أن الزخرفة، داخل البناء وخارجه، تخرج عن سلطان اليد، حتى إنك لتجد الجبهات الغربية - كجبهة روان - مزخرفة كأنها كعكة العرس. ولم تعد العذراء تبتسم ابتساما طبيعيا، وإنما ابتسامتها تفوق الوصف. وهنا أيضا نجد الطبيعي محرفا، ولكنه تحريف ميلودرامي، وليس تحريفا بسيطا كما كان في العصر البدائي. أو قل إن التحريف كان «واقعيا»، وتبدو العذراء شبيهة بفتاة ريفية جذابة. وزخرفة الحجر في النوافذ، التي توحي إيماء مركبا باللهب، هي بداية الصفة التي كانت تسمى في فرنسا خاصة بالفترة «الملتهبة» من الفن الغوطي المتأخر. وهذه الصفة - الملتهب، أو الزاهي - أدت بهذه الطريقة إلى الإيحاء بالمبالغة في التعقيد وفي التظاهر. أما في إنجلترا فإن الغوطي المتأخر لم يحذ حذو النماذج الفرنسية في تطلعها إلى الارتفاع الشاهق. وأولئك الذين يعتقدون أن الإنجليز معتدلون بالوراثة يحبون أن يقولوا إن من خصائص المهندسين المعماريين الإنجليز ألا يحاولوا قط بناء القباب والأبراج الشاهقة كما فعل الفرنسيون. ولكن الفن الغوطي الإنجليزي - مع ذلك - ينم عن المبالغة التي يتصف بها الطراز الفني بعدما يستنفد أغراضه. ونحن نجد زخرفة النوافذ - في هذا الفن الغوطي الإنجليزي في نهاية عهده - تتأثر بالخطوط الرأسية، بدلا من تأثرها باللهب، وتسمى ب «العمودية». وهكذا نجد أن العمودية الإنجليزية في زخرفتها متأثرة أشد التأثر بفكرة الارتفاع، وهي تعبر عنه في زخرفة النوافذ وفي قباب المباني.
وكذلك يستطيع المرء أن يلمس في كثير من أوجه الحياة الثقافية الأخرى في أواخر العصور الوسطى هبوطا عن ذلك الاتزان والنضج مما اتصفت به في أوائلها. وحتى في التفكير الفلسفي الشكلي، بدأت المدرسية - بعدما بلغت أوجها في القرن الثالث عشر تتخلى عن اعتدال أكويناس، وتنسج حججها في منطق يفتت الشعرة مما أعطى خصومها الإنسانيين في عهد النهضة أسلحة ماضية للهجوم عليها. وقد لاحظنا من قبل كيف أن الفروسية في تدهورها أمست سلسلة من الأعمال منفصلة عن الحياة الجديدة من حولها.
بقيت مشكلة أقل خطورة مما قد تبدو لأول وهلة؛ ذكرنا أن العصور الوسطى وبخاصة في عهدها العظيم كانت مجتمعا به من الأوضاع ما يكفل للفرد فيها مكانة مطمئنة، مجتمعا يعرف المرء فيه واجباته، وحقوقه، و«جذوره». كان الإنسان في العصر الوسيط - على نقيض مجتمعنا الحديث المتنافس - كما بينا من قبل على هدوء من العقل، لا يجده أكثرنا نحن أبناء هذا العصر الحديث، ومع ذلك فإن مميزات العصور الوسطى كما حاولنا أن نلخصها توحي بأي شيء إلا الاتزان، والاعتدال، والطمأنينة. ذلك أن الإنسان في العهد الوسيط يبدو في الظاهر غير مطمئن إلى درجة لا تحتمل، وهو يكافح في سبيل اللانهائي، وما يفوق الوصف، ويتوقع المعجز كما توقع المستقر بالإحصاء، ويعيش في عصر العنف والموت المفاجئ، لا يتحرر قط من خوف المجاعة والمرض، ولا يحتمي حماية كافية بما لا يزيد إلا قليلا على العادات والمشاعر الدينية من إساءة السلطات الإقطاعية لاستخدام النفوذ.
ويخفف من حدة هذا التناقض ثلاثة اعتبارات؛ الأول: أن الاتزان الذي لمسناه في الحياة الوسيطة لم يبلغ ذروته إلا في فترة وجيزة، عندما بلغت ثقافة العصور الوسطى أوجها في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، وأوائل الرابع عشر. وحتى آنئذ كان هناك قدر كاف من العنف وعدم الاطمئنان، ولكنه لم يكن عنفا وتغيرا على درجة من سعة الانتشار كالتي نجدها في القرن الخامس عشر، الذي كان زمنا من المتاعب للإنسان في الغرب بصورة واضحة.
والاعتبار الثاني: أن تلك العبارة التي استعملناها آنفا، وهي «ما لا يزيد إلا قليلا على العادات والمشاعر الدينية» تحرف الأمور تحريفا حديثا مضللا. وأقول هنا مرة أخرى إن العادات والمشاعر الدينية كانت لها قوة تفوق في شدتها كثيرا ما نستطيع نحن المحدثين أن ندركه. انظر إلى العلاقة بين السيد الإقطاعي والرقيق، إذا اعتدى السيد على الرقيق بالضرب، أو أغوى ابنته، أو استولى على ما يملك من أرض، فلم يكن هناك في أكثر الغرب الوسيط محاكم، أو قوة للشرطة، أو تنظيم مدني، يستطيع الرقيق أن يلجأ إليها لرد حقه، لم يكن هناك «دستور»، ولم يكن هناك «قانون يكفل الحقوق» بالمعنى الحديث. وحتى «الميثاق الأعظم» في إنجلترا الذي أعلن في عام 1215م لم يكن في الواقع وثيقة قانونية لحماية الرجل العادي. بيد أن أكثر السادة لم يعتدوا في الأغلب بالضرب على الرقيق، أو يغووا بناتهم، أو يسلبوهم عيشهم. وهناك مجموعة بسيطة واحدة من الحقائق تثبت ذلك، وتدحض الفكرة الشائعة بأن العصور الوسطى كانت فوضى من الفقر والمظالم تحرر منها الغرب بطريقة غير مفهومة إلى حد ما بالنهضة والإصلاح الديني؛ فقد أخذت حالة الفلاح الأوروبي في الغرب تتحسن باطراد منذ القرن الحادي عشر، بالرغم من الحروب الخاصة، ومن الأوبئة، والمجاعات، وحماية التجارة حماية ناقصة، وذلك على الأقل حتى انتهاء الاقتصاد الإقطاعي الذي كان يقوم نسبيا على الاكتفاء الذاتي، عندما بدأ الانتقال من هذا الاقتصاد يتمخض عن القلق الحديث الذي يرتبط بالإنتاج من أجل البيع بالمال. إن الرقيق في فرنسا وفي إنجلترا بلغوا بالتدريج مرحلة الأحرار، لا عن طريق قانون يكفل التحرير الشامل كما حدث في روسيا في القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق التأثير البطيء للتطورات الاقتصادية والقضائية التي مكنت الرقيق الأوروبي في الغرب أساسا من «اكتساب» حرياتهم. وما كان لهم أن يستطيعوا ذلك في مجتمع فوضوي دون قوة القانون والعادة الثابتة، أو في مجتمع طبقي ثابت ثبوتا مطلقا، بطبيعة الحال.
وأخيرا، وأهم مما سبق وإن يكن أشق ما يكون علينا إدراكه، أقول إن الاطمئنان في حياة العصور الوسطى كان أمرا يختلف جد الاختلاف عما نفهمه من الاطمئنان في منتصف القرن العشرين؛ فقد كان الفرد في العصور الوسطى لا يطمئن إلى نوع من الحياة فوق الأرض كذلك الذي نعده منحة أعطيت لنا. لم يكن يتوقع ما عندنا من أسباب الراحة المادية أو أسباب الترف، ولم يتوقع أن يتجنب الجدري بالتطعيم، ولم يكن يتوقع الطرق الجيدة، ولم يكن يتوقع - بإيجاز - ألوفا من الأشياء التي نسلم بها. كان يألف حياة شاقة (كما نظنها)، وكان يألف العنف والقلق. ولم يؤد به شيء في فلسفته - وأنا أستخدم الفلسفة هنا بمعنى الاسترشاد، حتى بالنسبة إلى الرجل العادي - إلى أن يتوقع إمكان أن تكون حياته على الأرض مختلفة فعلا عما كانت عليه دائما. ولا تعني أمثال هذه العقائد أن الإنسان الوسيط لم يتوقع شيئا ما، وأنه لم يكن قط ساخطا؛ فإن عشرة الزوجة المتمردة كانت لا تسر في القرن الثالث عشر كما لا تسر في القرن العشرين.
ولكن الزوج في القرن الثالث عشر من أي طبقة من المجتمع كان لم يكن يحلم بمحاولة طلاق زوجته بسبب «القسوة المعنوية»، أو في الواقع لأي سبب آخر - وهذا هو لب الموضوع. كان الزواج عنده يبرم في السماء، حتى إن كان إبرامه ناقصا. وقد جعل الله الزواج أمرا لا ينحل. وكذلك كانت الحال في أوجه كثيرة أخرى من الحياة الإنسانية، مما نميل إلى أن نعده من النظم التي يستطيع الإنسان أن يعقدها أو يحلها بإرادته الخاصة، وتحت مسئوليته الخاصة. كانت حياة الفرد في العصور الوسطى في كثير من جوانبها تخرج من يديه، وهي بين يدي الله الذي ينفذ إرادته عن طريق المجتمع. ونعود إلى تلك الحقيقة التي ليس منها مفر، وهي تغلغل النظرة المسيحية في الحياة في العصور الوسطى. ولم تكن النظرة المسيحية عندما بلغت كمالها بالجهاد الروحاني - وذلك بالرغم من أن العصور الوسطى قد أفسحت كذلك مجالا طبيعيا لا نفسحه له اليوم - ولكنها النظرة المسيحية التي تتمثل في قبولها العالم باعتباره مكانا للامتحان، وللعمل الشاق والأحزان للنفس الإنسانية. ولم ترد العبارة الآتية المشهورة على لسان دانتي عرضا: «في إرادته سلامنا. وهذه الإرادة هي المحيط الذي يتجه نحو كل شيء مما تخلقه أو مما تصنعه الطبيعة.»
ولا مراء في أن وعد المسيحي بالخلاص في حياة أخرى للرجل - أو المرأة - الذي يعيش في هذه الدنيا طبقا لتعاليم الكنيسة يساعد على تفسير تأثير المسيحية في نفوس الناس في العصور الوسطى. أما الاعتقاد بأن الدين أفيون فهو من خلق العقل الحديث الذي يرى - أو يأمل - ألا تكون الآلام من طبيعة الأمور. والمسيحية للرجل في العصر الوسيط لم تعد بحياة أفضل في عالم آخر فحسب، إنما أكسبت حياة العنف القلقة هذه، وحياة الجهاد، والنقص، والحاجة في الدنيا، معنى وحدودا وأهدافا، أوشكت أن تسد الفجوة عند أكثر الناس بين ما لديهم وما يحتاجون إليه. كان الرجل في العصر الوسيط أقرب منا إلى «الاستسلام» لعالم لا يستطيع أن يغيره كثيرا. كان يشعر بالطمأنينة وسط ما نعده نحن انعدام الطمأنينة: العنف، والحاجات المادية، والمشقة، بل والمخاوف التي تتولد عن الجهل بما نعده ظواهر طبيعية. وإنما كان يحس هذه الطمأنينة لأنه كان يدرك ضعفه إدراكا قويا. ولم يكن يخجل من ضعفه، ولم يكن هذا الضعف يزعجه. إنه لم يكن خطأه، ولم يكن، من الناحية الإنسانية، خطأ أي فرد آخر - ومن المؤكد أن أحدا لم يستطع أن يخرج على الدين إلى حد أن يعزو إلى الله الخطأ . كان الرجل في العصر الوسيط «يحس» الحق في العبارة التالية التي جرت على لسان أحد الفلاسفة المتأخرين، وأعني به ليبنتز، ولم تعد عنده أن تكون مجرد تعبير فكري لا ينم البتة عن الإخلاص، وتلك العبارة هي أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة. إنه ليس بالعالم السعيد، وليس بالعالم القانع؛ لأنه إن كان كذلك لاحتل الناس مكانة الله بغير حق. إنه في بساطة عالم الله.
الفصل الثامن
صنع العالم الحديث: (أولا)
الإنسانية
عاش الناس طويلا في الأزمنة «الحديثة» ولكن عقولهم لم تطبع بهذه الحقيقة انطباعا قويا. ويعد عصرنا - الذي اعتدنا أن نعد بدايته عام 1500 بعد الميلاد - أول عصر يصوغ هذا الاصطلاح صياغة واضحة، ويطبقه تطبيقا لا تناقض فيه. ولفظة «حديث» بالإفرنجية
modern
مشتقة من ظرف لاتيني معناه «في هذه الآونة». وقد ظهرت الكلمة في الإنجليزية بمعناها الشائع، الذي يقابل «القديم» في عهد إليزابث. وهذا الوعي بالمشاركة في الجديد، في طريقة من طرق الحياة تختلف عن طريقة السلف، وقد كان هذا الوعي بطريقة من طرق الحياة كما أحسه الكثيرون عند حلول عام 1700م وعيا بحياة «تفضل» كثيرا طريقة السلف - هذا الوعي في حد ذاته سمة من أوضح سمات ثقافتنا الحديثة.
وهذه الثقافة غاية في التعقيد، ونحن لا نستطيع أن نعرف «الحديث» تعريفا محددا هنا، ولكنا نأمل أن نصوغ شيئا فشيئا في الفصول القادمة تعريفا له. وهنا نجابه مشكلة فصل «الحديث» عن «الوسيط». وهي مشكلة عويصة؛ لأن ملايين المواقف المحسوسة التي نحاول أن نختصرها في هذين المصطلحين العامين لا ترتبط بالطريقة البسيطة التي تتضمنها عاداتنا اللفظية البلاغية في التفكير. إن الوسيط لا يتوقف حيث يبدأ الحديث عند نقطة واحدة في مدار الزمن، وليس الحديث شروقا ينتهي به ظلام الليل الوسيط. وليس الحديث وليد الوسيط، بل إن الوسيط لم يبلغ مرحلة الرجولة.
والواقع أن التفرقة بين الوسيط والحديث قد أهمت المؤرخين المحترفين كثيرا في الخمسين السنة الأخيرة أو ما يقرب منها؛ لأن البحث قد طمس التمييز الواضح بينهما الذي رسم حدوده أسلافنا؛ فقد كان التقسيم الفتري بين حديث ووسيط واضحا في جميع كتب الدراسة في أواخر القرن التاسع عشر: والنهضة، والإصلاح الديني، والإنسانية، والمكتشفات الجغرافية، واختراع الطباعة، وفصم الوحدة الدينية الوسيطة - كل ذلك قد تم حدوثه بصورة واضحة فيما بين عامي 1453م و1517م. وقد حدد الأمريكان خاصة للتاريخ الحديث نقطة بداية يرتاحون إليها كثيرا، وهي عام 1492م. وقد تغير كل ذلك اليوم. وردت النهضة خاصة إلى الوراء حتى بلغت ما كان يعد في وقت ما «عصورا وسطى» غير مشوبة فكاد يختفي التمييز بين الوسيط والحديث. وتقارب الاثنان، كالقطارين حين يصطدمان في لحظة واحدة.
هل معيارك «إحياء المعرفة» وتقدير أصح للثقافة اللاتينية الوثنية؟ إن المرحوم شارلس ه. هاسكنز قد دفع في كتابه «نهضة القرن الثاني عشر» هذا المعيار إلى الوراء حتى توغل في الأزمنة الوسيطة. أم هل معيارك التقدم في العلوم والتكنولوجيا؟ وقد رأينا من قبل أن القرون الأخيرة من العصور الوسطى كانت قرون تقدم علمي ملحوظ. والواقع - كما يحب الأستاذ جورج سارتون أن يشير - أن الإنسانيين الأصليين لعهد النهضة، والأدباء ورجال الدين، والأخلاقيين، كانوا على الأقل من حيث احتقارهم لنبش العلوم الطبيعية ومن حيث «الاستنباط» ومن حيث احترام سلطان الكلمة المكتوبة كما كان المدرسيون. بل ربما كان من الممكن أن ندفع عن الرأي الذي يقول بأن «النهضة» كما نعرفها معناها «تقهقر» في نمو العلم الحديث. أم هل معيارك اقتصادي، أي نمو اقتصاد مالي، ونظام للبنوك، واتساع في التجارة؟ إن البحث الحديث يدفع أكثر ذلك إلى الوراء حتى عصر الصليبيين، وأوج العصور الوسطى أم هل معيارك قيام الدولة التي عمادها الوحدة الأرضية لتحل محل مجموعة الملكيات الإقطاعية؟ إن من المؤكد أن فرنسا وإنجلترا كانتا دولتين أرضيتين عندما التحمتا في حرب المائة عام في القرن الرابع عشر.
ولكن معالجة الموضوع من الناحية المضادة ممكن أيضا. متى تنتهي العصور الوسطى؟ إننا إذا أردنا الجدل قلنا إنها لم تنته قط. إن أية افتتاحية صحفية تستطيع أن تشير اليوم إلى «الوسيط» و«الإقطاعي» في شيء من التحقير - كقولها «شوارع بوسطن الوسيطة» و«أصحاب المكاتب الإقطاعيون في واشنطن». وتستطيع إن كنت أكثر جدية واخترت أمثلة محسوسة في مختلف ميادين الثقافة البشرية أن تجد الطرق الوسيطة متغلغلة في وضوح شديد في أوروبا الغربية حتى القرن السابع عشر؛ فهناك النظام القضائي في إنجلترا، ونظام تسليك الأراضي في فرنسا، والمكاييل والموازين الوسيطة في كل مكان، وكثير أيضا في كل مكان - في أوروبا البروتستانتية وأوروبا الكاثوليكية على السواء - مما حاولنا في الفصول السابقة أن نصفه بأسلوب الحياة المسيحية. إن المستعمرين البريطانيين الذين وفدوا في القرن السابع عشر إلى فرجنيا وإنجلترا الجديدة جلبوا معهم قدرا مذهلا من صفات العصور الوسطى؛ جلبوا معهم نظام الساحات الشعبية، وأدوات التعذيب التي توضع في الأرجل والأعناق، والاعتقاد في الساحرات، وآثارا من فن بناء المنازل في العصور الوسطى. بل وقد جلب مستعمرو فرنسا الجديدة نظام السادة ونظام الإقطاع، الذي لا تزال آثاره باقية في إقليم كويبك.
وإذن فقد امتدت العصور الوسطى إلى العصر الحديث بطريقة لا تمثلها في الواقع حياة أي كائن عضوي بمفرده. ولا يستطيع التاريخ القصصي التقليدي أن يحيط حقا بمركبات التحول الثقافي. ولن نتخلى هنا بأية وسيلة عن المعالجة التاريخية، ولكنا سوف نحاول أن ندمجها بالمعالجة التحليلية. وفي الفصول الثلاثة التالية سنعالج بناء طريقة الحياة الجديدة في القرون المتأخرة، الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر. وسوف ننظر من أجل التحليل في الفن، والأدب، والدين، والعلم والتكنولوجيا، كل على حدة، محاولين ألا ننسى أنها كانت في الحياة الواقعية لمجتمعنا متحدة اتحادا لا ينفصم.
وبهذه الطريقة سوف نتخلى عن المعالجة الزمنية التقريبية التي لجأنا إليها حتى الآن، وسوف نسير في اتجاه مضاد للقاعدة القائمة في كتابة التاريخ، التي تقبل التقسيم إلى عصور تقسيما تقريبيا بالقرون - وإن كان لا بد من دفع النهضة إلى الوراء حتى تبلغ القرن الخامس عشر، بل والرابع عشر. وسوف نعالج الإنسانية، والبروتستانتية، ومذهب التعقل، باعتبارها أجزاء مكونة للحياة العقلية في الغرب التي يمكن من أجل التحليل أن تنفصل عن الكل، وتعالج كوحدة خلال القرون التي تقع على وجه التقريب فيما بين عامي 1450م و1700م التي تفصل العصور الوسطى عن عصر النور. وموضوعنا الرئيسي هو: كيف تحولت النظرة إلى الحياة في العصور الوسطى إلى نظرة أخرى للحياة في القرن الثامن عشر؟ وهذه النظرة إلى الحياة في القرن الثامن عشر، لا تزال، في أعماقها هي نظرتنا إليها ، وبخاصة في الولايات المتحدة - بالرغم مما دخل عليها من تعديل في القرنين الأخيرين؛ فالقرون الأخيرة: الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، هي من هذه الناحية «فترة انتقال» في أساسها، وهي في صميمها سنوات الإعداد لعصر «النور». وفي هذا الانتقال نجد الإنسانية، والبروتستانتية، ومذهب التعقل (والتاريخ الطبيعي) تفعل فعلها في زعزعة النظرة الكونية الوسيطة، والإعداد للنظرة الكونية الحديثة.
إنها تفعل فعلها - كما هو شأن الأفكار دائما عن طريق قلوب الرجال والنساء وعقولهم، وهم رجال ونساء ليسوا - البتة - من أصحاب الفكر الخالص. وهي لا تعلل كل التاريخ الحديث، بل هي - من ناحية ما - أفكار مجردة نبنيها في عقولنا مجاهدين أن نجعل للماضي معنى. إننا نعتقد ما نعتقد اليوم، ونسلك سلوكنا، بسبب ما قاله وما فعله - إلى حد ما - منذ عدة قرون، الرجال الذين نسميهم إنسانيين، أو بروتستانت أو متعقلين.
اصطلاح «النهضة» و«الإصلاح الديني»
حدث ذات مرة أن توءمين من أصحاب الشعر الأحمر؛ الأول: اسمه «النهضة»، والثاني: «الإصلاح الديني»، نالهما الاضطهاد ولحقتهما الإساءة، فانقلبا على زوجة أبيهما: الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، وهي أم شريرة برغم ضعفها.
إن كتب التاريخ - بطبيعة الحال - لم ترو القصة قط بمثل هذه البساطة وهذه الطريقة غير الكريمة. ولم يكن بوسعها البتة أن تبدأ الموضوع كما تبدأ الحكاية الخرافية. غير أن أكثر الأمريكان - إذا استثنينا الرومان الكاثوليك - ممن درسوا شيئا عن تاريخ أوروبا خرجوا بفكرة أن الحركتين اللتين نطلق عليهما «الإصلاح البروتستانتي» و«النهضة» كانتا متحدتين بطريقة ما في وحيهما والغرض منهما. كانت الحركة الأولى تتجه نحو الحرية الدينية، والثانية تتجه نحو الحرية الفنية، وكلتاهما تعملان من أجل الحرية الخلقية، ومن أجل ما أصبح الديمقراطية في القرن التاسع عشر بطبيعة الحال. كلتاهما تهدف إلى «تحرير» الفرد العادي من القيود التي ائتلفت العادة والخرافة لكي تفرضهما عليه في العصور الوسطى.
وحتى هذا الرأي الذي قد يضلل كثيرا ليس «كله» خطأ؛ فما أكثر أتباع لوثر الذين شعروا بنوع من السمو، بإحساس التحرر من الالتزامات الروتينية التي تحصرهم، وبثقة جديدة في قدراتهم الخاصة. ونعرف حق المعرفة أن الفنانين ورجال الأدب، والعلماء والمكتشفين، أحسوا جميعا بدفعة العوالم الجديدة التي يمكن أن تغري، والفرص الجديدة لأداء الأعمال بشتى ضروبها، وذلك بطرق لم يطرقها أحد من قبل، ومن ثم فهي طرق تجعلهم يحسون بأنفسهم، وبأنهم شخصيات فذة. وبالرغم مما في المصطلحات من غموض، إلا أن هناك مغزى ما من نسبة العصور الوسطى إلى «التسلط» والنهضة والإصلاح الديني إلى «التحرر»، ولكنك إن وقفت عند هذا الحد كان المغزى ضعيفا.
ذلك لأن الوقائع أشد تعقيدا من الصيغ العامة التي تستهدف تفسيرها؛ فلقد جاء لوثر إلى سلطته ليستعين بها على إخماد «ثورة الفلاحين». كما أن كثيرا من الإنسانيين المتحررين في عهد النهضة أقاموا أساتذة الأدب الإغريقي ثقاتا (متسلطين) لا يجوز لهم مساءلتهم، كانوا نماذج لكل ما كتبوا. وكان شيشرون وأفلاطون محل عبادة عمياء لم يصل إليها أي أستاذ في الأدب من قبل. ومن المألوف في النهضة أن تلتقي في ميدان السياسة بالحاكم المتعسف المستبد. إن النهضة والإصلاح كليهما لم يتجها بوعي منهما نحو حرية الفرد ذات الصفة الديمقراطية.
وأبعد عن الصواب من ذلك أن نقول إن النهضة والإصلاح الديني كانا دائما يعملان معا في انسجام لتحقيق هدف واحد؛ فإن الكالفني المخلص كان يفزع عند لقائه بفنان النهضة الذي ينحت النماذج العارية، ويعيش عيشة استهتار وبذخ، ولا يفكر في غده. وكذلك كان لوثر يمقت أرازمس الإنساني، وكان شعور البغض بينهما متبادلا. وليست المقابلة هنا بين الزاهد المتدين والفنان الذي يخضع في إخلاص لشهواته الحسية بالأمر الهين اليسير. كان أرازمس يحب المسيحية، وكان يحب الإغريقية السليمة، وحديث العلماء بعد مائدة العشاء، وكان يحب الإدراك العام بطريقة أكاديمية، كان ثائرا جد ضعيف. إن سيرة حياته وشخصيته في الواقع لتتفق إلا في القليل مع الصيغ الجافة التي تعبر عن النهضة والإصلاح الديني.
إن الإنسانية في الواقع نظرة إلى الحياة لا تنسجم في أساسها مع ذلك الجانب من الديمقراطية التي تهتم بالرجل العادي، وبرفاهية الجماهير. كان الفنان، والأديب لعهد النهضة يعتقد في طبقة ممتازة - ليست هي طبقة النبلاء الإقطاعية، ولكنها الطبقة الممتازة الحديثة التي تتألف من أصحاب المواهب والفكر. كان لا يأبه - بل كان يزدري - بالكثرة التي لا تتميز في شيء، والتي لا تهتم بالفن أو الفلسفة أو الحياة الكريمة. وعن هذه النظرة الإنسانية إلى الحياة نشأت - إلى حد ما - تلك النظرة الحديثة المألوفة غير الديمقراطية التي ينظر بها رجال الفن والفكر بازدراء إلى عامة الناس وأوساطهم. إن أكثر حجج الدفاع عن الأرستقراطية في العصر الحديث (وإذا كانت لفظة الأرستقراطية توحي بطبقة النبلاء الأوروبية القديمة التي لا يأبه أحد بالدفاع عنها، فيجدر بنا أن نقول «الصفوة») يرجع إلى مصادر النهضة يلتمس فيها النماذج؛ فإن نيتشه - الذي سار في أثر زميله الأستاذ في بال، جاكوب بركهارت - التمس في الحياة البراقة الوحشية التي عاشها في عهد النهضة أساتذة الفن والحياة الإنسانية أقرب صورة أرضية تحقق فكرته عن الإنسان الراقي، أو السوبرمان. وفي الحق أن هناك على الأقل عنصرا واحدا في مركب الآراء الإنسانية يمكن أن يعزى إلى التقاليد الديمقراطية - وذلك هو فكرة انفساح المجال لأصحاب المواهب، والمجددين؛ أولئك الأفذاذ المغامرين الموهوبين. ومع ذلك فإن الديمقراطيين المحدثين في جملتهم يختلفون عن رجال النهضة في نظرتهم إلى الموهبة التي تستحق التشجيع. ومن الواضح أن النقطة الهامة في مبدأ حرية الفرصة للجميع هي هذا السؤال البسيط: الفرصة لبلوغ أي غرض؟ لقد أجاب القرن الثامن عشر والقرن السادس عشر، أو رجال عهد النور ورجال عهد النهضة، عن هذا السؤال - كما سوف نرى - إجابات جد مختلفة.
فالوقائع إذن تثبت أن النظرة الساذجة إلى النهضة والإصلاح الديني اللذين يعدان طليعتين مشتركتين للديمقراطية الحديثة، ليست على شيء من الدقة. ولو أن المدنية الحديثة تأثرت بدقة وعناية بالطرق التي أنارها لها الإنسانيون والبروتستانت لكان من المحتمل ألا تطرق أسماعنا هذه العبارة «قرن الإنسان العادي».
إن بعض ميراثنا الديمقراطي قديم جدا في الواقع، يرجع في قدمه إلى حضارة الإغريق والعبريين. وبعضه حديث نسبيا، يرجع في حداثته إلى الآلة البخارية. وبعضه ندين به للإنسانيين، ولكن بقدر أقل مما تصور لنا عادة كتب الدراسة التقليدية في الأجيال القليلة الماضية. ويجب أن نحذر المبالغة في عصر ديمقراطيتنا؛ فهو لا يزال في الميزان، ولا يزال في حداثته، ولا يزال قوة نامية مكافحة في عالم تعود - لأمد طويل - طرقا أخرى للحياة.
مدى «الإنسانية»
إن مجرد ثورة البروتستانت ضد الكنيسة الكاثوليكية أكسبهم على الأقل اسما مشتركا، مهما تكن الفوارق بين الأنجليكان والأنينوميان (أو الفوضويين) أو من ينكرون وجوب تعميد الأطفال. وليس هناك مثل هذا الاسم المفرد الذي يشمل أولئك الذين يتحدون إلى حد ما في ميادين الفن والأدب والفلسفة في أنهم لا يحبون فنون العصور الوسطى وآدابها وفلسفتها. وأفضل ما نسميهم به «الإنسانيين» وهو اصطلاح استخدم في حدود أوسع وفي حدود أضيق مما يرتاح إليه مؤرخ الفكر ارتياحا كاملا. الإنساني يمكن - في الوقت الحاضر خاصة - أن يكون من رجال الدين الذين يحاولون الاستغناء عن إله شخصي، ويمكن أن يكون مصلحا تربويا يرى أننا نبالغ في دراسة العلوم الطبيعية ونقصر في دراسة الإنسانيات، أو فيلسوفا يرى أن البشر أعلى من الحيوان وإن يكن أدنى من الآلهة، أو غير ذلك. وحتى إذا نحن حصرنا أنفسنا في هذا الفصل في حدود أولئك المعجبين - باليونان والرومان - بل من يحذون حذوهم، من رجال النهضة الذين نصفهم عادة بالإنسانيين، فإننا بذلك نهمل الكثير مما لا ينبغي إهماله.
وإذن فلنأخذ الإنسانية على أنها نوع من التعبير العام الذي يدخل تحته كل من كانت نظرته العالمية لا هي دينية أساسا ولا هي عقلية أساسا. وبهذا المعنى لا يتحتم أن تكون الإنسانية موقفا وسطا بين ما وراء الطبيعة في الدين والطبيعة في العلم، وإن تكن قد وقفت في كثير من الحالات هذا الموقف تماما. إن الإنسانية تميل في هذه القرون الحديثة الأولى إلى نبذ العادات العقلية والمثل التي سادت العصور الوسطى، وبخاصة ما تمثل منها في المدرسية، ولكنها لا تقبل البروتستانتية، ولا تقبل النظرة العقلية إلى الكون باعتباره نظاما كالآلة يؤدي وظيفته باطراد وبغير استثناء. الإنساني ثائر كبير على النظرة الكونية في العصور الوسطى، وليست له نظرة كونية واضحة خاصة به. الإنساني فردي عظيم، يريد أن يكون نفسه، وإن يكن رأيه غير واضح فيما يتعلق بتصرفه في نفسه. وهو مدين للعصور الوسطى بأكثر مما يعترف، وبخاصة فيما يفخر به، وهو المعرفة. وهو - إذا استثنينا ليونارد دافنشي وقلة أخرى - ليس بالعالم، بل ربما كان وصف ليوناردو بالمخترع أفضل من وصفه بالعالم.
وقد بينا من قبل كيف أن بعض سمات النهضة الملموسة يمكن أن ترد إلى وقت مبكر من العصور الوسطى كما تصورها الكتب المدرسية القديمة. ولكن إذا كان دانتي في القرن الثالث عشر يعرف اللاتينية القديمة، وإذا كان جيوتو يصور تصويرا شعبيا، وإذا كان فردريك الثاني (ستوبرمندي) شديد التطلع إلى عالم الحواس، قوي العقل فاتر العواطف كأي حاكم مستبد في عهد النهضة، إذا كان ذلك كذلك إلا أنه من الحق أيضا أن الإنسانية لم تبلغ أوجها إلا في أواخر القرن الخامس عشر. ويجب أن نحاول عاجلا أن نعرف - على الأقل في خطوط عريضة - ما معنى هذه الأشياء من حيث كونها نظرة معينة إلى العالم. ولكن دعنا أولا نحدد مدى الإنسانية في عهد النهضة.
إن أبسط نشاط بشري يمكن أن نخص به «النهضة» ونميزها به عن نشاط العصور الوسطى هو في كثير من النواحي ما نسميه البحث العلمي، أو بتعبير أقدم من هذا، ولا يزال نافعا، هو المعرفة؛ فلقد كان الإنسانيون الأصيلون - بالمعنى التاريخي الضيق للكلمة - في الواقع باحثين، وإن يكن مركزهم في المجتمع - أو على الأقل مركز الكبار منهم من أمثال أرازمس - له من المكانة بين الطبقات الحاكمة ما ليس للبحث العلمي في الوقت الحاضر (إن المشابهة الحقيقية هي اليوم بطبيعة الحال مع العلوم الطبيعية؛ فقد كان لأرازمس في القرن السادس عشر ما يشبه المركز الأدبي الذي يتمتع به أينشتين اليوم). كان للإنسانيين ما لم يكن لأسلافهم في العصور الوسطى، كانت لهم معرفة مباشرة باليونانية. وأمكنهم الاتصال بأصول أكثر الكتابات الإغريقية التي كتب لها البقاء. إن الإغريقية تسربت شيئا فشيئا إلى الغرب على أيدي المئات ممن لا نذكرهم اليوم من الباحثين؛ فهي لم تأت بغتة بعد سقوط القسطنطينية في عام 1453م عندما فر الباحثون البيزنطيون من الأتراك. والواقع أن الباحث في العصر الوسيط بعد القرن الثالث عشر لم يكن البتة يجهل الإغريقية كما كنا نحسب. وفي أخريات القرن الرابع عشر كان أي شاب محب للبحث طموح يستطيع أن يتصل بالإغريقية، وكذلك حاول الإنسانيون أن يكتبوا اللاتينية كما كان يكتبها شيشرون وأتباعه. أي إنهم تخلوا عمدا عن لاتينية العصور الوسطى التي كانت لغة طبيعية، تكتبها وتتحدث بها طبقة المثقفين - برغم صغرها - لمجرد احترام التقاليد الذي ألفوه. أما الباحثون الإنسانيون فقد أحيوا متعمدين لغة ميتة - لغة كانت إلى حد ما ميتة موتا عميقا منذ ذلك الحين. لقد أخرجوا ما في اللاتينية من حياة وصقلوها وهذبوها. وكانت لديهم المطبعة فتيسرت لهم سهولة الاتصال بعضهم ببعض أكثر مما تيسر لأسلافهم في العصور الوسطى. وقد كان الإنسانيون فئة قليلة ممتازة لا يهمهم أن يكون لهم جمهور كبير. بل إن بعضهم سخط على المطبعة لأنها ابتذلت المعرفة، والواقع أن المطبعة في تلك الأيام الباكرة لم تمس الجمهور الديمقراطي إلا في الدين. وسوف نحاول أن نبين فيما يلي مدى ما بين الباحثين الإنسانيين وأسلافهم في العصور الوسطى من تغير في الروح. ولكنا نجد على أية حال في إخلاصهم للإغريقية وفي لاتينيتهم الشيشرونية وفي احتقارهم للمدرسيين علامات تكفي لأن نميزهم بها.
وفي الفنون الجميلة أخرج رجال النهضة الكبرى - في القرن السادس عشر، أو عهد الإحياء الفني عند الإيطاليين - أعمالا تختلف جد الاختلاف عن أعمال العصور الوسطى، وقد أخرجوها تقليدا مقصودا - من ناحية على الأقل - للرومانيين، الذين بقيت آثارهم في العمارة والنحت منتشرة في إيطاليا التي كانت لها القيادة في الفن والأدب في الحركة الإنسانية. ولكنهم لم يخرجوا هذه الأعمال فجأة، بل كانوا يدينون لأسلافهم من العصور الوسطى بقدر يفوق ما يعترفون به.
وربما كان التغير أشد ما يكون، والانتقال أوضح ما يكون، في فن العمارة. والواقع أن الفن الغوطي الشامخ لم يكن في الحقيقة شعبيا في إيطاليا، وسرعان ما أخذ البناءون القوس المستديرة، والقبة، والرسوم القديمة، والخطوط التي ترى أن الأفقي شيء لا يصح تجاوزه. لقد أخرجوا في الواقع طرازا مركبا من عناصر لكل منها أصل قديم، ولكنها عندما ينضم بعضها إلى بعض تكون شيئا جديدا، شيئا أصيلا؛ فليس من الرومان، وليس من الإغريق من شيد بناء يشبه «القديس بطرس» في روما كل الشبه أو يشبه قصور النهضة في فلورنسة. وكلما اتجه هذا الطراز شمالا اختلط بالتقاليد الوسيطة المحلية وتمخض عن صور مختلطة عجيبة مثل القصر الفرنسي الشهير في شامبور. وكله ينتمي إلى النهضة في بساطة التكتل والأفقية في الطوابق السفلى، وكله غوطي مسرف يتطلع إلى أعلى في السقوف والمداخن. وتنم قصور الإقطاعيين في إنجلترا، بالرغم من خلوها من التحصين، وبالرغم من أنها لم تعد قلاعا كقلاع العصور الوسطى، عن آثار غوطية في قلب القرن السابع عشر.
وكذلك في النحت والتصوير يتميز إنتاج القرن السادس عشر بصورة واضحة عن إنتاج القرن الثالث عشر؛ فإن صورة رافائيل تختلف عن صورة جيوتو. وكذلك ليس «داود» - بغض النظر عن حجمه البطولي - لميخائيل أنجلو تمثالا يمكن أن ينسجم مع كاتدرائية غوطية، ومع ذلك فإن الرجل العادي غير الخبير الذي يلجأ إلى مشاهدته يرى أن التصوير والنحت في عهد النهضة يبدوان متصلين بالتصوير والنحت في العصور الوسطى بطريقة لا يبدو أن كاتدرائيتي شارتر والقديس بطرس في روما متصلتان بها. ولو أنك اتخذت معيارا للقياس غير دقيق ما نستطيع أن نسميه في بساطة ب «الطبيعي» أو «بما يشبه الحياة»، وهو ما تسجله آلة التصوير التي ترسم أمارات الحياة، لوجدت أن الفنانين منذ القرن الثالث عشر يتجهون نحو هذا «الطبيعي» ويبتعدون عن تقاليد معينة قد تكون وقد لا تكون «بدائية»، وأكثر ما تنطبق هذه التقاليد على الفن البيزنطي، الذي كان جافا، كهنوتيا، مسطحا، لا يحاول أن يسبق آلة التصوير أو التلوين التقني (تكنيكلر)، إنني أحاول هنا جاهدا أن أروي ولا أحكم. غير أن هذه الميادين هي في صميم ذلك النوع من المعرفة اللاتراكمية التي تعرف بالذوق؛ حيث تكون كل لفظة مدحا أو هجاء. واليوم على وجه العموم إذا قلنا عن الصورة إنها توحي بالرسم الفوتوغرافي كنا بذلك نعيبها - أي إن القرن الثالث عشر الوسيط والسادس عشر الناهض التقيا في فن التصوير والنحت ضد الفن البيزنطي، والنهضة هي وليدة العصور الوسطى بصورة واضحة، على الأقل في نقطة فنية رئيسية جدا.
وكذلك الأمر بشكل أشد جلاء فيما يتعلق بالأدب الخيالي، فإن الصفات الظاهرة البارزة لا تفرق بين عهد النهضة وقمة العصور الوسطى بمقدار ما تشير إلى استمرار واضح في التطور. ومن المؤكد أن استخدام اللغة الوطنية ليس مقياسا؛ لأن اللغات الوطنية كانت تستخدم في الشعر والرواية، في الأدب للتباين مع الفلسفة، حتى قبل أن استخدمها كتاب كبار في العصور الوسطى من أمثال دانتي وشوسر. وليس من شك في أن أشكالا معينة - وبخاصة في الشعر - وضروبا معينة من الأسلوب المصقول تميز العمل بحيث تمكن نسبته إلى الإنسانيين؛ فالمقطوعة الشعرية، التي تعرف بالسونيت على سبيل المثال شكل يمكن أن نعزوه على الفور لعهد النهضة. غير أن الاستمرار منذ القرن الثالث عشر يسترعي النظر برغم ذلك. ومن الأمثلة المحسوسة لذلك الأدب الفاحش، فإذا أنت قرأت بترتيب زمني نماذج من «فابليو»، وإحدى قصص شوسر الماجنة، وطرفا من بوكاشيو، وشيئا من رابيليه، فأنت تسير من العصور الوسطى إلى قلب النهضة، وأنت تنتهي برجل يوصف دائما بالإنساني على التوالي. ومع ذلك فإن رابيليه لديه خصب، وفحش صبياني، وجدة وصمت كذلك بالغوطية. وقد تبدو معرفته المتنوعة الواسعة لأول وهلة إنسانية، ولكنها معرفة تراكمت مع قليل من الإحساس الكلاسيكي بالنظام.
وفي المقطوعة التالية يصف رابيليه في إسهاب وبما يمثل المعرفة الإنسانية في جميع الميادين أفضل تمثيل، نباتا عجيبا (خياليا) يسميه باتاجروليون على اسم بطله بانتاجرويل. «وجدت أن النباتات تسمى بوسائل شتى، بعضها يسمى باسم أول من كشفها، وعرفها، وأظهرها، وزرعها، وحسنها بالتزريع، وجعلها مناسبة، مثل: مركيورياليس الذي اشتق اسمه من ميركري؛ وباناسيا من باناس ، ابنة اسكولابيوس؛ وآرموا من آرتميس؛ وهوديانا، ويوباتوريام من الملك يوباتور؛ وتلفيون من تليفوس؛ ويوفوربيوم من يوفوربوس، طبيب ملك جوبا؛ وكليمنوس من كليمنس؛ والقبياديوم من القبيادس؛ وجنتيان من جنتيوس، ملك سكلافونيا. وكانت هذه الميزة فيما سبق تقدر قدرا كبيرا - ميزة تسمية النباتات المكتشفة حديثا، إلى درجة أنه لما ثار الجدل بين نبتيون وبالاس حول تسمية الأرض التي كشفاها معا، إلى أيهما تنتمي - وإن تكن قد تسمت فيما بعد باسم أثينا نسبة إلى آثينى وهي منيرفا - مما أدى إلى أن يقتل لينكس ملك سيثيا غدرا الشاب تربتوليموس، الذي كان سيريس قد أرسله إلى البشر لكي يدلهم على فائدة الحنطة التي لم تكن معروفة من قبل. وذلك لكي يفرض اسمه - بعد قتله - ويسمى مخترعا لنوع من الحبوب نافع جدا وضروري لحياة الناس، فيكتسب بذلك الشرف والمجد الخالد. وبسبب هذه الفعلة الشريرة وهذه المحاولة الخائنة حوله سيريس إلى فهد صغير. وهناك أعشاب ونباتات أخرى تحتفظ بأسماء البلدان التي نقلت منها، مثل: التفاح الميدي من ميديا حيث وجد لأول مرة؛ والتفاح البيوني - وهو الرمان - الذي وجد في بونقيا؛ وليجوستيكوم الذي نسميه لوفاج، الذي وجد في ليجوريا، ساحل جنوا؛ وكاستانز أو برسيك أو شجر الخوخ، أو سابين، أو ستاكاس من جزر هيريس التي امتلكها؛ وسبيكا كلتيكا، وغيرها.»
وفحش رابيليه بمثل هذا العمق في المعرفة، فيه من المعرفة مما لا يمكن لغير الإنساني أن يلمس كل ما فيه من فحش؛ فهو يذكر قوائم مطولة، كأنها الأوراد، من الصفات التي ليس فيها ما لا يمكن طبعه - أو ما لم يمكن طبعه - سوى الموضوع الأصيل.
إن هذه الدراسة المقارنة في الفحش تؤكد لنا على الأقل المشقة الكبرى في تصنيف الأعمال الفنية (بأوسع معاني الفن، الذي يشمل الأدب) بحيث تتفق مع تعميمات الفلسفة وعلم الاجتماع الكبرى - وقد تكون صفة الفحش غير محدودة بزمان، ومن ثم فهي محك غير سليم. إلا أنا لا نكاد نجد سمة ظاهرة وحيدة من السهل تمييزها يمكن أن تفرق في وضوح بين الفن الوسيط وفن النهضة .
والواقع أن القارئ الذي تدبر ما سبق ربما وصل إلى هذه النتيجة؛ وهي أنه ما دامت العصور الوسطى كانت دينية قبل كل شيء، وما دامت النهضة كانت تعني على الأقل محاولة الرجوع إلى الوثنية، أو عدم التدين، بل اللادين؛ فإن الوسيط يجب أن يرتبط بالكنيسة وفن النهضة يجب أن يتمتع بحرية بوهيمية. وهذا صحيح إلى حد ما. فما إن بلغت النهضة أوجها حتى كان المثالون والمصورون يقلدون العري القديم كما كانوا يقلدون كل شيء قديم. وبدأ الفنان يحيا نوعا من الحياة ما زلنا نفترض أنه يحياها - حياة الانطلاق، وعدم الحشمة، والمجازفة، ولكنها حياة شائقة. وإن سيرة بنفنوتو سليني التي كتبها بقلمه، والتي يرجع إليها دائما أولئك الذين يريدون أن يبسطوا القرن السادس عشر بوصفه أنه قرن الفنان، لتضع أسطورة الفنان باعتباره العبقري الذي يعلو على العفة كما يعلو على حياة الملل. ومع ذلك فلو أن فيلون كتب سيرة حياته بنفسه فلربما تفوق فيها على سليني. وتستطيع بطبيعة الحال أن تزعم أن فيلون ليس في الواقع من العصر الوسيط، وأنه يبشر بالنهضة.
غير أن هناك مشقة كبرى في قبول هذا الحكم: إن العصور الوسطى تساوي الدين والتزمت، والنهضة تساوي الوثنية والانطلاق؛ ففي خلال النهضة وهي في أوجها كان الفنان يعمل للكنيسة ويعالج موضوعات دينية. ولو أنك فكرت في أعمال هؤلاء الرجال ذات الشهرة العالمية، وهي أعمال بلغت من الشهرة بحيث تبدو للرجل العميق الثقافة في هذه الأيام سوقية مبتذلة - مثل العشاء الأخير لليوناردو، ومادونا لرافائيل، والصور الحائطية التي رسمها ميخائيل أنجلو في كنيسة سستين، وما إليها - لتبين لك أنها كلها دينية في موضوعها. وقد يقول قائل إن هذه الأعمال دينية ظاهريا فحسب، وإن روحها دنيوية، حسية، وثنية، إنسانية، وعلى نقيض ذلك كانت الحال في العصور الوسطى. إن مادونا التي رسمها رافائيل ربما كانت - كما يقولون - صورا لنساء إيطاليات فلاحات، ليس فيها من الروحية أكثر مما عند الفائزات في مسابقة جمال أمريكية. وهذا التباين بين مادونا من تصوير رافائيل - وكلها جسد - وبين العذراء المنحوتة على الطراز الغوطي - وكلها روح - لمما يدعو إلى ضلال الرأي؛ فإن مادونا رافائيل ليست إلا خلفا لعذراء العصور الوسطى، وهي لا تهتك سلفها بأية حال من الأحوال؛ هذا السلف الذي كان أبعد ما يكون عن مبدأ مجرد. والواقع أننا نبالغ في تزهد العصور الوسطى وتطلعها إلى العالم الآخر، ومن أجل هذا أساسا نجد أن فن النهضة فيه جدة، وفيه وثنية، وفيه إنسانية. إن فناني النهضة الذين وهبوا أكثر حياتهم الفنية إلى جعل العقائد المسيحية محسوسة، مرئية، إنما كانوا يؤيدون وظيفة ورثوها عمن سبقوهم في العصور الوسطى. ولم يصبح الفن دنيويا بحتا إلا تدريجا، وفي الأزمنة الحديثة نسبيا، حتى كاد يختفي الفن الديني. وهنا أيضا نجد أن الحديث يرجع في جذوره العديدة الثابتة لا إلى القرن السادس عشر، ولكن إلى القرن الثامن عشر.
طبيعة الإنسانية
ومهما يكن من أمر فلقد كان الإنسانيون ثائرين واعين بثورتهم، سواء أكان اهتمامهم الرئيسي بالبحث، أم الفلسفة، أم الفن، أم الأدب. وهم محدثون إلى أقصى حد من حيث إدراكهم أنهم في ثورة ضد آبائهم رجال العصور الوسطى. وربما كان الباحثون والفلاسفة - وهم إنسانيون بالمعنى الضيق - أوضحهم تعبيرا؛ فإن أرازمس وأمثاله قد عبروا تعبيرا حرا عن ازدرائهم للمدرسيين، أتباع أرسطو المستعبدين له البائسين، أولئك الذين أساءوا إلى اللغة النبيلة، لغة هوراس، وشيشرون، أولئك الخاملين الذين ينفقون الوقت في النزاع حول عدد الملائكة الذين يمكن أن يستقروا على طرف الإبرة. إننا ما زلنا نردد نقدهم اليوم، بالرغم من أن الأفق أمامنا أفسح من الأفق الذي كان يحيط بهم. ومن الحق أنهم كانوا في ثورة على المذهب المدرسي المتداعي، ولم يثوروا على المذهب المدرسي الناضج في القرن الثالث عشر، الذي لم يحاولوا محاولة جدية أن يستردوه.
وحتى رجال الفن كانوا في ثورة، يجاهدون عمدا أن يلقوا عن كواهلهم تقليدا كانوا يشعرون بعبئه. وكان المذهب الغوطي المتأخر في حالة من التدهور تشبه حالة المذهب المدرسي المتأخر. وإن أولئك القوم الذين كانوا يقطنون شمالي الألب لم يرحبوا بالأساليب الإيطالية الحديثة في كل الفنون إلا لأنهم كانوا ثائرين على التعقيدات والسخافات التي تغلغلت في الفن الغوطي المتأخر. إن أسلوب النهضة في بدايتها كان بسيطا، يخلو نسبيا من الزخرفة، ويتحاشى عن عمد غزارة الفن الغوطي، ويبحث عن عمد في النماذج الكلاسيكية عن البساطة والنظام.
وربما كان الإنسانيون والبروتستانت على السواء ثائرين في الصميم لأنهم أحسوا أن الفجوة المألوفة التي تفصل بين المثالي والواقعي قد بلغت في أخريات الأزمنة الوسيطة درجة سحيقة ظاهرة، وهذه الفجوة - بالرغم من إلفها - كانت بالنسبة إلى كل امرئ حساس أمرا لا يطمأن إليه. وهذه الفجوة التي كانت شديدة الوضوح خلال العصور الوسطى بلغت من العمق في القرن الخامس عشر درجة لا نستطيع مهما بذلنا الجهد في التفسير أن نردها إلى سبب. كان المثالي لا يزال مسيحيا، ولا يزال يهدف إلى الوحدة، والسلام، والأمن، والنظام، والاستقرار. أما الواقع فهو الحروب المتوطنة، وانقسام السلطة حتى في ذروتها، حتى في البابوية التي ينبغي أن تمثل الوحدة الربانية الثابتة الموقرة، والتنافس على الثراء والنفوذ، فترة من فترات القلاقل.
ومن ثم فإن هذه الحركة المركبة في الفنون والفلسفة التي نسميها الإنسانية - كانت كالبروتستانتية إلى حد ما - ثورة مقصودة، ثورة على أسلوب من أساليب العيش كانت تراه فاسدا، معقدا، عقيما، لا هو بالصادق، ولا هو بالجميل. وكأن الإنسانيين يفتحون نافذة يتسرب منها النسيم العليل، كما يؤدون أعمالا سارة كثيرة أخرى.
وبالرغم من ذلك فإن تشبيهات الإنسانيين بدأت تختفي عن أنظار الناس أجمعين ما عدا المخلصين لها. وسرعان ما بدأ فن النهضة ينمي الرغبة في الزخرفة، والولع بالتفصيلات، وغزارة اللون، مما كان يليق بالقرن الخامس عشر. ونستطيع بعبارة أدق أن نقول إن الإنسانيين الظافرين انقسموا في أغلب الفنون إلى مدرسة تغرم بالتفصيل والخصوبة وأخرى تميل إلى الاقتصاد والزهد؛ ففي فن البناء - مثلا - نجد التطور يسير في ناحية ممثلا في بلاديو، وهو إيطالي عاش في القرن السادس عشر وأغرم بالبساطة الكلاسيكية الصارمة التي سارت في أثر توجيه أساتذة المدارس، ثم اتجه نحو الكلاسيكية الجديدة التي نعرفها في الولايات المتحدة باسم «الاستعمارية». كما سار التطور في ناحية أخرى تتجه مباشرة نحو الباروك (الزخرفة) ثم في القرن الثامن عشر نحو الروكوكو (الزخرفة الزائدة التي تخلو من الذوق)، وهي أساليب تكثر فيها المنحنيات وتعزر فيها الزينات. أما في الكتابة فإن الإنسانيين لم يكونوا في أي وقت من الأوقات أبسط فعلا من خصومهم المدرسيين. وسرعان ما بلغت البحوث عندهم الذروة من حيث الادعاء والدسامة وعمق أساتذة الجامعات. وفي شيء من الخلط حل أفلاطون محل أرسطو كفيلسوف. وحتى في الأدب الخيالي ابتعد الأدباء عن مثل البساطة (وهي المثل التي لم تأخذها النهضة قط مأخذ الجد) حتى إنك لتجد في القرن السادس عشر حركتين أدبيتين أخذتا بنوع من الغلو والغموض في نجاح لم يتحقق مثله حتى عهد قريب جدا - وأقصد بهما «التلطف في التعبير» في إنجلترا «والتلميح» في العبارة في إسبانيا. وقد أدت الشعبية الحديثة بين أنقى رجال الفكر إلى معرفتنا مرة أخرى بالشعراء الميتافيزيقيين في إنجلترا في القرن السابع عشر، أولئك الشعراء الذين لم يكونوا قطعا على بساطة أو وضوح أو منطق معقول، وسرعان ما خلقت النهضة لنفسها فجوتها الخاصة بين الواقعي والمثالي.
ذلك لأن النهضة لم تكن في الواقع فوضوية، شأنها في ذلك شأن حركة الإصلاح البروتستانتي؛ فلقد ثارت النهضة على حلول سلطة - أو مركب من المثل والعادات والنظم - محل أخرى، ولم تكن هذه السلطة الجديدة بأية حال من الأحوال منقطعة الصلة عن سابقتها أو أقل منها تعقيدا. ثم إن الإنسانيين كثوار كان عليهم أن يجاهدوا جهادا شاقا في سبيل الحط من شأن سلطة بائدة. وفي خلال ذلك كثيرا ما لجئوا إلى لغة التحرير، على الأقل إلى حد المطالبة بالحرية في التربية الجديدة، والتحرر من قواعد المدرسية، والمطالبة بالحرية للفرد كي يسير وفق هواه، ولا يكون مجرد ببغاء يردد أرسطو. بيد أن الإنسانيين لم يؤمنوا فعلا بأن الإنسان طيب وحكيم بالطبيعة، وكانوا في ذلك أشد مغالاة من البروتستانت، الذين منهم من كان لا يرى ضرورة تقيد المسيحي بالقواعد الخلقية . أو بعبارة أخرى قل إن شئت إن الإنسانيين لم يتحرروا قط من التقاليد الفكرية الطويلة التي سادت العصور الوسطى، التي كانت تبحث عن السلطان - أو تبحث عن الحل - في الأعمال المدونة للمشاهير من السلف؛ فالإنسانيون في الواقع أحلوا جملة ما بقي من كتابات الإغريق والرومان، الأدبي منها والفلسفي، محل آباء الكنيسة، وأرسطو، وعلماء العصر الوسيط فحسبه وحيثما كانوا يهتمون بالدين اهتماما شديدا اكتفوا بنص الإنجيل ودرسوه دراسة حقة في أصله العبري أو الإغريقي. وسرعان ما وضعوا في المحل الثاني من النفوذ مجتمعهم الخاص يتبادلون فيه الإعجاب، وبدءوا العملية الحديثة التي تتركز في الحواشي الدراسية للمتون. غير أنه ما برح لديهم نفس التقدير لسلطان القديم، ونفس عادة التفكير المجرد، بل التفكير الاستنباطي، ونفس العزوف عن إجراء التجارب، وعن البحث بطريقة غير كريمة، مما نجده عند المدرسين. إنهم لم يكونوا في الواقع طلائع البحث العلمي الحر الحديث، بل كانوا مدرسيين أشد غرورا وأكثر اهتماما بشئون الدنيا.
إن ما ذكرت في الفقرة السابقة فيه مبالغة شديدة، وإنما قصدت به أن أؤكد رأيا بعينه، وهو أن العلماء الإنسانيين لم يكونوا متحررين أو ديمقراطيين بالمعنى الحديث. إنما كانوا فئة ممتازة من رجال العلم، جد فخورين بمعاييرهم العلمية، لديهم أكثر ما عرف من عيوب عن الباحثين: الغرور، والتملك، والشحناء، والفزع الشديد من ارتكاب الأخطاء، وكان عندهم قسط كبير من إحدى الفضائل الكبرى للباحثين، وهي فضيلة الشهوة العارمة للجهد العقلي الشاق. أما نصيبهم من براعة النقد، ومن القدرة على تحديد المشكلات وحلها، فمن المؤكد أنه لم يزد عما ينبغي أن يتوافر للباحث؛ فلم يكونوا عمالقة في الفكر كما يبدون لنا اليوم. إنما كانوا روادا يسيرون في بطء على أرض لم تمهد بعد.
لقد وضعوا للبحث الحديث نمطا ومعايير. وفي دراسة اللغات القديمة أدخلوا النظام، والدقة، والأدوات التي تأخذها كأمر مسلم به، كالمعاجم «القواميس» المرتبة ترتيبا أبجديا. كما طوروا معايير النقد التحليلية والتاريخية. وما برح المثال المشهور من إنجازات هؤلاء الباحثين من الأمثلة الطيبة التي توضح طرقهم في أحسن حالاتها. كان البابوات في مستهل العصور الوسطى قد أيدوا نفوذ «المحكمة البابوية»، التي كانت بالفعل تقوم على أساس ثابت من تقاليد بطرس، بما يعرف ب «هبة قسطنطين»، وهي وثيقة زعموا أنها صدرت من الإمبراطور قسطنطين وهو يغادر روما لكي يؤسس عاصمته في القسطنطينية، وقد استخلف فيها البابا في روما، وأسلمه السلطان المباشر على الأرض التي تحيط بروما، والتي عرفت فيما بعد ب «ولايات الكنيسة»، وقد أثبت أحد الإنسانيين الأوائل - واسمه لورنزو فالا، الذي توفي في عام 1457م - أن هذه الوثيقة مزورة؛ ذلك أن لغة الوثيقة لم تكن تلك اللغة التي كان من الممكن أن تكتب في مستهل القرن الرابع بعد الميلاد. وقد أثبت فالا ذلك بوسائل أصبحت مألوفة لنا اليوم جميعا. أثبت أن بالوثيقة إشارات إلى غير زمانها، كما لو عزا أحد إلى إبراهام لنكولن خطابا وكانت به إشارة إلى عربة بويك.
ولم يكن التفكير الميتافيزيقي الشكلي عند الإنسانيين سمة من سماتهم الواضحة. كان أصحاب العقول المنظمة المصممة على الإجابة عن «المشكلات الكبرى» في تلك القرون الحديثة الأولى إما من رجال الدين، وإما من العقليين على أية صورة من الصور. لم يكن الإنسانيون الإيطاليون من أمثال فسينو وبيكو، ولاميراندولا، مجرد أفلاطونيين. إنما كانوا من أتباع الأفلاطونية الحديثة، كانوا من أصحاب العقول المرنة الذين يعتقدون في هذه الصوفية المدرسية الممعنة في الفكر. ومن الحق - بوجه عام - أن الإنسانيين في أكثر أنحاء أوروبا قد رحبوا بأفلاطون لكي يريحهم من أرسطو، كفيلسوف أقرب إلى المسيحية التي تحجرت برغم بقائها مقدسة، والتي كانوا فعلا في حاجة إليها. ووقع أرازمس وتوماس مور وكوليه وغيرهم من أبناء الشمال تحت تأثير أفلاطون. وليس من شك في أن الرأي القائل بأن هؤلاء الرجال إنما تخلوا عن سلطان أرسطو لكي يحتموا في سلطان غيره يمكن أن يكون محلا للمبالغة. غير أنه من المؤكد أنهم لم يضيفوا إلى المعرفة الأفلاطونية إلا قليلا، ولم يكونوا في الواقع فلاسفة أساسا.
إنما هم الكتاب الخياليون والفنانون الذين يقتربون من صميم النظرة الإنسانية إلى الحياة: بترارك، ورابليه، وشيكسبير، وسرفانتيس، والمصورون، والمثالون، والموسيقيون، ممن لا نزال نذكر أسماءهم - أمثال هؤلاء هم الذين تلمسوا طريقا بين المسيحية التقليدية كما تحددت من العصور الوسطى والتعقل الجديد الذي يبدو كأنه يمحو من الكون كل ما فيه من سحر وغموض. ولما حل القرن السابع عشر استطاع بعضهم - من أمثال ملتن - أن يدخل شيئا من الرهبة والغموض في العالم الذي كان العلم يحاول أن يوضحه. ولكن قل من الفنانين من أمكنه أن يقبل عالم بيكون وديكارت. ومنذ هذه القرون بدأ عند الفنان انعدام الثقة في العالم الذي نعرفه في العصر الحديث.
وقد رأينا أن هؤلاء الفنانين كانوا ثائرين عن عمد - بدرجة ما - ضد التقاليد المسيحية الحديثة. لقد نبذوا سلطة من السلطات، ولكنهم - وهذا أمر غاية في الأهمية - اضطروا إلى البحث عن سلطة أخرى، بل ربما خلقوا هذه السلطة خلقا؛ فإن قبول الباحثين لأية عبارة مما سطر أي كاتب إغريقي أو روماني قديم لم يكف رجال الخيال هؤلاء. وقد رجع هؤلاء الفنانون إلى اليونان وروما، شأنهم في ذلك شأن أي امرئ يمس كل أمر عقلي. ولكنهم - كمهندسي العمارة - أعادوا تشكيل موادهم في صورة جديدة. والواقع أننا نستطيع أن نحاكي فن العمارة - بالرغم من أنه قد يبدو فنا غير شخصي - إذا أردنا أن نقوم بتصنيف هؤلاء الكتاب وفقا لنظام من النظم، بالرغم مما في ذلك من مشقة.
من المهندسين المعماريين لعهد النهضة - ونستطيع أن نربط اسم بلاديو بهذه الفئة - من وجد في نماذجه الكلاسيكية البساطة، والانتظام، والاعتدال (بلا ضخامة)، والهدوء، والزخرفة الرشيقة (بغير خشونة). وكذلك من رجال الفن والأدب في عهد النهضة من رجع إلى القدامى فألفى لديهم نفس هذا السلطان ، ووجدوا أن القدامى كانوا «كلاسيكيين»؛ أي إنهم وجدوا - في الأساس - ذلك المثل الأعلى للجمال والخير، الذي لم يختف قط حتى الآن من التربية الغربية الرسمية. وجدوا أن الإغريق والرومان - أولئك الذين لهم قدرهم، وأولئك الذين نستطيع أن نقرأهم - كانوا قوما مهذبين منظمين، معتدلين في كل شيء، لا يثقون بالحوشي، أو الهائج ، أو المنطلق بغير قيد، أو المتحمس، متحررين من الخرافة ولكنهم ليسوا على غير دين، يسلكون زمام أنفسهم، رجال خيال ناضجين، ولم يكونوا عقليين ذوي أفق ضيق. ويستطيع المرء أن يسترسل في هذا الوصف. والواقع أننا سوف نعود إلى بعض أوجه هذه المثل - ويكفينا هنا أن نذكر أن هؤلاء المعجبين في عهد النهضة بثقافة الإغريق والرومان الكلاسيكية قد وجدوا في هذه الثقافة «النظام» قبل كل شيء، ولم يروا ما يظن الأستاذ جلبرت موري (الذي ذكرنا رأيه من قبل في هذا الكتاب) أنه كان من الممكن أن يشاهد فيها لولا أن أجيالا من أمثال هؤلاء الإنسانيين قد كبتوه كبتا تاما - وأعني به الخصب، واللون، والانطلاق الوحشي، وتطلع الكائن الأرضي الصغير إلى النجم، وإلى المغامرة الجريئة، والخيال البعيد.
وسنطلق هنا على هذا «القصد» ليقابل «الخصب» الذي قد تفسر به الكلاسيكيات. وتستطيع أن تجد آثارا من هذه الصفة حتى في أوج النهضة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وبخاصة لدى الإنسانيين الباحثين أصحاب الخيال من أمثال أرازمس. وعند مونتيني جانب كبير منها، بالرغم من أن مونتيني يمسك نفسه دائما عن التمسك بأي اتجاه من الاتجاهات. وهذه الكلاسيكية «المقتصدة» أمست حركة، أو أسلوبا جديدا، أو طريقة من طرق الحياة. وبلغت أوج ازدهارها في فرنسا في القرن السابع عشر، ويعد عصر لويس الرابع عشر في كثير من الوجوه مثالا طيعا لهذا المثل الأعلى.
وإليك قطعة من بوالو تبين في شكلها ومادتها الاتجاه الكلاسيكي في عصره؛ الوضوح، والوقار، واحترام الرأي القديم، وعدم الثقة في غير المألوف، والشاذ، والابتعاد عن المعايير السائدة:
لما كان الكتاب قد ظفروا بالإعجاب لعدة قرون، ولم يحط من قدرهم إلا فئة قليلة من الناس ذوي الأذواق الشاذة (فهناك دائما أذواق فاسدة) فإن إلقاء الشك على قيمة هؤلاء الكتاب هو إذن من باب النزق، أو الجنون. فإذا كنت لا تلمس في كتاباتهم جمالا فلا تحكم بأن الجمال فيها معدوم، وإنما احكم على نفسك بالعمى وانعدام الذوق. إن جمهرة الناس لا تخطئ في حكمها على إنتاج القرائح في نهاية الأمر. إننا لم نعد نشك اليوم في قيمة هومر أو أفلاطون أو شيشرون أو فيرجيل. إنما هذا أمر انتهى فيه الجدل؛ لأن عشرين قرنا قد اتفقت على حكمها عليه. إنما المسألة هي البحث عن مبعث الإعجاب بهؤلاء الكتاب في عدة قرون. وعليك أن تتفهم ذلك أو تتخلى عن الأدب، وتؤمن بأنك تفتقر إلى الذوق وإلى الاستعداد ما دمت لا تحس ما أحسه الناس جميعا.
إن العلاقة بين هذا النقد «المقتصد» والمسيحية ليست البتة من الأمور الهينة؛ فقد كان كبار الكتاب في العصر الفرنسي الكلاسيكي الذين ربما كانوا خير من يمثل هذه العلاقة كاثوليكيين مخلصين أو كانوا على الأقل كاثوليكيين يؤدون كل شعائر الكاثوليكية. وحقا كان من قبيل حب التظاهر الباطل أن يخرج الكاتب منهم على الكاثوليكية. ثم إنه لم يكن من اليسير على الكاتب أن يظفر بالتقدير في بلاط لويس الرابع عشر إذا كان زنديقا أو متشككا. غير أن الكلاسيكيين كانوا في كثير من الأحيان لا ينفصلون إلا بخيط دقيق عن العقليين، أولئك الذين كانوا يشنون هجوما على أي شكل من أشكال الديانات الموحى بها. ومن الجلي أن أمثال بوالو، وبوسويت، بل وراسين - وأهم من هؤلاء قراؤهم - لا يمكن أن يكونوا من المتحمسين، أو المتصوفين، أو البروتستانت مع احتفاظهم بنوع التذوق الذي كان يشكل جانبا من اتجاههم، وهذا التذوق وكثير مما يعزى إليهم غير ذلك، كالقواعد الأساسية المشهورة للدراما الفرنسية، كانوا جميعا يرون أنه يتفق اتفاقا كاملا والشعور العميق والإحساس بالغموض، وعجز الناس عن السير في حياتهم دون الاسترشاد بعون الله. لقد أحسوا أنهم كانوا مسيحيين طيبين.
وهكذا كان أكثرهم، ولكنهم كانوا مسيحيين مستنيرين طبقا لقواعد الدين ولم يكونوا مسيحيين إنجيليين، وربما ندم بعضهم - كما ندم راسين - في أخريات حياتهم على ماضيهم الدنيوي، ثم انقلب إلى التقوى مخلصا فيها مع اتباعه لتقاليدها. وربما كانت هناك على حافة هذا العالم هرطقات مثل مذهب جينسن، الذي سمي كالفنية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والذي كان في الواقع تفسيرا للمسيحية جافا وكلاسيكيا. وربما تجاوز بعض الأعضاء المتسامحين من أمثال الأسقف فنيلون هذا الحد إلى نوع من الهرطقة أحدث، إلى مذهب السكون الذي ربما كان حركة تمهيدية للإيمان العاطفي في الخير الطبيعي الذي عرف في القرن الثامن عشر. غير أن كثرة هؤلاء الإنسانيين الكلاسيكيين كانوا بالتأكيد على هامش المسيحية، أو على الأقل مسيحيين لا يندفعون نحو تقليد المسيح، مسيحيين الكنيسة في نظرهم نظام قبل كل شيء للأفراد الجموحين بطبعهم الذين كان يعوزهم ما عند هؤلاء الإنسانيين من إحساس، وتربية وشعور بما يليق وما لا يليق.
من اليسير - ومما يغري - أن ننظر إلى أسلوب الحياة وطرائق التفكير عند الإنسانيين الكلاسيكيين باعتبارها غير مؤثرة في تكوين العقل الحديث، وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية، وباعتبارها أمرا يهتم له الأستاذ في المدرسة - أو رجل مثل ت. س. إليوت - ولكنه لا يتغلغل خاصة في تفكيرنا ومشاعرنا. ومع ذلك فإن مؤرخا للفكر فرنسيا ممتازا - هوتين - زعم بأن ما أسماه «الروح الكلاسيكية» التي تميل إلى اعتبار العالمي، والمنتظم، والموحد، مقياسا من المقاييس، وباعتيادها التبسيط، وباعتقادها في القواعد والمعادلات؛ كل ذلك عاون على تكوين الحالة العقلية التي نسميها «التنوير». ومن المؤكد أن الثائرين من أمثال فولتير قد تأثروا تأثرا بالغا بالأساتذة الكبار في القرن السابع عشر. وسوف نعود إلى هذا الموضوع الذي يتصل بالعلاقة بين الروح الكلاسيكية وعصر «التنوير». وكان الإنسانيون الكلاسيكيون يعتقدون في عهدهم أنهم عثروا على قاعدة للحكم، على معيار، على مقياس دقيق للتذوق، على شيء يمكن أن يقف مع مركب العصور الوسطى جنبا إلى جنب كنوع من التنظيم العملي لهذا العالم المضطرب.
ونحن الأمريكيين نميل بمشاعرنا نحو الإنسانيين ذوي الأذهان الخصبة. وكثيرا ما نعدهم - بمعان لها أهميتها القصوى - صانعي أسلوب حياتنا. وهؤلاء هم أبطال النهضة الأصيلة، أولئك الرجال الذين يشوقنا أن نقرأ أعمالهم، حتى في كتب الدراسة - مثل سليني، الذي قتل، وزنى، ونحت، ورسم، وتحدث إلى الملوك والبابوات. وليوناردو دافنشي، الذي صور، وبنى، وكتب، واخترع الطائرات والغواصات (على الورق) وهندس كذلك. ثم هناك أيضا ملوك من أمثال فرنسيس الأول ملك فرنسا، وهنري الثامن ملك إنجلترا، الذين لم يظهروا بمظهر الملوك فحسب، والذين لم يكتفوا بحذق صنوف الرياضة والصيد التي لا محيص عنها للمراكز السامية في الطبقة العليا في المجتمع الغربي حتى الولايات المتحدة في عام 1950م، ولكنهم أجادوا كذلك اللغات القديمة، وكانوا على فطنة، قديرين على قرض الشعر أو كتابة المقال، وعشاقا عظاما إلى جانب ذلك بطبيعة الحال. وهناك أسر بأسرها، كأسرة بورجيا، تتبرع بالأفراد الجذابين الذين لا يترسمون التقاليد.
إن سمات هذا الطراز من الأفراد لا يمكن أن يخطئها المرء. نعم لقد كان هناك على كر العصور من كان يهدف إلى الأسمى في اجتهاد وحماسة. بل إن الروح بأسرها في بعض العصور كانت أحيانا تضطرم بالحماسة، والاندفاع، كما كان يضطرم عصر النهضة؛ فقد كانت أمريكا مثلا في أواخر القرن التاسع عشر تعيش في عصر عظيم يتصف بالاندفاع. كما لاحظنا فيما سبق أن فلاسفة التاريخ قد وصفوا ثقافتنا الغربية كلها من عهد اليونان إلى ما بعده، أو من العصور المظلمة إلى ما بعدها، بأنها «فاوستية»، «نوردية»، «ديناميكية» في كفاحها وقلقها. غير أن في جهاد النهضة وهي في أوجها نوعا من قساوة الطفولة التي تلفت النظر، نوعا من تحديد الغرض المباشر والانكباب عليه. ويمدنا سليني بثروة ضخمة من الأمثلة. وإليك واحدا منها: «بعدما قطعت صلتي بالملعونة كاترينا، وبعدما اختفى من باريس ذلك الشاب البائس المسكين الذي تآمر معها على الإساءة إلي، عزمت على أن أقوم بتنظيف زخرفتي لفونتنبلو، وهي من البرنز، وأن أصقل كذلك تمثالي النصر، اللذين كانا يمتدان من الزاويتين الجانبيتين إلى الدوائر الوسطى في الباب الخارجي. ومن أجل ذلك صحبت إلى بيتي فتاة مسكينة في نحو الخامسة عشرة من عمرها. وكانت غاية في جمال الهيئة، حية، بشرتها حمراء. ولما كانت ريفية إلى حد ما فقد كانت مقلة في الحديث، سريعة في شهيتها، وفي عينيها نوع من الوحشية، وقد أطلقت عليها اسم سكوزونا، في حين أنها كانت تدعى جيانا. وبمعونتها أتممت فونتنبلو وتمثالي النصر اللذين صممت أن أزين بهما الباب الخارجي. ومن جيانا هذه أنجبت طفلة في السابع من يونيو في الساعة الثالثة بعد الظهر من عام 1544م. وأسميت الطفلة كنستانتيا، وقد رفعها فوق النبع السنيور جيدو جيدي، أحد أصدقائي المقربين، وهو طبيب الملك. ووقف وحده للطفلة أبا روحيا؛ لأن العادة في فرنسا أن يكون للطفل أب روحي واحد، وأمان روحيتان، وإحدى هاتين الأمين كانت السنيورا مادالينا، زوجة السنيور لويجي ألاماني، أحد أعيان فلورنسة، وشاعر مجيد. أما الأم الثانية فكانت سيدة فرنسية من أسرة كريمة، زوجة السنيور ريكاردو دل بين، وهو كذلك مواطن من فلورنسة وتاجر معروف، وكانت هذه الطفلة أولى بناتي وأبنائي على ما أذكر، وقد خصصت الأم بنفقة رضيت عنها عمتها، التي أسلمتها لرعايتها، ولم تعد لي بها معرفة بعد ذلك.»
ولا يسترعي انتباهنا هنا الانحراف الجنسي، أو الانعدام المطلق الظاهر للإحساس بالإثم عند سليني. إنما يسترعي نظرنا تركيز فكره في نفسه بصورة بادية، وانعدام وعيه بغيره كأشخاص، أو كأحياء جديرين بالاهتمام - أعني براءته الصبيانية.
وقد يبدو أن الإنسانيين ذوي الذهن الخصيب كانوا في الواقع ينبذون «كل» سلطان، لا سلطان كنيسة العصور الوسطى وحدها. كانوا إنسانيين، بمعنى أنهم اعتقدوا أن الإنسان هو معيار كل شيء، وأن كل امرئ مقياس نفسه. شعارهم «الفردية» - كان هؤلاء الرجال فرديين يقابلون «التابعين» الجبناء الذين ينتمون إلى رهبان العصور الوسطى. كانوا قوما يجرءون على أن يعبروا تعبيرا صادقا عن أنفسهم؛ لأنهم كانوا يثقون في قدراتهم الطبيعية، في شيء في دخيلة أنفسهم. كانوا ذلك الطراز من الرجال الذي نحبه نحن الأمريكيين، كانوا رجالا لا يضايقون أنفسهم في شيء - وكأنهم من ولاية تكساس.
ونذكر رابليه هنا مرة أخرى مثالا لذلك؛ كان يحب أن يسخر من رهبانية العصور الوسطى، ومن خرافتها، ومن تمسكها بالعفة، ومن عملها الأرسطاطاليسي، وهو يحرر الرجال والنساء من هذا الهراء. وديره الذي يسمى «دير تيليم» كان ديرا علمانيا حقا، يقبل الرجال والنساء على السواء، وقد نقش على مدخله هذا الأمر السار: «افعل ما تشاء».
وأعود فأكرر أنه ينبغي لنا أن نتجنب المبالغة في تخليص هذه الحركة من كل عاطفة نبيلة؛ فلقد كان رجال النهضة هؤلاء - إذا نظرنا إلى النهضة من وجهها الرياضي - هم كذلك صانعي العالم الحديث، عاونوا كثيرا على هدم العالم الوسيط، وبخاصة أوجهه السياسية والخلقية، وأنتجوا كثيرا من الأعمال الفنية التي تعد جانبا من تراثنا لا مفر لنا منه. ولما حل القرن التاسع عشر كانوا قد بلغوا حد العمالقة، وأدوا لأكثر أمم أوروبا العظيمة - ما خلا ألمانيا التي كانت في انتظار جيته - تلك الوظيفة الهامة؛ وظيفة أبطال الثقافة. وأرجو ألا تحسبوا هذه الإشارة تافهة؛ فلولا شيكسبير لربما اهتز - بل لخف بالتأكيد - اعتزاز البريطانيين بأنفسهم، واعتزازنا أيضا، ولم يكن بالإمكان أن يحل محله آخر.
غير أن رجال النهضة هؤلاء لم يكونوا البتة يعملون لأهداف كأهدافنا، ولو التقينا بهم أحياء لشق علينا أن نعدهم من ذوي قربانا. ولا يرجع ذلك - كما سوف نرى في الفقرة الآتية - إلى أنهم لم يستسيغوا الديمقراطية بمعناها الحديث عندنا، بل لم تكن لديهم عنها فكرة ما. وإنما الفارق بيننا وبينهم أعمق من ذلك، أو قل إن هذا الفارق الأساسي يمتد إلى كل ميادين الحياة. ويمكن التعبير عنه بوسائل شتى. إن وراء معتقداتنا الديمقراطية الحديثة نوعا من التفاؤل، فكرة عن إمكان النظام وانتشار الرفاهية بين الناس أجمعين، وهي فكرة لم تكن لدى رجال النهضة. إننا نؤمن اليوم بالتقدم المطرد، وبزمان أفضل في المستقبل هو من طبيعة الأشياء. ونحن نعتقد في الخير الأساسي وفي القدرة على التعلم الكائنة عند الكائنات البشرية العادية. وهناك إيمان أساسي بأن الإنسان ينسجم مع الكون بصورة ما، وإذا عبرنا عن الموضوع ببساطة ليست كلها خداعا، قلنا إن الناس قد خلقوا ليكونوا سعداء.
هذه في الواقع تعميمات ضخمة غاية في الخطورة، وربما لا تكون هذه المعتقدات سائدة بين أكثر الناس في منتصف القرن العشرين، وربما كنا على أعتاب عصر جديد وإيمان جديد، ولكن هذه المعتقدات كانت بالتأكيد معتقدات الديمقراطية المتفائلة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وفي نهاية أحكامنا العامة عن النهضة يجب أن نعترف بأنه ما دامت هذه القرون الأولى من العصر الحديث كانت منبتا لآرائنا، وما دامت - فوق كل شيء - قرونا من التخمر العقلي العظيم ومن التجارب الكبرى، وحيث إنه قد كانت هناك - بوجه عام - حرية للفكر في أكثر أنحاء أوروبا؛ ما دام الأمر كذلك فإنك تستطيع أن تجد أمثلة من كل ما يطرأ على ذهنك في هذه الأيام. فإن كنت من الديمقراطيين أتباع جاكسون وجدت عند «دعاة المساواة الإنجليز» أصولا لما تعتقد. وقد أكسبت العلوم والمخترعات، والمكتشفات الجغرافية الحياة العقلية اتجاها حديثا. كما كانت الجدة والإثارة من الأمور المألوفة، أو كانت على الأقل توجد دائما بجهد ضئيل. وقد كان أحد الإنسانيين في تلك القرون هو الذي أمدنا بالكلمة التي نلخص بها الفكرة التي تقول بأن الناس يمكن أن يكونوا سعداء، ويمكن أن يتلاءموا تلاؤما طيبا في مجتمع كامل فوق هذه الأرض - وتلك الكلمة هي «الطوبى، أو المدينة الفاضلة».
وعند هذه الكلمة يجب أن نقف هنيهة نفكر فيها. إننا نستخدم كلمة «الطوبى» وفي نفوسنا شيء من السخرية. والكلمة تحمل في طياتها نعمة لا يخطئها المرء تنم عن الأحلام، والأساطير، وغير الواقعي. وليس في ذلك شيء من التعسف؛ لأن «طوبى» سير توماس مور ليست أقرب إلى التفكير الحديث من «جمهورية» أفلاطون. وإذا كنت ذا منحى خاص من التفكير والتربية أضفت إلى ذلك أنها «ليست أيضا أقل في حداثتها من «الجمهورية»» كلاهما من عمل مثاليين ميتافيزيقيين، وكلاهما من ذوي العقول المرنة الذين يأملون أن تتجاوز الروح الجسد بصورة ما. إن كتاب مور يمثل اهتمام أوائل القرن السادس عشر بالمكتشفات الجغرافية و«الطوبى» ذاتها جزيرة قام بزيارتها الملاح رالف هثلوداي - وهي أكثر احتفالا بالمشكلات الاقتصادية من «جمهورية» أفلاطون. غير أن كليهما متسلط في روحه، ويبدو أن كليهما لم يكن على دراية بالتحول في العلاقات الإنسانية باعتباره عملية مستمرة، بل وتطورا من ضروب التطور، وربما كان أكثر الكتاب الذين أقبلوا عامدين على اختراع نوع من أنواع المدائن الفاضلة متسلطين بطبيعتهم، حتى إن كانوا - كما كان كارل ماركس - ينادون فيما يكتبون بزوال الدولة، أو بهدف بعيد فوضوي آخر واعتباره الغاية القصوى.
كان سير توماس مور أحد الباحثين الإنسانيين، كاثوليكيا استشهد على يدي هنري الثامن، ولم يكن البتة أحد أولئك الإنسانيين ذوي العقول الخصبة الذين نوليهم اليوم اهتماما خاصا. وهؤلاء الإنسانيون ذوو العقول الخصبة هم الذين أكسبوا النهضة ذلك اللون الذي يبدو لنا اليوم جذابا من بعيد. كان هؤلاء المغامرون، المتطلعون إلى المعرفة، المنفعلون في صميمهم، على غير ثقة بأنفسهم وبمكانتهم في العالم. لقد حاولوا جاهدين أن يثقوا بأنفسهم، ولكنهم لم يصيبوا نجاحا يذكر. إنهم لم يتمتعوا بذلك الأمن الأكيد الذي بلغه الإنسانيون الكلاسيكيون «المقتصدون». كانوا دائما يجربون شيئا جديدا، ودائما يحاولون أمرا جديدا.
وكانت لهم على أية حال غايات خاصة، وأهداف خاصة، وطرق خاصة يسعون إلى اتباعها. كانوا يحقرون من شأن السلف، لا من أجل ما عدوه دورانا منطقيا فارغا فحسب، ولكن كذلك من أجل ما عدوه خوفا من الحياة - حياة الشهوات - الذي عرفته العصور الوسطى. كان التفكير الجديد عند أفراد الطراز الحديث لعهد النهضة - وقد كان الإنسانيون ذوو العقول الخصبة في قمة حركة التجديد في القرن السادس عشر - كان هؤلاء ينادون صراحة بوثنيتهم في سبيل استمتاعهم بالحياة؛ فلم يكن هؤلاء الإنسانيون وهؤلاء الفنانون يشبهون في شيء أولئك المنحلين الذين ظهروا في أواخر العصور الوسطى، يؤرق ارتكاب الذنوب جنوبهم عندما يحاولون أن يمتعوا أنفسهم. كانوا يرقصون رقصة الحياة لا رقصة الموت.
ولكنه كان رقصا علنيا، وكان الراقصون يتألقون. كل راقص يجاهد أن يبز الآخرين في صقله، وحيويته وقدرته على الاحتمال. وكانت المنافسة بين الجماعات التي رسمت حدود الأرستقراطية على أقوى وأشد ما كانت عليه في أي عهد سبق من عهود المجتمع الإنساني، وربما كانت هذه المنافسة بين الصفوة أفتك من تلك المنافسة واسعة الانتشار التي عرفت في أواخر القرن التاسع عشر. وكانت النهضة عصر البطولة - ويتمثل البطل كفنان، وجندي مغامر، ومكتشف، وباحث بل وسجين. وإذا لم يبلغ المرء حد البطولة، كان فاشلا في حياته.
والكلمة العظيمة - التي دار حولها كثير من الأدب النقدي والأدب التاريخي - الكلمة التي يبدو أنها تشير إلى هذا المزيج من جميع المواهب الذي يكاد يبلغ حد الجنون، هذه الكلمة هي ما يدل في الإيطالية على «الفضيلة»، وهي كمثيلتها في الإنجليزية الحديثة مشتقة من الأصل اللاتيني الذي يعني «الرجولة». و«فضيلة» النهضة تؤكد «الرجولة» بمعناها لدينا، وتضيف الكثير إلى هذا المعنى. «الفضيلة» مثل أعلى من مثل الطبقة العليا، يستطيع الشخص الموهوب من الطبقة الأدنى أن يرتفع إليه، وهي كمثل الفروسية التي اشتقت منها إلى درجة ما. ومثل الفضيلة - كمثل الفروسية - يمكن أن يؤكد قانونا سلوكيا لا ينحرف عن المسيحية، ويمكن أن يتحول في يسر شديد إلى قانون الجنتلمان، وهو قانون الحشمة وإن بولغ في جانب التهذيب منه، كما يصور بالدراسات كاستجليوني في مؤلفه «كتاب البلاط». وكان كاستجليوني يكتب كإنساني، مع كثرة الإشارة إلى الأدب القديم، ولكنه يكاد ينتمي إلى العصور الوسطى من حيث عقيدته التي تنم عن مرونة العقل، عقيدته في صحة المثل الأعلى. والأمير الذي يصوره أقرب إلى الأمير الذي صوره جون سولزبري في العصور الوسطى منه إلى الأمير الذي صوره معاصره مكيافيلي: «ما دام الأمر لا يكلفنا سوى الألفاظ، قل لنا بإخلاص كل ما يطرأ على عقلك تعلم به أميرك.»
فأجاب سيدي أوتافيانو: «أود أن أعلمه أمورا كثيرة أخرى يا سيدتي لو أني عرفتها؛ من ذلك أنه لا بد أن ينتقي من بين رعاياه عددا من أنبل وأحكم الرجال المهذبين، يشاورهم في كل أمر من الأمور، ولا بد أن يعطيهم السلطة والحرية المطلقة في التعبير له عن آرائهم في كل شأن من الشئون بغير كلفة . وعليه أن يسلك معهم سلوكا يمكنهم من أن يلمسوا جميعا أنه يحب أن يعرف الحق عن كل شيء، وأنه يضع كل طريقة من طرق المغالطة موضع الكراهية. وإلى جوار مجلس النبلاء هذا، أنصح أن يختار من الشعب أفرادا آخرين من ذوي المرتبة الأدنى، يكون منهم مجلسا شعبيا، يتفاهم مع مجلس النبلاء فيما يتعلق بشئون المدينة، سرا وعلانية. وبهذه الطريقة يتكون من الأمير (وهو بمثابة الرأس) ومن النبلاء والعامة (وهم بمثابة الأعضاء) هيئة واحدة موحدة تصدر إدارتها عن الأمير خاصة، ولكنها تشمل الآخرين كذلك. وهكذا تكون لهذه الدولة أشكال الحكومات الطيبة كذلك، وهي الملكية، وحكومة الصفوة، وحكومة الشعب.
وأحب بعد ذلك أن أدله على أن العدالة هي أهم المهام التي ينبغي أن يشغل الأمير بها نفسه. ولضمان الحفاظ عليها ينبغي له أن يختار لمناصبها أكثر الناس حكمة وتجربة. أولئك الذين يتميزون ببعد النظر الصحيح المصحوب بحب الخير؛ لأن بعد النظر إذا لم يصطحب بالخير لم يكن من بعد النظر في شيء، وإنما يكون دهاء أو مكرا. وإذا انعدم هذا الخير فإن مهارة المدعي وحذقه في التعبير لا يؤديان دائما إلا إلى تدمير القانون والعدالة وهدمهما. وعندئذ يقع وزن أخطاء القضاة على الرجل الذي وضعهم في منصب القضاء.
وأحب أيضا أن أعلمه كيف أن العدالة تولد كذلك تلك التقوى لله التي هي من واجب الناس أجمعين، والأمراء منهم خاصة، الذين ينبغي لهم أن يحبوه أكثر من أي شيء آخر، وأن يوجهوا كل أعمالهم نحوه كما يوجهونها نحو الغاية الصحيحة، وأن يكرموه ويحبوه دائما، كما قال زنيفون، وبخاصة في رخاء، حتى يكون من المعقول أن تنشأ في نفوسهم الثقة فيما بعد وهم يسألونه الرحمة عندما تلم بهم النوائب.»
وليس المزج بين آراء زنيفون وإله المسيحيين غريبا عن صفاتهم بتاتا؛ فالنغمة السائدة هي نغمة الأفلاطونية، وقد خففت حتى يمكن أن تستخدمها الطبقة العليا - ومن يحذو حذوها ممن يهمه أن يأخذ قواعد التهذيب عن الإنسانية الجديدة.
و«الفضيلة» يمكن من الناحية العملية أن تعني القيام بعمل، أيا كان، بطريقة أفضل من طريقة أي فرد آخر. والمهارات التي تقدرها الفضيلة هي مهارات البطولة، وضرب الأرقام القياسية، وربما كان الإنسان بغريزة من غرائزه ضاربا للرقم القياسي، وإنما الأمر يتوقف إلى حد كبير على أي ميدان من الميادين يريد أن يضرب فيه الرقم القياسي. وقد كانت النهضة في ذلك فوضوية كما كانت في الأوجه الأخرى. ومن الحق أن النهضة لم تكن جوا ملائما لضرب الرقم القياسي في التزهد. ولم يكن الصوم، وقمصان الشعر، والنسك، من الأساليب المألوفة. وكل أمر فيما خلا ذلك جائز. ويعد دون جوان - الذي عرف بغزوه لألف وثلاث سيدات في إسبانيا وحدها - أقرب إلى تقاليد النهضة في ضرب الأرقام القياسية.
ومن الواضح أن دون جوان في ضربه للرقم القياسي لم يكن سعيدا كل السعادة. وحتى في الأسطورة كما تروى بالصيغة الإسبانية الجديدة نجد دون جوان رجلا بائسا يدفعه إلى الوقوع في حبائل معشوقاته العديدات حافز شيطاني ليس هو ذلك الذي تسميه هوليوود - كما يسميه أكثرنا - بالجنس. والواقع أن دون جوان أخ لشخصية أسطورية أخرى، أصبحت بحلول النهضة شخصية أدبية - هي شخصية فاوست، كلاهما يريد شيئا فيه مبالغة، بل إن إرادتهما ذاتها كانت تتسم بالمبالغة، ولكنهما لا يستطيعان أن يشبعا حاجاتهما التي لا تنتهي بالطريقة التي قدمتها تقاليد المسيحية من قديم في صورها المختلفة العديدة من الانتماء الصوفي إلى العالم الآخر. إنما كانا يريدان أن يشبعا حاجاتهما ماديا، في هذه الدنيا وفي هذا الزمان، كما كان يريد غيرهما من الناس. غير أن حاجاتهما لم تكن حاجات غيرهما من الناس، بل إنه لمما يشعرهما بالخجل أن تكون مزاياهما في الجسد والروح من القلة بحيث يمكن سدها. كانا يسعيان في قلق شديد إلى شيء لا نهائي يجده أمثال شبنجلر في أهل الشمال، في الرجل الفاوستي. ولكنهما كانا يمثلان النزعة الإنسانية تمثيلا صادقا؛ فكانا يريدان كل ذلك عن طريق غير طريق الله، وغير طريق التأمل، أو النرفانا، أو أية طريقة صوفية من طرق إنكار الذات.
وهذا الإحساس بتجاوز الحدود ، كانوا لا يستشعرونه في الحياة الواقعية إلا بمحاولة ضرب الرقم القياسي، وبهذا الاندفاع المقصود نحو المبالغة في الصفة التي أسميناها الخصب. وفي الفنون الجميلة كان هذا السعي نحو تحقيق المبالغة يتقيد بدرجة من الاحترام كان الكل يحسها إزاء إنتاج الإغريق والرومان؛ فكان فنان النهضة لا يزال يشغل عقله وهو يصور الأمور الطبيعية الواقعية في هذه الدنيا بمشكلات لا تجعله يحس الحاجة إلى أن يكون حوشيا، أو تجريديا، أو غير مفهوم، إنه يستطيع أن يقوم بأعمال «كبرى»، كما كان ميخائيل أنجلو. ومهما يبلغ إعجابك بميخائيل أنجلو فلا مناص لك من الاعتراف بأن في أعماله - صورة داود وصورة الإله وآدم وحواء في كنيسة سيستس - شعورا بالجهد، وبالنضال البطولي لبلوغ البطولة والقوى الخارقة. والواقع أن مجرد وضع الإله - الإله القوي صاحب الجلالة، ولكنه إله لا يخلو البتة مع ذلك من صفات «الفضيلة» - في صورة بسقف الكنيسة كان مثالا لما يمكن أن يقوم الإنسانيون ذوو العقول الخصبة بعمله؛ كما كان يلائم عقول البابوات ذوي النزعات الإنسانية. ولم يكن ذلك لأن العصور الوسطى - وهي في أوجها - كانت موسوسة في زيادة تقريب الله من الناس بتصويره أو نحته؛ ففي «يوم الحساب»، وكان من الموضوعات التي يؤثرها النحاتون في أوائل العصور الوسطى خاصة، كان لا بد من ظهور الله في الصورة، ولكنه لم يبد قط في صورة الفارس الكامل. وفي أواخر العصور الوسطى كان هناك ميل إلى حصر التمثيل المادي في يسوع، والعذراء، والقديسين، كأن الله لم يكن في الواقع من نوع الإنسان.
وتتضح هذه الصفة من صفات النهضة - صفة السعي إلى تحقيق الفذ، والمبالغة، والعظمة - بصورة جلية في الكتابة بكل ضروبها - حتى في أعمال الباحثين. وقد ذكرنا من قبل أساليب التلطف في التعبير والمقابلة. والواقع أنه ليس من بين الكتاب من لم يجتهد في مرحلة من مراحل حياته الأدبية في أن يكون نفسه، حتى يمسي نفيسا، صعب المنال، كثير التشبيهات والصور الخيالية. ويصادفنا أحيانا تكدس للتفصيلات العلمية، والحكايات القديمة الغريبة، وغرائب التجارب بجميع صنوفها، بدرجة لا يصدقها العقل، كما نجد عند رابليه. ولما جاء الكتاب الفرنسيون المتأخرون الذين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية المقتصدة، وأذهلهم هذا الخصب وعدم التقيد بالشكل عند رابليه، عدوه «غوطيا»، في حين أنه بالطبع لم يكن. إنما كان مجرد إنساني خصب الذهن، متحررا إلى أقصى حد، لو أنه عاش في القرن الثالث عشر لما ارتاحت نفسه كرجل من رجال الفكر (ولو عاش في القرن الثالث عشر لما اشتغل بالكتابة، وإنما مارس بكل قلبه وقدرته مهنته الطبية، لا يزعجه - بغير وجه حق - ما هو عليه من جهل). وأحيانا تظهر هذه الصفة في أسلوب نثري، ولو أنها بدت في أي عصر آخر لكانت صفة مصطنعة لا تستساغ، كما نجد في «دفن الرماد» لسير توماس براون. وقد تقول إن ذلك من أثر الأسلوب اللاتيني البائد عندما بلغ أوجه في تكلف المعنى وأناقة اللفظ على يد شيشرون. ولكنه الأسلوب الذي كان هؤلاء الكتاب يرونه ملائما، وهو شيء كانوا يسعون إليه عن قصد وعمد. وكان الكاتب في عهد النهضة لا يعرف كيف يقف. وقد يكون هذا عيبا في كل عصر من العصور الأدبية، ولكنه كان في تلك الأيام شائعا بصفة خاصة، ولا يصدق هذا على الكتاب الأوائل ذوي العقول الخصبة من أمثال رابليه وحدهم، وإنما هي صفة نلمسها كذلك عند الكتاب المتأخرين، ومن بينهم الشاعر الإنجليزي سبنسر، الذي ينظم «الملكة الحسناء» في ثمانين فصلا، ولا تنتهي بذلك القصيدة.
وأخيرا أحب أن أنوه إلى أن صفة المبالغة هذه تظهر في عمل رجل عاش بعدما اندثرت مزايا النهضة بوقت طويل، ذلك هو توماس ولف الذي أضفى عليه كل النقاد الأمريكان في فترة ما صفة «النهضة» وهو روائي من كارولينا الشمالية، مات في عام 1938م. ولم يتجاوز النقاد حدود الصواب، ولم تكن لهم مندوحة عن استخدام وصف «النهضة»؛ ذلك أن رغبات ولف كانت كلها شهوات، وكل شهواته عارمة. وهو يروي في قصته «الزمان والنهر» كيف - وهو طالب في هارفارد - اتصل بالمكتبة اتصالا قويا، وكانت تحوي حتى في ذلك الحين نحوا من مليونين أو ثلاثة ملايين مجلد، وشرع يقرؤها جميعا، صاعدا وهابطا بين رفوف المكتبة، ليسحب هذا الكتاب أو ذاك. وفي لحظة عظيمة من لحظات تركيز الذهن، يسجل مضمونه في زاوية من زوايا عقله، ويضمه إلى محصوله. وقصر كثيرا حتى عن أن يتم المليون الأول، غير أن هذا لا يعني إلا أن النهضة لا يمكن أن تعود، وليس من شك في أن الانغماس في قراءة ولف يوضح لنا الصفة التي حاولنا عرضها.
ولا ينبغي لنا أن نحسب أن هؤلاء الإنسانيين ذوي العقول الخصبة كانوا جميعا شديدي الاندفاع، وأن أحدا منهم لم يستمتع قط بلحظة هدوء؛ فلقد كان بعضهم ينهك إذا طال عمره. وكان بعضهم يشق طريقه وسط الزوابع والإرهاق لما اتفق عالمهم على أن يسميه الحكمة. ويبدو أن بعضهم كان له دائما نوع من الحكمة فيما يتعلق بالكائنات البشرية، غير أن الهدوء والحكمة وحالة الاتزان في حكمهم - مما ينشأ عن أسلوب الحياة في عهد النهضة يختلف جد الاختلاف عما يماثله عند الباحثين في العصور الوسطى، وما نجده عند كلاسيكي «مقتصد» مثل بوالو. وينتمي شيكسبير - في حياته كلها وفي محيطه - إلى ما أطلقنا عليه اسم الإنسانيين ذوي العقول الخصبة. كان يتصف بأكثر مميزات النهضة، وكان يتأثر أكثر نماذج النهضة. كان رجلا حكيما، ولكنك إن حكمت عليه من كتبه - ومن حسن حظنا أن كتبه هي كل ما لدينا من وسيلة للحكم عليه - ألفيت لديه مرارة لا تلمسها في المسيحية الأرثوذكسية، ولا تلمسها في عصر «النور». عنده ما عند النهضة بأكملها من احتقار لكثرة العدد، ولما هو مبتذل؛ فلم يكن البتة ديمقراطيا. وليس لدينا دليل قاطع على أن شيكسبير كان مسيحيا، ومن المؤكد أنه كان يفتقر إلى حرارة المسيحيين، وإلى مشاعر المسيحي إزاء إرادة الله. ولم ينظر إلى القدر، أو إلى الكون أو إلى طبائع الأشياء على أنها من الأمور التي قصد بها الإنسان، أو حتى من الأمور التي قصد بها امتحان البشر. والظاهر أنه لم يعتقد البتة في تعديل هذه الأمور، ومن الواضح أنه لم يبحث عن الأسباب الطيبة، وهو ينتهي إلى حالة شبيهة بحال مونتيني بصورة مذهلة، بالرغم من أن مونتيني لم يبلغ مبلغ شيكسبير في درجة الخصوبة أو الاضطراب في الجو الفكري. العالم عنده مكان ممتع، بل ومثير للإنسان في شبابه، ولكنه ليس بالمكان الجميل، ومن المؤكد أنه ليس بالمكان المعقول.
إن النزعة الإنسانية في أوائل العصر الحديث ليست من الاتجاهات التي يمكن تلخيصها في وضوح. وقد ذكرت من قبل أن العالم الطبيعي الذي يريد أن ينظم الحيوان، أو النبات، أو أن يصنفهما أجناسا مختلفة لا يتوقع أن يكون تصنيفه محكما شاملا؛ فهو يعلم أن أجناسه - في واقع الحياة - تتنوع وتتداخل، وهو يدرك أن عمله لا يمكن أن يبلغ درجة الكمال. وكذلك نجد أن بعض من أخذ بالأساليب والمعتقدات الإنسانية كانوا موحدين بالله إلى حد ما، بل كانوا يسيرون وفقا للتقاليد المسيحية مباشرة؛ فهناك مثلا سير توماس مور، الذي يعد الآن في الواقع القديس توماس مور. وكذلك نجد بعضا من الإنسانيين يقتربون جدا من العقليين الذين سوف نتعرض لهم في الفصل العاشر. إنهم يقتربون من الاعتراف بالنظرة الآلية إلى الكون. غير أن الاتجاه الإنساني برغم ذلك اتجاه يمكن عزله ووصفه مستقلا إلى حد ما. إنه يختلف عن المسيحية الغربية التاريخية في عهده في أنه لا يثق بالنزعة المدرسية ولا يثق بكل مركب العصور الوسطى، وفي أنه يمقت أوجه البروتستانتية في العهد القديم ذات النزعة الإنجيلية. وهو يختلف عن الاتجاه العقلي في أنه يتشبث - أو يريد أن يتشبث - بالفكرة التي تقول بأن الإنسان ليس كله جزءا من الطبيعة، وأنه أمهر الحيوانات فحسب، «بل إنه في الواقع ليس كله بالحيوان»، وذلك بالرغم من انحياز الاتجاه الإنساني إلى الإيمان بتفوق الأمر الطبيعي على رسميات العصور الوسطى، ومقدساتها، وتقاليدها.
الإنساني يرى في الكائن البشري، الكائن البشري بأكمله ومركبه، المعيار الذي يقيس عليه. وإذا أردنا أن نبالغ في التبسيط قلنا إن شعاره: لا تكن إنسانا رفيعا (متدينا) ولا تكن إنسانا وضيعا (آليا). كانت الإنسانية في مجموعة قيمها - كما بينا من قبل - تشمل مدى فسيحا متدرجا من السلوك المادي مثلما يشمل أي نظام للقيم غربي آخر عظيم. قد يكون الإنسان معيار كل شيء، ولكنه ليس معيارا دقيقا يؤخذ به في كل حين؛ فهو مثلا يستطيع أن يشرب الخمر في توحش، كما يستطيع أن يتناول قليلا من أكواب النبيذ فيلمع باعتدال في ذكائه وفطنته، ويستطيع كذلك أن يتناول قليلا من النبيذ يصلح به معدته، أو أن يمتنع امتناعا قاسيا، ويحاول أن يمنع الآخرين عن تعاطي أي نوع من أنواع المشروبات الروحية. وفي القرون الأربعة أو الخمسة الأخيرة مالت قطعا تلك الأقلية المهذبة - التي تحب أن تسمي نفسها إنسانية - نحو السلوك الثاني، وكانت تستهدف الاعتدال الذي يدخل البهجة في النفوس، ولكن الإنسانية في أيام النهضة التي كانت أشد من ذلك عربدة لم تحصر نفسها في هذه الحدود. كانت تستطيع أن تعربد مع رابليه، وأن تتهذب مع مور، وأن تتعالم مع أرازمس، وأن تنشط في حماسة مع سليني، وأن تتشكك وتتسامح مع مونتيني، بل أن تكون نابليونية تضم سيدات فاتنات ورجالا مهذبين - كما كانت الحال في بلاط لورنزو العظيم في فلورنسة.
الاتجاهات السياسية في النزعة الإنسانية
إن القرنين اللذين نعالجهما هنا كثيرا ما يطلق عليهما في التاريخ السياسي «فترة الإطلاق». ومن الحق أن الدولة الدنيوية الحديثة في هذين القرنين قد انبثقت عن دولة العصور الوسطى في جميع أرجاء العالم الغربي، حتى حيثما كانت الوحدة الأرضية ليست الحكومة القومية كما نعرفها - كما كانت الحال في جرمانيا - إنما هي أراضي أمير، أو مدينة حرة، ربما لا تزيد في مساحتها عن سابقتها في العصور الوسطى. وأبسط ظاهرة عملية لهذا التحول تتمثل في وجود سلسلة وحيدة من السلطة في الوحدة الأرضية الجديدة - يعززها نظام متدرج من محاكم القضاء والقوة المسلحة، من الشرطة والجند - يدفع أجورها، ويديرها، ويدبر أمرها أولئك الذين يتربعون في قمة السلسلة. وقد بقيت آثار الإقطاع في كل مكان تقريبا، وهذه الدولة الحديثة لم يكن البتة لديها ذلك التنظيم الدقيق وذلك التسلسل في السلطة الذي يفترض أن يقوم على أساسه الجيش الحديث. غير أن الاختلاف عن نواة العصور الوسطى المعقدة من الحقوق والواجبات، ومن توازن السلطات وقيود العادات، كان عظيما جدا. إن الدولة الحديثة - حتى إن أنت اعتبرت روسيا السوفيتية نهاية تجسيدها - لم تكن في أي وقت من الأوقات ذلك المجتمع المجند، المنظم تنظيم جماعة النمل، الذي يقصد إلى الكفاية بغير تورع، كما تصورها ناقدوها الكثيرون. إنما هي من الناحية التاريخية قد نشأت - على الأقل إلى حد ما - عن الحاجة إلى التقنين والكفاية والحاجة إلى شيء من الحد من ميل الإنسان إلى الضلال، وإلى التراخي، وإلى التفرد.
ونستطيع مرة أخرى أن نضرب المثل بثنائية بسيطة: إذا أنت أوضحت أوجه التباين بين السلطة (الإرغام) والحرية (التلقائية)، وجدت في هذه المباينة أن الدولة الحديثة في جميع أشكالها - حتى عندما تكون هذه الأشكال ديمقراطية - تنتمي إلى جانب السلطة. وهناك بطبيعة الحال أشكال متنوعة من الناحيتين التاريخية والجغرافية، ويمكن أن تقترب بعض الدول من الجانب المطلق من التسلط أكثر من غيرها. غير أنها جميعا كانت تمارس رقابة سياسية على أكثر الأفراد أشد مما ألفته العصور الوسطى.
ومن المؤكد أن نظرية الدولة المطلقة بلغت في تلك السنوات من الصراحة ما بلغته في أي عصر آخر (ويبدو أن نظرية الحكم الشامل الحديثة لا تحب أن تقف صراحة ضد أمثال هذه الألفاظ التي لها جاذبيتها ك «الحرية» و«الديمقراطية»). وقد اخترع هوبز الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر للدولة الحديثة لفظة «لفاناتان» أو الوحش الضاري. وقد لبث هذا الاصطلاح منذ ذلك الحين سبة بين الكتاب المتحررين، واستغل هوبز صورة قديمة من صور النظريات السياسية، لها ماض طويل من الاحترام من عهد روما حتى العصور الوسطى، وهي نظرية التعاقد. غير أنه حرف هذه الفكرة - التي استخدمت على وجه الجملة في جانب التحرر - وواءم بينها وبين نظريته في التسلط مواءمة قوية. كان التعاقد من قبل يفترض وضع «قيود» على جميع أطرافه - سواء منهم الحاكم والمحكوم - ولكنه يقيم فوق كل شيء نوعا من الحدود يمكن للفرد في نطاقه أن يستقل. أما هوبز فيرى أن جميع الأفراد إنما يقبلون التعاقد لكي يتجنبوا الحرب المفزعة التي يشنها كل فرد ضد المجموع التي لا بد أن تسود لو أن الإنسان بقي على «حالة الطبيعة» (وسوف نعود إلى هذه الفكرة عن حالة الطبيعة. أما هنا فيكفينا أن نذكر أن هوبز كان يعد هذه الحالة مؤلمة إلى درجة أنها ربما لم يكن لها من قبل في الواقع وجود). وهؤلاء الأفراد يتعاقدون فيما بينهم على خلق السيد، وهو صاحب السلطة الذي يسن القوانين التي تجب على الجميع طاعتها، والتي تحل النظام محل الفوضى في حالة الطبيعة. «ولكن ليس هناك تعاقد بين الفرد أو أي مجموعة من الأفراد وبين السيد» السيد المطلق، وعلى الفرد أن يطيع السيد طاعة مطلقة، ولا يتحوط هوبز في الواقع إلا من ناحية واحدة فقط، وتلك هي أن السيد إنما يوجد لحفظ النظام، ولكي يكفل للفرد الأمان، فإن هو فشل في تحقيق هذا الغرض وسادت الفوضى في الدولة وأمست الحياة غير آمنة، حق للفرد أن يحمي حياته وأمنه بقدر طاقته. غير أن هوبز لم يضع قلبه في هذا التحفظ الفرضي، وإنما كان يضع قلبه مع إعلاء السيد فوق التعاقد الذي خلق وجوده.
ولم تكن نظرية التعاقد - كما سوف نرى - أرضا ثابتة تحت أقدام المتحزبين للحكم المطلق في شكله الذي تميزت به النهضة، وهو الملكية المطلقة، بل لقد أضحت حافزا من أقوى الحوافز التي دفعت إلى إقحام الآراء الديمقراطية. بيد أنه كانت هناك معاقل بأسرها من الحجج والنظريات يلجأ إليها أولئك الذين ينادون بالحكم الملكي المطلق ويتلمسونها في المعرفة التاريخية الحديثة التي كانت ميسرة لجميع الأفراد المتعلمين، فاستمدوا الحجة من الإنجيل - وبخاصة من العهد القديم - ومن تاريخ اليونان والرومان، ومن أدب الكهان (بالنسبة إلى الكاثوليك على الأقل)، بل ومن بذور المعرفة الفجة الأولى، كعلم ما قبل التاريخ وعلم السلالات. ولا يجوز لنا أن ندهش لأن هذه الميادين بعينها كانت مصدرا هاما لخصوم الملكية المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ذلك أن الإدراك العام يدلنا دائما على أن الشيطان يستطيع كذلك أن يقتبس من الإنجيل - الأمر الذي لا ينكره إلا أصحاب العقول البالغة في مرونتها.
وقد يكون من الممل ومما لا يجدي أن نستعرض عددا كبيرا من هذه الحجج التي تدافع عن إطلاق الحكم. ومن الأمثلة الطيبة نظرية الأبوة، التي بلغت كمالها بين الكتاب الإنجليز في الكتاب الذي أنفق لوك في تمزيقه وقتا طويلا، وهو كتاب «الأبوة» لسير روبرت فيلمر. إن نظرية الأبوة تستحق الدراسة كمثال للوسائل المعقدة المنحرفة لما استحدثنا له في الوقت الحاضر التعبير ب «التبرير» أو لما هو أشد من ذلك مدعاة للاستخفاف. ومن الجلي أننا لا نعالج هنا نظريات علمية، أو معرفة تراكمية، وإنما نحن نعالج جانبا هاما من جوانب تاريخ الفكر، أو جانبا هاما من جوانب العلاقات الإنسانية.
إن الكاتب الملكي يسعى - في أبسط عبارة - إلى أن يعبر باللفظ عن الأسباب التي تحتم على الأفراد أن يطيعوا حكومة الدولة المركزية الجديدة وهي حكومة يرأسها ملك رئاسة رمزية على الأقل. إنه في النظرية الأبوية يستغل المشابهة بين علاقة الأبوة والبنوة وبين علاقة الملك والرعية، وهو يتلاعب بالاستعارات التي تطلق على الرعية اسم «الأطفال» أو «القطيع»، كما يسمي الملك «الأب» أو «الراعي» أو ما شابه ذلك. وحتى اليوم - وفي الولايات المتحدة - حيث يحكم الزائرون الأوروبيون المغرمون بإلقاء الأحكام العامة بأن الأطفال في الولايات هم الذين ينشئون الآباء في كثير من الأحيان، حتى في هذه الحالة نجد أن الشعور بأن علاقة الأبوة والبنوة العادية هي علاقة الطاعة من جانب الطفل، وأن هذا الشعور لا يزال قويا جدا. وقد اختلفت قوة هذا الشعور باختلاف الزمان والمكان، غير أن أثر الميراث الثقافي الغربي الذي يعزز هذا الشعور قوي للغاية. ويرى الكثيرون أن هذه العلاقة هي من حقائق الحياة. وقد كان المجتمع العبري الذي جمع فيه العهد القديم مجتمعا أبويا للغاية، الابن فيه تحت رقابة أبيه المشددة، وإنك لتجد نصوصا ملائمة تؤكد أن عقوق الأبناء شر من الشرور ، وأمر غير طبيعي، حيثما تنقلت في العهد القديم. و«قوة الأب» في المجتمع الروماني كذلك كانت قوة مطلقة في أيام الجمهورية، بل تمتد إلى حياة الابن. وبتسرب القانون الروماني إلى المجتمع الوسيط انتقلت فكرة السلطة الأبوية الثابتة. وكذلك استغلت المسيحية سلطان الأبوة، والمشاعر التي نمت حول هذا السلطان. وقد شاعت الاستعارة من التعبير بالراعي والقطيع طويلا، وأطلق اسم «الآباء» على قسس الكنيسة.
وكان من اليسير أن تمتد الاستعارة من الكنيسة إلى الدولة، وبخاصة لأن الدولة الحديثة النموذجية الجديدة في البلدان الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء استولت - حيثما استطاعت - على النفوذ الروحي، وعلى لب العواطف البشرية، التي كانت في العصور الوسطى تتركز في نظام الكنيسة. ولا نعرف على وجه اليقين كيف انتقل هذا النفوذ عن قصد وعمد. غير أنه مما لا شك فيه أن أمثال فيلمر لم يكونوا من أصحاب الميول العقلية الذين قد يسائلون أنفسهم قائلين إن البابا قد استطاع أن يجعل الفكرة التي تقول بأنه أب مقدس جد نافعة في تعزيز نفوذه، فلماذا لا نعزز سلطان الدولة إذا نحن لم نكف عن التأكيد بأن ملكنا هو أبو الشعب؟ بل على العكس من ذلك كان فيلمر يعتقد صحة نظرياته، كما كان توم بين يعتقد صحة الآراء المناقضة.
غير أن النظرية الأبوية هي عبارة عن مجموعة من الحجج التي تعتمد في قوة إقناعها إلى حد كبير على المشاعر، لا على قوة المنطق وأثر التدريب بالنسبة إلى أولئك الذين يعتنقونها. إنها استعارة وليست نظرية، ويمكن ألا تكون صحيحة أو صادقة لأي امرئ يزعم لنفسه أنه لا يشعر أن الملك أب بأية حال من الأحوال بالنسبة إليه، وبخاصة إذا التزم المرء حدود الإنسانية والتعقل فإنه يستطيع أن يقول بأن هناك نوعا واحدا من علاقة الأبوة والبنوة، وهو النوع الذي نسميه بيولوجيا، والذي ربما كانوا في تلك الأيام يسمونه طبيعيا. ويمكن أن تنبذ النظرية الأبوية - باعتبارها تبريرا لطاعة لا مراء فيها من الرعية إلى الملك (أو من المواطن للحكومة) - بصورة أشد إذا تدفقت المشاعر في اتجاه صحيح، وذلك إذا أنت استبدلت استعارة أخرى مضادة بهذه الاستعارة، وزعمت أن في استعارتك من الصحة ما للاستعارة الأخرى. وهذا هو ما فعله أتباع لوك حينما زعموا أن العلاقة الصحيحة بين الرعية والملك هي علاقة الوكالة؛ فالملك ليس أبا لرعاياه، وإنما هو وكيل عنهم، وهو موجود ليكفل لهم حكما طيبا، فإن أخفق في ذلك فلهم كل الحق في فصله كما يفصل المرء وكيلا عنه لا تثبت جدارته. ويرى أكثر الأمريكيين أن نظرية الوكالة في الحكم هذه نظرية معقولة جدا. غير أنه مما لا شك فيه أن النظرة الأبوية كانت خلال التاريخ الغربي الطويل أكثر تمثيلا للرأي العام.
والواقع أن النظرية الأبوية على أية صورة من الصور تبدو - عند الكتابة في العلاقات الاجتماعية - نظرية خالدة. وكلنا يعرف أن علماء النفس المحدثين قد أكدوا - متأثرين بفرويد - أهمية علاقة الأب بالابن. وكذلك كان لا بد لعلماء النفس أن يكتبوا في النظريات السياسية، فرجعوا مرة أخرى إلى النظرية الأبوية. ومن الحق أنهم يؤكدون ازدواج الشعور عند الابن؛ فهو يحس بالاعتماد على أبيه، كما يحس الرغبة في الثورة عليه، ومن الحق أنهم يعدون أنفسهم علماء، ويزعمون أنهم يضيفون إلى مجموع المعرفة التراكمية. ولكني أنصح القارئ أن يطلع على الكتاب الحديث الذي أخرجه مستر جفري جورر، وعنوانه: «الشعب الأمريكي». ستجد أن مستر جورر يفسر سياستنا وثقافتنا إلى حد بعيد بمركب الأب ومركب أوديب، ويخرج علينا بتفسير فرويدي عجيب لحب الذكور الأمريكان لشرب اللبن. ومن المرجح جدا أن يجد أبناء القرن الثالث والعشرين أن تطبيق مستو جورر لتشبيه الأبوة العتيق من السخافة على الأقل بالدرجة التي نرى بها تطبيق سير روبرت فيلمر.
وهناك حجج أخرى تساق في جانب الملكية المطلقة. ومن هذه الحجج ما يعود إلى السابقة الرومانية لا في عهد الجمهورية، ولكن في عهد الإمبراطورية المتأخرة، وذلك عندما كانت الدولة الرومانية مستقرة على نظام بيروقراطي وعلى رأسها أمير مطلق. ومن الشعارات التي شاعت حين ذاك «أن ما يسر الأمير له قوة القانون». وهذه العبارة تعرض الأمر في صراحة تامة، وربما كانت أشد الحجج إثارة من وجهة نظر الجمهوريين.
ومهما يكن من أمر فإن العبارة المقدسة التي تداولها التاريخ هي «حق الملوك المقدس»؛ فالملك إله على الأرض، وليس في هذا زيغ عن الدين. وفي تفسير النظرية الملك هو وكيل الله في أرضه، والاعتراض على إرادته اعتراض على إرادة الله، وهو تجديف وكفر. الملك هو من يصب الله عليه الزيت المقدس - والواقع أن ملوك أوروبا طبقا لسوابق العصور الوسطى كانوا يمسحون في حفل التتويج بزيت مقدس خاص، ونستطيع - بطبيعة الحال - أن ندرج أكثر الحجج التي تؤيد الحكم الملكي المطلق تحت هذه الحجة.
ومما له دلالته أن الحجج الأساسية في جميع هذه الآراء التي تدافع عن الحكم المطلق الحديث كلها تقليدية؛ ذلك أن فكرة التعاقد مع قليل من التحريف تصور لنا ما أسماه هوبز «الوحش الجبار» الذي يحل محل الدولة المسيحية الإقطاعية التي نادى بها جون سولزبري. ومع قليل من التحريف كذلك تتحور فكرة الراعي الروحاني والأب المسيحي إلى الملك الأب الذي لا يجوز عصيانه.
إن المعجبين بالعصور الوسطى يدهشون بصفة خاصة لما يعدونه انحرافا في النهضة عن مذهب حق الملوك المقدس الذي عرفته العصور الوسطى. إن من مبادئ العصور الوسطى كما يزعمون - وهم على حق بالنسبة إلى التعبير اللفظي - أن الحاكم يحكم بالحق المقدس ما دام يحكم كما يشاء الله. إنه يحكم بالحق المقدس لا بمعنى أن الحق ملك، وهو حق لا يمارى فيه، ولكن بمعنى أن الحق عدل من الناحية الخلقية. فإذا ما أساء الحكم ولم يحكم طبقا للحق المقدس فإنه عندئذ يفقد حقه في الحكم، ولرعيته حق التحلل من واجب الطاعة، ولثورتهم ما يبررها. وهنا لا بد لنا أن نتساءل من ذا الذي يقضي بأن الملك يحكم طبقا لإرادة الله؟ وهب أن فئة من الناس في الدولة تقول بأنه يحكم طبقا لإرادة الله، وأن فئة أخرى تقول إنه لا يحكم طبقا لها، من يهدينا إلى الصواب؟ إن التفكير في عهد النهضة وفي العهد الوسيط كان بوسعه أن يجيب عن هذه الأسئلة بدرجة من اليقين لا تتوافر لنا؛ لأن نفوسهم لم تساورها الشكوك بعد في أن إرادة الله أقل وضوحا من الحقيقة العلمية، التي لا يمكن بطبيعة الحال أن تكون من صفات هذه المشكلات. إن العقل الوسيط وعقل الإنسانيين على السواء كان يؤمن أشد الإيمان بأن إرادة الله هي في وضوح أية حقيقة من الحقائق فوق هذه الأرض.
إن الحجة التي نعدها اليوم - على الأقل بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية - دامغة قاطعة لا تساق قط في وضوح وجلاء. وتلك هي الحجة التي تقول بأن الطراز الجديد من الدولة الملكية أشد كفاية من الدولة الملكية القديمة، وأن الملك لا بد أن يتمتع بالسلطة المطلقة لكي يمحو الآثار المتبقية من الحكم الذاتي الإقطاعي، ولكي يحكم العقل، ويضع المعايير، حتى يستطيع رجال الأعمال من الطبقة الوسطى الحديثة أن يكون لهم رواج في سوق أوسع وفي ظروف أكثر أمنا وأقوى طمأنينة. إن تبرير نظام من النظم ب «منفعته» - وهو نوع من سباق الحجة مألوف لدينا - ينشأ في الواقع دفاعا عن الملكية، ويظهر ذلك حتى عند بيير دبوا في أوائل القرن الرابع عشر. بيد أن هذه الحجة عند أكثر الكتاب الذين نتعرض لهم هنا تختلط بكثير من الحجج الأخرى. والظاهر أن «كتاب السياسة» الفرنسيين، أولئك الكتاب الذين وضعوا الأمة ممثلة في التاج فوق الأحزاب الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، والذين فعلوا ذلك في الحروب الدينية التي نشبت في أواخر القرن السادس عشر - الظاهر أنه كانت لديهم في أذهانهم أمثال هذه الآراء الحديثة التي يمكن أن نسميها قومية. غير أنهم لم يتحدثوا باللغة التي نتحدث بها اليوم.
ومن خيار هؤلاء الكتاب جين بودين الذي يعد في الحق في كثير من الأحيان أكثر من كاتب سياسي. كان بودين باحثا إنسانيا، ذا معرفة واسعة، وصاحب اهتمامات عديدة. وله مكانة هامة في تاريخ الكتابة التاريخية باعتباره أحد الكتاب الأوائل الذين عنوا بالطرق التاريخية المنظمة، وربما كان في التاريخ السياسي أكثر الكتاب اتزانا في موضوع السيادة الشائك . وهو بطبيعته رجل معتدل معقول. وقد كتب في أواخر القرن السادس عشر، عندما استرد أرسطو قيمته بعد التحقير الذي لحق بآرائه على أيدي الإنسانيين الأوائل، وهو يتميز بقوة الإدراك العام الذي نلمسه في سياسة أرسطو. وينتهي بودين إلى مدافع عن الحق المطلق للأمير صاحب السيادة؛ فصاحب السيادة - طبقا لبودين - يعلو على القانون، ولا بد له أن يعلو باعتباره واضع القوانين. غير أن بودين يسارع فيصف ذلك بأنه مبدأ شرعي فحسب. أما من الناحية الخلقية فالأمير بطبيعة الحال يرتبط بقانون الإله وقانون الطبيعة، وبآداب اللياقة. فإذا هو لم يتقيد بهذه القوانين كان حاكما مستبدا، وإن كان صاحب السيادة في ظاهر الأمر، ويسوق بودين كذلك الحجة الأبوية، ويدعمها بنظرية «قوة الأب» الرومانية ومجموعة المقتبسات الإنجيلية المألوفة.
وليس من الإنصاف أن نقول إن كل التفكير السياسي عند الإنسانيين والكلاسيكيين في أوائل القرون الحديثة يميل إلى ناحية الحكم المطلق؛ فهناك منذ بداية إحياء الآداب القديمة اليونانية والرومانية بمعناها في عهد النهضة اتجاه واضح يمكن أن تتابعه متابعة الخط المستقيم في التفكير السياسي الغربي حتى الثورة الفرنسية التي جعلت بروتس أحد أبطالها. وذلك الاتجاه هو الإيمان ب «الجمهورية الكلاسيكية» التي تجعل ليفي من أبطالها، والتي تتميز بكراهية الرومان للملوك، كما تتميز في كثير من الأحيان بانعدام الثقة في عامة الناس المتقلبين.
وهنا نلتقي مرة أخرى بلفظة لها تاريخها، ويمكن من ثم أن تكون غامضة. إننا نميل نحن الأمريكيين إلى أن نحسب أن «الجمهوري» ليس إلا طريقة أخرى نعبر بها عن «الديمقراطي» - ويختلف هذا كلية عن غرام الأحرار منا بالقول بأن حزبينا - الجمهوري والديمقراطي - يتشابهان تشابه العصا بالعصية، ولكن «الحكم الجمهوري الروماني» لم يعد أن يكون ذلك النظام الروماني السياسي، الذي كان - وظل كذلك حتى تأسيس الإمبراطورية - نظاما أرستقراطيا من الناحيتين السياسية والاجتماعية. وهذه الفكرة - فكرة الجمهورية الأرستقراطية - التي كان ذيوعها في العصور الوسطى محدودا، فلم يتوسع أحد في بسطها، بدأت تنتعش في عهد النهضة. وهي بطبيعتها لا يمكن أن تكون من عقائد الجماهير، بل لقد كانت مذهبا يسود - قبل كل شيء - بين الفنانين ورجال الفكر، وبخاصة من كان منهم من أرومة طيبة - باعتباره من صفات الأرستقراط. وهو مذهب - عند معتنقيه - لا يتفق بطبيعته مع أي نمط من أنماط التفكير البسيطة، العامية المتكررة. إن الجمهورية الكلاسيكية تحررية دائما تقريبا، أكثر منها جماعية، أو اشتراكية، أو هي - على الأقل عندما تؤكد أن النظام الذي لا بد منه للمجتمع يتطلب رعاية الطبقات الدنيا - عبارة عن جماعية «النبلاء الملتزمين بالمسئولية»، أو الجماعية التي أطلق عليها الإنجليز في القرن التاسع عشر اسم «ديمقراطية المحافظين». إنك حيثما تجد رجالا يسعون نحو إصلاح أساسي ثوري للمجتمع لكي يتخلصوا من الفقر بمجهود الفقراء، لا بد أن تجد أن هؤلاء الرجال في تلك القرون الحديثة الأولى إنما يستوحون الدين أكثر مما يستوحون النزعة الإنسانية، بل إنهم ليستوحون نوعا متعصبا من أنواع الطائفية الدينية.
وهناك نوع من أنواع الجمهورية الإنسانية يصوب في صميمه ضد ملكية معينة. في أخريات القرن السادس عشر زادت الحروب الدينية الأهلية الكبرى من حدة التفكير السياسي في فرنسا، وتمخضت عن مجموعة من النظريات ديمقراطية في ظاهرها. وظهر من الهيوجونوت أمثال إتيان دي لابواتي وفرنسوا هوتمان يعارضون أشد المعارضة كل نظريات الحكم المطلق الملكية، وأصروا على أن تكون السلطة العليا في أيدي الشعب بدلا من الملكية المطلقة. وساق مؤلف كتاب «دفاع ضد الاستبداد» - وهو على الأرجح دي بلسي مورناي - نظرية التعاقد وكثيرا من التاريخ الوسيط وتاريخ الكتاب المقدس ليبرر الثورة الفعلية، بل وسفك دماء المستبدين. وتستطيع أن تستمد مما كتب في هذا الموضوع شيئا قريبا جدا لما أمسى فيما بعد مذهب حقوق الإنسان والحاجة إلى حكومة دستورية في أيدي هيئة برلمانية تمثيلية، وسيادة القانون، وما إلى ذلك، وهي الآراء التقليدية التي سادت القرن الثامن عشر. غير أن روح هذه الكتب لا تمت قطعا إلى القرن الثامن عشر بصلة. روحها من العهد الوسيط، على الأقل لاعتمادها كالمألوف على حجج أساسها السوابق التاريخية أو الإنجيلية، وما تنوء به من دراسات عويصة. ولم يكن هؤلاء الرجال مثيري شغب بأية حال من الأحوال؛ فلم يكونوا جماهيريين، بالرغم من أن عدالة مطالب الجماهير هي التي كانت تحرك نفوسهم، ويحس المرء أنهم بالضرورة ضد الملكية لأن الملكية الفرنسية كانت تقف في وجههم، ولكنهم كذلك كانوا جمهوريين بالضرورة؛ إذ لم يكن هناك مجال آخر للاختيار. وقد أقام بعضهم مبدأ «القيادة الطبيعية»، وما أبعدهم عن توماس بين أو بنيامين فرانكلين؛ فقد كانوا جمهوريين، ولم يكونوا ديمقراطيين.
غير أن هناك نمطا آخر أقرب إلى مركز هذه الجمهورية الأرستقراطية، أقرب إليه بمعنى أنه قدم النموذج الذي عاش في القرن التاسع عشر في رجال أمثال لورد بيرون، بل عاش في القرن العشرين في رجل مثل ولفرد سكاون بلنت أو في ذلك الرجل الأمريكي العجيب الذي يمثل هذا الطراز، وهو المرحوم جون جاي تشابمان. وكذلك يعد مثالا يدعو إلى الإعجاب آلجرنون سيدني، وهو رجل إنجليزي من أسرة نبيلة مات شنقا في عام 1683م، مستشهدا في سبيل الحكم الجمهوري، ولم تنشر «بحوثه بشأن نظام الحكم» إلا في عام 1698م، وقد وجدت في القرن التالي جمهورا كبيرا من القراء، وهي عبارة عن تاريخ روماني كامل، مروي في ضوء قواعد التهذيب التي صاحبت الكلاسيكية البريطانية زمنا طويلا. وفيها يهاجم الحق المقدس ويدافع عن السيادة الشعبية، وهي لا تشف عن مذاهب اجتماعية ثورية؛ فهي في الواقع تتحدث بلغة الدستوريين المعتدلة. ولو أن سيدني عاش في القرن التالي لكان مثالا طيبا للأحرار المعتدلين لا يشوب آراءه «هراء جمهوري». كان سيدني ضد آل ستيوارت الناشئين وضد مذهبهم في الحق المقدس، وكان يدافع عن وجود طبقة حاكمة إنجليزية تكون لها كل الفضائل الرومانية وتخلو من كل رذائل الرومان.
وينتمي ملتن نفسه من حيث آراؤه السياسية - إلى هذه الفئة من الجمهوريين الأرستقراط، وهو إنساني بطبعه وتطبعه، وهو أميل إلى الجانب المقتصد منه إلى الجانب الخصب، وليس من شك في أن أهم كتاباته النثرية (آريو باجيتيكا) وهو من الأدب الكلاسيكي الذي يدافع عن حرية الكلام، وما يترتب عليها من حريات أخرى. ولا شك أن ثقافة الغرب لم تخل في أي وقت من الأوقات من نوع من أنواع الدفاع الفصيح عن حرية الكلام، ولم تكن هذه الثقافة قط تدعو إلى التحكم بدرجة تخمد كل شرارة تومض في سبيل الحرية. غير أنا نشك في أن ملتن حتى في هذه العجالة كان يبشر بالآراء التي تدور حول المبدأ الذي يقول: «دعه يفعل » وما ينطوي عليه من فائدة لحرية الفرد. ومهما يكن من أمر فإن قراءة آريو باجيتيكا جنبا إلى جنب مع «الحرية»، الكتاب الذي وضعه جون مل في عام 1859م تدريب ممتع على البحث في تاريخ الفكر بالرغم مما فيه من حرج. إن فصاحة ملتن الكلاسيكية المتدفقة قد تقف في سبيل إدراك ما يرمي إليه، ولكنه بالرغم من ذلك يدافع عن الحرية للصفوة من الناس، وللإنسانيين، وللرجال من أمثاله. وهو في هذا يختلف عن مل الذي يدعو للحرية حتى للمتهورين، والمخطئين، والجهال، يدعو إليها - في إيجاز - لعامة الناس.
وتظهر الصفة الأرستقراطية في آراء ملتن السياسية والخلقية واضحة جلية في كتابته التي لا تبلغ مبلغ آريو باجيتيكا في أهميتها؛ فهي تبدو في كتابه «الطريق السهل المباشر لإقامة دولة مشتركة حرة»، أو في رسالته «الهدامين». والكتاب الأول محاولة فاشلة يقاوم بها استدعاء الملك شارل الثاني، وبطبيعة الحال كان ملتن يمقت الطائفيين وآمالهم الفجة في تحقيق السعادة في هذه الدنيا. كما أن إخفاق البيوريتان المعتدلين في إقامة مستقر يريح النفس ويقع بين طائفة الإنجيليين وطائفة المؤمنين بالعصر الذهبي المسيحي، إخفاقهم هذا قد كشف له عن الحقيقة: وكغيره من المدافعين عن حرية الفرد من المهذبين والمثقفين أثبت ملتن في النهاية أنه إنما قصد في الواقع إلى الدفاع عن التهذيب وعن الثقافة، ولم يقصد إلى حرية الرعاع الذين لا يفكرون. وأوشك في آخر الأمر أن يفقد الثقة في تصويت العامة أفرادا، أو جماعات يكون لها تأثيرها. وبلغ بهذه العقيدة مبلغا دفعه إلى أن يجعل الهيئة التشريعية في تخطيطه للدولة المشتركة هيئة لها دوام ذاتي تستولي على مناصب التشريع مدى الحياة. وتكون بذلك أشبه بمجلس الشيوخ دون أن يكون لأفرادها ألقاب موروثة.
غير أن أكمل عمل قامت به مدرسة الإنسانيين هذه ذات الميول التي لا أقول إنها يسارية بالضبط، ولكنها على أية حال تتجه نحو نوع شعبي من أنواع الحكومة الدستورية، أكمل عمل في هذا الباب كان لرجل إنجليزي من رجال القرن السابع عشر وهو «المحيط» لجيمس هارنجتن. والكتاب في شكله صورة لدولة مشتركة خيالية، أو لمدينة فاضلة. وربما أملت عليه هذه الصورة الحاجة إلى تفادي الرقابة التي فرضها الدكتاتور الجديد كرومويل في عام 1656م، وهو العام الذي نشر فيه الكتاب. والكتاب عبارة عن رسالة في الحكم. وهي رسالة عصر فيها ذهنه، واعترف فيها بصفة خاصة بأهمية توزيع الثروة والبناء الطبقي، وهي تنادي بدولة دستورية المصالح فيها متزنة اتزانا صحيحا، وتضم مجلسا للشيوخ من الأرستقراطيين الطبيعيين ومجلسا تمثيليا شعبيا يؤيد أو يرفض اقتراحات الشيوخ. ولهارنجتن آراء حديثة كثيرة، من بينها الاقتراع السري، والتعليم العام الإجباري. والواقع أن «المحيط» يمكن أن يعد من أعمال العقليين، وقد كان تأثيره في القرن التالي عظيما. غير أن هارنجتن كان صاحب أسلوب كلاسيكي، وعقل كلاسيكي، وهو في هذا الكتاب أقرب إلى أن يلخص عصارة تفكير الإنسانيين المعتدلين من الناحية السياسية، منه إلى أن يشق طريقا جديدا.
ولا يمكن بالضرورة أن تكون طائفة الإنسانيين من الوضوح والتحديد كما كانت الطائفتان الأخريان في أوائل القرون الحديثة - وأعني بهما البروتستانت والعقليين؛ فقد كان الإنسانيون وهم يبحثون عن معايير، وعن سلطة يستندون إليها، وهو مسعى كان خلال تاريخ الغرب بأسره من ضروب النشاط الأساسية التي تمارسها الطبقات المثقفة حتى وهم يحسبون أنهم ينبذون «كل سلطان» كانوا يرجعون إلى شيء إنساني بصفة خاصة - لا هو مقدس ولا هو حيواني - وكانوا في اتجاههم هذا يميلون من الناحية العملية إلى أن يكون من نتائجه الأولى تنوع عجيب من المعايير والسلطات الممكنة؛ لأن لفظة «إنساني» بالتعبير البسيط كلمة واسعة المعنى يمكن أن تمتد حتى تشمل كل شيء - تقريبا - بما في ذلك المقدس والحيواني.
ونستطيع - لسهولة العرض ولعلمنا جيدا أن ما نبذله من جهد منظم في تبويب الأفكار لا بد أن يكون ناقصا - أن نفصل بين هؤلاء الإنسانيين الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ونقسمها قسمة تقريبية إلى طائفتين أطلقنا على إحداهما: «الخصبة»، وعلى الأخرى: «المقتصدة». وأكثر الأوائل من الطائفة الخصبة بمعنى ما، حتى إذا كانوا من الباحثين المتنبهين، وما إن حل القرن السابع عشر حتى كان أكثر الرجال الذين تهمهم الإنسانية بصفة خاصة ممن ينتمون إلى الطائفة المقتصدة أو النظامية. ونستطيع - في شيء من السذاجة، أو من البساطة على الأقل - أن نقول إن أكثر الرجال الأوائل الذين رحلوا إلى اليونان والرومان التمسوا لديهم الحرية التي تكفل للمرء أن يكون نفسه، وأن يساير ميوله، حتى إن كانت هذه الميول سلسلة من الانحرافات، كما نستطيع أن نقول إن الرجال المتأخرين - الذين مهد لهم الأوائل الطريق إلى اليونان والرومان، بل جعلوا دراستهم جزءا من البرنامج المدرسي العادي - التمسوا لديهم النظام، والهدوء، والترتيب، والبساطة. الطائفة الأولى تميل إلى الاعتقاد بأن الغالبية تمكن الأقلية من الحرية في تنمية فردياتهم أو قل إنهم لم يأبهوا بالغالبية. أما الطائفة الثانية، التي عرفت أهوال الحروب الدينية، فكانت تعنى عناية كبرى بالجماهير، وبالطرق التي تكفل لهم مكانة محترمة، أو قل في إيجاز إنهم كانوا ملكيين ومدافعين عن السلطان. ولم تكترث كلتا الطائفتين قلبيا أو بصورة فعالة بما نسميه اليوم قضية الديمقراطية. وحتى الجانب الفرعي من الكلاسيكيين الإنسانيين، وهم الجمهوريون الأرستقراطيون، مثل آلجرنون سيدني، لم يكونوا ديمقراطيين.
وقد خلف الإنسانيون أعمالا فنية لا تبلى، واشتركوا في تحطيم الاتجاهات الوسيطة، كما اشتركوا بشكل إيجابي في إقامة الدولة الدنيوية الحديثة بمعاييرها التي ترمي إلى التسوية وباتجاهها نحو الكفاية. ولكنا على وجه الجملة لا نضمر في نفوسنا اليوم من النزعة الإنسانية بمقدار ما تحدثنا به كتب الدراسة. إن الإنسانيين لم يكونوا البتة البناة الرئيسيين للعالم الحديث، كما لم يكونوا صانعي العقل الحديث، وبمقدار ما كان لهذين القرنين من أثر في صنعنا على الصورة التي نحن عليها ، كان أصحاب الأثر الأكبر هم البروتستانت والعقليين، ورجال العلم.
الفصل التاسع
صنع العالم الحديث: (ثانيا)
البروتستانتية
كان مارتن لوثر راهبا أوغسطيا. وبين مارتن لوثر وأوغسطين ملاءمة في الصلة العقائدية، وإن لم تكن في هذه الملاءمة بطبيعة الحال علاقة سببية. وقد رأينا أن عمل القديس أغسطس الذي شغل حياته كلها قد جعله من عمد الكنيسة الكاثوليكية، بيد أن شخصيته - بالرغم من ذلك - تنطوي على ذلك الجهد الصوفي الذي يهدف إلى الكمال، والذي كان دائما يقدم المشكلات للأفراد الأقل قداسة الذين تقع على عواتقهم إدارة الأمور في هذه الدنيا. وليست الحركة البروتستانتية - بمعنى من معانيها الهامة - سوى مظهر آخر لما بينا بالتحليل من قبل أنه التوتر المسيحي الشديد بين هذه الدنيا والدار الآخرة، أو بين الواقعي والمثالي. ولسنا بحاجة نحن المحدثين إلى أن نذكر بأن لوثر وكالفن وزوينجلي كانوا يتزعمون حركات تختلف اختلافا شديدا في هدفها وتنظيمها عن محاولات العصور الوسطى لإصلاح الشعائر الدينية القائمة. وذلك لسبب واحد وهو أنهم نجحوا في إقامة الكنائس، وقد أخفق وايكليف وهس من قبل في إقامتها. ونستطيع من ناحية أخرى أن نقول إن الكنيسة الكاثوليكية لم تستأنسهم أو تمتصهم كما فعلت ب «الإخوان الفقراء».
ولسنا بحاجة إلى التذكير بالدور الذي لعبته النظم الاقتصادية، والقومية، وشخصيات الزعماء، في التفريق بين الثورة البروتستانتية وحركات الإصلاح في العصور الوسطى. بل ربما كنا في حاجة إلى التذكير بأن البروتستانتية - مهما بلغت من العمق مشكلاتها الاقتصادية والسياسية - قد اكتسبت قلوب الناس وأفئدتهم برجوعها إلى التقاليد المسيحية. وحتى من الناحية الشكلية يصدق هذا القول، وليس الشكل البتة من الأمور التي ليست بذات أهمية. وقد أصر المصلحون البروتستانت جميعا على أنهم لم يكونوا مجددين، وإنما كانوا يرجعون إلى يسوع والكنيسة الأولى، وهي الكنيسة المسيحية «الحق».
وقد كان احتذاؤهم - باعتباره عملا يراه المشاهد المحايد - يختلف جد الاختلاف عن احتذاء القديس فرانسيس. وإذا كانت البروتستانتية هي مجرد مظهر من مظاهر جهد المسيحية في الارتفاع بطبيعة الإنسان البدائية، فيجب أن نذكر أنفسنا بأن هناك طرائق عدة تظهر فيها هذه الطبيعة البدائية، وطرائق عدة لمحاولة الارتفاع بها. ويجب أن نسأل أنفسنا عما كان جديدا في بروتستانتية أوائل القرن السادس عشر - جديدا بالرغم من أن صانعيه كانوا يحسبونه قديما. وعناصر الجدة هذه تسير بنا شوطا بعيدا نحو تفسير السبب في أن طوائف البروتستانتية أمسوا كنائس طائفية بدلا من أن يكونوا مجرد جماعات متزندقة تحيا حياة خفية على أية صورة من الصور، كما كان اللولارد والهوسيت.
ولكنا يجب أن نسجل أولا أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها كانت تخضع في القرن الرابع عشر - وفي القرن الخامس عشر خاصة - للضغط من فترة القلاقل التي كانت في ذلك الحين تشير إلى تدهور ثقافة العصور الوسطى. وكما أن مباني الكنيسة قد أخذت كثرة الألوان الزاهية عن الطراز الغوطي الذي زاد في نضجه، فكذلك اتجهت حياة الكنيسة اتجاها أكثر دنيوية، وأشد انحلالا، وفقدت ذلك الاتزان الدقيق الذي ساد في عصر أكويناس؛ فقد غالى المدرسيون في جدلهم الفارغ، وتنوعت نظم الأديرة، وزاد عدد رجال الدين الذين ليسوا من الدين في شيء، أو على الأقل باتوا أقوى ظهورا على مسرح الحياة. ونستطيع بصفة عامة أن نقول إنه ليس هناك أي نظام من النظم يبلغ من السوء مبلغ ما يصوره خصومه - وبخاصة إذا كانوا ناجحين في حملتهم. فالنظام القديم في فرنسا لم يكن من السوء كما يصوره رجال الثورة الفرنسية. ولم يكن جورج الثالث بتاتا ذلك الحاكم المستبد الذي يرسم الثوار الأمريكيون صورته. ولم تبلغ كنيسة البابا إسكندر السادس (رودريجو بورجيا) البتة من سوء الخلق ما بلغ ذلك البابا المفتري، ولم تكن البتة تلك الحمأة من المظالم كما تصورها الدعاية البروتستانتية. إن التاريخ - كصحفنا اليوم - يحب العناوين الكبرى. ولكن العادي الذي لا يستحق الرواية في الصحف يوجد بالرغم من هذا. وكم من قسيس أو راهب هادئ في القرن الخامس عشر عاش عيشة مسيحية كما عاش أسلافه في القرن الثالث عشر.
وبالرغم من هذا فقد كان هناك في الواقع تدهور في المستوى العام للحياة المسيحية والنظم المسيحية - وتدهور أكيد في قممها - في السنوات الأخيرة من العصور الوسطى. وقد بذلت الجهود لانتشال الحياة من هذا التدهور؛ فكانت هناك الثورات العلنية التي سبقت لوثر، وبخاصة ثورة وايكليف في إنجلترا، وهس في بوهيميا. وإنك لتجد كثيرا من الآراء، وكثيرا من طرق التنظيم التي لجأ إليها البروتستانت المتأخرون كامنة في هذه الحركات. وهنا تجد من غير شك ما يسميه المؤرخ - في غير دقة - ب «المؤثرات». ألم يعترف لوثر نفسه - كارها - بفضل هس عليه؟
ويجب أن نذكر ثانيا حركة إصلاح الكنيسة من داخلها بالوسائل التي نسميها اليوم دستورية، وهي الحركة التي قامت بها المجالس الدينية في القرن الخامس عشر، والتي تمخضت عن كتابات كثيرة يقدرها مؤرخ الفكر السياسي قدرا كبيرا. وكان هؤلاء المفكرون من رجال الدين في الفترة الأخيرة من العصور الوسطى، ويمثلهم جين جرسون، لا يزالون يعملون في إطار من أفكار العصور الوسطى. وتستطيع أن تستمد من جرسون شيئا يشبه أن يكون مشورة مقننة لدستور مختلط، تمتزج فيه عناصر الملكية، بالأرستقراطية، بالديمقراطية المعتدلة. وقد كانت هذه المشورة المقننة جذابة دائما للمعتدلين العقلاء من الرجال، من أرسطو إلى منتسكيو والإنجليز لعهد فكتوريا. وقد كان جرسون وزملاؤه يؤمنون إيمانا علميا كاملا «فيما ينبغي أن يكون» في غير إسراف، وبالعقيدة الوسيطة الكاملة بأن الله قد قدر الإدارة الصحيحة للكون في جلاء لا يعجز أي رجل معقول أن يدركه. ولما كان أعضاء الحركة الدينية يجتمعون في الواقع في مجالس تصطدم اصطداما عنيفا بالبابوات، فإنهم بذلك قد أدوا واجبهم نحو تمهيد الطريق لحركة الإصلاح الديني. إنهم لم يفلحوا في إخضاع البابا لهيئة من رجال الدين تشبه المجلس النيابي، ولكنهم تحدوا القوة النامية للبيروقراطية الرومانية. غير أن ألفاظهم، واتجاهاتهم، كان ينقصها المرارة والعنف والرجوع صراحة إلى ميول الجماهير كما كان لوثر. كانت تنقصهم الدفعة الثورية التي تميز بها كالفن، وكانت تنقصهم اللمسة القوية الواقعية - التي نألفها اليوم - كما كان ميكافيلي. ولا نريد بهذا أن نقول إن جرسون وزملاءه كانوا إلى العصور الوسطى أقرب منهم إلى العصر الحديث، وإنما نريد أن نقول إنهم كانوا أمثلة لتلك الظاهرة الغريبة الدائمة، وجود المثالي والمصلح المعتدل، رجل الألفاظ الرقيقة.
ولا مراء في أن الألفاظ يمكن أن تكون لها آثار عملية في هذا العالم - عالم العلاقات الإنسانية. وهي لا تنقلب إلى أعمال وحدها، وفي ذلك تشبه الغاز في آلة الاحتراق الداخلي الذي لا يتفجر وحده. وقد أبيت (في الفصل الأول) أن أنساق بشدة إلى شكل الجدل المعاصر الذي ليس من ورائه جدوى: أقصد الجدل في أيهما أسبق البيضة أو الكتكوت - أي الجدل في التفسير الاقتصادي للتاريخ. وليست بنا حاجة إلى التساؤل عما إذا كانت الآراء البروتستانتية هي التي أدت إلى التغيرات الاقتصادية، أم إن التغيرات الاقتصادية هي التي أدت إلى الأفكار البروتستانتية؟! وأود أن أحذر القارئ بأن الإصلاح البروتستانتي هو أحد الميادين الكبرى للعراك في الجدل بشأن الحتمية الاقتصادية، وأنا في هذا الكتاب آخذ بوجهة النظر التي ترى أن التغيرات الاقتصادية، التغيرات في الطريقة التي يؤدي بها الناس في المجتمع الغربي أعمالهم اليومية، عنصر هام في النظام الاجتماعي بأسره الذي أفلح فيه الإصلاح البروتستانتي. هذه التغيرات - إذا استعرنا المصطلحات الطبية التي تستحق رجوع القارئ إلى المعاجم - جانب من المرض (سندروم) لا نعرف أسبابه معرفة كاملة. إن التغيرات الخطيرة، كتلك التي تترتب على تحويل الاقتصاد الإقطاعي المكتفي بذاته إلى اقتصاد نقدي يقوم على تجارة واسعة، تغيرات تتوقع أن تصاحبها وتعقبها تغيرات خطيرة في جميع ميادين الحياة البشرية. إننا لا نتوقع أن تصطحب هذه التغيرات بالضرورة بإصلاح بروتستانتي، أو أن يعقبها مثل هذا الإصلاح، كما حدث فعلا؛ فإن تغيرات مشابهة في أنواع بسيطة من الاقتصاد غير الأوروبي في الأزمنة الحديثة - في اليابان مثلا - لم يصاحبها إصلاح بروتستانتي، وإنما صاحبتها تغيرات مختلفة أخرى.
إن أبسط تفسير اقتصادي للثورة البروتستانتية - يسبق ماركس بفترة طويلة - وربما عبر عنه تعبيرا قويا الثائر الإنجليزي وليام كوبت، الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. يقول هذا التفسير إن الكنيسة الكاثوليكية في كل مكان قد أثرت ثراء عريضا خلال العصور الدينية الوسيطة من تبرعات الواهبين الأغنياء الذين كانوا يتوقون إلى أن يضمنوا لأنفسهم مكانة في السماء، وقد تطلع الملوك والأمراء وأتباعهم من الطبقات الحاكمة ممن كانوا باختصار في حاجة ملحة إلى المال، إلى هذه الثروة، وحقدوا على أصحابها، فاغتنموا الآراء المجردة التي جاء بها لوثر ورفقاؤه في العمل، واتخذوها وسيلة لكي يبرهنوا للعالم أن اغتصاب أموال رجال الكنيسة أمر لا غبار عليه. وكانوا مدينين دينا عظيما للطبقة الجديدة من التجار والممولين، فتمكنوا من سد جانب من الدين من الأراضي والملكيات الأخرى التي استولوا عليها من الكنيسة. وهكذا نشأت طبقة حاكمة جديدة جشعة في المال، وعنها خرج الرأسماليون في العصر الحديث.
وهذا التفسير كله ينطبق تمام الانطباق على التجربة الإنجليزية. أما في ألمانيا فقد كان الأمراء أصحاب الأراضي هم المنتفعين الأساسيين من تجريد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من أملاكها. وفي فرنسا - حيث لعب الإصلاح الديني دورا هاما وإن لم يكن دور الظافرين - لم تكن المغامرات الاقتصادية بكل هذا الوضوح، وليس هناك - فوق ذلك - دليل على أن الطبقات الحاكمة في أكثر أنحاء أوروبا التي بقيت كاثوليكية كانت أقل جشعا أو أقل احتياجا إلى المال من تلك الأنحاء التي تحولت إلى البروتستانتية؛ فقد كان الأمراء الإيطاليون في حاجة إلى المال كما كان الألمان. وحتى التاج الإسباني قد شهد ثروة العالم الجديد وهي تتسرب، وعانى أزمة مالية حادة. ومن الجلي أننا بحاجة إلى تفسير أدق. وقد أمدنا به الماركسيون.
كانت هناك أولا - طبقا للتفسير الماركسي - سلسلة كاملة من التغيرات المادية الاقتصادية (ودعنا في هذه الآونة لا نسأل عن السبب في هذه التغيرات العنصرية) تعزز الاقتصاد التجاري الجديد، ويدير هذا الاقتصاد الجديد - أو يفيد منه على الأقل - رجال المال، والتجار، وهم طلائع طبقة تهدف إلى الشهرة أو النفوذ، هي طبقة البرجوازية. ولم يكن بوسع هؤلاء الرجال أن يتعايشوا مع الطبقة الحاكمة الإقطاعية القديمة، التي حددت عاداتهم العقلية والبدنية مراكزهم كأعيان يملكون الأراضي. والطبقة الإقطاعية القديمة تفرض الضريبة على التاجر، وتحط من شأنه، وتخدعه وتعاون الكنيسة على محاولة فرض تلك الآراء الطبقية التي تدعو إلى اعتدال الأسعار، وتحريم الربح باسم الربا، وكل اتجاهات العصور الوسطى إزاء التجارة مما سبق لنا تحليله عند الكلام على نظريات العصور الوسطى في العلاقات الإنسانية. ولم يكن التاجر الجديد يريد إلا أن يشتري في أرخص الأسواق ويبيع في أغلاها. ولم يكن يريد أن يكون لعماله أبا أو حاميا . إنه لم يرد بالنسبة إليهم إلا أن يكون صاحب العمل. وقد بدرت بالفعل حوالي عام 1500م بادرة التاجر الحديث بصورة ملموسة. ومن الطبيعي أن يستغل البروتستانتية ضد كنيسة تحاول أن تفرض طرقا اقتصادية تناقض مصالحه، ومن الطبيعي أن تنجح البروتستانتية في أجزاء من أوروبا حيث كان التجار الجدد، وأن تفشل حيث لم يصيبوا نجاحا. وكانت إنجلترا المتقدمة وهولندا مثلا تعتنق البروتستانتية، في حين لبثت إسبانيا ونابلي المتخلفة كاثوليكية.
وقد أضاف العالم الاجتماعي الجرماني المشهور ماكس وبر قوة جديدة إلى التفسير الاقتصادي. إن وبر يقبل جانبا من التفسير الماركسي وبخاصة تأكيده للنضال الطبقي، واعتناق الطبقة الوسطى الناشئة للبروتستانتية. غير أنه يزعم أن النظرة البروتستانتية إلى الحياة، وأن المثل البروتستانتية الخلقية، لم ترق لمحبي المال الجشعين لمجرد كونها تبريرا لسلب أملاك الكنيسة الكاثوليكية (وهي نظرية كوبت)، بل إن هذه الآراء البروتستانتية - في زعمه - هي أنني شكلت أولئك الذين اعتنقوها وأهلتهم لجمع المال، وكونت منهم الطبقة الوسطى التي نعرفها جميعا. إن فكرة لوثر بأن كل أمرئ له عمل يفرضه عليه الإله، وأن أداء هذا العمل من إرادة الله، هذه الفكرة عاونت على تكوين النظريات الأخلاقية التي آمن بها التاجر الحديث. غير أن كالفن في الواقع هو الذي كان المصدر الحقيقي لهذه النظريات الخلقية. وفي البلدان الكالفنية تم في هذه القرون الأولى ادخار رأس المال الذي مول الثورة الصناعية فيما بعد. إن الكالفنية لم تبشر بكرامة العمل فحسب، بل أصرت عليه؛ لأن الشيطان يترقب الأيدي العاطلة، والعمل جزء من دين الإنسان للإله القوي الجبار. وكان النجاح في العمل دليلا على رضى الرحمن، والربح بطبيعة الحال مشروعا . ومن ثم فإن الكالفني يجد ويجتهد ويكون الدخل. أما من ناحية الإنفاق فالكالفنية لا تشجع البذخ، أو التظاهر، أو الرياضة، أو زينة الكنائس - أو هي بإيجاز لا تشجع الصرف إلا في ضرورات الحياة الفاضلة المتينة. ولما كان الدخل يزيد على الإنفاق فالكالفني يدخر. وهذا الادخار هو رأس المال الذي يعود إلى التجارة. وهكذا يصبح الكالفني رأسماليا، رجلا ثريا، ولكنه يدخل الجنة كذلك، وهو فوق ذلك سعيد كل السعادة لأن النبيل الذي استغرق في الديون والذي كان يتكبر عليه ويؤذي شعوره من قبل لم يمس فقيرا فحسب، وإنما كتب عليه الجحيم كذلك لأنه ليس بالكالفني.
لقد ابتذلت في العبارتين الأخيرتين نظرية وبر إلى حد ما، ولكني عرضتها عرضا واضحا في خطوطها العريضة. إن الحجج التي تساق - على وجه الإجمال - لتفسير نشأة البروتستانتية ونموها تفسيرا اقتصاديا مقنعة للغاية. غير أن هناك أمرا آخر غير ذلك ضروريا. إن الأعراض الاقتصادية - حتى مع ما أضيف إليها اجتماعيا وسيكولوجيا بصورة خفية - لا تدل على الظاهرة المرضية دلالة كافية. ولو كان ارتباط البروتستانتية والرأسمالية - فوق ذلك - ارتباطا قويا، لتطابقا في كل العصور، حتى تنطبق خريطة أوروبا التي تبين مراكز البنوك والتجارة الجديدة الغنية على الخريطة التي تصور نمو البروتستانتية. في حين أن مثل هذا التطابق لم يحدث قط، حتى بعد عام 1800م، عندما مالت البروتستانتية والتصنيع إلى التطابق الجغرافي. وفي أوائل العصر الحديث، قبل الانفجار اللوثري، كانت المراكز الكبرى للاقتصاد الحديث - ميلان وفلورنسة وأوجزبرج والأراضي المنخفضة - في مناطق لم تتأثر إلا قليلا بالحركات السابقة للبروتستانتية. كما أن شمالي إيطاليا ووسطها، وبلاد الشمال الكاثوليكية، وبلاد الراين، وشمالي فرنسا الكاثوليكي استمرت بعد لوثر خلال القرن السادس عشر كله رائدة للاقتصاد الجديد، وليس من شك في أن الكالفنية عاونت على الإبقاء على الروح الرأسمالية وتقويتها، غير أن القواعد الخلقية الكالفنية للنظام الرأسمالي لا تفسر البتة نجاح الحركة البروتستانتية. وليست هذه القواعد إلا مصدرا واحدا من مصادر نجاح البروتستانتية.
وثمة مصدر آخر، هو ذلك المركب من العادات والمصالح والمشاعر التي نسميها القومية، وهي أحد الدوافع القوية في العالم الحديث. والقومية موضوع سوف أعود إليه. وإنما يكفي هنا أن نشير إلى أن مكانة القومية في الإصلاح البروتستانتي يمكن أن تدرس من ناحيتين: قومية الفئات الحاكمة، وقومية الجماهير الكبرى.
ويستطيع المرء أن يسخر سخرية شديدة من دوافع مبدعي البروتستانتية كما فعل هنري الثامن في إنجلترا. كان هنري على طريقة أهل زمانه الذين أخذوا حديثا بمذهب العقل - يتطلع إلى أن يكون رجلا كاملا من جميع الوجوه، باحثا ورياضيا ورجلا من رجال السياسة ومن ثم ألف (أو ألف له كاتب مجهول) دفاعا عن الكاثوليكية يرد به على رسالة لوثر الحديثة عن «أسر الكنيسة البابلي»، وكافأه البابا بمنحه لقبا رسميا هو «المدافع عن الدين». ثم شرع يقطع صلاته بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية وأنشأ ما أضحى فيما بعد «كنيسة إنجلترا» وهي أسقفية بروتستانتية. وفي خلال هذا التحول، تحول كثير من الثروة الضخمة التي كانت تملكها الكنيسة الرومانية في إنجلترا إلى هبات للنبلاء والأعيان الجدد من أسرة تيودور الملكية. وأمسى هنري نفسه رأس الكنيسة الإنجليزية، وكأنه بابا في حدود معينة. وحدث مثل ذلك في تواريخ عشرات من الإمارات الجرمانية.
ولكنا ينبغي - مع ذلك - أن نحذر من الأخذ بالدوافع الاقتصادية الضيقة؛ فإن هؤلاء الحكام وأتباعهم لم يكونوا يهدفون إلى ملء جيوبهم فحسب، وإنما كانوا كذلك يمهدون السبيل للدولة البيروقراطية الحديثة، ويستبعدون مزايا رجال الدين، وأحكام الشريعة، وما كانت الكنيسة الكاثوليكية تزعمه في موقف معين من تحررها تحررا مطلقا من الرقابة العلمانية، هؤلاء الحكام البروتستانت الجدد كانوا يسعون إلى بناء كنائس يمكن أن تقوم بمثابة بوليس الآداب في الدولة. ولكن إذا كان النفوذ والثراء كلاهما في خطر بالنسبة لهؤلاء الحكام، فلماذا لم تكن كذلك ضمائرهم؟ إن أمثال هنري الثامن، أو فيليب هس الجرماني الذي وقف إلى جانب لوثر، كانوا وطنيين مخلصين يعتقدون فعلا أن الإيطاليين الفاسدين كانوا يستغلون أرواح مواطنيهم كما يستغلون أبدانهم. والظاهر أن وطنيتهم كانت تتفق اتفاقا تاما مع مصالحهم الدنيوية حتى إنا لنميل إلى إسقاطها من حسابنا . في حين أن جون هودج وزميله الجرماني رجل الشارع لم يحققا من حملتهما على البابوية سوى إرضاء عواطفهما. ولذا فنحن نحس إحساسا غامضا بإخلاصهما. غير أنه من المؤكد أن المرء يمكن أن يكون على عقيدة حتى في حالات كسبه.
إن عامة الشعب أشبعت عواطفها قطعا، والبروتستانتية في إنجلترا واسكتلندا وهولندا وألمانيا خاصة كانت تنطبق تمام الانطباق على الشعور بالقومية في تلك البلاد. وإنك لتلمس في رسائل لوثر - وبخاصة فيما كتب منها بالألمانية - ومن أكثر ما كتب عن الصراع القائم، حب ألمانيا والثناء عليها، وكراهية «الأجانب» واحتقارهم - والأجانب هنا هم الإيطاليون - ذلك الحب الذي استمعنا إليه أجيالا عديدة. «لأن روما هي أكبر لص وسارق ظهر - أو سيظهر - على وجه الأرض ... لقد خدعنا نحن الألمان المساكين. خلقنا الله لنكون سادة، ولكنا أرغمنا على أن نحني رءوسنا تحت نير الحكام الظالمين ... وقد آن أن يكف الشعب التيوتوني عن أن يكون ألعوبة في أيدي رجال الدين من الرومان.»
وهذه النغمة عينها تسمعها في بلاد بروتستانتية أخرى، وإن تكن أقل من ذلك عجيجا. وقد أخذت بعض البلدان فيما بعد، وعلى سبيل الدفاع، تطابق بين الوطنية والكاثوليكية. ولا شك في صدق هذا الاتجاه لدى القوميات التي خضعت لغيرها، كالإرلنديين والبولنديين. بيد أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قد احتفظت دائما بتنظيم عالمي، تنظيم له كثير من صفات سلطة الدولة. أما البروتستانتية فلم تحقق قط في أي وقت من الأوقات مثل هذا التنظيم. ولم تكن اجتماعاتها الدولية سوى اجتماع طوائف، أو مؤتمرات، أو هيئات، ليست لها أية صفة من صفات «السيادة» أو حتى السلطة. وهكذا ترون أن البروتستانتية كانت تتفق وأشكالا معينة من الكيان الوطني، ولم تتفق مطلقا وأي كيان عالمي حقيقي.
إذن فلقد وجدت البروتستانتية في القرن السادس عشر كثيرا من مصادر القوة التي كانت تنقص حركات الإصلاح السابقة. ثم إن البروتستانتية في القرن السادس عشر قد اتخذت - فوق كل شيء - أشكالا عدة، وشكلت نفسها طبقا لكثير من المواقف المحسوسة المتنوعة في كثير من أجزاء الغرب، حتى إنه ليشق علينا أن نفسر نجاحها بسبب واحد. وكانت بعض مبادئها، وبعض طرق الحياة التي تدعو إليها، مبادئ وطرقا تيسر لرجل الأعمال الحديث البرجوازي وسائل العيش. إن البروتستانتية تدين بعض الدين للرأسمالية. وهناك مبادئ أخرى يسرت للحكام وتابعيهم أن يضاعفوا من ثرائهم ونفوذهم. غير أن البروتستانتية تدين بعض الدين لدوافع اقتصادية وسياسية أكثر بساطة وقدما. البروتستانتية جاءت لتعزز اللغة الشائعة، والثقافة الشائعة، والسلوك الشائع للجماعات المحلية التي نسميها الأمم، وهي الجماعات المحلية التي اتخذت صبغتها الخاصة حتى في القرن الثالث عشر. ثم اختلفت البروتستانتية مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية اختلافا واضحا ناجحا، وهي الكنيسة التي كانت لها متاعبها الخاصة التي عانت منها قرونا عديدة، كما كانت لها حركاتها التي قامت بها المجالس الدينية، وأسرها البابلي، وكان فيها المثقفون الساخطون، وأصحاب السير الناجحة البسطاء، وقادتها الدنيويون البارزون، وربما لم يكن لوثر أقوى من وايكليف أو هس. ومن المؤكد أن خصومه أضعف من خصومهما.
ونحن نتساءل - إذا أخذنا بهذا التفسير - ما الذي حدث للحركة البروتستانتية من حيث صحتها، وتقدمها، وحداثتها، وديمقراطيتها؟ أليس الإصلاح البروتستانتي أحد معالم التاريخ في الغرب؟ ثم ألم ينضم البروتستانت - فوق هذا - إلى جانب الحرية الفردية، والحكم الذاتي الديمقراطي، في حين أن الكاثوليك قد انضموا إلى جانب التسلط، والامتياز؟ أولم يكن البروتستانت لذلك حديثين، والكاثوليك متأخرين منتمين إلى العصور الوسطى؟
إن هذه الأسئلة توحي بعنصر ينقص ما قدمنا من تحليل المصادر البروتستانتية، وأحد هذه المصادر الحية الخصبة القدرة الإنسانية الدائمة على التأثر بالمثل الخلقية العليا. إن أكثر الحركات البروتستانتية قد استغلت هذه القوى البشرية الهائلة، كما استغلت قوى أخرى يحب الواقعيون والمتشائمون أن يركزوا اهتمامهم فيها، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لم تبذل جهدا ناجحا محكما لاستغلال هذه القوى المعنوية، وذلك لفترة كانت قاضية على قضية الوحدة الدينية في الغرب. ولما بذلت الكنيسة مثل هذا الجهد على أيدي القديس أجناشيوس لويولا والإصلاح الكاثوليكي كان ذلك بعد أن فات الأوان للاحتفاظ بالوحدة الدينية الغربية.
ولما كانت البروتستانتية هجوما على النظم القائمة ، فإن بعض الألفاظ التي كانت تستخدمها كانت تلك الألفاظ التي تستخدم لمقاومة السلطان، وكان جانب من مناشدتها يتجه نحو الفرد، حقوقه وحريته، وضد السلطة. لقد ناشد لوثر الإيمان الكامن في صدر الفرد مبتدئا بالأعمال الطيبة التي يفرضها أصحاب النفوذ. إن هناك اتفاقا بين مناشدة البروتستانت للفرد (لأن الناس في ذلك الحين لم يتحدثوا عن الفردية) وبين مناشدة الفردية في القرن التاسع عشر. وقد ذكرنا من قبل - فوق ذلك - أن البروتستانتية قد كانت فعلا في تطورها عونا على المبادئ الفردية للتاجر الرأسمالي. وعاونت على تحطيم المركب الإقطاعي الوسيط في السياسة، ومهدت الطريق للدولة البيروقراطية الملكية ذات الكفاية والخطوط المستوية.
إن محاولة فهم أسباب نجاح أو إخفاق البروتستانتية (على أية صورة من صورها وفي شتى أشكالها) ضد الكاثوليكية فهما محددا بمساحات أرضية محدودة، نوع من المرانة الجذابة في العلوم الاجتماعية التي لم تبلغ بعد حد النضج. إن كل العوامل المتباينة التي تعرضنا لها لها أثرها في كل حالة من الحالات، بل إن هناك كذلك عوامل أخرى. ومن الواضح أنه ليس لدينا مقياس دقيق نقيس به. فلا نستطيع مثلا أن نقول إن كل الشقراوات اعتنقن البروتستانتية، وإن كل السمراوات بقين كاثوليكيات. إن أهل الشمال لم يقبلوا البروتستانتية جميعا، وكذلك لم ينبذها أهل الجنوب جميعا. ولم تكن الشعوب الجرمانية كلها بروتستانتية، كما لم تكن الشعوب اللاتينية كلها كاثوليكية. ولا نستطيع أن نقول إن أصحاب المشروعات وأصحاب الأعمال انقلبوا بروتستانت، وإن المزارعين والفلاحين لبثوا جميعا كاثوليكا.
ومع ذلك فإن بعض العوامل أهم من بعض. وعندي أن الأمثلة المحسوسة في إنجلترا وإيرلندا وفرنسا والأراضي المنخفضة والولايات الجرمانية تدل على أن البروتستانتية تنتشر عندما تطابق الشعور القومي السائد، وتفشل عندما لا تطابقه؛ فقد كان للبروتستانتية في فرنسا مثلا قوة عظمى في القرن السادس عشر. وكان كالفن نفسه رجلا فرنسيا. وبالرغم من الآراء الأمريكية الشائعة عن الخلق القومي الفرنسي، فإن الفرنسيين يعدون من البيوريتان الطيبين كغيرهم. غير أن التاج الفرنسي، وهو بؤرة الوطنية الفرنسية، لم يجن شيئا له أهمية من انفصاله عن روما؛ فقد كان له من قبل بالفعل استقلال عظيم. إن أكثر الفرنسيين لم يطابق بين الفرنسية والبروتستانتية، كما أن أكثر الجرمان الشماليين قد طابقوا بين البروتستانتية والجرمانية. والواقع أن فرنسا في أواخر الحرب الأهلية في القرن السادس عشر، وأقصد أكثر أوساط الفرنسيين، قد طابقوا بين البروتستانتية والخيانة لفرنسا. ثم إن الكالفنية كان معناها الوطنية للهولنديين، ومقاومة الكالفنية - أو الإخلاص للعقيدة الكاثوليكية - كان معناها الوطنية لتلك الأقاليم الجنوبية من البلاد المنخفضة، التي لم تهضم بعد - بل كانت منافسة لبقية الأقاليم - وهذه الأقاليم الجنوبية هي التي أمست بلجيكا الحديثة المستقلة. وأقول عرضا إن هذه المباينة بين هولندا البروتستانتية وبلجيكا الكاثوليكية مباينة تشوق أصحاب النظرية الحتمية الاقتصادية البسطاء، وتغريهم ببحثها؛ لأن هذه المساحات الصغيرة المتجاورة كانت من المراكز التجارية والصناعية لعدة قرون، أي إن اقتصادياتها كانت في إيجاز على تشابه شديد.
وهناك هوة عميقة بين بروتستانتية القرن السادس عشر وفردية القرن التاسع عشر عند الأمريكان الذين ألفوا الكتب الدراسية التي تعادل بين الحركتين. إن أولئك الرجال الذين ابتدعوا البروتستانتية، وبخاصة لوثر وكالفن، لم يكونوا في الواقع حديثين في روحهم (وأنا لا أستخدم لفظ «الحديث» في هذا الكتاب للقدح أو الثناء، وإنما لأشير إلى صفات الثقافة الغربية منذ عام 1700م على وجه التقريب) وهم بالتأكيد لم يؤمنوا بالحرية. إن البروتستانتية يمكن - إذا نظرنا إليها من الناحية التاريخية - أن تبدو وسيطة جدا في ملامحها. والبروتستانتية - وهي تعد بحق أحد العوامل التي صنعت العالم الحديث - قد تحولت تقريبا إلى حركة حديثة بالرغم عنها وبالرغم عن قادتها. لقد كانت البروتستانتية في طبيعتها وأهدافها محاولة وسيطة أخيرة، ومحاولة مسيحية محض عظيمة وأخيرة، لتبرير تصرف الإله في الإنسان بطريقة عملية.
طبيعة البروتستانتية
هنالك في الواقع صور متعددة للبروتستانتية؛ فإن العبادات عند الكنيسة الكبرى الأسقفية لا تشترك إلا في القليل مع العبادات عند الموحدين المتزمتين، أو المؤسسين الأوائل. وسوف نحاول بعد قليل أن نصنف أنواع البروتستانتية المختلفة كما ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولكنا نستطيع مع ذلك أن نضفي على البروتستانتية بوجه عام صفة واحدة. إن أكثر أوجه الخلاف سلبية، غير أن هذه الصفة إيجابية.
إن حركة البروتستانتية تشف عن شكل معين من أشكال الجذب أو التناقض الذي سبقت لنا الإشارة إليه في صورة الثقافة الغربية الأخرى. كانت البروتستانتية ثورة على سلطة قائمة تمتلك الصفات الخارجية لأي سلطان (كالتنظيم، والقوانين، والطقوس والتقاليد). وقد ناشدت البروتستانتية الناس «ألا يعتقدوا في ذلك أو يطيعوا»، بل ناشدتهم في الواقع - وفي حماسة - أن يعتقدوا في أمور أفضل وأن يطيعوا رجالا أفضل، وقوانين أفضل. وقد أصر أكثر دعاتها نجاحا، لوثر وكالفن، على أن ما دعوا الناس إلى اعتقاده، وإلى طاعته، هو مسيحية يسوع الصادقة، ولم يكن بدعة مستحدثة، وليس هناك بروتستانتي في السنوات الأولى يستطيع أن ينكر حقيقة العصيان، وهو عصيان على كل فرد أن يقرر القيام به. وقد عرض لوثر قضية العصيان صراحة في أخطر عبارات التعبير عنها، وكان رجل عمل يتصف بعدم المبالاة بالاتساق الفلسفي، وهو نوع من عدم المبالاة يبدو للرجل المنطقي ضربا من ضروب الغباء.
وما دام القسيس البابوي يقف عقبة بين الإنسان وربه - كما يقول لوثر في دعواه - فلنتخلص من أي شيء قد يقف مرة أخرى عقبة في وجوهنا. وليكن كل فرد قسيس نفسه. ومن الزعم الباطل أن نفترض أن الله، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، يرضى عن قيام مثل هذه الوسيلة البشرية البسيطة - أعني الكنيسة - لتتدخل في العلاقة بينه وبين مخلوقاته. ثم إن الله قد أوضح نواياه في الكتاب المقدس، الذي يستطيع كل امرئ أن يطالعه بنفسه دون وساطة القسس. وسوف أعود بعد لحظة إلى بعض ما يترتب دينيا على هذه الدعوى اللوثرية الشهيرة الموجهة إلى ضمير الفرد. أما من الناحيتين السياسية والخلقية فقد كان لوثر الذي يبشر بهذه الآراء إنما يبشر بالفوضى؛ إذ كان ينصح كل إنسان أن يصغي إلى شيء في نفسه وأن يهمل كل ما كان خارج نفسه - كالقانون، والعادات والتقاليد، وميراث العصور الوسطى من المسيحية. غير أن لوثر كان في الواقع ينصح المرء أن يصغي إلى نداء ضميره، وقلبه، وجرمانيته، وروحه كلها، وهو يعتقد اعتقادا جازما ساذجا إنسانيا إلى أبعد غاية أن هذا النداء يتفق كل الاتفاق مع ما كان ضمير لوثر نفسه، وقلبه، وجرمانيته، وكل روحه، لا يكف عن دعوته إليه (وما أكثر الأمور التي تبلغ بها البساطة في هذه الدنيا حد بلبلة الخواطر). إن لوثر قد ناشد الرجال الأحرار لأنه كان يعتقد أن كلا منهم لوثر - على صورة مصغرة هادئة، وهي وإن لم تكن موهوبة إلا أنها تشبه لوثر على كل حال. ولما تبين له أثناء ثورة الفلاحين أن الرجال الأحرار إنما كانوا يريدون أمورا أخرى تختلف عما يريده كل الاختلاف - فهم يريدون المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ويريدون النعيم على هذه الأرض عاجلا، يريدون في شئون العلاقة الجنسية شيئا أكثر من مجرد قيام القسيس بمراسم الزواج بل يريدون الكثير مما لم يحب لهم أن يريدوه - لما تبين له ذلك أمدهم - طوعا - بنوع من الوساطة بين الله وهؤلاء القوم البائسين. أمدهم بالكنيسة اللوثرية، وهي الكنيسة التي لها قوانينها الخاصة، ومعتقداتها، وأساقفتها، وقسيسوها، ومذهبها العملي الخاص فيما يتعلق بالعمل الطيب. وكان لوثر يرى أن الإقناع بالعقيدة لا يمكن أن يبرر الحركة التي تدعو إلى عدم الإيمان بالتعميد أو التقيد بالقواعد الخلقية الدينية. وإذن فإن الثورة على السلطان قد انتهت بلوثر إلى إقامة سلطاته هو نفسه.
وربما أثارت - أو حيرت على الأقل - الفقرات السابقة كثيرا من البروتستانت في السنوات الأولى؛ فهم لم ينظروا إلى حركتهم باعتبارها محاولة لتحرير الناس حتى يستطيعوا بطريقة ما أن ينسجوا من جديد مصير حياتهم من مصادرهم الباطنية الخاصة. إنما نظروا إلى الحركة التي قاموا بها على أنها محاولة لرد الناس إلى السلطة الحق، وإلى السيد الحق، إلى الله. إن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد قلبت كلمة الله، ولكن هذه الكلمة لحسن الحظ ميسورة، ويمكن أن تترجم إلى اللغات الأوروبية الحية. ولما كان الإنجيل ميسورا باللغة القومية فإن القسيس لم يعد صاحب الاحتكار الذي كان له عندما لم تكن هناك سوى الترجمة اللاتينية. وقد عمل كبار المصلحين - وايكليف وهس ولوثر وكالفن - على نشر الإنجيل بلغاتهم على نطاق واسع، وأمكن للمطبعة في القرن السادس عشر أن تخرج الإنجيل بأعداد تكفي الجماهير، وأمسى بوسع كل امرئ أن يكون بين يديه كتاب مقدس. ومن ثم بات الإنجيل هو السلطة الحقيقية التي لا تقبل الجدل؛ فهو من كلام الله وليس من كلام الإنسان.
إن أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن قراءة الإنجيل هي حل لمشكلة الحرية والسلطة أقلية نرعاها فنسميها «طائفة المؤسسين». وأما من وجهة النظر التي اتخذناها عن عمد في هذا الكتاب فإن الإنجيل ليس بالتأكيد هو ما يعنيه أكثر الناس بالسلطة (أو المرجع) فإنك إن دخلت في جدل حول عدد سكان مدينة نيويورك في التعداد الأخير وجدت المرجع في عشرات من أمهات الكتب، ولكنك إن دخلت في جدل حول المعنى الحقيقي ل «العشاء الأخير» استطعت أن تعزز حجتك من الإنجيل، ولكنك بالتأكيد لا تجد للمشكلة حلا نهائيا، وربما وجد الناس في الإنجيل - مع تبسيط الأمور تبسيطا شديدا - ضالتهم المنشودة. وقد دفع رجوع البروتستانت إلى الإنجيل البحث عن الكلمة النهائية خطوة واحدة إلى الوراء، فإن «شخصا ما» لا بد أن يقول ما يعنيه الإنجيل في نقطة ما، و«شخصا ما» لا بد أن يقوم بما يشبه الأعمال التي كان يؤديها الآباء، والشرائع والكنيسة الرومانية منذ زمان بعيد. إن الإنجيل لا يمدنا بالمرجع، إنما يمدنا به مفسروه. وإذن فالمستقل برأيه يجد نفسه مرة أخرى تابعا لغيره في الرأي.
ومثل هذه التبعية هي المصير العام لكل الثائرين في هذا العالم، إذا هم عاشوا بعد نشوب الثورة. وقد كان من السهل دائما من الناحية العملية للثائرين السياسيين، بل والثائرين الاقتصاديين، أن يعيدوا بناء سلطة من السلطات تحل محل السلطة التي ثاروا عليها، وسرعان ما جعلت فرنسا اليعقوبية وروسيا البلشفية الطاعة أمرا له قدره واحترامه. غير أن الثورة البروتستانتية - لسبب ما، وربما كان ذلك في الحق بسبب الطموح السامق إلى الحقيقة الأبدية التي يعالجها الفلاسفة ورجال الدين - لم تحي قط حياة ناجحة على مستوى أسفل من أصولها الثورية. فأبقت نشأتها المتوترة إلى حد كبير حية، على الأقل في حدودها وفي أعماقها؛ فهي لم ترد للناس أن يلتمسوا التبرير إلا في إيمانهم، وهي لم تر أحدا سوى الأحرار من الناس، ولكنها أرادت كذلك عالما نظاميا مرتبا. غير أن ذلك معناه من وجهة النظر الكاثوليكية - كما عبر عن ذلك بوسيه مثلا - أن البروتستانتية تولد دائما مذاهب جديدة، وتحتج على المحتجين الأوائل وأنها تتحول بذلك إلى عالم لا نهاية له، وأن البروتستانتية لا يمكن أن تقوم لها وحدة لأنها لا تستند إلى مبدأ له الكلمة النهائية. ويمكن أن نعبر عن ذلك بصيغة أكثر تقديرا للبروتستانتية فنقول إنها الوارث الحقيقي لفكرة السعي إلى تحقيق كمال سماوي على الأرض، وهو السعي الذي عبرت عنه المسيحية في العصور الوسطى بالعزلة الصوفية، وبالحروب الصليبية، وبإصلاح الأديرة؛ أي بالهرطقة الأبدية. أو قل إن البروتستانتية كانت هي الوريثة الحقيقية حتى جاء عصر التنوير ببشير آخر أقرب إلى هذه الدنيا.
لأن العقائد البروتستانتية الكبرى قبلت العقيدة المسيحية القديمة في الخطيئة الأولى - وهذا حكم عام سلبي مبدئي. وقد بالغ كالفن - كما نعلم - في تصوير الجانب المظلم من النظرة الكاثوليكية إلى الإنسان الحيواني، والكالفنية المتطرفة شديدة التشاؤم فيما يتعلق بقدرة الإنسان على أن يحيا حياة طيبة في هذه الدنيا، وليس مذهب لوثر الذي يقوم على أساس التبرير بالإيمان إثباتا بأن الناس يولدون طيبين، وأنهم يستطيعون باتباعهم رغباتهم الطبيعية أن يعثروا على خير مرشد لهم في الحياة، وقد تمسك لوثر - حتى في أكثر لحظاته فوضوية، في نضاله الأول ضد روما - بمبدأ ضعف الإنسان الطبيعي. وإنما هو الله الذي يهب الإنسان الإيمان، وهو الذي لا «يخلقه»، وهو الذي «يحفظ» الخير له. وإنك لتجد في هامش البروتستانتية - بين بعض الطوائف الهمجية - بوادر المذهب اللاحق الذي جاء ينادي بالخير الطبيعي عند الإنسان. وإنك لتجد كذلك بين من نسميهم «المتحللين من قواعد الأخلاق الدينية» نوعا من الفوضى الواضحة؛ فهم يؤمنون بأنه ليس هناك قانون، أو حكم، أو طقوس، يقيد الروح البشرية في الفرد، ما دامت كل أمثال هذه القوانين، والأحكام، والطقوس، ليست إلا صيغا ثابتة تحد من نشاط الروح البشري الذي يتنوع تنوعا لا نهاية له. ونستطيع أن نربط ما بين «الثورة على قواعد الأخلاق الدينية» وبين الأفكار التي أعقبتها بشأن الخير الطبيعي عند الإنسان، ولكن «الثائرين على الأخلاق الدينية» أنفسهم يتحدثون بلغة الدين المسيحية. وهذا الروح البشري الذي لا يمكن عدلا أن نحبسه هو كذلك الروح المقدس، هو إله مشخص يؤدي عمله في هذه الدنيا.
ويأتي بعد ذلك بوضوح حكم سلبي آخر؛ ذلك أن البروتستانتية لم تكن في تلك القرون حركة عقلية بأي معنى من المعاني البعيدة؛ فإن العقليين المتأخرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر زعموا أن البروتستانتية أمهم، أو إذا استخدمنا استعارة أخرى أقل حدة، قلنا إنهم زعموا أن البروتستانتية كانت هي الطرف الدقيق في الإسفين الذي أخذ يتغلغل في الإنسانية فيحللها من «الخرافة» الكاثوليكية. ونحن نصطدم هنا بصعوبات التعاريف؛ فإن أنت آمنت بأن الحد من عبادة القديسين وعبادة مريم العذراء، وأن الإقلال من الطقوس، وزيادة الاهتمام بالموعظة، وتحوير الدور الذي تلعبه الموسيقى والفنون الزخرفية تحويرا شديدا أو حتى إلغاءه إلغاء تاما، وأقللت تبعا لذلك من علوم الدين - وإن أنت حكمت بأن تنفيذ ذلك مما يوحي به العقل، فالبروتستانتية إذن - إذا قورنت بالكاثوليكية - حركة عقلية. بيد أن كثيرا من هذه التغيرات لم يحدث إلا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، عندما كان من الواضح جدا أن الحركة العقلية كان لها في الكنائس البروتستانتية من الأثر ما لم يكن لها في الكنائس الكاثوليكية. وإن أنت عدت إلى القرن السادس عشر ذاته واطلعت على الجدل الديني الذي دار في ذلك الحين لتعذر عليك أن تحس أنك في محيط عقلي.
إن ملايين السياح قد شهدوا البقعة السوداء على حوائط قلعة وارتبرج حيث ألقى لوثر بالمحبرة على الشيطان. وليس في هذا ما يثير الشك روحانيا؛ فقد كان لوثر يعتقد فيما يجاوز الطبيعة في ثبات لا يقل عن ثبات أي أوغسطيني أكثر منه إخلاصا. وكان الإله الجبار عند كالفن أمرا حقيقيا كما كان يهوه الذي كثيرا ما يذكره. وقد قاومت البروتستانتية الأولى النظرية العلمية الجديدة التي تتعلق بصلات الأرض والشمس، كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية، ولنفس الأسباب تقريبا. وللمؤسسين البروتستانت الأمريكان المحدثين الذين لا يثقون في الجيولوجيا أو البيولوجيا جذور ثابتة في القرن السادس عشر. وإذا كان البروتستانت (مع وجود بعض الاستثناءات كما هي الحال مع الإنجيليين) قد كفوا عن اعتقادهم في القديسين، فقد استمرت عقيدتهم في الشيطان، وفي الساحرات، وفي كل جيوش الظلام. والواقع أن البروتستانتية قد أحيت معنى المعجزة واللامعقول، بمقدار ما كانت البروتستانتية تعني عند الفرد تجديد المشاعر الدينية العميقة، والابتعاد عما ربما كان يعد شكلية مطمئنة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
ولم تكن البروتستانتية الأولى - من ناحية ثالثة - متسامحة. ولم يبشر البروتستانت الأوائل بالتسامح الديني أو يمارسوه. ومن الحق - من الناحية التاريخية - أن ممارسة التسامح الديني قد تطورت أولا في البلدان البروتستانتية، وبخاصة في إنجلترا. إن شكل التسامح الشديد الذي يرى أن التسامح الديني إنما نشأ لأن المذاهب الكثيرة قد ملت التقاتل أو حتى الجدل فيما بينها، وأن رجال السياسة العمليين الذين لا يعتقدون إنما استطاعوا أن يتلاءموا مع المذاهب المنهوكة التي لم تعد تحترق بنار الحماسة، وأن النظريات والمثل التي تتعلق بالتسامح الديني لم يكن لها البتة شأن بالعملية كلها - إن هذا الشكل لم يعد يكفي، وفيه إجحاف بالنسبة إلى الجماعات الدينية الصادقة من أمثال «الصحابة» الذين كانوا يرون أن التسامح خير إيجابي، وفيه كذلك إجحاف بالنسبة إلى مئات الكتاب والعمال من جميع النحل من المؤمنين وغير المؤمنين، أولئك الذين جاءوا في هذه القرون التي اتسمت بميسم الجهاد والنضال لكي يدافعوا عن التسامح الديني باعتباره هدفا مطلوبا لذاته. إن التسامح الديني لم يكن هدف لوثر، أو كالفن، أو غيرهما من المكافحين البارزين الناجحين في سبيل قضية أحسوا أنها فوق التجريب وفوق الشك، ومن ثم - بطبيعة الحال - فوق ذلك الجبن أو التراخي الذي يسميه الناس التسامح، نعم إن الدفاع عن التسامح الديني باعتباره خيرا خلقيا قد طرأ فعلا لبعض الأفراد حتى في السنوات الأولى من الإصلاح الديني، ولكن هذا الدفاع كان يصدر عن الشخصيات ذات الأهمية الثانوية. وكان هناك بين الإنسانيين الأوائل ميل نحو التسامح، ونحو التعقل، بل ونحو التشكك. ومع ذلك فإن كثيرا من الإنسانيين كان يتميز بأكثر من مجرد مس من الاندفاع نحو الكمال الذي كانت تنطوي عليه البروتستانتية، وكثيرا منهم، كأرازمس نفسه، كان يفتقر إلى الشجاعة وإلى دوافع العمل في سبيل التسامح الحق.
ولم تعد بي حاجة بعد سرد هذه الأحكام السلبية إلى القول بأن البروتستانتية الأولى لم تكن ديمقراطية بالمعنى الأمريكي التقليدي الحديث، وما أكثر ما كتب عن العلاقة بين الحركة البروتستانتية ونمو الديمقراطية الغربية الحديثة. ويتوقف الكثير - بطبيعة الحال - على تعريف الديمقراطية؛ فإذا أنت أكدت أهمية الحرية الفردية في الديمقراطية، فإن لوثر وكالفن لم يكونا قطعا من الديمقراطيين؛ لأن كليهما لم يعتقد أن المرء يجب من الناحية العملية أن يترك حرا في ارتكاب الخطيئة (ارجع إلى الفصل التالي عن أشكال البروتستانتية). وإن أنت رأيت أن المساواة في الديمقراطية هي نقطة الارتكاز وليست حرية الفرد، اتضح لك بصورة أقوى أن الجماعات البروتستانتية الكبرى لم تكن ديمقراطية؛ فإن جماعة الكالفنيين الممتازين الصغيرة، من القديسين، والظافرين بالخلاص، كانت من أشد الجماعات تمسكا بالأرستقراطية المانعة. وقل من الاتجاهات ما يقل ديمقراطية عن البيوريتان الإنجليز الذين قيل لهم إن أولئك الذين كتب عليهم الجحيم لهم على الأقل أن يستمتعوا ببعض الملذات في هذه الدنيا، فأجابوا بأن مسلكهم يفوح بالروائح الكريهة في أنوف المؤمنين. أما عن اللوثرية فإن تحكمها بالرأي وميولها الأرستقراطية قد اتضحت كثيرا بعد ثورة الفلاحين. وكانت كنيستها في أوائل أمرها ملائمة لطبقة الأرستقراط البروسيين، ولكني أعود فأكرر أن كثيرا من العوامل التي أدت إلى الديمقراطية الحديثة قد جاء عن البروتستانتية الأولى، وإن لم يكن عن غير قصد.
وللأحكام التي سبقت استثناءات، كما أن لكل حكم علم تاريخي استثناء؛ فإن الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر - ولا أعني «الثورة المجيدة» التي نشبت في عام 1689م، وإنما أعني الثورة العظمى التي نشبت في الأربعينيات من القرن السابع عشر - كانت من المصادر الرئيسية للديمقراطية الحديثة؛ ذلك أن الحركات اليسارية في الثورة كانت تجمع بصورة مذهلة بين الأفكار والآمال الدينية والسياسية والاقتصادية؛ فكانت هناك طوائف تؤمن بالعصر الذهبي بعد عودة المسيح ، وطوائف تدعو إلى تحلل المسيحية من القواعد الخلقية، وهناك طوائف أكثر كالفنية من كالفن. وهناك جماعات مثل جماعة «دعاة المساواة» التي تهدف إلى الحرية السياسية بمعنى يقرب جدا من معناها الحديث عندنا، بل إن الجماعات الكبرى، مثل البرزبتيريان، والمستقلين (الداعين إلى تكوين الجمعيات الخاصة) كانت في هجومها على الملوك والأساقفة تدعو إلى سيادة البرلمان، وإلى احترام حقوق الإنسان، والدستور، وإلى كثير من الجانب التنظيمي للديمقراطية. وإنك لتجد - فوق ذلك - بين كثير من هذه الجماعات آراء ديمقراطية عن المساواة، وعن عدم الثقة ديمقراطيا في سلطة تكون قراراتها فوق رقابة الشعب بأسره. إننا نعرف اليوم حق المعرفة أن روح القادة الذين أقاموا المصلحة البيوريتانية المشتركة في خليج ماساشوستس لم تكن ديمقراطية. كما أن الحكومة التي أسسها ونثروب ورفاقه كانت حكومة الصفوة والقديسين. ولكن حتى في ماساشوستس سرعان ما نمت روح المقاومة لهذه الأوليجاركية. وإنك لتجد في روجر وليامز زعيما بروتستانتيا - بالمعنى الكامل في القرن السابع عشر - كان في الواقع كذلك ديمقراطيا فوق كل شيء.
ولكني يجب أن أكرر القول - بالنظرة العامة التي تراها الأحكام السلبية - إن البروتستانت في عهد الإصلاح الديني لم يكونوا ديمقراطيين في روحهم.
وإذا ضممت كل هذا بعضه إلى بعض: الاعتقاد القوي واسع المدى فيما فوق الطبيعة، الذي ربما زاد من قوته تركيزه على الثالوث المقدس وخصومه - أو على الأصح دعاته - الشياطين، وإحساس شديد بالخطيئة، واندفاع متجدد نحو المثل الأعلى، وكراهية الطوائف الأخرى كراهية تنفي التسامح نظريا وعمليا، إذا ضممت كل هذا كان لك كل لا يشبه في الكثير البروتستانتية الأمريكية الثابتة المستقرة في القرن العشرين؛ بروتستانتية «معونة السيدات»، والكشافة، وعشاء الكنيسة، والتبشير الديني في أفريقيا، وكل صنوف الدعاوى الطيبة، من تحريم الخمر، إلى الحكومة العالمية. إنما كانت البروتستانتية الأولى اتجاها همجيا، غير مستأنس، كما كانت بالنسبة إلى المتعقل الهادئ، أو المثالي البريء، أمرا منفرا؛ ذلك لأن البروتستانت الأوائل كانوا لا يزالون يرون - كما كان يرى الناس في العصور الوسطى - عنفا وأمورا مريبة في عالم يحكمه إله جبار، مبهم ، لا تحده الإحصاءات أو العلوم أو الحس المشترك. بل إن البروتستانتي في القرن السادس عشر كان - بمقدار ما كان الإله البروتستانتي أشد ظلاما وإبهاما من إله المدرسيين - يعيش في عالم أشد عنفا وأكثر قلقا من عالم الكاثوليك في القرن الثالث عشر. إن البروتستانتية الأولى جاءت لا لتقيم سلاما، ولكن لتشهر سيفا. والسيف يؤدي إلى نتائج فظيعة دامية. في حين أن «الكشافة» و«معونة السيدات» لا تستخدم السلاح.
أشكال البروتستانتية
لقد اجتهدت حتى الآن في أن أصدر أحكاما عامة أساسية عن البروتستانتية بوجه عام. غير أن أوضح حكم عام - كما يحب حتى المترفقون من الكتاب الكاثوليك أن يقولوا - يستطيع المرء أن يصدره عن البروتستانتية هو أنها لم تكن كلا؛ فإن كانت هناك وحدة بروتستانتية فإنها تلتمس في الأمور المجردة وفي الأحكام الروحية العامة، أما فيما يتصل بأمور التنظيم الدنيوية، وشئون الإدارة، والمالية، والمظاهر الخارجية للوجود الجماعي، فهناك تنوع في المذاهب يحير الألباب. وقد جاء في ذلك المرجع الأمريكي المعروف «التقويم العالمي» أنه قد وجد في الولايات المتحدة القارية في عام 1947م، 256 هيئة دينية. وإذا بحثت في هذا المرجع تحت عنوان «كنيسة الله» مثلا وجدت ما يأتي:
كنيسة الله.
كنيسة الله (آندرسون).
كنيسة الله، اليوم السابع.
كنيسة الله (الأصلية).
الكنيسة الوحيدة لله.
الكنيسة الوحيدة لله.
وليس التكرار في السطرين الأخيرين خطأ مطبعيا.
إن الباحث النظامي الذي يأخذ على عاتقه تصنيف الكنائس البروتستانتية لا يجد بين يديه معيارا واحدا يقيس به. والواقع أن العنوان الذي اخترناه لهذا الفصل من الكتاب - وهو «أشكال البروتستانتية» - قد يدل على نسق خاص لا يتفق والواقع ، وذلك إن أخذنا الأشكال (وهي في الأصل الإنجليزي ألوان الطيف) بمعناها الحرفي. وتستطيع أن تصنف الجماعات البروتستانتية - على الأقل في بلد معين - طبقا لقيمتها الاجتماعية، أو ثراء أعضائها، أو مقدار ابتعادهم الديني عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أو درجة حماستها الإنجيلية، أو مدى قيامها على أسس الكتاب المقدس. وسوف نأخذ هنا الكنيستين الوطنيتين الكبيرتين، الأنجليكانية واللوثرية - وهما في عين الناقدين تتبعان أراستس؛ أي تخضعان القوى الدينية للقوى الدنيوية - مثالا لليمينيين في البروتستانتية، والطوائف الكالفنية مثالا للوسط العظيم، والطوائف الأشد ثورة مثالا لليساريين. ويلاحظ أن «النظامية» تطور تم في القرن الثامن عشر، لا نستطيع أن ندخله في حسابنا هنا.
وكانت النسبة إلى أراستس (الأيراستي) لفظة تدل على الكفاح، تثير الحماسة في الجدل عند آبائنا بالتأكيد كما تثيرنا اليوم لفظة «الاشتراكي». وهي باختصار ذلك المبدأ الذي ينتمي إلى رعاية رجل سويسري من رجال الدين (ولا أريد القارئ أن يخلط بينه وبين أرازمس ابن مدينة روتردام، ذلك الإنساني الهولندي). وقد دعا إلى ألا تخرج الكنيسة عن أن تكون هيئة من الهيئات التابعة للدولة؛ فرجال الدين هم شرطة الآداب في الدولة، والوطنيون العلمانيون هم الذين يعادلون بين كلمة الله وكلمة الحكام.
إن الكنيسة الوطنية - بحكم انحصارها في تكوينها الزمني في دولة معينة أساسها الأمة - لا بد أن تكون أراستية إلى حد ما. والكنيسة الوطنية في إنجلترا لم تكن تحتكر الحياة الدينية في البلاد على أية صورة من الصور. وقد عارضتها من قديم حركات انفصالية قوية، وانقسمت في الداخل إلى جماعات «مرتفعة» كادت تكون كاثوليكية رومانية، وجماعات «منخفضة» تكاد تكون موحدة، مع وجود جماعة ضخمة بينهما في الوسط. وأقول في إيجاز إن كنيسة إنجلترا كانت مجموعات من المتناقضات الكنسية؛ هي كنيسة مفردة فيها تطلعات إلى الكاثوليكية (أو العالمية) وفيها تنوع فريد في الأفكار والميول. وحتى في هذه الحالة كانت كنيسة إنجلترا تبدو أراستية في أعين خصومها، وليس من شك في أنها كانت خلا القرون الأولى انعكاسا لطريقة الحياة التي عاشها الأعيان المستجدون من الناس والطبقات المحافظة على وجه العموم، وقد كان لكنيسة إنجلترا في عشرات السنين القلائل من وجودها تاريخ عاصف من النجاح والفشل، خرجت منه في عهد إليزابث مثالا كلاسيكيا لقدرة الإنجليز على التوفيق - أو إن شئت فقل إنها زعمت أن بعض الصعاب ليس له وجود. وحتى في القرنين الأولين بعد لوثر - إذن - لم تكن كنيسة إنجلترا شيئا بسيطا، وإنما كانت عالما مصغرا للعالم البروتستانتي. كانت الكنيسة الإنجليزية أساسا كنيسة بروتستانتية محافظة، تحترم السلطة المدنية إن لم تكن مسترقة لمبادئ أراستس، وكانت من الناحية الدينية ومن ناحية الطقوس قريبة من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تنقصها الحماسة البروتستانتية لتطهير هذه الدنيا، ولكنها أبقت مع ذلك تحت رقابتها المرنة - والتشبيه بالمرونة هنا دقيق إلى حد كبير؛ لأن العقل الأنجليكاني يمكن أن يمط - جيشا جرارا من العصاة المتحفزين الذين قد يلجئون إلى روما، أو إلى جنيف، أو مباشرة إلى السماء، وقد كان هؤلاء العصاة المتحفزون يتحولون إلى عصاة فعليين في أوقات مختلفة. غير أن الكنيسة عاشت مع ذلك، وهو أمر يحير أصحاب العقول المنطقية، ويسيء إلى دعاة الكمال الخلقي، ويسر أولئك المعجبين بالإنجليز اللاعقليين.
إن التاريخ المذهبي لكنيسة إنجلترا من قانون السيادة الذي صدر عام 1534م حينما انفصل هنري عن روما، حتى قانون التسوية الذي أصدرته إليزابث في عام 1559م، مثال فريد للجماهير البشرية التي تمر بسلسلة من أصول دينية يعارض بعضها بعضا بقوة متعادلة. وليست هذه الظاهرة فذة أو مستحدثة في تاريخ العرب؛ حيث كان الناس في عصور التحول الاجتماعي والفكري يهيئون عقولهم، إذا لم يفتحوها تماما. وتعد التغيرات التي طرأت على تكوين الحزب الشيوعي الرسمي في عام 1938م مثالا تقليديا كلنا يعهده؛ فقد كان العضو المخلص في عام 1940م لا بد أن يؤمن بفضل هتلر، وكان لا بد أن يؤمن بشره في عام 1941م، وهكذا في كثير من التحولات التي تحير الألباب. ولكن الحزب كان مكونا من الصفوة، من جماعة صغيرة نسبيا حتى في روسيا. وقد تعرض رواد الكنيسة كلهم لهذه التقلبات في إنجلترا في القرن السادس عشر. وكان لا بد لنفس الرعية الوادعة العادية، رعية الملك، أن تقبل أولا حلول هنري الثامن محل البابا، واستعمال الإنجليزية بدلا من اللاتينية في صلوات الكنيسة، وتغيرات قليلة أخرى، أوضحها إمكان زواج القسس. وقد ضرب المثل بالزواج الأسقف كرانمر، ذراع الملك اليمنى في هذه الأمور الخطيرة، وهو قسيس درس في الخارج، وعرف الإصلاح الجرماني معرفة أصيلة. ثم عرف الشعب المخلص بعد ذلك أن هنري حكم بأن كرانمر قد تجاوز حدوده. إن عدو لوثر، المدافع عن الدين، كان لا يريد أن يرى هذا الدين وهو ينهدم. إنه أراد أن يكون شعبه كاثوليكيا تحت هنري، لا تحب البابا. ولذلك فقد دفع هنري بشخصه في عام 1539م إلى البرلمان المواد الست التي عرفت ب «السوط الدامي ذي الفروع الستة». وطبقا للمادة الثالثة «لا يجوز للقسس الزواج، بعد أن يتولوا مناصبهم الدينية بحكم الشريعة كما كان يجوز لهم من قبل». وعاد الاعتراف الشفوي، وتأكد مذهب القربان المقدس.
ولم يكن ذلك سوى بداية. ولما مات هنري خلفه ابنه الصغير إدوارد السادس. وقد نشأ الطفل على الطريقة البروتستانتية، وتوجهت الرعية الطيبة تحت حكمه القصير إلى كنيسة تؤدي فيها الصلاة على الطريقة البروتستانتية الكاملة. وفي عام 1551م أسهم في اثنتين وأربعين مادة وضعها كرانمر ذاته، وحاول أن يوفق فيها بين الأطراف المتباعدة، ولكنه نبذ الكثير من المبادئ الكاثوليكية. وأباح للقسيس مرة أخرى أن يتزوج. ولكن إدوارد مات بغير خلف في عام 1553م، فجاءت بعده أخته الكبرى ماري التي نشأت نشأة كاثوليكية. وبعد ماري التي عرفت ب «ماري الدامية» في الكتب الدراسية المتأخرة، عادت الأمة الإنجليزية كلها - شكلا على الأقل - إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وحكم على كرانمر بالإحراق، واستشهد في سبيل قضية لا تقل كثيرا في وضوحها عما يستحق الاستشهاد عادة. وارتدت الرعية الطيبة إلى عباداتها وصلواتها القديمة (وتعرف باسم باترنستر وآف ماريا). غير أن ماري توفيت في عام 1558م بعد جلوسها على العرش بخمس سنوات فقط، وخلفتها أختها الصغرى إليزابث، التي كتبت لها حياة طويلة لم تكتب لأخيها وأختها، واحتلت مكانة بعيدة في قلوب الإنجليز البروتستانت.
وكانت إليزابث بروتستانتية، وفي عهدها تم الاعتراف مرة أخرى بالكنيسة الوطنية، وصدر قانون للسادة جديد يضع التاج مكان البابا، كما صدر قانون تسوية يدعو إلى توحيد العبادة في جميع أنحاء المملكة. ووضعت مجموعة أخرى من المواد التي تتعلق بالدين والمبادئ، وهي المواد التسع والثلاثون التي لا تزال ميثاق الكنيسة الإنجليزية. وارتدت الرعية المخلصة إلى الصلاة بالإنجليزية، وإلى أصول دينية تستبعد الأسرار المقدسة ولا تبقي إلا على القديسين الرسوليين أو القريبين من الإنجليز؛ أي إن الرعية أصبحت في الواقع أنجليكانية. وقد رأى أبناء هذا الجيل كرومويل يربط خيله في الكنيسة. نعم ربما رأوا ذلك بيد أن الأزمة مع روما - على الأقل - قد انتهى عهدها.
إن الرعية المخلصة - ما لم تتحرر من المسئولية إلى حد البلاهة - يستحيل عليها أن تصدق الأمور المتناقضة التي تعترف بها، إن هي أطاعت أوامر الدين في تلك السنوات الخمس والعشرين المتقلبة. وهنا حالة تقليدية لمشكلة ستواجهنا إلى النهاية عندما نحاول أن نقدر أهمية الأفكار في العلاقات الاجتماعية إذا كان الفرد المؤمن من الرعية يأخذ مأخذ الجد المطلق كل الأفكار التي يتحتم عليه قبولها لطار صوبه، وربما آثر بطبعه اتجاها على اتجاه، وإنما كانت تنقصه الطاقة أو الشجاعة لأن يقوم بأي عمل؛ ولذا فإنه يعتقد ما يصادفه. وإذا كان الكثيرون من الناس يسلكون هذا السلوك، فمن المهم بالنسبة إلينا أن نفهم هذا السلوك. ربما كان لا يأبه بأية فكرة من هذه الأفكار، وربما توجه إلى الكنيسة كما يتوجه الناس إلى دار السينما، لمجرد أن يقوم بعمل ما. ومن الطبيعي أنه لم يكترث إن كان إدوارد أو ماري أو إليزابث صاحب التوجيه. وإذا كانت هناك كثرة من هذا القبيل فمن المهم أن نعرف ذلك. وربما لم يقف أكثر الناس هذا الموقف البسيط، وإنما لاءموا سلوكهم بطرق خفية معقدة لا نستطيع أن ندرك كنهها. غير أن أمرا واحدا يتضح من هذه السنوات الخمس والعشرين من التاريخ الإنجليزي وحده: إن الكتل البشرية تستطيع أن تكيف نفسها للتغيرات التي تطرأ على الأفكار المجردة، والفلسفات، وأصول الدين، ولما بين هذه الأفكار من صراع، وهي تفعل ذلك بطرق ليس بوسع المثالي المخلص صاحب الرأي الثابت أن يعللها، اللهم إلا إذا تخلى عن كونه مثاليا بالنسبة لإخوانه في الإنسانية.
أمست الكنيسة اللوثرية هي الكنيسة الوطنية الثابتة في أكثر بقاع شمالي ألمانيا وسكنديناوة. وقد بدت للغريب - وبخاصة في بروسيا - مثالا تقليديا للأخذ بمبدأ أراستس في تطرف شديد، يديرها حكام الدولة عن طريق رجال الدين الخاضعين، وتبث ذلك الإحساس الجرماني القوي بالاستمساك بالطاعة - وهي حقيقة أبعد ما تكون عن وصفها بأسطورة خلقتها دعاية الحلفاء في الحربين العالميتين. ولم تأخذ الكنيسة اللوثرية بالتقشف الكالفني بأكثر مما فعل الأنجليكان؛ فقد كانت دائما تشجع الموسيقى. كما احتفظت بطقوس موقرة وبقدر كاف من الأصول الدينية الكاثوليكية يسمح ببقاء القربان المقدس معجزة، وليس مجرد ذكرى عاطفية معقولة للعشاء الأخير، وقد كان لوثر نفسه كالصخرة الجامدة في هذا الشأن، وكان يحب دائما أن يكون كالصخرة الجامدة. لقد قال المسيح: «هذا جسدي.» وليس الجسد مجرد رمز، ووجد نفسه مضطرا إلى أن ينبذ مبدأ الكاثوليكية الذي يقول بتحول النبيذ والخبز إلى دم المسيح ولحمه، ما دام هذا المبدأ يحتل مكانة بارزة في العقيدة الكاثوليكية. ونادى بمبدأ آخر من اختراعه هو الوجود الفعلي لدم المسيح ولحمه في العشاء الأخير. ودافع عن هذا الرأي بما نسميه الجدل المدرسي. إنه يضع لفظة جديدة مقطعها الأول معناه «الوجود العقلي» لتحل محل اللفظة القديمة التي يدل مقطعها الأول على «التحول». ومن العسير علينا أن نتابع تفكيره. ويكفي الرجل العادي الذي لا يريد أن يتعمق أن يدرك أن العناصر هي الخبز والنبيذ «مع» دم المسيح وجسده، «وكلاهما» طبيعي ومعجز، كلاهما «بالفعل» لا «في الظاهر» فحسب. والمذهب من بعض النواحي نموذج لمذهب التوفيق، وهو جهد فارغ للجمع بين المتناقضات، وبالرغم من ذلك فكم من رجل مات في سبيل «الوجود العقلي» ضد «التحول». كما مات من قبل قوم يؤمنون بأن الثالوث من مادة واحدة معارضين في ذلك القائلين بأن الأب والابن من مادة واحدة. وكما مات قوم في سبيل الديمقراطية ضد الدولة الشمولية.
والكالفنية هي مركز البروتستانتية. ولا يزال أسلوب الحياة الذي كان نتيجة لتأثير الكالفنية في هذه الدنيا عنصرا بارزا في ثقافة الغرب. وليس هناك لسوء الحظ طريق سهل واضح المعالم يؤدي إلى فهم الكالفنية. كان لها مؤسس، وكان لها كتاب عظيم هو «معاهد الديانة المسيحية» الذي نشره كالفن في عام 1535م. ولكن مجرد قراءة هذا الكتاب يبصرك بالكالفنية بأقل مما يبصرك مجرد قراءة كتاب «رأس المال» بالماركسية. وقد نمت الكالفنية من الكتاب ومن جماعة تخضع لحكم رجال الدين في جنيف حتى أصبحت ديانة عالمية، وذلك بجهد آلاف الرجال والنساء في مئات المجتمعات. ومهما اجتهد مؤرخ الفكر فإنه يجد أنه لا يستطيع أن يحيط بحركة ارتبطت في كثير من النواحي بتاريخ الغرب منذ القرن السادس عشر.
وهناك مباينة واضحة بين لوثر الجرماني، سهل الإثارة، الرجل المتناقض، الذي لم ينشأ على تربية نظامية، وبين الفن الفرنسي، البارد، المنطقي، المنظم. وتستطيع أن تتوسع في شرح هذا التباين في كتاب، كما تستطيع ذلك بالنسبة إلى البارثنون في أثينا والكاتدرائية في شارتر. وإنما يجب عليك ألا تغفل عن أن كالفن أيضا كان ثائرا، رجلا «يريد أن تتغير الأمور»؛ لأن كالفن أيضا كان يرى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كانت تسيء التصرف في الناس، ولم تعش وفقا لما أراد الله عندما أرسل يسوع إلى الأرض. كما كان كالفن كذلك يرى ضرورة البحث عن طريق يؤدي إلى المسيحية الصادقة.
وقد وجد هذا الطريق - كما وجده الكثيرون غيره - فيما قام به القديس أوغسطين من أعمال؛ ذلك الطود الشامخ للأرثوذكسية. وليس هناك جدوى من محاولة تطبيق أية طريقة من طرق التحليل النفساني على كالفن، أو أن نبدأ - على الأقل - بعلم الاجتماع. وربما كان من الحق أن الكالفنية كما انتهت إليه كانت نظاما من المعتقدات - الكونية والدينية والخلقية - يلائم كل الملاءمة الطبقة الوسطى الرأسمالية التجارية والصناعية. غير أن كالفن لم يتوفر على وضع هذا النظام لطبقة وسطى كما توفر ماركس بطريقة ما على وضع نظام لمن أسماهم البروليتاريا. وإنما وجه كالفن جهوده لكي يقدم للناس مرة أخرى كلمة الله الحق.
وكان إله كالفن يتصف بالصفات التقليدية للإله الأوحد - كان قادرا على كل شيء، عليما بكل شيء، كله خير. غير أنه اتصف بكل هذه الصفات إلى درجة الكمال، إلى درجة غير إنسانية، حتى إن المرء لا يستطيع أن يتصور أنه يتسامح فيما يطلق عليه الناس صلفا وغرورا الإرادة الحرة. إن الله لا يقع خارج الزمان والمكان، ولكنه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يجري خلالهما، وهو على علم سابق مطلق كامل بكل ما خلق. وليس للمرء أي اختيار فيما يفعل. وقد قدر الله كل شيء من قبل. وهو الذي دبر، أو أراد - إذا صح أن نستعمل هذه الألفاظ الإنسانية المحدودة في محاولة وصف أعمال «كائن» يسمو عنا كثيرا نحن الديدان - سقوط آدم وما ترتب عليه. وقد يبدو تدبير سقوط آدم أمرا لا يتفق وصفة الخير الكامل. ولكني أقول مرة أخرى إن من الادعاء الباطل أن نستخدم ألفاظنا الدودية في الحكم على أعمال الله. إن الله لا يمكن أن يفعل إلا الخير فيما يرى؛ لذلك فإن خطيئة آدم لا بد أن تكون - عند الله - خيرا.
ومنذ خطيئة آدم لحقت بالناس اللعنة وكتب عليهم عذاب جهنم. وليس من شك في أن هذه اللعنة نوع من العقوبة للإنسان على ادعاء الإنسان الذي يتمثل في عصيان آدم أولا. وتذكرون أنه عصى أمر ربه الذي وجهه إليه صريحا بألا يأكل من ثمرة شجرة المعرفة. ومن الحق أن آدم لم يستطع أن يتحكم في نفسه، ما دام الله قد كتب عليه من قبل الغرور وهو الذي حرك أسنان آدم وهو يقرض التفاحة، وربما بدا أن الله في هذا لم يكن عادلا ولو إلى درجة بسيطة. ولكني أقول مرة أخرى: إننا - من وجهة نظر كالفن - نقحم في تعسف شديد في التفسير رأينا في العدالة المبني على العقل البشري الضيق. إن الله «فوق» المنطق. والواقع أن الله هو الذي خلق المنطق كما خلق التفاحة.
ثم أرسل الله يسوع إلى الأرض لكي يأتي للقلة من السعداء بالخلاص عن طريق الاختيار. وأقول مرة أخرى إننا حينما نقول إن الله قد لان وقرر أن يعطي بعض بني آدم فرصة الخلاص إنما نتأثر إلى حد كبير بصفات البشر - أو الديدان. إنما كتب الله النعمة وما يترتب عليها من خلاص لقلة صغيرة من الناس بدافع من كمال ألوهيته وعن طريق يسوع. ولا يعلم إلا الله وحده من تكون هذه القلة، وليس من المستبعد أن يكون أكثرهم - أو كلهم - من الكالفنيين، وهم «الصفوة المختارة».
إن قدرية كالفن أقوى أثرا وأشد صرامة من قدرية القديس أوغسطين. وقد رأينا أن أسقف هيبو قد حاول كثيرا أن يعطي الناس حرية الإرادة، ويحتفظ لله بالقدر. والظاهر أن كالفن لم يحس الحاجة إلى مثل هذا التنازل. ومع ذلك فإن المنطق لا يلين: إذا لم تكن لي أفكار أو رغبات خاصة، سوى ما كتب الله لي، فأنا إذن معذور عندما آخذ بالأفكار والرغبات كما ترد في حياتي. ومن المؤكد أن تلك الحالة من التوتر الخلقي التي أشير إليها ب «مقاومة الإغراء» ليست واقعية. إن مقاومتي لما أريد أن أفعل مقاومة لله. فإن كنت أريد الفاحشة، فإن الله هو الذي أراد لي ذلك. وإذا كان لي خلاص، فإنما يرجع كله إلى نعمة الله. وليس لذلك الوهم الذي أسميه الضمير شأن بمسير الأمور، وإذن فمن حقي أن أرتكب الآثام بقلب مطمئن.
ولا أحسب القارئ بحاجة إلى التذكير بأن كالفن لم يقف هذا الموقف. والكالفني في بعض المواضع يراوغ المنطق، ويقيم الضمير المسيحي الخلقي على أشده. ومن العدالة لكالفن أن نقول إن هذه النقطة هي بعينها أساسا النقطة التي يفر عندها كل كبار المفكرين المسيحيين من الانعدام الخلقي الذي يرجع إلى القدرية الكاملة، إن قولك: «إنني أعلم أن كل ما يمكن أن أفعله إنما أفعله لأن الله يريد ذلك.» هو في الواقع زعم منك بأنك تدرك ما يريد الله، وإنك مساو لله، ولست مجرد آلة عاجزة. إن الثقة بالخلاص هي أكبر آثام الكبرياء، وهي النقيض المباشر للتواضع الذي هو من أسس المسيحية المتينة. لقد كان المسيحيون العظماء يتصفون بهذا التواضع - بل لقد كان كالفن نفسه يتصف به. ولكنهم لم يكونوا متواضعين بالمعنى الشعبي للتواضع، وهو المعنى الذي يسوي بين التواضع والضعف، وهو ميل إلى الخضوع. كما كانوا في كثير من الأحيان ذوي عزم وسلطان.
وإذن فليس بوسعي أن أكون على ثقة بأن ما أريد فعله هو ما يريد فعله رجل اختاره الله ليكون من الصفوة، «وربما كان» ما أريد أن أفعله هو ما يريد أن يفعله رجل اختاره الله ليكون من الملعونين. وأرجو أن يلاحظ القارئ أنني حريص جد الحرص في لغتي، وربما قال أتباع كالفن المتأخرون المهملون إنه ليس بوسعي أن أثق بأن ما أريد أن أفعله هو ما يريدني الله أن أفعل - غير أن ذلك يعني أنني أستطيع أن أقاوم إرادة الله، وفي ذلك نقض للقدرية. ولمزيد من الإيضاح أقول: إني لا أستطيع أن «أقاوم» إرادة الله، ولكني لا أستطيع قط - حتى إن كنت من الصفوة - أن «أعرف كل المعرفة» إرادة الله. والواقع أنني لو اعتقدت بأني أعرف إرادة الله فإنما يدل ذلك على أني ممن لحقتهم لعنة الله. ولكن قل من الكالفنيين المتواضعين من كان لا يتناقض هنا. والكالفنية - «على المستوى العام»، بين العامة من أتباعها - لم تولد التواضع بصورة قاطعة.
إن الشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز في «دعاء القديس ويلي» يجري على لسان الكالفني الأكبر ما يلي:
يا إلهي، يا من تسكن في السماء،
يا من أرادت مشيئتك
أن ترسل إلى النعيم واحدا،
وأن ترسل إلى الجحيم عشرات.
من أجل مجدك يا إلهي،
وليس من أجل خير أو شر
يؤدي الناس أعمالهم.
وبيرنز يعرض المبدأ في سخرية الفنان، ولكنه - برغم ذلك - مبدأ كالفني طيب. وبعد بضع فقرات من القصيدة نرى القديس ويلي يقتحم ذلك الكبرياء الروحاني - الذي لم يلمسه الخارجون وحدهم - عند الكالفنيين في مدى ثلاثة قرون، فيقول:
أنا هنا، مثال مختار،
أظهر للناس أن نعمتك عظيمة واسعة،
أنا هنا عمود في محرابك،
قوي كالصخر،
رائد، وورع، ومثال،
تقتدي بي رعيتك.
لقد أصبح الطريق إلى أخلاق الكالفنية الآن واضحا، وهي الأخلاق التي أطلقت عليها الأجيال القليلة الأخيرة من المثقفين في أمريكا البيوريتانية متوهمين أنهم منها براء. إنني لا أستطيع - طبقا لما يقول به البيوريتان - أن أعرف إرادة الله، ولكنه قدم إلي بعض الإشارات التي تدل على الطريق الذي يسلكه الفرد من صفوة الناس. وهذه الإشارات هي في كلماته أساسا كما جاءت في الإنجيل. ومهما يكن من أمر فإن الكالفني - وقد نبذ الكنيسة الكاثوليكية التاريخية - لم ينبذ كلية تقليدا مسيحيا أعم من ذلك، وهو الإيمان بالسلطان، وذلك بالإضافة إلى أن الشيوخ، وهم أصحاب السلطان في المجتمعات الكالفنية كانوا طبقا للعقيدة الكالفنية على درجة من الإلهام المؤكد بإرادة الله لم تكن لعامة الناس.
وقد أوضح الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية - بتعزيز من رجال الدين وشيوخ الكنيسة - للبيوريتان إيضاحا لا يترك مجالا للشك أن البيوريتاني لو أراد فعلا أن يرتكب الفاحشة فإن الله هو الذي يثير فيه الشهوة، ولكن عن طريق الشيطان، لا عن الله مباشرة بغير وسيط (وهذه اللغة ليست كالفنية، ولكنها واضحة). وهذه الشهوة هي من النوع الذي ينتاب أحد أولئك الذين لحقتهم لعنة الله. وهي من النوع الذي يسبب للبيوريتاني اهتماما بالغا بمستقبل حياته - إذ ربما لا يظفر بالخلاص. وهي من النوع الذي يجدر به كبته كلية إن أراد الخلاص فعلا. وإن قدر له الخلاص فعلا ملك القدرة على كبت شهوته. إن الله الذي يستجيب للدعاء أو على الأقل لدعاء الكالفني - برغم قضائه الذي لا يرد - يعين من يستعين به في درء الخطيئة.
إننا نعود إلى التقوى المسيحية، وإلى الأخلاق المسيحية، بأقوى تياراتها؛ فالكالفنية كأسلوب من أساليب العيش شكل من أشكال المسيحية المثالية، أو المسيحية التي تنتمي إلى العالم الآخر، وكثيرا ما عاب عليها ناقدوها استبعادها بعض الناس، وهو ليس من المسيحية في شيء ، كما عابوا عليها أن الصفوة لا تتجاوز أقلية صغرى. ومع ذلك فالكالفنية في الواقع تمثل محاولة لأن تمد إلى الحياة في هذه الدنيا شيئا من المثل التي يئست الكنيسة الكاثوليكية التاريخية من زمان بعيد من مده إلى ما يجاوز رجال الدين في الأديرة وفي الحياة العامة. وكم من كالفني كان يتصف بالتأكيد بالكبرياء الروحاني، ولكنهم لم يكونوا بذلك كالفنيين أفضل من غيرهم. إن الكالفني لا يقبل أن يرتكب الآثم إثمه طواعية إذا استطاع ذلك. وذلك بالرغم من أن المنطق الصارم يقول بأن الله قد أراد قطعا للآثم أن يأثم. وحيثما كان الكالفنيون في الحكم كانوا يراقبون السلوك الذي يعدونه آثما، ويحرمونه، ويمنعونه، ويوقعون عليه العقوبات.
ومن الواضح في أذهانهم أنهم كانوا في هذا وكلاء الله، يقومون بما يفرضه الله عليهم، ومن الناحية العملية كان هؤلاء القوم - الذين يعتقدون اعتقادا جازما في عجز الجهد البشري عن إحداث «أي تغيير» - من بين أولئك العاملين بحماسة شديدة في سبيل حث الناس على تغيير سلوكهم. وقد نجحوا في ذلك إلى درجة مذهلة. وعاونوا على قيام الثورة الصناعية وعلى خلق العالم الحديث.
إن الاتجاه المسيحي الذي أكده الكالفنيون في جلاء ووضوح هو الزهد، ومن اليسير أن يخطئ المرء فهم الزهد الكالفني أو أن يستخف به. إن الكالفني ليس بالمتصوف الذي يسعى إلى سحق الإدراك الحسي وإلى اعتزال هذه الدنيا، وإنما هو يسعى إلى أن يختار من بين شهواته الدنيوية تلك التي تقربه من الخلاص، وإلى أن يكبت أو يحد من تلك التي لا تقربه. كان الكالفني يعد الدنيا مكانا جديا جدا في الواقع، الضحك فيه خروج على النظام، ويعتقد الكالفني أن هذه الدنيا بالنسبة لأكثرنا ليست إلا مدخلا للجحيم والعذاب الأبدي. فإن أنت أحسست ذلك فعلا فمن المحتمل ألا تبتهج كثيرا. ويرى الكالفني أن أكثر المسرات التي يألفها الجنس البشري - الموسيقى الخفيفة، والرقص، والميسر، وفاخر الثياب، والشراب، وارتياد الملاعب وغيرها - هي ذلك النشاط الذي يحبه الشيطان، ولا أقول لا يحبه الله؛ لأن الله لا يقوم بأداء الأفعال البشرية فيحب أو لا يحب، ولكنه نشاط يحط من قدر تلك الجلالة الرهيبة على صورة من الصور.
ولم ير الكالفني - كما يرى بعض المسيحيين - أن الاتصال الجنسي إثم. وإنما كان شديد الإيمان بأنه إثم إذا انهمك المرء فيه خارج نطاق الزواج بزوجة واحدة، ذلك الزواج الذي يرتبط به شرعا وتباركه الكنيسة. وإنك لتجد فيما كتب الكالفنيون الرأي الذي يقول بأن الهدف الذي يرمي إليه الإله من الاتصال الجنسي هو الاحتفاظ بالجنس البشري، وليس المتعة الحسية التي يشعر بها الطرفان. وإنما يشتد خطر هذه المتعة لأنها قد تؤدي إلى التمادي فيها خارج نطاق الزواج، وهو إثم من الآثام الكبرى. وإنما ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن البيوريتان، الذين كونوا أسرا ضخمة، وبخاصة في إنجلترا الجديدة، قد فعلوا ذلك بدافع من إحساس بالواجب أليم. إن البيوريتاني لم يكن في الأغلب يتمسك بقتل شهوات الجسد بشكل قوي من أشكال تقاليد التزهد القديمة؛ فقد كان يحب أن يأكل طعاما جيدا، وأن ينام نوما عميقا، وأن يعيش في بيت مريح. والواقع أن من بين المآخذ التي أخذها بعض المثقفين الأحرار المحدثين على البيوريتان من آبائنا أنهم أهملوا الفنون الجميلة، والمتعة البدنية النبيلة، في سبيل النجاح التجاري المادي، وأسباب الراحة الدنيوية المبتذلة - أي إنهم كانوا بإيجاز أسلاف جورج بابت.
والكالفنية كذلك تضرب بشدة على نعمة مسيحية أخرى، وهي الفضيلة الخلقية؛ فقد كان الكالفني يتمسك بقانون أخلاقي سام، يتغالى إلى حد التطرف في بعض اتجاهاته بدافع جديته في التفكير، ولكنه قانون لا يزال في أساسه يسير وفقا لتقاليد جميع الديانات الكبرى. وبالرغم من - أو بسبب - إيمانه بالقدرية، كان يحاول دائما أن يعيش طبقا لقانونه، كما يهمه أن يفعل كذلك غيره من الناس، وللاتجاهات الباطنية والظاهرية لهذا الجهد أهمية قصوى.
ومن المؤكد أن الكالفني كان يحس «الحرب الأهلية في صدره»، يحس النضال بين ما عرف فيما بعد بالضمير البيوريتاني وأسباب الإغراء في هذه الدنيا. وهذه الفكرة التي ترى وجود جانب أسمى من الوعي البشري يمكنه - بل يجب عليه - أن يراقب وأن يكبح جماح دوافع الجانب الأسفل، قد تركت أثرا قويا في الغرب، وهو أثر كانت تشتد قوته خاصة حيثما كانت الكالفنية هي النغمة السائدة. والظاهر أن روسو وفرويد لما يستطيعا أن يهزا بجد هذه الفكرة عن الدور الذي يلعبه الضمير - حتى في نفسيهما.
وهذه الفضيلة الخلقية - في اتجاهاتها الظاهرية - قد اتخذت أشكالا عدة غير الحرمان الصريح المفروض بالقوة، وهو الحرمان الذي يبرزه نقاد البيوريتانية للحكم عليها. إن طريقة التحريم الصريح للرقص والتمثيل وما إلى ذلك موجودة قطعا، وقد لجأ إليها الكالفنيون الأوائل بصورة طبيعية لأنهم - كما ذكرنا من قبل - لم يشغلوا أنفسهم، كما يشغل الديمقراطيون أنفسهم، بحرية الفرد. غير أن الكالفني كان يعتقد كذلك بالإغراء. فجعل الموعظة جانبا أساسيا من عباداته. إنه لم يؤكد الهجوم على المذهب العقلي كما فعلت المسيحية من قبل، بل إن تأثير الكالفنية في نهاية الأمر كان دفع ما نسميه المذهب العقلي إلى الأمام، ولكن الكالفني في هذه السنوات الأولى لم يكن بكل تأكيد من العقليين؛ فهو يؤمن بنار الجحيم، وبالفوائد الخلقية للخوف من نار الجحيم، وهو يؤمن بالتحول العاطفي، وهو مبشر طيب، وإن لم يكن في أسمى قدراته بين الشعوب البدائية.
إن البيوريتانية - وهي لفظة ألفنا نحن الأمريكيين أن نستخدمها استخداما مائعا لا يرضى عنه علماء اللغة لتدل في إيجاز على أسلوب الحياة الكالفنية - مجموعة من مجموعات الآراء التي لا يمكن في الواقع أن تحلل بالدقة الكيموية. إننا لا نستطيع أن نعرف البيوريتانية بالمعنى العلمي ل «التعريف»، وقد حاولنا في شغف شديد أن نشير إلى بعض عناصر أسلوب الحياة البيوريتاني في القرنين الأولين من تاريخ البيوريتانية ولكنا لا نعدو مس الموضوع سطحيا، وحتى في هذه الحالة نجد مشكلة شاقة كبرى لا نستطيع إهمالها، وهي مشكلة الأوجه السياسية في الكالفنية ونتائجها.
أشرنا في فصل سابق إلى أن من أنواع التوتر في المسيحية ذلك التوتر القائم بين إحساسها بأهمية الفرد باعتباره روحا خالدة، وحاجتها إلى التغلب على شخصية الفرد (أقصد أنانيته وشعوره بأهمية شخصه) إما بالخضوع لله وإما بالذوبان في المجتمع، أو بهما معا، وإنا لنلمس شيئا من هذا التوتر في الديمقراطية الحديثة باعتبارها أسلوبا من أساليب العيش، أو باعتبارها مثلا من المثل، وهو توتر نعبر عنه عادة بالتوتر بين الحرية والمساواة. كلما زادت حرية الفرد، زادت المنافسة، وزاد أصحاب الربح العظيم وأصحاب الخسارة، وكلما زادت المساواة، ازداد الأمن، وزاد الحد من المضاربة، وقلت حرية الفرد.
وهذا التوتر قائم في الكالفنية في صورة معقدة بشكل خاص وذلك أن كالفن كان - كلوثر - مضطرا إلى الاعتراف بقدر من الفردية لمجرد تمرده على الكنيسة القائمة. كان عليه أن يمحو سلطة الكنيسة الكاثوليكية في أذهان تابعيه. ولكي يحقق ذلك كان عليه أن يحثهم على الاستقلال في الفكر. وقد عاون هو وأتباعه - كما أشار إلى ذلك وبروتر ولتش وتوني وغيرهم - على تشجيع الفردية المتنافسة عند رجال الأعمال. إن نضال البيوريتاني مع ضميره كان نضال الفرد الواعي وعيا كاملا باكتفائه الذاتي، أو بعدم اكتفائه - وحتى شعور الكالفني بصغار الإنسان إزاء الإله الرهيب كان تعزيزا لأهمية الفرد هنا في هذه الحياة، ولم يكن في ذلك أدنى تناقض - لأن الإنسان لا يمكن أن يبلغ الوعي بالله إلا كفرد، لا كواحد في مجموعة. وأخيرا كان على الكالفنية خلال سنواتها الأولى أن تناضل ضد السلطة القائمة لمجرد حقها في البقاء كديانة فعالة، وهي لم تبلغ في فرنسا وإنجلترا وألمانيا في سنواتها الأولى ذلك النفوذ الذي بلغته في وقت مبكر في جنيف وبوسطن، وذلك الأمن الذي حققته في القرون المتأخرة حيثما كتب لها البقاء. وكان يتحتم عليها أن تتحدى السلطة - ولقد كان كالفن نفسه صاحب السلطان في جنيف متحررا أحيانا وهو يزجي النصح لأتباعه في كل مكان.
فإن أنت ضممت هذا كله بعضه إلى بعض ربما آمنت بأن كالفن سبق ما صوره الدارونيون الاجتماعيون في القرن التاسع عشر على أنه الوضع الصحيح للإنسان، والمضاربة الكاملة الحرة للجميع في جميع مناحي الحياة، بحيث يتخلف الشيطان بحق في الصفوف. غير أن هذه النظرة خاطئة. ولا عليك إلا أن تغوص في الكالفنية العملية في جنيف في القرن السادس عشر أو في بوسطن في القرن السابع عشر لكي تلمس مجتمعا إسبرطيا من بعض الوجوه في نظامه وجماعيته. كانت تحكم هذه المجتمعات من أعلى أقلية من الفضلاء. ولم تكن هذه المجتمعات «ديمقراطيات» بمعنى الكلمة عندنا. لم تكن جماعات تمتد فيها الجماعية إلى السلع الاقتصادية، وإن يكن وجود الفقراء في كلتا الجماعتين من المسئوليات العامة - على الأقل لأن أخلاق الفقراء كانت بحاجة إلى رعاية. بل لقد كانت هذه الجماعات بمعنى ما ذات أوضاع اجتماعية خاصة، كما يعرف كل من درس التاريخ الاجتماعي القديم لإنجلترا الجديدة؛ فهناك - على سبيل المثال - قوائم قديمة لأسماء الطلبة في هارفارد مرتبة وفقا لنوع من أنواع الوضع الاجتماعي، أو المرتبة الاجتماعية - مما لا نستطيع أن نفهمه فهما واضحا. إننا نعلم أنها ليست مرتبة ترتيبا أبجديا، أو وفقا للتفوق في الدراسة، أو حتى طبقا لدخل آبائهم.
غير أن الكالفنية في الميزان تميل نحو الديمقراطية، وربما كان النفوذ القاطع هنا هو لشكل نظام الحكم في الكنيسة، وسواء أكان شعبيا أم برسبتيريا فلقد كان على أية حال نظاما يسمح لكل أعضاء الكنيسة من ذوي المكانة الاجتماعية الطيبة أن يشترك في الاجتماعات التي تتولى شئون الأبرشية، متحررة من سلطان الأساقفة أو أي سلطان آخر، علمانيا كان أو دينيا. وقد كانت ممارسة هذا النوع من الحكم في القرنين السادس عشر والسابع عشر في إنجلترا الجديدة أقرب إلى أن تكون ضربا واضحا من ضروب أوليجاركية «القديسين» منه إلى أن يكون ديمقراطية أساسها المساواة. غير أن التجربة الكالفنية - برغم ذلك - وقد طرقت في سنوات مقاومة إنشاء الكنائس، كانت لونا من ألوان التدريب الذي ربما انتقل إلى الحكومة الديمقراطية، وأمد هذه الحكومة - في إنجلترا الجديدة على الأقل - بنوع من أنواع أدوات الحكم. بل ربما كانت عادة رجوع الكالفني إلى الإنجيل باعتباره كلمة الله المكتوبة هي التي أعدت الناس للرجوع إلى دستور مكتوب. غير أن هذا حكم من الأحكام العامة التي يشق على المرء التثبت من صحتها.
إن الجناح الأيسر من الحركة البروتستانتية يتألف من عدد كبير من الطوائف المناضلة. وربما وصفناها باليسارية نظرا لأنه لم يكن لإحداها من النفوذ ما يجعلها جماعة مستقرة ينطبق كيانها على كيان دولة عظمى. وحتى «الصحابة» وهي الطائفة التي تعد من كثير من الوجوه أكثر الطوائف نجاحا، والتي كانت قطعا من أكثرها إثارة للاهتمام - حتى هذه الطائفة بقيت دائما قليلة العدد. ويرى الكاتب الذي يريد أن يصنف الطوائف أنها لم تشترك مع غيرها إلا في القليل نسبيا اللهم إلا معارضتها للكنيسة القائمة معارضة مشتتة عامة، وضآلة عضويتها، وكثرة تنوعها. وتعد إنجلترا في القرن السابع عشر من خير الأماكن التي يستطيع الأمريكي أن يدرسها فيه، لانعدام المشكلات اللغوية - وهي المشكلات التي تلابس اللاتينية أو الجرمانية؛ لأنا نعلم أن الرسائل التي لا تحصى التي تتعلق بالنزاع الديني في القرن السابع عشر لم تكتب بلغتنا في العصر الحاضر.
ولو أردنا أن نقدم قائمة كاملة بالطوائف لطال بنا الحديث؛ فقد كان هناك «الحفارون» - وهم شيوعيون إنجيليون بسطاء اعتادوا الحفر في بعض الساحات العامة، التي تشبه الحدائق العامة عندنا تقريبا - بحجة أن الله قد أعطى الأرض للجميع. وهناك رجال «الملكية الخامسة» أو «المؤمنون بعصر ذهبي بعد ألف عام» الذين كانوا يعتقدون بأن الملكية الرابعة من الوحي الإنجيلي كانت تقترب من نهايتها، وأنه قد كتب لهم الدخول في الملكية الخامسة أو الملكية الأخيرة. وكانوا ينقسمون إلى جماعة سلبية تعتقد أن الله هو الذي يتعهد بالعمل الذي يجعل نبوءته صادقة في الوقت الملائم، وجماعة إيجابية رأت ضرورة الخروج والعمل على تحقيق النبوءة بالعنف إن اقتضت ذلك الضرورة. وكانت هناك طائفة «التسوية» واسمها يشرح مذهبها، غير أن هذه الطائفة كانت سياسية أكثر منها دينية. وكان هناك أتباع ليودوفيك مجلتون، ذلك الحائط الملهم، وما زالت هذه الطائفة موجودة باسم «المجلتونيان»، وهو اسم يشق علينا أن نأخذه مأخذ الجد الصارم. وكان هناك البهمنيون، والبديليان، والكوبينيون، والسالمونيون، والحفارون، والتراسكيت، والتيرون، والفيلادلفيون، والكريستادلفيان، والصور المتعددة من المؤمنين بعودة المسيح والمؤمنين بتعميد البالغين وحدهم بالتغطيس، وسيادة أسماء الأعلام - أعني أسماء القادة أو الأنبياء في هذه الطوائف - يشير إلى أنهم يمثلون تشقق البروتستانتية في النهاية بحثا عن نوع من أنواع السلطة النهائية.
وينتمي كثير من الطوائف بشكل واضح إلى ما كان يسمى «حافة الجنون» أو هو يتجاوز هذه الحافة. ودراستها تشوق كثيرا رجل الاجتماع وعالم النفس، الذي يجد منذ ثلاثمائة عام مضت أعراضا لولا الدراسة لظنها من سمات العصر الحديث، ولما فهمها - لذلك - فهما صحيحا . إن مجرد وجودها يعد من علامات الانقلابات الاجتماعية الخطيرة. إن هؤلاء المتطرفين يواجهون المؤرخ - الذي يحاول أن يعالج الأمور الإنسانية معالجة موضوعية دون استياء أو حماسة - بمشكلة خطيرة؛ لأنهم يتصفون بالاستياء الشديد والحماسة الحارة. إنهم لا يتصفون بالاعتدال، يثيرون الشغب حتى يبلغ عنان السماء، ويمقتون الصفات التي يحاول المؤرخ الموضوعي أن ينميها في نفسه. إنه يتخيل أنه يستطيع أن يرى في جلاء ووضوح كيف أن التاريخ كان يسير سيرا أكثر إرضاء للنفوس، وأكثر قبولا، وأشد إنسانية، لولا هؤلاء المثيرون للقلاقل، والذين يطلبون المستحيل. إنه يستطيع أن يرى الجانب الذي لا يسر فيهم - استعدادهم للاضطهاد (إذا هم ظفروا بمكانة يستطيعون منها أن يضطهدوا الآخرين)، وتسلطهم (إذا هم ظفروا بمكانة ذات نفوذ) وتوهمهم العظمة والشموخ، وتركيزهم أفكارهم في ذواتهم، وعجزهم عن تقدير الوفرة المتنوعة من أساليب الحياة الطيبة التي يستطيع الناس أن يحيوها.
وبهذه الطريقة الميسورة من إلقاء اللوم على هؤلاء المتطرفين تفوت الرجل المعتدل عظمتهم، ويعجز عن إدراك نفعهم للمجتمع. وما أضعف الاستعارات الواضحة؛ فهؤلاء المثيرون للزوابع ليسوا في الواقع خميرة، أو كالذبابة التي تلدغ الخيل فتحثها على المسير، وليسوا طليعة المجتمع. إنهم أحيانا كما تصورهم هذه الاستعارات، ولكنهم ليسوا كذلك في أكثر الأحيان. إنهم يذكروننا جميعا - وإن كنا لا نلقي لهم بالا في أكثر الأحيان. إن الإنسان لا يستغني في كرامة عن حافز المثل الأعلى، وهو لا يستطيع أن يخلد إلى الراحة في أمان - حتى إن كانت راحة الموضوعية. كان مونتيني لا يقدر المتطرفين إلا قدرا يسيرا شأنه في ذلك شأن أي إنسان؛ فكان بوسعه أن يقول عن مبالغات الثائرين: «إنني لا أرى عملا واحدا، أو ثلاثة أعمال، أو مائة. وإنما أرى حالة من حالات الفناء التي يقبلها الناس عامة، وهي حالة غير طبيعية، وبخاصة من حيث عدم الإنسانية والخيانة، وهما عندي أسوأ الآثام، حتى إني لا أملك أن أفكر فيهم بغير فزع. وهم يثيرون في من العجب بمقدار ما في نفسي من كراهية. إن عمل هؤلاء الأشرار المتجمعين فيه من علامات قوة الروح وشدتها بمقدار ما فيه من زلل وخلل.»
ويبدو أن بعض هذه الطوائف الجامحة كان من المؤمنين إيمانا مجردا بعصر ذهبي يسود لألف عام - أي إنهم كانوا يعدون بالنعيم على الأرض، ولكن بغير لمسات محسوسة، أو بصورة محسوسة في غير موضعها تدل على رمزية ثورية مستمدة في الأغلب من العهد القديم ومن السفر الأخير من العهد الجديد. غير أن الكثيرين منهم، والكثيرين من المعتدلين في حماستهم، كانوا كما سبق أن اتفقنا على تسميتهم اشتراكيين في غير تحديد. وهم يمثلون تلك الفئة التي تظهر في تاريخ الفكر الاشتراكي. اهتمامهم الأكبر بحل مشكلة الفقر - لا أغنياء، ولا فقراء، وإنما رجال طيبون يشتركون في ثروة هذا العالم كما أرادت لهم الطبيعة وكما أراد الله لهم. وكثيرون يصرون على أنهم إنما يعودون إلى الكنيسة الأولى، التي قالوا إنها كانت شيوعية. وهم جميعا يستخدمون لغة الدين، حتى حينما يعالجون شئونا اقتصادية. إنهم في الواقع لا يختلفون كثيرا عن أسلافهم المتأخرين في العصور الوسطى. إنهم يعادون الكالفنية التقليدية - وإن كانوا يشتركون في بعض المثل الدينية والخلقية الكالفنية - وذلك لما اتضح من أن الكالفنية لا تعتقد في اقتسام الثروة.
وليس من العجيب أن نجد أن بعض هذه الفئات الجماعية هي أيضا فردية في أساسها، بل لقد تصل أحيانا إلى درجة الفوضى. وقد بينت من قبل أن الكائنات البشرية تستطيع فيما يظهر أن تعيش سعيدة وسط متناقضات منطقية متعددة. وللاشتراكيين في العصر الحديث دائما جناح فوضوي. ومهما يكن من أمر فإن من الأحكام العامة الصحيحة التي تربط هؤلاء البروتستانت المتطرفين الأولين ميلهم إلى ما كان يسمى في ذلك الحين «التحلل من قواعد الدين الخلقية». فكان الفرد الذي يعتقد في هذا التحلل يسير في الاتجاه البروتستانتي الأساسي إلى حد التطرف الشديد، وهو التبرير بالإيمان ردا على القول بالتبرير بالعمل؛ فكان يرى أن القانون، والعادة، وأي أمر، إنما هو في الواقع «عمل»، ومن ثم يجب إهماله اللهم إلا إذا دله صوته الباطني على أن ما نص عنه صحيح - وهو لم يكن كذلك عادة في تلك الأيام المضطربة الأولى. الصوت الباطني هو كل ما يهم المرء. وبعض «المتحللين من قواعد الدين الخلقية» اتبعوا في الواقع من الناحية العملية المنطق الذي تعقبناه من قبل وقلنا إنه ينبثق عن قدرية مطلقة. وقد احتجوا بأنه إذا كان الصوت الباطني يقول لهم إنهم من الخالصين، فإن من الواضح إذن أن كل ما يفعلونه من تقدير الله، ولا يعوق خلاصهم. وقد اتهم الثوار - الذين ظفروا في وستفاليا في الأربعينيات من القرن السادس عشر بفترات قصيرة من النفوذ - من جانب خصومهم بكل أنواع الفسق والفجور. وبالرغم من أن المحافظين يتهمون المجددين دائما بالأخلاق الشخصية المنحلة - والجنسية خاصة - التي تصدم الشعور، إلا أنه مما لا شك فيه أن بعض «المتحللين من قواعد الدين الخلقية» قد تابعوا منطقهم في السلوك الذي يعد عادة فوق التبرير المنطقي.
وكما أشرت من قبل عند ذكر تكاثر صنوف الهرطقة في القرنين الثاني والثالث من المسيحية، إلى أن هذا التكاثر هو من بعض الوجوه علامة من علامات قوة الشباب، فكذلك كان تكاثر الطوائف البروتستانتية دليلا على قوة شبابها، دليلا على أن الناس يأخذون مأخذ الجد الصارم المثمر الأمل في حياة أفضل في هذه الدنيا، على الأقل كإعداد واجب وضروري لحياة كاملة في العالم الآخر. وقد كانت هذه الطوائف - وهي في الواقع هرطقات بروتستانتية، بالرغم من أن هذا التعبير قد يسيء إلى البروتستانتية التقليدية في العصر الحاضر - تشتمل على طاقة عارمة، حتى عندما كان هدفها يبدو كأنه النعيم الباطل .
واستقرت البروتستانتية بحلول عام 1700م. روض عصيانها النجاح، وحتى الكالفنيون تم لهم الاستقرار أو ظفروا بالتسامح في كل مكان تقريبا. ولم تتجمد البروتستانتية حتما أو تكتف بذاتها، بل إنها لا تزال تتصف بحماسة التبشير، وبخاصة فيما تقوم به من عمل وراء البحار، وهي لا تزال تضم إليها كثيرا من المسيحيين المتحمسين، إلا أنها قد توقفت عن النضال ضد الكاثوليكية عدوها القديم، كما أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها قد استجمعت منذ منتصف القرن السادس عشر مصادر كبرى من القوى الروحية، وأصلحت من مفاسد دنيويتها ولامبالاتها، ومن الفساد الذي دب في كثير من المواضع في الكنيسة في أواخر العصور الوسطى. كما أنها نسجت غزل الكاثوليكية نسيجا قويا في «مجلس ترنت» دون أن تحور تحويرا أساسيا في قواعدها الدينية أو في طقوسها وشعائرها وأعادت الكنيسة بعد بعثها غزو ألمانيا وشرقي أوروبا بقوة الروح لا بقوة السلاح. وبات من الواضح بعد حرب الثلاثين عاما أن البروتستانتية لا يحتمل أن تكتسح بلادا أخرى في أوروبا. ولم تعد البروتستانتية في أساسها وفي أشكالها التاريخية عقيدة مكافحة. بل إن الطوائف نفسها التي انشقت بعد عام 1700م - ك «أصحاب التقوى» في ألمانيا و«النظاميين» في إنجلترا وأمريكا - كانت في صميمها ما يمكن أن نسميه بغير تجن بالطوائف «المواسية»، وهي جماعات تهدف إلى أن يكون الفرد سعيدا (بالطريقة المسيحية بطبيعة الحال) أكثر مما تهدف إلى غزو هذا العالم والعالم الآخر. وقد اتصف أصحاب التقوى والنظاميون بالعاطفة القوية، واتصف قادتها بالشجاعة النادرة والإخلاص. ولكنك لا تجد عند هذه الطوائف المثالية العاصفة والعنف الموجه الذي تلمسه في البروتستانتية الأولى. إن البحث عن الكمال في هذه الدنيا كان يتجه وجهة أخرى، كان يتجه إلى ما أمسى يعرف ب «التنوير».
الفصل العاشر
صنع العالم الحديث: المذهب العقلي
إننا نواجه مرة أخرى لفظة ضخمة، هي: التعقل. وكأغلب أمثالها من الألفاظ يمكن تعريفها بطرق متعددة. وسوف نعرفها هنا تعريفا عاما جدا كمجموعة من الأفكار تعزز الاعتقاد بأن الكون يسير بالطريقة التي يعمل بها العقل البشري عندما يفكر تفكيرا منطقيا وموضوعيا، ومن ثم فإن الإنسان يستطيع في النهاية أن يفهم كل ما يقع في خبرته كما يفهم - مثلا - مسألة حسابية أو ميكانيكية. ويأمل العقلي أن تهديه في نهاية الأمر القدرات العقلية عينها التي بينت له كيف يصنع ويستخدم ويصون أية آلة منزلية إلى كل شيء يتعلق بأي أمر من الأمور.
وليس ما سبق إلا توضيحا غير رسمي للمذهب العقلي. ولكن توضيح الأمر ينبغي أن يظهر لنا مدى انصراف العقلي الكامل عن العقيدة المسيحية، حتى عن بعض أشكال العقيدة المسيحية المدرسية التي تؤكد قدرة العقل البشري على فهم تدبير الله للكون فهما جزئيا على الأقل. إن هناك بطبيعة الحال كل صنوف التوفيق بين المذهب العقلي والمسيحية، وسوف نلتقي ببعضها في «عصر التنوير». غير أن دفعة المذهب العقلي تتجه بعيدا عن المسيحية. إن العقلي يميل إلى القول بأن المعقول هو الطبيعي، وأنه «ليس هناك ما هو فوق الطبيعي». وهو لا يعترف على الأكثر إلا بالمجهول، الذي لا بد أن يتحول يوما ما إلى المعلوم. وليس في نظامه مكان للإله الشخصي، وليس هناك مجال في عقله للاستسلام الصوفي للإيمان. إن ما يمقته الإنسان بشدة كثيرا ما يدل على معالم فكره. وما يمقته العقلي مقتا شديدا هو «الاعتقاد في المستحيل».
وإذن فالمذهب العقلي يميل إلى أن يبعد الله وما ليس بالطبيعي من الكون. ولا يبقي المذهب إلا على الطبيعي، الذي يعتقد معتنقوه أن من الممكن فهمه في النهاية، وذلك في أغلب الأحيان عن طريق ما يعرفه أكثرنا بطرق البحث العلمي. إن نمو المعرفة العلمية - من الناحية التاريخية - واطراد استخدام الطرق العلمية بمهارة، يرتبط ارتباطا وثيقا باتساع النظرة العلمية إلى العالم، وبصورة الكون في عين العقلي؛ ذلك لأن أكثر العقليين لهم في الواقع نظرة عالمية شاملة، وهي طريقة من طرق الحياة ترتبط باعتقادهم في العقل. وكثير من العلماء المشتغلين بالعلم كانوا ممن يعتنقون المذهب العقلي. وكل عالم يعتقد أننا لا نملك معرفة صحيحة سوى المعرفة التي نصل إليها باستخدام الطريقة العلمية هو - من الناحية المنطقية - إما من العقليين وإما من المتشككين، غير أن العلم والمذهب العقلي - وهذه ناحية هامة جدا - وإن كانا مرتبطين تاريخيا، إلا أنهما ليسا قطعا شيئا واحدا.
فالعلم - سواء بمعنى مجموعة من المعارف العلمية المتراكمة أو بمعنى طريقة من طرق معالجة المشكلات (أي الطريقة العلمية) - لا يعبأ بالميتافيزيقا. وهو - كعلم - لا يمدنا بنظام كوني أو بنظرية من نظريات المعرفة. والعلم كعلم لا يحاول أن يجيب عن المسائل الكبرى التي تتعلق بمصير الإنسان، وتصرف الله في الإنسان، أو الحق والباطل، أو الخير والشر، بل هو لا يسأل هذه الأسئلة. وبعض العلماء كأفراد يكادون ألا يوجهوا سؤالا واحدا فيما يتعلق ب «المشكلات الكبرى». ويكادون أن يسيروا في حياتهم اليومية بدافع العادة أو السلطان، كما يفعل أكثرنا في أكثر الأحيان. ومعنى ذلك أن بعض العلماء ربما لا تشغلهم الميتافيزيقا، أو تقلقهم - فهم في ذلك كأكثر أبناء الجنس البشري (وهذه نقطة لا يعرف عنها إلا القليل حتى السيكولوجيون المحترفون - ومؤلف هذا الكتاب يعتقد أن قليلا جدا في الواقع من الكائنات البشرية من يتحرر تحررا كاملا من القلق الميتافيزيقي، أو على الأقل من الاهتمام بالميتافيزيقا). ومهما يكن من أمر فإن العالم عندما يسأل ويحاول أن يجيب عن أية مشكلة من «المشكلات الكبرى» يكف عن سلوكه كما يسلك العالم. وهو على أقل تقدير إنما يقوم ب «عمل إضافي»، وربما كان يقوم بعمل «مختلف».
وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب أن بعض المفكرين المحدثين ينبذون الفكرة التي تقول بأن العلم لا يقوم البتة مباشرة على أساس القيم. وهي فكرة تتحدى التقاليد الغربية الطويلة التي ترى أن الإنسان لا بد أن يستخدم عقله لكي يفسر كل خبراته، وكل عالمه. ومع ذلك فإن التقليد الثابت في مجال العلم هو أن العالم ك «عالم» لا يصدر أي حكم على القيم. والأعماق الفلسفية لهذا الموضوع سحيقة جدا في الواقع، وليس بوسعنا هنا إلا أن نسجل النظرة الثابتة، وأن نذكر أن هناك منحرفين؛ منحرفين ليس بينهم في الانحراف اتفاق اللهم إلا في معارضتهم للنظرة الثابتة المعتمدة. وإذا كان هناك موضوع مشترك بين أولئك الذين يعارضون المذهب الأرثوذكسي في العلوم الذي يرى أن العلم لا شأن له بالقيم، فهو إيمانهم بأن الذكاء البشري يستطيع أن يحل مشكلات الأخلاق، والجمال، بل وأصول الدين، حلا فعالا ناجحا، كما يحل مشكلات العلوم الطبيعية. والظاهر أن الدلائل لا تؤيد اليوم رأيهم، غير أن المشكلة لا تزال قائمة، والحكم الأخير فيها لم يصدر بعد. وربما لا يصدر فيها حكم.
والعقلي - من ناحية أخرى - عنده عادة مجموعة كاملة من الحلول ل «المشكلات الكبرى»، أو هو على الأقل على ثقة من أن الزمن والمثابرة من جانب المفكرين الذين يفكرون تفكيرا صحيحا لا بد أن يتمخضا عن أجوبة، ولا بد أن تكون هذه الأجوبة «صحيحة». إن المذهب العقلي - كما نما في القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب - هو في الواقع نظام ميتافيزيقي كامل، بل إنه - فوق ذلك - كان لأقلية من الناس - ولا يزال - بديلا عن الدين، وربما كان من الأفضل أن نطلق على المذهب العقلي - باعتباره نظاما شبه ديني - صفات معينة، كالمادية، والوضعية، وما إليهما، مما يشير بصورة أدق إلى المركب الكامل من العقائد والعادات والنظام الذي يتصل بهما. والموازنة الآتية تعطينا صورة تقريبية: المذهب العقلي هو الاصطلاح العام، كالبروتستانتية؛ والمادية والوضعية، والإلحاد - نعم والإلحاد - بل ومذهب التوحيد، أو حتى الاعتقاد في الله مع إنكار الوحي، هي بمثابة الطوائف، كالطائفة التي تنكر وجوب تعميد الأطفال، أو طائفة «الصحابة».
العلوم الطبيعية
ولما حل عام 1700م بلغت أكثر العلوم التي نسميها العلوم الطبيعية - والتي كانت تعرف في ذلك الحين باستثناء الرياضيات ب «الفلسفة الطبيعية» - مرحلة جعلت تركيب نيوتن الضخم أمرا ممكنا. وفي القرنين السابقين بلغت أكثر النظم العلمية المتفرقة، وبخاصة الطبيعة، وعلم الفلك، وعلم وظائف الأعضاء، درجة النضج كعلوم، وإن لم تصبح بطبيعة الحال علوما نهائية. وعاد إلى الدنيا مرة أخرى ما كان بالإسكندرية الهلينستية منذ ألفي عام: مجموعة من الباحثين والمعلمين، والمعامل، والمجموعات، ووسائل تبادل المعلومات والأفكار - كان هناك بإيجاز بيئة اجتماعية وعقلية تلائم تقدم العلوم. ولم يكن الجيل الأول من الإنسانيين بأكثر فائدة للعلوم الطبيعية من أسلافهم المدرسيين في العصور الوسطى. ولكن باقتراب القرن السادس عشر من نهايته ازدهر علماء مثل جاليليو وسط فناني النهضة. وليس القرن السابع عشر قرن العبقريات فحسب، القرن الذي ظهر فيه رجال من أمثال نيوتن وهارفي وديكارت وباسكال، وإنما هو أيضا قرن تأسيس الجمعيات العلمية الكبرى، كالجمعية الملكية البريطانية (1660م). وأكاديمية العلوم الفرنسية (1666م)، هو القرن الذي بلغ فيه العلم كنشاط اجتماعي سن الرشد، عندما ضاعف من تقدمه مئات من العاملين في جد، الذين تضمهم الجمعيات، ونشر الكتب، ونظام عجيب من نظم المراسلة الخاصة.
ولم يصبح العلم بعد - في عام 1700م - أكثر المهن العقلية احتراما؛ فهو لم يصل بعد إلى المكانة والثروة والقيمة الاجتماعية التي بلغها في القرن العشرين. ولم تفسح التربية الكلاسيكية والتربية الحرة في المجال للعلوم الطبيعية إلا بمقدار تلك العناية التي كانت العصور الوسطى تعطيها لمجموعة العلوم التي كانت تشمل الرياضة وتطبيقاتها المعروفة في الموسيقى والميكانيكا. ولم يكن للعلم التجريبي، وللعلم في المعامل، تقدير كاف في التربية العادية. غير أن المعرفة العلمية في تلك الأزمنة القديمة تسربت إلى عقول جمهور المتعلمين. وكان العلم إحدى الوسائل التي عاونت على نقل الأفكار العقلية في جميع أرجاء العالم الغربي.
ولا نستطيع أن نجيب في بساطة إجابة نهائية عن هذا السؤال: لماذا ازدهرت دراسة العلوم الطبيعية في هذه النقطة المعينة من الزمان والمكان؟ هناك بالتأكيد عوامل متعددة أدت إلى ذلك، كما حدث في مشكلة مشابهة، وهي مشكلة البروتستانتية. لماذا انشق الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر على الكنيسة الكاثوليكية في الغرب بطريقة لم تسبقها بها أية حركة انشقاق أخرى؟ من العوامل الكبرى، وهو عامل يفهمه جيلنا فهما جيدا مما لا يدعونا هنا إلى تأكيده، العامل الاقتصادي، وذلك هو نمو اقتصاد نقدي معقد يديره أصحاب أعمال رأسماليون (أو أصحاب مشروعات). ومن الواضح أن رجال الأعمال هؤلاء كانوا مشغوفين بالتجديد، يريدون تعضيد العلم بالمال، العلم الذي لا يعوقه ما يلابس كثيرا من الأعمال العلمية من سوء المعاملة أو انحطاط التقدير، العلم الذي لا تقيده أهواء التربية الكلاسيكية. إننا نلمس هذا كله، وربما يرجع ذلك إلى أن أكثر هذه العوامل كانت تؤثر بصورة أوضح بكثير منذ نهاية القرن الثامن عشر مما كانت عليه في تلك السنوات الأولى. وقد أشرت من قبل إلى أن رجال العلم تعلموا من أصحاب الحرف ومن التكنولوجيين، بخلاف ما نلمسه اليوم من إفادة التكنولوجيين من رجال العلم، كما أن أبرز رجال العلم كانوا من السادة، بل من النبلاء أحيانا، وقلما كانوا من رجال الأعمال. وقد كان العلم منذ بدايته عالميا حقا، ولم يتقيد بحدود دينية. وإذا كانت إسبانيا لم تخرج إلا قلة من العلماء، في حين أخرجت إنجلترا وفرنسا الكثيرين منهم، فهذا أيضا مما لا نستطيع أن نعلله ببساطة. ويجب كذلك أن نذكر أن الثروة والتنظيم الاقتصادي الحديث المتزايد يرتبط بازدهار العلوم. وليست هذه العلاقة هي كل قصة العلم، ولكنها جانب واضح منها.
وليس هناك سبب مقنع كل الإقناع نرد إليه العلاقة بين نهض العلوم الطبيعية والبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها. ولكنا نستطيع أن نخدع أنفسنا بشيء من البساطة فنقول إن كل انقلاب ثقافي تقريبا في تلك القرون كان له أثره في نمو العلوم؛ لأن العلم - بالرغم من أنه قد يصل إلى أكثر العلوم تجريدا - يعتمد على المحسوسات، والوقائع، وعلى وفرة العدد في الأشياء المادية المختلفة. ومن ثم فإن كل مضاعفة في الوقائع التي يستند إليها له أهميته القصوى بالنسبة إلى أي علم من العلوم الطبيعية. إن المكتشفات الجغرافية في بداية العصر الحديث - التي شجعتها هي ذاتها البحوث العلمية في الفلك، وفنون الملاحة والجغرافيا - قدمت للأوروبيين ألوف الوقائع، وألوف التحديات للعقل المتطلع إلى المعرفة. كما أن اكتشاف البارود في العصور الوسطى بدأ في هذه القرون يستخدم في أغراض عملية حربية، فحث استخدامه على بذل الجهد لمقاومة تأثيره. وأدى ذلك بالتالي إلى بذل الجهود لاختراع مفرقعات أشد منه قوة. وأحب أن أكرر القول بأن هذا من التكنولوجيا والاختراع، وليس من العلم. غير أن هذه المضاعفة في «الأشياء»، وهذا الاهتمام بها، وهذه المحاولة لزيادة الحصول على أشياء معقدة، كل هذا في حد ذاته، ومن حيث تأثيره في عقول الناس، شروط لا غنى عنها من شروط نمو العلوم.
والحرب مثال طيب لذلك. وهناك نظريات - ويقترن أشهرها برجل الاقتصاد الألماني ورنر سمبارت - تقول بأن نمو الحروب القومية على نطاق واسع في تلك القرون هو السبب الجذري في كل شيء آخر نعده حديثا، ما دامت حاجة الدولة إلى المال لكي تدفع رواتب جيش محترف كانت تحث الجهود التي تجعل بناء الدولة أكثر كفاية، وما دامت الحاجة إلى الأشياء المادية التي تستعمل في القتال تحث على التغير الاقتصادي، وما دامت الحاجة إلى أسلحة أشد فتكا في الهجوم والدفاع تحث على التكنولوجيا والاختراع. ومن الطبيعي أن تسيء أشد الإساءة إلى الديمقراطيين والأحرار المخلصين هذه النظرية التي تقول بأن الحرب المنظمة هي مبعث الحضارة الحديثة؛ فشرع هؤلاء الديمقراطيون والأحرار في تأليف الكتب التي تثبت أن الحرب لا شأن لها بظهور الثقافة الحديثة. والواقع أن الطرفين هراء من نوع الجدل الذي يثور حول الكتكوت والبيضة، أيهما سبق الآخر. إنما تضافرت الحروب مع المكتشفات الجغرافية، والمخترعات، والوسائل الفنية في الأعمال، وألوان الترف الحديثة، والمكتشفات، وعوامل أخرى عديدة، كل منها يؤثر في الآخر، وكلها مجتمعة تهيئ الجو المادي للعلم الحديث.
والجو السيكولوجي معقد أيضا تعقيد هذا الجو المادي، وهو بالطبع يتأثر أشد التأثر بهذه المضاعفة في «الأشياء»؛ فهناك دائما المتطلعون إلى المعرفة، وهناك الكثيرون الذين يحبون أن يتصيدوا التجارب الجديدة. وكان هناك رجال عرفوا بالصبر والتنظيم في تصنف التفصيلات، وكثيرون اتصفوا بدرجة من درجات غرائز الجمع، فكانوا يكدسون المواد. والواقع أن الباحث المدرسي في العصور الوسطى كانت لديه من قبل هذه الصفات بدرجة عالية. وأما ما كان مطلوبا لخلق حالة عقلية تلائم تنمية العلوم الطبيعية، فهو أولا الرغبة في تحويل هذه المواهب العقلية، مواهب الصبر، والبحث الدقيق، وجمع الحقائق، من العالم الموقر - عالم البحث الفلسفي والأدبي إلى العالم غير الموقر - عالم الروائح، والأوزان، والمقاييس، والبرودة، والحرارة، وما إلى ذلك مما نألفه اليوم جميعا، وثانيا الرغبة في التخلي عن قدر كبير من الاحترام الشديد لسلطان الكتاب السابقين، وبخاصة أرسطو - كما كانت الحال في العصور الوسطى - والأخذ بعادة مراجعة حتى أدق تفاسير الظواهر الطبيعية، وإخضاعها لاختبارات التجربة والتحقيق.
فكان من الضروري إذن أن تصبح دراسة العلوم الطبيعية محترمة بإمدادها بفلسفة، ليس من الضروري أن تكون ميتافيزيقية، ولكنها على الأقل طريقة وغاية، وقد تم ذلك خلال هذه القرون، وبخاصة على يدي فرانسيس بيكون، الذي سوف نعود إليه بعد حين، ولكنا يجب ألا يضللنا ما يراه فيه العالم الساذج من جدة وتفرد؛ فإن التحول من الباحث، بل من المدرسي، إلى العالم لم يكن في الواقع ثورة معجزة تخلق شيئا من لا شيء؛ فلقد أخذ العالم الحديث عن أسلافه الباحثين هؤلاء الذين ينظر إليهم اليوم بعين الازدراء كل تلك العادات العلمية الوئيدة في التفكير والعمل، وهي العادات اللازمة للعلوم الطبيعية - الصبر، والدقة، وتراكم الرياضيات والمنطق التي حصل عليها الإنسان بمشقة، والجماعة العظمى من الرجال والسيدات الذين يكرسون حياتهم لتربية العقل.
وقبل أن نأتي إلى محاولة بيكون لجعل العلم محترما من الناحية الفلسفية، يجب أن ننظر في عامل ممكن آخر من عوامل نهوض العلم، وهو عامل ربما طرأ على عقل القارئ من قبل. أليست «الحرية» أحد العوامل الأساسية لنهضة العلوم؟ ألم يكن من الضروري للعالم أن يظفر بتحرره من كل صنوف القيود والمحرمات التي عرفتها العصور الوسطى، كما فعل البروتستانتي والإنساني؟ وماذا ترون في جاليليو؟
لنذكر مرة أخرى أن العلاقة بين ازدهار العلوم الطبيعية ودرجة الحرية الفردية أو حرية الجماعة من القيود الشرعية والخلقية في مجتمع من المجتمعات ليست واضحة أو بسيطة بأية حال من الأحوال. قد نرتاح إلى الاعتقاد بوجود ارتباط مباشر: كلما زادت الحرية (الحرية كما نفهمها نحن الأمريكيين) زاد تقدم العلوم؛ إذ من الواضح طبعا أن المجتمع الذي يحرم كل جديد لا يخرج عالما، ما دام العلم يتوقف على أن ينتج فرد من الأفراد شيئا جديدا. غير أن أمثال هذه المجتمعات المستبدة لا وجود لها إلا في الخيال، على الأقل في العالم الغربي، والتاريخ الواقعي يدل على أن العلم نما في أوروبا التي تحكم في أغلب أجزائها ملوك ذوو سلطة مطلقة، وأن العلم يدين بالكثير لرعاية هؤلاء الملوك ووزرائهم. والواقع أن العلم بعدما أثبت شيئا فشيئا أنه نافع في تعزيز تسلط الإنسان على بيئته المادية اقتنعت الطبقات المالكة بقيمة العلم لها بعد ما أثبت العلم تدريجا أنه مما ينفع في تعزيز تسلط الإنسان على بيئته المادية. وكان يسر هذه الطبقات المالكة أن تهب العلماء المال والحماية. ومهما يكن من أمر فإن اكتشاف قانون الجاذبية لم يعرض مصالحهم للخطر بأية طريقة واضحة. إن الحرية للبحث العلمي ليست هي البتة نفس الحرية للتجريب الفني، أو الفلسفي، أو السياسي، أو الخلقي. وليس من شك في أن العلماء يحتاجون إلى أنواع من الحرية، ولكنهم أشد ما يكونون حاجة إلى التحرر من عبء العادة الثقيل ومن سلطان القديم «في ميادينهم الخاصة».
عندما يعلن العالم اكتشافا يقلب المعتقدات السائدة رأسا على عقب، فلا غرابة أن يلاقي مقاومة شديدة، وأن يضطر إلى الكفاح حتى يسمع صوته. والنقطة الشائقة في تاريخ المجتمع الغربي أنه يتمكن من إسماع صوته، وأن الرقابة التي تريد أن تخرسه ضعيفة لا يكاد يكون لها أثر. بل إن هذه الرقابة قد تتحول بطريقة ما من عائق إلى حافز. وحتى في حالة الاستشهاد العلمية المشهورة، حالة جاليليو، فإن الرقابة في نهاية الأمر لم تفعل أكثر من أنها حولت عمل جاليليو إلى مسرحية. وهذا العالم الإيطالي نفسه بني على عمل علماء أسبق منه، حتى رجع في الواقع إلى العصور الوسطى، ولكنه بني بصفة خاصة على أعمال ذلك الفلكي البولندي كوبرنيكس. والقضية معروفة لنا جميعا؛ ذلك أن المنظار المقرب الذي اخترعه جاليليو اختراعا جديدا مكنه من تسجيل وقائع إضافية مثل وجود توابع للمشتري، مما أوحى إليه بنموذج للنظام الشمسي، وبوجود بقع سوداء على سطح الشمس التي دلت بتناقصها الظاهر على أن الشمس تدور حول نفسها. وهذه الملاحظات وكثير غيرها دعمت نظرية كوبرنيكس (وآريستراخ كذلك كما رأينا) التي تقول بأن الأرض تدور حول نفسها في فلك حول الشمس التي تدور هي الأخرى حول نفسها. وكانت العقيدة المسيحية تلزم نفسها إلزاما كاملا بالنظرية الأخرى التي تقول بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها. وبفعل المشاعر القوية انحاز كثير من الرجال الأذكياء إلى العقيدة التي ترى أن كوكبنا - المكان الذي ضحى فيه المسيح بنفسه - لا بد أن يكون «مركز» كل شيء، والواقع أن الآراء التي كانت تعارض جاليليو كانت لفئات مؤتلفة، ولم تكن قطعا لكنيسة كاثوليكية موحدة ترفض في بساطة قبول علم الفلك. ومن الفئات القوية المعارضة جماعة الجزويت الذين أساء جاليليو إليهم بتجاهله البحوث التي سبقت الجزويت. والواقع أن العصابة التي عارضت جاليليو خليط يلفت النظر من القديم والجديد، ومن المنافسة الأكاديمية (وهي بالتأكيد ليست شيئا جديدا) بين أصحاب المصالح في هذا الصدد، ومن مجرد الغرام بالجديد، وربما أيضا من نوع من القلق الميتافيزيقي؛ لأن الأمل في اللانهائي - أو على الأقل في التعدد - لعوالم يكشف عنها المنظار المقرب، قد أصاب الكثيرين بالرعب والفزع. وأخيرا سيق جاليليو إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، وآثر الإنكار على أن يحكم عليه بأنه مذنب. ولكن ما كتبه جاليليو لا يمكن أن يلغى أو يمحى. ولم تكن في أوروبا في القرن السابع عشر أية سلطة لها من القوة ما يكفي لكبح هذه الأفكار التي أذاعها جاليليو، فتأكد انتصار نظرية مركزية الشمس.
أما الرجل الذي اقترب جدا من تنظيم ما كانت تعالجه هذه «الفلسفة الطبيعية» الجديدة في حدود عامة فهو فرانسيس بيكون الإنجليزي الذي أصبح فيما بعد اللورد فريولام. ولم يكن بيكون بالرجل الذي يحبه الناس. لم يكن طيبا أو رحيما. وكان يطمع في النفوذ والثراء. وقد تميزت حياته السياسية - التي انتهت بوظيفة حامل أختام الملك - بالانتهازية وانعدام الضمير، وأخيرا اتهم بالخيانة. وقل من العلماء المتأخرين من استطاع أن يعفو عنه باعتباره عالما سيئا، لا يحسن السلوك الذي يبشر به. ولكنه مع ذلك كان ابنا بارا للنهضة الإنسانية، وإن يكن ميلاده قد جاء بعد انقضائها، وكان غزير العلم، متنوع المواهب، نشيطا متحمسا للتقدم في كل اتجاه. بل إن المعجبين به في الأجيال التالية قد نادوا بفكرة من أعجب الأفكار في تاريخ الفكر، وتلك هي أن بيكون هو الذي كتب الأعمال التي تنسب عادة إلى شيكسبير.
صمم بيكون عملا عظيما أسماه «نوفم أرجانم» أو «الأداة الجديدة» ونفذه إلى حد كبير في عام 1620م، وهو من المؤلفات العظمى البذرية الأخيرة في ثقافتنا مما كتب باللاتينية. وكثير مما تضمنه من آراء قد ظهر من قبل في كتابه «تقدم المعرفة» الذي أخرجه بالإنجليزية في عام 1605م. ومن ضلال الرأي أن نقول إن هذا العمل الفريد قد رسم ليكون نوعا من المعارضة ضد أرسطو والرجال المدرسيين. إنما كان هذا الكتاب يطمع في أن يصنف الدراسات العلمية الجديدة ويضع لها منهجا، وهي الدراسات التي كان يأمل أن يظفر الناس عن طريقها بسيادة جديدة على بيئتهم. والكتاب مفعم بالهجمات على أرسطو وتلاميذه في العصور الوسطى، وعلى منطق الاستنباط، مفعم بالنداءات بالرجوع إلى دليل الإدراك الحسي، والرجوع إلى الوقائع، واستخدام الاستقراء. وإليكم بعض الفقرات الهامة من كتاب «الأداة الجديدة»:
إن دقة الطبيعة تفوق أضعافا مضاعفة دقة الحواس والفهم؛ ولذلك فإن كل تلك التأملات، والنظرات المموهة، وكل تلك المظاهر البراقة التي ينغمس الناس فيها، بعيدة عن الغرض. وإنما ليس هناك من يلاحظها.
إن القياس المنطقي لا يطبق على المبادئ الأولى للعلم، كما يطبق عبثا على البديهيات المتوسطة؛ لأنه لا يتكافأ مع دقة الطبيعة. إنه لذلك يتطلب الموافقة على الغرض، ولكنه لا يتملك الموضوع.
القياس المنطقي يتألف من فروض، والفروض من ألفاظ، والألفاظ من رموز لأفكار، ومن ثم فإن كانت الأفكار ذاتها مضطربة (وهي جذور الموضوع)، وإذا كانت قد تجردت من الحقائق على عجل، فإن البناء لا يمكن أن يكون ثابتا، ولذلك فإن أملنا الوحيد ينحصر في استقراء حقيقي.
إن أفكارنا - سواء في المنطق أو في الطبيعة - تتجرد من الصحة. والمادة، والنوع، والعمل، والميل، والجوهر ذاته، ليست بالأفكار السليمة. وأقل منها سلامة صفات الثقل، والخفة، والغزارة، والندرة، والرطوبة، والجفاف، والتوليد، والفساد، والجاذبية، والنفور، والعنصر، والمادة، والشكل، وما إليها. كلها وهمي، غير محدد التعريف.
وليس هناك - ولا يمكن أن يكون هناك - سوى طريقتين للبحث في الحقيقة واكتشافها: الطريقة الأولى تقفز من الحواس والتفصيلات إلى البديهيات العامة. ومن هذه المبادئ - التي تعد صدقها ثابتا لا يتزعزع - تسير نحو الحكم ونحو اكتشاف البديهيات الوسطى. وهذه الطريقة شائعة في العصر الحاضر، والطريقة الثانية تستمد البديهيات من الحواس والتفصيلات، وترتفع في صعود تدريجي لا يتعثر، حتى تبلغ أعم البديهيات آخر الأمر. وهذه هي الطريقة الصحيحة، ولكنها لم تجرب بعد.
وقد كتب مؤرخو الفلسفة والعلوم في إسهاب عن فكرة بيكون عن الاستقراء. وربما كان رأيه فيه - من وجهة نظرنا - ساذجا؛ إذ كان يعتقد أن العالم إذا لاحظ من الوقائع ما يكفي وجد أن هذه الوقائع - بطريقة ما - ترتب نفسها في نظام هو المعرفة الصحيحة. ومن المؤكد أنه في جدله ضد المدرسيين يفترض أن العملية التي نسميها التفكير لا تلعب دورا في عمل العالم. وذلك من غير شك لأنه يطابق بين منطق القياس، الذي يزدريه، والحركة العقلية المجردة. إن قراءة بيكون قراءة فاحصة تقنع الناقد العادل أنه لم يؤمن فعلا بأن العالم ليس عليه إلا أن يتصيد الوقائع ويسجلها، وإن كان لم يفهم في الواقع كما نفهم (وليس فهمنا جيدا جدا) ما يدور في عقل العالم العظيم الخلاق.
ما كان أبعده عن ذلك! إن ما ضلل نقاد بيكون هو في صميمه ما يربطه بالمدرسيين الذين حاربهم حربا مريرة، ويجيل الإنسانيين في النهضة التي ينتمي إليها. كان بيكون يبحث عن حلول ل «المشكلات الكبرى». وظن أنه وجد السبيل إلى «اليقين»، ومن ثم إلى الاتفاق، في تلك الأمور التي تجادل الناس فيها طويلا دون أن يصلوا إلى اتفاق. والعالم الحديث - كما سوف نرى - لا يهدف إلى النظريات التي تتصف بالصدق المطلق الذي لا يتغير. أما بيكون فيهدف إلى ذلك. وهو بميله الطبيعي من «الاسميين» بمعنى الكلمة في العصور الوسطى تقريبا؛ فهو يبدأ بواقع «الأشياء» التي يدركها بحواسه، بيد أنه يتلمس طريقا لكي يصل إلى صيغة من الصيغ الثابتة وسط تيار المعارف الحسية التي يقول الواقعيون في العصور الوسطى إنهم يعرفونها عفوا، بمجرد التفكير أو الاعتقاد. وإذا تبسطنا جدا في الشرح قلنا إن بيكون يريد أن يبدأ بالأفكار الاسمية وينتهي بالأفكار الواقعية.
وهو يريد أن يحقق ذلك بسلسلة طويلة صابرة من الملاحظات والتسجيلات التي تبرز فيها «المادة» تدريجا من «الأحداث» - وأنا هنا أستخدم مصطلحات مدرسية كانت تغضب بيكون نفسه - والثابت من العارض. وبالرغم من كراهية بيكون للمصطلحات الفلسفية القديمة فإنه يجد نفسه مرغما على استخدام اللفظة التي تعني «الشكل، أو الصيغة». وإليكم فقرة ذات أهمية كبرى:
لما كان «شكل» الشيء هو الشيء ذاته، والشيء لا يختلف عن الشكل إلا مثلما يختلف الظاهر عن الواقع، أو الخارج عن الداخل، أو الشيء من حيث صلته بالإنسان عن الشيء من حيث صلته بالكون، لما كان الأمر كذلك فإنه يترتب عليه بالضرورة أن الطبيعة لا يمكن أن تؤخذ على أنها الشكل الحقيقي إلا إن كان الشكل يتناقص دائما كلما تناقصت هذه الطبيعة، وكذلك يتزايد كلما تزايدت هذه الطبيعة.
وإذا حاولت أن أسترسل بعد ذلك كنت معتديا على ميادين الفيلسوف المحترف. وربما لم يعد بيكون أنه يسبق في ألفاظ مثل «الظاهر» و«الواقع» ما أسماه لوك فيما بعد ب «الثانوي» و«الأولي» - أي إن اللون، على سبيل المثال، صفة ثانوية تختلف فيها انطباعاتنا الحسية، والكتلة صفة أولية يمكن قياسها قياسا موضوعيا بالطرق العلمية. وربما كانت «أشكال» بيكون لا تعدو ما قصد به العلماء المتأخرون من «القوانين» أو «الصور المتشابهة». غير أن هذه الأشكال بالنسبة لبيكون تمكن في النهاية معرفتها، وهي في الواقع أمور مطلقة.
إن دور العلوم المتفرقة يبدأ الآن في الازدحام بالأسماء والمكتشفات حتى إن مؤرخ العلم ليحتاج إلى صفحات لا تقل في عددها عما يحتاج إليه عادة مؤرخ الحرب والسياسة. ولا يسعنا هنا إلا أن نلخص في إيجاز. لقد واصلت علوم الرياضة التقدم الذي أحرزته منذ أوج العصور الوسطى، وبلغت حدا استطاعت عنده أن تجابه المشكلات الجديدة التي عرضها علماء الفلك والطبيعة. وقد اخترع فلمنج سيمون ستيفن في أواخر القرن السادس عشر الحساب العشري، وهو وإن يكن لا يعدو أن يكون حيلة من الحيل، إلا أنه كالصفر حيلة لا غنى عنها. واخترع عالم الرياضيات الاسكتلندي جون نابير اللوغاريتمات في ذات الوقت تقريبا. وفي القرن التالي أدخل ديكارت - الذي سوف نعود إليه ثانية - تعديلا في تلك الحيلة النافعة التي نعرفها اليوم باسم الأبعاد المتساوية الديكارتية، التي عنها انبثقت تلك الرسوم البيانية التي يستطيع أن يفهمها اليوم حتى رجل الشارع. كما أن باسكال - الذي نعرفه أساسا كأديب من الأدباء - دفع الهندسة ونظرية الاحتمالات دفعة قوية هامة.
وتتابعت في الفلك أسماء شهيرة: كوبرنيكس، تيكو براه، كبلر، جاليليو - ومن هؤلاء انبثقت نظريتنا عن مركزية الشمس في نظامنا الشمسي بصورة واضحة، كما بدأت معرفة الكون العظيم خارجا عن النظام الكوكبي، وقد ذكرنا من قبل كيف أن تلخيص جاليليو وتثبيته لذلك كله أدى إلى محاكمته - وكانت هذه المحاكمة طريقة جيدة من طرق نشر آرائه. وإذا أضفنا ما قاله كبلر إلى ما قاله جاليليو وجدنا أنهما وضعا فكرة الكون الذي يسير طبقا لقوانين الرياضة، ولكنه «يتحرك» قطعا، ولا يشبه في ذلك السماوات الثابتة التي لا تتغير التي رويت عن أرسطو. وقد بين أول قانون من قوانين كبلر على سبيل المثال أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر كاملة (وإذا كانت تدور طبقا لأرسطو فلا بد أن يكون دورانها في دوائر كاملة. وما كان لأحد أن يتقدم بالملاحظات الدقيقة أو الحساب المعقد الذي يلزم لإثبات أنها لا تتحرك)، وإنما تتحرك في أشكال بيضية، الشمس فيها أحد المراكز. وقد عرف الإغريق الشكل البيضي من دراسة الصور المخروطية، غير أنهم لم يطبقوها قط على محاولة للتثبت من أي «قانون من قوانين الطبيعة».
وكان كبلر بروتستانتيا ألمانيا، مليئا بالرؤى والحماسة. والظاهر أنه أخذ علم الفلك مأخذ الجد، كما فعل كل أهل زمانه فيما خلا المغالين في التشكك أو في العقيدة المسيحية. وقد وضع مشروعا مستفيضا أسماه «عجائب الكون» وفيه يحاول أن يتبين صلات رياضية بين الكواكب والشمس، صلات تثبت تتابعا في العلاقات ثابتا مجردا محضا قام بحسابه من قديم الفيثاغوريون في اليونان القديمة - وهي الأجسام الكاملة «الأفلاطونية»: الهرم، والمكعب، ومثمن الأضلاع، والجسم ذو الاثني عشر سطحا، والجسم ذو العشرين سطحا. ولكن لما اكتشف كبلر أنه قد أخطأ في الحقائق الأولية - فقد قدر المسافة بين بعض الكواكب والشمس تقديرا خاطئا - تخلى عن نظريته. وربما لا نستطيع أن نحصل على خلاصة مركزة لأهمية الطريقة العلمية أفضل من هذه. كان كبلر يبحث عن نظرية للكون، عن مجموعة من الحقائق عن الطبيعة الحقيقية للعالم، تماما كما كان يفعل أفلاطون أو أكويناس. ولكن لما كان تدريبه تدريب العالم، فإن تصحيح الملاحظة - أو القياس - حتم عليه أن يتخلى عن طريقته ويبدأ من جديد. إن الحقائق الأولية الواقعية لا تقف في وجه الفيلسوف بهذه الصورة الواضحة.
وفي هذه القرون اكتمل علم الفيزياء، وبخاصة فرعاه: الميكانيكا والبصريات. وهنا أيضا نجد لجاليليو أهمية بالغة. وتجربته مع الأجسام الساقطة من برج بيزا المائل هي من أكثر النظريات شيوعا في تاريخ العلم. وكان أرسطو قد قال بأن الأجسام تسقط بسرعة تتناسب وأوزانها؛ فالجسم الثقيل يسقط أسرع مما يسقط الجسم الخفيف. وقد أسقط جاليليو مثل هذين الوزنين من برج بيزا المائل، ولاحظ أن مسلكهما لم يكن كما قال أرسطو. ومن هذه الملاحظات، وبتجارب ورياضيات أكثر تقدما، طور نظرياتنا الحديثة عن السرعة وعن الحركة المركبة. ويلاحظ مرة أخرى أن نظرية أرسطو هي نظرية عن شيء «كامل» - الدوائر بدلا من الأشكال البيضية، والحركة المستقيمة التي تحددها طبيعة الجسم المتحرك. أما النظرية العلمية الحديثة فهي أكثر من ذلك تعقيدا بكثير، وهي بحاجة إلى رياضة أعقد للتعبير عنها، ويجب أن تراجع دائما بالنسبة إلى الملاحظة لكي نرى إذا كانت الحركات التي تفرضها (أو تتنبأ بها) تقع فعلا.
وهناك إيطالي آخر اسمه تورشلي اخترع البارومتر، وألماني اسمه فون جريك اخترع المضخة الهوائية. وعمال كثيرون مجهولون عاونوا على اطراد التحسن في العدسات وغيرها من الآلات التي جعلت المقاييس والملاحظة الأدق أمرا ممكنا، ودرس بويل ومساعده هوك الهواء والغازات الأخرى، وبدأ العملية التي استغرقت عاما والتي انتهت باكتشاف الأوكسيجين وتأسيس الكيميا الحديثة.
وقد أشارت كل هذه البحوث إلى مبدأ عظيم ميكانيكي يكمن وراء الطبيعة، إلى مجموعة من قواعد شديدة التعقيد لا يمكن صياغتها إلا في حدود الرياضة العليا، ولكنها مع ذلك قواعد تشير إلى أن الطبيعة كلها إن هي إلا آلة. وقد ألهمت هذه النظرية بالضرورة الباحثين في الميدان الذي نسميه اليوم بالبيولوجيا، وليس الاكتشاف العظيم في الفسيولوجيا في القرن السابع عشر إلا محاولة لتأثر الآراء التقدمية التي قدمها علماء الطبيعة. وفي عام 1628م نشر هارفي تجربته التي تقول بأن قلب الإنسان هو في الواقع مضخة، وأن دم الإنسان يخرج من القلب ويسير في دورة لها نظام معين. وبين بوريلي أن ذراع الإنسان إن هي إلا رافعة، وأن العضلات تقوم «بعمل» آلي. وأخيرا استخدم المنظار المكبر والمنظار المقرب، وحققا نصرا أوليا باكتشاف الكائنات الميكروبية، وربما كان أشهر هؤلاء الميكروسكوبيين الأوائل الرجل الهولندي فان ليوينهوك، غير أن كثيرا من العاملين الأقل أهمية والذين لا نذكرهم اليوم عاونوا - كما كان يحدث دائما في نمو العلوم - في تجميع الوقائع في صبر، وفي تفسير معناها تفسيرا محدودا.
وأخيرا يظهر رجل يضم كل هذه الأعمال تحت حكم عام علمي ضخم، تحت قانون أو قاعدة موحدة - لا تزال في حدود العلوم الطبيعية - تبسط وتشرح، وتربط بين قوانين كثيرة أو قواعد عامة متفرقة في قانون عام واحد يلخص البحوث التي استغرقت ملايين الساعات من وقت الإنسان. والقانون الجديد (وما زلنا في حدود العلم) ليس قانونا نهائيا، كاملا، لا يتغير؛ فمن المؤكد أنه سوف يعدل أو يتبين - فيما نتصور - أنه خاطئ من بعض جوانبه، وذلك بعد مرور الوقت الكافي وإجراء بحوث أخرى . ولكنه لا يزال ثابتا «نسبيا»، وهو بمثابة الأرض المستوية، أو الاستراحة المؤقتة. وكاد جاليليو ينجز هذا العمل، كما أن زهاء الاثني عشر شخصية كبرى غيره مثل كبلر أسهموا إسهاما أساسيا في هذا الحكم العام العظيم، ولكن نيوتن - على كل حال - كان الرجل الذي ضم كل شيء بعضه إلى بعض وكون منه الصورة الآلية الكبرى التي أطلق عليها «آلة نيوتن العالمية». وسوف نعود إلى نيوتن في الفصل الذي سوف نعقده على القرن الذي قدسه، وهو القرن الثامن عشر.
إن أي حكم عام ضخم كهذا الذي حققه نيوتن لا بد أن يؤثر في الفكر الإنساني بعدة طرق، ولا بد أن يكون له صدى في مجالات خارج العلوم - في الفلسفة، وفي علوم الدين، وفي الأخلاق، بل وفي الفن والأدب، ولا بد أن نكرر القول بأن العلم - كعلم - لا يمدنا بنظرية كونية، ولكن ما حققه العلم، على الأقل في العالم الحديث، قد ترجم إلى ميتافيزيقيات. وقد كان العلماء في هذين القرنين مجموعة متنوعة، لها ديانات متنوعة ونظريات مختلفة. وكان بعضهم لا يستطيع أن يقاوم الإغراء بأن يرى أن الله هو الميكانيكي الأول (بل ربما لم يحسبوا أن للإغراء دخلا فيما يرون)، أو يرى أن رياضياته هي المفتاح للحياة كلها والموت كله، أو أن يتصيد في المعمل نوعا من أنواع الحقيقة المطلقة. بل إن بعضهم كروبرت بويل، ذلك الرجل التقي، باعد بين علمه وديانته ولم يمزج بينهما، وهو موقف يستطيع كثير من العلماء أن يقفه حتى اليوم وهو مطمئن سعيد.
ومهما يكن من أمر فإن مجموعة المعارف العلمية المتزايدة كانت تترجم أساسا إلى نظرة نحو العالم نسميها هنا بالتعقل. وقد أظهر العلماء في أوائل العالم الحديث كيف أن درجة عظمى من النظام تنطوي تحت ظواهر طبيعية كثيرة متنوعة، وكيف أن كثيرا من الآراء التي يراها الإنسان طبيعية بإحساسه العام - مثل شروق الشمس وغروبها - لم تكن أوصافا دقيقة لما كان يحدث فعلا. إن الظاهر والواقع يتباينان تباينا شديدا في أثر كل منهما. والحق أن أثرهما يوحي بأن نظام العالم الضخم ليس البتة كما قال أرسطو والآباء المسيحيون، وأن هذا النظام لا يمكن إدراكه بالإيمان، أو بالتعليل طبقا لكلمة منقولة، وإنما يمكن إدراكه بإعادة فحص كل شيء في الثقافة البشرية فحصا دقيقا، يقوم به الإنسان بتلك القدرة الخادعة المعروفة، قدرة العقل.
الفلسفة
يمكن أن يتصدر فرانسيس بيكون هذا الفصل؛ لأنه كان إلى الفيلسوف أقرب منه إلى العالم، وقد ذكرنا من قبل أنه كان يبحث عن الحق المطلق وعن طريقة لا تخطئ لبلوغ الحق، غير أن موقف بيكون من الفكر ، وربما كان أيضا تأثيره الأكبر في الفكر الغربي كان بصفته عدو الاستنباط وبطل الاستقراء. وبالرغم من أن كثيرا من حكمه كان ذا نفع كبير لذلك الصنف من الناس الذين نسميهم العقليين، فإن عمله كان في جملته عمل المبشر في العلوم الطبيعية. وكذلك كان في زمانه على الأقل عمل الرجل الذي يمثل تمثيلا كاملا بدرجة غير عادية التطور الفلسفي الكامل للمذهب العقلي في القرن السابع عشر، وأعني به الرجل الفرنسي رينيه ديكارت الذي ذكرنا اسمه عرضا كعالم رياضي. كان ديكارت - ككثير من الشخصيات الذين تعرضنا لهم في سنوات النهضة - متنوع المعارف. كان رجلا ذا اهتمامات علمية ودراسية متنوعة.
وبالرغم من أن ديكارت انشق على المدرسية في العصور الوسطى، وعلى الأفلاطونية الغامضة المخففة التي كانت تقريبا كل ما أنتجت النهضة وهي في أوجها في الفلسفة الرسمية، إلا أنه تحدث بلغة الفلسفة، وصاغ أفكاره - على الرغم من ثوريتها بالتأكيد إلى حد ما - في قالب يميزه أي فرد بأنه فلسفي. ولم يكن مفكرا بسيطا، شأنه في ذلك شأن كل كبار الفلاسفة، ويستطيع الشارحون حتى اليوم أن يلتمسوا عنده شيئا لم يجده أحد من قبل، وعلى الأقل يمكن أن تكتب فيه حتى اليوم رسائل للدكتوراه. ويمكن على أية حال لأغراضنا هنا أن نبسطه؛ فنحن هنا، كما نحن في أي موضع آخر، نهتم بما أفاد المتعلمون العاديون من عمل أي مفكر عظيم، ويجب أن نقر بأن ديكارت لم يتسرب إلى غير المتعلمين، إذا استثنينا بطريقة عامة غامضة اعتباره أحد أولئك الرجال الذين مهدوا لعصر التنوير. إنه يقدم للرجل العادي الذي لم يألف مشكلات الفلسفة الرسمية الشائكة ذلك الضرب من المشكلات الذي يقدمه أكثر كبار الفلاسفة. ومع ذلك فقد كتب بلغة فرنسية واضحة وإن تكن جافة. ومؤلفاته، حتى في ترجماتها يمكن أن تقرأ كما يتوقع الإنسان. وأساس أفكاره الفلسفية الهامة «حديث عن الطريقة» الذي نشره في عام 1637م.
نشأ ديكارت في عالم متعلم مليء بالطوائف والأفكار المتعارضة، عالم متعلم في طور انتقال واضح من المدرسية الشائعة إلى مركب من نوع جديد، وقد قرر في جلاء ووضوح أن معاصريه ومعلميه في حالة عقلية مضطربة فيما يتعلق بالكون، وأنه قد ولد لإنهاء هذا الاضطراب. وقد وصف بنفسه الخطوات التي مر بها في تقدمه من نبذ كل سلطان للقديم إلى اكتشافه لما ظن أنه الحق الثابت الأكيد المطلق العميق الذي يستطيع أن يبني عليه، يقول: «ورأيت ... أنه ينبغي لي أن أنبذ كل الآراء التي يمكنني أن أفترض فيها أقل مقدار من الشك باعتبار هذه الآراء باطلة بطلانا مطلقا، وذلك لكي أتأكد إذا كان يتبقى بعد ذلك أي شيء في اعتقادي مما كان لا يحوطه البتة أي شك. ومن ثم، ومن حيث إني رأيت أن حواسنا تخدعنا أحيانا، فقد كنت أميل إلى الفرض بأنه لا يوجد شيء مثل هذا فعلا مما يعرض لنا. ولما كان بعض الناس يخطئ في التفكير، ويقع في المغالطات المنطقية، حتى في أبسط موضوعات الهندسة، فقد نبذت كل تعليل اتخذته للتدليل من قبل باعتباره باطلا، وذلك لاعتقادي أني معرض كغيري للخطأ. وأخيرا لما رأيت أن نفس الأفكار (أو ما يعرض لنا من أمور) التي نمارسها في اليقظة تمكن ممارستها كذلك ونحن نيام، حينما لا تكون إحداها في هذا الوقت صادقة، فقد افترضت أن كل الأشياء (كل ما يعرض لنا) التي دخلت في عقلي من قبل في أثناء اليقظة، ليس فيها من الصدق أكثر مما في أوهام أحلامي. ولكني تبعا لذلك لاحظت في الحال - وأنا في الحالة التي رغبت فيها أن أعتقد في بطلان كل شيء - أن مما لا بد منه أن أكون أنا الذي فكر هذا التفكير شيئا ما. ولما لاحظت أن هذه الحقيقة «أنا أفكر، أنا إذن موجود» فيها من التأكيد ومن الدلالة ما يستحيل معه على المتشككين أن يهزوها بأدنى ريبة، مهما أسرفوا، لما لاحظت ذلك انتهيت إلى أني أستطيع - من غير وسوسة - أن أقبلها باعتبارها أول مبادئ الفلسفة التي كنت أبحث عنها.»
ويجب أن يتضح في الأذهان أن هذه هي لغة الفلسفة الرفيعة مهما بلغت الجرأة بديكارت في تحديه للتقاليد القديمة. وقد يسأل المتشكك الصادق، أو المتشكك الذي لا نرتاح إليه: «ولماذا لا نقول: أنا أعرق، أنا إذن موجود.» ولكن ديكارت من هذه العبارة الشهيرة: «أنا أفكر، أنا إذن موجود» استرسل في بناء نظام فلسفي سار به حتى بلغ الإله. وهو إله بعيد غير شخصي - يقول ديكارت في الفصل السادس من تأملاته: «أنا لا أعني الآن بالطبيعة شيئا آخر غير الله نفسه، أو نظام المخلوقات الذي وضعه الله.» ولا عجب إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية لم تشعر أن الفيلسوف قد تخلص من شكوكه الأولى، وأن الكنيسة قد اعتبرته منذ ذلك الحين من المنتمين إلى صفوف أعدائها.
وقد عبر ديكارت عن النظرية الأساسية للمذهب العقلي أوضح مما فعل بيكون بدرجة كبيرة. وليس العالم بذلك المكان المضطرب المهوش كما بدا في تأملاتنا الساذجة الأولى التي أوحاها الإدراك العام. وكذلك ليس العالم هو عالم التقاليد المسيحية، بما فيها من إله كامن يتدخل في مجرى الأمور، ومعجزاته التي لا يمكن التنبؤ بها، وبما فيها من عالم آخر لا معقول، وأكداس غير معقولة من وسائل العصور الوسطى. بل وليس العالم أيضا هو ذلك العالم الأفلاطوني الجديد الذي صوره في النهضة البريئة الناشئة عشاق الحياة ومن خلفهم بعد أن زالت عنهم الأوهام. إنما العالم في الواقع عدد ضخم من جزيئات مادية، تدور، وتتحد، مكونة أنماطا جذابة تبلغ من التعقيد ما يوقعنا في كل ضروب الإدراك العام الزائف، وكل الآراء الفلسفية السابقة لديكارت، ومع ذلك فإن الجزيئات تخضع في الواقع لمجموعة واحدة من القواعد، وتؤدي دورها في نغم متسق، وتعمل بانسجام كما كان يعمل عقل رينيه ديكارت الهندسي. وإذن فالمفتاح الذي يكشف لنا عن الغامض والمضطرب في خبراتنا هو علم الرياضة. وينبغي لنا أن نفكر في كل مشكلاتنا كما نفكر في المسائل الرياضية، مع الحرص في التعاريف. ويجب أن نخطو كل خطوة بعناية وتعقل، ونحن ننشد - فوق كل شيء - الوضوح وعدم التناقض، دون أن نزج أنفسنا في متاهات البحوث المدرسية ودون أن نجادل لمجرد الجدل. ولم يكن ديكارت عبدا للاستقراء كما كان بيكون، وكان يزدري الوقائع الأولية التي ندركها بالحواس ازدراء كاملا يليق برجل يؤمن بالمذهب العقلي.
كان متنوع المعارف، يهتم بكثير من الميادين؛ فكان لديه على سبيل المثال مجال ضيق في تاريخ الفسيولوجيا؛ لأنه قام ببعض الدراسات في عمل الجهاز العصبي. ولكنه هنا كالعادة فيلسوف، وليس باحثا في المعمل صابرا، كان في الواقع يبحث عن مقر الروح (وقد ظنها خاصة بالإنسان، لا تمتلكها الفقريات الأخرى). وظن أنه وجد مقر الروح في الغدة الصنوبرية، التي نعدها اليوم أثرا من آثار عضو حي كانت له أهميته في وقت ما عند أسلافنا.
وقد رأى ديكارت أن من المهم إيجاد مكان للروح في الجسد؛ لأن نظامه قد ورطه في مشكلة فنية ذات أهمية قصوى في مستقبل تاريخ الفلسفة الشكلية. وسوف نكتفي هنا بأن نلفت نظر القارئ إلى هذه المشكلة. ويستطيع القارئ أن يتابعها إلى لوك، وبركلي، وكانت في قلب القرن التاسع عشر، بل وفي القرن العشرين. وهي ليست مشكلة تحرك العالم، مهما حركت الفلاسفة. وهي في الواقع مثال طيب يبين كيف أن مؤرخ الفلسفة ومؤرخ الأفكار من حيث تأثيرهما في الجماهير يجب أن يستخدما طريقتين مختلفتين، وأن يركز كل منهما اهتمامه في موضوعات مختلفة.
وفي إيجاز إذن انطلق ديكارت من مبدئه الأول: «أنا أفكر، أنا إذن موجود» إلى سيكولوجيا ونظرية من نظريات المعرفة يتباين فيها الفكر الواضح مع عالم حسي مضطرب يخرج عن الفكر إلى درجة ما، ولكنه مع ذلك يتصل بالفكر بعض الصلة، ما لم يكن المرء في حالة من حالات الجنون المطلق. إن الروح توجه تفكيرنا - وربما قصد بذلك ديكارت أنها «تصنع» تفكيرنا - وهي تدل الجسم على ما يفعل، وربما كان ذلك عن طريق الجهاز العصبي، على صورة ما. أما الحيوانات الأخرى فقد اعتبرها ديكارت بصورة قاطعة مجرد آلات، تستجيب - بطريقة أقرب ما تكون إلى ما نسميه الفعل الشرطي المنعكس - إلى بواعث البيئة. وأما الناس فليسوا آلات بهذا المعنى. إنما يصرف الناس شئونهم عن طريق أرواحهم، وهي الأرواح التي تشارك في معقوليتها القوانين العلمية، والرياضيات، والإله.
وقد حاول كثير من الفلاسفة منذ ديكارت أن يعالجوا هذه الثنائية في الروح والجسد، أو المادة والروح، أو الفكر والحس، وهبط هذا الموضوع إلى المستويات الشعبية في القرن التالي، كما نلمس في «حياة جونسن» لبوزويل. وقد حل المشكلة الفيلسوف الإنجليزي جورج بركلي عندما قرر أن «المادة» لا وجود لها، وأن «الوجود هو ما نتصوره» وقد عبر عن ذلك بعبارة لاتينية كما فعل ديكارت في قوله «أنا أفكر، أنا إذن موجود»، وقال إن الواقع كله هو فكرة في عقل الإله. وبإدراكه العام ثار سام جونسون على هذا المرض الذي يقول: إن المادة لا توجد. وطبقا لما رواه بوزويل ركل عمودا يعترض الطريق، وصاح قائلا في حزم وثبات: «هكذا يا سيدي أعارضه.»
وإنما تظهر اتجاهات المعضلة اللامعقولة في مشكلة أخرى، لا يمكن أن تنشأ إلا في تتابع الفكر الديكارتي، وهي هذه: إن عمليات تفكيري تنبئني بكل ما أعرف، وهذه العمليات تعتمد في معلوماتها على الانطباعات الحسية التي تسجلها أطراف الأعصاب ثم تنتقل منها إلى المخ. ولكن لا أمس «فعلا» ما يقع خارج هذه الأطراف العصبية، تلك الأسلاك التلغرافية التي تأتي إلى مخي. وربما كانت كل هذه الرسائل زائفة - وربما لم يكن هناك شيء ما، وربما كنت أنا الشخص الوحيد في العالم، وكل من سواي وهم. أنا «أفكر» ف «أنا» إذن موجود - ولا يتحتم أن يكون هناك موجود آخر. وهذا موقف بالطبع يقع على الحافة الجنونية للفلسفة، ولكن المشكلة كلها التي تثيرها الثنائية الديكارتية ليس لها في الواقع حل، ويوجد اليوم فلاسفة يكادون يضمونها إلى قضية زينو المتناقضة التي أشرنا إليها عند الكلام على تفكير الإغريق في الفصل الثاني من هذا الكتاب، باعتبارها مشكلة لا تعدو أن تكون لغزا عقليا.
ولا ينبغي أن نظن أن ديكارت هو الفيلسوف العقلي الوحيد في تلك القرون، وإن يكن ربما كان خير مثال لهم؛ فلقد كان هوبز، الذي التقينا به باعتباره فيلسوف الدولة الجبارة، في كثير من النواحي، عقليا كاملا كما كان ديكارت. وكثير من المؤرخين والفلاسفة رأوا من المفيد أن يضعوا المذهب الذي أسموه التجريبي مقابل المذهب العقلي، ومثل هذا التصنيف «يقبل» في الواقع المصطلحات ووجهة النظر التي ترد في الثنائية الديكارتية. العقليون هم أولئك الذين يؤكدون ما يتصل بالعقل، أو الفكر، أو الجانب «المثالي» من قطبي الروح والجسد. أما التجريبيون فهم أولئك الذين يؤكدون الجانب المادي البدني الحسي من القطبين. والجانبان على كل حال: الفلسفة التجريبية والفلسفة العقلية على السواء، من بيكون، إلى ديكارت، إلى هوبز، إلى لوك ذاته، رأيا أن العالم ليس له معنى إلا لأنه معقول، ولأنه ينطوي على النمط الكامن الذي نلمسه في أوضح صورة في التقدم الرياضي والعلمي في هذين القرنين. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن الروح عند أحد الفلاسفة كانت تفعل نفس ما تفعله المادة عند فيلسوف آخر. وهناك بطبيعة الحال فوارق كثيرة وعظيمة في النظرات العالمية التي كان يراها رجال من أمثال هوبز ولوك، وكثير من المشكلات الفلسفية التي لا يتفقون فيها. ولكن المذهب العقلي والمذهب التجريبي في أوائل القرون الحديثة فيهما في الواقع - برغم ذلك - شيء واحد هام مشترك: ذلك أنهما يريان أن العالم له معنى - وهو معنى رياضي في صميمه.
والواقع أن المذهب العقلي بلغ بسبينوزا فيلسوف القرن السابع عشر اليهودي حدا من فراغ العقل العميق كما بلغ عند أفلاطون. وينتمي باروخ سبينوزا إلى أسرة يهودية برتغالية استقرت في هولندا، وقد كرس كل حياته للآراء الشعبية التي يعتنقها الفيلسوف الذي لا يتحيز. وقد رفض أن ينجح في عالم يقيس النجاح - كما يرى أصحاب النفوس الحساسة - بمقاييس همجية مبتذلة. وفي القرن الذي كافأ الرجال من أمثال ديكارت بحفاوة الجماهير الشديدة بهم، انصرف سبينوزا، وكسب قوته من قطع العدسات في الهيج - وهو عمل كان شديد الإتقان له. وقد طردته الكنيسة اليهودية بسبب آرائه المخالفة للأصول، وعاش أبسط معيشة، وكتب - على غرار زمانه - ميتافيزيقيات فكر فيها تفكيرا دقيقا. وليس بوسعنا هنا أن نحاول تحليلا حقيقيا لفيلسوف الفلاسفة هذا. وربما كان أشهر مؤلفاته في علم الأخلاق، وقد عرضه عرضا رياضيا، واستخدم فيه الصيغ الظاهرية للعرض الرياضي لكي يصل إلى الله وإلى الخير الكامل. ويطلق على سبينوزا أحيانا «المعتقد بألوهية الكون» غير أن هذه الصفة باردة لا شعور فيها بالنسبة إلى مثل هذا الرجل المتحمس للبحث عن إله كامل وبعيد في آن واحد، وهو مع ذلك لا يجاوز إدراكنا الناقص البشري، ويقوده العقل إلى استسلام صوفي، «إلى حب الله محبة عقلية». «وهذه المحبة العقلية في الأفئدة للإله هي محبة الله عينها التي يحب الله بها نفسه، لا بمقدار ما هو لا نهائي، ولكن بمقدار ما يمكن لجوهر العقل البشري أن يعبر عنه، عندما ننظر إليه في صورة الخلود؛ أي إن محبة العقل الفكرية لله جزء من المحبة اللانهائية التي يحب الله بها نفسه. ومن ذلك ندرك بوضوح أنى يكون خلاصنا، أو بركتنا، أو حريتنا، إنه يكون في حب لله أبدي لا يتغير؛ أي في حب الله للناس. وهذه المحبة أو البركة هي ما يسمى في الكتاب المقدس بالمجد.»
ومن العار أن نعرض سبينوزا هذا العرض الموجز؛ فهو جدير بالتفات أي امرئ يريد أن يتغلغل في مزاج كان دائما يظفر بإعجاب المثقفين، مزاج الرجل الثائر العذب، الذي لا ينتمي إلى هذا العالم، الرجل القادر على الثبات المذهل في الأمور العقلية. وأما نحن فيكفينا أن نذكر أن سبينوزا - في تقدم العلوم العظيم، وباشتغاله بالرياضيات - قد وصل إلى فلسفة تمت إلى العالم الآخر بصلة، كما يمت أي مفكر في العصور الوسطى، وما أكثر الطرق التي تؤدي إلى مجاهل التصوف.
الأفكار السياسية
إن الأفكار السياسية للعقليين الأوائل هي في الأغلب من النوع الذي ناقشناه في الفصل السابق. وقد نبذ هوبز خاصة النظريات التي تشبه نظرية حق الملوك المقدس؛ لأن العقلي يتحتم عليه أن ينكر ما هو مقدس بالمعنى المسيحي التقليدي. ولكنه مع ذلك كان يعتقد بوجود نظام للعلاقات السياسية «الصحيحة» التي يمكن الكشف عنها إذا فكرنا في فروض معينة تتعلق بالسلوك البشري - كالفرض الذي يقول إن الناس جميعا يريدون الأمن أولا، والفرض القائل بأن الناس في حالة الطبيعة لا يتوافر لهم أمن. ويترتب على ذلك «عقلا» - كما يرى هوبز - أن الناس يتجمعون ويضعون عقدا ليقيموا سيدا عليهم، مطلقا كأي سيد مقدس، ولكنه من خلق الناس في الطبيعة. إن المفكرين من أمثال هوبز وهارنجتون وبودين كانوا إنسانيين متأثرين بالتيار العقلي في زمانهم، وكلهم يعمل في إطار تقليدي من التفكير. وقد مهدوا الطريق لسياسة عصر التنوير، وهي النظرات السياسية التي نرثها نحن الأمريكيين وراثة مباشرة، ولكنهم لم يصلوا إلى التفاؤل الكامل الذي اتصف به فلاسفة القرن الثامن عشر.
إن الجديد والمبتكر في التفكير السياسي في هذه القرون هو كتاب ميكافيلي. وهو يتفق مع كل أولئك الذين أسميناهم العقليين في الإنكار البات لفكرة وجود أي شيء فوق الطبيعي، أو أن هناك أي إله يتدخل في شئون الناس اليومية. ومكيافيلي لا يلقي بالا لفكرة العصور الوسطى بأن الله وراء النظام الخلقي. وهو يبدأ بتطلع النهضة للكشف عن الطريقة التي يسلك الناس سلوكهم وفقا لها. وسوف نرى أن لديه أيضا في الواقع آراء ثابتة عن الطريقة التي ينبغي للناس أن يسلكوا تبعا لها. غير أن هناك في الواقع أساسا لما أثنى عليه به فرانسيس بيكون حين قال عنه: إننا مدينون بالكثير لمكيافيلي لأنه أنبأنا بما يفعل الناس بدلا من أن ينبئنا بما ينبغي للناس أن يفعلوه. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن جانبا على الأقل من عمل مكيافيلي هو من نوع العمل الذي يقوم به العالم الطبيعي فهو ينبني على الملاحظة، وعلى جمع الحقائق، باعتبار ذلك نقطة البداية في كل تفكير في الموضوع، وبعض تفكيره قائم على الوطنية، على كراهية الإيطاليين للدول الأجنبية التي سادت إيطاليا. وهو ليس البتة من خصوم المذهب العقلي المحدثين. وهو كبيكون يحمل في نفسه كثيرا من سمات العصور الوسطى. ولكنه أيضا كبيكون، وبخاصة في صفحات كتابه «الأمير» يحاول أن يحلل الحقائق التي يجمعها ويضم بعضها إلى بعض دون أن يأبه بالأخلاق أو بالميتافيزيقا .
وقد نشر كتاب مكيافيلي الصغير الشهير - ولعله عند الكثيرين لا يزال كتابا شائنا - الذي أطلق عليه اسم «الأمير» عام 1531م؛ أي بعد وفاة مؤلفه بأربع سنوات. وهو بالإضافة إلى كتابه «تعليق على ليفي» يعطينا صورة صادقة عن تفكير مكيافيلي وطريقته. وفي «الأمير» يشرع مكيافيلي في وصف الوسائل التي يستطيع بها الحاكم الفرد (أو الأمير) أن يحتفظ بنفوذه كحاكم، وأن يقويه بطريقة مؤكدة. وهو لا يحاول أن يبين ما يفعله الأمير الطيب، أو أفضل الأمراء، أو مبررات الطاعة، أو ما هو الحق وما هو الباطل حقا في السياسة. وإنما هو يحدد لنفسه مشكلة فنية وهي: إذا توافرت شروط معينة، فما هي الشروط الأخرى التي تحفظ، أو تعزز، أو تضعف الشروط الأولى. وإليك عبارته في هذا الصدد: «بقي علينا أن نبحث فيما ينبغي أن تكون عليه الآداب والآراء التي يعتنقها الأمير إزاء رعيته وأصدقائه. ولما كنت أعرف أن الكثيرين قد كتبوا في هذا الموضوع فإني أشعر أني قد أعد مدعيا فيما أريد أن أقول إذا كنت في ملاحظاتي لا أسير على الخطوط التي رسمها غيري. ولكن لما كان في نيتي أن أكتب شيئا قد ينفع القارئ الفطن، فقد بدا لي من الأحكم أن أتابع الحقيقة الواقعة في الموضوع دون ما تتخيله عن هذه الحقيقة؛ لأن الخيال قد خلق كثيرا من الإمارات والجمهوريات التي لم يشهدها أحد أو عرف أن لها أي وجود حقيقي؛ إذ إن طريقة العيش تختلف كل الاختلاف عما يجب أن تكون عليه طريقة العيش، حتى إن من يدرس ما ينبغي أن يعمل دون ما يعمل فعلا إنما يعرف السبيل إلى سقوطه، لا إلى بقائه. إن الرجل الذي يحاول بكل وسيلة أن يكون طيبا يلاقي حتفه وسط العدد العديد من غير الطيبين. ومن ثم تحتم على الأمير الذي يريد أن يحتفظ بنفوذه، أن يتعلم كيف يكون سيئا وأن يستخدم معرفته أو يمتنع عن استخدامها طبقا لحاجته ... ثم إنه ينبغي ألا يعبأ بارتكاب مساوئ الرذائل التي يتعذر بدونها احتفاظه بدولته. وإذا نحن أنعمنا النظر في الموضوع رأينا أن بعض العادات التي تبدو فاضلة تؤدي إلى الدمار إذا طبقت. وبعضها الآخر مما يبدو من الرذائل يؤدي إلى الأمن وإلى رفاهية الأمير.»
ويستطرد مكيافيلي ليختبر في المشكلات المحسوسة صحة هذه النظرية العامة. هل ينبغي للأمير أن يكون جوادا أو بخيلا؟ وهل ينبغي أن «يقال عنه» إنه جواد أو بخيل؟ وأيهما أحكم: القسوة أو الرحمة؟ ويجيب عن ذلك مكيافيلي - كطبيب أو، في الأمور العادية البسيطة، كأي إنسان عنده إدراك عام - بأن - كل ذلك يتوقف على العناصر الأخرى في الموقف، أو على «الاتجاهات» الأخرى في الموقف الإنساني، وهو موقف أعقد من أن يعبر عنه بمعادلة رياضية. ودعنا مرة أخرى نقتبس نموذجا من تعبير الرجل:
وهنا ينشأ هذا السؤال، هل الأفضل أن تحب أكثر مما يخشى بأسك، أو أن يخشى بأسك أكثر مما تحب؟ والجواب أن الأفضل أن تكون هذا وذاك. ولكن لما كان هذا عسيرا فآمن لك أن يخشى بأسك على أن تحب إن كان لا بد لك أن تختار أحد الأمرين؛ لأن هذه الملاحظة تصدق على الناس عامة: إنهم ناكرون للجميل، هوائيون، مخادعون، مشغوفون بتجنب الأخطار، جشعون في الكسب. وما دمت نافعا لهم فهم جميعا معك، يهبونك دماءهم وملكهم وحياتهم، وأبناءهم ما دام الحظ بعيدا، كما ذكرت من قبل، ولكنهم ينقلبون عليك إذا أقبل الحظ. إن الأمير الذي يكتفي بالثقة بألفاظهم، ولا يقوم بأي استعداد آخر، لا بد أن ينتهي إلى الدمار؛ لأن الصداقة التي يشتريها المرء بثمنها، ولا يشتريها بعظمة روحه ونبلها، تلقى في الواقع ثوابها، ولكنها صداقة لا يمتلكها صاحبها، ولا يستطيع أن يستنجد بها عند الحاجة؛ فالناس أقل ترددا في الإساءة إلى رجل يحبونه منهم إلى رجل يخشونه؛ لأن المحبة ترتبط برباط من المسئولية يمكن أن يهن - ما دام الناس أشرارا - كلما أوحت بذلك المصلحة الخاصة. في حين أن الخوف يصطحب بخشية العقاب الذي لا يكون فيه قط تهاون.
ومع ذلك فيجب على الأمير أن يكتسب الخوف منه بطريقة تمكنه - إذا كان لا يستحق معها المحبة - على الأقل من تجنب الكراهية؛ لأن الخوف من امرئ مع عدم الكراهية له قد يتلازمان. والواقع أن الأمير قد يحقق هذه الغاية إذا هو اكتفى باحترام ملكية رعيته ومواطنيه ونسائهم. وإذا بات من الضروري أن يحكم بالإعدام على فرد ما، وجد التبرير السليم، والقضية العامة. وينبغي له - فوق كل شيء - ألا يمد يده إلى ملك غيره؛ لأن المرء أسرع إلى نسيان موت أبيه منه إلى نسيان فقدان ميراثه. ثم إن الدعاوى الباطلة للاستيلاء على الملك لا تنعدم قط. وإذا ما بدأ الأمير يعيش على الاغتصاب فإنه لا يعدم الحجة قط لنهب الآخرين. وعلى عكس ذلك نجد أن الدعاوى الباطلة للحكم بالإعدام أكثر ندرة وأسرع استنفادا.
وقد تبدو هذه الفقرات صادقة أو باطلة، أو بين هذا وذاك، للقارئ في منتصف القرن العشرين، ولكنها لا تبدو جديدة؛ فقد عودنا علماء النفس أن ندرس الأفكار التي تتعلق بأعمال الناس السيئة كما نحكم عليها، بل لعل دراستها أهم من الحكم عليها، غير أن ذلك كله كان جديدا كل الجدة حينما صاغه مكيافيلي كلاما مكتوبا. وبالرغم من أن الناس في العصور الوسطى لم يسلكوا سلوكا أفضل من وصف مكيافيلي لثبات الطبيعة البشرية، فإن الناس الذين ألفوا الكتب لم يفعلوا أكثر من ذكر وجود هذا السلوك، وقد بشروا خاصة ضدها، وامتعضوا لانحرافها عن قواعد الأخلاق، وأهم من هذا كله، أنهم اعتقدوا أنه سلوك غير طبيعي بالنسبة للكائنات البشرية ، وإن شق عليهم إنكار وجوده.
وإذن فقد كان مكيافيلي مبتكرا، على الأقل في محيط الثقافة المسيحية الغربية، في تحليله السياسي الواقعي. وهو يحاول من بعض النواحي أن يقوم بما شرع في أدائه العلماء الطبيعيون - ملاحظة الظواهر ملاحظة دقيقة وترتيب هذه الملاحظات في صورة قوانين (أشكال موحدة، أو أحكام عامة) تمكن من التنبؤ الصحيح بالظواهر في المستقبل في محيط معين. غير أنه لم ينجح في ميدانه كما نجح العلماء في ميدانهم. ونستطيع أن نذكر هنا ثلاثة مواطن فشل مكيافيلي فيها في تطبيق الطريقة العلمية على دراسة السياسة (وهي لم تطبق بعد بنجاح تام، وهناك من يعتقد أنها لا يمكن البتة أن تطبق تطبيقا نافعا، على دراسة العلوم السياسية).
ولست أحسب إلا أنكم قد لمستم أولا - حتى في المقتبسات القصيرة التي قدمتها - نظرة جد وضيعة أو متشائمة إلى الطبيعة البشرية. وهو يقول إن الناس بعامة ناكرون للجميل، هوائيون، مخادعون. وربما كان من المستحيل - من الناحية العلمية - أن نصدر حكما عاما معقولا من هذا القبيل على الكائنات البشرية. والمشكلة التي تشبه هذه المشكلة هي - من إحدى النواحي العلمية - غير ذات معنى، غير أن أكثرنا يصدر حكما ما - يضعه في الميزان - عن إخواننا في البشرية بوجه عام. بيد أن هناك نظرات مختلفة على طول الخط ما بين المحبة الواثقة في الزملاء إلى الاحتقار الشديد لهم، وهي نظرات - وإن تكن في أغلب الأحيان حكيمة ونافعة للأفراد الذين يأخذون بها - إلا أنه لا يمكن وصفها بالأحكام العلمية. ونظرة مكيافيلي فيها مغالاة شديدة في السخرية البالغة، وربما دعا إليها إلى حد ما التمرد على الآراء العامة المسيحية التي تتصف بالتقوى، وهي الآراء التي برغم قبولها لمبدأ الخطيئة الأولى ليست في الواقع متشائمة في حكمها على الكائنات البشرية، بل هي في الحقيقة أكثر اهتماما بإمكان خلاصهم. ويبدو أن مكيافيلي قد أراد أن يصدم الشعور العام، وأن يظهر بمظهر الرجل الحكيم الشرير، وربما كان في الواقع مثاليا معكوسا، أو متشائما لأنه إنما يريد كمالا أوفر. وهنا تجد مشكلات سيكولوجية خطيرة، يشق علينا حلها في دراسة الأحياء، وتكاد تستحيل فيما يتعلق بشخصيات الماضي، والواقع أن مكيافيلي يظهر بمظهر الرجل المثقف خائب الرجاء، وهو يقف في جلاء موقفا لا يقفه السوقي، أو الرجل من عامة الناس، أو المثقف ثقافة تقليدية في عهده.
والأمر الثاني هو أن تجرد مكيافيلي إنما يتقيد تقيدا شديدا بوطنيته الإيطالية الحارة. وليس كتاب «الأمير» في هدفه رسالة أكاديمية أو علمية في فن الحكم. إنما هو رسالة في فن الحكم في إيطاليا بالأسلوب الذي شاع فيها في القرن السادس عشر. وهي رسالة تحث الأمير على أداء واجب توحيد إيطاليا وطرد الأجنبي منها؛ فهو واجب ومنفعة في آن واحد. والفصل الأخير في كتاب «الأمير» لمكيافيلي إنما هو دعاء حار لخلاص إيطاليا، وقد كان سببا في استرداد مكيافيلي لسعته عند الأجيال المتأخرة التي كانت تعد الوطنية الإيطالية قضية نبيلة. ولسنا هنا بحاجة إلى أكثر من الإشارة إلى أن هذا أيضا تشويه لجهد مكيافيلي الذي بذله لكي يرى الأمور كما هي على حقيقتها. ولقد أراد أن تتغير الأمور، وأراد أن يتغير الإيطاليون، حتى إنه لم يستطع أن يبلغ درجة التجرد.
وأخيرا أقول إنه بالرغم من أن مكيافيلي قد مر بتجربة معينة في العلاقات الدولية وفي شئون الحكم الأخرى على مستوى الوظائف أو البيروقراطية، إلا أنه كتب هذه المؤلفات الشهيرة في شيء يشبه العزلة الأكاديمية. وكما أنه بذل الجهد محاولا ألا يكتب كتابة ورعة عن كائنات بشرية لا وجود لها (كما فعل جون سولزبري فيما كتب - في ظنه)، فكذلك بذل الجهد في ألا يكون عقليا أكاديميا، وإنما رجلا دنيويا. وهذا الاتجاه الأخير نكبة من النكبات، وانحراف من أسوأ أنواع الانحرافات؛ فإن مكيافيلي يبذل جهدا فوق طاقته لكي يكون دنيويا، وقد صدم الناس في مشاعرهم لعدة قرون، وهؤلاء الناس يتمسكون بالقديم وإن انعدم لديهم الضمير. وإن مجرد اشتهار الرجل بالشر - أو بنصحه بالشر - هو في حد ذاته دليل على فشله، والمعرفة العلمية لا تحتوي على هذه المرارة الكاوية التي نلمسها في تفكير مكيافيلي .
ومع ذلك فإن مكيافيلي يعد بحق أحد الرواد الذين بذلوا جهودا في دراسة سلوك الإنسان في المجتمع كما يدرس العالم سلوك الغازات أو الحشرات. وهذه الجهود قد يحكم عليها بالفشل مقدما، كما أن «العلوم الاجتماعية» كما نعرفها اليوم قد تبدو بعد قرون قلائل من الطرق المقفلة التي يسير الناس فيها أحيانا. ولكن لما كنا في العصر الحاضر ملزمين بمتابعة دراستها، فلا مندوحة لنا من الاعتراف بالجميل لمكيافيلي. نعم إن كثيرا مما قاله قد قيل من قبل، وإن كثيرا منه ورد في التفكير السياسي عند الإغريق؛ فقد لاحظ أرسطو - مثلا - بعض أنواع السلوك التي يسلكها الناس في الحياة السياسية ودون ملاحظاته. كما أن هناك أدبا كاملا عن الحكم والمقالات الصغيرة عن الطبيعة البشرية، وعن حيل الناس ونقائصهم، وعن حماقاتهم ما صغر منها وما كبر. إلا أن أكثر ما كتب في هذا السبيل إنما هو من قبيل الإدراك العام أو نوع من أنواع حكمة الجماهير. وهو يشبه التنبؤ بالجو بمجرد الخبرة الذي عرفه الإنسان القديم. ولكن العلم يجب أن يحاول دائما أن ينظم وأن يقيس وأن يصوغ في مصطلحات قوية إلى حد ما - وهي مصطلحات نافعة جدا في نهاية الأمر - ما تضعه حكمة الجماهير في عبارات غير مستقيمة. وقد يكون علماء الجو الأوائل أقل دقة من الرجال المحنكين بالخبرة في معرفة تقلبات الجو. وقد يكونون سذجا أو مبالغين أو غير عمليين. بيد أن العلم المنظم لا بد أن يظفر آخر الأمر.
ومكيافيلي كالعالم في مرحلته الأولى التي تزداد فيها حساسيته؛ فهو يتجه نحو ما يقع فعلا خلف هذه الألفاظ البراقة التي يستخدمها الناس عندما يكتبون في السياسة أو في الأخلاق. وهو لا يقنع ببعض التأملات الاعتباطية في هذه الأمور. إنه يدرس دراسة منظمة بعض المشكلات، لا ليكتشف ما هو حق، ولكن ليكتشف ما هو قائم فعلا. وهو لا ينجح كل النجاح في الاحتفاظ بمزاج هادئ، أو في تجرده كما ينبغي أن يتجرد، وهو يفشل - فوق كل شيء - في أن يدرك أن آراء الناس ومثلهم الأخلاقية لها «بعض» العلاقة بأفعالهم - حتى إن كانت هذه العلاقة طارئة بسيطة. وبعبارة أخرى فإن مكيافيلي يرتكب الخطأ الذي لا يزال يقع فيه بعض كتابنا المدربين المختصين في علوم السياسة والأخلاق، وهو ينكر اعتراف الناس بالعمل الطيب لأنهم لا يقومون بهذا العمل فعلا في حياتهم.
وكذلك ينتمي فرانسيس بيكون في مجاله إلى أولئك الذين حاولوا دراسة السلوك البشري كما يدرس العالم التشريح أو الفسيولوجيا، وهو يرسم في الفصل الأول من كتابه «الأداة الجديدة» الخطوط العريضة لموضوع اهتم به اهتماما بالغا السيكولوجيون الاجتماعيون والسياسيون في عصرنا هذا - وأعني به الدراسة المنظمة للطريقة التي يتأثر بها العقل البشري في عمله بالعوامل غير المنطقية وغير التجريبية. وأقول مرة أخرى إن الناس قد عرفوا منذ بدأت ثقافتنا في الظهور أن «الإدراك البشري ليس ضوءا صافيا» كما قال بيكون. وقد عرفنا من قديم أن الرغبة تولد التفكير، وأن الناس يتصفون بالأهواء، بل إن لغتنا ذاتها مليئة بالتعبيرات الغامضة، وبما يؤدي إلى معنيين مختلفين، حتى إن الرغبة في الدقة والموضوعية قد توجد ولكن الطريق إليهما يظل وعرا شائكا. ولكن تحليل بيكون لهذه الوعورة تحت عنوان «الأوثان» لا يزال مصدرا للإيحاء، ولا يزال محاولة من أفضل المحاولات المنظمة لتبويب أنواع التبرير عند الإنسان.
وهو يهتدي إلى أربعة أصناف من الأوثان (أو الأوهام) التي تخيم على عقول الناس: «أوثان القبيلة»، و«أوثان الكهف»، و«أوثان السوق»، و«أوثان المسرح». وبأوثان القبيلة يعني الأخطاء التي ترجع في أصولها إلى الطبيعة البشرية ذاتها، في أجهزة الحواس عند الناس وفي عقولهم. والقول ب «أن الإنسان هو مقياس كل شيء» يعني في الواقع أن معاييرنا حتى في العلوم تميل إلى الاختلاف اختلافا ذاتيا. وبأوثان الكهف يعني بيكون شيئا قريبا من المعنى العادي للأهواء، وهي الأخطاء التي تصوغها شخصياتنا وتصدر عنها، وهو يعني ذلك الكهف الصغير الذي يشقه الإنسان لنفسه في هذا العالم العنيف. وبأوثان السوق يعني ما يجب أن نسميه مغالطات الدعاية والإعلان، أو تلك الإثارة المتبادلة بين الناس التي تحدث عند التجمهر، أو عند أي نوع من أنواع الاتصال الاجتماعي وهي أخطاء الناس عندما يتجمعون. وبأوثان المسرح يعني بيكون الأخطاء التي يراكمها الناس عندما يحاولون وضع تفسير نظامي للكون - وتلك هي أخطاء الفلاسفة ورجال الفكر، الأخطاء التي تنشأ عن بناء النظم، وهي الأخطاء التي يسهل علينا أن نقول إن بيكون نفسه قد وقع فيها، وقد وصف هذا الوثن الأخير في العبارة التالية: «وأخيرا هناك الأوثان التي انتقلت إلى عقول الناس من الأقوال اليقينية في الفلسفة، وكذلك من القوانين الخاطئة للتجربة. وأنا أسمي هذه الأوثان بأوثان المسرح؛ لأني أرى أن كل النظم التي انتقلت إلينا ليست سوى مسرحيات عديدة، تمثل عوالم من إبداعها بطريقة مشهدية غير واقعية. ولا أتحدث عن النظم السائدة الآن وحدها، أو عن المذاهب والفلسفات القديمة وحدها؛ لأن مثل هذه المسرحيات قد يؤلف الآن وفيما بعد بنفس الطريقة المصطنعة التي أشرت إليها؛ لأني أرى أن الأخطاء وإن اتسعت رقعة الخلاف بينها، تنشأ عن دوافع متشابهة إلى حد كبير. ولست كذلك أرى هذا في النظم الكاملة وحدها، ولكني أراه أيضا في كثير من مبادئ العلوم وأولياتها، التي تواترت بالتقليد، والتصديق، والإهمال.»
ولست بحاجة إلى القول بأن محاولة تطبيق طرق شبيهة من بعض الوجوه بطرق العلوم الطبيعية على دراسة العلاقات الإنسانية لم تؤت الثمرة التي أتت بها عند تطبيق هذه الطرق على العلوم الطبيعية. وحتى اليوم ليس هناك إجماع على العلوم الاجتماعية - وإن يكن من الشائع قطعا أن نوازن بينها وبين العلوم «الحقيقية» فنغمطها حقها.
وكما أن المذهب العقلي لديكارت والمذهب التجريبي لبيكون كانا في الواقع يهدفان إلى تكوين نظرية كونية، وإلى معرفة أكيدة بكل العلاقات الممكنة في العالم، فكذلك نجد أن أكثر أولئك الذين انشقوا على آراء العصور الوسطى بشأن التفكير السياسي كانوا هم أنفسهم يضعون نظاما في السياسة يخرج في نظرهم بشكل ما عن نقائص السياسة كما تمارس. وسوف نرى في الفصل المقبل أن التفكير السياسي والخلقي في أوائل الأزمنة الحديثة تحول قطعا في القرن الثامن عشر إلى تيارات عقلية ولكن النتيجة لم تكن علما في السياسة بمقدار ما كانت أيدولوجية سياسية أخرى، أو على الأصح مجموعة من الأيدولوجيات. وإنا لا نذكر هذا على سبيل الشكوى. فما لم يغير الناس من طبيعتهم تغييرا أساسيا فان الأيدولوجيات السياسية والنظم الميتافيزيقية ستظل ضرورية للحاجات الروحية البشرية؛ فنحن ما زلنا نعيش في مجموعة الأفكار التي تتعلق ب «المشكلات الكبرى» وهي المجموعة التي أعدت في أوائل القرون الحديثة وآتت ثمارها في القرن الثامن عشر.
صنع العالم الحديث: خلاصة
تكونت الثقافة الحديثة في المجتمع الغربي فيما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. ولما حل القرن الثامن عشر كان المتعلمون من الرجال والنساء، وأعتقد أيضا كثيرون من غير المتعلمين، قد وصلوا إلى معتقدات معينة عن أنفسهم وعن العالم، وعما يستحق العمل في هذه الدنيا، وما يمكن أداؤه فيها - وهي معتقدات لم يتمسك بها أسلافهم في العصور الوسطى. كانوا يعيشون في عالم بدا لهم جديدا، ما دامت أفكارهم عنه جديدة، وهي أفكار لم تكن بطبيعة الحال جديدة كل الجدة؛ فإن أكثر المجتمع الغربي كان من المسيحيين في عام 1700م، كما كان في عام 1400م. ومن الأفكار الأساسية في هذا الكتاب أن الكثير مما كان يعتقد فيه الرجال والنساء في القرن الثامن عشر والقرون الأخيرة كان لا يتفق وبعض النواحي الهامة في العقيدة المسيحية التقليدية. وفي عبارة أخف من ذلك وقعا نستطيع أن نقول إن «التنوير» قد «حور العقيدة المسيحية تحويرا أساسيا». ومع ذلك فمن الواضح أن جانبا كبيرا من المسيحية قد بقي. ولم يقتصر أثرها على التنظيم الشكلي للكنائس.
ومهما يكن من أمر فإن هناك تغييرا بسيطا لا لبس فيه، واضحا لكل ذي عينين؛ ذلك أنه لم يكن في القرن الثالث عشر سوى هيئة دينية واحدة منظمة في الغرب، وهي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. أما في القرن الثامن عشر فقد كان هناك فعلا بضع مئات من المذاهب في مجموع المجتمع الغربي. وحتى في أقطار مثل فرنسا حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية لا تزال في الظاهر صاحبة السيادة كانت هناك مئات الألوف العديدة من البروتستانت، وعدد غير معروف من المؤمنين بالله وحده مع إنكار الوحي ومن الملحدين، والمتشككين، وكلهم صريح فيما يعتقد وفيما لا يعتقد فيه. وقل منهم من تعرض لخطر جسيم من العقوبة التي كانت توقع على أمثالهم في العصور الوسطى. وينبغي ألا تضللنا رسائل فولتير ضد إعدام كالا ودي لابار على أيدي الكاثوليك الذين اضطهدوهما؛ فإنما كانت حالتهما من الحالات «الشاذة» على الأقل في الغرب. وكذلك تفتت الوحدة الفعالة للمسيحية. ولما حل عام 1700م كانت هناك كتابات تدافع عن الرأي القائل بأن الفروق الدينية «ينبغي» أن تكون موضع التسامح، وأن الكنيسة والدولة تنفصلان بحق، وأن للمرء أن يؤمن بما يشاء فيما يمس العقيدة الدينية. والواقع أن الطريق كان ممهدا للأفكار التي سادت في القرن الثامن عشر كالفكرة التي تنادي بأن هناك «بعض» الصدق في كل الديانات - حتى في الديانات غير المسيحية.
وقد باتت أمثال هذه الأفكار بالنسبة للأمريكيين في العصر الحاضر من الشيوع بحيث يتعذر عليهم أن يدركوا مقدار جدتها، ومقدار تناقضها مع ما كان الرجال والنساء منذ قرون قلائل يفترضون صدقه بنفس الدرجة من الوثوق. وهي أفكار تتضمن معيارا جديدا للحقيقة - ميتافيزيقية كانت أو دينية - ولا تدعو إلى التخلي عن البحث عن مثل هذه الحقيقة، وكان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن هذه الحقائق من الوحي، وهي كاملة في الإيحاء بها. وقد تغيب عن أنظار الناس، بل وقد لا يتبعونها باعتبارهم ورثة لخطيئة آدم. ولكن لا يمكن للإنسان أن يكون «على حق»، أو أن يعرف الصدق ثم يعارضه في سلوكه. وفي ضوء هذه الأفكار الوسيطة يمكن فهم إحراق الزنادقة؛ فهم ثمرة فاسدة، وإذا تركوا وشأنهم فقد يفسدون الثمرة السليمة. ثم إنهم فوق ذلك ملعونون، وإقصاؤهم عن الحياة الواقعة لا يضرهم في شيء؛ فهم قد أوقعوا الضر بأنفسهم على أنفسهم من قبل. وبعبارة أخرى إنك لو عرفت أنك على صواب، فإن كل من يختلف عنك لا بد أن يكون على خطأ. وعلى الناس أن يلزموا الصواب لا الخطأ. ولا يمكنك أن تسمح للأفكار الخاطئة بالانتشار دون أن تكون بالغ الأذى.
وبالرغم من أن تبرير أو تعليل التسامح الديني كان في بداية انتشاره ونموه في أوائل القرن الثامن عشر، إلا أن خطوط الدفاع الرئيسية واضحة. ومع أن أنواع التبرير قد تختلف في التفصيل فإنها تنضم إلى أحد فروض ثلاثة: أن هناك حقا جديدا أعمق من الحقيقة المسيحية التقليدية، وهو حق إذا تسامحنا فيه يقتلع العقيدة المسيحية في النهاية من جذورها أو يحورها تحويرا شديدا، وأن الحق لا يوحى به للناس كاملا غير منقوص ، وإنما ينبغي الكشف عنه تدريجا عن طريق التجربة والخطأ، وعن طريق البحث، وبذل الجهد البشري. والفرض الثالث - وهو فرض قل من تمسك به في تلك الأيام الأولى - هو أنه ليس هناك حقيقة ثابتة أو وثوق تام في مثل هذه الأمور، وأن كل ضروب الحقيقة «نسبي»، وأن الوحي والتفكير والدراسة لا يمكن أن تنتهي إلى الحقائق المطلقة. غير أن هذه الفروض كلها تتفق على الأقل في نبذ شيء في الميراث المسيحي الذي تحدر إلينا من العصور الوسطى. وهي كلها تزعم أنها تؤدي إلى شيء جديد وشيء أفضل.
ويظهر الاختلاف في الأساسيات ظهورا واضحا في أخريات القرن السابع عشر ومستهل القرن الثامن عشر في مجادلة ظاهرها عديم الأهمية بين رجال الأدب في فرنسا وفي إنجلترا، وهي مجادلة تحمل عادة اسمها بالفرنسية، وهو بالعربية «النزاع بين القدامى والمحدثين». ومن آثارها الباقية في الجانب الإنجليزي رسالة سويفت الشائقة، وعنوانها «معركة بين الكتب». وموجز الكتاب أن أحد الجانبين يعتقد أن الإغريق والرومان قد انتهوا إلى ثقافة في عمومها وفي تفصيلها لا تبارى. وقد كانوا العمالقة الذين ارتادوا ميادين الثقافة البشرية ووضعوا الأمثلة التي ليس بوسعنا إلا أن نحذو حذوها على مبعدة؛ فالثقافة الكلاسيكية بالنسبة إلى هؤلاء نوع من الفردوس العلماني أو الإنساني. ومن الكفران أن يعتقد المرء أن مثل هذه الثقافة سوف يظهر مرة ثانية فوق الأرض. أما الجانب الآخر فكان يعتقد أن إنجازات الإغريق والرومان كانت عظيمة حقا، بيد أنها أقرب إلى أن تكون أرقاما قياسية أتيح للأوروبيين المحدثين أن يتجاوزوها. والثقافة الحديثة قد تعادلها أو تفضلها في كل ميدان. وليس هناك أي جدوى من التمسك بأن القدماء يتفوقون علينا قطعا؛ لأننا نستطيع أن ننتفع بأعمالهم، وأن نبني على أساسهم فنسمو على ارتفاعهم.
وموقف المحدثين في النزاع هو من الأشكال الأولى لمبدأ هام جدا، هو مبدأ التقدم، الذي يألفه الأمريكيون جميعا اليوم، وهو المبدأ الذي لا يرى الجدة وهما أو تدهورا، وإنما هي السير الطبيعي طبقا لخطة عالمية من نوع ما. ونحن لا ندري كيف حدث هذا التغير الأساسي الثوري في وجهة النظر. وإنما نحن نعلم يقينا أن العملية كانت معقدة وبطيئة نسبيا وهي عملية نستطيع أن نلمس فيها ثلاثة مكونات عقلية أساسية.
الأول تلك السلسلة الكبرى من التغيرات التي حدثت في عبادات المسيحية ومثلها تحت اسم البروتستانتية. وقد كان للحركة البروتستانتية نصيبها الأكبر من البطولة الإنسانية والضعف الإنساني، ومن الكفاح والمصادفات والنهايات العجيبة. وقصة تاريخها رواية جذابة، ولكنا لا نستطيع في كتاب كهذا إلا أن نمر عليها مر الكرام. غير أن مؤرخ الفكر قد يرى أن الأهمية الكبرى للبروتستانتية تنحصر في كونها «محلولا» يوهن من سلطة العصور الوسطى، وقد كان هذا المحلول في أقوى حالات تأثيره في تلك الأيام. وقد حطمت الحركة البروتستانتية الوحدة الشكلية التي احتفظ بها العالم المسيحي الغربي لألف وخمسمائة عام، وأقامت مجموعات أو مذاهب كبرى بالعشرات ومذاهب صغرى بالمئات، كل منها يبيح لنفسه المطالبة بالسلطة الدينية الكاملة في مجاله. وقد مهدت البروتستانتية بانقسامها إلى مذاهب رئيسية ومذاهب فرعية الطريق إلى الشك الديني؛ لأن العقل الذي يميل إلى الشك، أو الذي يتمسك بالمنطق، يرى أن وجود عدد كبير من المعتقدات المتناقضة المتضاربة - كل منها يزعم احتكار الحق - يمكن أن يكون دليلا على أنه ليس هناك حق يحتكر. ومن ناحية أكثر إيجابية كانت البروتستانتية - وبخاصة في صورتها الأنجليكانية واللوثرية - بمثابة الدعامة التي تقوي المشاعر الوطنية عند أعضاء الدول القومية الجديدة التي تقوم على أساس تقسيم الأرض. وما برح الله إلها لكل الجنس البشري (ولو قيل غير ذلك لكان معناه التخلي عن المسيحية كلية)، ولكنه يؤثر قوما على قوم بمعنى من المعاني، فيعامل الإنجليز أو البرويسيين أو الدنماركيين كأطفاله المدللين. وهذه الكنائس الوطنية الجديدة في ممارسة الحياة الدينية اليومية وإدارتها ليس لها نصيب في حياة دولية أو عالمية من النوع الذي كان للكنيسة القديمة في العصور الوسطى. والبروتستانتية الكالفنية خاصة شجعت في الموالين لها مزيجا متناقضا من الشوق إلى الاتحاد بالله في العالم الآخر - وهو شوق يبرز في كل الحياة البيوريتانية - واحترام دنيوي بحت للرجل الذي يكافح وينجح في حياته المادية، ولكن البروتستانت الأوائل لم يخلقوا عالما جديدا. واعتقدوا في الخطيئة الأولى، وفي وحي الإنجيل، وفي سلطة لا تنشل قطعا في البابا في روما، ولكنها مع ذلك سلطة تسمو على عمليات التجربة والخطة التي تقع في الحياة العادية. وكان البروتستانت يؤمنون بإله كامن، لا يشبه البتة قوانين الرياضة. وكانوا يؤمنون بنار الجحيم، وبالنعيم المقيم للصفوة من الناس.
والإنسانية - وهي القوة الثانية في صنع التحول - كانت أكثر من مجرد تطبيق الروح البروتستانتية أو التحررية الغامضة على الحياة الدنيوية وكانت تشترك مع البروتستانتية في تأثيرها المدمر على ما تبقى من معايير العصور الوسطى. وقد تشككت في سلطان العادة المباشرة وفي الفلسفة المدرسية المستقرة. كانت عصيانا إيجابيا من جانب الفنانين والباحثين. وقد أتقن بعض فنانيها وسائلهم إتقانا باهرا (مستعينين بالطرائق التي صنعتها أجيال ممن تدربوا على طرائق العصور الوسطى) وأنتجوا فنا عظيما جدا. وكثيرون منهم كانوا مغامرين، أحرارا في معيشتهم، خياليين، قوما يدعون إلى الإثارة فعاونوا على وضع المعايير الحديثة للفنان والكاتب، وهي المعايير التي يتحتم بالضرورة أن تكون غير تقليدية، وغير نافعة عمليا، معبرة عن الأنانية، ولكن تأثيرها برغم ذلك كاسح. ولم تكن الفضيلة لديها مثلا من المثل المسيحية بأية صورة واضحة، وإنما كانت المثل الذي يتطلع إليه الشباب الرياضي. وتتصف الإنسانية - كما تتصف الكالفنية بتناقض بعيد الغور فيها؛ فقد ثار الإنسانيون على سلطة رجال الدين وعلى عبء التقاليد. ويبدو على الأقل في أعمالهم أنهم يؤمنون بالفكرة الجديدة التي تقول بأن الناس «يصنعون» معاييرهم، و«يصنعون» الحق عندهم، ولا يكتشفونه فحسب. ولكنهم مع ذلك - كمجموعة - وقفوا موقف التقديس للأساتذة القدماء، الذين سلطوهم عليهم سلطانا مطلقا كأي سلطان قدسته العصور الوسطى. وكانوا على وعي محدود بما كان ينتظر من انتشار الأفكار والآمال بين الجماهير. كانوا فئة ممتازة من المتعلمين، يميلون إلى المثل الأرستقراطية والملكية، ولم يكونوا ديموقراطيين بأي معنى من المعاني. ولم يعتقدوا أن الدنيا يمكن أن تكون مكانا أفضل، اللهم إلا إن كان ذلك لهم وحدهم.
والمذهب العقلي - وهو القوة الثالثة - كان كذلك عاملا من عوامل الهدم، أقل وضوحا وأضعف قوة في السنوات الأولى من العصر الحديث من البروتستانتية أو الإنسانية، ولكنه أهم وأقوى في نهاية الأمر. وقد نبذ العقليون من المسيحية الكاثوليكية التقليدية أكثر مما نبذ البروتستانت أو الإنسانيون. وهم لم يكتفوا بإبعاد ما فوق الطبيعي من العالم، بل كانوا على استعداد لوضع الإنسان نفسه بكليته في إطار الطبيعة أو «العالم المادي»، كما آمنوا حقا بأن الإنسان عليه أن يسترشد بمعايير الحق والباطل. وقد ظن العقليون في القرون الأولى من عصرنا الحديث أن هذه المعايير ثابتة وأكيدة، وأن الناس إنما «اكتشفوها» ولم يصنعوها. ولكن إذا كان المسيحيون في العصور الوسطى قد وجدوا هذه المعايير في العادة، وسلطان القديم، وفيما كان كما هو منذ أزمنة لا يذكرها العقل، فإن العقليين كانوا يسعون إلى اكتشاف هذه المعايير وراء الظواهر، والعادات، والاختلافات الظاهرة، ويسعون إلى اكتشافها بالبحث الدءوب الذي يجد فيه التفكير العقلي الحقيقة الرياضية وراء الظواهر ذات الأشكال والألوان السوقية المتنوعة. والمذهب العقلي ليس به شيء من المتناقضات الظاهرة في البروتستانتية والإنسانية - اللهم إلا إن بلغ بك التشكك الواقعي حدا يجعلك ترى من التناقض أن يحاول المرء أن يفكر في أي نوع من أنواع النظم المرتبة فيما يقع في خبرة الإنسان في هذه الدنيا. وحتى في هذه السنوات كان المذهب العقلي يدين بالكثير من نفوذه الآخذ في النمو البطيء إلى ما أنجزته العلوم الطبيعية. وأخيرا لما نجح العلم على يد نيوتن في بلوغ نظام للكون كامل كمالا يدعو إلى العجب، نظام يمكن اختباره رياضيا، وله فائدة عملية بمعنى أنه مكن للناس من التنبؤ الصحيح، لما حدث هذا بات المسرح معدا للنظرة العالمية العقلية الجديدة، ولنظرية كونية تختلف عن نظرية سنت أوغسطين أو سنت توماس أكويناس، كما كانت نظريات هذين الرجلين تختلف عن نظرية الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد.
الفصل الحادي عشر
القرن الثامن عشر: نظرة كونية
جديدة
إن مؤرخ الفكر تواجهه في القرن الثامن عشر صعوبة تواجه كل من يؤرخون للقرون القلائل الأخيرة. إنه يجد نفسه مغرقا بالمواد. فأنت تستطيع أن تعد قوائم شاملة للمؤرخين في العصور الوسطى. كما أن الباحث صاحب الضمير الحي يستطيع أن يتقن الكتابات الأصيلة لكل من وصل إلينا من الإغريق والرومان. ولكن كمية المكتوب في جميع الميادين - مع اختراع الطباعة، ومع تكاثر الكتاب من جميع الصنوف الذين يمكن أن يعولهم مجتمع تتزايد سيطرته على بيئته المادية - ترهق الباحث الفرد، بل وترهق أية جماعة منظمة من الباحثين. كما أن هناك فوق ذلك فيما يبدو مجالا أفسح في الأذواق والآراء. وبمثل الطريقة التي تضاعف بها عدد الطوائف البروتستانتية تتضاعف الآراء من جميع الصنوف في كل ميادين المعرفة «اللاتراكمية». كما أن المعرفة «التراكمية» تواصل تراكمها بما يشبه المتوالية الهندسية. وربما أمكن تفسير هذا المجال الفسيح وهذا التركيب بالمطبعة وبالورق الجيد المصنوع من الخرق (وهو لا يشبه صحفنا التي لا بد أن تتحلل وتأخذ شكلا لا يمكن الإفادة منه في أقل من نصف قرن. وقد بقيت لنا حتى الكتابات الدورية والطارئة التي دونت في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، مقروءة كلها). وربما كانت العصور الوسطى متعددة الجوانب كعصرنا. ولكنا نعتمد على ما بين أيدينا، وما بين أيدينا هو ما ينيف عن ثمانية ملايين كتاب ورسالة في مكتبة الكونجرس نشرت كلها - فيما خلا نسبة ضئيلة جدا - منذ عام 1700م.
وإذن فإن أحكامنا العامة لا بد أن تقوم على نماذج محدودة من كمية المعلومات الضخمة الميسورة. ونحن لا نستطيع أن نوجه الاهتمام حتى للعقول البذرية العظيمة كما استطعنا حتى هذا الوقت؛ لأنه يتحتم علينا أن نركز على الأفكار وهي تفعل فعلها في جهرة الناس التي لا تحمل اسما. وليس بوسعنا إلا أن نشير على القارئ بأن يتجه بنفسه نحو عمل أولئك الرجال والنساء الذين وضعوا اللمسات الأخيرة على ميراثنا الثقافي، والذين أكسبوا ثقافتنا الغربية صورتها الحديثة التي تتميز بها، أو قل انعدام صورتها حديثا إن كنت من طراز خاص من المتشائمين في هذه الأمور.
عملاء التنوير
من الحماقة أن نحاول تلخيص «التنوير» في عبارة واحدة، والواقع أنا سوف نعود بعد حين إلى رسم الظلال وملء الفراغ. أما الآن فنستطيع القول بأن الفكرة الأساسية والجدة اللافتة للنظر في «التنوير» - أقصد الفكرة التي تجعله نظرية كونية - إنما هي «الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن تبلغ هنا في هذه الدنيا حالة من حالات الكمال كان يظن حتى الآن في الغرب أنها لا تتيسر إلا للمسيحيين في حالة النعمة، ولهم وحدهم بعد الموت». وقد عبر عن ذلك سنت جست، الثائر الفرنسي الشاب - في بساطة خادعة أمام المجمع الديني حين قال: «إن السعادة فكرة جديدة في أوروبا.» ليست جديدة في السماء بطبيعة الحال، وإنما هي جديدة في أوروبا، وجديدة جدا حتى في أمريكا.
وهذا الإمكان في تحقيق الكمال للجنس البشري لم يكن نتيجة لما يقرب من ألفي عام من المسيحية، ولا للوثنية السابقة التي ارتأت صورا أخرى للسعادة تتحقق بعد آلاف السنين. وإذا كان لا بد لهذا الكمال من أن يستحدث في القرن الثامن عشر فإن شيئا جديدا - اختراعا جديدا، أو اكتشافا جديدا - لا بد أن يحدث. وهذا الشيء الجديد يمكن تلخيصه أحسن تلخيص فيما ألف اثنان من الإنجليز الذين عاشوا في أواخر القرن السابع عشر، وهما اللذان جمعا في بؤرة واحدة العمل التمهيدي الذي تم في أوائل القرون الحديثة - ذلكما الرجلان هما نيوتن ولوك. وقد بدا العمل الذي أنفق نيوتن فيه حياته - وخاصة إتمامه لحساب التكامل وصياغته الرياضية العظيمة للعلاقة بين الكواكب وقوانين الجاذبية - بدا لمعاصريه كأنه يفسر كل الظواهر الطبيعية، أو يبين على الأقل كيف أن كل ما يماثل هذه الظواهر بما فيها سلوك الكائنات البشرية يمكن أن يخضع للتفسير. أما لوك فقد استخلص طرائق التفكير الواضحة البسيطة من الميتافيزيقيات المحيرة حيث ألقى بها ديكارت، فجعلها - فيما يبدو - امتدادا طيبا للإدراك العام. والظاهر أنه بين للناس الطريقة التي يمكن أن تطبق بها النواحي التي نجح فيها نيوتن نجاحا عظيما على دراسة شئون البشر، وقد وضع نيوتن ولوك معا تلك المجموعات العظيمة من الأفكار، في «الطبيعة» وفي «التفكير»، التي كانت بالنسبة إلى التنوير ما كانت عليه أمثال هذه المجموعات في مجالات النعمة والخلاص والقدرية بالنسبة إلى المسيحية التقليدية.
كانت «الطبيعة» بالنسبة إلى التنوير فكرة سليمة العاقبة، في حين أنها بالنسبة إلى المسيحي، حتى للمسيحي التوماسي، كانت دائما شيئا لا يطمئن المرء إليه، عاجزة بالتأكيد دائما إذا لم تدركها معونة السماء. ومنذ عصر التنوير - على أية حال - كان أولئك الذين يستخدمون مصطلح «الطبيعة» في محاولة للتأثير على الكائنات البشرية يفيدون كل الفائدة من الغموض الذي أشرنا إليه آنفا عندما كنا نناقش القانون الطبيعي عند الرومان (ارجع إلى الفصل السابق عن العنصر الروماني). الطبيعة بالنسبة إلى الرجل في عصر التنوير كانت هي العالم الخارجي الذي يعيش فيه، وهو عالم موجود بكل وضوح، ولكن كل ما يحدث فيه لم يكن «طبيعيا» بأية حال من الأحوال. والواقع أن كل شيء تقريبا مما يحدث، ومما يوجد في لحظة من اللحظات، كل شيء تقريبا في عالم «الطبيعة» (الواقعي) الخارجي - أو على الأقل في عالم «الطبيعة» البشرية طبقا لتنظيمها في المجتمع - كل شيء من هذا بالنسبة إلى رجل اشترك في عصر التنوير في القرن الثامن عشر اشتراكا فعليا حماسيا «غير طبيعي»؛ فالفوارق الطبقية، ومواضعات المجتمع، وامتيازات النبلاء ورجال الدين، والمفارقة بين الأكواخ والقصور - كل ذلك كان قائما، ولكنه غير طبيعي. وبطبيعة الحال كان العضو في حركة التنوير يفكر في «الطبيعي» بمعنى «الطيب» أو «العادي»، وفي «غير الطبيعي» بمعنى «السيئ» أو «غير العادي». والمهم هو أن طبيعة نيوتن كما تسربت إلى المتعلمين وأنصاف المتعلمين كانت هي العمل المنظم المستقر البسيط في جمال للعالم (إذا فهم فهما صحيحا). وإذا ما فهمنا هذه «الطبيعة» في شئون البشر، فإن كل ما علينا هو أن ننظم أعمالنا طبقا لها، فلا يكون بعد ذلك سلوك غير طبيعي.
إننا نفهم عمل هذه الطبيعة الكامنة (وهي الطبيعة التي لا تكون واضحة أو محسوسة بالنسبة إلى «غير المدربين») بما كان يحب رجال التنوير أن يسميه «العقل» - وكان العقل عندهم يكاد يكون اسما لعلم. والعقل أوضح ما يكون في الرياضة، والواقع أنه لم يظهر عند الأفراد أولا إلا فيها. والعقل - كما يزعم عملاء حركة التنوير - يمكننا من النفاذ من الظاهر إلى الواقع، بغير العقل، بل وبالعقل الخاطئ الذي اكتفى به الناس - كما اكتفوا بالإدراك العام - عدة قرون، نعتقد أن الشمس «تشرق» فعلا و«تغرب». أما بالعقل فنحن نعرف العلاقة الصحيحة بين الأرض والشمس. وكذلك العقل عندما يطبق على العلاقات البشرية يهدينا إلى أن الملوك ليسوا آباء شعوبهم، وأن اللحم إذا كان طعاما جيدا في أيام الخميس فهو جيد في أيام الجمعة، وأن لحم الخنزير إن كان مغذيا للأميين فهو مغذ أيضا لليهود. والعقل يمكننا من الكشف عن النظم البشرية والعلاقات البشرية «الطبيعية». وإذا ما اهتدينا إلى هذه النظم فسوف نخضع لها ونصبح قوما سعداء. إن العقل يمحو الاضطراب الذي تراكم فوق هذه الأرض بفعل الخرافات، والإلهام، والإيمان (وتلك هي شياطين العقليين).
ولا يهمنا الآن أن نبحث في مدى صحة هذه الوثبة، أو هذه السلسلة من الوثبات، من قانون الجاذبية إلى العلاقات الإنسانية. وإنما المهم هو أن الجيل الذي قرأ نيوتن ولوك هو الذي وثب هذه الوثبة. ولم يتماد نيوتن أو لوك إلى الحد الذي تمادى إليه الجيلان أو الأجيال الثلاثة التي رجعت إليهم حجة يؤخذ بها؛ فإن نيوتن لم يكن مجددا في شيء خارج عمله الخاص كعالم طبيعي، بل إنه يشتهر في أمثال هذه الميادين بأنه غير محدث وغير مستنير في جولاته في الأدب الإنجيلي. أما لوك - الذي كان يهتم أكثر ما يهتم بعلم النفس، والأخلاق، والنظريات السياسية، فقد كان شخصا حريصا، رجلا من عرض الطريق، الطرق الجديدة عنده تخدم خدمة جزئية على الأقل في تثبيت الحكمة القديمة.
وكذلك لم يكن الجيل الأول الذي بشر بالإيمان الجديد - الإيمان بالعقل - انقلابيا في طريقته المتطرفة المبسطة. نعم إن هذا الجيل قد أشاع ويسر للمتعلمين العاديين من الرجال - ومن النساء بالتأكيد في هذا الزمان - أفكار القرن السابع عشر ، الذي أطلق عليه ألفريد وايتهد «قرن العبقريات». وأكثرهم من الفرنسيين، وإذا كان لإنجلترا على وجه العموم النصيب الأوفر من العقول البذرية التي أنبتت أفكار التنوير، إلا أن الفرنسيين - فوق كل شيء - هم الذين نقلوا هذه الأفكار في أنحاء أوروبا وروسيا، بل وفي الأماكن الخارجية النامية للمجتمع الغربي في جميع أنحاء العالم. وأعظم هؤلاء الفرنسيين فولتير، الذي تجد في مؤلفاته التي تربو على التسعين كل الآراء التي بدأ بها عصر التنوير معروضة عرضا واضحا فيه فطنة وذكاء في كثير من مواضعه.
وأقول الأفكار التي بدأ بها عصر التنوير، ولا أقول الأفكار التي انتهى إليها، لأن فولتير ينتمي إلى الجيل الأول أو الجيل المعتدل من أجيال التنوير، كما ينتمي إليه منتسكيو، وبوب، والإنجليز الذين يؤمنون بالله دون الوحي، وما زال هؤلاء متأثرين تأثيرا بالغا بتيار الذوق الذي حللناه في الفصل الثامن، وأسميناه ب «الإنسانية المقتصدة» في عصر لويس الرابع عشر، وهم ما برحوا يؤمنون بالتقيد، وبالاحتشام، و«بأن القواعد قديمة، تكتشف ولا تبتكر» وهي القواعد التي تحافظ على التوازن الاجتماعي والجمالي. وهم لا يحبون الطرق العتيقة المتزمتة، التوازن الاجتماعي والجمالي. وهم لا يحبون الطرق العتيقة المتزمتة، وبخاصة إذا كان التزمت يطبق بالإرغام، وهم يكرهون خاصة الكنائس القديمة، كاثوليكية كانت أم أنجليكانية. وهم يسخرون مما لا يحبون. أما الجيل التالي فيرى أن الطرائق القديمة محل اعتراض لا يسمح حتى بالسخرية منها.
ويحدد كتاب «روح القوانين » لمنتسكيو، الذي نشره في عام 1748م، وهو ذلك العمل الاجتماعي الضخم الذي صدر عن الرعيل الأول المعتدل، نقطة من نقط التحول. وبالرغم من أن فولتير قد عاش حتى عام 1778م، موضعا لعبادة البطولة في سنواته الأخيرة، فإن الرجال الجدد بعد عام 1750م كانوا في الأغلب من الانقلابيين. وهم كأكثر الانقلابيين يميلون إلى التحيز إلى جانب واحد، وإلى تثبيت فكرة معينة واحدة، أو - في إيجاز - إلى أن يكونوا طائفيين. وإذا كان اهتمامهم الرئيسي بالدين، إلا أنهم يسيرون من الاعتقاد في الإله دون الوحي، وهي عقيدة هادئة في ثورتها، إلى المادية والاتحاد الصريح . وهذا الإلحاد ليس بأية حال من الأحوال صورة من صور التشكك، وإنما هو عقيدة إيجابية بأن العالم آلة كبرى. أما إذا كانوا من علماء النفس فهم يسيرون من التفرقة البريئة التي يفرق بها لوك بين الصفات الأولية والصفات الثانوية إلى بناء إنسان متكامل على أساس الإحساسات التي تؤثر في نفس تسجل ما يقع عليها بطريقة آلية. أي إن جوهر نظريات السلوكيين في القرن العشرين، ونظريات أفعال الشرط المنعكسة، وما إليها، كان معروفا لهم. وكان هلفيشيس وهلباخ يلتقيان عند وجهة النظر التي تتلخص تلخيصا واضحا في عنوان كتاب من وضع زميل أقل شأنا، وهو «الإنسان والآلة» لمؤلفه لامتري. وإن كانوا من الاقتصاديين ساروا مع الفيزيوقراط الفرنسيين (الذين يعتقدون في الحكم طبقا لنظام الطبيعة) ليصوغوا إحدى البسائط الكبرى في عالمنا، وهي قاعدة قوية وإن تكن مبسطة، وتلك هي «دعه يعمل، دعه يسير»، أو ليضعوا الشعارات التي شاعت طويلا بين الجماهير مثل «خير حكومة هي التي لا تحكم إلا في القليل، وبأقل التكاليف». أما آدم سميث الذي نشر كتابه «ثروة الأمم» أول الأمر في عام 1776م، وأما المجموعة الاسكتلندية عامة، فهم استثناء للقاعدة التي ذكرنا. وكان سميث معتدلا، رجلا ينتمي بمزاجه إلى الرعيل الأول من حركة التنوير، ولم يكن يعتقد اعتقادا مذهبيا في المنافسة الاقتصادية الحرة المطلقة. وقد كان أتباعه هم الذين بسطوا مبادئه وجعلوها «فردية صارمة». أو بظهور روسو أخيرا استطاع هذا الجيل الثاني أن يندفع في النفور العاطفي الكامل من بيئته الاجتماعية والثقافية، ويسعى إلى تجديدها تجديدا كليا طبقا لما تمليه «الطبيعة» التي كانت تنادي الفلاحين السذج، والمتوحشين البدائيين، والأطفال، والأدباء من أمثالهم، نداء واضحا جليا.
ولما صعد الجيل الثالث كان العنصران اللذان قد سادا في عصر التنوير أخيرا - وهما الكلاسيكي العقلي والرومانتيكي العاطفي - قد تم نضجهما. وفي السنوات الحرجة التي سبقت الثورة الفرنسية تضافرت هاتان النظرتان، أو هاتان المجموعتان من الأفكار، على الأقل لكي يحطما النظام القديم، وسوف نحاول في فصل مقبل تحليلا أكثر تفصيلا لأهمية الحركة الرومانتيكية، التي نجدها على أكملها عند روسو. ويكفينا هنا أن نذكر أن المذهب العقلي والرومانتيكية قد ارتبطا في العقل ارتباطا لا انفصام له عند أكثر رجال الغرب في عصر التنوير في القرن الثامن عشر. ولم يتفق العقل والعاطفة فقط على إدانة الوسائل القديمة للنبلاء والقسس وغير المستنيرين عامة، بل لقد اتحدا في كثير من العقول لاعتماد الطريقة الجديدة، وهي «حكم الأغلبية الذكية صاحبة القلب الطيب من الرجال الذين لم يلحقهم الفساد». والواقع أن الرجل «الطبيعي» من الأتباع السذج لحركة التنوير كان فاضلا بالطبيعة وعاقلا بالطبيعة في آن واحد، فكان قلبه ورأسه سليمين.
ولست أزعم هنا أن الفوارق بين روسو والعقليين لم تكن قائمة. بل لقد كانت فوارق حقيقية، والتعبير عنها ناصعا، وهي تستحق الدراسة وكانت الرومانتيكية ثورة على التعقل. ولكن من الأهم لنا أن نلاحظ أن الثورة كانت ثورة الطفل على أبيه - وهو طفل على شبه كبير بالأب. والمشابهة تنحصر في أمر أساسي؛ ذلك أن كليهما نبذ فكرة الخطيئة الأولى، وكلاهما آمن بأن الإنسان على الأرض يمكن أن يصلح حاله إلى ما لا حد له - وأنه يستطيع أن يحيا الحياة الطيبة - إذا حدثت تغيرات بيئية معينة.
إن جيلا ثالثا قد استمع إلى صاحب المذهب العقلي وصاحب المذهب الرومانتيكي على السواء، وهو الذي صنع الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وأعاد بناء بريطانيا بغير ثورة، ووضع أسس النظرية الكونية المتقدمة التي عرفها القرن التاسع عشر . ولقد كان هؤلاء الرجال من صنوف متنوعة، ليسوا على اتفاق بأية حال من الأحوال. والواقع أنهم ضربوا مثلا كلاسيكيا في أوج الثورة الفرنسية للنزاع حتى النزع الأخير، في سبيل السلطة - من غير شك - ولكنها السلطة المجسدة في الأفكار. وإذا أنت أردت أن تبحث عن العامل المشترك بين جون آدمز، وتوماس جفرسن، وتوم بين، ولافييت، ودانتون، وروبسبيير، وفرانسيس بلاس، ولورد جراي، وغيرهم من قادة هذه الحركة، لشق عليك الأمر في غير جدوى. وسوف نكتفي هنا بمحاولة الإشارة إلى الخطوط العريضة لما يمكن أن تكون عليه نظرة الشاب العادي المتعلم، المتطلع إلى الأمام، في أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي، نظرة مثل هذا الشاب نحو العلاقات الإنسانية، ونحو المجتمع بأوسع معاني الكلمة.
مثل هذا الشاب هو بالضرورة شخص خيالي. وحتى في القرن الثامن عشر الذي سادت فيه النظرة العالمية كانت هناك طوابع إقليمية ووطنية ثابتة؛ فالشاب الأرستقراطي الروسي المستغرب الذي يقرأ فولتير بالفرنسية لم يكن يشبه في الكثير الفتى اليانكي (من شرقي الولايات المتحدة) الذي يكتشف في لوك وفي الإنجليز المعتقدين في الألوهية دون الوحي كيف أن قسيس كنيسته يخطئ حين يذكر نار الجحيم. والشاب الجرماني خاصة كان حتى عندما حل عام 1780م ذلك الجرماني الروحاني العميق المتسائل الذي لا يقنع قط بالتعقل الضحل الذي نادى به جيرانه وأعداؤه الفرنسيون. وكان بالفعل في بداية الطريق الجرمانية التي تؤدي إلى شيء أكثر، وشيء أعظم، شيء لا يقاس، شيء مستحيل. ومهما يكن من أمر فسوف نتعرض كثيرا فيما بعد إلى القومية، وإنما ينبغي هنا أن نحاول في صراحة عملية تبسيط وتجريد.
وثمة كلمة أخرى لا بد منها قبل أن نحاول الكشف عن النظرية الكونية الجديدة. إننا نبلغ العصور الحديثة في كثير من النواحي بحلول القرن الثامن عشر، ومن المؤكد أننا لم تعد أمامنا مشكلة خطيرة بشأن «حقيقة» انتشار الأفكار بصورة ما بين الألوف، بل الملايين، الكثيرة، الذين لا يمكن أن نعدهم من بين المفكرين، أو من بين الطبقات الحاكمة مهما ضاق معنى هذا الاصطلاح، وهناك مشكلات عديدة لم تحل تتعلق بطبيعة انتشارها. والواقع أن هناك جميع المشكلات، من حيث الجوهر، التي تواجهنا اليوم عند دراسة الرأي العام. ولكنا نعلم على الأقل أنه كان هناك رأي عام، ولدينا بعض الأدلة التي تثبت العقائد التي كانت سائدة.
كانت الصحافة في طفولتها عند مستهل القرن، بالرغم من أنها في نهايته بلغت شكلا يشبه صورتها الحديثة، وبخاصة في إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا. وقد كانت الرسالة الرخيصة أو العجالة القصيرة خلال القرن الثامن عشر تعني أن الكلمة المطبوعة يمكن أن تنتشر انتشارا واسعا. وبقيت الكتب مكلفة نسبيا، غير أن المكتبة الدورية التي كانت تتناوبها النوادي الاجتماعية وبعض الفئات الأخرى المتطوعة كانت في بدايتها. وبدأ تعلم الكتابة والقراءة الآن ينتشر بين عدد لا بأس به من السكان في بلاد الغرب. ولم يكن بوسع الجماهير حينئذ أن تقرأ، وإن كان العمال المهرة في البلدان المتقدمة استطاعوا والقرن الثامن عشر يشرف على نهايته أن يقرءوا. وقد قرءوا. ولم يبق على جهل تام بالقراءة والكتابة سوى جمهرة أهل الريف. وقد يسرت الثورة الفرنسية لهم إمكان البدء في تعلم القراءة والكتابة. والمهم هنا - على أية حال - هو وجود طبقة وسطى قوية قارئة، تبلغ كما قيل الملايين العديدة، وتخلص لأفكار حركة التنوير، في كل هذه الأقطار.
وأخيرا شهد القرن الثامن عشر نضج عملاء انتشار الأفكار، ويعد هؤلاء العملاء من خصائص العصر الحديث، وليس بوسعنا أن نخضعهم جميعا لاسم واحد - فقد كانوا يتمثلون في فئات متطوعة تنتظم أحيانا لهدف معين، مثل الجماعة المتأخرة المعادية للصالونات في الولايات المتحدة، وأحيانا لطقوس اجتماعية وتأمين اجتماعي، مثل الجماعات الأخوية العديدة، وأحيانا لمجرد التسلية، مثل جماعات الحديث غير الرسمية التي يسميها الفرنسيون ب «الصالونات». والواقع أن المجتمع الغربي في القرن الثامن عشر كان يتميز بوفرة وجود الجماعات. ولما أخذ القرن الثامن عشر يميل إلى الزوال، وبخاصة في فرنسا، أصبحت كل هذه الجماعات في الواقع - حتى تلك التي بدت منها بعيدة عن تاريخ الأفكار، كجماعة «الطباق» (أي نادي التدخين) - عوامل لانتشار الأفكار الجديدة، التي كانت في الواقع ثورية في ذلك الحين. وبطبيعة الحال كان هؤلاء البورجوازيون يتغزلون، ويرقصون، ويلعبون الورق، وينغمسون في الحديث التافه، ولكنهم كانوا على الأرجح يمزجون مع ذلك جهدا ثقافيا أشد خطرا مما كانت تألفه أمثال هذه الجماعات. وحتى مسراتهم كانت تتسم بما كان العصريون منهم يسمونه «الوطنية»، وهي ليست وطنية بمفهومنا، وإنما هي الإخلاص لحركة التنوير. وعند الفرنسيين لعبة من ألعاب الورق، وهي شكل من أشكال «لعبة الهويست الإنجليزية» يسمونها «البوسطون» نسبة إلى المدينة التي وقفت في الثمانينيات من القرن الثامن عشر موقفا جريئا للدفاع عن الآراء الجديدة.
إيمان المستنير
إن التغير الذي طرأ على نظرة أهل الغرب إلى العالم وإلى كل ما فيه كان - بأوسع المعاني - تغيرا من الفردوس كما تراه المسيحية فوق الطبيعة بعد الموت إلى الفردوس الطبيعي المعقول فوق هذه الأرض، وفي الوقت الحاضر - أو على الأقل بعد فترة وجيزة. غير أن أوضح طريقة نتحقق بها من عظمة هذا التحول هي أن نبدأ بمبدأ أساسي حديث جديد بغير نزاع - وهو مبدأ التقدم. إن العقيدة في التقدم، بالرغم من الحربين العالميتين اللتين وقعتا في جيلنا، وبالرغم من الأزمة الاقتصادية الخطيرة في الثلاثينيات، لا تزال تمثل جانبا من الأسلوب الذي ينشأ عليه الشباب الأمريكي، حتى إن القليل جدا من الأمريكيين من يدرك كيف أن هذه العقيدة كانت غير مسبوقة. وقد أحس الناس - بطبيعة الحال - من قديم الزمان أن هناك طريقة «تفضل» الأخرى في أداء عمل ما. وعرفوا تحسنا معينا في الحيل الفنية، كما كانوا - فوق كل شيء - كأعضاء في جماعة على وعي بأن الجماعة الخاصة التي ينتمون إليها هي في حالة ازدهار، أو حالة انحطاط.
ولكن دعنا نستعرض في إنجاز ما عرفناه عن أثينا في القرن الخامس. هنا كان قوم في غمرة عمل جماعي عظيم، قوم على وعي تام بأنهم يؤدون أعمالا كثيرة بطريقة أفضل مما كان أسلافهم يؤدونها بها. ويكاد ثيوسيديد يسمي حرب البلبونيز حربا «أضخم وأفضل» من أي حرب قاتل فيها الناس من قبل. وفي خطاب التأبين الذي ألقاه بركليز لمسة من لمسات «الغرفة التجارية» كما نعرفها اليوم. ولكنك لا تجد مع ذلك فكرة واضحة عن التقدم كجزء من نظام الكون، أو كعملية تطور من الأدنى إلى الأعلى، في تلك السنوات من ثقافة أثينا الواثقة بنفسها، ولو أنت وجهت نظرك إلى الأوجه الأخرى من التاريخ القديم والوسيط لوجدت ما هو أقل من ذلك مما يشبه أن يكون مبدأ للتقدم.
نعم إنك تجد مشروعات عديدة منظمة لمصير الإنسان. وقد وضعت الأساطير الشائعة الوثنية في حوض البحر المتوسط أسعد عصور بني الإنسان وأفضلها في الماضي البعيد، في عصر ذهبي، عصر أبطال، عصر الترجمة العبرية له هي جنة عدن التي نتخيلها جميعا. وشاعت بين المثقفين في العالم الإغريقي الروماني أفكار دقيقة متنوعة عن سير التاريخ، وبخاصة سلسلة من النظريات الدورية، ومن أكثر هذه النظريات قبولا وانتشارا - على سبيل المثال - نظرية العصر الذهبي الذي يتلوه عصر فضي، يتلوه عصر حديدي، تحل بعده الكارثة، ثم عصر ذهبي جديد، وبعد ذلك تدور الدورة مرة أخرى - عالم بغير نهاية. ومن المحتمل جدا أن تكون لبعض هذه الأفكار صلة بالأفكار الهندية التي تتعلق بتناسخ الأرواح، وتكرار الحدوث إلى ما لا نهاية، وما شابه ذلك، وأنها تشير إلى لقاء بين الشرق والغرب لولاها ما عرفناه. وهي - بطبيعة الحال - لا تشبه قط أفكارنا عن التقدم. وكان يعتقد فيها بصفة خاصة قوم يحسبون أنهم يعيشون في عصر حديدي. وهي باختصار بالنسبة إلى المؤمنين بها شبيهة بالأفكار التي كانت تعتقد في عصر ذهبي سابق، التي تقوم على عقيدة في «التدهور» أو الانحلال، لا على عقيدة في التقدم.
وقد ذكرنا من قبل أن المسيحية التقليدية لم تكن لديها نظرية عن التقدم في الطبيعة في هذه الدنيا - على الأقل بالصورة الواضحة التي اتخذتها هذه النظرية في عصر التنوير، وسوف نعود في نهاية هذا الفصل إلى المشكلة الدقيقة العويصة، مشكلة العلاقات بين عقيدة المسيحية التقليدية والتنوير. ويمكن أن نذكر هنا عرضا أن العلاقة وثيقة جدا في الواقع، وأن التنوير في حقيقته ابن المسيحية - وهو ما قد يفسر لزماننا المتأثر بفرويد لماذا كان التنوير على عداء شديد بالمسيحية التقليدية، بل إن في المسيحية أساسا عاطفيا لا يفترق كثيرا عن الاعتقاد في التقدم. ومهما يكن من أمر فإن النظرية الكونية الرسمية للمسيحية التقليدية أقرب بشكل واضح إلى الآراء الوثنية بالنسبة إلى مسير الإنسان فوق الأرض منها إلى آراء عصر التنوير، وكان الأفضل أولا - وهو حالة البراءة قبل سقوط آدم. ثم هوى الإنسان، وهو لا يستطيع أن يعيد إقامة الجنة على الأرض. إنه يستطيع حقا أن يرفع من شأن نفسه، ولا يكون ذلك بأية «عملية» فعلية، أو حتى بأعمال تاريخية على الوجه الصحيح، وإنما يكون بمعجزة تتجاوز الطبيعة، وهي الخلاص عن طريق نعمة الله. إن الفردوس لا يمكن قطعا أن يقوم فوق هذه الأرض.
وقد لاحظنا في «النزاع بين القدماء والمحدثين» في أواخر القرن السابع عشر بداية الجدل العام بين المفكرين في هذه الأمور، والمبدأ - وهو في خطوطه العريضة شديد الشبه بالآراء الشعبية عن التقدم عند الأمريكيين - يتسرب بسرعة شديدة في الثقافة الغربية في القرن الثامن عشر، وإن لم يكن قبوله بالإجماع بأية حال من الأحوال، وبغير معارضة بتاتا. وتستطيع أن تلتمس عند فولتير - على سبيل المثال - من البراهين ما يدل على أنه آمن بالدورات، التي يكون فيها عام 1750م «أدنى» في الدورة من عصر لويس الرابع عشر، كما تستطيع أن تجد من الدلائل على نظرية إيمانه بالتقدم - وذلك في عصره، عصر التنوير. وفي نهاية القرن الأخير على أية حال يعطينا كتاب كوندورسيه «تقدم الروح البشرية» وصفا كاملا شاملا للخطوات العشر التي رفع الناس بها أنفسهم من الهمجية الأولى إلى حافة الكمال فوق الأرض. إن هذه الفلسفة للتاريخ التي تنصهر فيها «المدينة المقدسة» ب «المدينة الأرضية» من غير تمييز جاءت بعد ألف وخمسمائة عام بعد سنت أوغسطين.
وكوندورسيه غامض بعض الشيء فيما يتعلق بالطريقة التي يتم بها كل ذلك، وفيما يتعلق بالقوى المحركة التي تدفع الإنسانية من مرحلة إلى أخرى أعلى منها. ونستطيع أن نقول إجمالا إنه لم تكن هناك نظرية عامة مقنعة عن التقدم تحاول أن تفسر لماذا وكيف تحدث خطوات التقدم تفصيلا حتى أمست آراء داروين عن التطور العضوي في القرن التالي مرجعا في العلوم الاجتماعية. والتفسير الذي كان يؤثره المفكرون في القرن الثامن عشر هو أن التقدم يرجع إلى انتشار العقل، وإلى زيادة التنوير التي تمكن الناس من السيطرة على بيئتهم بطريقة أفضل.
وهنا نلمس في وضوح وجلاء الارتباط التاريخي بين التقدم العلمي والتكنولوجي وفكرة التقدم بالمعنى الخلقي والثقافي. بحلول القرن الثامن عشر كان عمل العلماء من كوبرنيكس إلى نيوتن قد تمخض عن مجموعة كبيرة من الأحكام العامة عن سلوك العالم المادي - وهي أحكام عامة كانت في عام 1750م معروفة للعامة على الأقل كمعرفتنا بالأحكام العامة عن النسبية وميكانيكا النشاط الذري. وكان من الواضح - فوق ذلك - أن هذه الأحكام العامة النيوتونية كانت أفضل وأصدق من أحكام أسلافه في العصور الوسطى. وأهم من ذلك أنه لما انتصف القرن كان نوع التقدم المادي - الذي ربما كان عند غير المفكرين مصدرا أثبت من العلوم البحتة للعقيدة في التقدم - واضحا ملموسا؛ فقد كانت هنالك طرق أفضل تطرقها العربات في رحلاتها كل عام أسرع من ذي قبل، وكانت هناك تحسينات واضحة منزلية كدورات المياه، بل لقد كانت هناك في نهاية القرن بداية غزو الفضاء. وكان الغزو حقا ناقصا في البالونات، ولكن في عام 1787م - برغم هذا - قام رجل فرنسي بمغامرة مميتة حديثة عندما حاول أن يعبر القنال الإنجليزي جوا. وأقول في إيجاز إن الرجل العجوز في القرن الثامن عشر يستطيع أن يرجع ببصره إلى طفولته فيراها زمانا لم تتوافر للناس فيه وسائل الراحة، أو الأدوات والآلات القادرة، ولم يرتفع فيه مستوى البيئة المادية، أو مستوى المعيشة، إلى الحد الذي كان ذلك عليه في شيخوخته.
ومهما يكن ما تدين به نظرية التقدم إلى نمو المعرفة التراكمية وإلى ازدياد القدرة عند الناس على إنتاج الثروة المادية من بيئتهم الطبيعية، فهي نظرية أخلاق، بل ميتافيزيقيات. إن الناس - طبقا لهذه النظرية - يصبحون أفضل، وأسعد، وأقرب إلى ما هدفت إليه المثل العليا في أفضل ثقافاتنا. وإن أنت حاولت أن تتابع هذه الفكرة عن التقدم الخلقي في تفصيلاتها المحسوسة، التقيت بشيء يشبه نوع الغموض الذي علق دائما بالآراء المسيحية عن الفردوس - وربما كان في هذا نفسه دليل يثبت صحة الفكرة التي تقول بأن مبدأ التقدم لا يعدو أن يكون كنظرية «الموت، والحساب، والجحيم أو النعيم» في صورة حديثة. والتقدم يسوقنا إلى حالة يكون الناس كلهم فيها سعداء، حالة ينتفي فيها الشر، وهو يسوقنا إلى ذلك طبقا لفكرة القرن الثامن عشر الأصيلة عن التقدم في سرعة زائدة، خلال جيل أو جيلين من الناس. وليست هذه السعادة مجرد الراحة البدنية بأية حال من الأحوال. ولا نبعد عن الدقة إذا قلنا إن أكثر أولئك الذين تحدثوا عن التقدم وإمكان كمال الإنسان في القرن الثامن عشر كانوا يفكرون في حدود قريبة من الأخلاق المسيحية والإغريقية والعبرية المتأخرة وفي حدود السلام على الأرض لمن كانت نيته طيبة من الناس، وانتفاء كل الرذائل التقليدية، ووجود الفضائل التقليدية.
ويكفينا هذا عن الأساس العريض للإيمان بالتقدم فوق هذه الأرض وقد كان هذا التقدم سيتم بانتشار العقل. وكان العقل للرجل العادي في عصر التنوير الذي نحاول هنا أن نتتبعه هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد. العقل هو الذي يسوق الناس إلى فهم الطبيعة (وهذه عنده هي كلمة السر الثانية الكبرى)، وبفهمه للطبيعة يصوغ سلوكه طبقا لها، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التي قام بها في ظل أفكار المسيحية التقليدية الخاطئة وما يحالفها في الأخلاق والسياسة مما يناقض الطبيعة. والعقل في ذلك الحين لم يكن شيئا ظهر في الوجود فجأة حوالي عام 1687م (وهو تاريخ نشر الفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضة لنيوتن). ولا بد من الاعتراف بأنه كان هناك من المحدثين المغالين من كاد يعتقد أن كل ما سبق حوالي عام 1700م كان سلسلة ضخمة من الأخطاء، كان تخبطا من الإنسان المرتبك في حجرة مظلمة. ولكن المفكر المتوسط المستنير كان يميل إلى أن يعزو إلى الإغريق والرومان القدامى فضل تمهيد الأرض تمهيدا طيبا، وإلى الاعتقاد بأن ما نسميه النهضة والإصلاح الديني قد بدأ مرة أخرى يطور العقل. وفي الكنيسة - وبخاصة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى وخلفائها - وجد المستنيرون مصدر الظلام، أو كبح الطبيعة كبحا غير طبيعي، وجدوا - في عبارة موجزة - الشيطان الذي ليس لأي دين غنى عنه، وسوف نعود إلى هذا الموضوع؛ لأن له أهمية قصوى. وأما الآن فيكفينا أن نسجل أن الرجل المستنير كان يعتقد أن العقل شيء يمكن لكل امرئ أن يسايره، فيما خلا قلة بائسة معيبة. كان العقل مكبوتا، بل كان ضامرا، بفعل سيطرة المسيحية التقليدية أمدا طويلا. أما الآن في القرن الثامن عشر فإن العقل يستطيع مرة أخرى أن يسترد سلطانه، وأن يؤدي لكل الناس ما أداه لرجال من أمثال نيوتن ولوك. واستطاع العمل أن يبين للناس كيف يسيطرون على بيئتهم وعلى أنفسهم.
لأن العقل استطاع أن يبين للناس كيف فعلت الطبيعة فعلها، أو كيف تفعل الطبيعة فعلها إذا كف الناس عن الوقوف في سبيل هذا الفعل بنظمهم وعاداتهم غير الطبيعية. إن العقل يستطيع أن يبصرهم بالقوانين الطبيعية التي كانوا يخرجون عليها في جهالتهم؛ فكانوا مثلا يحاولون بالتعريفة الجمركية وقوانين الملاحة، وجميع ضروب اللوائح الاقتصادية، أن «يحموا» تجارة بلادهم، وأن يكفلوا لبلدهم نصيبا أوفر من الثراء. ولما سلطوا العقل على هذه الأمور استطاعوا أن يدركوا أنه لو أمكن لكل امرئ أن يسير وفقا لمصلحته الاقتصادية الخاصة (أي عمل عملا طبيعيا)، فاشترى بأرخص الأثمان وباع بأعلى الأثمان لتوافر بتطبيق العرض والطلب تطبيقا حرا (طبيعيا) الحد الأقصى من إنتاج الثروة. ولأدرك أن الحواجز الجمركية، بل وكل محاولة لتنظيم النشاط الاقتصادي بالعمل السياسي، إنما تؤدي إلى إنتاج «أقل» ولا ينفع إلا قلة صغيرة تحصل بذلك على احتكار «غير طبيعي».
وكذلك حاول الناس عدة أجيال أن يطردوا أو يخرجوا الشياطين التي كانوا يعتقدون أنها تسكن في المجانين بطريقة ما. فكانوا يلهبون المجنون المسكين بالسياط، ويربطونه، ويقومون بكل ضروب الطقوس لكي يطردوا الشياطين، ولكن العقل الذي يتسلط على مشكلات الدين يستطيع أن يبين للناس أنه ليس هناك شياطين. والعقل الذي يعمل على مستوى البحوث الطبية والسيكولوجية يستطيع أن يثبت أن الجنون اضطراب طبيعي في العقل (وربما في البدن) يؤسف له، هو باختصار «مرض» يمكن أن يعالج أو يخفف على الأقل بمزيد من استخدام العقل.
وأخيرا، كان الرجال والنساء لعدة قرون يلتحقون بنظم الأديرة، ويقسمون على الطهارة، والطاعة، والفقر ويحيون حياتهم رهبانا أو راهبات. والعقل يبين أن الرهبان وإن كانوا ربما طهروا الحقول وجففوا المستنقعات في نشأتهم، وإن كانوا ربما لا يزالون يؤدون أعمالا نافعة بين الحين والحين، إلا أن الرهبانية على وجه العموم تعني إسرافا عظيما في قدرة الإنسان الإنتاجية. وأوضح من ذلك أن العقل يبين أنه من غير الطبيعي للكائنات البشرية صحيحة البدن أن تمتنع بتاتا عن الاتصال الجنسي، وأن التبرير الديني لمثل هذا السلوك غير الطبيعي كان هراء كهراء فكرة الشياطين التي تستولي على المجنون. ولما قضى العقل على الرهبانية بدا هذا النظام مثالا نموذجيا للعقائد الفاسدة، والعادات السيئة، وطرق الأداء السيئة. ولا بد أن تختفي الرهبانية في المجتمع الجديد.
تضافر كل ذلك عند الرجل المستنير لبناء نظام يفسر العالم. وقد ذكرنا عن هذا النظام من قبل اصطلاحا نافعا، هو «العالم الآلي النيوتوني». وقد شرع المستنيرون - وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات البشرية - في فهم هذه الآلة الجديدة. وبفضل نيوتن وأسلافه فهموا النظام الشمسي، والجاذبية، والكتلة، بل وكل العلوم الطبيعية في خطوطها العريضة. ولم يكن البحث مطلوبا إلا لمجرد إمداد التفصيلات. أما فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية فإنهم لم يبلغوا فيها بعد مستوى نيوتن، بالرغم من أنهم عرفوا ما يكفي أن يدلهم على أن أسلافهم غير المستنيرين - تحت تأثير المسيحية التقليدية - كانوا مخطئين كل الخطأ في إدراكهم للعلاقات الإنسانية، بل وقد وضعوا مجموعة من القوانين والنظم ناقصة على أحسن الفروض، مرذولة على أسوئها. إن مستوى نيوتن في العلوم الاجتماعية كان لا يزال مختفيا، ولم يظهر بعد الرجل الذي يلخص معرفة المستنير في علم اجتماعي منظم ليس على الناس إلا أن يطبقوه لكي يكفلوا لأنفسهم العصر الذهبي الحقيقي، والفردوس الواقعي - الفردوس الذي يقع أمامنا لا وراءنا.
إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية، فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة - الذي حدده الأسقف أشر بعام 4004ق.م - وتاريخ قصة الطوفان بعيد الاحتمال. ولكن لم تكن هناك حاجة إلى أن ينتظر الناس نمو المعرفة الجيولوجية. خذ مبدأ التثليث في المسيحية مثالا. إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ؛ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحدا في آن واحد . أما عن المعجزات، فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول فلماذا لا يحيى في القرن الثامن عشر؟ وهكذا في الجدول الذي نألفه اليوم، والذي كان جديدا وجريئا في ذلك الحين.
ولكن أولئك الذين لم يهتز إيمانهم بالمسيحية التقليدية لم يتخلوا - على أية حال - مرة واحدة عن فكرة الله. وأكثر المستنيرين في النصف الأول من القرن، ومن بينهم شخصيات عظيمة كفولتير وبوب، كانوا - على الأقل أمام الجمهور - يؤمنون بوجود الله مع عدم الوحي، وأصبح هذا المذهب عقيدة محسوسة عن العالم ومحددة إلى درجة كبيرة. وإذا استثنينا بعض المجادلات في ذلك الحين وبعده، فإن هذا المذهب لا يرادف الإلحاد أو التشكك (أو اللاأدرية). وينبغي أن نفرق بين هذا المذهب والعقيدة في وجود الله مع الإيحاء به إيحاء من وراء الطبيعة؛ إذ إن هذا المذهب الأخير يعني وجود إله أكثر تشخيصا، إله لا يتحتم أن تكون له صفات الإنسان، ولكنه كامن على الأقل بمعنى من المعاني، وجدير بأن نصلي له وندعوه. هذا المذهب مستمد من مذهب وجود الله في كل مكان وتغلغله في كل ذرة من ذرات العالم، ومن المثالية الفلسفية التي تتحدث عن الروح أكثر مما تتحدث عن الله. والواقع أن المعتقدين بوجود الله مع نفي الوحي على يقين ثابت بوجوده، مهما يكن هذا الإله بعيدا باردا. هذا المذهب هو أقرب انعكاس ممكن واضح لعالم نيوتن الذي يخضع للنظام، ويدور وفقا للقانون، والإله في هذا المذهب هو الشخص المسئول عن التدبير، والبناء، وتحريك هذا العالم الآلي؛ إذ كيف تكون هناك آلة بغير صانع لها، ونتيجة بغير سبب؟ وفي الاصطلاح الفني نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا المبدأ أثبتوا وجود الله بحجتين قديمتين، الحجة المستمدة من «السبب الأول»، والحجة المستمدة من ضرورة «التدبير» قبل التنفيذ. ولكن بعدما يدير هذا الإله الذي لا بد منه العالم الآلي، يكف عن أن يصنع به أي شيء. هذا الإله الذي يشبه صانع الساعة صنع هذا العالم الذي يشبه الساعة، وأدارها إلى الأبد، وأراد لها أن تدور إلى الأبد، طبقا للقوانين التي أوضحها المستر نيوتن من قبل. إن الناس في هذا العالم متروكون وشأنهم لقد خلقهم الله جزءا من آلته، ودبر لهم أن يحيوا حياتهم مع إمدادهم بالموهبة الخاصة التي تدلهم على أن يعرفوا كيف يسيرون في الحياة باستخدام عقولهم، ومن الواضح أنه ليست هناك فائدة من الصلاة لهذا الإله الذي يشبه صانع الساعة، والذي لا يستطيع - حتى إن أراد - أن يتدخل فيما صنعت يداه. ومن الواضح أن هذا الإله لم يظهر لموسى في صحراء سيناء، ولم يرسل ابنه الأوحد إلى الأرض ليخلص الناس المذنبين - بل لا يمكن أن يكون له ابن.
والواقع أنه بدا كإله لا ضرورة البتة له، نوع من الإله الذي لا يفعل شيئا. ومجرد أن الناس ارتضوا لأنفسهم إلها لا يشبع العواطف إطلاقا مثال شائق للطريقة التي لا بد أن تتم بها التطورات العقلية تدريجا؛ لأن الوثبة من إله مسيحي إلى عدم وجود الإله كانت مستحيلة. ولكن مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي كان نوعا من أنواع التوفيق الذي لا يرضى، لا يكفي لإقناع العقل أو إشباع العاطفة. وتنم حكمة فولتير الشهيرة عن الله وهي: «إذا كان الله غير موجود فلا بد من اختراعه» عن ضعف قاتل. ولكن المجددين الثائرين من الجيل التالي لم يروا ضرورة لاختراعه؛ فقد كانوا بالفعل يألفون عن طريق الرياضة فكرة اللانهائي. ومن الممكن أن يكون العالم الآلي أزليا أبديا، على الأقل بمقدار ما يمكن للناس كبشر أن يعرفوا. وكيف يمكن لأي امرئ أن يعرف أن هناك إلها بعيدا عنه كما يتصور أصحاب مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي؟ إذا كان الله يخرج كلية عن العالم المخلوق فكيف يكون في الداخل أو حتى في داخل عقولنا كفكرة من الأفكار؟ من الواضح أنه لم يكن إلها ليس منه بد؛ فالطبيعة تكفي - وهذا العالم الكبير لا يمكن أن يتوافر لنا الوقت الكافي لدراسته في أبديته، وإذن فلنكف عن شغل عقولنا بالله، ولنجعل ديانتنا ديانة عقل، نظاما من الأخلاق يخلو من كل هراء علوم الدين.
هذه على الأقل كانت نظرة العصاة المعتدلين، الماديين الذين رأوا أن الله لا ضرورة له. وجاوزهم آخرون، ورأوا أن الله شر إيجابي، وبخاصة إن كان إله الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وأطلقوا على أنفسهم في تبجح اسم الملحدين، أو قوما لا إله لهم، ولم تكن عقيدتهم عقيدة شك؛ فقد عرفوا إن إله المسيحيين لا وجود له، وعرفوا أن العالم عبارة عن نظام من المادة في حركتها، يمكن أن يفهم فهما كاملا باستخدام العقل البشري على أسس القواعد التي وضعتها العلوم الطبيعية. وكانت ماديتهم - كما كان إلحادهم - عقيدة إيجابية، ولم تكن صورة من صور التشكك. كانت شكلا معينا من أشكال الإيمان، ونوعا من أنواع الدين. وهذه العقيدة الإيجابية في عالم تمكن معرفته، عالم يتكون في النهاية من ذرات من المادة، بقيت منذ ذلك الحين عنصرا من عناصر الثقافة الغربية. ومع ذلك فإن أحدا لا يعرف بتاتا على وجه الدقة كم من الناس من قبل ولا يزال يقبل نوعا من أنواع هذه العقيدة.
إن أصحاب مذهب الاعتقاد بوجود الله مع إنكار الوحي، والملحدين، على السواء نبذوا المسيحية المنظمة كما كانت في زمانهم. كان القرن الثامن عشر هو القرن العظيم الذي عارض الأكليروس، القرن الذي أمكن فيه أن يعبر المرء صراحة عن كل ضروب العداوات والإحن ضد المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية ، وذلك بفضل «روح العصر» في عهد التنوير، وبفضل الطباعة الرخيصة، وللتهاون في الرقابة، ولعدم كفاية الشرطة، وبفضل الموافقة بارتياح التي قابلت بها الطبقات الحاكمة القديمة هذه الهجمات على الديانة القائمة. وما كان مشروعا في ذينك القطرين المتحررين تحررا مذهلا، إنجلترا وهولندا، كان يتسرب في يسر إلى فرنسا وولايات ألمانيا. ولأول مرة منذ الإمبراطورية الرومانية أحست المسيحية أنها تتعرض للهجوم الشديد في داخل ثقافتها ذاتها. ولما جاءت الثورة الفرنسية بلغ هذا الهجوم مرارة شديدة، وبخاصة في بلدان القارة الأوروبية. وعانى المسيحيون مرة أخرى الاستشهاد في سبيل العقيدة، وكانوا هذه المرة يستشهدون على المقصلة.
وكان على كل المؤمنين بالدين الجديد، دين العقل - سواء أكانوا من المؤمنين بالله دون الوحي أم من الماديين - أن يتصارعوا مع مشكلة الشر، حتى وإن نبذوا الإله المسيحي. وكانت بالنسبة إليهم مشكلة معقدة. إنهم افترضوا وجود عالم آلي، الإنسان جزء منه بالتأكيد، وهذا العالم يسير وفقا لقوانين الطبيعة، وكذلك افترضوا وجود قدرة عند الإنسان، أطلقوا عليها اسم العقل، يستطيع الناس بممارسته أن يفهموا هذه القوانين الطبيعية، وهي قوانين منظمة مضبوطة. ويستطيع الناس بالانصياع في سلوكهم لهذه القوانين الطبيعية أن يعيشوا معا في سلام وسعادة. ولكنهم حيثما صالوا في عالم القرن الثامن عشر وجدوا نضالا وبؤسا في كل مكان، ورأوا كل صنوف الشر، فهل هذه الشرور مما يتفق وقوانين الطبيعة، الطبيعة الرحيمة؟ كلا، بالتأكيد؛ فهي غير طبيعية على الإطلاق، فكان المستنيرون مشتغلين بطبيعة الحال باقتلاعها. ولكن كيف تسنى لهذه الشرور أن تظهر؟ كيف تسنى لغير الطبيعي أن يمسي طبيعيا؟ وكيف أصبح الأعلى أدنى؟
لقد التقينا بهذه المشكلة من قبل عند دراستنا للمسيحية. بيد أن المسيحية كان لها على الأقل شيطانها، بالرغم من صعوبة التوفيق بين وجود الشيطان والخير عند الله. وأما أولئك الذين قبلوا النظرية الكونية، نظرية العالم الآلي النيوتوني فقد كانت أمامهم مشكلات أشد تعقيدا عندما أعلنوا - أو على الأقل برروا - رغبتهم الواضحة في تعديل أو تحسين شيء هو بالفعل كامل أوتوماتيكي مقرر. والواقع أنه ليس من السهل في أي مذهب طبيعي يقول بوحدانية الكون أن يحدث تحول إلى غير الطبيعي. ولم يكن روسو نفسه معجبا بالعالم الآلي النيوتوني وبالعقل، فإن الطبيعة التي كشفها في صميم جميع الأشياء كانت هي الشفقة المشوبة بالمحبة، الشفقة التلقائية الصادرة من القلب، الشفقة كما يظهرها الأشخاص البسطاء غير الفاسدين، كالأطفال، والهمجيين، والفلاحين. وقد وجد هذه الحالة الطبيعية - فوق كل شيء - في الماضي، قبل أن تأتي المدنية بالفساد. وفي كتابه «بحث في أصل التفرقة» يحاول روسو أن يصف أصل الشر. إن أول رجل جرؤ على أن يقتطع من الملكية العامة رقعة من الأرض، ويقيم حولها سورا، ويقول: «هذه لي.» - ذلك هو الوغد المسئول عن نهاية حالة الطبيعة. ولا يفسر روسو «لماذا» تصرف ابن الطبيعة هذا بهذه الطريقة غير الطبيعية.
وإذا كان المستنيرون قد عجزوا عن حل مشكلة أصل الشر، فقد كانت عندهم أفكار ثابتة جدا عن الخير والشر في عصرهم. وعدوا الشر نموا تاريخيا يتجسد في العادات والقوانين، والنظم - أي في البيئة، وبخاصة في البيئة الطبيعية؛ أي فيما صنع الإنسان بالإنسان. وأدركوا أن البيئة الطبيعية - وبخاصة بعد كتاب منتسكيو «روح القوانين» - كثيرا ما تكون قاسية مجدبة، أو ميسرة وافرة. وعرفوا أن بعض الأمراض لم تكن كلها فيما يظهر نتيجة البيئة الاجتماعية. ولكنهم تعشموا أن يتمكنوا من السيطرة على البيئة الطبيعية. والواقع أنهم تعشموا أن يسيطروا على البيئة الاجتماعية. وظنوا أن البيئة الاجتماعية لعهدهم كانت كلها تقريبا سيئة، سيئة إلى حد أنه ربما كان لا بد من القضاء عليها، في جذورها وفروعها. ولم يعتقدوا في الأغلب أن هذا القضاء سيكون عنيفا. فتنبئوا ب «ثورة فرنسية»، ولكنهم لم يتنبئوا ب «عصر إرهاب».
وعادلوا الشر بالبيئة، والخير بشيء كامن في الكائنات البشرية، وفي الطبيعة البشرية؛ فالإنسان يولد طيبا، فيجعله المجتمع سيئا. والسبيل إلى إعادته إلى الخير هو حماية هذا الخير الطبيعي من الفساد الذي يجلبه المجتمع. أو بطريقة محسوسة نقول إن السبيل إلى إصلاح الأفراد هو إصلاح المجتمع. والعقل يرشدنا إلى الطريقة. ولا بد من أن يخضع كل قانون، وكل عادة، وكل نظام لامتحان معقوليته. هل النبل الموروث معقولا؟ إن لم يكن كذلك فلا بد من إلغائه، وإن كان كذلك فلا بد من الإبقاء عليه. إن النبل الوراثي عندما يتعرض لحكم العقل كما يتصرف العقل في رءوس أكثر المستنيرين على الأقل في الثمانينيات من القرن الثامن عشر، يتبين أنه غير معقول؛ فكان من الأعمال الأولى التي أدتها «الجمعية الوطنية الفرنسية» التي دعيت لإعادة بناء فرنسا إلغاء ألقاب النبلاء.
وهنا نلتقي بشكل من الأشكال الكبرى التي تعرض فيها المشكلات الخلقية والسياسية نفسها للمحدثين، وهو الشكل الذي نعرفه جميعا ب «البيئة ضد الوراثة»، وقد يعلن امرؤ حينا بعد حين في ثبات أنه يرى أن الحرب وما يترتب عليها من آلام وقسوة «شيء طيب»، ويشكو غيره من أن أسباب راحتنا المادية «شيء سيئ»، غير أن أهل المجتمع الغربي يتفقون في الأغلب على الخطوط العريضة لما يرونه خيرا ولما يرونه شرا، وإنما يختلفون في تفسيرهم لإلحاح الشر. وتؤكد حركة التنوير، كما نؤكد نحن، باعتبارنا ورثة لها، قوة تأثير البيئة. ونميل إلى الاعتقاد - أقصد أننا نحن الأمريكيين نميل إلى الاعتقاد - أننا لو استطعنا أن نضع «التنظيمات» الصحيحة، والقوانين، والنظم، والتربية الصحيحة، لعاشت الكائنات البشرية بعضها مع بعض على صورة قريبة جدا من الحياة الطيبة. أما التقليد المسيحي فيميل إلى أن يعزو التفسير إلى الطبيعة البشرية؛ فالناس يولدون وفي باطنهم شيء يجعلهم يجنحون إلى الشر، فهم يولدون في الخطيئة. ومن الحق أن المسيحية ترى المخرج في إمكان الخلاص الذي جاء لنا به المسيح، ولكن هذا ليس معناه الاعتقاد في أثر البيئة، وليس معناه الإيمان بإمكان وضع القوانين ورسم خطط التربية ومناهجها.
ومن المهم هنا أن ندرك أن الاعتقاد الحديث في أثر البيئة - حتى في صورته المستبشرة الأولى - لم يذهب إلى التطرف غير المعقول. ولا يقول بأن الطفل الذي نختاره اختيارا عشوائيا من بين عدد من المواليد الجدد يمكن بتناولنا لبيئته أن يتشكل في أية صورة - فيكون ملاكما من الوزن الثقيل، أو موسيقيا عظيما، أو عالما من كبار علماء الطبيعة، لا يقول بذلك إلا رجل مجنون. نعم إن علم النفس في القرن الثامن عشر قد التقط الحبل من لوك واعتقد أن العقل البشري وعاء فارغ تصب فيه التجارب مضمون الحياة، ولكن حتى علم النفس الذي كان يرى أن العقل يولد صفحة بيضاء لم يفسر المساواة البشرية بالتماثل التام بين البشر. وإليكم عبارة لأحد الأبناء الصغار لمذهب تأثير البيئة الذي تميز به القرن الثامن عشر، وهو روبرت أوين: «إن أية صفة عامة - من أفضل الصفات إلى أسوئها، ومن أكثرها استنارة إلى أشدها جهالة - يمكن أن توهب لأي مجتمع، بل للعالم بأسره، بتطبيق الوسائل الصحيحة، وهي وسائل يتحكم فيها ويسيطر عليها - إلى حد كبير - أصحاب النفوذ في شئون الناس.»
والكلمة الرئيسية هنا هي لفظة «عامة»؛ فإن أوين لا يعتقد أنه يستطيع أن يبلغ نتائج معينة نوعية لكل فرد، وإنما هو يعتقد أنه يستطيع ذلك في مجموعات كبيرة، وهل هذا يبعد كثيرا عن الآراء التي تكمن وراء كل الجهود التي تبذل للتأثير في الناس وتكييفهم في الوقت الحاضر؟
والواقع أن الاعتقاد في أثر البيئة لا يزال ضروريا لكل من يتعشم أن يأتي في سرعة معقولة «وعلى نطاق واسع» بتغيرات في السلوك الفعلي للكائنات البشرية على سطح الأرض. وقل من الناس اليوم من يرى أن مثل هذه التغيرات يمكن أن يتم عن طريق تدخل قوى فوق الطبيعة، أو بالدين بمعناه التقليدي، ولا يمكن أن يؤمن بأن النتائج السريعة ممكنة بأي إجراء سلالي في الكائن البشري إلا رجل متهوس. إننا لا نستطيع أن «نولد» نساء ورجالا أفضل بسرعة عاجلة؛ إذ لا بد لنا أن «نصنع» النساء والرجال الأفضل من المواد الموجودة. وأورد هنا نصا آخر لأوين ينم عن تفاؤل حركة التنوير التي لم تظلمها عنده أهوال الثورة الفرنسية والحروب العالمية النابليونية: «وهذه الخطط يجب أن توضع لتدريب الأطفال منذ نعومة أظفارهم على العادات الطيبة من كل نوع (مما يحول بطبيعة الحال دون أن يكتسبوا عادات المغالطة والخداع)، ويجب أن يربوا بعد ذلك تربية عقلية، وأن توجه أعمالهم وجهة نافعة. إن مثل هذه العادات وهذه التربية تطبعهم بطابع الرغبة الملحة الفعالة في مزيد من السعادة لكل فرد، وأن يتم ذلك دون أي «ظل من ظلال الاستثناء» لطائفة من الطوائف، أو لحزب من الأحزاب، أو بلد من البلدان، أو جو من الأجواء. وهذه العادات وهذه التربية تكفل أيضا - مع أقل استثناء ممكن - الصحة، والقوة، ونشاط الجسم؛ لأن سعادة الإنسان لا تقوم إلا على أسس صحة البدن وهدوء العقل.»
برنامج حركة التنوير
إن رجال حركة التنوير لم يكونوا على اتفاق في الرأي كما قد يبدو لنا حتى الآن مما تقدم من تحليل. والواقع أن انقساما عظيما في صفوفهم، انقساما لم تلتئم ثغرته بعد، قد ظهر بوضوح في هذه الآونة؛ فإن كل المستنيرين لم يجمعوا على أن العقل ضد النبل الموروث، ومن المؤكد أنهم لم يجمعوا على الرغبة في الاستغناء عن التمييز الطبقي. وتبين من الوجهة العملية أن للعقل وسائل تختلف باختلاف الأفراد.
ويمكن أن تتبين التفرقة الكبرى في صفوف المستنيرين فيما كان بين أولئك الذين كانوا يعتقدون أن القلة النسبية من أصحاب الحكمة والموهبة - أصحاب النفوذ - يمكنها أن تعالج البيئة بحيث يصبح كل امرئ - معالجا أو معالجا - فردا سعيدا، وأولئك الذين كانوا يعتقدون أن كل المطلوب هو تحطيم البيئة القائمة، ومحوها محوا تاما، وعندئذ يتعاون كل امرئ تعاونا تلقائيا في خلق البيئة الكاملة. وكانت الفئة الأولى - مهما تشدقت بمثل الديمقراطية والحرية للناس أجمعين - في الواقع من أصحاب السلطان. وكانوا في المجال الخاص بالفكر والنظم السائدة في القرن الثامن عشر يميلون إلى أن يعقدوا آمالهم على الحكام العقلاء والموظفين المدنيين المدربين، أو على ما يسميه المؤرخون الحركة نحو «الاستبداد المستنير». أما الفئة الثانية فقد كانت تميل إلى الاعتقاد بأن الرجل العادي، الرجل من عامة الناس، الرجل في الحقل والشارع، شخص معقول سليم، كأكثر أفراد البشر. وقد أرادوا لأمثال هؤلاء أن يكونوا أحرارا في اتباع حكمتهم الفطرية. وكانوا يميلون إلى الإيمان بالطرق الديمقراطية ، وبالتصويت بالرأس، وبحكم الأغلبية. وكان المتطرفون منهم فوضويين متفلسفين يعتقدون أن كل حكومة سيئة، وأن لا بد للناس من إلغاء كل أنواع الحكومات.
ولدينا مثال واضح جدا لحقيقة هذين الموقفين المتعارضين، نلمسه في حياة جرمي بنتام، وهو من أقوى فلاسفة حركة التنوير أثرا. وقد فرغ بنتام في شبابه من وضع صيغة مذهبه النفعي واضحا، ومعقولا عند الكثيرين: قال إن كل شيء ينبغي أن يعمل للحصول على أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولما كان قد أرفق هذه الصيغة بطريقة - رضي عنها كما رضي عنها زملاؤه - ل «قياس» السعادة قياسا فعليا، فقد كان عنده ما كان بحاجة إليه ليقدم بيئة صالحة تحل محل البيئة الطالحة العتيقة. كانت لديه مشروعات الأعمال مدهشة في ميدان الهندسة الاجتماعية.
وكانت الفكرة الأولى عند بنتام أن يقوم بهذا العمل الذي اقترحه الطبقات الحاكمة في بريطانيا، وكبار اللوردات والتجار الذين عرفهم كذلك - وقد كان هو نفسه من أسرة تجار ناجحة، كما كان ضيفا كثير التردد على اللورد شلبيرن ذلك الرجل المفكر؛ فهؤلاء الرجال يطلعون ويتحدثون وهم أكفاء لما كان يجري في العالم المستنير. غير أن هؤلاء الرجال كانت لهم امتيازات خاصة في ظل النظام القديم - والواقع أنه كان من الواضح أن البيئة القديمة السيئة كانت تبدو لهم بيئة صالحة من الوجهة الشخصية - ووجد بنتام نفسه عاجزا عن حثهم على الأخذ بإصلاحاته المقترحة، ومن ثم نراه يشرع في بواكير القرن التاسع عشر في الاتجاه نحو الشعب، ولم يمض زمن طويل حتى تحول إلى ديمقراطي شديد الإيمان بالديمقراطية، متمسكا بحق الانتخاب للجميع، وبإجراء الانتخاب بين الحين والحين لضمان انتقال الحكم دوريا بين الأفراد، وببقية أجزاء دولاب الديمقراطية. عندئذ آمن بنتام بأن الجماهير ستقوم بالتعديل الذي لم يستطع أن يحث الطبقة الممتازة على القيام به. والجماهير بطبيعة الحال في حاجة إلى معلمين، وإلى قادة، ويخرج هؤلاء من بين صفوف فئة صغيرة نسبيا من أتباع بنتام المتعلمين من غير الأرستقراطيين، وقد أطلق عليهم اسم «الانقلابيين الفلسفيين». غير أن هؤلاء ليسوا إلا بمثابة رأس الحربة للديمقراطية، وليسوا فئة ممتازة من الحكماء تحتكر أعمال الحكومة.
وقد ذكرت منذ لحظة ذلك الانقسام الذي حدث في صفوف المستنيرين. غير أن العقل البشري - لسوء الحظ - لكي يفهم أمثال هذه الأمور، قلما يواجه مثل هذا الاختيار البسيط بين صفين اثنين. والواقع أن العقل البشري يستطيع أن يقفز في خفة من صف إلى صف حتى يصبح مسيره أشبه بالمتاهة. والتمييز الذي قدمناه بين المؤمنين بأثر البيئة الذين يركنون إلى معالجة البيئة بواسطة القلة (فلاسفة، أو مهندسين، أو مخططين، فنيين، أو أصحاب عقول ثاقبة)، وأولئك الذين يتوقعون من الجماهير أن تقدم البيئة المعدلة الضرورية بالطريقة الديمقراطية ، طريقة تصويت الأغلبية - هذا التمييز يستحق البيان، وهو تمييز يعطينا صورة تقريبية أولية، وبخاصة بالنسبة إلى القرن الثامن عشر. ولكنا نحتاج هنا في الواقع إلى تبويب ثنائي بسيط آخر على الأقل، لا ينطبق تمام الانطباق على التمييز السابق. وذلك هو التمييز بين أولئك الذين يعتقدون أن البيئة الجديدة توقع على عامة الناس نوعا من الإرغام - وهو إرغام سوف يستسيغونه، ولكنه برغم ذلك شيء خارجي إلى حد ما يربط بعضهم ببعض في جماعة منظمة - وأولئك الذين يعتقدون أن البيئة الجديدة قد لا تتطلب في الواقع نظما أو قوانين، وأن الناس في ظل النظام الجديد سوف يعيشون تلقائيا وفقا ل «القاعدة الذهبية»، والنظرة الأولى تحكمية، والثانية تحررية، أو فوضوية.
إن المؤمنين بالاستبداد المستنير يقفون في أكثر الأمور الموقف التحكمي والسلطة «القديمة»، سلطة الكنيسة، بالنسبة إليهم سلطة سيئة، ولكن مبدأ السلطة سليم والسلطة في أيدي رجال مدربين على استخدام العقل المستنير سلطة في موضعها - بل هي في الواقع سلطة لا بد منها. ولكن كثيرا من هؤلاء المؤمنين بالسلطة - برغم ذلك - كانوا يعتقدون في الشئون الاقتصادية أن رجال الأعمال ينبغي أن يكونوا أحرارا تماما في معالجة شئون أعمالهم، أحرارا من قيود الحكومة أو سلطة النقابة. والواقع أن ما كانوا يدفعون عنه حتى في الاقتصاد لم يكن الحرية لجميع الأفراد، وإنما مجرد الحرية لصاحب المشروع الاقتصادي ، أو رجل التصنيع. وأما في داخل المملكة الصغيرة - وأعني بها المصنع أو العمل التجاري - فلا بد من وجود ذلك التنظيم، وتلك الكفاية، والقدرة على التفكير، التي تتفق مع الجانب التحكمي في حركة التنوير. وقد كان روبرت أوين نفسه - الذي أوضح في جلاء نظرية تأثير البيئة - مساهما في ملكية مصنع للنسيج في نيو لانارك باسكتلندا يدر ربحا كبيرا، وكان وحده يقوم على إدارته. وكان هذا المصنع في تلك الأيام مصنعا نموذجيا، تحوطه بيوت للشركة نظيفة حقا، تتوافر فيها شروط العمل الممتازة، وتقوم فيها المدارس التقدمية التجريبية التي كان يؤثرها روبرت أوين، ميسرة لأبناء العمال. غير أن مصنع نيو لانارك لم تتوافر فيه «الديمقراطية الصناعية». وكانت كلمة أوين هي القانون. أوين هو الذي يعالج البيئة. وكان أوين أبا في نظام أبوي إلى أبعد الحدود.
ويمدنا بنتام بمثال أوضح للبيئة المدبرة تدبيرا معنيا به، تدبيرا من أعلى، من السلطة الحكيمة الأبوية. والمبادئ الأساسية التي نادى بها بنتام هي أن الناس يبحثون عن اللذة ويتجنبون الألم (وأرجو أن تلاحظوا هنا التشابه الظاهر لفكرة الجاذبية في الطبيعة). وما دامت هذه حقيقة واقعة فلا بد من قبولها باعتبارها خيرا خلقيا. ومن ثم فإن سر الحكم هو في وضع نظام للثواب والعقاب بحيث يؤدي العمل الذي يتفق مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية دائما بالفرد إلى اللذة أكثر مما يؤدي إلى الألم، ويؤدي به العمل الذي لا يتفق مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية به إلى الألم أكثر مما يؤدي إلى اللذة. واستطرد بنتام في تفصيل ذلك، وأعد قائمة حساب للملذات والآلام، وأخذ يبوب ويزيد ويقيس الأنواع المختلفة من الملذات والآلام. وما فعله بطبيعة الحال كان تقديرا للقيم التي يحترمها الرجل المهذب الإنجليزي، الرقيق، المتفلسف، صاحب العقل الجاد، وتبين أن أكثر القواعد الخلقية التي نادى بها مسيحية، كما كانت القواعد الخلقية التي نادى بها أكثر الغربيين الثائرين على المسيحية. غير أن بنتام لا يثق بنظم المجتمع العادية مقياسا صحيحا للذة والألم. إن المجتمع يثيب بشكل ما الأعمال التي لا تأتي بأكبر قدر من الخير لأكثر عدد من الناس، ويعاقب على الأعمال التي تفعل ذلك إذا أتيحت لها الفرصة. غير أن مجرد الحرية لا يتيح هذه الفرصة. ولا بد لرجال من أمثال بنتام أن يتوفروا على وضع خطط جديدة، ومجتمع جديد. ومن ثم فإن العقل يرشدنا إلى أن الجريمة - كالسرقة مثلا - لا بد من أن تلقى جزاءها، لأنها تأتي لمن يقع فيها بألم أشد، وكذلك تأتي في صورة الخوف والقلق بألم أشد لكل من يعلم بالسرقة (فهم يخشون أن تحدث لهم) أكثر مما تعود بالنفع على السارق. ولكن العقل يهدينا إلى أن الأفكار التي تتعلق بالإثم، واللعنة، والندم، وما إلى ذلك مما يتصل بالسرقة هراء في هراء. إننا هنا نعالج موضوعا بسيطا من موضوعات الحساب. لا بد أن يلقى القبض على السارق وأن يوقع عليه الجزاء بحيث يزيد وزن العقوبة في ذهن السارق على اللذة (أو الكسب) الذي عادت إليه به الجريمة، فإذا كانت اللذة أعظم من العقوبة الخفيفة، كان ذلك إغراء للسارق بأن يعود إلى الجريمة. وإذا كان الألم أشد - أي إذا كانت العقوبة قاسية جدا، كما كانت الحال في قانون الجنايات الإنجليزي في ذلك الحين - شعر السارق بأنه شهيد، أو أنه يسحق سحقا، أو أنه من العصاة، ومن المؤكد أنه لا يصلح بهذه الطريقة. والهدف كله من القانون هو منع تكرار الجريمة بإصلاح المجرم، ومن ثم كان لا بد أن تتناسب العقوبة مع الجريمة.
إن التفصيلات السيكولوجية التي قدمها بنتام تبدو لنا اليوم ساذجة، كما تبدو الخطط الدقيقة التي وضعها غير عملية. ولكنا نعرف حق المعرفة روح الإصلاح، وكثير مما حاول بنتام وأتباعه أن ينجزوه في إصلاح النظم قد وضع في الواقع في نصوص قانونية جامدة. فلا تجد اليوم من يشنق لسرقة كبش، ونحن لا نأمل في النتائج الكاسحة التي أمل فيها بنتام، ولكنا ما برحنا نستخدم كثيرا من طرائفه، وما برحنا - برغم ديمقراطيتنا الطيبة - نعقد كثيرا من آمالنا على تعديل النظم التي توضع خطتها من أعلى. وأثر بنتام واضح في القوانين الجديدة.
ويظهر الانشقاق عند الذين يأخذون جانب التحرر في صورة أوضح مما يظهر عند الذين يأخذون جانب التسلط، وإنا لنلمس خلال هذا القرن تيارا من الفكر ربما يبلغ قيمته في «العدالة السياسية» الذي نشره في عام 1793م وليام جدوين، ذلك الكاتب الثائر. والكتاب أشبه ما يكون بدعوة علمانية إلى عدم التقيد بقواعد الأخلاق الدينية، وقد كان جدوين يعتقد أن الناس لا يرتكبون الخطأ إلا لأنهم يحاولون أن يطيعوا، وأن يرغموا غيرهم على أن يطيعوا، قوانين ثابتة. أما إذا عمل كل امرئ بحرية ما أراد فعلا أن يفعله في كل لحظة من اللحظات، وإذا تحرر الناس جميعا تحريرا كاملا من الأهواء والتعصب والجهل، فهم عندئذ يتصرفون تصرفا عاقلا؛ فإن الرجل العاقل لا يحب أن يؤذي غيره، أو أن يجمع من السلع أكثر مما يستطيع أن ينتفع به، أو أن يغار من إنسان أدى عملا لا يستطيع أداءه. واستطرد جدوين في هذا المبدأ، مبدأ الفوضى الفلسفية، حتى لقد عارض في وجود قائد للأوركسترا يوجهها توجيها زمنيا، باعتبار ذلك صورة من صور الاستبداد بالعازفين استبدادا لا مبرر له، فإذا ما ترك العازفون وشأنهم فإنهم يضربون نغمة طبيعية، ويؤدون أداء أفضل بغير قائد.
وقد بدت الفوضى دائما - حتى باعتبارها مثلا من المثل - غير معقولة عند أكثر الناس، ولكنا - برغم ذلك - لا يجب ألا نلفظها باعتبارها عديمة الأهمية. نعم إنها تقف إذا تطرفت عند حد الجنون، ولكنها عامل أساسي في كثير من الآراء التي لا تبلغ هذه الدرجة من التطرف، وقد كان لها دورها - كهدف وكنوع من الأمل الذي لا يرفض كله - لا في ضروب عديدة من الاشتراكية فحسب، وإنما في ديمقراطيتنا ذاتها. وهي كمثل من المثل تحتفظ بحيويتها بطريقة ما في عالمنا هذا الذي يخضع لقدر كبير من الحكم.
وهناك - على أية حال - طريق أفضل تمهيدا سلكه أكثر المنحازين لجانب التحرر، وهو طريق له فروع كثيرة، لبعضها طريقة غير مستقيمة تميل بها بغتة نحو الطرف الآخر المقابل، طرف السلطة، ولا بد لنا من فحص دقيق لوثيقة من الوثائق الشهيرة في تاريخ الفلسفة السياسية البحت، وهي وثيقة «العقد الاجتماعي» التي نشرها روسو في عام 1762م. وقد ثار الجدل حول هذه الرسالة الصغيرة أجيالا، ويجدها بعض القراء أساسا وثيقة تعزز جانب الحرية الفردية، ويجدها آخرون في جانب الجماعية المحكية، وسابقة من السوابق العقلية للحكم الجماعي الشامل في العصر الحديث.
إن روسو في صميمه يتناول مشكلة الطاعة السياسية. وأعماله الأولى، وكل اتجاه ميوله، تهدف إلى ما أسميناه الفوضى. وفي عبارة رنانة افتتاحية يقول: «يولد الإنسان حرا، ولكنه يكبل بالأغلال في كل مكان.» لماذا؟ الجواب عند روسو هو أنه اضطر إلى استبدال حالة المدنية بحالة الطبيعة (ولا يهمنا «لماذا» تخلى عن حالة الطبيعة؛ فقد ذكرنا من قبل أكثر من مرة أنه لا يوجد جواب منطقي مقنع لمشكلة الشر). إن الإنسان لم يطع أحدا في حالة الطبيعة، أو إن شئت فقل إنه أطاع نزواته الشخصية ورغباته. أما في حالة المدنية فلا بد له من طاعة الأوامر التي يعرف أنها لا تنبعث مباشرة من دخيلة نفسه، فإن كان مثلا رقيقا تحتم عليه أن يطيع شخصا مثله، وهي تجربة مهينة لا تسر النفس، بل هي تجربة في الواقع غير طبيعية وغير إنسانية. وحتى المجتمعات التي كانت قائمة في القرن الثامن عشر كان عليه أن يطيع قوانين لم يعاون قط في وضعها، ورجالا لم يعاون قط في اختيارهم حكاما له. فأين المخرج؟
ربما لاحظتم أن روسو يحاول أن يحلل العوامل السيكولوجية للطاعة كما يحاول أن يحث قراءه على التفرقة بين الطاعة الطيبة والطاعة السيئة، في آن واحد. وإذا استخدمنا وسيلة للإيضاح ربما لم يكن بوسعه أن يلجأ إليها، ولكنها وسيلة تلائم عصرنا الحاضر، قلنا إن الناس لا يطيعون في الواقع - حتى في الحياة السياسية المألوفة العادية - إلا إذا أمكنهم أن يشعروا أنهم لا يطيعون إرادة «بشرية» أخرى، كطاعة العبد لسيده، وإنما يطيعون إرادة أعلى من نوع ما يمكن أن تعد إرادتهم جزءا منها. وهذه الإرادة يسميها روسو «الإرادة العامة». وهذه الإرادة العامة بالنسبة للاسميين من جميع الوجوه - وبطبيعة الحال - مجرد خيال. بيد أن كل من ارتبط ارتباطا عاطفيا بمجموعة من المجموعات، من الأسرة إلى الكلية إلى الأمة، لا يسعه إلا أن يدرك لمحة مما يتحسس روسو إليه الطريق. إن الإرادة العامة عند روسو يخلقها العقد الاجتماعي. والعقد الاجتماعي عنده يسير على نمط هوبز، من حيث إن كل عضو من أعضاء المجتمع يدخل في التعاقد مع كل فرد آخر، ولكن المجموعة الناتجة عن ذلك لا تحول الحكم إلى ملك مطلق كما أراد هوبز، وإنما تعامل أية سلطات حاكمة باعتبارها عميلات لها، يمكن إعفاؤها من الحكم كلما رأت الإرادة العامة أن هذا الإعفاء هو أفضل الأمور.
ولكن كيف يتسنى لهذه الإرادة العامة أن تعرف بنفسها؟ إن إرادة الفرد يمكن إدراكها بمراقبة ما يفعل، ولكن من ذا الذي شهد «الولايات المتحدة» أو استمع إليها؟ أي معنى يكون ل «إرادة الشعب الأمريكي» عند أولئك الذين لا تخدعهم الميتافيزيقيات المثالية، وإنما يريدون أن يشهدوا أو يسمعوا أو يدركوا بأية صورة من الصور؟ ثم إذا كان المرشح في انتخاب وطني يحصل على خمسة وخمسين في المائة من مجموع الأصوات، وإذا كان غيره يحصل على خمسة وأربعين في المائة، ألا تستطيع أن تقول إن المرشح المنتخب يمثل «إرادة الشعب الأمريكي»؟ أو إذا كان الكونجرس ينتخب انتخابا حرا صحيحا، ألا تمثل أصواته إرادة الشعب؟
لو سئل روسو هذا السؤال الثاني لأجاب بالنفي القاطع؛ فكان يعتقد في الديمقراطية المباشرة، كما كانت الحال في المدينة الحكومية اليونانية، أو في مقاطعة سويسرية صغيرة، وكان يرى أن قطرا كبيرا مثل فرنسا لا يمكن أن يكون شعبا واحدا ذا مصلحة مشتركة وإرادة عامة. وهذا الإنكار لأن القطر الواسع يمكن أن يكون دولة صحيحة ليس إلا صورة ملتوية لتفكير روسو، ومثالا شائقا لنوع من أنواع الإخلاص الذي ساد في عهد النهضة للأشكال الكلاسيكية، شيئا يشار إليه دائما عند التعليق على روسو، ولكنه ليس بذي أهمية كبرى. أما بالنسبة إلى السؤال الأول، فلو فرضنا أنه يقر بأن أمة من مائة وخمسين مليونا يمكن أن تكون أمة، فإن روسو كان يقدم جوابا غامضا. يقول: «نعم» إذا كان المرشح الذي يحصل على خمسة وخمسين في المائة من الأصوات يمثل «حقا» الإرادة العامة للولايات المتحدة، ويقول: «لا» إذا كان لا يمثل هذه الإرادة. وكثيرا ما أهمل الناس تفسير روسو وحسبوا أنه يؤيد النظرية التي تقول إن إرادة الأغلبية دائما على صواب، والواقع أنه لم يقل بمثل هذا.
وينبغي لنا أن نضيف اصطلاحا جديدا لروسو فوق قوله: «إرادة الفرد» و«الإرادة العامة»، وذلك هو «إرادة الجميع». عندما تصدر جماعة من الجماعات قرارا ما بأي شكل من الأشكال، بالتصويت أو التصفيق أو حتى بصك الدروع كما كانوا يفعلون في إسبرطة، فإن الإرادة العامة تكون موجودة إذا كان القرار «صحيحا»، في حين أن إرادة الجميع، وهي مجرد المجموع الآلي لإرادات الأفراد الأنانيين غير المتنورين إنما تكون موجودة إذا كان القرار «باطلا»، ولكن من ذا الذي يقرر الصحة والبطلان؟ إننا هنا نبلغ نقطة بلغناها من قبل، وهي نقطة يحس عندها كثير من الكائنات البشرية بالحيرة اليائسة. ومن الجلي أنه ليس هناك اختبار كيموي يميز بين الصحيح والباطل. وأنت لا تستطيع أن تقوم ب «عملية» اختبار علمي تميز بها بين الإرادة العامة وإرادة الجميع. ويكتب روسو كأنه يعتقد أن المجموعة الصغيرة، كاجتماع في إحدى مدن إنجلترا الجديدة، يكون قرار الأغلبية فيها في الواقع بعد مناقشة حرة مستفيضة صورة تعكس «إحساس المجتمعين»، ويكون ممارسة للإرادة العامة. ولكن الأمر لا يتحتم أن يكون كذلك؛ لأن الاختبار النهائي اختبار يتعلق بالإيمان، ويجاوز الظاهر.
وقد تجد هذا الذي عرضناه مربكا ومغرقا في الفلسفة، بمعنى غير مستحب. ولكنك حتى إن رفضت أن تسير مع روسو في ميتافيزيقيات الإرادة العامة، تستطيع أن ترى أنه يتلمس حقيقة سيكولوجية عميقة؛ فهو يلاحظ في المجتمع الديمقراطي الحر أن أولئك الذين عارضوا في أول الأمر في إجراء مقترح يقبلونه طوعا عندما يتضح لهم أنه يمثل الإرادة العامة؛ أي إن الخمسة والأربعين في المائة تقبل رغبات الخمسة والخمسين في المائة باعتبارها «في الواقع»، وللأغراض العملية، رغبات المائة في المائة كلها. وبالرغم من أن هذا قد يبدو كلاما عاطفيا لكثير من الأشخاص الذين يتصفون بالصلابة المقصودة، إلا أنه ليس هناك في الواقع ديمقراطية حية إلا إن وجد شيء يشبه هذه العملية. وقد لا نرضى تماما عن انتخاب الرجل الذي عارضناه تحقيقا ل «إرادتنا الفردية». ولكننا إن رفضنا قبول هذا الانتخاب أمسينا عصاة. وإذا تكونت منا جماعة تقف هذا الموقف أضحينا فيما يشبه جمهورية من جمهوريات أمريكا اللاتينية في أسوأ صورها التي تبعث على السخرية، لا في ديمقراطية مستقرة. وإذن فإن القبول الخيالي لشيء يشبه ما يعنيه روسو - في بعض الأوقات على الأقل - ب «الإرادة العامة» يبدو أمرا ضروريا لاستقرار أي مجتمع حر.
وإنما يقع غموض روسو الأكبر بعد ذلك بخطوة. إنني عندما أوقع على العقد الاجتماعي (حتى إن كان ذلك مجازا بمولدي في مجتمع ما) أتخلى عن حريتي الطبيعية البسيطة، وأحصل لقاء ذلك على الحرية الكبرى، حرية طاعة الإرادة العامة، فإن لم أفعل كنت من عصاة الحق، وكنت في الواقع عبدا لإرادتي الذاتية. وإرغامي على الطاعة في مثل هذه الحالة هو في الواقع تحرير لي، ويعبر عن ذلك روسو بوضوح فيقول: «وإذن فلكيلا يكون التماسك الاجتماعي مجرد صيغة عابثة، لا بد أن يحتوي - حتى إذا لم يكن ذلك بالنص - على الشرط الوحيد الذي يستطيع وحده أن يكسب الكل قوة - أعني أن كل من يرفض طاعة الإرادة العامة يجب أن يكره من مجموع زملائه المواطنين على الطاعة، ولا يعدو ذلك قولنا إنه قد يكون من الضروري أن نرغم الفرد على أن يكون حرا ...»
لقد بعدنا كثيرا عن الميل نحو التحرر الذي بدأنا به، والحجة (أو التشبيه) واضحة جدا في الواقع، تقف إلى جانب كل من يريد أن يدفع عن وضع القيود على حرية الفرد. وقد تحولت على أيدي مفكرين عديدين من أمثال كانت وهردر إلى عقيدة جرمانية عادية، واستخدمتها السلطات الجرمانية على صورة من الصور لتبرير الطاعة. وقد كانت دائما تبدو للأوروبيين الغربيين والأمريكان على شيء من الخطر، وكأنها تضحي بالفرد كلية في سبيل الدولة. ولكن متابعة روسو لتحليله إلى الحد الذي يجعل عنده إرادته العامة سيدة لا توصم بالخيانة مثال شائق لما يمكن أن يبلغه العقل البشري، إذا سار على طريق الفكر المجرد. وقد كان روسو كشخص - شاذا، فرديا، رجلا اعتراضاته العاطفية الأساسية على ضغط النظام من أي نوع كان على الفرد تذكرنا بثورو. ولكنه برغم ذلك أحد المبشرين بالمجتمع الجماعي الحديث.
إن وراء هذا الغموض في «العقد الاجتماعي» خصيصة من تلك الخصائص المتطرفة نستطيع أن نستخلصها من بين الخبرات الكاملة لأبناء القرن الثامن عشر. إن الشاب المتحمس لحركة التنوير في الثمانينيات من القرن الثامن عشر لم يمزق أفكاره كل هذا التمزيق الذي نحاول أن نفعله. كان هذا الشاب ضد النظام القائم، وضد التقاليد، وضد ما أسماه الخطأ والخرافة. وكان يؤيد الطبيعة، والعقل، والحرية، والإدراك العام؛ لأن كل ذلك كان بالنسبة إليه جديدا يدعو إلى الأمل في هذا العالم المتقدم. ولكن ما الذي شكل الأشياء الجديدة الأفضل التي تدعو إلى الأمل، الأشياء التي كانت سوف تحل محل القديم؟ إن الصيغة التي التقينا بها حتى الآن هي «العقل»، أو نوع التفكير الذي اتصف به نيوتن، ونوع التفكير الذي كان يتصف به «المتفلسفون». ولكنا - مع اقتراب القرن من نهايته - نبدأ في لقاء ألفاظ جديدة، أو ألفاظ قديمة مع التأكيد على معان خاصة، نلتقي بأمثال هذه الألفاظ: الحساسية، الحماسة، الإشفاق، القلب. وشيوع روسو شيوعا عظيما بعد عام 1760م نرى القلب يتقدم وحده لمعارضة الرأس. إن العقل لن يصبح بعد ذلك هو المرشد، أو المهندس الذي يرسم العالم الجديد، وإنما تهدينا العاطفة، والشعور، إلى الطريقة التي نعمل بها معا لنبني من جديد. ويبدأ العقل في أن يكون محلا للارتياب.
إذا كان العقل المجرد يتحكم وحده في الفكر،
فسوف يعيش محصورا في أنانية خسيسة،
يتحرك في دوامة واحدة، منفصلا وحيدا،
لا يحس مصلحة أخرى غير مصلحته.
وسوف نرجئ إلى الفصل القادم النظر في الحركة الرومانتيكية، التي تصدرها في القرن الثامن عشر روسو وكتاب إنجليز من أمثال شافتسبري، حتى أصبحت أحد العناصر الرئيسية في نظرة القرن التاسع عشر إلى الحياة. ولكن لكي نفهم حركة التنوير المتأخرة لا بد لنا من أن نلاحظ أن هذا التحول نحو العاطفة أكسب بعض الأفكار، ك «الطبيعة» لونا يختلف جد الاختلاف عن لون «الطبيعة» في العالم الآلي النيوتوني. لم تعد الطبيعة بذلك الوضوح السابق، أو ذلك النظام، أو على تلك الأسس الرياضية. إنما كانت بالمعنى الذي تحمله «الطبيعة» لأكثرنا، العالم الخارجي الذي لم تمسه يد، أو الذي مسته يد الإنسان مسا خفيفا، عالما لم تشذب أطرافه، ولم يستأنس ، متوحشا، تلقائيا، لا يقوم البتة على أسس رياضية. وتهمنا هنا المقتضيات السياسية لهذا التحول في الأساس من الطبيعة الكلاسيكية إلى الطبيعة الرومانتيكية.
وقد ترى - وأنت مصيب فيما ترى - أن الانقسام الثنائي بين العقل والعاطفة، أو بين الرأس والقلب، نوع من أنواع الصيغ المألوفة في التفكير السقيم. إن التفكير والشعور ليسا عملين من أعمال الكائنات البشرية لا ينفصلان؛ ذلك أن أفكارنا وعواطفنا تنصهر فيما نكون من آراء. غير أن التفرقة - برغم ذلك - تستحق التوضيح، لمجرد أن تكون أداة من أدوات التحليل. وإليكم مثالا طيبا ملموسا من أواخر القرن الثامن عشر، يتضمن مشكلة ما زلنا نجابهها. استطاع الاقتصاديون المحترفون - وقد باتوا الآن جماعة معترفا بها، جماعة لها نظامها المحترم وإن يكن نظاما جديدا - أن «يثبتوا» أن معونة الفقراء والصدقات التي تقدم للمنتفعين بها المأوى ونفقات الأسرة، أمر سيئ لكل إنسان، حتى للمنتفع ذاته. ولما نشر مالتس «مقالة في مبادئ السكان» في عام 1798م كانت الحجج التي أدلى بها الاقتصاديون قد تشكلت، فقيل إنك كلما خففت عن الفقير رزءه، زاد إنجابه للأطفال، وقل ما يصيب العمال، وساءت حالهم جميعا. والتقط النفعيون هذا الرأي، وعاونوا على وضع نظام لإعانة العمال في بريطانيا يقضي بعزل الفقراء المعانين عن الجنس الآخر في بيوت خاصة بهم لا تسر الناظرين. والمنطق الكامل ربما أدى إلى التخلي عن الفقراء حتى يموتوا جوعا إذا لم يستطيعوا أن يكسبوا عيشهم، غير أن الغرب لم يتبع قط هذا المنطق، حتى إن كان من بين المشتغلين فيه بالاقتصاد.
ولسنا بحاجة إلى أن نناقش هل تفكير الاقتصاديين في هذا الأمر هو في الواقع مما يتفق مع ما يعني «العقل» في تقاليدنا؟ وإنما المهم هو أنهم كانوا يزعمون أنهم يسيرون وراء العقل - وقد قبل خصومهم ما زعموا. وقال الخصوم شيئا كهذا: «إننا لا نستطيع أن نرى موضع الخطأ في سلسلة تفكيركم، ولربما ارتفع مستوى العنصر البشري إذا تطهر من العاجزين ولكنا لا نستطيع أن نقبل حجتكم. إننا نأسف لحال الفقير. ونحن نعلم أنكم على خطأ لأننا نحس أنكم على خطأ. ربما كان الفقير كسولا، ينقصه التدريب، شاذا، عاجزا، غير أن ...» ومن الممكن أن يطرد الدفاع إلى ما لا نهاية، وحتى إن تولاه أخلص المتحيزين لشعور القلب فلا بد أن يتعثر في الحجة، وفي التفكير. أي إن الفقير يلقى دفاعا عن حقه في الحياة الطيبة، ودفاعا عن وقوعه في الفقر فعلا لأن الفرصة لم تتح له قط (وهي حجة المنادين بأثر البيئة). وربما أدلى أحد المدافعين بالحجة الحديثة - كما فعل روبرت أوين - وهي أن رفع مستوى معيشة الفقراء معناه زيادة الطلب على الإنتاج الصناعي الضخم، وإمكان اطراد التقدم الاقتصادي. ولكن الحجة الأساسية بقيت كما كانت، وهي: أننا «نحس» أن معالجة الأمر بإنشاء بيوت العمال فيه قسوة شديدة.
وأقول مرة أخرى بوجه عام إن المشايعين للعقل مالوا في أخريات حركة التنوير إلى تدعيم جانب الاستبداد المستنير، والتخطيط، والتسلط. أما المشايعون للقلب فكانوا يميلون إلى تدعيم جانب الديمقراطية، أو على الأقل جانب الحكم الذاتي عن طريق الحرية الفردية: والتلقائية «الطبيعية» من جانب عدد كبير من أبناء الطبقة المتوسطة، ولكن هذين الموقفين - عندما ذكرنا آنفا عند إظهار أوجه الخلاف بين التفكير والشعور - لا ينفصلان، وإنما يتحدان بقوى مختلفة في نظراتنا السياسية.
ولطالما بلبلت هذه الصعوبة التي عرضناها تفكير الرجل الأمريكي الذي ننعته ب «التقدمي» أو «المتحرر». ذلك أن عواطفه - يعززها التقليد الديمقراطي الأمريكي - تنحاز بشدة إلى جانب الثقة في الناس، فيسمح لهم بإصدار القرار بعد المناقشة الحرة، ويسمح لهم بإظهار صفة الحق التي يملكها عامة الناس في الجماعات التي يؤلفونها. إنه يريد أن يؤمن بالشعب، وأن يثق بحكمه، غير أن عقله - من ناحية أخرى - تعززه عادات التفكير عند المثقفين من الأمريكيين يرشده إلى أن رجل الشارع يؤمن بالخرافة، منحط الذوق، عاجز عن التفكير الموضوعي من أي درجة من درجات التعقيد، تسوقه دوافع غير كريمة أو مستحبة. ودعنا مرة أخرى نقدم مثالا محسوسا: إن حزب الأحرار يرى أن قلة من السياسيين المحافظين الأشرار، ومن الأثرياء، ومن المثقفين المضللين، مسئولة عن جيم كرو في الجنوب. ولكن شيئا ما يلح عليهم أن العدو الحقيقي لهذا الزنجي هو مجموعة البيض، وبخاصة الفقراء منهم، ومن ثم فهم يحتجون بأن الرجل الأبيض الفقير إنما يخشى الزنجي بسبب النظم الاقتصادية. وحتى عندئذ نراهم عندما يعالجون مشكلة بعينها يجابهون سؤالا واقعيا، وهو: هل تثق أو لا تثق بحكمة الرجل العادي وحسن نيته؟ وهم لا يستطيعون الإجابة الأكيدة عن هذا السؤال. ولهذا التردد جذور تاريخية عميقة، ترجع على الأقل إلى عصر التنوير.
حركة التنوير والتقاليد المسيحية
إن آراء حركة التنوير، سواء أكانت صادرة عن العقل أم عن القلب، أم عن كليهما متضافرين، كانت تعمل بجلاء على هدم النظم القائمة. وإذا نحن وافقنا على حكمة بيكون «بأن دقة الطبيعة أعظم أضعافا مضاعفة من دقة الحواس والفهم» وجدنا أن أية محاولة إنسانية للتفكير في النظم الاجتماعية لا بد أن «تبسطها». ويتمخض عن ذلك نمط واضح، أو مخطط، إذا قورن به الواقع وجدناه دائما أشد تعقيدا، ومن ثم أقل كمالا عند صنوف كثيرة من المفكرين. وفي عبارة أبسط نستطيع أن نقول إن أي إنسان تقريبا يستطيع أن يفكر في طريقة أفضل من الطريقة الواقعية في أداء الأشياء - كإدارة ناد من النوادي، أو رسم منهج تعليمي، أو تدريب فريق لكرة القدم، أو إدارة مصلحة حكومية - ويستطيع كناقد أن يشير إلى مواضع النقص فيما يؤدي فعلا. إنك إذا اعتقدت بوجه خاص أن كل الشئون الإنسانية لا بد أن تدار بمثل ما في أفضل التفكير الرياضي من دقة ووضوح، وإذا أنت تعمقت ديكارت ونيوتن ولوك، فقد تكون أشد النقاد هدما لما يجري حتى في عصرنا الحاضر، وربما استطعت أن تجد في عام 1750م مواضع للنقص، والانحراف، وبقايا غير معقولة تخلفت عن العصور الوسطى، أكثر مما تجد الآن. فلا يبدو لك مبدأ التثليث غير معقول فحسب، وإنما يصدم رغبتك الملحة في الإصلاح كذلك اختلاف المكاييل، وقيمة العملة من مدينة إلى أخرى.
والواقع أن المفكرين في القرن الثامن عشر لهم سمعة ك «نقدة هدامين» فيها شيء من المبالغة ، وهم يتهمون خاصة بانصرافهم إلى التفكير المجرد على حساب الاهتمام بالتفصيلات التجريبية. وبعدما صدمت الثورة الفرنسية العالم المتمدن بعنفها بات من التفكير العصري في الدوائر المحافظة، بل وفي الدوائر الشعبية، إلقاء اللوم على فلاسفة القرن الثامن عشر لهدمهم النظام القديم بنظراتهم الناقدة ولقلقلتهم كل شيء عن مكانه. وفي هذا العدم ظهرت ميول الكائنات البشرية الحقيقية ونقائصهم التي أهملها فلاسفة القرن الثامن عشر لانشغالهم بحقوق الإنسان المجرد. وتزعم حركة الهجوم على فلاسفة التنوير إدمند بيرك، واستطرد فيها كثير من كتاب القرن التاسع عشر مثل تين الذي أخذ على الثورة الفرنسية «روحها الكلاسيكية» المجردة المبسطة، ولخصت فطنة الفرنسيين الشعبية هذا الموقف بوضوح بقولها:
إنها غلطة فولتير ...
إنها غلطة روسو ...
إننا لا نستطيع هنا أن نستطرد في الحديث في هذا الموضوع الشائك، الذي أضحى محلا للجدل الكلاسيكي بشأن مكانة الأفكار في التاريخ، والتأثير النسبي لنوع التفكير الذي قام به فلاسفة القرن الثامن عشر. إننا نميل اليوم إلى الشك فيما إذا كان ما كتبوه قد يضعف مجتمعا قويا منظما من نواحيه الأخرى. إننا نميل إلى أن نعده «أعراضا» للانحلال الاجتماعي أكثر منه أسبابا مبدئية له. غير أنه مما لا شك فيه أن ما كتبوه ساعد على تجميع العقول وتوحيدها فيما يتعلق بمشكلات لولا ذلك لأثارت معارضة في مناسبات مختلفة ومن حين إلى حين. لقد شحذ فلاسفة عصر التنوير إحساس الناس بالضيم، وذلك بإحالتهم دائما إلى معيار معين للحق والباطل، وإلى مقياس يضخم هذا الضيم ويظهر شدته.
والواقع أن ما يهمنا الآن سؤال ضخم في الواقع، وهو سؤال لا نستطيع أن نجيب عنه إجابة كاملة، وذلك السؤال هو: ما الصلة بين هذه النظرة العالمية التي رآها القرن الثامن عشر والمسيحية التقليدية؟ ومرة أخرى أقول إنه من السهل أن نجيب عن هذا السؤال بتأكيد مطلق للانطباق بينهما، أو لاختلافهما اختلاف النقيض مع النقيض. وقد تقدمت بالفعل إجابات كهذه. وبدت حركة التنوير لرجال من أمثال بيرك، وجوزيف دي ميستر، ولكل من يركز اهتمامه بالمبدأ الذي ساد في القرن الثامن عشر، المبدأ القائل بأن الخير الطبيعي والعقل السليم عند الإنسان هرطقة أساسية، ضد المسيحية في صميمها كما كانت كذلك على ألسنة المناهضين الأشداء لرجال الدين من أمثال هلباخ وهلفيشيس. ولكنها عند أناس من أمثال الاشتراكيين المسيحيين في القرن التاسع عشر، أو عند رجال الدين الأحرار الأمريكيين المعاصرين - جون هاينز هولمز على سبيل المثال - حركة امتداد أو تحقيق لما قصدت المسيحية إليه. والحقيقة هنا مرة أخرى أمر معقد؛ لأن النظرة العالمية لحركة التنوير، التي نعد أنفسنا نحن الأمريكيين ورثتها الرئيسيين وممثليها، تحتوي على عناصر مسيحية وعناصر غير مسيحية على السواء، مختلطة في كل يعد جديدا في مجالات النظرات العالمية.
وقد يكون من الضروري عند هذه النقطة أن نحذر القارئ بكلمة يسيرة. إن لفظة «متشكك» تطبق أحيانا تطبيقا غير مضبوط على رجال أمثال فولتير، وعلى كتاب الموسوعة الفرنسية الكبرى، وعلى النظرة التي أسميناها التنوير بأسرها. وهذا بطبيعة الحال سوء استخدام للكلمة. فإن مزاج القرن الثامن عشر لم يكن متشككا. نعم إنه ضد رجال الدين، وضعي، مادي في حالات التطرف. ولكن «فلاسفة» هذا القرن - إن كانوا يؤمنون بالمسيحية التقليدية - آمنوا بعالمهم الطريف. وهناك بطبيعة الحال مجموعات كبيرة من الناس، بل ومن المثقفين، لا يتشككون قط ولا يكون التشكك أبدا حركة شعبية. وقد كانت حركة التنوير حركة شعبية فكرية على نطاق واسع، وهناك خيط دقيق من الشك الفلسفي الحقيقي امتد منذ عصر الإغريق، وإن كان يتقطع في العصور الوسطى. ويعود الخيط إلى الظهور مرة أخرى في عصر النهضة. ويبدو في شخص مونتيني أشهر المتشككين من الأدباء وأبعدهم صيتا.
وكان هناك في الواقع في القرن الثامن عشر فيلسوف محترف مشهور، وهو دافيد هيوم الاسكتلندي، الذي سار بالمعضلة الديكارتية التي تتعلق بالفكر والمادة إلى حد بدأ معه الشك بالتأكيد. كان هيوم أحد المتسائلين المدنيين عن الوحي - ولا يزال هجومه على المعجزات أحد الأسلحة التي يلوذ بها خصوم المسيحية - وكذلك عن مذهب إثبات وجود الله مع إنكار الوحي، أو «الديانة الطبيعية»، ولكنه كان كثير الصحاب في هذا اللون من النشاط. وهو أكثر ابتكارا عندما يتساءل عن الصدق - بمعنى اليقين الثابت المطلق الميتافيزيقي - صدق الأحكام العامة التي وصل إليها رجال العلم. إن العقل عند هيوم ذاتي كالحواس، أو هو على الأقل نقل أو تقرير للواقع على صورة لا يمكن التثبت من صحتها في نهاية الأمر، ولقد وجد هيوم - كغيره من المتشككين في قدرات الناس العقلية والخلقية - في التقاليد والعادات والعرف أساسا أثبت للحياة فوق هذه الأرض. وهكذا انتهى إلى موقف يناقض موقف أهل زمانه بشكل فريد - إذ كان يعتقد في القديم دون الجديد، ومع ذلك فقد تحسبه من «فلاسفة» هذا القرن عند قراءته؛ إذ كانت في أسلوبه لمسة القرن الثامن عشر، وهو يعترف بمكانة العاطفة في أعمال الناس، وإن يكن ذلك في غير حماسة بشكل فذ فريد. إن هيوم لم يكن في صميمه ذلك المتشكك بمقدار ما كان ذلك المتعقل الذي مل التعقل.
ولست بحاجة إلى أن أكرر القول فيما أبرزت في مناسبات أخرى، وهو أن روح حركة التنوير كانت معادية للديانة المسيحية المنظمة. ويقول توماس جفرسن: «إن القسيس في كل بلد وكل عصر من أعداء الحرية. وهو دائما حليف الحاكم المستبد، يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر.» ويستعمل جفرسن هنا لفظ «القسيس» بطبيعة الحال بمعنى عام ليدل به على أي رجل من رجال الدين. وليس في عبارته مبالغة قط، وإنما هي تقع موقعا وسطا بين فولتير من ناحية عندما يقول: «دعنا نلتهم بعض الجزويت» (وهناك من التطرف ما هو أشد من ذلك افتراسا) و«الديانة الطبيعية» من ناحية أخرى، أو مذهب الاعتقاد في الله مع إنكار الوحي الذي أخذ به بعض الكاثوليك من أمثال إسكندر بوب. إن نار حركة التنوير كانت أوضح ما تكون اشتعالا عندما تهاجم المسيحية.
وقبل أن ننتقل إلى المشكلة الأساسية، وهي ما مقدار ما تبقى من المسيحية في حركة التنوير، وإلى أي حد عاشت المسيحية في هذا الإيمان الجديد، لا بد لنا من العلم بأن كثيرا من الجماعات المسيحية في ذلك الحين - بل واليوم - سارت على الدرب القديم، ترد الهجوم أحيانا على صفحات الجرائد ومن فوق المنابر، وتعيش أحيانا عيشة لا تتأثر بالآراء الحديثة. وأدب القرن الثامن عشر في الغرب يميل بدرجة ساحقة نحو جانب حركة التنوير الجديدة. والأسماء التي نذكرها - من بابل وفولتير إلى جفرسن وبين - كانت تتجه نحو الهجوم. غير أن جماعات صغيرة كالبولانديست ظهرت خلال القرن وعاشت عيشة القديسين، وقامت بتدوين التاريخ الذي ينطوي على النقد وإن كان أساسه الورع. وواصلت الكنائس القائمة في أداء مهمة التعليم وإقامة صلواتها العادية. وظلت الجموع الغفيرة وعدد كبير من أبناء الطبقات الوسطى والأرستقراط خلال كل هذه السنوات ترعى التقاليد المسيحية.
وظهرت في حركة «النظاميين» و«الورعين» في بريطانيا ومستعمراتها الأمريكية وفي ألمانيا صورة جديدة من البروتستانتية لا تميل البتة إلى الناحية العقلية. وكانت هذه الحركات إنجيلية من حيث رغبتها في إقامة السلام على الأرض وتنفيذ ما أمر الله به. واتجهوا في نهاية الأمر كما فعل كثير من المسيحيين في الأزمنة الحديثة نحو أهداف إنسانية، ولكنهم أبقوا على فكرة العالم الآخر الأساسية التي سادت التقاليد المسيحية. ولم يكونوا البتة ثائرين في نظرياتهم الاجتماعية والسياسية. ونحن نستطيع في الواقع أن نذكر عرضا - كمثال لنوع التعميم الذي فيه مغامرة كما فيه إيحاء، وهو التعميم الذي يستطيع المرء أن يستمده من تاريخ الفكر - أن المؤرخين من أمثال ليكي وهالفي آمنوا بأن شعبية النظاميين بين الطبقات البريطانية الدنيا كانت عاملا من عوامل الاستقرار التي صرفتهم عن نوع النظرة الثورية التي انتشرت بين الجماهير الفرنسية.
إننا - بإيجاز - نواجه في القرن الثامن عشر كما نواجه دائما تقريبا في العالم الغربي ذلك المدى الفسيح من اختلاف الرأي، أو ذلك «التعدد» فيه الذي تميزت به ثقافتنا. وكأن هذا التعدد يطرد في الزيادة كلما اقتربنا من عصرنا؛ لأن الآراء القديمة التي تتمثل في الجماعات القديمة تنضم إليها دائما آراء جديدة. وقل من هذه الآراء ما يموت، وما يموت منها يستغرق وقتا طويلا جدا حتى يختفي بتاتا. يقولون إنه لا يزال هناك إنجليز يعتقدون اعتقادا جازما أن الوارث الحق لعرش بريطانيا هو أحد أبناء بيت ستيوارت، الذي طرد إلى الأبد في عام 1688م. وإذن فحركة التنوير التي نجاهد في فهمها ليست عقيدة جديدة كل الجدة تقتلع عقيدة أخرى قديمة كل القدم. إنما هي سلسلة من التجارب، والاتجاهات، والنظرات، قديمها وحديثها، وهي جزء آخر - ولكنه في غاية الأهمية - من الأجزاء التي تتكون منها عصارة أو لب الثقافة الحديثة كما يرى العاشق المفتون للسلام والبساطة.
وتستطيع أن تدرك دقة المشكلة؛ مشكلة مقدار ما في حركة التنوير من المسيحية، إذا أنت وازنت بين نظرة سنت توماس أكويناس وآدم سميث نحو الطبيعة والقانون الطبيعي. وهذه الموازنة تستحق أن تعقد؛ لأنه من الميسور أن يقول المرء عند النظرة الأولى وطبقا للرأي التقليدي إن آدم سميث باعتباره أحد رواد الاقتصاد الذي يقول بحرية العمل هو على النقيض تماما من الاقتصاد التحكمي الذي يحدد الأسعار، ويمنع الربا، وغير ذلك من نظريات العصور الوسطى في العلاقات الاقتصادية. ومن السخف بطبيعة الحال أن نقول إنه ليست هناك فوارق بين أكويناس وآدم سميث، غير أن سميث لم يكن فوضويا، ولم يكن يعتقد في الخير الطبيعي عند الإنسان. وهو يدخل تعديلات كثيرة حتى على نوع الحرية الاقتصادية لرجال الأعمال التي يجعلها صلب نظامه، وهو لا يسمح بحرية التجارة إلى حد أن يترك قطرا من الأقطار بغير موارده الضرورية في زمن الحرب. أما أنواع الرقابة الاقتصادية التي يعترض عليها فهي الرقابة التي يراها مناقضة للطبيعة، وأسوأها كما يرى، «الاحتكار»؛ فهو رقابة مصطنعة يستطيع الرأسمالي أو مجموعة الرأسماليين الذين يميزهم القانون أن يفرضوها على محصول يمكن أن يكون سعره بتطبيق قانون العرض والطلب على مستوى نافع للمجتمع بقدر ما يمكن ذلك في عالمنا هذا؛ عالم العرق والندرة. هذا الاحتكار هو في الواقع الرذيلة الأساسية في النظام التجاري الذي كان يهاجمه.
كان سميث - كما كان أكويناس - يعتقد في «الثمن المناسب». وكان كمثله يعتقد أن وراء العمليات الفوضوية في ظاهرها التي تتمثل في البيع والشراء الفردي نظاما طبيعيا، يجب على الناس أن ينصاعوا له. فإذا لم يفعلوا فذلك عند سميث وأكويناس على السواء في صميم الأمر إنما يرجع إلى أن بعض الأفراد يحاولون في عناد أن يقلبوا النظام الطبيعي لمصلحتهم القريبة الخاصة، ولكن النظام الطبيعي قائم، ومن الآمال المسيحية المقبولة أن يتعلم الناس الخضوع له، ومن الحق أن الطبيعة - عند أكويناس - تفرض رقابات اجتماعية معينة، تبلغ في بعض الأحيان حد تحديد الأسعار، وهي رقابات رفضها سميت بالذات. وكان الرجلان يؤمنان بوجود قدرة علاجية في الطبيعة. وهما يختلفان في مقدار المعونة التي تحتاج إليها الطبيعة، وفي أفضل الطرق لتوجيه هذه المعونة. إنهما يختلفان، ولكن الخلف بينهما ليس كاملا كما يبدو في ظاهر الأمر، وإنما هو في طبيعة الطبيعة. ولكن أكبر شيء «غير طبيعي» عند الطرفين هو الاحتكار، الذي يستطيع عن طريقه فرد واحد أو مجموعة أفراد أن يسيطروا على السوق بطريقة يفيد بها شخصيا من قحط مصطنع.
إن أوجه الشبه الشكلية بين المسيحية التقليدية وحركة التنوير لا تنتهي عند حد؛ لأن كليهما مجهود يشارك فيه كثير من النساء والرجال لتقديم نوع من أنواع المجموعات المنظمة للإجابة عن «المشكلات الكبرى»، وكلاهما نظام من نظم القيم الخلقية، ونظم الوسائل والغايات، أو إن شئت فقل إن كلا منهما دين من الأديان. ويظهر كارل بكر أوجه المشابهة هذه ببراعة فائقة في كتابه «المدينة السماوية لفلاسفة القرن الثامن عشر». والنقطة الرئيسية عند بكر هي أن عقيدة حركة التنوير لها صورة دينية كاملة كصورة «الموت ويوم البعث والجحيم والنعيم» محددة كهذا التحديد في المسيحية، لكل منهما فردوس أمام الأعين هو الهدف من كفاحنا في هذه الدنيا. نعم إن المدينة السماوية في القرن الثامن عشر مقرها الأرض، ولكن المهم هو أنها تقع في المستقبل - أجل في المستقبل القريب عند رجال من أمثال كوندورسيه، ولكن هذا الأمل مع ذلك لا يتحقق الآن في هذا المكان. ومن الحق أن الناس سينعمون بهذا الفردوس بأجسادهم (ولكنا يجب أن نذكر أن البعث ب «الجسد» والتمتع بالجنة هما من صميم العقيدة المسيحية). وليس من المجدي أن نحاول بسط التفصيلات المحسوسة للحياة في النعيم المرتقب، وربما كان الفردوس في حركة التنوير أكثر مادية، وأقل روحانية من فردوس المسيحيين. غير أن الجانب الأساسي في هذه الجنة وفي تلك هو انتفاء الشر، وخيبة الأمل، والروح والجسد - كلاهما في النعيم في كلتا الجنتين، وربما كان هذا الذي ذكرنا بالنسبة إلى كثير من المسيحيين - وإلى أكثر المسيحيين روحانية - تصوير هزلي للفردوس. النشوة عند هؤلاء تفوق الوصف، وهي ليست مجرد انتفاء لحالات معينة. ولكن أهدافهم - مع ذلك - كما هي في كل الأهداف الصوفية - في نظر العين الخارجية، أو في نظر الرجل الدنيوي، لا بد أن تخضع، بل تلغي، كل ما يجعل الحياة تستحق العيش. ومن المؤكد أن الجنة بالنسبة لأكثر المسيحيين لا تعدو أن تكون سعادة غامضة، ونهاية للكفاح، وللعوز.
والنتيجة في كلتا العقيدتين تخضع لسلطة أقوى من أي رجل بمفرده. إن الناس يستطيعون أن يفهموا تدبير هذه السلطة وأن يكفوا أنفسهم طبقا لها، بل إنه ليتحتم عليهم ذلك إن أرادوا بلوغ الجنة، ولكنهم لا يستطيعون أن يغيروا من هذا التدبير. ومعنى ذلك أن الديانتين، المسيحية وحركة التنوير، كلاهما يؤمن بالحتمية. وبالرغم من هذا الإيمان فإن كليهما من الناحية العملية تخفف من حتميته بالنسبة إلى الفرد قواعد خلقية تدعو إلى النضال في سبيل الحق وضد الباطل، وهي قواعد تترك للفرد على الأقل توهم الحرية الشخصية. والنعمة المسيحية توازي العقل الفلسفي، كما أن الخلاص المسيحي يوازي الاستنارة الفلسفية. والموازنة حتى في أمور كالتنظيم والطقوس ليست مصطنعة بأية حال من الأحوال. ويتبين ذلك في وضوح تام في السنوات الأولى من الثورة الفرنسية التي نشبت في عام 1789م، عندما حذت النوادي اليعقوبية - التي كانت تضم الأعضاء المؤمنين بالدين الحديث - حذو الطقوس الدينية المسيحية إلى درجة تكاد أن تكون هزلية: فكانت لهم أناشيدهم الجمهورية، ومواكبهم، وأعياد المحبة، ومحاوراتهم بالسؤال والجواب لشرح مذهبهم، بل وكانت لديهم «علامة الصليب الجمهورية». ومن الأمثلة الرائعة لبقاء الأشكال الدينية ما نلمسه لدى المؤمنين علنا بوجود الله دون الوحي عندما يسترسلون في الصلوات، كما كانوا يفعلون بين الحين والحين. والنقطة الرئيسية - على أية حال - فيما يتعلق بالإله الذي يشبه صانع الساعات في نظر المؤمن بوجود الله دون الوحي - هي أنه دفع العالم إلى الحركة طبقا للقانون الطبيعي، ثم تركه بعد ذلك ليسير وفقا لما يضع العالم لنفسه من قواعد. والدعاء لمثل هذا الإله يبدو عديم الأثر بصفة خاصة، ولكنه في قلوب اليعقوبيين الفرنسيين الوطنيين يتحول في سهولة ويسر إلى إله منتقم.
ومع ذلك فإن أهم ما يلفت النظر فيما تشترك فيه المسيحية التقليدية وهذا الإيمان الجديد، إيمان حركة التنوير، هو الشعور بأن الإنسان ليس نابيا في هذه الدنيا؛ فهي دنيا خلقت - بمعنى من المعاني - لتحقيق الحياة الطيبة للإنسان، وإن الإنسان - بالرغم من أن جانبا من جوانبه، هو الخطيئة الأولى عند المسيحي، والجهالة عند المستنير في القرن الثامن عشر، يحول بينه وبين بلوغ الحياة الطيبة فوق هذه الأرض - يستطيع مع ذلك بالجهد الخلقي والعقلي الجاد أن يكيف نفسه لهذا العنصر الطيب من عناصر التدبير في الكون، أو للإله، أو للعناية الربانية، أو للطبيعة. إن المسيحية وعقيدة حركة التنوير كلاهما من العقائد الفعالة التي تدعو بشدة إلى رفع شأن الإنسان. كلاهما يهدف إلى التطهير القوي بطريقة ما. ولكليهما أهداف خلقية أساسية ، يرميان إلى السلام، وإلى إشباع حاجات الجسد باعتدال، وإلى التعاون الاجتماعي والحرية الفردية، وإلى حياة هادئة ولكنها ليست كئيبة. وكلاهما يتخيل الرذيلة على صورة واحدة. ولما كان كلاهما دينا مكافحا، فإنه يفيد من هذه الصورة أكثر مما يفيد من صورة الفضيلة - يفيد من كفاحه ضد القسوة، والآلام، والغيرة والغرور، والأنانية، والاستهتار، والكبرياء، وغير ذلك من الرذائل الكثيرة التي نعرفها جميعا.
ولكنا يجب أن نحتفظ عند المقارنة بالتوازن. إذا كانت عقيدة حركة التنوير ضربا من ضروب المسيحية، وتطورا لها، فهي من وجهة نظر المسيحية التاريخية في العصور الوسطى زندقة، أو تحريفا للمسيحية، ومن وجهة نظر الكالفنية كفر بالله. إن عقيدة حركة التنوير لا تفسح مجالا معقولا لإله شخصي، يمكن الوصول إليه بالصلاة الإنسانية، إلها لا تحيط به حدود، أو أية قاعدة من القواعد التي يكشف الناس عنها عندما يدرسون أنفسهم ويدرسون بيئتهم، وهي لا تسمح بوجود غير الطبيعي فوق الطبيعي. إن عقيدة التنوير بسبب تحالفها الوثيق مع العلوم الطبيعية ومع التفكير المجرد عامة تميل - إلى حد ما - إلى أن تكون أكثر معقولية حتى من أشد المتطرفين من المسيحيين العقليين، وتميل إلى أن تجعل هذا الاستسلام الصوفي الذي نجده في التجربة المسيحية أمرا مستحيلا. وأرجو ألا نسيء الفهم هنا؛ فإن الفارق ليس بين المسيحية «العاطفية» والتعقل «البارد»؛ فإن هناك في الواقع عواطف حارة سرت في إيمان حركة التنوير، كما أن كثيرا من العقليين قوم حساسون. إنما ينحصر الفارق في «نوع» العاطفة، وكذلك في موضوعها إلى حد ما. وتستطيع أن تصوغ الفارق بينهما إذا اعتبرت حركة التنوير أقل انسجاما مع مشاعر «المنطوي على نفسه» من المسيحية، بالرغم من بساطة هذا التعبير وقدمه.
وأكرر مرة أخرى أنه ليس بالأمر التافه أن تكون جنة حركة التنوير فوق هذه الأرض - في هذه الدنيا، وإن تكن في المستقبل. وقد عزت هذه الحركة إلى نفسها مبدأ التقدم، وما يترتب عليه من مبدأ إمكان الكمال للإنسان. وتستطيع من وجهة نظر بعيدة بعدا كافيا أن تقول إن المسيحية وحركة التنوير كليهما يحفل كثيرا بمكانة الإنسان في التاريخ، وإن لكليهما في الواقع فلسفة للتاريخ، وإن كليهما يعد لنهاية سعيدة. ولكن مبدأ التقدم يبسط ويتعجل في آن واحد على الأقل في صورته كما تخيلها الناس في القرن الثامن عشر - رحلة الإنسان المعنوية. وهذا المبدأ يؤكد بشدة الجانب المادي من التقدم. وهو - فوق كل شيء - يتوقع أن يتم التقدم نتيجة لتحرير الكائنات البشرية العاقلة الطيبة بطبيعتها من قيود القانون، والتقاليد، والعادات، والسلطة، بل ومن أكثر ما شيدته المسيحية التقليدية في ألف وسبعمائة عام، وهذا المبدأ الذي يقول بالخير الطبيعي عند الإنسان هو عند المسيحي التقليدي الزندقة الأساسية في حركة التنوير. ذلك أن نتيجته المنطقية هي الفوضى الفلسفية - إلغاء كل القيود الخارجية على سلوك الفرد. وقد ذكرنا من قبل أنه لم توجد في القرن الثامن عشر حركة هامة قصدت في الواقع من ناحية عملية إلى الفوضى واتجهت نحوها، ولكن الميل نحوها لصق بأكثر ضروب التفكير التقدمي أو الديمقراطي، فقيل إن الفرد على حق، والمجموع على خطأ. والحرية خير في حد ذاتها، والخضوع للقواعد شر في حد ذاته، أو هو - على أحسن الفروض - غير ضروري.
لقد وعدت حركة التنوير بالفردوس في هذه الدنيا، وفي وقت قريب، وبطريقة كان معناها عند الفرد انطلاق «طبيعي» للقوى العريضة الشهوانية الكامنة في نفسه، ولم يكن معناها إنكار الذات وتدريب النفس على الحرمان. أو قل على الأقل إن هذا هو الجانب السهل، المتفائل، المبتذل من حركة التنوير، أو هو التطرف في الحركة، أو الجانب غير المعتدل الذي يعلمنا شيئا من نقائصها وأخطارها. بيد أن المستنيرين لم يكونوا جميعا متفائلين بهذه السذاجة. وحركة التنوير لم تأت لتدعو في وضوح وجلاء إلى سفك الدماء، وإلى العمل الشاق، والعرق، والدموع. وسوف نرى ما حل بأحلام حركة التنوير في ظل المتاعب التي أعقبت تلك الحماسة المتفائلة بعالم أمثل، حماسة الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية.
الفصل الثاني عشر
القرن التاسع عشر: (أولا) النظرة الكونية
المتقدمة
بلغ التفاؤل في الأيام الأولى من الثورة الفرنسية حدا جعل كثيرا من المفكرين يقولون بأن التاريخ قد بلغ نهايته؛ لأن التاريخ عندهم لا يوجد إلا كسجل للنضال، وللتقدم البطيء إلى الأمام عن طريق الآلام. أما الآن فقد انتهت الآلام، وتحققت المرامي والأهداف؛ فلم تعد ثمة حاجة إلى التاريخ، ما دام ليس هناك نضال وليس هناك تغير من حال إلى حال وهل للسماء تاريخ؟ ومهما يكن من أمر فإننا قد تجاوزنا الماضي بما فيه من أهوال، ولم تعد بنا حاجة إلى ذكراه. إن الإنسان يبدأ عهدا جديدا. ولذلك فقد شعر كندرسيه بأنه مضطر إلى تقديم المعذرة لرجوعه إلى التاريخ عند روايته لقصة تقدم الإنسان. «كل شيء يشير إلى أننا قد بلغنا ثورة من الثورات الكبرى في تاريخ الجنس البشري. أي شيء أنسب لتنويرنا فيما ينبغي أن نتوقعه من هذه الثورة، لإمدادنا بمرشد على هدى وسط هذه الحركات، أي شيء أنسب لذلك من قصة الثورات التي سبقت والتي مهدت لهذه الثورة؟ «إن الحالة الواقعية للاستنارة الإنسانية تكفل لنا أن تكون هذه الثورة ثورة سعيدة». ولكن ألا يتحتم لذلك أن نكون قادرين على استخدام كل قوانا؟ ولكيلا يكون الثمن الذي ندفعه لتحقيق هذه السعادة التي وعدتنا بها هذه الثورة باهظا، ولكي يمكن انتشارها بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع، ولكي تكون أتم في نتائجها، ألا يتحتم علينا أن ندرس في تاريخ العقل البشري أي عقبات يجب أن نخشاها وأي الوسائل لدينا للتغلب على هذه العقبات.»
وقد مات كاتب هذه السطور بعد تدوينها ببضعة أشهر، وربما كانت وفاته انتحارا، أو من شدة الإجهاد، في سجن يقع في إحدى ضواحي باريس، أطلق عليها إبان الثورة اسم جديد هو «ضاحية المساواة». وباعتباره عضوا معتدلا في «المجمع الديني» كان يحاول أن يفر من الحكم بالنفي أو الإعدام الذي أصدره المتطرفون الظافرون على كل خصومهم من المعتدلين (ارجع إلى ما أوردناه في الفصل الثالث من هذا الكتاب تحت عنوان «أزمة القرن الرابع» من مقتبسات من رواية ثيوسيديد لأحداث مشابهة في كوركيرا قبل ذلك بألفين وثلاثمائة عام). وفي ذلك الحين كان العالم الغربي في بداية الطريق نحو حرب عالمية استغرقت نحوا من خمسة وعشرين عاما. وهي حرب جذبت إليها في عام 1812م حتى جمهورية الولايات المتحدة الجديدة الفاضلة المنعزلة. وكانت أكثر ما اشتبك فيه الجنس البشري من حروب من حيث النفقات وإراقة الدماء.
ولا نستطيع أن نتعرض هنا لمجرى الثورة الفرنسية - التي كانت في أصدائها غريبة، ولم تكن فرنسية فحسب، كانت الثورة الفرنسية بالنسبة لصانعيها وبالنسبة لخصومها كذلك، أساسا للبرهان على أفكار حركة التنوير؛ ففي الثورة أجريت بالفعل تجربة إلغاء البيئة القديمة السيئة وإقامة البيئة الجديدة الطيبة. وقد تمخضت الثورة عن حكم الإرهاب، وعن نابليون، وعن حرب دامية. وكان من الواضح أن خطأ قد وقع. ومع ذلك فإن قادة الفكر البشري لم يستنبطوا البتة في بساطة أن الآراء التي تكمن وراء التجربة كانت كلها على خطأ. لقد وصلوا إلى نتائج عديدة، وهذه النتائج تيسر لنا فهم الكثير من القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي الفصول القادمة سنقدم إلى القارئ تقسيما تقريبيا إلى أولئك الذين استمروا في الإيمان بالأفكار الأساسية لحركة التنوير، بعد تعديلها تعديلا يلائم الطبقة الوسطى المحتشمة، وأولئك الذين هاجموا هذه الأفكار باعتبارها خاطئة من أساسها، وأولئك الذين هاجموا هذه الأفكار، على الأقل كما تغلغلت في مجتمع القرن التاسع عشر - باعتبارها صحيحة في أساسها، ولكنها تشوهت، أو لم تتحقق، أو لم تتقدم إلى بعد كاف. وإذا استعرنا التعبير من السياسة قلنا إن وجهات النظر كانت وسطا أو يمينية أو يسارية.
تكييف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها
بقيت الأرض الثابتة التي قامت عليها العقيدة العامة في القرن التاسع عشر هي مبدأ التقدم. والواقع أن هذا المبدأ في النظرة الكونية الجديدة بدا أثبت مما كان في القرن الثامن عشر؛ فالجنس البشري في تحسن، وفي اطراد السعادة، ولم يعد لهذا المسير إلى الأمام حد يقف عنده في هذه الدنيا. وسوف نتعرض بعد قليل إلى بعض القيم والمعايير المحسوسة لهذا المسير. ويكفي هنا أن نشير إلى أنه إذا كانت الأحداث المؤسسية في الحروب والثورات التي نشبت في أواخر القرن الثامن عشر قد أوحت بأن التقدم قد يضطرب في مسيره، ولا ينطلق في خط مستقيم منتظم إلى أعلى فإن في الفترة الهادئة نسبيا بين عام 1815م و1914م كانت هناك دلائل مادية كافية تؤيد الإيمان بنوع من أنواع التقدم. ربما كان لا يسير في خط مستو أو منتظم - وبخاصة في ميدان الأخلاق - ولكنه برغم هذا تقدم واضح.
فالعلم والتكنولوجيا أولا واصلا السير قدما بغير توقف ظاهر. وقد بلغنا مرحلة من مراحل تاريخ العلم، لم تعد لنا معها حاجة إلى محاولة الرجوع إلى القديم. ولما اقترب القرن الثامن عشر من نهايته أمست «الكيمياء الجديدة» التي جاء بها لافوازييه هي الكيمياء الحديثة، وذلك بالرغم من أن لافوازييه نفسه قد عانى في الثورة الفرنسية مصيرا كمصير كندرسيه. وكذلك بلغت الجيولوجيا سن الرشد، وفي عام 1802م - طبقا للعالم اللغوي الفرنسي لتريه - استخدمت لفظة «البيولوجيا» لأول مرة. وبالرغم من أن العلوم البيولوجية لا تزال بحاجة إلى عمل كثير، فإن من الحق أن الأسس العريضة قد تم وضعها بحلول عام 1800م، وبخاصة فيما يتعلق بتصنيف الحيوان والدراسات المورفولوجية التي تتعلق بتركيب الأجسام. وقبيل منتصف القرن دون أوجست كومت قائمته الشهيرة بالعلوم بترتيب سيطرتها على موادها، و«نضجها» أو كمالها. وكانت العلوم الأقدم في نظره أكمل، ما دامت مادتها كانت أطوع للسيطرة عليها. وهي تمتد من الرياضيات إلى الفلك، ثم إلى الطبيعة والكيمياء، وإلى البيولوجيا والسيكولوجيا. أما «علوم الحياة» - حتى في نظر كومت - فلم تبلغ بعد المستوى اللائق بها. وهناك علم يختتم به قائمته، وهو علم لم يولد بعد، ولكنه في طور التكوين، على الأقل في ظن كومت الطموح، وهو علم أطلق عليه اسما مكونا من خليط من اللاتينية والإغريقية، ذلك الخلط الذي كان يسيء إلى الكلاسيكيين دائما، وهذا الاسم هو «السوسيولوجيا» أو علم الاجتماع. إن علم الإنسان لا بد أن يتوج باقي العلوم.
ومن الأهم لأغراضنا هنا أن نلاحظ أن هذا النمو في العلوم كان يصطحب بنمو في المخترعات والمشروعات التجارية اللازمة لاستخدامها. وهكذا تعززت نظرة بدأ الغربيون يتمسكون بها في باكورة القرن الثامن عشر، وهي حالة عقلية ترحب بالتقدم المادي وتتوقعه، كما ترحب بسرعة الانتقال وبالمدن الكبرى وبسباكة أفضل، وغذاء أشد تنوعا وأكثر وفرة. ولم يكن هذا التقدم - فوق ذلك - للقلة صاحبة الامتياز، وإنما كان تقدما يأمل كل فرد - حتى أدنى الناس درجة - أن ينال منه نصيبا في يوم من الأيام. وكان الجميع يفخرون بهذه الإنجازات، والجميع يتوقعون استمرارها، على نطاق أوسع رقعة، وأكثر عددا من الناس، وهي نظرة نحسب نحن الأمريكيين أحيانا - بأفق ضيق - أنها تمثل الأمريكيين، في حين أنها تمثل العالم الغربي منذ ما يسمى بالثورة الصناعية؛ فكان في إنجلترا الباحثون عن الثراء تماما كما نجد في ربوع الغرب الأوسط في أمريكا . وكانت ليفربول في إنجلترا من كل ناحية من النواحي مدينة جديدة كالمدينة التي تسمت باسمها في ولاية أوهايو عبر المحيط. وكنت تستطيع في كل مكان تقريبا في العالم الغربي أن ترى «الأشياء» تتضاعف من حولك. وسواء أكان ذلك تقدما أم لم يكن، فإن ازدياد القدرة البشرية على إنتاج السلع المفيدة كان من الوضوح بحيث لا يمكن لأي امرئ أن يغمض عنه عينيه.
وكان المرء من ناحية أخرى يستطيع في منتصف القرن التاسع عشر أن يثبت على الأقل إثباتا معقولا بأن هناك تقدما خلقيا وسياسيا. وفيما بين عامي 1815م و1853م لم تشتعل في أوروبا حرب هامة، وإنما كانت مجرد حرب استعمارية عادية. وكان الرق قد ألغي في المستعمرات الإنجليزية، وعلى وشك الإلغاء في الولايات المتحدة. وتحرر رقيق الأرض في روسيا. وبدا كأن كل ضروب السلوك الطيب، من تحريم الخمر، إلى العفة، في سبيل التقدم. وأمكن لهربرت سبنسر أن يأمل في سرعة ارتفاع مركز المرأة عن مستوى التجمل. وأمست للحياة البشرية قيمة، أو على الأقل بات الناس يمسكون عليها، بطريقة لم يسبق لها مثيل. ولم يعد لضروب الرياضة العنيفة، والعقوبات القاسية، صدى طيب في الغرب. وفي عام 1850م أضحى من المستحيل في أي مكان في الغرب أن يكون هناك محل لذلك السلوك البشري الذي نجده في التهديد بالسحر كما كانت الحال في القرن السابع عشر، وهو تهديد ظهر بأبشع صوره في إقليم ماساشوستس في العالم الجديد.
إن أعظم ما قدمه القرن التاسع عشر لمبدأ التقدم نجده في عمل البيولوجية. وإن كان داروين يحصد - وبحق - أغلب الشهرة، إلا أن صفا كبيرا من العاملين كان لعدة أجيال يبني فكرة التطور العضوي. وأوضح البحث الجيولوجي أن الحياة فوق هذا الكوكب قامت منذ عهد طويل جدا، منذ ألوف السنين، بل ومنذ ملايين السنين لما توافر على ذلك الدليل. وتبين من البقايا المتحجرة أن الكائنات العضوية الأكثر حركة والأشد تعقيدا في جهازها العصبي مثل الفقريات إنما جاءت في وقت متأخر نسبيا، وأن أشكال الحياة الأولى كانت بسيطة بوجه عام. وبدا من فحص الصخور كأن الحياة في شبه صعود مع تقدم الزمن، والإنسان في ذروتها. وهكذا فإن فكرة التطور العضوي كانت في الجو - على الأقل في الجو الذي يتنفسه المفكرون - منذ أواخر القرن الثامن عشر. وسار التطور من أصداف البحر إلى الإنسان. واستطاع داروين - كما استطاع نيوتن من قبل - أن يربط بين مجموعة الحقائق والنظريات المستمدة من الدراسات المفصلة في نظرية عامة يمكن أن تصل إلى الرجل المتعلم العادي.
وليس هذا محل محاولة تحليل نظريات داروين في التطور بأية حال من الأحوال. وقد كانت هذه النظريات بالنسبة إلى الرجل العادي، الذي يهمنا في هذا المجال، تعني شيئا كهذا: إن كل الكائنات العضوية الحية تتنافس على الدوام مع أفراد فصيلتها، كما تتنافس مع الفصائل الأخرى من الكائنات العضوية على الطعام وعلى المجال للحياة. وفي هذا النضال من أجل البقاء تعيش أفراد الكائنات العضوية المهيئة أفضل تهيئة للحصول على وفرة من الطعام وعلى وسائل الحياة الطيبة الأخرى - بوجه عام - أفضل عيشة وأطولها. وتحصل على أكثر الأفراد جاذبية من الجنس الآخر وأقدرها، وتخلف نسلا ملائما مثلها. وهذا التكيف هو في صميمه من حظ الفرد عند مولده؛ لأن الكائنات العضوية تتكاثر عددا، وفي هذا التكاثر يختلف صغارها اختلافا يسيرا، عفويا في الظاهر - فهذا فرد أطول قليلا، أو أقوى قليلا، أو لديه عضلة من العضلات متطورة إلى الأحسن بصفة خاصة، وهكذا. وهذه الاختلافات التي تحدث بحسن الحظ تميل إلى الاستمرار في الخلف على أية حال، ومن ثم يميل صف جديد أو نوع من الأنواع إلى الاستقرار، وهو أكثر نجاحا وأفضل تهيئة للنضال من أجل الحياة من النوع الذي تطور عنه. والكائن العضوي المعروف باسم «الكائن البشري» لم يتطور عن القردة، وإنما تطور عن نوع أسبق منها. وخرج الإنسان من النضال أعظم نصر للتطور. وهذه العملية تسير على الدوام، وإن يكن في بطء شديد. والإنسان، بعقله، وبانتصاب قامته، وبيده، هو في الوقت الحاضر فيما يظهر ابن التطور المفضل؛ ابن هذه العملية الكونية. غير أنه كغيره من الكائنات العضوية التي تدلنا عليها السجلات الجيولوجية قد «يتقهقر»، وقد يفشل كما فشل الديناصور (حيوان زاحف منقرض) من قبل، ويحل محله كائن عضوي أنسب منه. هذه بإيجاز هي نظرية داروين كما شاعت في العصر الفكتوري.
وهكذا نرى أن الأفكار الداروينية ليست - بأية حال من الأحوال - متفائلة بالضرورة. ولكن أولئك الذين قبلوا أكثر هذه الأفكار وجدوها مليئة بالأمل. وأوضحوا أن ما يسمى بالتقدم يبلغ من الصدق مبلغ ما يسمى بالجاذبية. وطبعوا الأفكار الخلقية والسياسية بطابع العلوم الطبيعية، تماما كما فعلت أفكار نيوتن قبل ذلك بقرن ونصف القرن. ومن الحق أن نشر «أصل الأنواع» لداروين في عام 1859م قد أدى إلى صراع شديد بين العلم والدين، وظهر كتاب داروين - وبخاصة بعدما نشره تلاميذه المتحمسون له - لكثير من المسيحيين أنه لا يتعارض مع التفسير الحرفي لسفر التكوين فحسب، ولكنه ينكر أن الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى بأي شكل من الأشكال - إلا في ناحية واحدة، وهي أن التطور الطبيعي المحض لجهازه العصبي المركزي قد مكنه من الاسترسال في التفكير الرمزي، كما مكنه من أن تكون له أفكار خلقية، وأن «يخترع» إلها له. وهذا الصراع لم ينته بعد. ويبدو أنه يتخذ في عصرنا - وبين المفكرين على الأقل - شكلا آخر، وهو نضال تعبر عنه لفظة «الإنسانية» أو «العلوم الإنسانية» من ناحية، ولفظة «العلوم» من ناحية أخرى.
ومهما يكن من أمر فإن اهتمامنا الأكبر هنا ليس هو الصراع بشأن مكانة الإنسان في الطبيعة كما نشب في القرن التاسع عشر، بل وليس هو الحرب القائمة بين العلوم البحت والعلوم الدينية؛ فإن تأثير كتاب داروين قد امتد إلى الفلسفة، والاقتصاد، بل وإلى كل العلوم الاجتماعية الوليدة في الواقع. وسوف نلتقي به مرة أخرى، ويكفينا هنا أن نذكر أن التطور العضوي كما أظهره داروين وأتباعه، كان عملية بطيئة جدا في الواقع، حتى إن التاريخ كله - من هومر إلى تنيسون - هو بالنسبة إلى الزمان منذ البقايا الحجرية الكامبرية الأولى بمثابة بضع دقائق بالنسبة إلى العام. والنضال من أجل البقاء، بل وكل أسلحة الأفكار الداروينية، كانت أبعد ما تكون عن الإيحاء بمستقبل يسوده السلام، والتعاون، وانتفاء الآلام وخيبة الآمال. ومن ثم فإن مقتضيات مذهب داروين - باختصار - بالنسبة إلى الأخلاق والسياسة أقرب إلى أن تعارض منها إلى أن تؤيد فكرة الاستبشار التي آمنت بها حركة التنوير؛ تلك الحركة التي أكدت إمكان التحول «السريع» نحو الأفضل. ومع ذلك فإن نتائج العملية كلها كانت مما يرفع الروح المعنوية، ومن المحتمل أن هربرت سبنسر لم يكن سوى المعبر بوضوح عن نظرة الرجل الأوروبي أو الأمريكي المتوسط، عندما قال إن نظام الطبيعة «فيه قسوة خفيفة بحيث يمكن أن يكون رحيما جدا.» وظهر للمؤمن بالتطور أن التطور يفسر الطريقة التي يتم بها التقدم. وليس ذلك فحسب، بل إن التطور يجعل هذا التقدم أمرا طيبا لا مفر منه بصورة واضحة.
وكانت هناك - فوق ذلك - وسائل للتوفيق بين الأوجه الجافة من النضال الدارويني من أجل الحياة وتقاليد حركة التنوير التي تدعو إلى الإنسانية والسلام؛ فيمكن أن يعتبر النضال من أجل البقاء بين الكائنات العضوية الدنيئة متساميا بشكل من الأشكال بين الكائنات البشرية؛ ف «الطبيعة المتوحشة بأسنانها ومخالبها» يمكن - وبخاصة بالنسبة إلى رجل الأعمال الناجح الذي نشأ في المدينة - أن تمسي بسهولة مسالمة متعاونة في المجالات الثقافية في إنجلترا لعهد فكتوريا؛ فالناس آنئذ كانوا يتنافسون في الإنتاج وفي سمو الأخلاق، لا في نضال الحروب الهمجي. وهناك تفسير آخر لم يخل من الخطر على تفاؤل حركة التنوير، وهو التفسير الذي يعتبر النضال الدارويني في الحياة البشرية نضالا بين جماعات منظمة - وبخاصة بين الحكومات القومية - وليس، أو ليس في المقام الأول، بين الأفراد في هذه الحكومات. أما في داخل المنظمة، أو في داخل هذا «الكائن العضوي السياسي» كما كان يحب هؤلاء المفكرون أن يطلقوا عليه، فقد ساد التعاون، ولم تسد المنافسة. كانت المنافسة بين ألمانيا وإنجلترا - مثلا - لا بين الألمان والإنجليز. وهذا النوع من التفسير حتى قبل تطور الأفكار الداروينية، كان يلقى قبولا بين كل الدعاة الألمان في هذا القرن، من نيتشه إلى تريسكي. ومقتضى هذا التفسير - كالقومية المتطرفة التي يقوم عليها - لا يتفق ونظرة القرن الثامن عشر بأسرها، وليس مجرد تعديل لها.
إن التطور الدارويني كان - على أية حال - بالنسبة إلى أكثر المتعلمين في القرن التاسع عشر - تبويبا وتثبيتا لمبدأ التقدم، وتعزيزا لميراثهم من حركة التنوير، ولكنه ربما أعان - مع أفول شمس هذا القرن - على زيادة تملك الأفكار الآخذة في القوة، أفكار السمو القومي أو العنصري، لخيال هؤلاء المتعلمين والعلاقة بين أفكار القومية ومثل حركة التنوير من أشق الأمور في تحليلها. كانت حركة التنوير ترى أن الناس جميعا سواء، وأن كل الفوارق - كفوارق اللون - إنما هي فوارق سطحية، ليس لها أثر في قدرة الإنسان على التثقيف وعلى الحياة الطيبة؛ ومن ثم فقد كانت الحركة عالمية بكليتها في نظرتها. ووقع القرن التاسع عشر في فخ المذاهب القومية، وخان عهد أسلافه المفكرين في حركة التنوير. وسمح للتقسيم القومي الذي ما زلنا نعاني منه أن ينمو.
وأرجو أن يتضح جيدا في الأذهان أن هذا التباين بين العالمية والقومية يستند إلى أفكار عامة معينة لفلاسفة القرن الثامن عشر وإلى أفكار أخرى مباينة لها لكتاب القرن التاسع عشر - التباين الذي يظهر مثلا بين لسنج الذي كتب «ناثان الحكيم» ضد التحيز العنصري، وجوبينو الذي كتب «مقالا عن الفوارق العنصرية» يدافع فيه عن التمييز العنصري. أما في العمل الواقعي فإن هناك فارقا يسيرا جدا في العلاقات الدولية، والأخلاق الدولية، بين العهد الأول والعهد الثاني. وكانت الحرب هي الملجأ الأخير في القرنين، ولم تكن الدبلوماسية في أحد القرنين أفضل منها في القرن الآخر. بل وليس من الحق أن تصريحات الدبلوماسيين في القرن التاسع عشر كانت أنبل من تصريحات سابقيهم.
ليست القومية في صميمها إلا تلك الصورة الهامة التي اتخذها الإحساس بالانتماء إلى قوم من الأقوام في ثقافتنا الغربية الحديثة. وقد كانت لهذه الثقافة منذ بدايتها عند الإغريق القدامى غزارة في الحياة الجماعية، من الأسرة إلى مثل تلك الجماعة الضخمة الكاثوليكية في الكنيسة الرومانية في العصور الوسطى. ومن بين هذه الجماعات العديدة جماعة كانت تقوم باطراد على أساس الرقعة الأرضية السياسية الإدارية، وعلى نوع تلك العواطف التي تنطوي عليها لفظة «الوطن»، أو «بلد الأمهات»، أو «بلد الآباء»، وهو تعبير أكثر شيوعا في الغرب. ومن المفيد جدا لطالب التاريخ والعلوم الاجتماعية المتخصص أن يدرس هذا الشعور الخاص؛ الشعور بالانتماء إلى قوم من الأقوام - باعتباره اندماجا لمجموعة من الأفكار والعواطف والمصالح - في سلسلة من المساحات المتباينة في الزمان والمكان - في أثينا في القرن الخامس - مثلا - وفي روما الإمبراطورية، وفي فرنسا في أيام القديسة جان دارك، وفرنسا في نظر فولتير، وفرنسا في عهد الجمهورية الثالثة. إن الباحث سوف يجد من غير شك فروقا في غزارة ونقاء عواطف الانتماء إلى الجماعة القومية، وفي توزيع هذه المشاعر بين الطبقات الاجتماعية، وفي مدى وغزارة المشاعر المعادية للجماعات القومية الأخرى (الجماعات الخارجية) وهلم جرا.
ولكنه سوف يجد كذلك مشابهات. ولا بد أن نؤكد هذا الجانب من الموضوع؛ لأن القومية لم تكن شيئا جديدا مفاجئا، ولم تكن كالوغد أو الشيطان الذي ظهر بغتة في ثقافة حركة التنوير، التي كانت على نقيض فكرة القومية، تقدمية، ديمقراطية مسالمة. القومية طريقة قديمة من التفكير والشعور تتركز في وحدات أرضية معينة نتيجة - بصفة خاصة - للقرون الثلاثة الأولى من العصر الغربي الحديث (من عام 1500م إلى عام 1800م) وهي سنوات التكوين. وليست هذه الوحدات ثابتة ثبوتا مطلقا، وإن يكن أكثرها ثابتا نسبيا خلال الأزمنة الحديثة - مثل فرنسا على سبيل المثال، أو أيرلندة إذا ضربنا المثل ببلد «مظلوم». وليس هناك اختبار واحد خارجي نختبر به القومية. وفي الواقع أن اللغة تعتبر عامة اختبارا كافيا؛ لأن سياسة أولئك الذين يسيطرون على الدول الحديثة كانت تتجه نحو محاولة بسط الوحدة الظاهرة التي تتيحها اللغة الواحدة على أعضاء الجماعة القومية. وفي البلاد التي يتكلم أهلها لغتين مثل بلجيكا وكندا نلمس بشكل ظاهر ضغطا وتوترا لا نجده في البلاد التي تشبهها من النواحي الأخرى مثل هولندا وأستراليا. ولا تزال سويسرا المثال الكلاسيكي، بل وتكاد تكون المثال الوحيد، لدولة يتكلم أهلها عدة لغات، ويعترف كل امرئ بأنها أمة حقيقية، و«بلد الآباء» بالنسبة لأبنائها.
إن الأمة تتكون من تشابك معقد لعلاقات واقعية إنسانية تمتد لعدة سنوات، وكثيرا ما تمتد لعدة قرون، ويغرم الأحرار المحدثون بالإصرار على انعدام وجود أساس بدني أو فسيولوجي للقومية، وانعدام وجود صفات «قومية» فطرية، نفسية أو جثمانية، فيما عدا ما نجده من توزيع عادي عفوي بين الأفراد الذين تتألف منهم أمم كفرنسا وألمانيا، والولايات المتحدة. إن الفرنسيين لا يولدون بمهارات فطرية في الغزل، والإنجليز لا يولدون طائعين للقانون مزودين بإدراك سياسي عام كامل. ولا يولد الألمان شقرا، ولا بشعور فطري بالتسلط. كل ذلك قد يكون صادقا، غير أن التربية، وكثيرا مما يطبع به الناس بقوة في مشاعرهم وآرائهم ظلت تفعل فعلها سنوات عديدة لإقناع الناس بأن الصفات القومية هي من حقائق الحياة. وقد تكون القومية نتيجة للبيئة، لا الوراثة، بيد أن البيئة الثقافية التي ينشئها التطور التاريخي الطويل قد تعصي في تعديلها عصيان الصفات البدنية.
ولا مشاحة في أن القومية قد تعززت، بل في الواقع قد اكتسبت شكلها المميز الحديث، نتيجة لأفكار حركة التنوير وتفاعلها مع العلاقات البشرية المعقدة التي نطلق عليها «الثورة الفرنسية». وربما تستطيع أن تقول في عبارة مجردة - من غير داع إلى التجريد - إن الأمم ذات السيادة الشعبية، والديمقراطية، أو الإرادة العامة طبقا لما قال روسو، قد تحولت إلى واقع سياسي تبريرا للحكومة القومية ذات السيادة. وقد ذكرنا من قبل أن وراء لغة العقل التي استعملها روسو في القرن الثامن عشر في كتابه «العقد الاجتماعي» شعورا بإرادة الجماعة يتجاوز الحدود «الاسمية» لأكثر ما في القرن الثامن عشر من تعقل، شعورا بأن الكل السياسي أكبر من مجموع أجزائه، وهو شعور يوصف بحق بالنزعة التصوفية، وهذا الشعور الصوفي - إذا تسلط بخاصة على جماعة قومية معينة - يكسب فكرة القومية رموزا ومثلا يشترك فيها كل أعضاء الجماعة. وتستبدل بالقومية عند المتحمسين لها حقا المسيحية وكل الأشكال المنظمة الأخرى لحياة الجماعة في كثير من الأحيان. وليس من شك في أن القومية عند الرجل المتوسط لا تعدو أن تكون عقيدة من العقائد التي تسكن في قلبه وعقله معا في صحبة حقيقية وإن تكن غير منطقية (غير منطقية بمعنى أن بعض هذه العقائد - كالمسيحية أو الوطنية القومية مثلا - قد تنطوي على مثل أخلاقية متعارضة). ومع ذلك فإنه من العسير أن نبالغ في مدى ضخامة الجزء الذي تشغله عبارة الدولة - عند كثير من الغربيين المحدثين - في علاقاتهم - التي تصدر عن وعي - مع الجماعات التي لا تقع في حدود أسرتهم.
والواقع أن الموقف الديني المشابه الذي شرحناه في الفصل السابق، ووازنا فيه بين المسيحية التقليدية و«المدينة السماوية» كما تخيلها فلاسفة القرن الثامن عشر، هذا الموقف يمكن أن يكون أقوى تجسدا في ديانة «أرض الآباء». هنا نجد وحدة أرضية محددة منظمة بحيث تستغل كل الاستغلال القوى السياسية التي تساندها بدلا من إنسانية غامضة يطلب رفع مستواها، وبدلا من أفكار مجردة ك «الحرية والإخاء والمساواة». ويمكن إشباع المواطنين بالمذهب منذ البداية حتى يطابقوا عاطفيا بين أنفسهم وبين مصير الجماعة القومية. وإن الشعائر التي تحيط بالعلم، والأناشيد الوطنية، والقراءة الموقرة للنصوص الوطنية، وتمجيد الأبطال القوميين (القديسين)، والإصرار على أن للأمة رسالة، والتوافق الأساسي بين الأمة والنظام العالمي - كل ذلك يألفه أكثرنا إلى درجة أن الفرد منا - إذا لم يكن متحمسا للعالمية يؤيد قيام حكومة موحدة للعالم أو أي اقتراح آخر لإقرار السلام العالمي - لا يكاد يلقي إليه بالا. ولكنك إن أردت أن تدرك مدى هذه الديانة القومية حتى في الولايات المتحدة، حيث لا يوقظها أي إحساس بالظلم القومي، أي إحساس بالحاجة إلى رقعة من الأرض ليست عندنا، فاقرأ الفصل الجذاب عن مذهب لنكولن في كتاب رالف جبرائيل «سير الفكر الديمقراطي الأمريكي» وسوف تجد أن الناس قد توجهوا بالصلاة فعلا إلى لنكولن بعد مماته.
وإذن فالقومية أحد «الأشكال العملية» التي اتخذتها المذاهب الجديدة للسيادة الشعبية، والتقدم، وإمكان كمال الإنسان، في عالم الواقع. القومية تتفق وكثير من العناصر في حياة الجماعة الغربية الحديثة. وهي من الناحية النفسية تتفق وازدياد نفوذ الطبقة الوسطى التي كانت تعوزها التجربة العالمية والمعرفة الشخصية بالبلدان الأخرى التي كان النبلاء على علم بها. كانت طبقة تجد أن الإخلاص المجرد من الرجل المفكر للإنسانية جمعاء فوق مدارها، طبقة الأمة عندها على أهبة الاستعداد لكي تكفل «احتراما ذاتيا مشتركا» دائما وإن يكن في غير موضعه أحيانا (وهذه الصفة الأخيرة هي التعريف الصارم الذي عرف به الوطنية كلاتون بروك الإنساني الإنجليزي). القومية تتفق كل الاتفاق وحقائق التنظيم الاقتصادي في أوائل وأواسط الثورة الصناعية. والواقع أن المتعصبين للتفسير الاقتصادي للتاريخ قد فسروا القومية - كما فسروا كل أوجه العلاقات البشرية الأخرى - على أنها بكليتها نتيجة للتنظيم الاقتصادي لوسائل الإنتاج في المراحل الأولى من الرأسمالية الصناعية الحديثة. فإذا أنت أحسست بنور الحق يسطع من مثل العبارات التي تقول بأن واترلو كانت صراعا بين الرأسمالية البريطانية والرأسمالية الفرنسية فلربما لم يطفئ هذا النور شيء مما تطالعه هنا.
أما من وجهة نظرنا فإن المكاسب التي تتحقق من تنظيم الأمة كوحدة اقتصادية - وهي مكاسب يزيد منها كل ضروب القوانين التي تصدر في إطار الحكومة القومية، من تقنين الأوزان والمكاييل إلى حماية العلم في التجارة الاستعمارية - هذه المكاسب وما يترتب عليها إنما تعزز ما نسميه بالقومية، وهي لا «تفسرها ».
وأخيرا أقول إن القومية إجمالا قد تكيفت بالنظرة الكونية المتفائلة في عمومها التي سادت القرن الثامن عشر بتسرب هذه النظرة الكونية إلى أوساط المتعلمين الغربيين في القرن التاسع عشر. وقد تم هذا التكييف بشكل واضح، وبصورة تلائم كل الملاءمة الآمال الطيبة لحركة التنوير، فيما قام به الرجل الإيطالي القومي مازيني من عمل؛ فالأمة عند مازيني إن هي إلا خلقة لا بد منها في سلسلة يمكن أن توصف بالفردية فالقومية فالإنسانية. وإذا تحررت كل الجماعات التي تحس أنها قوميات لما قامت بينها مشكلات، ولما نشبت بينها بالتأكيد حروب. إن الإيطاليين لم يظهروا الكراهية للأجانب إلا لأن إيطاليا في مستهل القرن التاسع عشر كانت تخضع لحكم أجنبي، وكانت ممزقة إلى وحدات صغيرة مصطنعة. إن إيطاليا الحرة لا تشن حربا قط ولا تضمر عداوة. وفي عبارة مازيني: «إن ما يصدق على الأمة الواحدة يصدق بين مجموعة الأمم؛ فالأمم هي أفراد الإنسانية. والتنظيم الوطني الداخلي هو الأداة التي تؤدي بها الأمة رسالتها في العالم. القوميات مقدسة. وهي تقوم بإرادة سماوية لكي تمثل - في داخل الإنسانية - تقسيم العمل أو توزيعه لصالح الشعوب، كما أن تقسيم العمل وتوزيعه في حدود الدولة يجب أن ينظم لكي يحقق أكبر نفع لجميع المواطنين. فإذا لم تضع القوميات هذه الغاية نصب أعينها فهي عديمة الجدوى ومآلها السقوط، وإذا استغرقت في الشر - وهي الأنانية - هلكت. ولن تنهض مرة أخرى إلا إذا كفرت عن نفسها وعادت إلى الخير.»
وقد تبدو هذه الآراء غير واقعية إلى حد ما في منتصف القرن العشرين؛ حيث نجد الناس من أصحاب المزاج المثالي الحماسي الذي اتصف به مازيني على جانب ضئيل من الشعور بالقومية - اللهم إلا إذا استثنينا البلاد التي لا تزال تخضع لسلطان الاستعمار الغربي، ولكنها إحدى الوسائل التي يمكن أن يتم التوفيق بها بين القومية والمثل العالمية الحرة. وربما وصل الرجل العادي الإنجليزي أو الفرنسي - في صورة مخففة - إلى مثل هذه التسوية: لا بد في نهاية الأمر أن تتم المساواة والإخاء بين الناس، ويستطيع أبناء أمتنا في الوقت الحاضر أن يقودوا بقية العالم غير المتمدن إلى أوضاع أفضل. ولكن القومية يمكن أن تندفع حتى تمسي هجوما على أفكار حركة التنوير، لا تعديلا لها. إن صور القومية العديدة التي ترفع مجموعة قومية إلى مرتبة السادة، وتهبط بالمجموعات الأخرى جميعا إلى مرتبة العبيد، أو التي تهدف إلى إسكان الأرض كلها بمجموعة واحدة مختارة، والقضاء على غيرها من المجموعات - مثل هذه القوميات لا تتفق ومثل القرن الثامن عشر. ومن بين هذه القوميات التي تتعارض مع حركة التنوير، ليست الصورة الألمانية التي بلغت ذروتها في العقيدة النازية بالأمس فقط سوى أكثر الصور شهرة وأشدها اقترابا من النجاح.
ذكرنا أن الداروينية قد عززت في عقول العامة العقيدة في التقدم فوق هذه الأرض، وواءمت نفسها مواءمة كافية مع نظرة حركة التنوير المتفائلة إلى القدرات البشرية. وكذلك أمكن للقومية أن تتواءم - على الأقل في مثل الكتب النظرية التي ألفها مازيني - مع فكرة عالم مسالم من أفراد أحرار يعيشون عيشة معقولة في تسامح متبادل - بل في محبة متبادلة - وهناك كذلك تيار عظيم ثالث في الحياة العقلية والعاطفية في القرن التاسع عشر يعرض مشكلات أشد تعقيدا بالنسبة إلى الاتجاهات السائدة في عصر «النثر والعقل». غير أن هذا التيار - تيار الحركة «الرومانتيكية» الكبرى التي ثارت على ثقافة القرن الثامن عشر، وهي من الاتجاهات التي تميز بها القرن التاسع عشر في بدايته - حتى هذا التيار في الصورة العريضة لتاريخ الغرب ليس في الواقع انحرافا شديدا عن حركة التنوير، ولكنه في الأغلب، ومن حيث أثره في اتجاهات العامة من الرجال والنساء إزاء «المشكلات الكبرى»، لنشاط الإنسان فوق الأرض، استمرار لحركة التنوير.
وليس هناك - أولا - من شك في أن الجيل الذي عاش في مستهل القرن التاسع عشر قد نظر إلى آبائه نظرة فيها من الازدراء أكثر مما يحس به الرجل الغربي الحديث من احتقار عادي، هو احتقار الجيل الحاضر للجيل الذي سبقه مباشرة؛ فالشاب الذي تأثر كل التأثر بوردزورث اشترك مع وردزورث في احتقاره لكاتب مثل بوب الذي كان في رأيه ضحلا، مغرورا، ناثرا، وليس البتة بشاعر. والشاب الفرنسي في عام 1816م - الذي ربما ولد في المنفى، ثم أصبح كاثوليكيا متحمسا - أحس باشمئزاز شديد من جده المسن، وكان من أتباع فولتير لا يعرف الندم، ويمقت رجال الدين، ويحب الحديث الجيد، والطعام الجيد، والنساء الساقطات. هنا في الواقع نجد نظام الأجيال المألوف معكوسا، كما يبدو بصورة أقل وضوحا في منتصف القرن العشرين؛ فالجيل الجديد هو الذي يعد الجيل القديم منحلا لا يؤمن بالقيود والحدود.
وفي عبارة مجردة، وفي المصطلح المألوف في التاريخ الثقافي، نقول إن الكلاسيكية أو الكلاسيكية الجديدة في القرن الثامن عشر أعقبتها حركة رومانتيكية في مستهل القرن التاسع عشر، وكذلك المادية، والمذهب الاسمي، والتفتيت في حركة التنوير، أعقبتها المثالية، والتأكيد على الكل العضوي، في أخريات القرن التاسع عشر، كما أن مذهب الإيمان بالله مع إنكار الوحي، والإمعان في الإلحاد، والتشكك بين حين وآخر، والمناداة في أغلب الأحيان بتجريد رجال الدين من سلطاتهم في القرن الثامن عشر، أعقبه التوسع في إحياء الصور المسيحية في القرن التاسع عشر. وأقول في عبارة موجزة إن الانتقال إلى الأذواق الرومانتيكية هو من الأمثلة التقليدية للتحول السريع في كثير من أوجه الثقافة.
وإني لا أريد أن أنكر حقيقة هذا التحول، أو قيمة دراسته - وقد نال قسطا كبيرا من الدراسة وبخاصة من طلاب الآداب. إن الفارق بين صورة لواتو وصورة لدلاكروا، وبين قصيدة لبوالو وقصيدة للامارتين، وبين كنيسة على طراز القرن الثامن عشر النابي في ذوقه، وكنيسة على الطراز الغوطي الجديد، إنما هو من الفوارق الحقيقية الهامة. وأهم من ذلك الانتقال في الفلسفة من المذهب الاسمي إلى المذهب الواقعي، أو من العقل الجامد في الفلسفة إلى العقل المرن، على ألا تأخذ الجمود مأخذا جديا مبالغا فيه. وقد التقينا من قبل بهذا الانقسام الثنائي الأساسي في الفلسفة منذ عهد الإغريق. وككل الثنائيات يتفرع هذا الانقسام الثنائي إلى اتجاهات عديدة محيرة نلمسها إذا نحن قمنا بالتحليل الدقيق، ولكنه انقسام له فوائده على أية حال. ويجب أن نقف برهة لكي نرسم الخطوط العريضة للخطوات التي مرت بها الفلسفة من فلسفة العقل في القرن الثامن عشر إلى فلسفة القلب في القرن التاسع عشر.
إن اتجاه التفكير في القرن الثامن عشر في ميادين المعرفة العميقة يمكن أن يستمد من بنتام، الذي قد يكون متطرفا، ولكنه واضح بصفة خاصة. ويرى بنتام أن الإدراك الحسي حقيقي ولا يجوز الجدل فيه. وفي مستوى العلاقات الإنسانية تجعلنا حواسنا على وعي بوجود الكائنات البشرية، وهي نحن وغيرنا. وهذا كل ما هنالك. فإن كل كائن بشري فرد، أو ذرة اجتماعية، وكل تجمع لهؤلاء الأفراد إنما هو تجمع أفراد. وليس قولنا: «الإرادة العامة»، و«روح الأمة» وما إلى ذلك سوى هراء وادعاء؛ فإن الجماعة لا تشعر ولا تفكر أو تعمل كما يستطيع الفرد. والكل لا يكاد حتى أن يكون مجموع الأجزاء، والكل في هذه الحالة (وأرجو أن تذكروا هنا المذهب الاسمي في العصور الوسطى) خيال، ولكنه خيال نافع، وهو برغم هذا من إنشاء العقل.
وقد بدأ الابتعاد عن هذا الموقف - كما يظن عادة - بالفيلسوف الألماني كانت، الذي يعتبر النصف الثاني من القرن الثامن عشر فترة إنتاجه. وكانت فيلسوف محترف عسير الفهم. وربما ما زال بالنسبة إلى الرجل المتعلم المتوسط اليوم أحسن نموذج وخير ممثل للفلاسفة. وإذا أخذنا بالتمييز بين الواقعي والمثالي، قلنا إنه في مزاجه وتأثيره مثالي، مفكر مرن العقل. ولكنه - كآدم سميث في ميدان آخر - لم يكن البتة من المتطرفين. وكما أن تلاميذ آدم سميث في القرن التاسع عشر هم الذين ساروا بمبادئ الفردية الاقتصادية إلى حد التطرف فكذلك كان تلاميذ كانت من أمثال هيجل الألماني في بداية القرن التاسع عشر هم المثاليين الأقحاح. وبالرغم من أن كانت كان غامضا كثير التفصيلات كالألمان، وبالرغم من انحيازه بشكل واضح إلى جانب الملائكة، فهو كذلك من الواضح ابن من أبناء حركة التنوير. وقد أزعجه التطوير المنطقي الذي أحدثه هيوم في الثنائية الديكارتية؛ ثنائية الروح والمادة وتحويله لها إلى تشكك في اتفاق العقل البشري مع العالم الخارجي، فشرع في حزم ينقذ اليقين الفلسفي، وأرضى بعمله عددا كبيرا من الناس. وقد اتفق - في إيجاز - مع هيوم على أن التجارب التي نستقبلها والإدراك لا يعطياننا إلا أحكاما اتفاقية متقلبة غير مؤكدة. بيد أنه وجد في العقل اليقين الذي كان يبحث عنه. والعقل عنده نوعان: عقل عملي، وهو الذي يبين لنا - بغير ذلك - عن طريق البصيرة الأخلاقية ما هو حق وما هو باطل في موقف معين، والعقل البحت الذي يصدر بطريقة ما أحكاما صحيحة بطريقة لا نستطيع بمجرد الحساب العادي أن نصل إليها. ومن الواضح أن التفرقة بين الإدراك والعقل هي عين التفرقة بين المادة والعرض (ارجع إلى ما ذكرنا عن علوم الدين والفلسفة في العصور الوسطى في الفصل السادس) أي إنها تفرقة على أسس تختلف عن الأسس التي يستند إليها رجال العلم، وربما كانت كذلك مختلفة عما نستخدمه في إدراكنا العام من أسس، وهي مختلفة قطعا عن الأسس التي يلجأ إليها أصحاب المذهب الاسمي.
وقد كانت ل «العقل» سيرة رائعة بين صف من الفلاسفة الألمان يمتد من كانت إلى فخت وشلنج وهيجل. ونحب هنا أن نركز اهتمامنا على هيجل، وهو أوسعهم شهرة، ويعد مثالا نموذجيا جدا في كثير من نواحيه. العقل عند هيجل رسالة من الروح العالمية، رسالة من الإله الكامن الذي يكاد يكون إله سبينوزا، أو الحقيقة العليا التي تحكم العالم، وقد وقع هيجل في الورطة التي وقع فيها المثاليون من قبله، كما يدلنا على ذلك مبدأ له نستشهد به أكثر من غيره، وهو قوله بأن الحقيقي معقول وأن المعقول حقيقي، وقد سبقه مواطن له في نهاية القرن السابع عشر، هو ليبنتز، عندما انتهى إلى أن هذا العالم لا بد أن يكون أفضل العوالم الممكنة، وهو الحكم الذي هاجمه فولتير بشدة في روايته «كانديد». وقد ذكرنا من قبل أن رجل الدين الذي يجزم بوجود إله عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، فاضل من كل نواحيه، يجد أن مشكلة نشأة الشر مسألة وعرة. ولم يكن هؤلاء الفلاسفة في الواقع على أية حال ممن يعتقدون بوجود إله يكشف عنه الإنسان بطريقة تجاوز الطبيعة، ثم يكون هذا الإله بعد ذلك على صلة شخصية بمخلوقاته، بل ولم يكونوا ممن يؤمنون بوجود الله مع إنكار الوحي، مهما استخدموا لفظة «الله» فيما يكتبون. إنما هم يقدمون مبدأ، أو روحا (وهي شيء لا يمكن أن تدركه الحواس)، وهذه الروح شيء أشبه بالقوة التي تحرك العالم كله، من الفئران إلى الناس، ولكنهم يقعون في معضلة تشبه معضلة رجال الدين. ذلك أن الروح لا بد أن تؤدي عملها، ومن ثم فإن كل ما هو موجود حق، وإلا لما وجد. ومثل هذا الجدل يسيء إلى أفراد كثيرين، بل هو يضايق في أغلب الأحيان المفكر الذي يثيره.
لم يكن هيجل قدريا، إنما كان ألمانيا وطنيا أراد أن يغير بعض الأشياء على الأرض وأراد - مثلا - أن يحط من قدر العادات الفرنسية، ويرفع من شأن العادات الألمانية. وقد خرج من معضلاته المنطقية - أو ظن أنه خرج منها - وذلك بإطلاق ما أسماه «الروح العالمية» تعمل في التاريخ، والزمان بخطة كاملة، ولكنها غير ثابتة أو مستقرة. وهذه العملية، التي زاد من شهرتها تلميذه كارل ماركس، عرفت بالطريقة «الجدلية». تضع الروح فكرة ما كالحرية الإغريقية تثير بطريقة ما عكسها تماما، وهو في هذا المثال الاستبداد الشرقي، وهو عكس فكرة الحرية الإغريقية. الفكرة وضدها، مجسدتان في الإرادات والشهوات البشرية، تتصارعان في سلسلة عظيمة من ضروب الكفاح تنظمها الروح العالمية، ومن هذا الكفاح أخيرا تصدر «الفكرة المركبة»، وهي في هذا المثال «الحرية المنظمة» الجرمانية وفيما يلي نموذج لا يمثل هيجل أفضل تمثيل في آرائه وطرائقه - وذلك لأن النموذج يعالج وقائع محسوسة يفترض أكثرنا أنها لا تتضح فعلا بنوع العمل الذي يقوم به هيجل: «إن خير جواهر الأرض هو الألماس الذي يسر كل عين، لأنها ترى فيه الثمرة الأولى (الفكرة المركبة) التي تتولد عن التقاء الضوء (الفكرة) بالثقل (عكس الفكرة) والضوء مجرد، هويته حرة حرية كاملة - والهواء يمثل هوية العنصر الأول، أما الهوية الثانوية فهي السلبية الكامنة في الضوء، ومن ثم كان شفوف الجوهر. أما المعدن - من ناحية أخرى - فهو معتم، لأن الجزيء فيه يتركز في وجود مستقل بذاته عن طريق الكثافة النوعية العظمى.»
إن الفكرة المركبة ليست توفيقا بين الفكرة وضدها، وليست توسطا للفارق بينهما، ولكنها شيء جديد كل الجدة، يتولد عن كفاح سار. ومن الحق أن هيجل ربما ظن أن المرحلة البروسية من نضجه العلمي كانت نهاية العملية، أو الفكرة المركبة الكاملة. غير أن النقطة الهامة بالنسبة إلينا التي ينبغي ألا تفوتنا فهي أن المثالية الفلسفية الشكلية ذاتها، التي تميل إلى تأكيد الثابت على المتحرك، والمستقر على المتغير، كانت لا بد أن تتلاءم في هذا القرن التاسع عشر مع الشعور القوي بالزمان، وبالتحول، والتغير، والتقدم، والتطور.
وأهم من تفصيلات هذه الفلسفات المثالية بالنسبة إلينا نجاحها؛ فقد كان لها مركز الصدارة في ألمانيا منذ بداية القرن، وفي إنجلترا - وبخاصة في الدوائر العلمية - تغلبت تدريجا على المقاومة الممثلة في المذهب التجريبي الذي كانت له تقاليد قوية في بريطانيا. ولما أشرف القرن على نهايته كان ت. ه. جرين وبرادلي، وبواسنكيه - وكلهم مثاليون - أبرز الفلاسفة المحترفين بالتأكيد. وفي الولايات المتحدة تردد صدى مثالية جوشيا رويس من فوق المنابر وكراسي الجامعات، بل لقد غزت المثالية فرنسا، بلد المنطق البسيط الرزين؛ حيث كانت اللغة لا تميز بسهولة بين «الإدراك» و«العقل» كما يتميزان في اللغة الألمانية، وفي قرن فيه كثير من الحرية الفكرية كالقرن التاسع عشر، لم يكن بوسع مدرسة فلسفية أيا كانت - بطبيعة الحال - أن تسير الأمور وفقا لطريقتها وحدها. فازدهرت أشكال عديدة من المادية، والوضعية، والبراجماتية، وغيرها من الفلسفات التي تصدر عن عقول جامدة عمدا، ازدهرت حتى في ألمانيا. والواقع أن المفكر الإنجليزي هربرت سبنسر حاول نوعا من «التلخيص» لمادية القرن التاسع عشر التطورية العلمية، وظل أجيالا عديدة نوعا من أنواع الأبطال الثقافيين للشعوب «المتقدمة» بوجه عام.
ويتضح من ذلك أن الشخص المتعلم العادي - وكان هناك في أواخر القرن التاسع عشر ملايين الأشخاص من هذا الطراز في العالم الغربي - قد غير في المائة سنة التي أعقبت الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية كثيرا من اتجاهاته الفكرية. وقد أكدنا فيما سبق التحول الذي حدث في الفلسفة الشكلية الأكاديمية، من لوك أو بنتام مثلا إلى هيجل وبوسانكيه. وقد تقول إن الفلسفة الشكلية لم يكن لها قط تأثير بالغ حتى على عامة المتعلمين وتستطيع أن تضيف إلى هذا القول هذه الحقيقة الخاصة: وهي أن الفلسفة بحلول القرن التاسع عشر كانت بسبيل التحول إلى موضوع تخصص أكاديمي بحت، لا يكاد يراه إلا الأساتذة، فكان بذلك يزداد انقطاعا عن عامة المتعلمين. غير أن هناك صنوفا كثيرة أخرى من الاختبار، كالفن، والأدب، والدين. وكان الرجال والنساء في كل ذلك يميلون في القرن التاسع عشر إلى الحط من قدر آبائهم وأمهاتهم في القرن الثامن عشر، ويعدونهم سطحيين، نثريين، معرفتهم ضحلة، لم يشعروا أو يفكروا قط في الواقع شعورا أو تفكيرا عميقا. كانوا قوما لم يعيشوا حياتهم كاملة.
ومع ذلك فإن هذه الفوارق تصبح باهتة أمام هذه الحقيقة: إن كلا القرنين يشتركان في أساسيات النظرة الكونية الحديثة. وكلاهما يعتقد التقدم هنا فوق هذه الأرض، وكلاهما يؤمن بأن انقلابا أساسيا يمكن أن يحدث في كل نظام من النظم هنا مما يضاعف السعادة ويخفف من الآلام. وكلاهما في الصميم متفائل يؤمن بالتحسن. والعناصر الرومانتيكية والمثالية في ثورة القرن التاسع عشر على القرن الثامن عشر ربما ينبغي في المنطق الصارم أن تجعل العقيدة المتفائلة بإمكان الكمال البشري أمرا مستحيل الوقوع. وإحياء العاطفة، والخيال، والشعور بالكليات العضوية كان لا بد أن يجعل الفردية التي ينادي بها مبدأ «دعه يعمل» والارتباط البسيط الساذج بمشروعات الإصلاح، والآمال العريضة في انقلاب سياسي في السلوك البشري، أمورا أقل شيوعا. وقد استخرج بعض الناس بعض أمثال هذه النتائج من الثورة ضد عصر النثر وعصر العقل، ولكن رجل الشارع لم يفعل ذلك. وقد تمثل الطبيعة للقرن التاسع عشر مناظر الطبيعة الوحشية، والملاهي الهمجية، والوفرة بغير تدبير، بدلا من الحقول الهادئة، والفن التقليدي، والنظام والتسوية التي كانت تبدو طبيعية في القرن الثامن عشر. غير أن الطبيعة كانت في كلا القرنين حليفا مواسيا للإنسان، تكاد تتغلب على كل خصومه غير الطبيعيين فلا تكون لهم بعد ذلك عودة أو رجعة. وفيما كتب لويس مورجان العالم الأمريكي في الأنثروبولوجيا في عام 1877م صدى لما كتب كندرسيه قبل ذلك بقرن من الزمان. يقول مورجان: «الديمقراطية في الحكم، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق والامتيازات، وتعميم التعليم، كل ذلك يشير إلى المستوى الأعلى التالي في المجتمع، المستوى الذي تتجه إليه التجارب، والذكاء، والمعرفة، بخطوات مطردة.»
التوفيق في عهد فكتوريا
ليس من شك في أن في محاولة رسم الخطوط العريضة للنظرة العالمية للرجل المتوسط من أهل الغرب في القرن التاسع عشر أمرا عسيرا؛ لأن الأوساط في الغالب لا يوجدون في الحياة. ثم إن التنوع الذي نلمسه في القرن العشرين هو كذلك حقيقة من حقائق القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإن القرن التاسع عشر هو القرن العظيم بالنسبة إلى النفوذ والقوة الإنجليزية؛ فالرجل الإنجليزي هو الذي وضع المعايير حتى لتلك «السلالات الأدنى منه» والتي كانت تمقته. كان الرجل الإنجليزي العادي من الطبقة الوسطى هو أنجح بني الإنسان في القرن الماضي، وأعظمهم أملا، وأكثرهم تمثيلا للإنسان. كان الوريث الواضح لحركة التنوير، ولكنه مارس ممارسة كاملة الاتجاهات المتنوعة للمبادئ المعادية لهذه الحركة. وقد قاد المعركة ضد الثورة الفرنسية. ورحب شعراؤه وواعظوه وفنانوه جميعا بالأعماق الجديدة للشعور الذي جلبته الحركة الرومانتيكية. ولم تكن تقاليده بالتأكيد تميل إلى جانب الإيمان بالكمال، ولم تكن مشجعة لأولئك الذين كانوا يأملون أشد الأمل في التحول السريع (الذي يسير على نهج معين) في السلوك البشري - كان أكبر المنتفعين من الثورة الصناعية، عضوا في أعظم وأقوى دولة في عالم تتنافس فيه الدول. ولم تكن وطنيته بحاجة إلى أن تنم عن لمسة من لمسات عقدة النقص؛ لأن الرجل الإنجليزي. كان في قمة العالم، وما فعله بميراث حركة التنوير جدير بالبحث.
كان الرجل الإنجليزي يؤمن بالتقدم المادي. والواقع أن الناس في كل أنحاء العالم الغربي كانوا في ذلك الحين يسلمون بأن المشروعات الاقتصادية والمخترعات لا بد أن تؤدي إلى مزيد من وسائل الراحة. وظهرت «المدائن الفاضلة» مزودة تزويدا كاملا بالحيل الآلية التي كثيرا ما كانت تنتهي باستغلالها في الإنتاج. ومن ثم فإن إدوارد بلامي الأمريكي - الذي يعتبر كتابه «النظر إلى الوراء» الذي نشره في عام 1889م أشهر هذه الجنات الآلية - يتخيل أن شخصية البطل رب فان وينكل التي بدعها تتعجب من حيلة آلية يمكن بضغط أحد أزرارها أن يتدفق في الحجرة فيض من الموسيقى. ولكن المتنبئين مع ذلك كانوا يخطئون أحيانا؛ فقد تنبأ باكولي في الدفعة الأولى من التحمس للسكك الحديدية أن القرن العشرين ستنعدم فيه الطرق العامة والشوارع؛ لأن كل شيء سوف يتحرك فوق القضبان. واعتبر الرجل الفكتوري الرفاهية المادية أمرا لا بد من تحقيقه. لم يكن يخجله أن يعيش عيشة مريحة، ولم يأبه كثيرا بالنقص البادي في منتجات الآلات من الناحية الجمالية. وكان يعلم بوجود فنانين من أمثال رسكن وموريس الذين كانوا يرون أن هذه السلع الرخيصة المصنوعة بالآلات كانت كئيبة إلى درجة يرثى لها، ولكن ليس هناك ما يدل على أن علمه بذلك قد أمسك بيده عن الشراء.
كان الرجل في عهد فكتوريا على ثقة تامة بأنه يعرف لماذا تدفقت هذه الرفاهية المادية على بريطانيا العظمى. ذلك أن الشعب البريطاني في عقيدته موهوب بصفة خاصة في القدرة على الابتكار، وقوة التفكير، والاختراع، وحب العمل الشاق. كان هذا الشعب - في عبارة موجزة - يملك الصفات الإنسانية الضرورية للنجاح. ولكنه كان كذلك يعتقد أن هذا الشعب يملك مجموعة من النظم، والوسائل الاجتماعية والسياسية للقيام بالأعمال المختلفة، اللازمة لهذه المواهب لكي تؤتي ثمارها. ويسوقنا ذلك إلى العقيدة الكبرى في عهد فكتوريا في المذاهب الاقتصادية التي تأخذ بمبدأ «دعه يعمل». ولم يكن ذلك بطبيعة الحال لأن رجال الأعمال كانوا جميعا اقتصاديين، ولكني أقول كذلك إن المسيحيين ليسوا جميعا من الدارسين لأصول الدين. والواقع أن لدينا في هذا الموقف مثلا من الأمثلة الكلاسيكية لاتخاذ العامة لمبادئ من وضع رجال الفكر. الاقتصاد هو أكثر العلوم الاجتماعية تطورا، وله تاريخه الخاص، الذي يحتاج لسرده كله إلى مجلد في ضخامة هذا الكتاب على الأقل. وقد التقينا به من قبل في هذا الكتاب، ولكن لقاءنا معه كان عرضيا. ومهما يكن من أمر فإن الآراء التي تتعلق بكيفية توجيه الإنتاج وتوزيع الثروة توجيها صحيحا - في القرن التاسع عشر - ولا أقول مجرد الآراء التي يوحي بها الإدراك العام أو التقاليد والتي تتصل بطريقة معينة من طرق كسب العيش، وإنما الآراء المتطورة تطورا كاملا في إطار نظري له نتائجه السياسية والخلقية - هذه الآراء شاعت شيوعا عاما. وأقول في إيجاز إن في النظرة الكونية الفكتورية عنصرا اقتصاديا قويا.
والمبدأ الأساسي بسيط، وهو أن الأفراد، أو الأفراد المشتركين بحريتهم في شركات مساهمة مشتركة (ولا أقول المشتركين في الاتحادات بالمعنى الذي يفهمه منها الرجل الذي يمثل روح القرن التاسع عشر) يجب أن يصنعوا، وأن يشتروا، وأن يبيعوا ما يشاءون وبأية طريقة شاءوا. وإنما تحدد الأسعار والمعايير حرية هذه المنافسة طبقا لقانون العرض والطلب (وهو قانون كان الفكتوري يظن أنه في أساسه كقانون الجاذبية). ومن مثل عمليات المنافسة هذه يتوافر - بقانون الطبيعة - الحد الأقصى من السلع، ويتوزع بالحد الأقصى من العدالة الاجتماعية، فيحصل كل فرد بالضرورة على ما كسبه بموهبته وعمله. ويجب أن يستمر النشاط الاقتصادي دون أي تدخل من سلطات الحكومة تقريبا، ويحتاج رجل الأعمال - على أية حال - إلى أن يكون هناك نوع من أنواع تنظيم العقود على الأقل، وبالرغم من أن الأعمال الأنانية التي يقومون بها يكون لها عادة وقع طيب على المجتمع، إلا أن بعضهم يتجاوز حدوده أحيانا. ومقاومة الخداع إذن واجبة، كما أن هناك حاجة إلى ممثلي الحكومة لتنفيذ العقود. إلا أن القوانين الإيجابية من جانب الحكومة، كتقرير حد أدنى للأجور - مثلا - لا ينبغي أن يسمح لها بالتدخل في انسجام الطبيعة. وهناك في الواقع نتيجة حتمية في الاقتصاد القديم، وضحت بالفعل من قبل في مؤلفات آدم سميث؛ وهي أن الاحتكار - أو السيطرة على أي سوق بأي تنظيم تجاري منفرد، هو أعظم الشرور. غير أن كثيرا من الاقتصاديين القدامى وأتباعهم - وهم في ذلك من أبناء حركة التنوير الأبرار - اعتقدوا أن الاحتكار في الواقع من «خلق» الحكومات نتيجة للتراخيص والتعهدات وما إلى ذلك مما تعمل. واعتقدوا أن رجال الأعمال لو تركوا لأنفسهم لا يخلقون الاحتكار من تلقاء أنفسهم طائعين، وذلك بالرغم من أن آدم سميث - بما عرف عنه عن إدراك طيب سليم - لم يسعه إلا أن يلاحظ أن التجار كلما تجمعوا حاولوا أن يتحدوا وأن يشكلوا لونا من ألوان الاحتكار. ولما اتضح - وبخاصة في أمريكا في القرن التاسع عشر - أن الاحتكار، أو التوكيل، كان يوجد بهذه الطريقة، امتد المبدأ الاقتصادي: «دعه يعمل» من غير تحوير إلى سيطرة الحكومة - فيما عدا تنفيذها للعقود - ليخضعها له. إن الاحتكار الذي يحد من التجارة يمكن أن يحرمه القانون، كما يمكن للدولة أن «تحتم المنافسة».
هذه، في صورة مختصرة، هي النظرية الاقتصادية الكلاسيكية كما تسربت إلى رجال الأعمال في القرن التاسع عشر في صيغة مبسطة نسبيا. ولكن المبدأ لاقى معارضة من بعض المفكرين على الأقل، كما سنبين في الفصل التالي. ولم يتردد العمال في محاولة انتهاك قانون العرض والطلب في العمل، وذلك بتنظيمهم أنفسهم في نقابات عمالية منذ بداية القرن. ومع ذلك فإن بعض اتجاهات الاعتماد على معاونة المرء لنفسه وعلى الابتكار الفردي، وعدم الثقة بتنظيم الحكومة للنشاط الاقتصادي، تسربت إلى الطبقات العاملة. ولا يزال المبدأ القديم: «دعه يعمل»، المثل الأعلى، والعقيدة المقدسة في المجتمع التجاري والمهني في أمريكا - وذلك بالرغم من أن هذا المجتمع قد اضطر إلى أن يكيف سلوكه طبقا لعالم واقعي أبعد ما يكون عن العالم الذي يأخذ بالنظرية الاقتصادية التقليدية.
والواقع أن النظرية التي تنادي بأن تسير الدولة على مبدأ: «دعه يعمل» مثال رائع للمشكلة المعقدة، التي لم تفهم قط فهما جيدا، مشكلة العلاقة بين نظريات العلاقات الإنسانية والحياة الواقعية في هذه الدنيا. وهذه العلاقة كما ذكرنا من قبل ليست هي نفس العلاقة بين قانون الجاذبية وعمل المهندس. والواقع أن كثيرا ممن يدرسون شئون الناس اليوم يقفون موقفا يشبه موقف جورج سورل الفرنسي صاحب النظريات السياسية، الذي يسمي النظريات من هذا القبيل «أساطير». والمؤمنون بهذه الأساطير يكتسبون الشجاعة من عقيدتهم، ويجدون الأساطير نافعة من كثير من الوجوه. بيد أن الأساطير ليست تعميمات تحليلية للواقع. ويجب أن نعود إلى هذا التفسير الذي لا يتفق والعقل في فصل مقبل. ومن العسير أن نلفظ التفسير جملة واحدة، وبخاصة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية الضخمة. وربما استطاع الرجل الأمريكي أن يفهم المشكلة على خير وجه من نظرية حقوق الولايات، وهي النظرية التي نألفها جميعا. في عام 1814م في مجمع هارتفورد لجأت ولايات إنجلترا الجديدة إلى النظرية وهددت بالانفصال. ولم ينقض بعد ذلك قرن من الزمان حتى حاربت هذه الولايات نفسها لكي تمنع الولايات الجنوبية من أن تفيد من التجائها إلى نفس النظرية. ويمكن أن يقال إجمالا أن الجماعات السياسية الأمريكية المتنوعة أشد تنويع لجأت من حين إلى آخر إلى نظرية حقوق الولايات.
فإذا كانت نظرية: «دعه يعمل» يمكن تكييفها كنظرية حقوق الولايات، فإنا نتوقع من رجال الأعمال أن يعارضوا في تدخل الدولة ويؤيدوا الابتكار الفردي في بعض الأحيان عندما يجدون أن مثل هذه السياسة تتفق ومصالحهم الخاصة كما يرونها، ولكنهم يقبلون تدخل الدولة إن كان ذلك في مصلحتهم، وهكذا كانوا. وحتى المجتمع التجاري البريطاني؛ ذلك المجتمع الذي استطاع في منتصف القرن التاسع عشر أن ينشر في البلاد مبدأ التجارة الدولية الحرة - قبل دون عناء كبير مجموعة بأكملها من قوانين الحكومة التنظيمية التي تتعلق بالمصانع، وتشغيل الأطفال، وتنظيف المداخن، ونقابات العمال، وما إليها، وأكثرها من وحي بنتام. وكذلك أممت التلغرافات البريطانية تقريبا من بداية الأمر في عام 1856م. وفي أقطار أخرى - وبخاصة في ألمانيا والولايات المتحدة - لم يبد مجتمع رجال الأعمال استياء قط من حيث المبدأ، وعلى وجه العموم (بل وبالتفصيل أحيانا) من شكل من أشكال السيطرة الحكومية الصارمة عرف بالرسوم الجمركية. وكان أشد المنادين بالفردية حماسة في الولايات الغربية من الولايات المتحدة هم أعلى الناس صوتا في المناداة ب «الإصلاحات الداخلية» التي تدفع نفقاتها الحكومة الفيدرالية وتنفذها. ويمكن أن نقول إجمالا إن التجربة الأمريكية دلت على أنه بالرغم من أن الاتجاه الذي ينتظر أن يسلكه الرجل الأمريكي هو التشهير بالسياسة، والساسة، وإنفاق الحكومة، إلا أن قلة صغيرة جدا من الجماعات الأمريكية قد رفضت السماح للحكومة الفيدرالية بإنفاق المال على هذه الجماعات.
ومع ذلك فإننا بعد كل هذا التعديل الذي ذكرنا عن نظريات الاقتصاد الكلاسيكي - وهو تعديل في غاية الأهمية - وبعد إدراكنا أن وقائع الحياة الاجتماعية لا تتفق قط مع هذه النظريات، بعد هذا كله نلمس اندفاع هذا المثل - أو هذه النظرية - بعيدا عن اتجاه السلطة، ونحو اتجاه الحرية الفردية. ولكن مبدأ «دعه يعمل» لا يدخل في الحياة في عهد فكتوريا باعتباره مذهبا مطلقا، ولكن باعتباره جزءا من هذا الأسلوب يشجع - وبخاصة في حياة رجال الأعمال - أولئك الذين يمكنهم أن يجربوا طرقا جديدة، وأولئك الذين يستطيعون المغامرة. ومعنى هذا التشجيع أن من الرجال من حاول طرقا جديدة لم تكن ناجحة، ومعناه أنه كان هناك فاشلون، كما كان هناك ناجحون. معناه حقا أن عددا من الكائنات البشرية يريد أن يرفع مستواه - مستواه المادي ومركزه الاجتماعي - أكبر ممن يستطيعون ذلك فعلا. كان معناه - كما سوف نرى - أن الحاجة كانت ماسة إلى قوة ما، إلى نوع من أنواع العقائد والعمل الاجتماعي لتعوض الفردية المتطرفة، وهي الفردية التي أطلق عليها المثاليون الألمان ساخرين: «مبدأ الذرية» في كثير من نواحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الغرب.
وأكثر الأمريكيين يعرفون لب هذه العقيدة الفكتورية الاقتصادية الخلقية. والواقع أن لدينا عبارات محببة إلى نفوسنا نعبر بها عنها فنقول: «الفردية الوحشية»، ولها عدة أشكال، منها عدم الثقة عامة بالحكومة، والسياسة، والسياسيين، مما ذكرنا آنفا. وهناك مجموعة كبرى من الحكم الشعبية، مثل: «جدف في زورقك وحدك»، و«الله يعين من يعينون أنفسهم»، وكثير غير ذلك مما يشير إلى انعدام الثقة هذا في «الحكومة» كعنصر من العناصر الأساسية في ثقافة الغرب، لا يجد في القرن التاسع إلا مجرد التأييد له، وانتشاره بين جميع الطبقات.
إن القرن التاسع عشر يشهد في كل أنحاء العالم الغربي درجة من درجات الاعتقاد في الفردية، الاعتقاد الذي يجد نوعا من أنواع التبرير النظري والتأييد في مبدأ «الحقوق الطبيعية». وقد رأينا أن هذا المبدأ قديم جدا في الواقع، وقد كانت الحقوق الطبيعية - مثلا - في العصور الوسطى ملكا للأفراد، ولكن بغير مساواة، بل وبغير إطلاق، وإنما كجزء من مركب العادات والتقاليد بأسره الذي نشأ فيه الأفراد. والتقت الحقوق بالعقل في تفكير القرن الثامن عشر، ولما أشرف القرن على نهايته أصبحت «حقوق الإنسان» أمرا مألوفا. وكان المضمون المحسوس لهذه الحقوق يختلف باختلاف المفكر السياسي الذي كان يطالب بها، ولكنه صيغ في قوانين وإعلانات للحقوق، وبخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا. وكان الرجل الإنجليزي في أيام فكتوريا يحس في الأغلب أنه يملك الحقوق دون الحاجة إلى أي تعبير صريح عنها.
وجوهر فكرة الحقوق هذه هو أن الفرد - أي فرد وكل فرد - يستطيع أن يسلك مسالك معينة بالرغم من أن الأفراد أو مجموعات الأفراد الأقوى والأغنى لا تريده أن يسلك هذه المسالك. ومن الجماعات التي لا ينبغي أن تتدخل في سلوكه مسلكا معينا تلك الجماعة القوية التي نسميها الدولة. والواقع أن «الدولة» هي الجماعة المنظمة التي كان الشكل الذي اتخذه مبدأ الحقوق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مصوبا إليها. وكانت الحقوق تتضمن عادة حرية الكلام، وحرية المشروعات الاقتصادية (ويعبر عنها عادة بحرية «الامتلاك») وحرية الاجتماع في غالب الأحيان، كما تضمن حقا مفهوما على الأقل في مستوى أدنى معين للمعيشة، ويتخذ هذا الحق أبسط صورة له في حق المرء في أن يعيش. وهذه الصورة عن حقوق الأفراد هي في أساسها المعادل الحديث للصورة المسيحية عن قداسة الروح الخالدة عند كل إنسان، والصورة الإنسانية عن كرامة الإنسان. وهي صورة معادلة مجردة - تجردت من أكثر ما في المشاعر المسيحية من عمق وغموض. ولكن فكرة «الفردية الوحشية» العامة، بل المبتذلة، محسوسة في التقاليد الغربية. كما أن الإنكار الشامل لحقوق الأفراد ليس له وجود فيها.
وليس الأمريكيون بحاجة إلى أن يذكروا أن هذه الحقوق ليست في ممارستها مطلقة، ثابتة لا تتغير، وأن الدولة - على سبيل المثال - تستطيع أن تستولي على ملكية أي فرد للصالح البين العام - وإن كانت الدولة في نوع مجتمعنا لا بد أن تعوض المالك - وأن الدولة، بل والجمعيات العديدة المتطوعة، تستطيع لحماية الأخلاق أن تحد من حرية الفرد في الكلام، وأن المجال المحدود الذي يستطيع المرء - في إيجاز - أن يختص به نفسه في ظل هذا المبدأ يمكن أن يتلاشى كله تقريبا في بعض الأحيان. ولسنا كذلك بحاجة إلى أن نذكر أن هذا المجال الضيق في القرن الماضي - أو فيما يقرب منه - منذ العهد الفكتوري الأوسط قد انكمش حتى في الولايات المتحدة ولا تستطيع أن تجد تعريفا أحسن تعبيرا عن المجالات التي كان الرجل المتحرر المخلص في عهد فكتوريا يعتقد في ضرورة تقديسها بالنسبة إلى الفرد من مقال جون مل «عن الحرية» في عام 1859م. وفي كتابات مل أجزاء صداها اليوم في مسامعنا يشبه كتابة رجل محافظ يدافع عن الفردية العتيقة ضد «القانون الجديد».
غير أن مل مغرق في التفكير، وأنت تستطيع أن تدرك إدراكا أوسع لإحساس الرجل الفكتوري العادي من كتاب يذكره كل المؤرخين الاجتماعيين، وإن لم يقرأه أحد؛ لأنه ليس بالكتاب العظيم بأي معنى من المعاني. هذا الكتاب هو «عاون نفسك» لصمويل سمايلز، الذي نشره في عام 1860م في نفس الوقت تقريبا الذي نشر فيه داروين كتابه «أصل الأنواع» ونشر فيه مل مقالا «عن الحرية»: ... يتضح لنا يوما بعد يوم ونزداد إدراكا أن وظيفة الحكومة سلبية مانعة أكثر منها إيجابية فعالة؛ فهي ترجع أساسا إلى الحماية - حماية الحياة، والحرية، والملكية. ومن ثم فقد كانت الإصلاحات الرئيسية في الخمسين السنة الأخيرة تنحصر أساسا في إلغاء وإبطال بعض التشريعات، ولكن ليست هناك قوة أو قانون يستطيع أن يحمل الكسول على الجد، والمستهتر على الحرص، أو مدمن الشراب على الصحو. وإن كان كل فرد يستطيع أن يتصف بإحدى هذه الصفات أو بها كلها إن أراد، وذلك باستعمال قدراته الحرة على العمل وإنكار الذات. والواقع أن كل الخبرات تثبت أن قيمة الدولة وقوتها لا تتوقف على شكل دستورها بمقدار ما تتوقف على صفات أبنائها؛ لأن الأمة ليست إلا مجموع الظروف الفردية، وليست المدنية ذاتها إلا مسألة تقدم الأشخاص ... إن صفة الجماعة في الأمة - بحكم الطبيعة - لا بد أن تجد نتيجتها التي تلائمها في قوانينها وحكومتها، كما يجد الماء مستواه. الشعب النبيل لا بد أن يحكم حكما نبيلا، والشعب الجاهل الفاسد لا بد أن يحكم حكما غير نبيل. والواقع أن الحرية نمو أخلاقي بمقدار ما هي نمو سياسي - هي نتيجة العمل الفردي الحر، والنشاط الفردي الحر، والاستقلال الذاتي الحر - وقد تكون الطريقة التي يحكم بها المرء من خارج نفسه ذات خطر قليل نسبيا، في حين أن كل شيء يتوقف على الطريقة التي يحكم بها نفسه من داخله. إن أشد العبيد ذلا ليس ذلك الذي يحكمه حاكم مستبد، بالرغم مما في ذلك من شر عظيم، وإنما هو ذلك الذي يتحكم فيه جهله الأخلاقي، وأنانيته، ورذيلته. لقد كان - وربما لا يزال - هناك في الخارج من يسمون وطنيين، يحسبون أن أعظم خطوة نحو الحرية هي قتل الحاكم الظالم المستبد، ناسين أن هذا الحاكم إنما يمثل عادة في صدق وإخلاص شديد ملايين البشر الذين يسودهم، ولكن الأمم المستعبدة في صميمها لا يمكن أن تتحرر بأي استبدال في السادة أو النظم، وما دام الضلال القاتل قائما، وما دامت الحرية تتوقف فقط على الحكومة، وتنحصر فيها، فإن مثل هذا الاستبدال - مهما يكن ثمنه - لا تكون له إلا نتيجة دائمة عملية محدودة، كأن التحول لا يعدو أن يكون انتقالا من صورة إلى أخرى في «خيال الظل». إن الأسس المتينة للحرية يجب أن تستند إلى الصفات الفردية. وهي كذلك الضمان الأكيد الوحيد للأمن الجماعي والتقدم القومي. وذلك هو أساس القوة الحقيقية للحرية الإنجليزية. إن الإنجليز يحسون أنهم أحرار، لا لمجرد أنهم يعيشون في ظل تلك النظم الحرة التي بنوها بمشقة كبرى، بل لأن كل عضو في المجتمع عنده جذور الموضوع في نفسه إلى درجة ما - كبيرة كانت أو صغيرة. وهم يتمسكون بحريتهم تمسكا شديدا ويتمتعون بها لا عن طريق حرية الكلام فحسب، وإنما كذلك عن طريق حياتهم الثابتة وعملهم الناشط باعتبارهم أفرادا أحرارا.
وفي هذه الفقرات الصغيرة قدر هائل من العقائد الفكتورية التقليدية - ومنها الإنكار الاسمي بأن الكل قد يكون أي شيء سوى مجموع أجزائه، وهو اتجاه معهود في ذلك الحين. ولكن سمايلز يضع في وضوح أشد من هذا العامل الذي يوازن الفوضى الفردية الظاهرة التي بشر بها. يقول: «... وهكذا نعرض ما كان لأمد طويل موضع الإعجاب عند الأجانب - نشاط صحيح للحرية الفردية، مع طاعة جماعية - برغم ذلك - للسلطة القائمة - العمل الناشط الطليق للأشخاص، مع الخضوع المتشابه عند الجميع للقانون الوطني، قانون «الواجب»».
والتوازن هو ذلك الذي وصفه شو بفطنته بالعبارة الشهيرة «الأخلاق الفكتورية» أو «أخلاق الطبقة الوسطى»، وهو ذلك الأمر الذي ثار عليه جيل السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر ثورة عنيفة، وربما كان هؤلاء الثائرون، الذين كانوا كذلك من المثقفين الذين أساءت إليهم الأذواق الفكتورية وميادين النجاح الفكتوري، رواة ضعافا لحقيقة الأعمال الفكتورية. ومع ذلك فإنك إن قصدت مباشرة إلى كتاب الرواية الفكتوريين - وبخاصة إلى ترولوب - لوجدت أن الفرد - على الأقل في الطبقة الوسطى والطبقة العليا والطبقات الحاكمة - يتقيد بقانون صارم للسلوك، وهو تدريب اجتماعي دقيق، وهو يوجد بطبيعة الحال في جميع المجتمعات على النظام، وادماج نفسه في الجماعة عن رغبة. وهذا التكيف يتم عن طريق تدريب اجتماعي دقيق، وهو يوجد بطبيعة الحال في جميع المجتمعات على صورة من الصور، والمفروض أن الحياة الاقتصادية في المجتمع الفكتوري كانت تسير على غير نسق، في حين أن الحياة الاجتماعية كانت تخضع للنظام. وكان تأكيد الحرية يوازن بتأكيد السلطة.
ولسنا بحاجة إلى أن ندخل في تفصيل شديد فيما يتعلق بهذا الناموس السلوكي. إنه يستحق الدراسة المباشرة في مخلفات الثقافة الفكتورية ذاتها، وهي على قربها منا، وعلى أنها جزء منا، بعيدة عنا في منتصف القرن العشرين. وربما وجد الأمريكي الحديث أن البناء الاجتماعي والأخلاقي للأسرة غريب عنه جدا. الأسرة بحجمها الكبير نسبيا، والسلطة الكبرى للأب، والتربية الصارمة التي يتعرض لها الأطفال، وإخضاع الإناث للذكور، وندرة الطلاق، بل والفزع منه. إن أكثر الآباء الفكتوريين شفقة ما كان يطرأ على باله أن يعامل أطفاله ب «التسامح» وهو السلوك العصري في أكثر الأسر الأمريكية. إن كتاب صمويل بتلر «طريق الجسد» هو من تأليف ثائر مفكر جدا، والصورة التي يرسمها الأب الفكتوري قد تكون باطلة وشاذة، ولكن الأب الذي رسمه بتلر كان لا يمكن أن ينشأ في أي مجتمع آخر.
وما بدأته الأسرة واصلته المدارس الداخلية، أو المدارس «العامة» (أي الممتازة) التي تناظر المدارس الخاصة الأمريكية، التي كان يلتحق بها على الأقل أبناء الطبقة العليا والطبقة الوسطى. وقد كانت هذه المدارس إسبرطية من بعض الوجوه، من حيث ترويضها للفرد، وصياغته على صورة عضو في فريق، أو جماعة. وربما كان المراهقون بصفة خاصة بحاجة إلى الترويض على النظام العام. كانت المدارس «العامة» الإنجليزية تصوغ أبناءها على النمط المألوف في الروايات الإنجليزية وفي أفلام هوليوود - الإنجليزي الذي يعرف واجبه، الإنجليزي الذي لا يحتاج إلى شرطي؛ لأنه يملك الضمير، الإنجليزي الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء، لأنه لا يمكن أن يحب عمل شيء بالغ الضرر للمجتمع. وكان هناك دائما بطبيعة الحال أبناء لم تمكن صياغتهم على هذه الصورة. وهؤلاء هم العصاة الذين انتقل بعضهم إلى أنحاء العالم القصية، والذين لم يخضعوا للنظام العام إلا بالقدر الذي يجعلهم يوصمون بالشذوذ، وهم جماعة احتملهم الفكتوريون طبقا لمبادئهم، والذين هاجم بعضهم النظام بأسره، أصوله وفروعه، مثل الشاعر شيلي في أحد طرفي القرن، والشاعر سوينبرن في الطرف الآخر منه.
وإذن فإن الفوضى الهمجية، ذلك النضال الدارويني من أجل الحياة، الذي دعت إليه المعتقدات الاقتصادية الرجل الإنجليزي المتوسط من الطبقة الحاكمة - هذه الفوضى كانت توازن عند هذا الرجل بالعالم النظامي؛ عالم الأدب واللباقة الذي كانت تعده له تربيته وأسرته، وبالرغم من وجود عناصر عديدة من عدم الاستقرار في هذا التوفيق الفكتوري، فإنه أمدنا خلال الجيل أو الجيلين اللذين دام فيهما بفترة من تلك الفترات النادرة من الاتزان في التاريخ الغربي. وهي فترة سلام من غير خمول، فترة من فترات التحول والتجريب خلت على أية حال من القلاقل، وقرحات المعدة، والانهيار العصبي.
وكان التوفيق توفيقا مع المسيحية من ناحية ما. وقد بقيت الحركة المناهضة لرجال الدين - التي دعت إليها حركة التنوير - حية في جميع أنحاء العالم الغربي وبخاصة في البلدان الكاثوليكية، واتخذت لها جذورا ثابتة في الثقافة الغربية حيث لم تعد الطاعة الدينية الظاهرة مقررة بحكم القانون. ولكن بعد الاضطهاد الشديد الذي تعرض له المسيحيون إبان حركة «التحلل من المسيحية» في الثورة الفرنسية، مال الميزان إلى الناحية الأخرى نحو المسيحية، على الأقل بين الطبقات المثقفة، وهو ميل أشار إليه إشارة واضحة الكاتب الفرنسي الرومانتيكي شاتوبريان في كتابه «قداسة المسيحية» الذي نشره في عام 1802م. ومن التعسف أن نقول إن شاتوبريان لم يتأثر «بصدق» بالمسيحية. غير أن صدقها لم يكن بالتأكيد ذلك الذي أبرزه في كتابه. أما ما أذهله، وما ظن أنه يؤثر في جيله، فهو جمال المسيحية، وصفة الحركة في طقوسها الدينية، وأساس ماضيها الغوطي الذي لا يبرح الأذهان.
ولا يصح أن نترك القارئ متأثرا بأن شاتوبريان يمثل الإحياء المسيحي في القرن التاسع عشر، وحيثما كان هذا الإحياء معاديا لروح العصر بشكل واضح، معاديا للتوفيق الفكتوري الذي حاولنا أن نعرفه هنا، فإنا سوف نتعرض له في الفصل التالي. إن الاحتجاج المسيحي ضد التوفيق المسيحي الذي كانت الكنائس تقوم به مع روح العصر كان ثابتا وصارخا. ولا يمكن لدارس منصف للقرن التاسع عشر أن يهمل هذا الاحتجاج، سواء أكان صادرا عن ميستر أم نيومان أم من الجنرال بوث من «جيش الخلاص». غير أنه مما لا شك فيه أن هذا الإحياء - وبخاصة في الأقطار البروتستانتية، وبالرغم من أن الشعوب الكاثوليكية لم تخل منه - هو في الواقع توفيق في حد ذاته إلى حد كبير؛ ذلك أن التفاؤل الأساسي بالنسبة إلى الطبيعة البشرية، ذلك التفاؤل الذي تتميز به حركة التنوير، يتغلغل في مسيحية القرن التاسع عشر، جنبا إلى جنب مع الرغبة في التوفيق مع الحركة العقلية ومع الاتجاه نحو إراحة الأبدان. ولو أنك اكتفيت بعد الرءوس المسيحية، ولو أنك قست بانتشار عمل المبشرين في جميع أنحاء المعمورة، أو بالأناجيل المطبوعة، أو بالمواظبة على مدارس الأحد، لانتهيت إلى أن القرن التاسع عشر كان أعظم القرون المسيحية؛ لأن كل هذه الدلائل تشير إلى السمو. ويستطيع المؤمن بإمكان كمال البشرية المتفائل - بطبيعة الحال - أن يتمسك بأن هذه الدلائل هي التي تهمنا، وأن هذا المركب الجديد المؤلف من المسيحية وحركة التنوير إنما هو مرحلة من مراحل تحقيق هذا الكمال.
إن القرن التاسع عشر - من وجهة نظر المؤرخ - لا يتميز بأية طوائف مسيحية جديدة كبرى. ولم تنشأ فيه قط طائفة بلغت من النجاح ما بلغته طائفة النظاميين وجماعة الورعين في القرن الثامن عشر، عندما صعد عصر النثر والعقل إلى أوج قمته. وكانت هناك جماعتان أمريكيتان جديدتان - المورمون والعلماء المسيحيون - تسترعيان النظر من الوجهة العددية. ولكن ربما كان تضاعف الجماعات الدينية المنشقة، والهرطقة ضد الهرطقة، وبخاصة تلك الاتجاهات المؤلفة من عصارات شرقية، ربما كان ذلك أقوى من أي عهد سلف. وازدهرت بين الطبقات المثقفة الناجحة الجماعات «الموحدة» و«العالمية» التي كانت تنكر صراحة صفة السر المقدس في عبادة يسوع، وهي جماعات كانت تشف عن تأثير عقلي قوي فيها. وفي الطرف الآخر - أو في الظاهر على الأقل - قامت حركات «الكنيسة العليا» في إنجلترا وأمريكا، بما عرف عنها من العودة إلى الطقوس والتقاليد. ومن ثم فإن الإحياء المسيحي - أيا كان لونه - لم يكن إحياء للوحدة المسيحية. إن القرن التاسع عشر كان في الدين كما كان في فن العمارة متنوع الاتجاهات كما كان في الكهربا.
بيد أن ارتياد الكنيسة كان أمرا لا بد منه بالنسبة إلى عامة الناس من الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي نهتم بها هنا. وقد كان معنى التوفيق الفكتوري أن العناصر الرئيسية في المجتمع لا يمكن بعد ذلك أن تقف ذلك الموقف المتطرف المعارض للمسيحية، وهو الموقف الذي وقفه كثير من المتنورين في القرن الثامن عشر. وقد أمست عداوة جفرسن للديانة المنظمة تقض مضجعه لما اعتلى الرئاسة في عام 1800م. ولو أن رجلا مثل جفرسن عاش في منتصف القرن التاسع عشر وقف موقفا صريحا ضد الكنائس المسيحية المنظمة لأنكر على نفسه في بساطة العمل السياسي في أكثر الأقطار. وليس معنى هذا أن صاحب طاحونة لانكشير عندما يؤدي الصلاة في كنيسة الجماعة المحلية، وأن حامل الأسهم ذات الفائدة السنوية عندما يرود كنيسة قريته، من المنافقين علنا وفي صراحة تامة، فإن مثل هذا النفاق كان لا بد من وجوده في مجتمع تكثر فيه الحوافز الاجتماعية وضواغط العمل التي تدفع إلى السلوك الديني الشكلي المتشابه. ولكنا على حق حين نعتقد أن أكثر رواد الكنيسة هؤلاء كان لا يزعجهم التباين بين حياتهم والمثل المسيحية. ومهما يكن من أمر فإنا قد عرفنا المسيحيين الدنيويين منذ أمد بعيد. إن لم يكن منذ ما ظهرت المسيحية.
أما ما يبرز هؤلاء المسيحيين الفكتوريين أمام أعيننا فقد لا يعدو أن يكون تلك البراعة التي هاجمهم بها المفكرون من أمثال برناردشو الذين جاءوا فيما بعد. ومع ذلك فهم يبدون لنا في منتصف القرن العشرين مستقيمين أكثر مما ينبغي، وعاجزين عن إدراك عجز الإنسان عن الوصول إلى تسوية مريحة مع المألوف، مطمئنين إلى صهيون أكثر مما يجب. وربما كانوا محظوظين جدا من وجهة نظرنا. غير أن إدماجهم لتعقل القرن الثامن عشر بعاطفة القرن التاسع عشر لم يتم على الوجه الأكمل. وكانوا يظهرون على الأقل في سطحية العقليين الأصفياء، وأقل اقتناعا بأن الله إنما يحتاج حقا إلى تفكير عميق من ناحيتنا.
ويظهر في أشكال الحياة السياسية والاجتماعية في العالم الغربي في القرن التاسع عشر تنوع شديد، من الديمقراطية التقليدية في الولايات المتحدة إلى الملكية التقليدية في بروسيا. وقد كان العالم الغربي - بمعنى ما - شبيها بالعالم الأصغر في القرن الخامس - شبيها بهلاس. وكان يتكون من قوميات مماثلة لإسبرطة، وطيبة ، وأثينا. وليست الحكومة القومية إلا المدينة الحكومية على نطاق أوسع. ومع ذلك فإن المرء يحس في أوروبا الحديثة أكثر مما يحس في هلاس القديمة أن هناك نوعا من مجموعة اتجاهات عامة سائدة في كل مكان، وهي اتجاهات لا تتفق اتفاقا كاملا قط في مختلف الأقطار، وليست البتة على نفس العلاقة مع التيارات الأخرى في البلدان المختلفة، ولكنها مع ذلك ليست أسطورة بأية حال من الأحوال؛ فهناك ثقافة غربية، ووعي غربي من نوع واحد في القرن التاسع عشر. ولا يتردد الماركسي في أن يطلق على مجموعة الاتجاهات كلها اسم «الطبقة الوسطى». وإذا كان المرء يدرك أن كثيرا من هذه الاتجاهات كان يسود أيضا بين الطبقات العليا والدنيا، فلا ضرر إذن من استعمال هذه التسمية.
كان هناك في السياسة توفيق في القرن التاسع عشر كما كان في الأخلاق والدين، وقد ذكرنا أن حركة التنوير ذاتها كانت منقسمة في آمالها السياسية وفي برامجها، كما رأينا أن الفرد الواحد أحيانا - مثل بنتام - كان يعتقد أن تناول الأقلية الحكيمة لشئون البيئة فيه نفع كبير، كما يعتقد بقدرة الجماهير على اختيار حكامها بالانتخاب العام. وقد استطاع القرن التاسع عشر في شيء من النجاح أن يتمسك بآراء لا تبت ولا تقطع في هذه المعضلة الشائكة. كان يعتقد في الحرية للجميع، وكان أفضل مخرج عند أهله هو الإيمان بالحرية بغير استهتار. والتفرقة بين الحرية والاستهتار مسألة خلقية؛ فالمرء حر في أن يفعل الصواب، ولكن فعل الخطأ معناه الاستهتار، وهو ما ينبغي أن يوقف. ومن ثم ترون أن السياسة في العهد الفكتوري ترتبط بالناموس الخلقي.
كان للفكتوري - في إيجاز - دستور سياسي كهذا: أولا، هناك البداية التي لا مفر منها بمبدأ التقدم، الذي بتطبيقه يصبح جميع الناس في نهاية الأمر أحرارا، إخوة، متساوين؛ لا شرطة، ولا ضريبة، والعمل سار تطوعي، ولا فقر، ولا عنف بأية صورة من الصور - هي باختصار المدينة الفاضلة التي أسميناها «الفوضى الفلسفية» وهذا المجتمع المثالي لا بد أن يأتي - مهما يطل بنا الزمن - وسوف يتحقق بالتربية وبالتوسع التدريجي في الديمقراطية. وكانت الديمقراطية - برغم احتمال خطورتها حتى في إنجلترا في الستينيات من القرن التاسع عشر بالنسبة إلى الرجل في القرن التاسع عشر في «موجة المستقبل» بكل تأكيد. وكان الرجل من الأحرار الأخيار حتى في بلاد ليست البتة وسط حركة التوفيق الفكتوري، في ألمانيا، وفي شرق أوروبا، يؤمن بأن تحقيق المثل الديمقراطية في نهاية الأمر لا بد أن يتم بمجرى الحوادث. أما في اللحظة الراهنة فإن خير المؤهلين ينبغي أن يحكموا كأوصياء على الجماهير المتقدمة في بطء شديد. وليس خير المؤهلين هم الأرستقراط القدامى، الذين خف في عروقهم الدم النبيل، وإنما هم الرجال من أي طبقة الذين أثبتوا بنجاحهم في الأعمال أو المهن أنهم يستطيعون مواجهة المشكلات العملية. كان الفكتوري يعتقد في الحرية ولكنها الحرية التي تعني المنافسة، وكان يعتقد في المساواة، ولكنها المساواة في الفرص التي تعطي لكل فرد بداية متساوية في السباق، وليست المساواة التي لا سباق فيها - أو على الأقل لا جوائز فيها للرابحين أو ربما خلت من الرابحين. وقد ازداد وعيه بأن مجتمعه يقف عقبة في سبيل أبناء الآباء الفقراء، وأن البداية المتساوية ليست إلا أسطورة. ثم شعر كذلك بوجه عام - عندما أشرف القرن على نهايته - أن سباق الحياة العظيم قد يكون شيئا جميلا، وأن هذا السباق قد يتمخض عن أبطال أفضل، إلا أن الطريق بحاجة إلى تطهير، وبحاجة إلى محطات الإسعاف، وبحاجة إلى قواعد صارمة ضد التسلل، والتجمهر، وغير ذلك من الحيل البغيضة. وازداد إيمانه بتدخل الدولة في معونة الصغير، والتخفيف من التفرقة الاقتصادية الفعلية، والقيام بذلك العمل الذي نطلق عليه جميعا اسم «دولة الرفاهية». ومع ذلك فإن الرجل الذي يمثل منتصف القرن كان على وضوح في ذهنه بأن الديمقراطية - عند الخيار بين الحرية أو المساواة - لا بد أن تنحاز إلى جانب الحرية إن أرادت لنفسها الصحة والسلامة.
لقد كنا حتى الآن ننظر فيما كان يراه الفكتوري حقا. وأشق من ذلك أن نصف ما كان يراه جميلا. ويجدر بنا هنا ألا نحاول أكثر من أحكام قليلة عامة على هذه الناحية من نواحي الثقافة الغربية، مع التحذير مرة أخرى أنه ليست هناك فقط فروق خطيرة بين الطبقات الاجتماعية وغيرها من التجمعات الثقافية، وإنما كان هناك فوق كل شيء فارق عظيم في الجنسيات، ربما كان أوضح في الشئون الجمالية منه في غيرها. ومع ذلك فهناك على الأقل حكم عام واحد أو حكمان ليس هناك خطر من ذكرهما:
فأولا:
هذا عصر اختلافات شديدة بدرجة غير مألوفة في معايير الأذواق. وربما قلت في شيء من التجني: إن المعايير كانت معدومة، وإن الأذواق كانت في حالة من حالات الفوضى. أو قلت في شيء من الإنصاف إن العصر كان يتصف في الفن والثقافة كما يتصف في الحياة الاقتصادية بحرية الفرد وبالتنافس الذي تمخض عن تنوع غني، أفضله كان جيدا حقا. ومهما يكن من أمر فإنك تستطيع أن تدرك حقائق الموقف بوضوح في موضوع كموضوع فن العمارة. كان المرء حتى ذلك الحين في بلاد الغرب، الفرد الذي يشرع في إقامة أي بناء من أدنى المباني إلى ما فوقها، يعرف على أي طراز سيقيم مبناه؛ لأنه لا بد أن يبني كما كان يبني الناس من حوله. ومن الحق أن الطراز قد تغير، وبخاصة عندما تخلى الطراز الغوطي للطراز الكلاسيكي، ومن الحق أيضا أنه كان هناك تنوع بطيء في هذه الطرز. وقد أبقت العصور الوسطى في مدن كباريس ولندن مخلفات تبرز بصورة تلفت النظر وسط المباني الحديثة الأولى، وأكثرها تقريبا على الطراز الذي يسميه الأمريكيون استعماريا. ولكن بتقدم القرن التاسع عشر استولى على المباني استيلاء تاما ما نسميه الاختيار، سواء في المباني العامة أو الخاصة، وكانت هناك دفعة قصيرة المدى من الطراز الغوطي الجديد في مستهل القرن، ولكن حتى هذا الطراز لم يكن عاما.
وأخيرا انتهى الأمر إلى ذلك الموقف الذي ما زلنا نحن الأمريكيين نعده طبيعيا بشكل واضح. إذا أراد المرء أن يبني بيتا حسنا، استشار أسرته واستشار مهندسا معماريا، وتدور الاستشارة إلى حد كبير حول الطراز - هل يكون طراز رأس كود، أو البيت ذي الطابق الواحد، أو بيت المزرعة، وهل يكون نصفه من الخشب مثل التيودور الإنجليزي، أو على طراز القصر الفرنسي، أو الطراز الهولندي في جنوب أفريقيا. وهل يكون مسكنا، أو إرسالية، إلى آخر ذلك. وليس من الإنصاف أن نأخذ المباني التي تقع على الطرق الأمريكية للسيارات على أنه نموذج لأي شيء ولكنها تعرض الأمر لنا عرضا قويا: إنك إن أردت أن تبني مكانا لشواء السجق فليس لذلك حدود - فقد تبني كوخا ذا قبة كأكواخ الإسكيمو المصنوعة من جلود كلاب البحار، أو على شكل قبعة دربي، أو أسد ضخم، أو على شكل «السجق» المشوي ذاته. إن الإنسان لم يبن في أية مرحلة من مراحل التاريخ البشري على أشكال متنوعة تنوعا يحير الألباب كما فعل منذ عام 1800م. ولم تكن مدنه في أية ثقافة أخرى غير هذه أشبه ما تكون بالفوضى في فنون البناء.
وثانيا:
ربما كان من الحق أنه قد نما في القرن التاسع عشر، جنبا إلى جنب مع هذا التنوع الشديد في الأذواق، شعور واسع الانتشار بين المثقفين بازدياد الأشياء القبيحة من حولهم. وليس هناك من الناس من يفترض أن الأثيني كان يرى المباني في الأكروبول قبيحة؛ لأن هذه المباني كانت موحدة الطراز، منشأة طبقا لتقليد واحد. ولكنك لن تظفر بأي نوع من أنواع الإجماع بين الأمريكيين في موضوع المباني العامة في مدينة واشنطن - وذلك بالرغم من أن واشنطن فيها اتفاق في التخطيط يفوق ما في أية مدينة أمريكية أخرى. وربما كان سجل العصور الماضية الذي وصل إلينا ناقصا. غير أنه من المؤكد أن المفكرين في كل عصور التاريخ الغربي قد شكوا مر الشكوى من عادات، وأخلاق، وذكاء كثرة الناس. وليس من شك في أن أفلاطون قد لمس انحطاطا في الأذواق الشعبية، كما لمس هذا الانحطاط في كل شيء شعبي آخر. بيد أن الانطباع العام عن القرن التاسع عشر - وعنا باعتبارنا ورثة له - أنه قد أضاف الذوق إلى العناصر الكثيرة الأخرى التي كانت تفصل بين الجماعات الاجتماعية، والتي عزلت بصفة خاصة طبقة مثقفة في جانب من الجوانب وحدها.
ومع ذلك فالراجح أنه كان هناك في القرن التاسع عشر حد أدنى من الذوق - أو على الأقل عامل مشترك - بين جميع الناس، وهو - وأقول ذلك مرة أخرى - ذوق الرجل الناجح في الأعمال، وذوق زوجته. كان الفكتوري يحب أن تكون الأشياء صلبة فيها قدر ضئيل من المظهر. وكان يحب الوفرة، ويمقت القلة، والتقشف. وكان خياليا، هاربا من الواقع، شديد المبالاة بالبعيد الغريب من الأشياء، ولكنه كان كذلك يفخر بإحساسه الشديد بالواقع، وبقدرته على التسجيل والرواية. وفي أدب العصر كل لون من ألوان الطيف من التبرم والسخرية الرومانتيكية الصادرة عن النفوس الضالة مثل بيرون وتلاميذه الأوروبيين، إلى الإدراك العام المهذب الهادئ الذي اتصف به ترولوب، «وطبيعة» زولا المغامرة، كل شيء موجود وإن يكن على غير نسق أو نظام.
ولكنها الفوضى التي امتزجت أجزاؤها مزجا جيدا، وأصبحت لها نكهة خاصة بها. وإذا نحن رجعنا بأبصارنا من عصرنا الحاضر إلى هذا العصر الماضي، استرعى أنظارنا أن القرن التاسع عشر، برغم تنوع الأذواق فيه، وبرغم الفرار الخيالي من الواقع الذي اتصف به، وبرغم ما قام فيه من منازعات حول الأساسيات، يبلغ نوعا من أنواع الوحدة برغم التناقض، وهو عصر اتزان، وعصر «ازدهار». كان عند الرجل في القرن التاسع عشر إحساس ب «الانتماء» (أعمق من مجرد التفاؤل) لا نحسه نحن اليوم. ولم يكن بحاجة إلى الاحتماء وراء الأساليب الوهمية، أو وراء الفائدة الوظيفية البسيطة - والتي كثيرا ما تنعدم فيها صفة الإنسانية - كما نفعل اليوم. ولم يكن بحاجة إلى محاولة الفرار من الفرار.
وإني أتردد عندما أحاول أن أجد رمزا لثقافة القرن التاسع عشر، كما أجد البارثينون رمزا لأثينا في عهد بركليز، أو كاتدرائية شارتر رمزا للقرن الثالث عشر. هل أقول محطة السكة الحديدية؟ أو المصنع الكبير؟ أو منظر مانهاتن (في نيويورك) من أعلى؟ ليس في أحد هذه الرموز إنصاف؛ لأن القرن التاسع عشر لم يكن مجرد عصر للصناعة والإنجازات المادية. لقد انهمك القرن التاسع عشر بقوة في المباني العامة من جميع الأنواع، ولكني لا أجد مبنى من هذه المباني يصلح أن يكون رمزا. ولما كان جانب كبير من مجهود القرن قد بذل في إدخال أسباب الراحة، والسعادة، والأهمية، على حياة الأفراد، فربما كان - بعد هذا - أحد الشوارع السكنية الجيدة في مدينة كبيرة مثل لندن أو مانشستر أو ليون أو درسدن أو بولتيمور، ربما كان أحد هذه الشوارع التي خصصت للمنازل الخاصة المنفصلة، أو «الفيلات» كما يسمونها في أوروبا، يصلح أن يكون رمزا للقرن التاسع عشر. هنا تجد الراحة، وسعة المكان، والخضرة، والهدوء، والنظافة - كما تجد فوضى من الأذواق في فن البناء. وإن كنت ممن يعطف على الثائرين فإنك ترى أن هذا الشارع يجب أن يوازن مع شارع من شوارع الأحياء الفقيرة. ولكن دعك من هذا، فإن شوارع الأحياء الفقيرة كانت ماثلة في أذهان ساكني «الفيلات»، فكانوا يأملون أن تختفي هذه الأحياء يوما ما، وإن كانوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون تغيير الأوضاع كثيرا على الفور. ولكن هذه الأحياء كانت تزعج خواطرهم حتى في منتصف القرن. وباعتبار الطبقة الوسطى الفكتورية هي الطبقة صاحبة السيادة فقد كان حكمها قصيرا غير مضمون لا يمكنها من اكتساب رزانة الثقة بالنفس التي كانت عند الأرستقراطيين الإقطاعيين في يوم من الأيام.
وكم كان يود ساكنو شوارع الأحياء الفقيرة أن يحولوها إلى مثل شوارع الفيلات. وقد أكدنا تأكيدا شديدا خلال هذا الفصل من الكتاب وجود كل أنواع الجماعات إلى جانب الطبقة الوسطى الفكتورية التي وقع عليها اختيارنا لتكون أفضل نموذج للقرن. ولذلك فقد كان هناك: جماعات وطنية، على ثقة من نفسها كالبريطانيين، أو كالبروسيين - مثلا - أو الأمريكيين، أو كأولئك الذين ينادون بأن يستعيد الوطن إليه كل البلاد التي تتحدث بلغته، أو أولئك الذين يشكون، ويستشهد أفرادها كالأرلنديين أو البولنديين. وكانت هناك جماعات ثقافية ضد رجال الدين، وجماعات وضعية، وأخرى ذات أخلاق خاصة، تفخر بأنها لا ترتاد الكنيسة المسيحية، ولكنها تصر على أن أخلاقها مسيحية على الأقل كأخلاق الأرثوذكس. وكانت هناك جماعات صغيرة من المتعصبين ، وأكثرهم من المعتدلين في تعصبهم، يكرسون حياتهم لناحية واحدة أو لنوع واحد من الاتجاهات الاجتماعية، ولكنهم فيما عدا ذلك يتشابهون مع غيرهم في الاتجاهات، كالقائلين بدفع الضريبة على قيمة الأرض بغض النظر عما يقوم عليها، والمتصوفين الدينيين، والنباتيين، والمعارضين للقسوة على الأطفال أو الحيوان، والمحرمين للخمور، إلى غير ذلك من القائمة الطويلة من «القضايا الصالحة» في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهنالك غير هؤلاء جماعة المثقفين - وهي ليست أقل من هذه الجماعات بروزا - وهي الجماعة التي تبذل جهدا شاقا لكي تنبذ المجتمع الفوضوي الغريب الذي وجدت نفسها فيه، أو تعيد تشكيله.
إن ما أسميناه النظرة الكونية المتقدمة إذن هو العقيدة الأساسية عند أكثر المتعلمين من أهل الغرب، رجالا ونساء، في القرن التاسع عشر، وهو المعيار الذي كانت تقيس آمالها به حتى الجماهير غير المتعلمة أو ناقصة التعليم. وهذه النظرة الكونية قبلت عقيدة عصر التنوير في التقدم، وفي إمكان كمال الإنسان هنا في هذه الدنيا، وفي الحصول على السعادة فوق هذه الأرض. بيد أن القرن التاسع عشر قد أزال عن هذه العقائد حدتها واتجاهها المباشر، كما حدث - من بعض الوجوه - عندما أزالت العقيدة المسيحية المتأخرة عن المسيحية البدائية الإمكانيات المفزعة - وإن تكن إمكانيات متفائلة - لعودة المسيح مرة ثانية في وقت قريب. ووقف الفكتوري موقف التوفيق مع أمل حركة التنوير وبطولتها؛ فكان يؤيد فكرة التقدم التدريجي وعملية تعليم الجماهير في بطء وحرص، كما يؤيد ناموسا خلقيا صارما من وضع الضغط الاجتماعي الكامل من الناس الذين يؤلفون الجماعات، وحرية التجريب، على ألا يكون ذلك على حساب ما كان يحس أنه أحكام خلقية مطلقة، ويعضد فتح أبواب المستقبل للمواهب مع عدم إغلاقها في وجه الثروة الموروثة والوضع الاجتماعي، ويؤيد السلام على الأرض على ألا يكون ذلك على حساب شرفه الوطني وكرامته القومية - بل والديمقراطية على ألا تكون للانقلابيين، وألا تكون ديمقراطية اشتراكية؛ فهو لا يؤيد الديمقراطية التي تأخذ «الحرية والإخاء والمساواة» مأخذا حرفيا. إن المرء يستطيع بكل تأكيد - كما كان يرى الفكتوري - أن يكون ديمقراطيا ، حرا، متنورا، شخصا عصريا، وأن يكون مع ذلك ناجحا، سعيدا، مرتاحا، حتى في هذه الدنيا حيث لم يصبح الجميع «بعد» ناجحين سعداء مرتاحين. وكان في لفظة «بعد» هذه خلاصا عظيما لضميره. فسوف يأتي اليوم الذي يمسي فيه جميع الناس في مثل يساره آنئذ. أما في الوقت الحاضر فإن من واجب المحظوظين وأصحاب الامتياز ألا يعرضوا للخطر ما هو ممكن - أو أن يسمحوا لغيرهم بالمحاولة - في سبيل الحصول على ما هو مستحيل. إن وجود الرجل الغني، أو على الأقل «البورجوازي» الغني في اعتدال، في عالم القرن التاسع عشر، يجب ألا يوحي بأية مجازات سخيفة تعبر عن صعوبة دخول الجمل في سم الخياط.
ومع ذلك فإني أرى ألا نترك الحديث عن هذا الفكتوري الواثق من نفسه - بالرغم من غيرتنا في الواقع من هذه الثقة بالنفس - دون أن نعترف بأننا ورثة إيمانه بالكائنات البشرية - وهو إيمان معدل إذا قورن بتفاؤل حركة التنوير المطلق، إيمان أدخلنا عليه كثيرا من التعديل، بل ربما كدنا أن نتخلى عنه. وأنت تستطيع أن تلمس هذا الإيمان عند جون ستيوارت مل في أوضح صورة، وفي أفضلها من بعض الوجوه، كما تلمسه بين المثقفين. فإن أكثر المثقفين قد انشقوا على حركة التنوير كما تتمثل في التوفيق الفكتوري. ومن الحق أن أمثال لنجفلو، وتنيسون، وديكنز، وكثير غيرهم من الفنانين أصحاب الخيال، كانوا - من بعض النواحي - منسجمين مع الطبقات الوسطى الظافرة، أو على الأقل لم يكونوا معارضين لكل ما تمثله هذه الطبقة معارضة شديدة تضعهم في طرف آخر مضاد لها. ولكن ليس هناك كثير من «رجال السياسة والأخلاق» ممن يستظلون براية حركة التنوير؛ ومن هؤلاء كان مل نموذجا رائعا.
وهو ابن جيمس مل، رجل اسكتلندي عصامي، وتلميذ أثير عند بنتام. وكثيرا ما كان بمثابة الحفيد لبنتام. وكان طوال حياته ينادي بأنه مخلص لحركة التنوير - ضد المسيحية في قواعدها الدينية لا في أخلاقها، مؤمنا إيمانا ثابتا بقوة العقل يتأثر في عمله بالتجربة وبالإدراك العام، لا يثق بالمثالية الفلسفية، أو المثالية الجرمانية خاصة (وقد قال مرة إنه أحس بشيء من الاشمئزاز بعد محاولة قراءة هيجل). وكان مصلحا متحمسا لتحسين الحالة المادية للجماهير. يؤمن بالحرية للجميع، وبالتسامح في وسائل الآخرين حتى عند اصطدامها مع وسائله. وربما كان - فوق هذا كله - رجلا أحس إحساسا عميقا أن هناك شيئا ضروريا كل الضرورة للحياة البشرية يعبر عنه مصطلح «الحرية» وهو ذلك المصطلح الشكلي، الذي كثيرا ما يكون خلوا من معناه. ومع ذلك فإن مل هذا هو بعينه الرجل الذي تراجع عما ورثه من جده الروحاني، أو عدل في كثير منه. وبتأثير الشعراء الرومانتيكيين من أمثال وردزورث وكولردج انتهى إلى تخفيف التعقل الصارم في حركة التنوير عن طريق الشعور بالأمور غير الثابتة، والاستجابات العاطفية، و«اللامعقول» باعتبارها أمورا تزيد من ثروة الحياة وليست من الأوهام، شأنه في ذلك شأن العامة من أبناء الجيل الذي عاش فيه ، بل لقد مرت به فترة وجيزة تأثر فيها بكارليل فاعتقد أن التصوف يجذبه، ولكنه سرعان ما عاد إلى تعقل معتدل. كان يؤمن بالحرية، ومع ذلك فقد أطلق على نفسه في أخريات العمر اسم الديمقراطي، وليس ذلك فحسب، بل اسم الاشتراكي أيضا من بعض الوجوه؛ لأنه انتهى إلى الإيمان بأن الحكومة لا بد أن تتدخل لا لكي تنفذ العقود فحسب، وإنما لكي ترفع إيجابيا من مركز الفقراء والمعوقين. وكان نفعيا، خليفة بنتام الذي قرر في كتابه «علم الواجبات والأخلاق» أن مسرات العقيدة في الله أقل من آلام هذه العقيدة، ومن أجل هذا أصدر حكمه ضد نفعية الدين. ولكن جون مل - مع ذلك - اعتنق في أواخر حياته نوعا من «المانيكانية» الخاصة به، وهو مذهب يقول بأن الله وروح الشر يخوضان معركة غير أكيدة ويرميان إلى تجنيدنا جميعا في هذه المعركة. وكان هذا الرجل الذي خلف المدرسة التي آمنت بإمكان كمال الإنسان يخشى أشد الخشية إمكان ظلم الأغلبية، وأبان في إحدى الحواشي «أن الطبيعة البشرية العادية ضعيفة جدا».
ولكن مل، برغم هذا، قد عبر عن المبدأ الرئيسي للتحرر في القرن التاسع عشر كأوضح ما عبر عنه أي فرد آخر من قبل. قال: «... إن الغرض الوحيد الذي تمكن من أجله ممارسة السلطة بحق على أي عضو في مجتمع متمدن، ضد إرادة هذا العضو، هو الحيلولة دون الأذى للآخرين، فإن ما عنده من خير - مادي أو خلقي - ليس بالضمان الكافي. ولا يمكن بحق إرغامه على العمل أو الامتناع لأن من الأفضل له أن يقوم بهذا العمل، ولأن ذلك يجعله أكثر سعادة، ولأن هذا العمل - في رأي الآخرين - من الحكمة، أو حتى من الحق والصواب. وهناك أسباب طيبة للجدل معه، أو لتبادل التفكير معه، أو لإغرائه، أو رجائه، لا لإرغامه أو إلحاق الأذى به إن هو سلك مسلكا آخر. ولكي نبرر ذلك فإن السلوك الذي نرغب في صده عنه لا بد أن يتبين بالحساب أنه يسبب الأذى لشخص آخر. إن الجانب الوحيد من سلوك أي إنسان ، الذي ينبغي له فيه أن ينقاد للمجتمع، هو ذلك الجانب الذي يتعلق بالآخرين. أما في الجانب الذي يخصه وحده فإن استقلاله فيه مطلق بحق. الفرد سيد على نفسه، على جسده، وعلى عقله.»
وقد يبدو هذا لكثير من المفكرين اليوم أمرا بعيد المنال، مبسطا أشد تبسيط، بل وربما موجها توجيها خاطئا، أو ربما كان التفكير فيه غير سليم. إننا لا نثق اليوم بأي نوع من أنواع السيادة، على الأقل إن كنا ممن اكتسحتهم التيارات العصرية، تيارات النسبية الفلسفية. وإن كنا على الأقل ما زلنا نؤمن بالأحكام المطلقة، فإن التقديس المطلق لسيادة الفرد على نفسه ليس من الأحكام المطلقة التي نتمسك بها. ومع ذلك فإن أمثال هذه المعتقدات التي يعبر عنها مل هنا ما زالت شائعة بالتأكيد هنا في أمريكا في منتصف القرن العشرين، وما زلنا نعطف على ذلك الفرد من الناس الذي يحاول أن يحدد، وأن يقرر، تفرده، وأن يجعل له قيمة، ذلك التفرد الذي يعد تقليدا من تقاليد الغرب. وما زلنا نمقت التجنيد، والخضوع للآباء، واحترام السلطان، حتى إن كنا بحاجة إلى الأمن وقد مللنا النضال الدارويني الحر الجميل. وما زلنا ننظر إلى الفرد من الجنس البشري لا كعضو في جماعة كجماعة النحل أو النمل، ولكن كالحيوان الحر الجوال المغامر. إننا ما زلنا - باختصار - نعيش إلى حد ما على الرصيد العقلي والعاطفي الذي ورثناه عن القرن الماضي - أو في الواقع عن كل تقاليد الأخلاق والفلسفة في الغرب.
الفصل الثالث عشر
القرن التاسع عشر: (ثانيا) الهجوم من
اليمين ومن اليسار
يشهد القرن التاسع عشر التطور الكامل للتغير الذي حدث في مصادر العيش لتلك الطائفة ذات الأهمية العظمى من الطبقات المفكرة، وأعني بها الكتاب، ويشهد كذلك اللمسات الأخيرة في عملية خلق تلك الفئة الحديثة ذات الصفات المعينة التي نسميها المثقفين. ولا بد أن يلقى هذان الموضوعان العناية في أي تاريخ للفكر في الغرب.
إن الكتاب من جميع الأنواع، شعراء كانوا أم قصاصين أم باحثين - كان لا بد لهم منذ أيام الإغريق حتى الأزمنة الحديثة المبكرة أن يحصلوا على دخل من أملاكهم الخاصة، أو على المال يعينهم به رعاتهم الأثرياء كما كان «الميسناس» الرومان، أو تعينهم به الدولة كما كان كتاب المسرحية في أتيكا، أو هيئة من الهيئات كما كان نظام الأديرة. وبعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر اتسعت تدريجا سوق الكتب حتى تمكن المؤلفون والناشرون شيئا فشيئا من أن يضعوا نظاما لحفظ حقوق الطبع، وأمسى الكاتب تاجرا مرخصا له ببيع نتاجه بالتعاون مع الناشر الذي أخذ على عاتقه جانبا كبيرا من المخاطرة التجارية. ثم ظهرت المجلة، والصحيفة في القرن الثامن عشر، والصحافة التي كان الكاتب يعمل فيها نظير راتب يتقاضاه، أحيانا ك «ماهية»، وأحيانا أخرى بالقطعة طبقا لفئات معينة. والقرن الثامن عشر يعد هنا فترة انتقال؛ فقد كان حق الطبع لا يزال ناقصا، وما برحت للرعاة أهميتهم، والصحافة لا تجزي حتى بالنسبة إلى أكثر العاملين فيها نجاحا. وما عتم «شارع جرب» الإنجليزي مصطلحا خاصا يعبر عن الطبقات العاملة المكافحة التي كانت صناعتها الكلمة المكتوبة. ومع ذلك فقد نمت طبقة من الناس - وبخاصة في إنجلترا وفرنسا - تعيش، مهما تكن المعيشة سيئة، على بيع ما تكتبه في سوق حقيقية. وربما كان سير وولتر سكوت أول من أثرى من قلمه، وهي ثروة ضاعت منه فيما بعد - كما ضاعت من مارك توين - بسبب إسهامه بغير روية في العمل الناشئ الجديد الذي يتعلق بالنشر على نطاق واسع.
ولما انتصف القرن التاسع عشر أضحت للكتاب مكانتهم الحديثة الكاملة. وخصصت المكافآت الكبرى لأولئك الذين يكتبون الكتب الرائجة في السوق، كما كان لمن لا يرقون إلى مستوى نجاح هؤلاء كسب مهما يكن ضئيلا يعيشون عليه. واكتملت الصحيفة اليومية، والمجلات الدورية، يمدها بالكتابة مراسلون يتقاضون الأجور وموظفون وكتاب أحرار. وأخذت الدراما بظهور شيكسبير تدر الربح، وقد كان الرجل مديرا مسرحيا من الطراز الأول بكل تأكيد. ولما حل العصر الفكتوري أصبح النصيب العائد من المسرحيات الناجحة حقا يزداد في نسبته. ومن هنا يتضح الطريق إلى هوليوود. ثم كانت هناك فرصة أخرى لأولئك الذين يكسبون عيشهم بضم الكلمات بعضها إلى بعض فوق الورق، وأعني بذلك الإعلان التجاري. غير أن الإعلان في عام 1850م كان لا يزال في المهد، ولم يكن مهنة محترمة كل الاحترام.
وبقيت الكتابة العلمية، بما فيها العلم البحت، تستمد الإعانات المالية وبخاصة من الهيئات. بيد أن الهيئات التي تقدم المعونة كانت في القرن التاسع عشر قد تحولت إلى علمانية أكثر منها دينية، وكانت عادة في القارة الأوروبية تحت رقابة الدولة. وفي عالم الكتب الدراسية تطور نوع من التجارة كان مصدرا ثانويا للدخل يرحب به أعضاء العالم الدراسي. وظلت - على أية حال وبوجه الإجمال - بقية المثقفين ثقافة صافية بحتا، أولئك الذين يعقلون ويعلمون، تتلقى المعونة من مختلف الجماعات - كالدولة والكنيسة والكلية وما إليها - على مخصصات ثابتة وضئيلة نسبيا. أما القانون فقد بقي - كما كان منذ قرون - مهنة علمية تخضع للمنافسة الفردية كأي عمل آخر. وأما الطب - وهو لا يكاد يكون مهنة علمية بأية حال حتى بداية الأزمنة الحديثة، فقد أمسى بحلول منتصف القرن التاسع عشر مهنة من أجل المهن، وإن كان - كالقانون - من حيث العيشة الاقتصادية، من المشروعات الخاصة.
ولا نستطيع هنا أن نقتحم ذلك الميدان الساحر الذي أهمل إهمالا نسبيا، وأعني به سوسيولوجية المهن. وقد أشرت إلى نقطة واضحة، وهي أن الكتاب المحترفين في القرن التاسع عشر قد جرفهم تيار المنافسة الاقتصادية باعتبارهم بائعين للكلمة، وأن كل أولئك - بصفة عامة - الذين كان عملهم الأساسي نوعا من التفكير والتدبير المقصود كانوا ينجذبون تدريجا نحو تيارات المنافسة الاقتصادية الفردية في القرن التاسع عشر. وهؤلاء في ذلك الحين أكثر عددا من أي عهد سبق على الإطلاق بالتأكيد، ونسبيا على الأرجح، بالقياس إلى مجموع السكان، ولم يشذ عن ذلك فيما يظهر سوى الوعاظ والمعلمين، ولم يكونوا كلهم كذلك. ومع ذلك فقد بقي المثقفون مثقفين، يفخرون بذلك، يحسون دائما - حتى في المجالات التي تشتد فيها المنافسة كالصحافة مثلا - بنوع من النظرة إلى الحياة يفصلهم عن أولئك الذين يبيعون ويشترون السلع المادية. غير أن النجاح التجاري العظيم، وبخاصة في الميادين التي يمكن أن تكون على هامش الثقافة مثل العمل في هوليوود، والإعلان، والدعاية، يميل في أمريكا المعاصرة إلى أن يقلق ضمير الكاتب الناجح، ويدفعه نحو اليسار.
وأهمية هذا التحول في مركز المثقفين من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية إلى حد ما في العالم الغربي ليست - من وجهة نظرنا - أنهم يندفعون في دوامة تجارية سوقية، وأنهم يفقدون الرزانة والانفصال عن غيرهم؛ ذلك لأن المثقفين في الغرب لم يعيشوا قط في أبراج عاجية معزولة عن التراب والحرارة في هذه الدنيا في أي عصر من العصور. وإنما الجديد في العالم الحديث هو العملية - التي تمت بشكل واضح في القرن التاسع عشر - التي جعلت المثقفين يعتمدون في عيشهم إلى حد ما على جمهور كبير، والتي فعلت ذلك بالكتاب بصفة خاصة.
وربما توقعنا من هذا الاعتماد على عادة الكثرة من الناس أن يقود أكثر الكتاب نجاحا إلى مراءاة الجمهور، وإلى قبول العلاقات الإنسانية كما يجدونها - يقودهم بإيجاز نحو التشابه مع غيرهم من الناس. وليس من شك في أن من بين ملايين الملايين من الكلمات المطبوعة ما كتب لمجرد تسلية الرجل العادي أو إثارته ، لمعاونته على الفرار من هذا العالم، ولتثبيت أهوائه، ولتأييد نظرة التوفيق في العهد الفكتوري. إلا أن كل من ندرس اليوم تقريبا من الرجال الذين نعدهم جزءا من ميراثنا، وكل الكتاب تقريبا، وكثير من الكتاب المنسيين والعارضين، قد «هاجموا» الأمور السائدة. وكاتب الافتتاحية - كالواعظ - لا بد له في العالم الحديث من «معارضة» شيء ما. وقد عتب كبار الكتاب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على الجنس البشري ما تردى فيه من فشل. انظر إلى كارليل، وإمرسون، وثورو، وماركس، ونيتشه؛ لقد كان هؤلاء - بطبيعة الحال - كتابا «سياسيين أخلاقيين»، وما كان لهم أن يكونوا كذلك دون أن ينسبوا إلى إخوانهم في البشرية الخطأ، والشر، والخمول، والغباء. وكذلك كان كتاب الرواية أنفسهم صليبيين (أي متحمسين في هجومهم). وأوضح ما تكون فيهم هذه الصفة حينما يصرحون بأنهم يحللون السلوك البشري تحليلا علميا. وهنا نذكر على الفور زولا أو دريزر.
وهنا نقترب من النقطة الثانية التي تتعلق بدور المثقفين في العالم الغربي الحديث، وهي مشكلة رئيسية في فرع من فروع علم الاجتماع لم يبلغ حتى ما بلغه الفرع الخاص بالمهن - ويعرف في علم الاجتماع بسوسيولوجيا المعرفة، والعلم، والأفكار. ولا نحتاج إلا إلى إضافة ملاحظة واحدة بشأن الموقف الحديث للكاتب الذي يعتمد على السوق الشعبية الكبيرة لسلعته، وكثيرا ما كان أريح عمل يقوم به مثل هذا الكاتب أن يسيء إلى قرائه، وأن يبين لهم مقدار غفلتهم - وبخاصة في أمريكا - حيث نجد الغافلين يقرءون «ركن الغافلين» لمستر منكن بسرور بالغ، وحيث الجهال يقبلون على شراء كتاب «الجهال» لمستر لويس فيرجونه.
وليس لدينا - بأية حال من الأحوال - للثلاثة آلاف العام من الثقافة الغربية قدر كاف من الحقائق عن اتجاهات المثقفين - وأعني بهم «الطبقات المثقفة» كما عرفها الأستاذ بومر تعريفا أوردناه في مقدمة هذا الكتاب - إزاء النظرة الكونية لمجتمعاتهم، كما أنا لم نصل بعد إلى أي تفسير مقنع أو نظرية عن الدور الاجتماعي للمثقفين. لدينا شذرات من المعارف، وبدايات لنظريات، وقد ذكرناهما بين الحين والحين في هذا الكتاب. ونستطيع أن نقول إن المثقفين كفئة - ربما مع استثناء من كان منهم في الأيام الأولى المقدسة من المسيحية - كانوا دائما على وعي بانفصالهم عن مجموع إخوانهم في البشرية؛ أي كانوا يحسون إحساسا قويا ب «الوعي الطبقي». وقد كان بعض أعضاء الطبقات المثقفة في أعلى مستوى من مستويات المراتب الاجتماعية في كل العصور، حتى في العصور المظلمة عندما كانت الطبقة الحاكمة الجديدة ممن لا يقرءون ولا يكتبون، أو حتى في إسبرطة التي كانت تعادي الثقافة عن عمد. وكان بعضهم من حيث الأجور الفعلية في أسفل السلم، مثل قسيس الأبرشية الريفي في العصور الوسطى والمعلم في أكثر العصور.
بيد أنه من العسير حقا أن نصدر حكما عاما ذا أثر فعال، حتى لفترة معينة - بله أن نقول شيئا عن مجرى التاريخ الغربي بأسره فيما يتعلق باتجاه الطبقات المثقفة إزاء النظام القائم في مجتمعاتهم . وقد كان هناك دائما ثوار في أعلى السلم، وإن كنا لا نعلم إلا القليل عنهم في العصور المظلمة. والتتابع ظاهر من أفلاطون إلى الآباء المسيحيين الأوائل إلى أبيلارد ووايكليف والثائرين المثقفين العديدين في يومنا هذا. ومع ذلك فربما كانت الكثرة من الطبقات المثقفة، بل والغالبية العظمى حتى من أولئك الذين يعظون، ويعلمون، ويخطبون، ويقومون بأعمال التحرير، ويكتبون التعليق من التابعين للنظم السائدة، والمؤيدين للأمور كما هي، محافظين بأبسط معنى من معاني الكلمة، وهو «أن نترك ما لدينا دون المساس به». وقد كان المستمعون إليهم أو قراؤهم في سلوكهم بالتأكيد من الطائعين لنظم المجتمع والمحافظين، وإلا لما كنا هنا ندرس تاريخ الفكر في الغرب - وإلا لما كان هناك غرب. ومن المحتمل حقا أن القراء العديدين للأدب الثائر، الأدب الذي يهاجم النظام القائم - حتى في الغرب الحديث - لم يتأثروا البتة إلى الحد الذي يجعلهم هم أنفسهم ثائرين. إنما كانوا يتناولون نوعا من أنواع المطهرات أو يأخذون سببا من أسباب الراحة النفسية، كما كان أسلافنا يجدون الراحة النفسية في المواعظ التي تلقى عليهم عن نار الجحيم.
ومهما يكن من أمر فإن من الواضح أن «الجزء الخلاق» من الطبقات المثقفة كان على وجه عام منذ بداية حركة التنوير ساخطا على العالم الذي كان من حوله، متحمسا لإصلاحه، ومقتنعا بإمكان ذلك، وكان فيما بين فلاسفة القرن الثامن عشر اتفاق - بالرغم من وجود بعض الفوارق في الوسائل - بأن الإصلاح يمكن أن يقوم على الفور، وأن المجتمع يمكن أن يصاغ طبقا لمعايير (هي معايير الطبيعة والعقل) يراها كل امرئ إذا استنار عقله. وهؤلاء المثقفون من المستنيرين كانوا يمقتون غير المستنيرين من «أصحاب الامتياز» - وأعني بهم القسس والنبلاء التقليديين، وتلك القلة من المثقفين الذين كانوا يعارضونهم - ولكنهم كانوا يحبون غير المستنيرين «من غير أصحاب الامتياز» ويضعون فيهم ثقتهم، وأولئك هم عامة الناس الذين كانوا يريدون أن يدربوهم على الحياة في «المدينة الفاضلة».
ولما حل القرن التاسع عشر كان المثقفون الخلاقون لا يزالون في ثورتهم، ولكنهم لم يعودوا زمرة موحدة. وقد اتجه بعضهم في مثله نحو اليمين، نحو الدين القديم، نحو الأرستقراطية القديمة أو التي استردت شبابها، نحو نوع من أنواع السلطة، ونوع من أنواع التخطيط المحدد لكي يتحول أكثر الناس إلى الرقة والهدوء، بل وإلى السعادة، وأن يبقوا دائما على هذه الحال، واتجه بعضهم نحو اليسار، نحو شكل من أشكال الاشتراكية، وأهم من ذلك أن المثقفين الخلاقين أخذوا بتقدم القرن يصطرعون مع نفس القوم الذين كان فلاسفة القرن الثامن عشر يدللونهم ويرعونهم - وأعني بهم المتعلمين العاديين من الطبقة الوسطى الذين لا نستطيع أن نعدهم مثقفين. وقد نبذ كتاب القرن التاسع عشر الذين ما زلنا نذكرهم ونقرؤهم - إلى حد كبير - أكثر المعايير التي بيناها في الفصل السابق وقلنا إنها تمثل التوفيق في العصر الفكتوري. كان هؤلاء الكتاب يشاركون الطبقات الوسطى في بعض اتجاهاتها، وبخاصة الاقتناع بأن التقدم حقيقي وممكن. وكانوا على الأقل جدا يشاركونهم في الإحساس بالتاريخ وبالتطور وبالتدفق. ولكنهم يمقتون الطبقات الوسطى بصفة خاصة، الذين اخترعوا لها أسماء لا تكرمها مثل «الفلسطينيين» (أو الرعاع). وحتى الكاتب الذي يفخر بما أنجزته الطبقات الوسطى، الكاتب الذي كان عشاق الجمال والفنانون من عامة الشعب يعدونه عادة من الفلسطينيين، حتى هربرت سبنسر الذي كتب «خلاصة» القرن التاسع عشر، لم يكن خاضعا في تفكيره للنظام السائد، ولم يكن قانعا، وإنما كان معارضا لرجال الدين بشدة، مؤمنا بأن العالم به من الخطأ الشيء الجسيم. كان سبنسر بإيجاز يحتج ويشكو ويتألم، ولم يستطع أن يستطرد في الوصف أو التحليل دون أن يلقي اللوم - وقلما يلقي الثناء - ودون أن يظهر ضيقه وقلقه. كانت عنده باختصار تلك المرارة التي أصبحنا نتوقعها من الكتاب الجادين. كان المثقفون الخلاقون في القرن التاسع عشر يسيرون قدما بالفعل نحو الحالة التي بلغوها في أمريكا المعاصرة؛ حيث يتوقع المرء من المثقف أن يشكو بطبيعته كما يتنفس، وحيث يتوقع المرء أن يفتح أي كتاب منشور ويشرع في قراءة عيوب كلياتنا، أو أزمات أسرنا، أو إتلاف التربة السطحية، أو أسباب الشقاق في العلاقات الدولية ، أو اقتراب ثقافتنا من نهايتها، بل إنك لتجد حتى الشكوى من دور المثقفين. وقد نشر كاتب فرنسي ممتاز اسمه جوليان بندا منذ بضع سنوات كتابا عنوانه: «ماذا دهى المثقفين؟»
إننا لا شك مبالغون؛ فالعلم، أو المعرفة التراكمية لا يمكن في حد ذاتها أن تثني أو تلوم، أو تأمل أو تجزع، وقد كان هناك قدر كبير من الكتابة العلمية في تلك الأيام. كما أن بعض الفنانين قد يعملون بقصد إدخال السرور على النفوس، لا بقصد الإصلاح، وإن كان الجانب الأكبر من الفن ربما تضمن حكما من الأحكام عن هذا العالم، ومع ذلك فإنه من الحق على وجه الإجمال أن الطبقات المثقفة الأكثر خلقا وإنتاجا - والكتاب منهم خاصة - كانت على وجه التقريب منذ الثورة الفرنسية تلفظ أسلوب الحياة عند الطبقات الوسطى في الغرب وتنبذ القيم السائدة بين أفراد هذه الطبقات - ولا ننسى هنا أولئك الذين كانوا يقلدون هذه الطبقة ويتطلعون إلى مكانتها، وهم يؤلفون الكثرة العظمى من الطبقات العاملة في هذا العصر.
الهجوم من اليمين
سوف نقسم أنواع الهجوم على طرق المعيشة التقليدية في القرن التاسع عشر - لسهولة البحث - إلى هجوم من اليمين وهجوم من اليسار. وقد تولد هذان الاصطلاحان عن الحياة البرلمانية الفرنسية في مستهل القرن، عندما اعتاد الملكيون أو المحافظون أن يجلسوا جماعة إلى يمين رئيس الجلسة، وتجمع المصلحون الدستوريون والانقلابيون إلى يساره. وفي هذا إشارة رمزية لها دلالتها؛ لأن «اليسار» على وجه الإجمال يريد أن يدفع «مبادئ عام 1776م وعام 1789م» حتى يتحقق الغرض منها على أكمله، والأهداف الديمقراطية للثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، ويريد «اليمين» إجمالا مجتمعا أقل من ذلك ديمقراطية بدرجة كبيرة. وهذه الخطوط العريضة التي ترسم الفوارق بين هذين المصطلحين لا تكفي - بطبيعة الحال - لقياس ما في الآراء من تعقيد حتى في السياسة، وذلك لأمر واحد، وهو أن الوسط الذي نقيس منه اليسار واليمين ليس نقطة محددة واضحة؛ لأن الجذب الديمقراطي بين مثل الحرية والمساواة الذي ألمعنا إليه من قبل موجود دائما. كما أن المثل الأعلى للأمن يزيد الأمر تعقيدا. غير أن التقسيم إلى اليسار واليمين - برغم هذا - كوسيلة للتمييز بين الهجوم على الموقف الذي وضحناه في الفصل السابق، ينفعنا، وبخاصة إذا لاحظنا أن خط التقسيم منحن يمكن أن يكون دائرة كاملة فيلتقي الطرفان. ومما يلفت النظر في السنوات الأخيرة من الجمهورية الفرنسية الثالثة أن الملكيين والشيوعيين، وهما في المصطلح السياسي يمين متطرف ويسار متطرف، كثيرا ما صوتوا في جانب واحد في مشكلة معينة؛ فقد كان كلاهما يمقت في حماسة الفضيلة الجامدين من السوقة الذين لم يريدوا تغيرا ثوريا.
إن فلاسفة القرن الثامن عشر - بما كان لديهم من غريزة سليمة تجعلهم يميزون أعداءهم - أبرزوا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليوجهوا إليها أشد هجماتهم لأنك لو آمنت - كما فعل هؤلاء الفلاسفة - بالخير الطبيعي والعقل عند الإنسان العادي، فإن فكرة الخطيئة الأولى إذن تصبح في الطرف الآخر المناقض. ولكن المزيد من مجموعات الآراء التي تضمنتها حركة التنوير - المذهب الطبيعي الذي ينكر ما فوق الطبيعي، والمذهب المادي، والاعتقاد في التقدم الأكيد فوق الأرض، وكراهية التقاليد والمراتب الثابتة القائمة، والاعتقاد في الحرية أو المساواة، أو في الحرية والمساواة معا في بعض الأحيان - كل ذلك وجد في المسيحية التقليدية المنظمة مجموعة من الآراء المعادية. وقد ذكرنا من قبل أن حركة التنوير ذاتها هي من بعض نواحيها وليدة المسيحية. وسوف نرى أن الكنائس الأشد محافظة، الرومانية الكاثوليكية والأنجليكانية - مثلا - حتى هذه الكنائس لم ترفض بأية حال من الأحوال أن تكيف نفسها جزئيا للتغيرات التي حدثت منذ القرن الثامن عشر. ومن خطل الرأي حقا أن نقول إن «المسيحية» و«الروح الجديدة» نظامان من نظم القيم لا يتداخلان. وقد لاحظنا في الواقع في الفصل السابق أن من عناصر التوفيق في عهد فكتوريا الاحتفاظ بتقليد ارتياد الكنيسة، كاثوليكية كانت أو بروتستانتية. وقد ترتب على ذلك أن المسيحيين لا بد أن يؤمنوا بالديمقراطية، وبخاصة في الولايات المتحدة؛ حيث يعتقد الجميع في الديمقراطية مع استثناء أقلية متعصبة.
ومع ذلك فقد أخرجت الكنائس القائمة بين الحين والحين مفكرين كانوا من أشد خصوم الديمقراطية صلابة وثباتا. وليس من بين هؤلاء بالتأكيد من هو أفصح، أو أقدر، بل وأكثر بعدا عن الواقعية فيما أحسب، من جوزيف دي ميستر؛ فهذا الموظف من سافوي الذي أقصته الثورة الفرنسية حاول أن يرد زملاءه لما كان يعتقد أنه الحقائق الأبدية، وبقدر كبير من نفاذ البصيرة أشار إلى فرانسيس بيكون وعده أحد واضعي أسس الشر الحديث، وهو على وجه الدقة «أن بالإمكان ظهور شيء جديد طيب». وقل من الأمريكيين من يستطيع أن يقرأ فقرة كالتالية دون أن تتولاه الدهشة، بل ويستولي عليه السخط والحنق. ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن من بين رجال ثقافتنا من آمن بهذه المعتقدات: «إن عنوان مؤلفه (مؤلف بيكون) الرئيسي ذاته خطأ يلفت الأنظار؛ إذ ليس هناك «نوفم أورجانم» أو بالعربية «أداة جديدة» نستطيع أن نصل بها إلى ما لم يصل إليه أسلافنا. إن أرسطو هو المشرح الحقيقي - إن جاز هذا التعبير - الذي حلل الأداة البشرية تحت أبصارنا وأظهرها لنا. ولا يستطيع المرء إلا أن يبتسم في شيء من السخرية على رجل يعدنا ب «رجل جديد». ولندع التعبير عن هذا الكتاب المقدس. إن الروح البشرية هي هي بعينها دائما ... ولا يستطيع امرؤ أن يجد في الروح البشرية أكثر مما بها. ولأن تظن أن ذلك ممكن لهو أكبر الأخطاء، وليس في ذلك معرفة بالطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه ... قد توجد في بعض العلوم المعينة مكتشفات يمكن أن تعد آلات حقيقية تصلح كل الصلاحية لإبلاغ هذه العلوم حد الكمال؛ فقد كان حساب التفاضل نافعا في علوم الرياضة، كما كان الترس نافعا في صناعة الساعات. أما في الفلسفة العقلية فمن الواضح أنه لا يمكن أن توجد أداة جديدة كما أنه لا توجد كذلك أدوات جديدة في الفنون الآلية عامة.»
إن الكتاب الضخم الذي أخرجه ميستر «عن البابا» إنما هو دفاع عن السلطة البابوية في الواقع، بل عن عصمة البابوية عن الخطأ، ودفاع بوجه عام عن نظام تسلطي في عالم أحس أنه يتحلل إلى فوضى العقائد والأعمال . جاء فيما قال: «بعدما أضعفت البروتستانتية والتفلسف، وألوف المذاهب الأخرى المعارضة أو المسرفة بدرجة ما، من شيوع الحق بين الناس، لا يستطيع الجنس البشري أن يبقى على الحالة التي يجد نفسه فيها الآن.» والظاهر أنه كان واقعيا إلى الحد الذي لم يجعله يأمل في أي إصلاح مفاجئ، وبخاصة بين قوم يرجع تاريخهم إلى الأنجلو ساكسون في الماضي البعيد. وأما ما عقد عليه الأمل فهو أن تثبت في مكانها نواة من الرجال الحكماء النظاميين في البلاد التي ما زالت كاثوليكية في صميمها، وذلك وسط زوبعة المادية، وانعدام العقيدة والتقدم العلمي، وتبقى قائمة لتعيد العالم إلى رشده بعد الانهيار الذي لم يكن منه مفر.
ويمكن أن نصف ميستر بلفظة نعبر بها عادة عن الإساءة إلى الناس، وتنطبق عليه انطباقا حرفيا، وتلك هي «الرجعي»، أو الرجل الذي يؤمن أن الجديد لا يمكن أن يكون طيبا، والطيب لا يمكن أن يكون جديدا، وأن المركب الكاثوليكي في العصور الوسطى صالح لكل العصور. ولكن حتى ميستر لم يستطع أن يفر من أثر التاريخ، وإنك لتلمس فيه على الأقل في أسلوبه المحكم القوي الواضح طابع القرن الثامن عشر الذي لا نخطئه. وأكثر من ذلك أنه في كراهيته للحماسة العاطفية، وفي ازدرائه للإنسانيين في عصره يشف عن مظاهر التسلط الكاثوليكي الذي لا يخلو من المرارة، ذلك التسلط الذي كان يؤلم النفوس الرقيقة في الكنيسة ذاتها. وأرجو أن تلاحظوا الطريقة التي يوحي بها في الفقرة السالفة إلى أن التعبير عن «الإنسان الجديد» وما يشبهه يحسن أن يترك للكتاب المقدس. ثم إنك لو قرأت ميستر بعناية كافية وجدت أن لديه بعض الأفكار عن الطبيعة «العضوية» للمجتمع، وقوة الإنقاذ الكامنة في التقاليد وفي التعصب، مما نجده عند بيرك. غير أن «طريقة» ميستر أقل تسامحا من طريقة بيرك، وهو يترك فينا الانطباع بأن مجتمعه العضوي الطيب إنما هو مجتمع ثابت ولكن بغير اطراد.
ولا يعدو ميستر في نظر أكثر الأمريكيين في القرن العشرين أن يكون نموذجا غريبا من عالم آخر. وأكثر الأمريكيين - لسوء الحظ - يجدون مثل هذه المشقة في فهم رجل أعمق نقدا للديمقراطية، هو الرجل الأيرلندي إدمند بيرك، والعطف على آرائه. وقد عاش بيرك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ونشر أعظم كتبه «تأملات في الثورة الفرنسية» في عام 1790م. وهو من أقدر المفكرين على البحث في المعتقدات الأساسية الحركة التنوير، وظل طوال القرن التاسع عشر المصدر العظيم لنوع معين من المعارضة المحافظة على القديم لاتجاهات العصر. وكان بيرك بروتستانتيا، وأنجليكانيا مخلصا نشأ تحت التأثير الإنجليزي وشق طريقه في مجلس العموم البريطاني. وقد أيد قضية الثوار الأمريكيين في خطب طالعناها أمدا طويلا في هذه البلاد، ولكنه منذ البداية أشار إلى ما ظن أنه من الاحتمالات التي قد تقضي على الثورة الفرنسية. وجعل من نفسه في وقت مبكر زعيما في الحركة الفكرية المناهضة لها. وقد قادته هذه الخطوة إلى صراع عنيف مع المفكرين المتقدمين في عصره، وجعلت أكثر الأمريكيين لعهد جفرسون يعدونه روحا مظلمة تغشاها ظلمة الجهالة. وكانت «حقوق الإنسان» لتوم بين ردا على بيرك. ولا يزال أكثر الأمريكيين إلى يومنا هذا يميلون إلى الشعور بأن بين كان أقوى حجة، ومع ذلك فإن بيرك يستحق الالتفات إليه حتى من الديمقراطي الواثق بنفسه من حزب اليسار؛ لأن الكثيرين يرون أنه قام ببعض التحليل للعلاقات الإنسانية التي تستحق أن نعدها إضافات لمحصولنا الضعيف من المعارف التراكمية في العلوم الاجتماعية، وقد يشق علينا أن نعتصر هذا المحصول من أسلوبه المسهب. وما زالت عند بيرك - فوق ذلك - نواة صلبة من العقيدة المسيحية لا يمكن أن تختصر في صورة معرفة تراكمية بالمعنى العلمي.
كان بيرك يرى أن الثورة الفرنسية هي في صميمها من عمل نوع معين من المثاليين الذين تشبعوا بالآمال العظيمة التي كانت تتطلع إليها حركة التنوير. إن بيرك لم يعتقد بأن كل شيء كان على ما يرام في فرنسا في عهدها البائد، وأنه ليست هناك حاجة إلى القيام بعمل ما لرفع مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية. لم يكن بيرك من هذا الطراز من الرجعيين، وإن كان بمواصلته جدله السياسي وبحلول عيد الإرهاب في فرنسا، كان قمينا بأن يكتب المقالات بين الحين والحين التي يبدو فيها في مثل جمود ميستر. وأساس نقد بيرك لزعماء الثورة الفرنسية هو أنهم - بدلا من السير قدما ومحاولة إصلاح اتجاه معيب، أو إعادة بناء سور قائم أو ما إلى ذلك، أو تقوية سطح من السطوح - كانوا يقترحون هدم البناء كله هدما فعليا ثم إقامة بناء آخر جديد كل الجدة رسم لهم تصميمه معلموهم من الفلاسفة. ولكن البناء القديم كان هو البناء الوحيد الموجود؛ وحتى لو أمكن للناس أن يتفقوا على البناء طبقا لتصميم رجال النظريات، فإن البناء لا بد أن يستغرق بعض الوقت، ولكنهم في الواقع لم يكونوا على مثل هذا الاتفاق. وكل ما حدث أن البناء القديم قد انهار انهيارا شنيعا، وبقي الشعب الفرنسي بغير مأوى يئويهم من الزوابع. وكان لا بد للبناء الجديد في نهاية الأمر من أن يشيد إلى حد كبير من المواد القديمة؛ لأن الناس لا يستطيعون العيش في العالم الجديد بغير مأوى. ولكن الفلاسفة لم يشيدوا هذا البناء الجديد القديم، وكان لا بد من بنائه على يد رجل صاحب نفوذ قوي الإرادة، رجل يستطيع أن ينجز الأمور بطرق تسلطية إن اقتضى الأمر - وكان ذلك الرجل هو نابليون بونابرت. ومن الحق أن بيرك الذي كان يكتب فيما بين عام 1789م وعام 1790م قد لمح في الأفق وتنبأ بصفة خاصة بظهور دكتاتور مثل نابليون، الذي استولى على السلطة نهائيا في عام 1799م.
إن التشبيه الذي أوردناه في الفقرة السابقة لا ينصف بيرك، ولكنه قد يعين القارئ على متابعة تحليله. يبدأ بيرك بتشاؤم المسيحي بشأن الإنسان الحيوان. والواقع أن من بين ما كان يمقته أشد المقت روسو الذي كان يبشر بالخير الطبيعي عند الإنسان الذي لم تلوثه الحضارة، أو روسو الذي وصفه «بأنه سقراط الجمعية الوطنية المجنون». فإن عامة الناس إذا تركوا لدوافع شهواتهم وميولهم يميلون دائما - كما يرى بيرك - إلى التخبط، والغش، والخداع، وإلى أن يسلكوا سلوك الحيوان. ومع ذلك فإن أكثرهم لا يفعل ذلك في حياتهم اليومية. والشواذ من المجرمين تمكن دائما معالجتهم في مجتمع سليم. إن المجتمع المدني يقدم لنا مثالا رائعا للناس السيئين في صميمهم و«بطبيعتهم» الذين يسلكون سلوك الطيبين، أو على الأقل سلوك الهادئين. ويجب أن نستنبط من ذلك أن الحقيقة هي عكس ما قال به روسو تماما. إن الإنسان ينجو - لا يتحطم - بعضويته في المجتمع، وباتباعه للتقاليد والمواضعات والاتجاهات السائدة، والقانون، وما إلى ذلك. وبيئته الاجتماعية والسياسية هي الشيء الوحيد الذي يحول بينه وبين الاضطراب الذي يتمرغ فيه.
ويترتب على ذلك أنه يتحتم علينا ألا نهدم الجانب الأكبر من النظم والمؤسسات والطرق المطروقة في تناول العلاقات الإنسانية التي نسميها «المجتمع المدني». ومن الحق أن أي إنسان نابه لديه المواهب الصحيحة يمكنه أن يبتكر كل ضروب الوسائل الجديدة لتناول هذه الأمور، تلك التحسينات النظرية التي لو أمكن تطبيقها لكانت تحسينات واقعية حقا. غير أن بيرك ينادي بوجوب السير في حذر على هذا الطريق، ومحاولة قليل من التغيرات في الوقت الواحد، وبعدم محاولة تغيير المجتمع المدني «بأسره». وقد حاول الفرنسيون في عام 1789م فعلا هذا الانقلاب الشامل. وسعوا إلى تغيير كل شيء من نظام الموازين والمكاييل إلى انتخاب الأساقفة، وبناء الحكومة المركزية، ورجعوا في ذلك إلى أصحاب النظريات بدلا من الانقياد لأصحاب التجربة العملية.
إن ما يبقي عامة الناس على الطريق القويم هو على الأقل العادة إلى حد ما، ونوع من التطابق العاطفي الذي يوجده الفرد بينه وبين المجتمع الذي يحس أنه جزء منه، وليس هذا الشعور بالأمر الذي يمكن أن نحدثه إن أردنا، إنما هو من الأمور التي لا بد أن تنمو نموا تدريجيا طبيعيا. وما كان بيرك ليقدر القصة التي تروى عن أحد مباني الكليات الجامعية التي علقت إعلانا يقول: «ابتداء من الغد يصبح من تقليد الكلية أن يخلع المستجدون قبعاتهم عندما يمرون بتمثال مؤسس الكلية.» إن ما يدعو إلى تماسك المجتمع في نظر بيرك ليس شيئا معقولا بالمعنى البسيط لهذه الكلمة وليس شيئا مخططا، وليس شيئا مسطورا على الورق كدستور جديد. بل إنه كان في الواقع يعتقد أن «الدستور الجديد» اصطلاح يخلو البتة من المعنى. إنك تستطيع - على أحسن تقدير - أن تدخل عناصر جديدة في دستور من الدساتير، كما تستطيع أن تطعم الشجرة بعملية عضوية لا عملية آلية.
إن بيرك بطبيعة الحال لم يستخدم اللغة التي استخدمناها فيما سبق. إنما هو يستعمل الاصطلاحات السائدة في عصره، بما فيها الاصطلاح المبارك المقدس: «العقد الاجتماعي»، ولكن ينبغي لنا أن نلاحظ المعنى المختلف الذي يكسبه لهذه الفكرة؛ فنحن معه لا نعالج المصالح بحساب لوك أو بنتام، وإنما نعالجها بتصورات هي بكل وضوح من تقاليد المسيحية في العصور الوسطى. «ليس المجتمع في الواقع إلا عقدا. والعقود الثانوية التي تتعلق بالأمور التي لا تهمنا إلا حينا بعد آخر يمكن أن تنحل متى شئنا. ولكنا لا ينبغي أن نعد الدولة شيئا لا يفضل اتفاق شركة في تجارة الفلفل والبن، أو المنسوجات أو التبغ، أو شيئا تافها كهذا، لا نأخذه إلا مأخذ المصلحة الموقوتة، وللشركاء أن يتحللوا منه عندما يريدون، بل يجب أن ننظر إلى الدولة بنوع آخر من الاحترام؛ لأنها ليست شركة في أشياء لا تخضع إلا للوجود الحيواني الضخم لطبيعة مؤقتة زائلة. إنما هي شركة في كل العلوم، وفي كل الفنون، شركة في كل فضيلة من الفضائل وفي كل سبب من أسباب الكمال. وبما أن غايات مثل هذه الشركة لا يمكن أن تتحقق في أجيال عديدة، فإنها تمسي شركة لا بين الأحياء فحسب، ولكن بين الأحياء والأموات وأبناء المستقبل. وكل عقد في كل دولة على حدة إنما هو بند في العقد البدائي العظيم للمجتمع الأبدي، العقد الذي يصل الطبائع السفلى بالطبائع العليا، ويربط بين العالم المنظور والعالم غير المنظور، وفقا لاتفاق ثابت يباركه قسم لا حنث فيه يوقف كل طبع من الطبائع المادية والمعنوية في مكانه المحدد له.»
ونستطيع أن نورد نصا آخر لنرى كيف أن بيرك يستعير عبارة أخرى مشهورة - ومتفجرة - من عبارات حركة التنوير وهي: «الحقوق الطبيعية»، ويخضعها للأفكار التقليدية التي تتعلق بالسلطة وعدم المساواة. «إن الحكومة لا تقوم بفضل الحقوق الطبيعية، وهي الحقوق التي قد توجد - بل هي توجد فعلا - مستقلة عن الحكومة استقلالا تاما. هذه الحقوق توجد بوضوح أشد، وبدرجة أعلى من درجات الكمال المحرر مما تكون عليه الحكومة. غير أن كمالها المجرد هو عيبها العملي؛ فهي إذ تنادي بالحق في كل شيء تحتاج إلى كل شيء. أما الحكومة فهي حيلة ابتدعتها حكمة الإنسان لكي تسد «الحاجات البشرية». وللناس الحق في سد هذه الحاجات بهذه الحكمة. ومن بين هذه الحاجات نذكر الحاجة في المجتمع المدني إلى الحد من ميول الناس بدرجة كافية. إن المجتمع ليس في حاجة فقط إلى إخضاع ميول الأفراد، وإنما هو في حاجة كذلك في مجموعه - كما هي الحال في أفراده - إلى أن توجه رغبات الناس في كثير من الأمور وجهة أخرى، وإلى أن تحد إرادتهم، وإلى إخضاع ميولهم. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا «بقوة من أنفسهم»، لا بممارسته وظيفته، مع الخضوع لهذه الإرادة وتلك الميول التي هي من واجبه أن يحد منها وأن يخضعها. وبهذا المعنى نجد أن القيود التي تفرض على الناس، وعلى حرياتهم، هي بعض حقوقهم. ولكن الحريات والقيود تختلف باختلاف الأزمنة والظروف، وتسمح بتعديلات لا حصر لها، ولا يمكن أن تقوم على أية قاعدة مجردة. وليس هناك ما هو أشد حماقة من مناقشتها على هذا الأساس.»
وما حدث في فرنسا - بناء على قول بيرك - هو أن الحمقى من الناس وإن حسنت نياتهم انتهزوا فرصة الأزمة المالية التي أدت إلى استدعاء القادة العسكريين لكي يحاولوا هدم المجتمع الفرنسي القديم، وقد نجحوا في تحطيم جانب كبير منه. إن الرجل الفرنسي المتوسط، الذي لم يعد قادرا على الاعتماد على الوسائل القديمة الثابتة، اختل توازنه، وخابت آماله، فحول هذه الخيبة إلى اعتداء، وكان حكم الإرهاب هو النتيجة الطبيعية لمحاولة إحداث تغيرات في المجتمع أضخم مما يحتمل. ولو أن بيرك كان اليوم حيا لقال من غير شك بأن عصابات تهريب الخمور في أمريكا التي تكونت في العشرينيات من هذا القرن في أمريكا كانت نتيجة طبيعية لمحاولة إرغام الناس على التخلي عن عادات الشراب القديمة بتعديل القانون.
غير أن بيرك لم يكن رجعيا؛ فقد كان يؤمن بإمكان التجدد والتجريب، بل في حتميتهما. كان «يريد الإصلاح لكي يبقي على القديم». وإصلاحاته التي اقترحها لم تعد أن تكون عقبات في طريق الانقلابيين القلقين من أمثال بين وأوين. والواقع أن الاتجاه الإصلاحي الحقيقي لا بد أن يرى في بيرك رجلا لا يعطف البتة عليه؛ لأنه في أعماقه رجل متشائم، وهو لا يؤمن البتة أن الناس جميعا يمكن أن يكونوا سعداء فوق هذه الأرض في أي وقت من الأوقات. إنه يضع اعتراضاته على التخطيط العقلي الذي رسمه القرن الثامن عشر الذي كان مستنيرا إلى حد كبير في عبارات مما يتميز به ما نسميه «الإحياء الرومانتيكي» - في ألفاظ تعبر عن الطبيعة العضوية للجماعات البشرية (التي تتعارض مع الطبيعة الآلية)، في حدود التقاليد، والعواطف، بل و«الأهواء»، وهي لفظة تكاد تترادف مع «الإثم» عند فلاسفة القرن الثامن عشر. غير أن وراء هذا صفة أقدم لمجموعة من المشاعر أقدم، وهي مشاعر أوغسطين وأكويناس في أساسها.
وثمة مفكر مسيحي آخر لا بد من ذكره. وذلك هو الكاردينال نيومان، الذي كان زميلا في أكسفورد ثم أصبح شخصية كبرى في الإحياء الأنجليكاني للكنيسة العليا في مستهل القرن التاسع عشر، وهي الحركة التي تعرف باسم «حركة أكسفورد». كان نيومان شابا حساسا، خياليا، أحس إحساسا قويا بالحاجة إلى اليقين والسلطة. ولم يرض عن نفسه حتى تحول في عام 1845م إلى الكنيسة الكاثوليكية. وقد وجد نيومان - كما وجد ميستر وبيرك، بل وكل المحافظين من المسيحيين - عدوه في فلسفة حركة التنوير، وإن يكن قد استطاع في منتصف القرن التاسع عشر أن يستعمل لفظة «التحرر» لكي يسمي بها مجموعة الآراء التي يمقتها. يقول: «إنني أعني بالتحرر حرية الفكر الزائفة، أو تعرض الفكر لأمور هي - بحكم تكوين العقل البشري - مما لا يمكن أن ينتهي فيها الفكر إلى نتيجة ناجحة، ومن ثم فهو في غير موضعه ... إن التحرر يقضي بأن الآراء والمذاهب الموحى بها لا يمكن أن تعترض النتائج العلمية وأن يكون ذلك أمرا معقولا. ولذلك فإن الاقتصاد السياسي - مثلا - قد يقلب ما قال به المسيح عن الفقر والغنى، أو قد نتعلم من نظام أخلاقي أن أفضل حالات الجسد أساسية في العادة لبلوغ أسمى حالات العقل، أو أن هناك «حكما شخصيا» عادلا؛ أي إنه ليست فوق الأرض سلطة جديرة بأن تتدخل في حرية الأفراد في التعليل والحكم لأنفسهم فيما يتعلق بالإنجيل ومضمونه، كما يشاء كل فرد منهم على هواه. ولذلك فإن المؤسسات الدينية - مثلا - التي تحتاج إلى اشتراك مادي ليست من المسيحية في شيء. إن حركة التحرر تؤمن بأنه لا يوجد شيء اسمه الضمير الوطني أو القومي، وأن المنفعة والفائدة المباشرة هما مقياس الواجب السياسي، وأن السلطة الوطنية لها أن تتصرف في أملاك الكنيسة دون أن يكون في ذلك انتهاك لحرمة الدين. وأن الشعب هو مصدر السلطة المشروع ... وأن الفضيلة وليدة المعرفة، والرذيلة وليدة الجهل. ومن ثم فإن التربية، والأدب الصحفي، والسفر بالسكك الحديدية، والتهوية، ومجاري المياه، وفنون الحياة، هذه على سبيل المثال إذا نفذت تنفيذا كاملا، تؤدي إلى أن يمسي السكان سعداء وعلى خلق.»
إن أهمية نيومان لنا على أية حال لا ترجع إلى هجومه على التحرر، أو حتى إلى قبوله المسيحية التقليدية قبولا عاطفيا عميقا، بمقدار ما ترجع إلى الجهود المذهلة التي بذلها بكل وضوح لكي يوفق بين تفكيره وروح العصر الفكتوري. وأرجو ألا تسيئوا فهمي هنا. فإن نيومان كان أقل من عرفنا تبعية لزمانه. وهو قطعا لم يبذل جهدا مقصودا للتعبير عن رسالة في عبارة قد تؤدي إلى قلب معناها، وإنما كان الرجل أذكى وأنفذ بصيرة بما كان يجري من حوله، بل وربما كان بريطانيا مغاليا أمعن في بريطانيته، من أن يقف الموقف الصريح اليقيني الذي وقفه ميستر، وهو أن الجديد لا يكون طيبا، أو حتى أن الجديد أمر ممكن. وقد ذهب نيومان في «مقاله عن تطور مذهب المسيحية » الذي نشره في عام 1845م إلى حد الإصرار على أن المسيحية في صورتها التقليدية المقدسة صادقة، ولذلك فهي لا بد أن تتغير وأن تنمو وأن تتطور. حقا إنه يحصن نفسه ضد الوقوف موقفا نسبيا كاملا، فلا يقول إن الكنيسة فوق مستوى التطور لأنها قد بلغت بطبيعة الحال حد الكمال لأنها مؤسسة مقدسة. ولكن الكنيسة «لا بد» أن تتطور بمقدار ما هي مؤسسة بشرية فوق هذه الأرض؛ لأن هذه هي سنة الحياة. «إن الأمر في العالم الأعلى على غير ذلك، أما هنا في العالم الأسفل فالحياة معناها التطور، ولكي تبلغ الكمال لا بد أن تكون «متطورا» في كثير من الأحيان.»
وليس كل تغير طيبا، بل إن نيومان يعتقد أن مثل هذه العقيدة هي من أكبر أخطاء المتحررين، ويجب أن نميز بين التطور والفساد؛ لأن الحياة التي تبشر بالتقدم تنطوي أيضا على التهديد بالفساد. وليس باستطاعتنا أن نستخدم أي اختبار علمي بسيط يبين لنا متى يكون التغير إلى الأحسن ومتى يكون إلى الأسوأ؛ أي متى يكون تقدما ومتى يكون فسادا. إننا يجب أن نعتمد في ذلك على ما أسماه نيومان قدرتنا على الاستنتاج. وهذه الفكرة التي بسطها بصفة خاصة في كتابه «قواعد الموافقة» الذي نشره في عام 1870م، هي من الأفكار المبكرة التي سبقت الجانب الأكبر من المذهب المعارض للعقل الذي سوف ندرسه في الفصل التالي. وأقول في إيجاز إن نيومان كان يبحث عن تفسير سيكولوجي (أو قل إن شئت) عن تبرير للعقيدة التي تتجاوز ذلك النوع من معايير الصدق التي يربط الإنسان الحديث بينها وبين العلوم الطبيعية، بل وبين الإدراك العام كذلك. وليس من الأنصاف أن نقول إن القدرة على الاستنتاج التي قال بها نيومان هي في أساسها ذلك الرأي العملي الشهير الذي نادى به وليام جيمس، وهو «إرادة العقيدة». فمن المؤكد أن نيومان لا يقول إننا يجب أن نعتقد فيما نريد العقيدة فيه. غير أنه يصر على أن الحياة الإنسانية الكاملة فوق هذه الأرض يجب أن تسترشد بشيء أكثر من الأفكار التي تتعلق بالصدق التي يهتدي بها العالم التجريبي في معمله، وأن هناك شيئا هو مزيج بين ما نسميه نحن الأمريكيين «تصورا» و«معرفة عملية» بين الحس الجمالي، والحس الخلقي، والتجربة المحسوسة للمشكلات الواقعية. إن المعرفة التي نصل إليها عن طريق القدرة على الاستنتاج هي بالنسبة إلى المعرفة التي نصل إليها بالمنطق البحت أشبه بالحبل المفتول من عدة خيوط إذا قيس إلى القضيب المفرد من الصلب. كلاهما قوي، ولكن واحدا منهما فقط هو الذي يتكون من قطعة واحدة بسيطة. إن القدرة على الاستنتاج تختلف باختلاف الأفراد، وهي عندهم أقوى - مثلا - في أكثر الأحيان في الشئون الجمالية منها في الشئون الخلقية. ولا يمكن في أمثال هذه الأمور أن يكون لها اختبار عالمي كذلك الذي نجده في المنطق عند تطبيقه على العلوم، وليست هناك وسيلة نثبت بها صدق نوع معين من الأخلاق أو الجمال لشخص قدرته على الاستنتاج ناقصة أو غير مدربة. ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يوجد في هذه الأمور صدق، بل الأمر على عكس ذلك؛ فإن الفكرة العامة للبشر خلال العصور لم تكن متشائمة أو متشككة في هذه الأمور التي تتصل بالحكم على القيم، بل قد اعترفت بالقديسين والفنانين، والحكماء، كلما التقت بهم. ولن نشعر أن حكمنا على القيم أحط في صحته من أحكامنا على وقائع العلم إلا إذا كنا نتوقع من حقائق المسيحية كما يباشرها الناس أن تكون كاملة، مطلقة، لا تتغير؛ أي إلا إذا كنا في الواقع يقينيين حيثما لا يكون اليقين صالحا.
وقد ساقت ممارسة القدرة على الاستنتاج عند نيومان إلى اتجاه المحافظة في السياسة، ونحو تعزيز النظام القائم في العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولكن الهيكل النظري الذي أقامه هو من أفضل الهياكل لما يسمى أحيانا الكاثوليكية المتحررة، وهو تكييف الاتجاهات المسيحية عن قصد لتلائم درجة أعلى من درجات الديمقراطية، ونحو مزيد من الأخذ ببعض أهداف حركة التنوير.
وقد اخترنا ميستر وبيرك ونيومان كأمثلة للمفكرين الذين تصدوا للهجوم - من وجهة النظر المسيحية والتقليدية إلى الأمور الكونية والسيكولوجية - على معتقدات حركة التنوير المتفائلة التي تأخذ بحكم العقل. ومن العسير بطبيعة الحال أن نرسم حدا فاصلا بين أمثال هؤلاء الرجال وغيرهم من المحافظين الذين عبروا عن آرائهم من الناحية الدنيوية أكثر ما عبروا عنها من الناحية الدينية. ولا بد أن يكون أكثر المحافظين مسيحيين على الأقل في الظاهر، ما دامت المسيحية هي العقيدة السائدة في الغرب. غير أن هناك في الواقع هجمات على الديمقراطية من اليمين، من وجهة نظر القائلين ب «التسلط» أو ب «شمول الدولة» الذين لم يكونوا في حقيقة الأمر مسيحيين أو تقليديين. وسوف نتصدى لهؤلاء بعد قليل. وقد كان تطورهم الأكبر في القرن العشرين، وإن كانت جذورهم تمتد إلى القرن التاسع عشر. وقد صدرت أهم معارضة عقلية في القرن التاسع عشر - كما كانت تصدر من قبل - عن مفكرين أرادوا الرجوع إلى شيء يعدونه أفضل شيء ساد في وقت من الأوقات هنا فوق هذه الأرض. وكانت الأرستقراطية في صميم الأمر هي ما يعارضون بها الديمقراطية؛ فالأرستقراطية هي حكم الحكماء الطيبين، وهي الصورة الكلاسيكية المتوارثة عن الرجل المهذب الإغريقي أو الروماني كما قامت بتعديلها الحياة المسيحية والإقطاعية.
وليس بوسعنا أن نعالج هنا معالجة منظمة أمثال هؤلاء المفكرين الذين يختلفون عن أمثال بيرك وبخاصة في نواحي اهتمامهم الشديد. وما إن حل القرن التاسع عشر حتى كان الكثيرون منهم قد اقتنعوا بأن الحكومة على صورة من الصور أمر لا مفر منه في الغرب. ويبدو أن اهتمامهم الأكبر كان موجها نحو ضرورة التفوق في ناحية من النواحي - غير القدرة على تكوين الثروة أو التحكم في الجماهير - تمهيدا للمجتمع الديمقراطي المقبل.
والواقع أن اثنين من كبار المفكرين السياسيين ممن نضعهم عادة في صف المتحررين، وهما جون مل وأليكسس دي توكفيل، ينتميان - من ناحية ما - إلى هذه الفئة. وكان مل شديد القلق فيما يتعلق بالخطر من «تعسف الأغلبية»، وكان شديد الاهتمام بالتمثيل النسبي وفي غيره من المشروعات لحماية حرية أحزاب الأقلية. وكان توكفيل رجلا نبيلا فرنسيا مثقفا وفد على الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر لكي يدرس نظم السجون عندنا، ثم عاد إلى وطنه ليكتب وصفا كلاسيكيا للمجتمع الأمريكي تحت عنوان «الديمقراطية في أمريكا» فيما بين عام 1835م وعام 1840م. ويعتبر الكتاب بحق من تلك الكتب المحببة إلينا نحن الأمريكيين، كأي مؤلف من مؤلفات المتحررين من بعض النواحي. بيد أن توكفيل كان يساوره القلق عنا، وعن إيثارنا للمساواة على الحرية، وعن انعدام ثقتنا في الدقة والامتياز في الأمور الثقافية والروحانية، وعن الخطر على مستقبل الرجل الغربي، الخطر الذي يلمسه في قوتنا العظمى، وفي عدم مبالاتنا بدرجة كبيرة - بل كراهيتنا بشدة - لنواحي التفوق التقليدية التي كان يتميز بها الرجل الكلاسيكي. كان أرستقراطيا كريما، تحيره الآمال الأمريكية في الكمال قريب الوقوع، وينفره منا تصويرنا لمبدأ المساواة، ويصعقه إيماننا بأن الأغلبية دائما على صواب، ولكنه تنبأ بعظمتنا المقبلة، بل تنبأ في الواقع - في إحدى عباراته التي تنفذ فيها بصيرته - بالصراع بيننا وبين روسيا، وكان يخشى أن نضع الأهداف المادية فوق الأهداف الروحية في عظتنا. بيد أن الوجه النبيل في «الحلم الأمريكي» لم يغب عنه. وكان على خلاف كثير من الناقدين الأوروبيين لا يكتب قط بأسلوب الاستعلاء الذي يسبب لنا شيئا من الضيق.
وجاء متأخرا بعد ذلك كاتب إنجليزي اسمه سير هنري مين، عبر في وضوح تام عن انعدام ثقة الأرستقراطية في الديمقراطية. وقد كاد انعدام الثقة عنده في كتابه «الحكومة الشعبية» الذي نشره في عام 1885م أن يكون ذعرا شديدا. وكان مين يحترف كتابة التاريخ، تخصص في التاريخ الشرعي القديم، وقام بعمل كثير على هامش الدراسات الإنسانية (الأنثروبولوجيا). ولكن دراساته أقنعته أن خط سير تطور البشرية، بالنظر إلى الرجل الغربي باعتباره أعلى ممثل لها، يتجه من ربط الفرد في البدء بالتزامات معينة لا يؤديها قط عن وعي أو طواعية إلى حرية الفرد الحديثة في أن يقرر لنفسه ما يعمل وما يكون عليه. إن تقدم الإنسان في عبارة مين الشهيرة هو «من المكانة المستقرة إلى التعاقد». وأما ما أزعجه في الثمانينيات من القرن الماضي فهو دلالة نشاط الاتحادات العمالية في بريطانيا ، وتشريعات الضمان الاجتماعي في ألمانيا، والدعاية الاشتراكية التي علا صوتها في كل مكان، دلالة ذلك على أن بعض الناس يؤثرون الأمن على الحرية، وأمان الاستقرار على أخطار حرية التعاقد. وكان مين أحد كبار الكتاب الأوائل في الغرب الذين استخدموا بعض آراء القرن الثامن عشر عن حرية الإنسان للدفاع عن «الحالة القائمة». كان مين يمثل المحافظين في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، يبشر بما بشر به الانقلابيون من قبل في الثمانينيات من القرن الثامن عشر. إن مبدأ: «دعه يعمل» الذي كان في يوم من الأيام يهدد النظام التجاري المستقر، بات اليوم مهددا بالاشتراكية، وأمسى هو مذهب المحافظين من الطبقة الوسطى الرأسمالية. والواقع أنه ليس هناك تناقض في ذلك؛ فإن التغيرات الناجحة التي تمت في وقت سبق تجدها في المجتمع المتطور متضمنة في بناء المجتمع. وإذا واصل المجتمع تطوره - كما كان المجتمع الغربي قطعا - فإن أولئك الذين يشجعون التغيرات الجديدة المقترحة يجدون أنفسهم معارضين ما كان انقلابيا في وقت مضى. وقد كان توم بين يريد في عام 1790م حكومة لا تحكم إلا في القليل، ولا تكلف إلا القليل، وتسمح للطبيعة أن تجري مجراها النافع، وإن أنت ناديت بذلك في عام 1950م عدوك من الجمهوريين القدامى ولم يعدوك انقلابيا مثل توم بين.
وكما أن نيومان يبدو رجلا أحكم من ميستر؛ لأنه كان يسعى إلى إدراك حقائق التطور الاجتماعي، فكذلك كانت هناك مجموعة أخرى من المحافظين تبدو أحكم من مين وغيره من السادة المذعورين. وهذه المجموعة تتألف من الديمقراطيين المحافظين الذين ظهروا على أحسن صورة لهم في إنجلترا، البلد الذي أطلق عليهم هذا الاسم. وليس مرد ذلك بالضبط إلى أن الديمقراطيين المحافظين قوم عمليون بدرجة أكبر من المحافظين الأقحاح؛ فالواقع أنهم - بالرغم من وجود بنيامين دزرائيلي بينهم رجلا عنده من الصفة العملية ما يؤهله لأن يرتفع إلى مركز رئيس الوزراء أغلب الأحيان مثل الشاعر كولردج، أو قسيسين مثل ف. د. موريس - كانوا في الأغلب مثاليين ثابتين على المبدأ، قوما متسامحين، نظريين، كانوا في أكثر الأحيان مسيحيين على وعي بعقيدتهم، يقبلون أحيانا أن نطلق عليهم اسم «الاشتراكيين المسيحيين»، كانوا يعتقدون مع بيرك أن أكثر الناس يعجزون في ظل الحرية عن أن يهدوا أنفسهم إلى الحياة الطيبة، وأن الناس باختصار ليسوا إلا قطيعا من الغنم لا غنى له عن الراعي. وقد أدت - في ظنهم - الثورة الصناعية وآراء حركة التنوير الخاطئة عن المساواة بين الناس إلى ظهور رعاة سيئين - وهم أصحاب المصانع، ورجال السياسة، ومثيرو الشغب، ورجال الصحافة. أما ما يحتاج إليه الناس فهم الرعاة الطيبون الذين يتكفلون بأن يحتفظ مفتشو الحكومة بنظافة المصانع وتوافر الشروط الصحية فيها، وبأن يكون للعمال ضمان اجتماعي، وأن كل شيء يسير على الوجه الأكمل. وهؤلاء الرعاة الطيبون هم القادة الطبيعيون للشعب، وهم أبناء الأسر الكريمة، المتعلمون - وتلك صيحة بالعودة إلى السيد الكلاسيكي مرة أخرى.
إن المبدأ الذي كان مقربا إلى نفوس الديمقراطيين المحافظين - وما يبرر تسميتهم بالديمقراطيين - هو أن الناس إذا أعطوا فعلا حرية الاختيار، وإذا كانت الصحافة والمدارس وكل وسائل الرأي العام مفتوحة لكل وجهات النظر، لاختار الناس فعلا في مثل هذه الظروف الحرة من تلقاء أنفسهم بالتصويت الديمقراطي الرعاة الصالحين، أولئك الذين لديهم موهبة الحكم الحكيم والتدريب عليه. وهم يزعمون أن الحكماء الفضلاء حقا في القرن التاسع عشر في بلاد الغرب في خطر من أن تدور المعركة في غيبتهم، فهم خارج حلبة النضال السياسي، وقد تركوها لزعامة الرعاع، ولليساريين، وللمنحرفين من الناس، ولو أنهم تقدموا للناس بالحق لوجد الناس فيهم زعماءهم الصادقين.
كان الديمقراطيون المحافظون يعترضون على الفوضى في النظام، وعلى الخلط المبتذل، وعلى خشونة المجتمع الذي يسعى إلى تحصيل المال. وكثيرون منهم كانوا يعترضون كذلك على قبح زمانهم. ولكن أولئك الذين كانوا يصبون جام سخطهم على الوسائل الديمقراطية كما تطورت في القرن التاسع عشر من الناحية الجمالية يستحقون كلمة موجزة في حد ذاتهم. وليس من السهل أن نصنفهم وفقا لقبولهم أو رفضهم لاتجاهات حركة التنوير. وكان بعض أصحاب العقول المرنة حقا، مثل وليام موريس الإنجليزي، يسمون أنفسهم اشتراكيين، ويزعمون أن مشكلة الديمقراطية هي النقص في مقدارها، وأنها لم تتغلغل تغلغلا كافيا، وأنها خلقت حول الأفراد العاديين من رجال ونساء بيئة جديدة سيئة، وأنه من الواجب تغيير هذه البيئة لكي نسمح للخير الطبيعي والحكمة الطبيعية عند الجماهير بالظهور. غير أن جون رسكن الذي كان يعد نفسه محافظا ربما كان مثالا طيبا لهذا الطراز.
وقد اتخذت اسم رسكن «المحافظ» هذا اسما لها إحدى كليات أكسفورد التي أسست في نهاية القرن التاسع عشر لكي تتيح الفرصة للقادرين من أبناء العمال للدراسة في هذه الجامعة؛ جامعة الطبقات الحاكمة. وبقيت كلية رسكن سنوات عدة مركزا لمعارضة حزب المحافظين الأصلي. والواقع أنه من العسير أن نستخلص أشكال المعارضة السياسية والخلقية للأمر الواقع في القرن التاسع عشر وأن نختص كل شكل باسم معين. وربما كان رسكن في هذا الشأن منضما بغير حق إلى أولئك الذين كان يتركز شعورهم الأساسي بالمعارضة لعصرهم في الأمور الجمالية. ويبدو أن مركز اهتمامه كان كراهية الحصول على المال، وبعض أولئك الذين كانوا يقيسون النجاح بالمعايير المادية، أو بالتكريم الذي يحصل عليه المرء في مجتمع يتنافس أفراده تنافسا مبتذلا. وهو في أمثال هذه الحالات يشبه كارليل، ويكاد في بعض الأوقات ككارليل يبحث عن زعيم - يخلصنا من هذه الحمأة المادية. وتستطيع أن تحكم على نقده الجمالي الاجتماعي من هذين النصين: «ليس هناك ثراء، إنما هناك حياة.» وقوله: «الحياة هي امتلاك الرجل الجريء للأشياء القيمة.»
إن النقاد الجماليين للثقافة الديمقراطية في القرن التاسع عشر كانوا على اتفاق على الأقل في اعتقادهم أنها أخرجت أشياء «رخيصة قبيحة» بكميات وافرة، وأن الآلة قد قضت على كل متعة في العمل الخلاق من النوع الذي كان يحسه أصحاب الحرف قديما، وأنها جعلت العمل عبئا ثقيلا، وأنها سممت حتى أوقات فراغ العامل لأنها لم تهيئ له إلا كل تافه تنتجه إنتاجا ضخما حتى في وسائل تسليته. ولم يكونوا على اتفاق بشأن المخرج، ولكن أكثرهم كان يؤمن بأن القلة التي لم يلحقها الفساد، من أمثالهم الذين لا يزالون على علم بالجميل والفاضل، لا بد أن يتصدروا الصفوف، وأن يخلقوا هنا وهناك خلايا بسيطة من الجمال والحكمة. وقد كان القرن التاسع عشر هو القرن العظيم الذي لم يجر فيه إلا القليل من التجارب الاجتماعية، القرن الذي وجدت فيه الجماعات المثالية التي تكونت للبرهان على أن البيئة الاجتماعية من نوع معين يمكن أن تقيل الساقطين من عثرتهم. ولم تزل هناك مساحة شاسعة ميسورة في الولايات المتحدة، كانت من الأسباب التي أدت إلى تأسيس الكثير من هذه الجماعات فيها. كانت هناك «مزرعة بروك» في ماساشوستس، و«الجماعة الاشتراكية» في نيوجرسي، وجماعة «الانسجام الجديدة» في إنديانا، وجماعات كثيرة أخرى تكون قائمة رائعة من آمال الناس وأسباب فشلهم. وقد أسس موريس، وكان من السادة أصحاب الموارد المستقلة، عدة دكاكين للعمل اليدوي، وبشر مخلصا أمام جماعات صغيرة من المتحولين إلى الرأي الجديد، وصور مدينته الفاضلة في كتابه «أنباء من بلد مجهول» الذي نشره في عام 1891م، تخلص الناس فيها من الآلات ومن المدن الكبيرة القبيحة، وعاشوا مرة أخرى فوق أرض بهيجة خضراء تقوم عليها الحرف والفنون.
وفي هذا الصنف من خصوم الديمقراطية من الناحية الجمالية نجد - من غير شك - أكبر مجموعة من الشواذ، من أولئك الذين لا يرون إمكان إقامة الفردوس على الأرض إلا بصورة واحدة، وهم ذلك النوع من المتعصبين الذين التحقوا في القرن السادس عشر بالطوائف الدينية المتطرفة. إنهم يسيئون إلى البرجوازيين المطمئنين بدرجة تزيد أحيانا عن مرتبتهم في الأهمية. إن أولئك الذين هددوا بالفعل ما كان عليه الرعاع من طمأنينة في بيوتهم الصغيرة التي كانوا يتحصنون فيها في ضواحي المدن لم يكونوا من أمثال موريس أو رسكن، ولم يكونوا الاشتراكيين الذين يخططون المدائن الفاضلة في المجتمعات الصغيرة، إنما كانوا أتباع ماركس. ومع ذلك فإنه لا يخلق بنا أن نترك النقد الجمالي للديمقراطية بهذا الاستخفاف. إن أحياء الفقراء في مانشستر أو ليفربول، وقوائم شواء «السجق»، ومحطات البنزين، والفنادق التي تقام لراكبي السيارات خارج المدن، «وكبائن» الطبقات الفقيرة التي تصطف على طول طرق السيارات الكبرى في أمريكا هي بالتأكيد من أقبح الأشياء التي شيدها الإنسان فوق هذه الأرض في أي وقت من الأوقات. فإن كان هناك تقدم، فإن هذا التقدم لم يحقق استبعاد القبيح أو حتى الإقلال منه. ثم إن هؤلاء النقاد - فوق ذلك - بالرغم من أن الكثيرين منهم كانوا يتصفون باللين وغير عمليين، ركزوا اهتمامهم في أوجه المشكلة ذات الأهمية القصوى، مشكلة الحوافز والجوائز التي تمنح لقاء العمل في المجتمع الحديث. إن الفكر الرأسمالي والاشتراكي مال - ولا يزال حتى اليوم يميل بغير حق - نحو البحث في مشكلة العمل في حدود الأجور و«الكفاية» - بالمعنى الفني في تنظيم المصانع فحسب - غير أن أمثال موريس أو فورييه - ذلك الاشتراكي الفرنسي المثالي - من الرجال كانوا على علم أفضل، بالرغم من قصورهم في معرفة شئون الدنيا. فأشاروا إلى أن مشكلة تحويل الناس نحو العمل الضروري في هذه الدنيا، إنما هي مشكلة كاملة، معقدة، إنسانية، وليست مجرد مشكلة دولارات وأجزاء الدولار، أو مشكلة اتجاهات الكفاية. أشاروا إلى أن الناس لا يحبون أن يملوا، بل ويحبون أن يشعروا أنهم أدوا عملا نافعا وجميلا، وأنهم يفخرون بالمهارة، وأنهم يتمتعون بالعمل في فرق أو مجموعات.
يتخيل موريس في كتابه «أنباء من بلد مجهول» أن غريبا حل بهذا البلد فلاحظ في الغابة العامة الجميلة، غابة كنزنجتن؛ حيث كانت تقوم ضاحية لندن القبيحة، لاحظ عصابات من الشبان الأشداء يحفرون الخنادق وهم مبتهجون، فيقول المرشد لهذا الغريب إنهم يتمتعون بالمنافسة في حفر الخنادق. وعندما يعبر الغريب عن دهشته، يذكره مرشده بما يعلمه من أن جماعات التجديف في أكسفورد وكامبردج في القرن التاسع عشر التي كانت تعمل ثمانية ثمانية، كانت تعاني أشق ضروب العمل البدني في سرور بالغ. وقد يبدو هذا الدرس سخيفا عاطفيا، ولكنك إن تدبرت الأمر تبين لك أن مقدار «العمل» الذي تقوم به جماعة التجديف في الكلية أو يقوم به فريق كرة القدم يمكن بسهولة أن يبني مشروعا للإسكان، وليس هناك من السحر ما يحول العمل إلى لهو رياضي، ولا يريدنا موريس أن نعتقد في وجود هذا السحر. ولكن هناك مشكلة حقيقية، هي مشكلة استخدام نشاط الناس الفائض بطرق لها أثرها في المجتمع.
وتستطيع أن تجادل جدلا قويا بأن نقاد الديمقراطية الذين شغلنا أنفسنا بهم حتى الآن في هذا الفصل كانوا من ذوي الاهتمامات التاريخية العقلية البحت (وهو ليس بالأمر التافه) ولكنهم لم يؤثروا في الواقع تأثيرا قويا في العالم الذي نعيش اليوم فيه. إن الهجمات التي وجهت إلى الديمقراطية وكان لها أثر فعال مباشر جاءت في الواقع من قاعدة غير قاعدة المسيحية أو قاعدة الفكرة الكلاسيكية التي تتطلع إلى الخير والجمال. إن الهجمات التي جاءت من غير هذه القواعد كانت تستند إليها أحيانا كما كانت تستند إلى اتجاهات أخرى في تقاليدنا الغربية، ولكن أشد ما كانت تستند إليه - وهو ذلك السند الذي ننسبها إليه الآن - هو سند القومية المانعة، وطنية أو عنصرية تتحكم فيها البيولوجيا على أية حال. وعن هذه الهجمات تمخضت في القرن العشرين تلك الحركات الشاملة التي هبت من «اليمين» - الفاشستية والنازية والفلانجية الإسبانية وما إلى ذلك - التي أصيبت بالعجز في حرب عام 1939م ولكنها لم تمت.
إن مسألة الأصول الفكرية للحكم الشامل اليميني مسألة خلابة جذبت إليها الأنظار من قبل. وإني أريد أن أنبه القارئ مرة أخرى إلى أنه من سخف القول أن نزعم أن فاجنر - مثلا هو المسئول عن الحركة النازية الألمانية، أو أنه الملوم عليها أو السبب فيها. إن النازية لا يمكن أن تفسر تفسيرا كاملا شاملا إلا بمقدار ما نستطيع أن نفسر السرطان أو شلل الأطفال تفسيرا كاملا شاملا. إننا نعلم أن أمثال هذه الحركات تكون لها دائما مجموعة من الآراء في كل مسألة، صغيرة كانت أو كبيرة، ونستطيع أن نرى من أين جاءت بالحلول لهذه المسائل، وقد يكفي هذا كل الناس مع استثناء الميتافيزيقيين الثابتين على عقائدهم.
وقد لاحظنا من قبل أن مجموعة الأفكار والعواطف التي نسميها القومية قد أزعجت أولئك الذين كانوا يريدون للناس جميعا أن يكونوا إخوة. وحتى في داخل الدول القومية التي تأثرت تأثرا بالغا بآراء حركة التنوير، وحتى في الدول التي تقع في قلب التقاليد الديمقراطية - الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والأقطار الأصغر التي تقع غربي وشمالي أوروبا - نجد أن مطالب الوحدة القومية، وتشكيل كل مواطن على غرار نمط قومي، مما يؤدي إلى الإقلال من الحرية الفردية، وتنوع الشخصية وأن يكون الناس أفذاذا داخل هذه القوميات. ثم إن أكثر الدول الديمقراطية العظمى، بما فيها الولايات المتحدة، قامت في القرن التاسع عشر بحركات توسع ناجحة كانت نتيجتها امتلاك أراض يقطنها أقوام ذوو ألوان مختلفة وثقافات شتى. وقد ساد في كل مكان بين المواطنين في هذه الديمقراطيات في القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين شعور بأن طرائق حياتهم أفضل وأسمى، وأنه من واجبهم إن أمكن أن يفرضوا هذه الطرائق على هؤلاء الأقوام ذوي البشرة السمراء. ونشأ أدب بأكمله عن «واجب الرجل الأبيض» يبرر ما كان كتابه يعدونه في أغلب الأحيان تحويل بقية العالم إلى الثقافة الغربية تحويلا لا مندوحة عنه.
وحتى في البلاد التي كانت التقاليد الديمقراطية فيها على أشدها كان هناك من يعتقد بأن هذه الشعوب غير الغربية لا يمكن في الواقع أن ترتفع إلى مستوى الغرب، وأنه من مصلحة هذه الشعوب أن تبقى في وضع أحط على الدوام، أو حتى أن تقبل المساعدة على قتلها. وقد صعق من الأمريكيين أمثال لوثروب ستودارد وميديسون جرانت، ومن البريطانيين أمثال بنيامين كيد، صعقوا من «تيار اللون الصاعد» ونادوا بضرورة القيام بعمل لحماية الأجناس العظيمة البيضاء التي سادت حتى آنئذ. وكان الرجل الإنجليزي سيسل رودس - وهو ليس من أصحاب النظريات، ولكنه من أصحاب الأعمال الذين أثروا في جنوب أفريقيا - يعتقد أن الأنجلو ساكسون (أو بعبارة أخرى الإنجليز والاسكتلنديين وأبناء ويلز والأمريكيين) قد بلغوا مستويات من الرقى الأخلاقي والسياسي ليس بوسع أي شعب آخر أن يبلغها، ومن ثم فإن من واجبهم أن يتحدوا، وأن ينتشروا في الأرض ما استطاعوا، وأن يتكاثروا بأسرع ما يمكن لملء الدنيا.
غير أن أوضح طريق لمناهضة الديمقراطية من اليمينيين الذين صرحوا بآرائهم ومارسوها ظهر في التجربة الألمانية والإيطالية. ولا تدل وطنيتهم، وأخذهم فيما بعد بنظام الدولة الشمولية، على عجز فطري عن المستوى العالي في السياسة بين الألمان والإيطاليين. إنما سياستهم نتيجة مركبة لعوامل تاريخية عديدة. وهناك اتجاهات عديدة نمت نموا تاريخيا في القرنين الماضيين تساعد على تفسير ظهور المجتمعات الشمولية في القرن العشرين في هاتين الدولتين. وإنما نوجه اهتمامنا هنا إلى اتجاهات الفكر في القرن التاسع عشر التي عاونت على ظهور النازية والفاشستية. ومن الحق أن قلة محدودة من العقلاء في القرن التاسع عشر هي التي تبينت الاتجاه الذي كانت تسير فيه هذه القوى المعادية للديمقراطية. ولو قلت عند الحديث عن أي مفكر في القرن التاسع عشر إنه من «دعاة الفاشستية» لكان استعمال المصطلح في غير زمانه، ومن ثم فإنه تعسف في الحكم. ولكنا إذا تذكرنا أن المعتقدات والنظم الإنسانية لا تنمو نموا حتميا كنمو البذرة إلى شجرة، وأن الخطوة التالية ليست نتيجة حتمية لخطوة سابقة، عرفنا أن البحث عن أصل الحكم الشامل (الشمولية) في القرن التاسع عشر لن يضللنا.
ومن الاتجاهات المؤكدة ذلك الاتجاه البسيط الذي يتمثل في القومية التاريخية التي ذكرنا من قبل أنها صفة عامة في الغرب. ويضاف إلى هذه القومية - وبخاصة في ألمانيا - اتجاه قوي جدا نحو «العنصرية»، وهي الإيمان بأن الألمان هم من الناحية البيولوجية نوع خاص من الجنس البشري - فهم شقر، أقوياء، في ملامحهم تناسق، فضلاء. وهم الجنس البشري الذي قدرت له السيادة. ويرى الرائي من الخارج أن هذا مثال واضح من أمثلة الأساطير الاجتماعية؛ فالألمان ليسوا حتى في أغلبيتهم شقر اللون. ولكنا قد اعتدنا في هذه الأيام تلك الأساطير التي تؤثر في الناس تأثيرا واضحا وتدفعهم إلى العمل المشترك، حتى إن كانت هذه الأساطير مما لا يتفق مع الحقائق العلمية الثابتة. وفي هذه العبارة: «إن أول مصدر قوي أدبي حديث لهذه الأفكار التي تميز العنصر الجرماني واللون الجرماني يرجع إلى كتابات رجل فرنسي عاش في القرن التاسع عشر، هو الكونت دي جوبينو»، شيء من السخرية كثيرا ما يشار إليه. والواقع أن في الغرب تاريخا طويلا للامتياز الذي إن لم يتصل باللون الأشقر فعلا، فهو على الأقل يتصل باللون «الفاتح». وحتى بين الإغريق القدامى كانت الأساطير تصور الآلهة من أمثال أبولو شقر اللون وكل نظام المنبوذين في الهند يتوقف على ما يسمونه «فارنا» أي اللون. وحتى في التقاليد الفنية المسيحية نلمس اتجاها معينا لتصوير القديسين أشد شقرة من المذنبين الآثمين، ولسنا ندري من الناحية العلمية إذا كان الشقر يميلون إلى أن يكونوا أكثر فضيلة من السمر. والموضوع في أساسه ليس له معنى، غير أنه من الحق أن هذا الرأي وغيره من الآراء المشابهة قد دخل في عقيدة النازيين المعادين للديمقراطية. وقد كتب أحد المؤرخين الألمان في وقت مبكر، في عام 1842م، ما يلي: «إن الجنس الكلتي - كما تطور في أيرلندة وفرنسا - كان دائما يتصرف بالغريزة الحيوانية، في حين أننا نحن الألمان لا نعمل إلا بدافع الأفكار والآمال المقدسة حقا.»
وأمكن لموتلي المؤرخ الأمريكي لثورة الأراضي المنخفضة أن يفرق بين «الانحلال الكلتي» و«الطهارة الجرمانية».
أما الاتجاه الثالث، والذي ربما كان في الواقع أقوى الاتجاهات وأكثرها أهمية في النازية والفاشستية على السواء، فهو تأكيد سلطة الحاكم وجماعة صغيرة من صفوة الحزب التي تحيط بالحاكم، ولهذه الفكرة أيضا أساس ثابت في القرن التاسع عشر، وهي في الواقع - من ناحية ما - مجرد عودة لظهور أفكار عتيقة كفكرة الحق المقدس للسلوك. وربما لا نجد أصلا للفاشستية في القرن التاسع عشر أفضل من الكاتب الفكتوري توماس كارليل الذي كان يحظى بالتقدير في وقت من الأوقات. فإنك تجد في كتابه «الأبطال وعبادة الأبطال»، وفي «ضرب نياجارا» وفي «مشكلة الزنوج» مواقف كثيرة تشير إلى مبدأ الزعامة، وضرورة خضوع الأغلبية الغبية للأقلية العاقلة، والحاجة إلى الدوام، والثبات، والطاعة، في مجتمعنا الذي يتنافس فيه الأفراد تنافسا أحمق. وكان كارليل في بداية الأمر معتدلا في مطالبه، يقول: «الأرستقراطيون ورجال الدين، والطبقة الحاكمة والطبقة الرائدة - هاتان المجموعتان، المنفصلتان في بعض الأحيان، واللتان تسعيان إلى التوفيق بينهما، والمتحدتان في أحيان أخرى ، ومعهما، الملك - وهو الملك المقدس - لم يقم مجتمع دون هذين العنصرين الحيويين، ولن يقوم.»
ولكن باقتراب القرن التاسع عشر من نهايته وصعود الديمقراطية - وبخاصة في بلده - تحول تدريجا في دعواه إلى الإيمان بالسلطة الصارمة. وأخيرا نادى بضرورة الحاكم العسكري العالمي المدرب، أو بالدكتاتور الحربي، رجل الأعمال لا الأقوال، الذي ليس عنده إلا إصدار الأوامر.
وفي أواخر القرن ظهر في ألمانيا ذاتها رجل من أفصح أعداء الديمقراطية، أحد بناة الأيديولوجية النازية حقا، وإن كان قطعا عن غير قصد. ذلك الرجل هو فردريك نيتشه، وهو رجل غير سليم العقل إلى حد ما، ولكنه مثقف إلى أقصى حد، وفي صميمه أخلاقي حساس لم يستطع أن يحتمل القبح، والانحراف والتكلف، الذي بدا في إمبراطورية هوهنز وليرن البرجوازية الصاعدة. كان نيتشه - بكل ما لديه من دقة الفكر - مثالا رائعا للرجل المثقف الحديث الذي يملك قدرة لا تحد على الشعور بالألم، والسخط على القطيع البشري من حوله، والفزع من قبح دنيا الطبقة الوسطى التي صنعتها الآلات. وليس من شك في أن نيتشه لو عاش لوجد أن هتلر وجورنج وجوبلز وزمرتهم أبغض إلى نفسه. غير أن الواقع هو أنه دعا في حياته إلى «السوبرمان»، وإلى إعادة النظر في القيم حتى يتغلب مرة أخرى العنف النبيل على الدعة البرجوازية المنحطة، وكتب في ذلك هجوما من أشد أنواع الهجوم على الأسلوب الديمقراطي في الحياة، يقول: «كانت الديمقراطية في كل العصور نظاما هلكت بسببه كل القوى الداعية إلى النظام ... التحرر، أو تحويل البشر إلى قطيع من الماشية ... إن الديمقراطية الحديثة هي الشكل التاريخي لفساد الدولة ... إن الحزبين المعارضين: الحزب الاشتراكي، والحزب القومي - أو أيا ما كانت الأسماء التي تطلق عليهما في أقطار أوروبا المختلفة - جدير كل منهما بالآخر؛ فالحسد والتراخي هما القوى الدافعة في كل منهما ... إن مساواة جميع الأنفس أمام الله، هذه الأكذوبة، هذا الستار الذي يحجب الأحقاد التي تتأجج في قلوب السفلة أجمعين، هذه الفكرة العتيقة التي تشبه القنبلة، والتي أصبحت هي الثورة الأخيرة، والفكرة الحديثة والمبدأ الجديد الذي يؤدي إلى هدم كل النظام الاجتماعي - هذا هو الديناميت (المسيحي).»
والواقع أن نيتشه كتب دستورا كاملا لشمول الحكم الذي يدعو إليه اليمينيون قبل استيلائهم على الحكم بجيل كامل، قال: «إن مستقبل الثقافة الألمانية يتوقف على أبناء الضباط البروسيين ... السلام وترك الآخرين وشأنهم - ليست هذه السياسة التي أوليها أي احترام. أما السيادة، ومعاونة أرقى الأفكار على الانتصار، فهما الشيء الوحيد الذي يمكن أن أعبأ به في ألمانيا ... إن التربية التي تجعل الجندي والعالم من الأكفاء هي بعينها في كلتا الحالتين. وإذا أنعمنا النظر لتبين لنا أنه ليس هناك عالم حق يخلو من غرائز الجندي الصادق تسري في عروقه ... أوصيكم بحب السلام وسيلة لحروب جديدة، وأوثر لكم أن تقصر فترة السلام على أن تطول ... إن الحرب والشجاعة قد انتهت بأعمال أكثر مما انتهى إليه الإحسان. إن الفرائس لم تنج حتى الآن بعطفكم عليها وإنما أنجتها شجاعتكم.»
وأقول في إيجاز إن الهجمات من جانب اليمينيين على طريقة القرن التاسع عشر في الحياة - أعني طريقة «التوفيق في عهد فكتوريا» - متنوعة كثيرة، ومن العسير جدا أن نرتبها وفقا لنظام معين؛ فهناك الهجوم من ثمرة المسيحية التقليدية، وهو هجوم يتركز على مبدأ حركة التنوير العظيم، مبدأ الخير الطبيعي عند الإنسان ومعقوليته. وهناك هجوم يؤكد أهمية التقاليد، و«التحيز» والسلطة المسيحية القائمة في مجتمع منظم. وهناك هجوم يتهم المجتمع في القرن التاسع عشر بإهماله - في حبه للمنافسة والتقدم - الحقيقة الأساسية التي تقول بأن الإنسان حيوان سياسي. وهناك هجوم صادر عن وجهة النظر التي تتمثل في المثل الأرستقراطية القديمة - المثل التي انحدرت مباشرة من الإنسانية المقتصدة ذات التقاليد الكلاسيكية - وهو هجوم يوجه نحو الديمقراطيات التي تميل نحو السير وراء الزعماء الذين يضجون بغير عقل، ونحو الغيرة من الأقليات الأرستقراطية، إن لم يكن من كل الأقليات، وتجنح إلى «عسف الأغلبية». وهناك هجوم من وجهة نظر الذوق السليم والثقافة، الذوق الجمالي الذي يرى أن المجتمع الجديد يكرس نفسه لإنتاج «الرخيص القبيح». وهناك هجمات أخرى، وبخاصة تلك التي تشير إلى الحكم الشمولي، مما لا يمكن وصفه إلا في دراسة للقرن التاسع عشر أوسع مما نستطيع هنا. ولا يمكن أن نقدم مختصرا وافيا شافيا لهذه الهجمات. ولكنك إن أردت أن تأخذ بلفظ مفرد، فبوسعك أن تقول إن ما تعيبه كل هذه الهجمات على عصرها هو «ماديته».
الهجوم من اليسار
نستطيع بوجه عام جدا أن نقول إن هجمات القرن التاسع عشر من اليسار على ما صنعه التوفيق الفكتوري بمثل حركة التنوير كانت خلاصتها مد الديمقراطية السياسية حتى تشمل الديمقراطية الاجتماعية، والديمقراطية الاقتصادية فوق كل شيء، وليست هذه الصيغة إلا ضربا من ضروب التبسيط؛ فلقد كان اليساريون يعانون من التوتر الدائم بين مثل الحرية والسلطة كما كان رجال الوسط.
وفي القرن التاسع عشر قدر معين من الكتابة والحديث الذي يزعم أن المتاعب الحقيقية إنما نشأت من أن آراء الرجال في عام 1776م وعام 1789م ووسائل هذين العامين لم تتبع حقا، وأننا بحاجة إلى العودة إلى حقوق الإنسان البسيطة، وأن علاج مشكلات الديمقراطية هو مزيد من الديمقراطية من النوع القديم - إعلانات الحقوق، والدساتير المكتوبة، وحق الانتخاب، للجميع، والاقتراع السري، والمساواة بين الدوائر الانتخابية، والدور في الوظائف، والتعليم المدني الإجباري للجميع، وغير ذلك. وهذا في الأساس هو موقف الناس الذين نسميهم عادة ب «الانقلابيين» مثل «أصحاب الميثاق» في إنجلترا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر. إنهم يقولون إن الديمقراطية السياسية إذا نفذت تنفيذا كاملا، بما فيها من حقوق الإنسان وغير ذلك، لنتج عن التعبير عن الآمال الإنسانية المختلفة تعبير حر، شيء يشبه أن يكون مساواة اجتماعية واقتصادية في عمومها. لن يكون هناك غني جدا، ولن يكون هناك فقير جدا، وإنما سوف يكون هناك تنوع صحيح في الجزاء في حدود مجتمع تسوده المساواة إجمالا. ولما أخذ القرن يقترب من نهايته أخذ الانقلابيون يحسون شيئا فشيئا أن عملية التسوية هذه بحاجة إلى المساعدة من التشريع الاجتماعي من ذلك النوع الذي يألفه الأمريكيون ويسمونه «القانون الجديد». ثم أمسى الانقلابيون جماعيين، أو على الأقل مؤمنين بتدخل الدولة، وباتوا في نظر خصومهم اشتراكيين.
وتتمثل هذه العملية في أفضل صورة لها في بريطانيا حيث شرع حزب الأحرار في الثمانينيات من القرن التاسع عشر يؤيد التشريعات الاشتراكية، واضطر المحافظون إلى شيء يشبه أن يكون دفاعا عن المبدأ الكلاسيكي: «دعه يعمل». وتثبت حياة جون مل في أخرياتها كيف أن أتباع بنتام يمكن أن يساقوا في يسر إلى موقف سياسي جماعي مخفف. وربما كان رجل مثل ت. ه. جرين، وهو أحد المحاضرين في أكسفورد، تأثر كثيرا بالفلسفة الألمانية المثالية، وعاون على تشكيل الشباب الذين وضعوا في البرلمان وفي الخدمة المدنية أسس بريطانيا الاشتراكية إلى حد ما كما نعرفها اليوم، ربما كان رجل كهذا مثالا أفضل. وكتابه «مبادئ الواجبات السياسية» الذي نشره في عام 1888م ليس إلا هجوما على ميتافيزيقيات وسياسة الراديكالية البريطانية. يرى جرين أن الآراء الاسمية النفعية تجعل الفرد في الواقع مجرد ذرة اجتماعية، يكافح مكافحة عمياء مع الذرات الأخرى، وليس بأي معنى من المعاني حيوانا اجتماعيا حقا. وفكرته الخاصة عن الدولة وعن غيرها من الجماعات الاجتماعية تؤكد سيطرتها العاطفية على الفرد، و«واقعيتها» بمعنى يشبه المعنى المثالي الألماني. غير أن جرين لم يكن من دعاة الدولة الشمولية، وإنما هو يفسح مجالا لحقوق الفرد إلى جانب واجباته. الدولة عنده شيء أكثر من الحكم في مباراة عادلة. إنها تعين الضعاف والأقل مهارة لكي يلعبوا دورا أفضل في المباراة ولكنها لا تلغي المباراة كلية من أجل نوع من أنواع التدريب الجماعي.
والنقطة التي تهمنا هنا هي أن تيارا من الفكر والعمل الجماعي أو الذي يدعو إلى التدخل ظهر في أخريات القرن التاسع عشر بدرجات مختلفة من القوة في الأجزاء المختلفة من المجتمع الغربي. وكانت الولايات المتحدة آخر الأقطار التي أحست هذا التيار. ولا يزال كثير من الأمريكيين الراسخين يقاومونه، ويعدونه دعوة إلى تحطيم حرياتنا التقليدية، ويعدونه «اشتراكية» و«اتجاها غير أمريكي»، ولا يزال التحليل الذي لا يمازجه الهوى لمشكلة تدخل الدولة في العمل وغيره من الشئون الخاصة بالفرد أمرا شاقا على الرجل الأمريكي.
ومن الإنصاف أن نقول إن ذلك النوع من السياسة الذي يدعو إليه الفابيون وحزب العمال في بريطانيا، وتدعو إليه «القوة الثالثة» في فرنسا، ودعاة «القانون الجديد» في الولايات المتحدة، لا يتفق كل الاتفاق وتلك السياسات التي دعا إليها حتى أولئك الانقلابيون المعتدلون مثل هربرت سبنسر منذ مائة عام، وليس هناك ضرر كبير من قولنا إن الفارق يمثل تأثير التفكير «الاشتراكي» على التقليد الديمقراطي. ولكنا ينبغي أن نكون على علم واضح بأن التطور نحو «الاتجاه الفابي أو القوة الثالثة أو القانون الجديد» يختلف اختلافا شديدا عما لا يزال يعد أفضل معنى من معاني «الاشتراكية» وأكثرها تحديدا - الاشتراكية بمعنى الطائفة الدينية المعينة التي أسسها كارل ماركس.
إن الفوارق بين طريقة الحياة الديمقراطية المعدلة، والنظرة الكونية، والثقافة، أو حتى الدين، كما تتمثل في الاتجاهات اليسارية المعاصرة في الغرب، والموقف الماركسي الأصيل، عظيمة جدا في الواقع. وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى بعض الخطوط الرئيسية التي ينبغي عند تحليل هذه الفوارق أن نسير عليها. ولكنا يجب أولا أن نذكر أن الماركسية واليسارية اللاماركسية على السواء يمكن أن يرتدا إلى أصل واحد مشترك في حركة التنوير، وأن كليهما يعارض المسيحية التقليدية في نواح هامة. كلاهما ينبذ فكرة الخطيئة الأولى ويستبدل بها نظرة إلى الطبيعة البشرية متفائلة في أساسها. وكلاهما يستبعد عنصر ما فوق الطبيعة، وكلاهما يوجه همه إلى فكرة الحياة السعيدة فوق هذه الأرض لكل فرد، وكلاهما يلفظ فكرة المجتمع الطبقي الذي تسوده التفرقة الثابتة في الوضع الاجتماعي والتفرقة العظيمة في الدخل. ومن الإنصاف أن نذكر أنه من الممكن اليوم لليساري اللاماركسي أن يقبل درجة من درجات التشاؤم المسيحي التقليدي، وأن يعد نفسه في الواقع مسيحيا. أما الماركسية - وهي مذهب أشد صلابة - فلا تكاد تستطيع أن تتفق صراحة مع المسيحية أو أي دين إلهي، ولا بد لها من أن تبقى وضعية ومادية في ثبات.
والواقع أن هذه الصلابة في المذهب هي من الفوارق الرئيسية بين هاتين المجموعتين من المعتقدات؛ فاليساري الديمقراطي - حتى في أعلى مستوى من مستويات آرائه الجماعية - يحتفظ على الأقل بحد أدنى من الإيمان الحر القديم بضرورة وجود الحرية الفكرية لقبول الأفكار الجديدة، وحرية التجريب والاختراع. وحتى حينما لا يكون متأثرا بالشعور ب «حقوق» الفرد، فإنا نجده يلتزم فكرة التقدم عن طريق التنوع، وهو يعرف أن الجماعات كجماعات ليست لها آراء جديدة. وتستطيع أن تفهم الكثير من الشعارات والعناوين التي لا يستطيع حتى المثقفون أن يتحاشوها. إن اليساري الديمقراطي لا يزال يؤمن بأن الفكرة اليقينية الوحيدة هي أنه ليس هناك يقين، أو أن المجال الوحيد للتعصب هو عدم التسامح مع المتعصبين.
ومن الحق أن هناك جماعة كانت طوال القرن التاسع عشر صريحة كل الصراحة - وإن تكن أقلية ملحوظة - في أنها ترجع في أصلها وفي وحيها إلى حركة التنوير في القرن الثامن عشر، ومع ذلك فقد انتهت إلى الحط من شأن الحرية الفردية، وإلى استخدام أكثر شعارات الشموليين، والدعوات إلى النظام، والطاعة، والإيمان، والتماسك. وهؤلاء هم من يسمونهم ب «الوضعيين». إن مصطلح الوضعية كثيرا ما يستعمل بغير دقة ليدل على المادية، وليصف العقيدة التي تلفظ ما فوق الطبيعي، وتقف على أرض العلم الثابتة «الوضعية». غير أن الاصطلاح من الناحية التاريخية يعني اتباع الرجل الفرنسي أوجست كومت في «السياسة والأخلاق»، وهو الرجل الذي التقينا به من قبل وقلنا إنه واضع القائمة التي ترتب العلوم الطبيعية وفقا ل «نضجها». ولكن كومت لم يكتف بالدعوة إلى علم اجتماع على مستوى رفيع؛ فقد كان يسعى في سنواته الأخيرة - وبخاصة بعد فشل ثورات 1848م - إلى إنشاء نوع من الكنيسة يقوم على أساس العقيدة الرسمية في التقدم، والعلوم الطبيعية، والإنسانية، وعدم الاعتقاد بشدة وبشكل رسمي في إله مسيحي. وكان كومت نفسه الكاهن الأكبر في هذه العقيدة الوضعية، التي كانت لها كنائسها المنظمة الخاصة بها، والتي انتشرت من جماعات متنوعة أخرى تشاركها إيمانها بالإنسان، والعلم، والمستقبل. ويجب ألا نخلط بين هؤلاء الوضعيين الدينيين، الذين لم ينقرضوا بعد تماما، و«الوضعيين المنطقيين» في الوقت الحاضر، الذين سوف نتعرض لهم فيما بعد.
وربما كان اليساريون الديمقراطيون - فيما خلا الوضعيين من أتباع كومت وأضرابهم (الذين ليسوا في الواقع ديمقراطيين) - يحتفظون دائما، حتى في أحدث صورة لهم، بشيء من انعدام الثقة القديم بأي نظام من نظم الفكر يحاول أن يغرق الفرد في الجماعة، وكأنه يجعل الفرد مجرد خلية في كل له كل الأهمية. اليساري الديمقراطي يحتفظ في أعماقه باحترام صادق لجانب كبير من جهاز حقوق الفرد، تلك الحقوق التي يميل إلى إنكارها - وبخاصة عند تطبيقها على الملكية - في شجاعة تامة في بعض مواقفه الفكرية. إنه لا يعتقد حتمية النضال الطبقي والثورة، ويأمل أن يحقق مزيدا من المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ومزيدا من الاستقرار في المجتمع، وإدارة أفضل في الأعمال الحرة وفي الحكومة، بطريقة التحول طوعا، ذلك التحول الذي يحدث عن طريق التشريع الذي يتم بالوسائل الديمقراطية العادية. وهو بلغة المصطلحات الحديثة يؤمن بالتدرج وبالإصلاح، وهو - وبخاصة في السنوات الحديثة - يزداد ميلا إلى الإصغاء إلى نقاد الأفكار الأساسية في حركة التنوير، نقاد من النوع الذي أطلقنا عليه هنا اسم المهاجمين من اليمين، ونقاد من النوع الذي سوف ندرسه في الفصل التالي عن اللاعقليين. وبعدما شاهد المجتمعات الشمولية في النازية والفاشستية والشيوعية الروسية في عصرنا هذا آمن في النهاية أن التوحيد بين الناس والتجنيد، والسلطة المطلقة، ثمن أبهظ من أن ندفعه في سبيل النظام والأمان ضد دوامة المجتمع المتنافس في الغرب.
ثم نصل أخيرا إلى الاشتراكية الماركسية أو الشيوعية. والماركسية - أو الاستالينية اللينينية الماركسية إذا أخذنا بالتتابع في رسم القواعد هي من وجهة نظرنا تطور عنيف، أو قل هي فهم منحرف، للنظرة العالمية في حركة التنوير. وهي تقف إزاء الشكل الديمقراطي الرئيسي في حركة التنوير - من بعض النواحي - موقف الكالفنية من المسيحية التقليدية عند الكاثوليك الرومان، أو - وربما كان ذلك أفضل في المقارنة - موقف الكالفنية إزاء الأنجليكان الذين يقبلون في ظل تنظيم كنسي رسمي واحد كل صنوف العقائد من التوحيد إلى التقديس - الماركسية مذهب من المذاهب المادية الإنسانية المتفائلة في القرن الثامن عشر، وهي في اتجاهها هذا عنيفة، يقينية، متزمتة، حتمية، تقوم على أسس ثابتة من التوجيه.
وإذا كنت تشعر أن التعبير ب «الدين» ينبغي أن يقتصر على نظم المعتقدات التي تؤمن بوجود الله، أو آلهة، أو أرواح، أو على الأقل تؤمن بوجود شيء «غير مادي»، أو «فوق الطبيعي»، فأنت إذن لست معنا على الطريق عندما نقارن بين الوطنية القومية والدين. إنني قد طبقت في هذا الكتاب المصطلحات المستمدة من تاريخنا الديني في الغرب على أية مجموعة منظمة واضحة الأهداف من المعتقدات التي تتعلق ب «المشكلات الكبرى» - الحق والباطل، والسعادة الإنسانية، ونظام الكون، وما إلى ذلك - مجموعة تؤثر فيمن يعتقد فيها على الأقل من ناحيتين: الأولى أنها تمده بتوجيه فكري في هذه الدنيا (أي تقدم له الحلول لمشكلاته)، والثانية أنها تمده بالمشاركة الوجدانية في جماعة من الجماعات عن طريق الطقوس وغيرها من ضروب العمل المشترك. والماركسية - بهذه المعاني، وبخاصة كما تطورت في روسيا، هي من أقوى أشكال الأديان فعالية في عالم اليوم، وهي دين ينبغي لكل متعلم أن يبذل الجهد في فهمه .
إن الماركسية تسد بكل وضوح مطلبا من المطالب البسيطة للدين؛ فلها كتبها المقدسة، ولها نصوصها التي تعادل الأحكام الدينية - وهي في التقاليد الأرثوذكسية الأصلية عبارة عن كتابات ماركس وإنجلز، مع الشرح، والتأويل، والإضافة، التي جاء بها لنين، وجاء بها ستالين بدرجة أقل كثيرا من حيث الأهمية، ولها كذلك انحرافاتها، التي يرجع أهمها إلى حركة «المراجعة» في القرن التاسع عشر التي ارتبطت أول الأمر باسم إدوارد بيرنشتين، والتي استبدلت بالثورة «العنيفة» وما يترتب عليها من دكتاتورية البروليتاريا في الماركسية الأصيلة تحقيق الديمقراطية (المساواة) الاجتماعية والاقتصادية «تدريجا» بالعمل السياسي المشروع. وتحولت حركة «المراجعة» إلى «التدرج»، وهو في أساسه الموقف الذي يقفه «الاشتراكيون» اليوم (إزاء «الشيوعيين»). ولم يكن التدرج عند المدافعين عنه مجرد حيلة للتهدئة من مخاوف البرجوازية، ولاكتساب انضمام البرجوازية إلى الحركة، وإنما كان كذلك في أذهان القادة من أمثال كوتسكس تصحيحا تاريخيا لا بد منه لمقابلة فشل التنبؤات الماركسية عن حتمية ثورة عنيفة تقوم بها البروليتاريا في الغرب. وهناك جماعات كثيرة أخرى انشقت أو انحرفت عن الماركسية، لا نجد هنا مجالا لذكرها. وليس وجود أمثال هذه الانحرافات بالضرورة علامة من علامات الضعف في الحركة. والواقع أنك لو فكرت في نشأة المسيحية لوجدت أن هذه الانحرافات هي من دلائل حيوية الماركسية، واستمرار التخمر الفكري الذي يعد من علامات الحياة أكثر مما يعد من علامات التفرق والانحلال.
ويجب علينا هنا أن نحصر أنفسنا في الشكل الأرثوذكسي للمذهب. إن العمل العظيم الذي قام به ماركس هو كتابه «رأس المال»، وهو من حيث الشكل رسالة في علم الاقتصاد. غير أنه من الواضح أن هذا الكتاب نفسه ليس مجرد دراسة للنظريات الاقتصادية من الناحية المهنية الضيقة، وإنما هو فلسفة للتاريخ، ونظام من نظم الاجتماع، وبرنامج للعمل السياسي. وهو - بالإضافة إلى بقية القواعد التي تعزى إلى هذا المذهب - يقدم لنا نظرية كونية نظامية كاملة، أكثر مما يقدم لنا أي كتاب آخر «بمفرده» في الاتجاه الديمقراطي الأرثوذكسي لحركة التنوير؛ فالماركسية شيء «أحكم وأوضح» من أية ديمقراطية عرفية.
إن الماركسية تحمل الطابع الواضح للقرن التاسع عشر الذي عاش فيه ماركس، وإنجلز، وكتبا فيه. وهي تقوم على أساس فكرة صريحة جدا عن التغير، والنمو، والتطور، باعتباره حقيقة نهائية صحيحة في كل مكان (أما اعتقاد ماركس أو عدم اعتقاده بأن هذه العملية التطورية لا بد أن تنتهي عند بلوغ المجتمع اللاطبقي، فموضوع شائق وإن يكن ليس بالموضوع الرئيسي، وسوف نعود إليه فيما بعد). وقد كانت حقيقة التغير وأهميته أحد الموضوعات الرئيسية في كل التفكير الغربي الذي يتعلق بهذه الأمور الرفيعة. وكان الطراز الأفلاطوني من التفكير يميل إلى محاولة تجنب أمور الموت والحياة في هذه الدنيا، لأنا نحن الحيوانات البشرية، نمارسها في عالم آخر فوق الزمان والتغير. وأكثر من هذا أن الفلاسفة الدنيويين من أمثال العقليين في القرون الحديثة الأولى بحثوا عن أنواع من المنطق تكون مطلقة ولا تتغير. أما الماركسية - في ظاهرها على الأقل - فتجد التقدم في المسير، والتغير، وتحاول أن تلتمس في التغير ذاته الإجابة عن لغز التغير.
والإجابة المحددة عن اللغز التي استمدها ماركس من أستاذه هيجل هي «الجدل» (ارجع إلى ما ذكرناه في هذا الشأن في الفصل السابق عند الكلام عن «تكثيف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها»). ولكن عملية التقاء الفكرة بضدها وتولد المركب الجديد منهما - عند هيجل - كانت تتم تحت الدافع الذي أسماه الروح، وهي شيء غير مادي، أو قوة، أو فكرة، أو معنى، أو هي على الأقل شيء لا تستطيع الحواس، والإدراك العام، أو العلوم الطبيعية، أن تدرك كنهه. وزعم ماركس - في زهو وافتخار - أنه أخذ الهرم الذي حاول هيجل بغفلته أن يضعه على قمته ووضعه وضعا صحيحا معقولا على قاعدته العريضة؛ أي إنه «حول الجدل المثالي إلى الجدل المادي». إن التغير في نظر ماركس يتم طبقا لخطة، ولكنها ليست خطة الروح العالمية السخيفة التي قال بها هيجل. التغيير يلحق بالمادة، بمعنى العالم الذي يحيط بنا، الذي نحن أيضا بكليتنا أجزاء منه، كغيرنا من الحيوانات الأخرى. والتغير الذي يحدث في هذا العالم المادي - ويمكن أن نسميه في بساطة البيئة التي نعيش فيها - يحدد (أو يحتم) حياتنا كلها، ورفاهيتنا المادية، ونظمنا، وفكرتنا عن الحق والباطل ونظرتنا إلى الكون. والكلمة الرئيسية هنا هي لفظة «يحدد» أو «يحتم»، وهي كلمة أثيرة عند ماركس، الذي كان يرى أن «المادية الجدلية» و«الحتمية التاريخية» تعبيران يكادان يترادفان.
وبعض هذه العوامل البيئية الحتمية هي - بطبيعة الحال - من النوع الذي عرفه الناس من قديم الزمان - كالمناخ على سبيل المثال. ولكن ماركس يتجه نحو ما كان يعده ناحية من نواحي البيئة أرسخ أساسا يسميها «وسائل الإنتاج» أو الطريقة التي يكسب الناس بها قوتهم. وعلى هذه المجموعة الأساسية من الظروف المادية يترتب كل شيء آخر في حياة الإنسان، وفي حياة المجموعات البشرية؛ فالبدو الذين يرعون القطعان فوق المراعي الآسيوية يأكلون ويشربون، ويكونون الأسر، ويطيعون القوانين والعادات، ويتبعون الزعماء، ويقاتلون، ويؤمنون بدين معين، كل ذلك طبقا للتطور الحتمي الذي ينشأ عن وسائل الإنتاج في المجتمع البدوي الرعوي. وقد أبدى الباحثون الماركسيون مهارة فائقة وعلما غزيرا في تطبيق هذه الآراء تطبيقا محسوسا على مختلف المجتمعات.
وكان ماركس نفسه يهتم فوق كل شيء بمجتمعه الغربي، الذي رسم له خطة شاملة للتغير الاجتماعي طبقا لطريقته الجدلية، وقاعدته الأساسية هي وسائل الإنتاج في اقتصاد إقطاعي مكتف بذاته في العصور الوسطى. إن المجتمع الذي حتمه هذا الاقتصاد الإقطاعي كان يتطلب طبقة من الرقيق عليها أن تعول طبقة السادة من النبلاء الإقطاعيين ومن يحيط بهم من رجال الدين. وكان لهذا المجتمع نظام مدرج صارم من الأوضاع الاجتماعية، ويؤمن بعقائد عن الإله وعن الكون تكلمنا عنها من قبل في الفصلين السادس والسابع. وهذا الاقتصاد الريفي والمجتمع الإقطاعي هو «الموضوع» أو «الفكرة». ومبدأ التغير عند ماركس شيء «مادي»، وليس فكرة في ذهن أي مخلوق - وإن يكن حتى ماركس. في واقع الأمر، كان لا بد له من الاعتراف بأن التغير المادي إنما يحدث لأن بعضا من الناس يريدونه ويتصورونه. والتغير الذي بدأ به العالم الحديث هو في أبسط صوره المال، والتجارة، وبداية اقتصاد رأسمالي. وباستمرار هذا التغير تدريجا تتكون طبقة جديدة، طبقة متاجرة أو بورجوازية. وبين النبلاء الإقطاعيين القدامى والطبقة المتوسطة المالية الجديدة لا بد أن يحدث «نضال طبقي» فعال (والنضال الطبقي تعبير ماركسي آخر مشهور جدا). وللطبقة الجديدة فلسفتها، وهي فلسفة بروتستانتية بصفة خاصة بعد فترة من الزمن، ولها نظرتها الخاصة إلى فضيلة المنافسة، ومشروعية الربح، والحاجة إلى الديمقراطية السياسية لتفادي النفوذ الملكي وسلطة النبلاء - كان لها باختصار فلسفة للحياة كاملة. وهذا الاقتصاد التجاري، وهذا المجتمع الديمقراطي البرجوازي، هو «ضد الموضوع» أو «ضد الفكرة». وقد بلغ النضال الطويل بين «الفكرة» و«ضدها» - بعد انتصارات برجوازية مبدئية في إنجلترا وهولندا - ذروته في الثورتين الأمريكية والفرنسية والانتصار الكامل للبورجوازية في القرن التاسع عشر.
ولكن النضال الطبقي لم ينته بذلك بأية حال من الأحوال؛ فإن هذه البورجوازية الظافرة اتحدت مع فلول النبلاء المهزومة، وكونت «مركبا»، أو فكرة جديدة، وأخذت تناضل مع «فكرة معارضة» جديدة، هي «البروليتاريا». وهذا النضال نفسه، والطبقات التي قامت بالنضال، كان النتيجة المادية لتغير آخر في وسيلة الإنتاج، هو ظهور نظام المصانع والصورة الحديثة للرأسمالية الصناعية والمالية. وقد انضم إلى البورجوازية القديمة صاحبة المصارف والتجارة رجال الصناعة وأصحاب المصانع، فظهرت طبقة رأسمالية جديدة أقوى. لقد تجمع العمال الآن في المصانع تحت أعين الظالمين لهم، تهبط بهم القوانين الصارمة للاقتصاد الرأسمالي إلى مجرد مستوى الأجور التي تمسك عليهم رمقهم، ولكنهم يستطيعون على الأقل أن ينتظموا، وإن يكن في الخفاء، ويصبحوا تحت القيادة الماركسية على وعي طبقي كامل. والآن نجد البورجوازية أو «الفكرة الأولى»، والبروليتاريا أو «معارضة الفكرة»، يخوضان المعركة الطبقية الأخيرة (وقد أعلن ماركس خطوط هذه النظرية أول الأمر في «البيان الشيوعي» في عام 1848م) وبذلك تحقق النصر للبروليتاريا.
وأكد ماركس هذا النصر بتحليل اقتصادي غاية في التعقيد ليس بوسعنا أن نحاول تتبعه تتبعا دقيقا. وكان يهدف من الحجج التي ساقها إلى أن يبين أن الإنتاج بقوانين المنافسة الرأسمالية لا بد أن ينتهي من حين إلى آخر إلى زيادة في العرض عن الطلب تؤدي إلى أزمة في التجارة تدهور خلالها الشركات الضعيفة، ويتحول أعضاؤها إلى البروليتاريا، وتتضخم الشركات الباقية وتزداد قوة. غير أن الطبقة العاملة - برغم معاناتها في كل أزمة من الأزمات - تزداد عددا وتشتد بأسا. وفي عبارة شهيرة عبر ماركس عن حتمية النتيجة التي يؤدي إليها القانون الاقتصادي، وهي أن يصبح الفقير أشد فقرا، والغني أشد غنى. وأخيرا تأتي أزمة كبرى، يشتد فيها بأس البروليتاريا - وقد تم تنظيمها وكمل وعيها الطبقي - وتستولي على وسائل الإنتاج. وهكذا تتهم دكتاتورية البروليتاريا، وفي غضون ذلك تسحب البنوك، والمواصلات، ووسائل النقل، والمصانع، من أصحابها البورجوازيين، وتؤمم، وتسقط في أيدي حكومة البروليتاريا الجديدة، وعندئذ تأتي المرحلة الأخيرة. وبتصفية أصحاب رءوس الأموال لا توجد طبقات أخرى - أو قل إن شئت تبقى طبقة واحدة، هي طبقة البروليتاريا الظافرة. وإذن لا يمكن أن يكون هناك صراع طبقي. وما دام جهاز الدولة كله لم يكن - طبقا للتحليل الماركسي - ضروريا إلا لكي ترغم الطبقة المتحكمة الطبقة المعارضة في النضال الطبقي، فلن تبقى حاجة إلى الدولة بشرطتها ، ومحاكمها، وجيوشها، وضرائبها. عندئذ تذوي الدولة ونصل آخر الأمر إلى المجتمع اللاطبقي، أو الفردوس فوق الأرض في الديانة الماركسية. والواقع أن ماركس نفسه لم يهتم بتفصيلات فردوسه، وحتى إنجلز والشراح المتأخرون كانوا على غموض في هذا الموضوع، ولكنهم باعتبارهم مؤمنين بالتقدم الذي عرف في القرن التاسع عشر، مخلصين له، فإنهم لم يريدوا أن ينظروا حتى إلى الفردوس على أنه ثابت لا يتغير. وربما استطعنا أن نقول إن الماركسي يؤمن بأن النضال المرير اللاإنساني كنضال الطبقات سوف ينتهي بظهور المجتمع اللاطبقي، إلا أن التقدم سوف يستمر بطريق المنافسة الكريمة، الخالية من الألم، التي تشبه المباراة.
وقد انقضى الآن أكثر من مائة عام منذ إعلان «البيان الشيوعي» ولم يسر مجرى التاريخ كما رسمه ماركس. وفي الحق أن دورة الرأسمالي الذي يتنقل بين الرفاهية والأزمات قد استمرت، وأن الأزمات ربما اشتدت. ومن المؤكد أنه كان هناك اتجاه نحو تجميع رأس المال في الصناعة الضخمة إلا أن ذلك لم يحدث باطراد وبصورة واحدة حتى في الاقتصاد الألماني والبريطاني والأمريكي. ولا مشاحة في أن النظرية التي تقول بأن الأغنياء يزدادون غنى وأن الفقراء يزدادون فقرا لم تصدق. والحكومة تتدخل لتنظيم الصناعة حتى في الولايات المتحدة. وقد ظهر في كل الأقطار الصناعية ميل إلى درجة ما نحو ما يسمى في كثير من الأحيان «اشتراكية الدولة». وقد نشبت بطبيعة الحال في عام 1917م في روسيا المتخلفة صناعيا - وهي بلد كان ماركس نفسه لا يحبه - الحركة الثورية الكبرى الوحيدة التي استولت على الحكم تحت الرعاية الماركسية. وأقام الروس دكتاتورية البروليتاريا، ولكن ليس هناك حتى الآن أي دليل على تلاشي الدولة الروسية.
والواقع أن ماركس قد افترض بأن الثورة بمجرد نجاحها في أمة عظمى سوف تنتشر على الأقل في بقية المجتمع الغربي، ثم في جميع أنحاء العالم تبعا لذلك (والظاهر أن ماركس ظن أن الثورة سوف تشتعل أولا في أكثر الأمم تقدما في زمانه، وهي بريطانيا العظمى). ويستطيع الماركسيون المخلصون - بطبيعة الحال - أن يزعموا أن الدولة لا يمكن أن تذوي في روسيا المحاصرة حتى تشتعل الثورة في كل أرجاء العالم.
ومهما يكن من أمر فإننا لا نهتم هنا أولا بالنظر في مقدار صحة تنبؤ ماركس بالمستقبل؛ فإن الحركة التي وضع أساسها قد استولت على الحكم في دولة عظمى، وأتباعه - بالرغم من انشقاقهم بسبب الخلافات المذهبية - لهم قوة في كثير من أجزاء المجتمع الغربي. إن الماركسية دين من الأديان - وإن كانت هذه اللفظة تصدم القارئ قلنا إنها مجموعة كبرى من مجموعات المبادئ التي يسترشد بها الإنسان - التي تتنافس اليوم لكي تظفر بولاء أهل الغرب لها.
والإله الماركسي هو قوة المادية الجدلية القديرة على كل شيء، وإن تكن قوة غير مشخصة. إن المادية الجدلية قادرة على كل شيء، شأنها في ذلك شأن الآلهة في الديانات المتقدمة الأخرى. والماركسيون أنفسهم لا يترددون في استعمال لفظة «الحتمية» بكل ما تحمل من معان قوية حملها إياها سنت أوغسطين وكالفن. وقوتها عندهم هي قوة العلم. وهم يصرون على أن هذا النظام نظام علمي؛ ولذلك فلا بد أن يكون صحيحا. ولكن علمهم في نظر الخارج عنهم ليس علم المعامل والعيادات، وإنما هو علم مؤله يؤدي لهم ما أداه علم نيوتن المؤله لفلاسفة القرن الثامن عشر. أي إنه يؤكد لهم أنهم قبضوا على مفتاح العالم فتطمئن نفوسهم.
فالمادية الجدلية إذن لا بد في نظر الماركسي أن تؤدي إلى ثورة البروليتاريا العالمية. وهي سوف تؤدي إلى ذلك بالرغم من كل ما يمكن أن يبذله الرأسماليون من جهد. بل إن الرأسمالي كلما سلك سلوك الرأسمالي - متبعا طريق العمل الذي تمليه عليه وسائل الإنتاج التي يعمل في ظلها - اقترب النصر للبروليتاريا. ولا يعمل آل روكفلر ومورجان إلا ما تريدهم المادية الجدلية أن يعملوه. ومن الجائز أن ذلك لا يجعل الماركسي يشعر بمزيد من العطف نحوهم أو نحو أمثالهم. كما أن التأكيد بأن نجم البروليتاريا يشير إلى نصر محقق لهم لا يجعل الماركسي قدريا. وقد رأينا من قبل أن التأكد من سيادة إرادة الله - في نظر الكالفني - كان يزيد المؤمن استعدادا للنزول في معمعان الدنيا والكفاح في سبيل إعانة إرادة الله في أن تسود. ورأينا أن الكالفني كان دائما ينقذ نفسه بالتشكك في أن الفرد من البشر الذي لا يعدو أن يكون دودة من الديدان - حتى إن كان عضوا مخلصا في كنيسة كالفن - قد لا يعرف حقا إرادة الله (ارجع إلى ما كتبناه في الفصل التاسع عند الكلام على أشكال البروتستانتية). أما الماركسي فلم يكن عنده حتى هذه البقية من التواضع المسيحي لكي يلتمس لونا من ألوان التأييد المنطقي لسلوكه الواقعي كمناضل في سبيل الحق كما يراه. إن الماركسي - وماركس نفسه - يعلم علم اليقين أن المادية الجدلية لا بد أن تفعل فعلها بالطريقة التي قدرت لها من قبل. ولكنا لا نشاهد الماركسي المؤمن بمذهبه جالسا خلف الصفوف، يسمح للمادية الجدلية أن تفعل فعلها بدونه، بل على العكس من ذلك نراه داعية متحمسا لمبدئه، ونجده مؤمنا بالتقدم من الناحية الخلقية، ولو حكمنا بمسلكه وجدنا أنه يستطيع بجهوده الخاصة أن يخلق اختلافا في السلوك البشري، ومرة أخرى أقول إنه ليس بوسعنا إلا أن نلحظ أن الاعتقاد الميتافيزيقي في الحتمية يبدو للماركسي - كما يبدو للكالفني الذي يشبهه كثيرا - أمرا يتفق كل الاتفاق مع العقيدة السيكولوجية في حرية الإرادة.
وإذا تابعنا تشبيهنا الماركسية بالدين قلنا إن الفردوس الماركسي كما تبين لنا من قبل هو المجتمع اللاطبقي، وهي حالة يستطيع الناس بلوغها هنا فوق هذه الأرض، حالة تشترك مع الديانات المتقدمة الأخرى (التي تعتقد في يوم الحساب وفي الجنة والنار) في تصور أوضاع لا يمكن ألا تشبع فيها رغبات البشر. ومن الحق أن الماركسي يفخر بماديته، ويعتقد أن كل الشهوات الإنسانية «الكريمة» سوف تشبع في المجتمع اللاطبقي. وهو ينكر في إباء أن فردوسه يتفق في أية ناحية من النواحي مع تلك الصورة الصوفية - التي سادت بين المسيحيين المثقفين للجنة كمكان يتغلب فيه المرء على «كل» الشهوات ويطفئها ويتسامى بها روحيا. ومع ذلك فإن المجتمع الطبقي ليس بيئة سمجة وليس محلا لتلك المتع الحسية التي يربط الماركسي بينها وبين المثل الرأسمالية السوقية. والواقع أن هناك وجها بيوريتانيا (متطهرا) في الماركسية بالمعنى العام الشائع للبيوريتانية. إن الماركسي - كأي كالفني - يحتقر جانب الحياة الأبيقوري البحت، ويحتقر المتع المبتذلة الخشنة، بل وكثيرا من هذه المتع التي هذبت الأرستقراطية منها شيئا ما. وقد كان ماركس نفسه رجلا أخلاقيا، يجفل كما كان يجفل كارليل أو رسكن مما في المجتمع الصناعي من وعورة وتعسف. ويحاول الماركسي جاهدا أن ينقذ أحد الجوانب الوضعية (الحسية) في جنته، ويصر على أن الناس في المجتمع اللاطبقي يتنافسون ويتقدمون كما يفعل الأبناء البررة في ثقافتنا. غير أن ما يسترعي النظر حقا في جنة الماركسي - وفي الجنات الأخرى - فهو فكرة اختفاء الصراع والفشل، وإبادة الشهوات.
ويمكن القول بأن فكرة الثورة ودكتاتورية البروليتاريا توازي بوجه عام الفكرة المسيحية عن يوم الحساب. غير أن هناك فارقا واضحا أذكره مرة أخرى، وهو أن الماركسي يعتقد أن الكارثة التي سوف تؤدي إلى إنقاذه سوف تتم عن طريق القوى الطبيعية لا عن طريق القوى فوق الطبيعية. إن حالة النعمة، والأمر الذي يميز بين المؤمن والملحد، هي مجرد قدرته على أن يرى العالم في الحدود الماركسية، أو الحدود «العلمية» - كما يقول الماركسي. وماركس عنده مسيح يتصوره بعقله ويقابل به المسيح الروحاني - وهذا الأخير عند الماركسي هو بطبيعة الحال مسيح دجال.
ثم إن هذا الوعي بالانتماء وب «معرفة الحق»، وبامتلاك النور الباطني يتوازن - كما هي الحال في أكثر الهيئات الدينية - بأداء بعض الأعمال الرمزية التي تربط المؤمن بجماعة المؤمنين كلها. وبعبارة أخرى أقول إن للماركسي كتبه كما أن له عقيدته. إنه يقرأ كتبه الماركسية المقدسة، ويرود المجتمعات، ولديه بطاقة الحزب، وعليه واجبات الحزب. وعنده لكل أمر مفتاح، ولكل سؤال جواب. ولا يدهش الرجل العليم من خارج الحزب إذا عرف أن في روسيا الشيوعية موسيقى شيوعية، وتاريخا ماركسيا، بل وبيولوجيا ماركسية.
وربما كان من الحق أنه ليس هناك مرادف ماركسي واضح لذلك النوع من التجربة الدينية الذي يبلوره المسيحي في لفظة «الضمير». وقد ذكرنا في فصل سابق أن وجها بأكمله من أوجه المسيحية يتركز في مجاهدة الروح الفردية عند الإنسان الآثم في نضالها العنيد مع الله. إن المسيحية عقيدة مغرقة في الفردية وفكرتها عن الخلاص مغرقة كذلك في الفردية. أما الماركسية فترى أن تحقيق الفرد لذاته تحقيقا صادقا ليس بطبيعة الحال في مجرد المشاركة الآلية في الكل الاجتماعي التي تشبه مشاركة النمل أو النحل، ولكنه على الأقل في المطابقة التامة بين الفرد والجماعية الكاملة - الماركسية عقيدة جماعية، وفكرتها عن خلاص الفرد لا يمكن أن تتشابه تشابها وثيقا مع مثيلتها في المسيحية. ومع ذلك فإن للماركسي ضميره، ومهما تكن فكرة الضمير هذه لا تتلاءم تلاؤما جيدا مع المادية الجدلية فإن الماركسي يمكن أن يعاني عذاب الضمير، وتتمثل هذه الفكرة في جلاء كاف في بطل «الظلام وقت الظهيرة» لآرثر توسلر. وإن أنت تحملت مشقة دراسة تاريخ حياة مستر كوستر نفسه، للمست الفكرة كذلك فيها.
وقد قام ماركس وإنجلز بالعمل الأكبر - من الناحية النظرية البحت، أو من ناحية الأصول الدينية الماركسية في أعلى مستوياتها. وبالرغم من أن التطبيق العملي السوفييتي قد عزا إلى لنين وإلى ستالين إضافات أساسية لمجموعة المعتقدات الماركسية الرئيسية، فإن المشاهد من الخارج يرى أن أهميتهما ترجع إلى اعتبارهما من المنظمين لا من المفكرين. والماركسية لم تدمج بعد المفكر والعامل دمجا ناجحا كما اندمجا في القديس بولس. نعم إن لنين، لما ووجه بنجاح الآراء الرأسمالية الغربية الشريرة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وبأن هذه الآراء على الأقل لم تتحطم كما تنبأ لها ماركس، أضاف إلى التحليل الماركسي نتيجة طبيعية مؤداها أن الإنجليز وغيرهم من الرأسماليين الغربيين - بعدما بلغوا الذروة في استغلال مواطنيهم - أجلوا يوم الحساب، يوم يسألون عما يفعلون، بالإمبريالية الاستعمارية، وباستغلال بقية العالم. غير أن هذا نفسه كان - طبقا للنين - تأييدا لماركس؛ فالإمبريالية هي حالة النضج التي لا مفر منها للرأسمالية، وهي المرحلة الأخيرة التي تسبق ثورة البروليتاريا.
والواقع أن الخدمة الكبرى التي أداها لنين للماركسية كانت في تنظيمه لثورة ناجحة في بلد متخلف. ولكي يقوم بذلك كان لا بد للرجل من تنظيم ثورة عنيفة - بشر بها ماركس دائما، وإن يكن بأسلوب أكاديمي - ثورة تشعل نيرانها أقلية من الأشخاص المدربين اليائسين، لهم خبرة سنوات طويلة بالتآمر الخفي. لا تخز ضمائرهم شكوك «بورجوازية ديمقراطية» عن مشروعية العمل، أو الشعور الإنساني الرقيق، والأمانة، وغير ذلك ... وقد كان ماركس، بكل ما عرف عنه من إحساس بالكراهية للمصلحين المجردين، لم يرض قطعا عن الثائرين المحترفين المتآمرين. وإذن فإن لنين - في نظر بعض أتباع ماركس - لم يكن شارحا للماركسية الصحيحة بمقدار ما كان كاشفا عن سرها، وقد كان الماركسيون الرحيمون، المستبشرون، الذين يؤمنون بعالم آخر (وقد كان هناك منهم من يؤمن بالعالم الآخر، وإن كانت هذه النظرة قد تبدو غير منطقية في عين المشاهد من الخارج) كان هؤلاء يرون أن سلوك لنين الذي لا رأفة فيه؛ ذلك السلوك الواقعي المقصود، معناه قبول العالم البرجوازي الشرير الذي أرادوا أن يتجاوزوه. إن لنين - وأسوأ منه ستالين - قد استسلما - في نظرهم - لتلك الأوهام الخبيثة التي يعبر عنها بالإدراك العام، والسلوك العملي، والنجاح.
أما ستالين فلم يكن مفكرا إلا في نظر الشيوعيين الأصليين، وسياسته التي تنادي ب «الاشتراكية في بلد واحد» ليست في الواقع إلا نتيجة عملية لماركس لها أهميتها القصوى، والظاهر أنها قد أقحمت على ستالين باعتبارها سياسة لا نظرية. وقد برهن بطبيعة الحال على أنه منظم ناجح للعقيدة الماركسية في حكومة قومية ذات تاريخ طويل وتقاليد وطنية عميقة، وعاون على دمج الثقافة الروسية، والتاريخ الروسي بمعناه الكامل، مع مجموعة الآراء التي تتعلق بمعنى العالم ومصير الإنسان والتي ترتبط بكارل ماركس وفردريك إنجلز. وثمة موازنة أخيرة وربما كانت مثيرة جدا. لقد كان ستالين من بعض النواحي في مركز يشبه مركز المنظمين في أوائل المسيحية، عندما اتضح جليا أن يسوع لن يعود إلى الأرض فورا، وأن كل المعتقدات المسيحية في يوم الحساب والجنة والنار، تلك المعتقدات المعقدة، لا بد أن تتفق وتوقيتا آخر، بل وعالما آخر. وفي روسيا لعهد ستالين كان لا بد من تأجيل المجتمع اللاطبقي؛ ففي روسيا الحاضرة فشل، وبؤس، ومنافسة، وتفرقة اجتماعية واقتصادية كبرى. وكان لا بد لستالين من أن يلبس وقائع الحياة في هذه الدنيا رداء التفاؤل الرئيسي عند ماركس. وسوف نعرف ذات يوم إلى أي حد نجح. أما اليوم، ونحن على الجانب الآخر من الستار الحديدي، فإننا نلاحظ بصفة خاصة أنه كان يستخدم حيلة قديمة جدا في الواقع، وهي تأكيد إصرار العدو الشيطاني وصلابته - وذلك العدو هو الرأسمالية.
إن مستوى القيم الخلقية والجمالية عند الماركسي في هذه الدنيا هو في أساسه برجوازي، رأسمالي، مع تحريف بيوريتاني مرير طفيف. وهناك دوائر متقدمة في الأقطار الغربية حيث تتحد الماركسية مع أنواع مختلفة من الثورة الخلقية والجمالية ضد المعايير التقليدية التي سادت الأوساط البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - ولكن في غير روسيا. والواقع أن الماركسية من ورثة النظرة الكونية المادية والعقلية لفلاسفة القرن الثامن عشر، بل من أكثر هؤلاء الورثة شرعية. وقد كان ماركس نفسه يتصور مجتمعا يؤدي وظيفته أداء صحيحا شبيها شبها عجيبا بمجتمع آدم سميث - يتصور اقتصادا، ومن ثم مجتمعا - يسهم فيه كل فرد إذا سلك سلوكا طبيعيا في رفاهية الجماعة وتيسير عملها. والمثل الأعلى والغاية التي ترمي إليها الماركسية، هي الفوضى الفلسفية بين كائنات بشرية حرة متساوية، وذلك أحد الاتجاهات أكدتها حركة التنوير.
غير أن الوسيلة هي الثورة العنيفة وحالة انتقالية من الدكتاتورية تستخدم فيها السلطة العليا استخداما صارما، ويسودها النظام الدقيق بين الجماهير، ويقوم فيها جهاز المجتمع الشمولي كاملا. وهنا تختلف الماركسية اختلافا شديدا مع حركة التنوير، التي كانت - برغم اعتزازها بثورات كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية - تخجل بعض الشيء من وسائل التعذيب الشائنة ومن المقصلة، والتي كانت تعد الثورة السياسية على أحسن الفروض شرا لا بد منه، يتجنبه الإنسان إن أمكن له ذلك. غير أن الوسائل في هذه الدنيا لها أثرها في الغابات. ولم تتجاوز حتى اليوم الجهود الماركسية التي بذلت لبلوغ حالة الفوضى باستخدام السلطة، لم تتجاوز استخدامها استخداما صارما على أيدي طبقة حاكمة صغيرة. وحتى لو تمكنت التجربة الروسية من الاستمرار في عالم لا يعادي روسيا ككيان سياسي فلا يحتمل أن تنشأ الجنة الماركسية فوق الأرض. إنك لا تستطيع أن تحقق غاية من الغايات بمحاولتك تحقيق عكسها إلا في عالم هيجلي من العقل المحض، أما في هذه الدنيا فإنك إن شرعت تبني مجتمعا تسلك فيه الكائنات البشرية مسلكا يشبه مسلك النمل بقدر ما يمكن ذلك، فمن غير المحتمل أن تصل إلى مجتمع تسلك فيه هذه الكائنات مسلك الأسود. إن المحاولة الماركسية لتخفيف التوتر الذي قام في القرن الثامن عشر بين الحرية والمساواة كان على وجه الجملة أقل نجاحا من المحاولة الديمقراطية الأصيلة.
الخلاصة
إن دراسة القرن التاسع عشر قد أدت بنا - من غير داع - إلى اعتبارات كثيرة تتعلق بالقرن العشرين. وقد تابعنا بعض أوجه الماركسية إلى أبعد من القرن الذي ولد فيه المذهب. ويجدر بنا أن نعود إلى تلخيص هذه المبادئ، أو أنواع التوتر التي تعرضنا لها في الفصلين السابقين، وذلك في شيء من الإيجاز.
نشأ في القرن التاسع عشر اتجاه - لم يكن ثابتا - أطلقنا عليه اسم التوفيق الفكتوري. وقد سعى هذا التوفيق إلى الاحتفاظ بديمقراطية سياسية معتدلة وبقومية معتدلة، وبحرية فردية اقتصادية كبرى في العمل يزنها ناموس خلقي صارم، ومسيحية تقليدية تؤمن بارتياد الكنيسة. وفي المجتمع الغربي القائم على أساس هذا التوفيق حدث تقدم صناعي وعلمي عظيم. وحدثت فوارق مادية كبرى، ومع ذلك توافر للطبقات الدنيا مستوى من المعيشة من الناحية المادية أعلى من أي مستوى عرفته من قبل، كما كان هناك ازدهار متنوع حي من الناحيتين الفكرية والجمالية.
غير أن هذا الازدهار الفكري والجمالي إذا قارناه بالازدهار الذي حدث في القرن الثالث عشر، أو في أثينا في القرن الخامس، وجدنا أنه تعوزه وحدة الأسلوب، بل وربما أعوزته وحدة العرض؛ لأن القرن التاسع عشر كان فترة من الزمن ساد فيها تنوع عجيب في الفكر، وكان عصرا من عصور التنوع بصفة عامة، التطرف فيه كان على أشده، والتوتر فيه على أوضحه - التقليد ضد التجديد، والسلطة ضد الحرية، والإيمان بالله ضد الإيمان بالآلة، والولاء للأمة ضد الولاء للإنسانية - ونستطيع أن نسترسل في هذه الأضداد إلى مدى طويل. واستطاع القرن التاسع عشر بطريقة ما أن يحفظ التوازن العسير بين هذه الآمال الإنسانية المتعارضة، وهذه المثل للحياة الطيبة التي تختلف في الأساس. وقد شهد القرن الذي نعيش فيه اضطراب هذا التوازن. ويشهد على هذا الاضطراب حربان كبريان وأزمة اقتصادية عظمى. ونحن نحاول اليوم أن نعبد نوعا من التوازن خاصا بنا بين مثل بينها من الصراع مثلما كان بين مثل القرن التاسع عشر - وإن تكن في الواقع هي نفس المثل في أساسها.
الفصل الرابع عشر
القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
كان المتطرفون - على الأقل - في حركة التنوير في القرن الثامن عشر يعتقدون أن الكائنات البشرية سوف تبدأ عما قريب في العيش في مجتمع كامل، مجتمع ينتفى فيه كل ما يعده الناس جميعا شرا، ولا يبقى فيه إلا ما يعده الناس جميعا خيرا. وهذه النظرة تعتبر في تحليلنا قاعدة أساسية. أو قل إن صدى هذه النظرة في الآمال الأقل تواضعا التي يعقدها الرجل العادي الغربي على الارتقاء الشخصي فيما يصيبه من هذه الحياة، وعلى التقدم الاجتماعي الملموس في أثناء حياته، ينبغي أن يكون قاعدتنا الأساسية. وكان لا بد لهذه النظرة المتفائلة أن تصمد إزاء مجرد انقضاء مائة وخمسين عاما بقي الشر في نهايتها - فيما يظهر - حيا وسائدا كما كان في أي عهد سبق. وكان لا بد لهذه النظرة من أن تعيش برغم أزمتين عظيمتين كانتا نتيجة لحرب عالمية، وما ترتب عليها من آلام بسبب الموت والمرض، والشح، والكثير غير ذلك من قسوة الإنسان على الإنسان. وقد رأينا أن أولى هاتين الأزمتين - وأعني بها نضال الحروب التي شنتها الثورة الفرنسية ونابليون في مدى ثلاثين عاما - عاونت على استعادة التفاؤل الأول الذي أسميناه التوفيق الفكتوري. وأما الأزمة الثانية - وهي النضال الذي دام ثلاثين عاما والذي نسميه في بلادنا الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فقد رأينا من قبل أنها قد جاءت بفيض آخر من المشاعر المتشائمة والنقد المتشائم، وهي الآن تفعل فعلها ناشطة تدخل تعديلا جديدا في ميراث القرن الثامن عشر وهو الحلم الديمقراطي. وما زلنا على مقربة شديدة من الحركة بحيث لا نستطيع أن نراها رؤية واضحة. وربما استطاع النقاد في عام 2000م أن يروا أن القرن العشرين كان له - عقيدته الخاصة، وثقافته الخاصة.
ولكنا نرى اليوم بوضوح أن الحلم قد تخطى الأزمة الثانية، وما زلنا في الغرب أبناء القرن الثامن عشر، ولا تصدقوا دعاة الانهيار الذين يحدثونكم بغير ذلك. إنهم قد يكونون على صواب؛ فإن الجانب الأكبر من مجموعة الآراء والقيم التي نسميها الديمقراطية قد يختفي في السنوات المقبلة؛ فنحن لا نستطيع الآن أن نتنبأ بالمستقبل في أمور من هذا القبيل. أما في الوقت الحاضر فإن بقاء التفاؤل الأساسي، الذي كان موجودا في القرن الثامن عشر، يتبين في أية صحيفة، وفي أية مجلة، أو محاضرة، وبخاصة في الولايات المتحدة. ولا تزال الصور المختلفة في هذا النمط الأساسي بالنسبة إلى عامة الناس في الغرب أقل أهمية من النمط في حد ذاته.
ومن الحق أنه قد وجدت بين المثقفين تيارات معقدة من طراز جديد. كانت بينهم موجات من اليأس، والتشاؤم المر، والبحث الجاد عن كمال أعظم. وحتى قبل عام 1914م كانت هناك تلك الفترة الشهيرة في التسعينيات، بما كان فيها من فكاهة مقصودة، وجهد شديد يبذله المرء لكي يبدو ملولا عسير الإرضاء، واكتشاف حقيقة التدهور التي يمكن أن تكون وجهة التاريخ. غير أن العالم الغربي حينما كان القرن الماضي يسدل ستاره لم يكن مجرد العالم الذي تصوره أوسكار وايلد أو صوره «الكتاب الأصفر». بل لقد كان كذلك عالم الفابيين، عالم تيدي روزفلت والتقدميين، عالم فرنسا الناهضة التي ظهرت فيها قضية درايفوس. كان عالما لا يزال يضطرب فيه الصراع المستبشر. وقد أدخلت حرب 1914م في نفوس المثقفين الشعور بالرعب والاشمئزاز الذي يمازجه الأمل في حركة يسارية راديكالية حقا تظهر في أشهر الروايات التي نشرت في ذلك الحين إبان الحرب، وهي «النار» لهنري باربوس. ولما حلت العشرينيات من هذا القرن ظهر كأننا عدنا إلى شيء يشبه الحياة القديمة مرة أخرى. وقد عبر هاردنج عن «الاعتدال» بلفظة أساءت إلى أصحاب العقول الرفيعة، ولكنها كانت صورة صادقة لما كان يريده أكثر الناس.
وهناك تيارات أخرى كانت طرازا جديدا في الفكر. ومن أوضحها - وإن يكن من العسير أن نحكم على أهميتها في هذا التاريخ - التيارات التي تتطلع إلى نظم تاريخية لا مناص لنا من أن نبقي على تسميتها بفلسفات التاريخ. إن رجال الفكر في الغرب من شبنجلر بالأمس إلى سوروكين وتوينبي اليوم، إلى كثيرين آخرين من المتنبئين الذين لا نقرأ لهم كثيرا، يتلمسون دليلا من الماضي، دليلا على ما سوف يحدث في المستقبل، لا في عشرات السنين القلائل التي يأمل المرء أن يعيشها فحسب، ولكن في القرون المقبلة حينما لا يستطيع أحد من الأحياء اليوم أن يحكم بشخصه على صدق ما تنبأ به هؤلاء المفكرون. إن أكثر هؤلاء الكتاب متنبئون لا يزال الحكم عليهم معلقا. وخير موازنة هي ما بين الفترة الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية المنهارة والعصر الحاضر، ولكن بعض المؤرخين من أمثال توينبي يجدون بين أيديهم أمثلة كثيرة أخرى لحضارات أخفقت في مجابهة تحدي «القومية المتعصبة» التي يرى أننا نواجهها اليوم. وفلاسفة التاريخ هؤلاء ليسوا - على أية حال - بغير أمل بتاتا في مستقبل الجنس البشري. إنهم يرون أن مدنيتنا الحاضرة قد يحكم عليها بالهلاك إذا احتفظت بشكل الثقافة الغربية التقليدية، إلا أن ثقافة جديدة لا بد أن تظهر على أنقاضها. إن فلسفتهم تقوم على أساس التبادل الذي يلزم الدور في تطور مهما تخبط في مسيره فهو تطور على كل حال، تطور من ظلام إلى «فجر عظيم» يأتي في أعقابه. وهناك ميل إلى وضعنا اليوم في هوة مادية، ولكنا على وشك النهوض إلى ارتفاع روحاني، ومن ثم فإن «سمو الوعي» الذي أشار إليه جيرالد هيرد، و«الأثيرية» التي قال بها توينبي، و«الثقافة الفكرية» التي نوه بها بيتيريم سوروكين، كلها تشترك في شيء واحد، وتحاول المصطلحات الثلاثة أن تصف حالة من النعيم غير المادي، وتدعونا إليه.
إن فلاسفة التاريخ هؤلاء الذين ينتمون إلى القرن العشرين قد يثبت وقد لا يثبت أنهم أدق في تنبؤهم من ماركس. ومناهجهم ليست مناهج العلوم، وعملهم ليس جزءا من المعرفة التراكمية. والمهم بالنسبة إلينا هو أن نلاحظ أنهم - مثل ماركس - يأخذون التاريخ مأخذ النظرية الكونية الشاملة. واستخدام التاريخ على هذه الصورة هو تطور نشأ عن الفكرة الحديثة التي ترفض ما فوق الطبيعي، والاحتفاظ في العصر الحديث بالرغبة في العلم بكل شيء وفي اليقين الذي يستطيع ما فوق الطبيعة - وما فوق الطبيعة وحده - أن يمدنا به. إن العالم الآلي النيوتوني قد أمد القرن الثامن عشر بهذا اليقين، ولكنه أخفق في تعليل حقائق الحياة العضوية، والنمو، والتغير، فوق هذه الأرض، تعليلا مقنعا. وقد أمدتنا الأفكار الداروينية عن التطور العضوي في القرن التاسع عشر بهذا التعليل بشكل واضح، فأصبحنا لا نفهم فقط كيف يسير نظام الكواكب، وإنما نفهم كذلك كيف نما البشر والفئران والشعب المرجانية بالصورة التي حدثت. والمفتاح الذي يرشدنا إلى معرفة ما هو كائن وما سوف يكون هو عند أصحاب الفكرة التاريخية معرفة ما كان. إن الخط البياني يمكن دائما أن يبدأ بالماضي - ثم يمتد إلى المستقبل. ولو أنك عرفت كيف تطورت الجماعات والثقافات - أي لو أنك عرفت تاريخها - لعرفت على أية صورة سوف تكون، وهي معرفة يطمئن إليها بعض الناس.
هناك أناس كثيرون لا يستطيعون بطبعهم أن يقبلوا هذا النوع من الثقة بالتاريخ. وهم يرون ضرورة تجاوز مجرد الخبرة التي نكتسبها من الزمان والمكان. ويعتقدون ضرورة وجود الله والحق في «الكينونة» البحت متحررة من «الصيرورة» المبتذلة. أما إن أنت قبلت بوجه عام صحة وجهات النظر وطرق المعالجة العلمية الحديثة، فلا بد لك من أن توافق على أن هذه الطريقة التاريخية تتفق «في فروضها الأساسية» مع العلم الحديث، ومع ذلك فإن الفجوة التي تفصل ما بين أمثال سوروكين وتوينبي من ناحية، والعلماء الطبيعيين من ناحية أخرى، عميقة جدا في الواقع، من حيث الأداء بالتأكيد، ومن حيث الطريقة والأهداف على الأرجح؛ فالعلوم الطبيعية - أولا - «علوم» لا تحاول أن تكون نظرة كونية (إن العلماء باعتبارهم «كائنات بشرية» كاملة يؤمنون بتنوع النظرات الكونية. ولا يزال الكثيرون منهم «ماديين» بريئين يسيرون وفقا لتقاليد حركة التنوير مباشرة، وآخرون مسيحيون مخلصون للمسيحية، بل كاثوليكيون مخلصون للكاثوليكية، وغيرهم - مثل أدنجتون وجينز - يخترعون نظريات كونية غريبة غير مقنعة خاصة بهم، يربطون في شغف بطريقة ما بينها وبين علومهم). ونحن من ناحية ثانية - لا نعرف قدرا كافيا من تاريخ الإنسان في المجتمع يمكننا من وضع الأحكام العامة التنبؤية لمدى طويل كما يستطيع حتى علماء الأرصاد الجوية. والصور المختلفة - فوق ذلك - في هذا الصدد أكثر تعددا من أن ندركها في الوقت الحاضر إدراكا علميا. فأنت - باختصار - لا تستطيع أن تحدد بداية الخط البياني في الماضي كما يستطيع العالم أن يفعل، وليس بوسعك إلا أن تحدس مكانه، ولا تستطيع إلا أن ترسمه على وجه التقريب، وفي شيء من الاجتراء. والأمر بحاجة إلى أجيال صابرة من العمل، قبل أن نخطو كثيرا إلى الأمام. والخط البياني فوق ذلك «لا يمكن» أن يسير إلى الطرف الآخر بطريقة محددة، لأن هناك دائما - من ناحية ثالثة - إمكان ظهور اتجاهات جديدة جدتها حقيقية، مما لا يمكن التنبؤ به. وقد ذكرنا من قبل أن ماركس - وهو بطبيعته أحد فلاسفة التاريخ التجريديين هؤلاء - قد أثبت على وجه الجملة أنه سيئ التنبؤ، وقد أخفق بصفة خاصة في حدس عدد من العوامل الجديدة - بما فيها العوامل التي أدت إلى قيام ثورته في روسيا بدلا من قيامها في بريطانيا العظمى. وليس لدينا علم كاف بالأمراض التي تفتك بالحضارات (إن كانت هناك مثل هذه الأمراض) حتى نستطيع أن نكشف عنها في أنفسنا. ويستطيع المؤرخون المهرة من أمثال توينبي بالتأكيد أن يشيروا إلى أعراض مزعجة في ثقافتنا كما يشيرون إليها في ثقافة الرومان المتأخرة. ولكنا لا نعرف في الواقع ما تعنيه هذه الأعراض. ومهما يكن من أمر فإن القلق من مثل هذه الأعراض - كالموازنة بين الطلاق عندنا والطلاق عند الرومان - يوقفنا عند حافة مرض الاكتئاب النفساني.
إن الحتمية التي يأخذ بها أكثر فلاسفة التاريخ يوازنها في الوقت الحاضر من ناحية أخرى نوع من أنواع عدم الحتمية التي تعبأ أشد ما تعبأ بالأفكار التي تتعلق بالتدفق، والتغير، والنمو - لأن عصرنا الحاضر يشغل نفسه ب «المسير» دون المصير. وهذا هو الاتجاه التطوعي الذي يظهر في كثير من الفلسفات الرسمية التي - فيما عدا هذا الاتجاه - تختلف اختلافا بينا فيما بينها، وهي الفلسفات التي ظهرت في الخمسين السنة الأخيرة - في نيتشه، وفي برجسون الفرنسي، وفي وليام جيمز وجون ديوي الأمريكيين وكانت فلسفة برجسون منذ أمس القريب هي طابع العصرية بين المثقفين الغربيين، الذين وجدوا في «تطوره الخلاق» وفيما شابه ذلك من عبارات، فلسفة من التغير والتدفق تلقى في نفوسهم صدى. كان برجسون يتفق تمام الاتفاق مع الرومانتيكيين فيما كان هؤلاء يرونه دائما غير مستساغ أو مقبول في تقاليد حركة التنوير. ومن العسير أن نشير بوجه الدقة إلى هذا الشيء - إنه شيء يراه الرومانتيكيون بائدا، منتهيا، متعلقا بالمخ، يضايق النفس، جامدا، جافا. لا خيال فيه، وقد حاولنا - في شيء من الاعتذار عن الإيجاز عند الكلام عن برنامج حركة التنوير في الفصل الحادي عشر - أن نلخص مجموعة الآراء التي يمقتها الرومانتيكيون تحت كلمة الرأس ومجموعة الآراء التي يعشقونها تحت كلمة «القلب».
ومهما يكن من أمر فإن أكثر «الحتميات» من أمور «الرأس» وأكثر «التطوعات» من أمور «القلب». بيد أن برجسون، باعتباره عصريا دقيق الفكر لم يستطع أن يحتمي في عودة بسيطة إلى الفطري، والبدائي، وهو يلفظ الميراث المعقد للفكر الحديث؛ ولذلك نراه يحاول أن يحتفظ بخير ما في العالمين، العاطفة اليانعة، وكهوف الفكر ونواحيه الخفية الدقيقة المنطقية. والواقع أن هذا الجهد لإعطاء الفكر نفسه - لنوع من أنواع النشاط يربطه غير العقليين عادة بالأمن والدعة - صفة المخاطرة والمغامرة، أقول إن هذا الجهد هو من الموضوعات الرئيسية عند أبرز فلاسفة القرن العشرين، وأعني به المرحوم ألفرد نورث هوايتهد. وقد كانت الفلسفة العملية (البراجماتية) عند جون ديوي - ولعل البراجماتية هي أهم ما أسهم به الأمريكيون في الفكر الفلسفي الرسمي - كانت هذه الفلسفة تعارض أيضا تأكيدات التفكير المنظم وصفة الثبات فيه. كان جيمس يعتقد أن الفكر أداة من أدوات الإرادة. والتفكير الجيد هو التفكير الذي يحقق لك ما تريد. ولم يكن بطبيعة الحال متشائما أو فوضويا أو منطقيا إلى الحد الذي يجعله يقول بأن كل ما يريد المرء لا بد أن يكون طيبا على الأقل من وجهة نظر ألفرد المريد. الخير عند جيمس هو ما يراه خيرا الرجل المثقف الحساس المتسامح الرحيم المحترم من أعماقه في إنجلترا الجديدة لعهده. كان يحب الغريب والمضطرب، ويتفق مع جون مل في أن الخير والنافع والجديد المفيد قد ينبع من مصادر بعيدة الاحتمال. كان جيمس يرى أن التنوع، بل والكثرة المتصارعة هي في الواقع عملية، وهي تأتي بالنتائج، أو على الأقل كانت كذلك في عام 1900م.
وأخيرا أقول إن القرن العشرين - كغيره من القرون الحديثة - لم يعوزه أن يجد عالما طبيعيا عظيما يستطيع فيما يظهر أن يستلهم أعماله الفلاسفة وكتاب المقالات ورجال الفكر عامة ويلتمسون لديه القيادة التي وجدها القرن الثامن عشر في نيوتن. ذلك هو عالم الطبيعة ألبرت أينشتين، الذي كان عمله كعالم في الطبيعة فوق مستوى إدراك الجميع فيما خلا قلة من زملائه العلماء. أما بالنسبة إلى عامة الجمهور فإن أينشتين لم يكن مجرد الساحر القبلي في عصرنا وإنما كان الرجل الذي يمثل النسبية، يمثل الفكرة التي تقول بأن الأشياء تبدو مختلفة للمشاهدين من أماكن مختلفة أو في أزمنة مختلفة، وأن الحق يتوقف على وجهة نظر الباحث عنه، وأن الرجل الذي يتحرك بسرعة معينة يرى الأمور على خلاف شديد مما يراها عليه رجل آخر يتحرك بسرعة أخرى. أي أنه ليس هناك باختصار «حق مطلق»، وإنما هناك حقوق نسبية.
وكذلك يلخص اسم أينشتين في عقول الجمهور التطور العلمي العظيم الذي حدث في النصف الأول من هذا القرن. ونحن لم نعبأ بالتاريخ المفصل للعلوم الحديثة في الفصول الأخيرة، ويعرف كل امرئ أن العلوم الطبيعية قد واصلت في هذا العصر الحاضر تآلفها المثمر مع التكنولوجيا والمشروعات الاقتصادية، وأنها واصلت صفتها التراكمية. ومهما يكن من أمر فإن أعمال علماء الطبيعة والرياضة من أمثال أينشتين، وبلانك، وبوهر، قد أثمرت في مستهل القرن العشرين على صورة نظريات رئيسية جديدة كبرى فيما يتعلق بالعالم الطبيعي، حتى أمسى من التفكير العصري بين ناشري العلوم أن يقولوا إن طبيعة نيوتن قد «انتهى عهدها»، ومن الإنصاف أن نقول إن النسبية، والميكانيكا الذرية، والدراسات المتقدمة للذرة المحيرة المعقدة (ولو بعث ديمقريطس لما عرف ذرته الفلسفية البسيطة بعد الذي لحق بها)، من الإنصاف أن نقول إن ذلك قد أدخل تعديلا في طبيعة نيوتن كما أضاف إليها جديدا. وإذا كانت الميكانيكا الذرية تنم عن عنصر واضح من عناصر استحالة التنبؤ في سلوك الذرة المفردة، فإن ذلك ليس معناه أن التنبؤ القديم لا وجود له - من الناحية الإحصائية - في كتلات الذرات. إن طبيعة نيوتن في الواقع لا تزال نافعة في كثير من العمل التقريبي. أما الأهمية الحقيقية للطبيعة الجديدة بالنسبة إلينا فهي أنها عاونت على وضع اللمسة الأخيرة في عملية هدم الأفكار الساذجة التي تتعلق بالسببية العلمية والتي سادت في القرن التاسع عشر، وهي الأفكار التي كانت تتصور كل العلاقات في العالم قائمة على نمط آلي محدد، والتي كانت ترتبط بأفكار ساذجة عن الاستقراء العملي. إن النظريات العلمية الحديثة عن مناهج العلم دقيقة جدا ومعقدة، وقد أقرت بأن العالم الخلاق هو فنان خلاق إلى حد ما وأن البيان الذي تقدمه لنا نظرياته عن العالم هو من عمل عقله إلى درجة ما، وليس مجرد صورة للواقع طبق الأصل. وأهم من ذلك أن العالم الحديث يعرف - أو لا بد أن يعرف - أن نظرياته ليست حقا مطلقا، ليست حقا بالمعنى الديني وبمعنى الجانب الأكبر من الفلسفة الغربية. التي انحدرت إلينا بوجه خاص من القرنين الأخيرين أو القرون الثلاثة الأخيرة هي من وجهة نظر مؤرخ الفكر أبرز وأهم من عناصر الجدة. إن القنبلة الذرية هي من ناحية ما شيء جديد، وهي تتفجر بطريقة جديدة.
ومهما يكن من أمر فإننا لا نريد هنا إلا أن نسجل أن قوة العناصر وطبعا بقوة وشدة جديدة. ولكن الشعور بأن القنبلة الذرية قد تؤدي إلى هدم الإنسانية، وإلى «نهاية العالم» ليس فيه من الجدة إلا علاقته بالقنبلة الذرية. فإن الخوف من بلوغ العالم نهايته شعور متكرر من «المشاعر الإنسانية»، وليس جديدا باعتباره جزءا من الخبرة الإنسانية حتى في محيط تاريخ الثقافة الغربية المحدود. وقد كان هذا الشعور وباء منتشرا في بعض الأحيان - كما كان في الأيام الأولى من المسيحية، وبدرجة أقل في عام 1000م - ولكنه في كل حين وباء محلي يصاب به الشواذ من الناس والطوائف الغريبة. إن القارئ المؤمن لسفر الرؤيا لا يرى في تفجر الذرة هولا جديدا.
إن أكثر ما حاولنا تحليله حتى الآن على الأقل في الفصول القلائل الأخيرة لا يزال قائما بيننا. ويشق علينا ألا نتصور أن أكثر الأفكار التي مثلت أمام أعيننا في غضون هذا الكتاب لا يزال حيا في العالم المعاصر. فإن المعرفة التراكمية - معرفة العلوم الطبيعية - قد استمرت بغير تخلف ملموس. بل إن الحرب تستحث بعض النواحي من العمل العلمي. كما أن أصحاب العقول المرنة الذين يعتقدون أن التطبيق المبتذل على الأمور العملية هو وحده الذي يستمر أثناء الحرب، وإن العمل الخلاق في «العلوم» البحت لا بد أن يتوافر له السلام، وربما كانوا على صواب، والحقيقة أن بين الأشياء الكثيرة التي نجهلها الظروف الاجتماعية والثقافية اللازمة لانتعاش العلوم الطبيعية إلى أقصى حد ممكن. والواقع أن العلم البحت والعلم التطبيقي في الغرب كليهما قد أضافا جديدا من غير شك إلى العمل التراكمي في غضون النصف الأول من القرن العشرين الذي مزقته الحروب.
أما عن المعرفة اللاتراكمية، فإن ثقافتنا تشبه اللوحة العجيبة التي تبقى آثار الكتابة القديمة فيها مهما حاولت محوها، فلا شيء مما عليها يزول فجأة أو يزول بكليته. قد يتذبذب النجاح النسبي أو العصرية بين وجهات النظر والأفكار المختلفة، ولكن قل منها ما يستبعد. ولنستعرض المواد التي قدمناها في الفصول القلائل السابقة . ومن المؤكد أن المسيحية باقية على تنوعها الفني - كما تبدو للمشاهد من الخارج - وباقية على توترها الأساسي بين هذا العالم والعالم الآخر. إن هذا القرن لم يشهد طائفة مسيحية جديدة كبرى، وقد شهد ذوبان المؤمنين في تيار اللامبالاة الذي يعده كل جيل من أجيال المبشرين بالدين من ذوي ميول معينة شيئا حديثا، أو يتكلفه المبشرون لأغراض تبشيرية فيعدونه أمرا جديدا. بيد أن هذا القرن شهد كذلك ألوانا من إحياء النشاط الروحاني في كل ضروب الطوائف وفي مكان من الأمكنة - بما فيها روسيا السوفيتية التي جاهدت جهادا شاقا لتحطيم المسيحية. وكان هناك إحياء فكري يوازي بصورة واضحة ذلك الإحياء الذي حدث في السنوات التي أعقبت أزمة الثورة الفرنسية وكان بردييف، الرجل الذي نفته روسيا - في كثير من النواحي - على الأقل من حيث مشاعره إزاء ذنوب الجيل الذي لا يؤمن بالله، الذنوب التي أدت إلى أزمة العصر، أشبه بجوزيف دي مستر في العصر الحديث. ومن المحاولات بعيدة الغور ذات الأثر ما قام به كارل بارث في ألمانيا ورينولد نيبور في الولايات المتحدة، وهي محاولات لإصلاح ما كانا يعدانه تفاؤلا سطحيا تقوم على أساسه نظرتنا الكونية الغربية الديمقراطية، وذلك عن طريق الرؤيا المسيحية. وبقيت الكاثوليكية الرومانية على الزعم بأنها على حكمة أعمق مما توصلت إليه حركة التنوير في أي وقت من أوقاتها، وعلى الزعم بأنها تهتم بمصير عامة الناس في هذه الدنيا، على الأقل بدرجة مساوية لما كانت تعزوه حركة التنوير إلى نفسها. وقد برهن الكاثوليك بجاك مايتين على أنهم ما زالوا يستطيعون إخراج «السياسي الأخلاقي» المفكر الحساس، الأصيل دون أن يكون من المتشبثين بالرأي.
وكذلك بقي التيار المعارض للمسيحية، ولا يزال بيننا خلفاء توم بين وهربرت سبنسر، واللاأدريين المتحررين في إيمان وثبات، والإنسانيين، والعلمانيين، والوضعيين، والماديين، وأتباع الثقافة الخلقية ومن إليهم، وإن كنا قد بدأنا نعدهم من الرجعيين القدامى في التفكير. وقد نعدهم عصريين مرة أخرى؛ فهم أشبه بالأزياء التي تعد طرازا قديما ثم تعود إلى الظهور فجأة طرازا جديدا، وإن يكن في شكل مهذب، كالأزياء النسوية لعهد فكتوريا وإدوارد. وفي الحق أن بعض هذه المذاهب قد ظهر في زيه الجديد في الوجودية التي شاعت في منتصف القرن، والتي انتشرت بين الدوائر المثقفة في أعقاب حرب 1939-1945م وقد تركزت الوجودية في فرنسا؛ حيث كان أشهر زعمائها الكاتب جين بول سارتر. إن الوجوديين لا يعتقدون في الله - أو على الأقل لا يعتقدون قطعا في إله خير. وكانوا يرون أن الدنيا مكان لا يسر، يولد فيه الإنسان من غير شك ليلاقي المتاعب التي لا يمكن أن يتخلص منها. إن مبدأ التقدم في نظر هؤلاء المتشائمين المصرين على التشاؤم هراء في هراء. ومع ذلك فهم يواصلون النضال، ويحيون حياة خلقية في أساسها (ولا أعني الحياة الخلقية الفكتورية المصطنعة بطبيعة الحال، وإنما أعني الحياة الخلقية الفنية). إنهم باختصار يريدون أن يوجدوا، ما دام الوجود إنسانيا.
ومن اليسير ألا نرى في الوجودية إلا عرضا يدل على ما أصاب أوروبا من إنهاك في نهاية حرب عظمى. غير أن المبشرين بالحركة، نيتشه وكيركجارد، كانوا من رجال القرن التاسع عشر. والوجودية من إحدى وجهات النظر هي انقلاب الإيمان المادي المتفائل في القرن التاسع عشر انقلابا تشاؤميا لا يتستر وراء الأوهام. غير أن الوجودية، وغيرها من الفلسفات المسيحية في تحد، لم تتغلغل كثيرا في مجتمعنا الغربي. ومن المحتمل أن يكون الرجل المتعلم العادي في العالم الغربي - الذي يعبر عنه بالفرنسية بما معناه «الرجل المثقف المتوسط» - باقيا على ما كان عليه في القرن التاسع عشر، مزيجا متناقضا بعض الشيء من التبعية للمسيحية والأخذ بالمذهب الطبيعي المتفائل الذي ساد في القرن الثامن عشر.
والماركسيون أبعد ما يكونون عن الموت. وقد كابدت عقيدتهم في روسيا المصير الذي يلحق بأكثر العقائد الإصلاحية بعد استقرارها، فإن عملية تحويل الماركسية في روسيا من عامل تفجير - أو عامل إثارة على الأقل - إلى عامل تمكين قد استمرت عدة عشرات من السنين. وقد بلغت مدى لم يعد المواطن الصالح في روسيا السوفيتية يضطرب عنده - فيما يظهر - للتباين الموجود بين الشعار الماركسي «من كل على قدر طاقته، إلى كل على قدر حاجته» ووجود من يعادل المليونيرات الأمريكيين في داخل الاتحاد السوفيتي ذاته. إن أي تقدير عادل لما تعنيه الماركسية في روسيا، بل وما تعنيه في الدول التي تقع الآن تحت التأثير الروسي، يتجاوز قدرة الرجل الغربي؛ فنحن لا نملك حتى المدد الضروري من الحقائق؛ إذ إنه من الواضح أنه ليس هناك تبادل حر في الآراء والمعارف بين النظامين العظيمين المتنافسين في النفوذ في عالم اليوم. وأهم من ذلك أننا لا نملك الظروف اللازمة لتحقيق درجة معقولة من درجات الابتعاد عن التحيز. ومن الجلي أن الماركسية لا تزال في كثير من أنحاء العالم عقيدة نامية مكافحة، عقيدة لا يجوز لنا أن نتغاضى عنها باعتبارها مجرد شيء مقلوب خبيث، بل لا بد لنا من النظر إليها على أقل تقدير كعرض خطير من أعراض فشلنا في استرداد حتى تلك الدرجة من الاستقرار الاجتماعي التي حققها الغرب في القرن التاسع عشر.
أما عن القومية فهي ما برحت في منتصف القرن العشرين - فيما يبدو - أقوى عامل بمفرده في التشابك القائم بين المصالح والعواطف والأفكار الذي يربط الأفراد في جماعات سياسية تقوم على أساس وحدة الرقعة الأرضية. والقومية في حد ذاتها مزيج مختلط من كل ما يسري في الحياة الثقافية الغربية تقريبا؛ فهي لذلك ركيزة لكل الأشكال السياسية الأكثر تجردا مما عالجناه في الفصول القلائل السابقة، ركيزة للشيوعية الروسية (وذلك برغم المبادئ العالمية اللاقومية النظرية في الماركسية الأولى)، وركيزة للنازية الألمانية، وللديمقراطية الأمريكية. وقد كانت الوحدات التي قاتلت في الحرب الأخيرة وحدات «قومية». إن أولئك الذين يمقتون الحرب ويأملون أن يمحوها من فوق هذه الأرض هم اليوم على اقتناع شديد بالحاجة إلى الحكومة العالمية، أو على الأقل إلى عدد أقل من الدول الإقليمية التي تستبعد الدول القومية كما نعرفها. وأكثر هؤلاء المنادين بالاتحادات العالمية يألفون الاستخفاف بالقومية، كأنها من اختراع شرذمة من الأشرار، وكأنها شيء دسه على عامة الناس سادتهم الأشرار، شر يمكن أن يزيله عنهم التشريع السليم . والقارئ الحصيف يتبين هنا نظرة القرن الثامن عشر الساذجة كلها إلى الشر باعتباره نتيجة البيئة، البيئة الخاضعة مباشرة - كما هي الحال في الأزمنة الحديثة - لمعالجة الأفراد الطيبين بدلا من خضوعها للأفراد السيئين؛ فالسيئون لم يخلقوا البيئة إلا في الماضي - طبقا لما يراه أصحاب هذه العقيدة. إن دعاة الاتحادات العالمية يزعمون أن القومية كامنة في أفئدة الناس، أو في عاداتهم، أو في سلوكهم الشعبي - وأعني بذلك على الأقل تلك القومية التي تدفع الأمريكي إلى قتل الياباني، والياباني إلى قتل الأمريكي، وليس هناك الآن أي دليل على أن دعاة الاتحادات على صواب. وبالرغم من أن القومية قد تكون نتيجة للبيئة، يبدو لنا - بعد مائتي عام من الإيمان بتأثير البيئة الذي ساد في القرن الثامن عشر - أن الثمرة هي نتيجة قرون عديدة من التاريخ، وأنها من الثبات والقوة بحيث لا يمكن أن تتبدل كثيرا في أي جيل معين من الأجيال بتوجيه بيئي جديد مخطط - كذلك الذي نراه على الورق دستورا عالميا جميلا.
القومية إحدى حقائق الحياة، وهي من الحقائق المشاهدة التي ليس بوسع عالم من العلماء أن يتجاهلها. وهي ليست بعينها في أي دولتين قوميتين، ما دامت ليست سوى عنصر واحد من عناصر الثقافة المعقدة. ويمكن تجاوزها، كما تجاوزتها إلى حد ما الأقلية الفعالة من دعاة الاتحادات العالمية - وإن يكن كل شيء أمريكي «قومي» يخلو بتاتا من التفاؤل، ومن الإيمان بسحر الدساتير المكتوبة، ومن التخدير الديني بالأفكار المجردة الخلقية السامية؛ أي مما يظهره أكثر أنصار الحكومة العالمية من الأمريكيين. غير أن القومية بالنسبة إلى أكثر الناس عاطفة عميقة الجذور في حياتهم كلها، يدرسها دراسة نافعة السيكولوجي الاجتماعي الذي لا يزال حتى اليوم على عتبة عمله العلمي في بناء المعرفة التراكمية. وهو يستطيع الآن بالفعل أن يصدر أحكاما تجريبية كقوله إن القومية تأخذ أشد صورها اعتداء - على الأرجح - في الجماعات القومية التي تحس أنها مظلومة، معتدى عليها، وتعامل على أنها أحط من غيرها. كما تبدو القومية في أضعف صورها اعتداء، وأشبه ما تكون بذلك اللون الثقافي المقبول من ألوان طعوم الحياة الذي آمن مازيني بإمكانه، في الجماعات الصغيرة، الناجحة نسبيا، ولكنها مستقلة من الناحية السياسية، كالسويسريين أو النرويجيين أو الأستراليين. وحتى في أستراليا قد يولد الخوف من الكتل الكبيرة الآسيوية النازحة إليها نوعا من القومية النائية المكتئبة في السنوات المقبلة. غير أن موضوع القومية هذا بأسره هو أحد الموضوعات المثيرة في المعالجة الجديدة لدراسة العلاقات البشرية التي سوف نتعرض لها بالبحث في القسم الثاني من هذا الفصل.
وإذن فإن أنماط الفكر التي سادت القرن التاسع عشر لا تزال بين ظهرانينا بعدما أدخلنا عليها تعديلا من تجربتنا. فلا يزال لدينا المركز الديمقراطي الذي يتعرض للهجوم من اليمين ومن اليسار. وثمة كذلك أثر آخر من آثار القرن التاسع عشر لا بد من التنويه عنه، ذلك أن المثقفين منا لا يزالون بعيدين عن عامة الناس، ولا يزالون في ثورة، ولا يزالون على خلاف فيما ينبغي أن تؤدي إليه الثورة . وما برح أولئك الذين يكتبون ويصورون ويمثلون ويعظون مجموعة منعزلة. نعم لقد مرت بأمريكا فترة قصيرة في أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى وخلال حرب 1939-1945م ابتهج فيها الكتاب لأنهم آمنوا بالديمقراطية، كما آمن بها جورج بابيت الذي ينتمي إلى زنيث بأوهايو، وآمنوا بابتكار الفرد، وبالإنسان العادي، وبطريقة العيش الأمريكية. غير أن هذه الفترة لم تكن سوى مدة قصيرة كفترة شهر العسل إن لم تكن بجملتها وهما من الأوهام. أما اليوم فإن الكتاب المفكرين وغيرهم من الفنانين قد عادوا إلى الثورة مرة أخرى، يكتبون قذفا في هذه الدنيا، وفي بعضهم بعضا، منهم الماركسيون من جميع المذاهب من الاستالينية الأصيلة إلى أحدث شكل من أشكال التروتسكية، ومنهم من لا يزال يدعو إلى الأفكار المناهضة للديمقراطية بصورة أخفى وأقل ابتذالا، من الأفكار التي نادى بها المرحوم إيرفنج بابيت إلى تلك الأفكار التي بشر بها الفاشستيون العقليون حقا من أمثال عزرا باوند. وجميعهم يستمر في الشكاة، حتى إنك لو فتحت «مجلة الحزب» أو «مجلة أطلنطيق الشهرية»، أو حتى ريدرز ديجست (عصارة القارئ) لما توغلت كثيرا في القراءة قبل أن تلتقي بمقال يمكن أن يكون عنوانه: «ماذا دهى كذا وكذا ...»
وأخيرا نستطيع أن نعود إلى التنوع الشديد في الطرز المعمارية التي اتخذناها رمزا للتنوع المتعدد في المجتمع الغربي المعاصر (ارجع إلى ما كتبناه في التوفيق الفكتوري في الفصل الثاني عشر). وليس بوسع أحد أن يجادل في أننا قد عدنا في منتصف القرن العشرين إلى عادة الإنسان القديمة في البناء على طراز واحد في العصر الواحد. ومن الحق أنه قد ظهر في القرن العشرين طراز موحد بدرجة معقولة (بالرغم من وجود فروق فردية) وهو طراز يسميه كثيرون من الآخذين به طرازا «وظيفيا»، ويعرفه الرجل العادي بأنه طراز «حديث». ولهذا الطراز ما يسير معه سيرا ملائما في الزينة الداخلية وفي الفنون التشكيلية، حتى صار من الممكن أن تبني بيتا وأن تؤثثه فيعزى إلى منتصف القرن العشرين ولا يعزى إلى أي زمان أو مكان آخر. والواقع أن هذا الإمكان إنما أضاف عنصرا جديدا إلى الفوضى القائمة. إن كثيرا من الناس يسخطون على الطراز الحديث، وكثيرين لا يطيقونه؛ لأنه لا يزال أكثر طرق البناء في النفقات. والنتيجة هي أن «طريق سيرنجا» الجديد، الذي افتتح عقب الحرب مباشرة، به بيت حديث طرازه مستمد مباشرة من طراز جروبيوس بوهوس، وذلك بالإضافة إلى ما به من طراز كوخ «رأس كود»، ومن الطراز الجورجي المركب، وطراز إرسالية كاليفورنيا، وطراز «صندوق الملح» الذي ورثه عن القرن السابع عشر. والجيران في شك من وجود هذا الطراز الوظيفي الصارم وسط ما لديهم من جمال.
ومن المحتمل أن يكون الرجل المثقف في الغرب في منتصف القرن العشرين على وعي بأن التنوع الموجود في العالم الحديث في كل موضوع من الموضوعات صغر أو كبر، شيء جديد نسبيا في تاريخ البشرية، وهو يخشى كثيرا أن يكون تقبله فوق طاقتنا. إنه يبحث عن مركب جديد، عن إيمان جديد، عن قاعدة مشتركة من الاتفاق بشأن «المشكلات الكبرى». ولكنه لم يحصل بعد حتى على البدايات الظاهرة لمركب روحاني جديد، أو حتى على بدايات شيء جديد جدا وحديث يمكن على الأقل أن ينضم إلى الخليط، كما انضم البناء «الحديث» إلى غيره. وليس معنى هذا أننا نقول بأن عصرنا الحديث لا يتصف بروح العصر الخاصة به، وبنكهته الخاصة، وبلمساته الصغيرة الخاصة في الأسلوب التي سوف يميزه بها المؤرخون في المستقبل، وإنما نحن أقرب إلى أن نقول: إننا لسنا حتى الآن سوى شكل من الأشكال في نمط ثقافي مطرد إلى حد كبير نشأ عن العصور الوسطى، واتخذ صورة واضحة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفي الحق أن أحدث شيء في حياتنا الفكرية ربما لا يكون شيئا جماليا، بالرغم من شيوع طابع العصرية، بل قد يكون اتجاها نحو دراسة الناس والعلاقات البشرية، اتجاها ربما كان في الواقع بداية لما عبرنا عنه من قديم بمصطلح العلوم الاجتماعية.
تعريف اللامعقول
إن هذا الاتجاه في كثير من مظاهره المحسوسة قديم جدا - فأنت تلمس أثره في كتاب «السياسة» لأرسطو - وقد يكون من الخطأ أن نعده مقدمة لبداية دراسة علمية شكلية للعلاقات الإنسانية، وربما كان ما نسميه هنا باللامعقول لا يعني بالنسبة لمؤرخ المستقبل أكثر من اتجاه واحد من اتجاهات الثقافة في القرن العشرين، وجانب من جوانب روح العصر، وجزء من كل نظراتنا إلى الحياة والعالم يزيد كثيرا عن كونه معرفة تراكمية، أو علما. وربما كان من الأسلم هنا أن نعالج اللامعقول - وبخاصة من حيث علاقته بدراسة الإنسان في المجتمع - باعتباره مجرد مظهر من المظاهر المميزة لروح العصر الذي نعيش فيه.
إن هذا الاسم تعس الحظ - وبخاصة من حيث تأكيده على الإنكار أو المعارضة - غير أنه من الظاهر في هذه الآونة أنه ليس هناك اسم آخر يمكن أن يحل محله؛ إذ يتضح على الفور أن أية محاولة للإشارة باسم من الأسماء إلى أن هذا الاتجاه يقدم تقديما إيجابيا العاطفة - مثلا - فوق التفكير، ويجعل القلب أسمى من العقل، والدوافع والحوافز والبواعث - أو إن أردت أن تكون فرويديا فقل اللبيدو (أو الطاقة الحيوية) أو الأيد (أو مجموعة الدوافع الغرزية) - أفضل من العقل ، أقول إن أية محاولة من هذا القبيل تكون تفسيرا خاطئا لطبيعته، كما سوف نوضح ذلك بعد قليل. إن اللامعقول أساسا، بالمعنى الذي نستعمل به هذا الاصطلاح هنا، لا يعتبر أداة التفكير «سيئة»، ولكنها عند أكثر الناس في العصر الحاضر «ضعيفة». إن الرجل الرومانتيكي يتفق مع توماس هاردي على أن «الفكر مرض من أمراض الجسد». الرجل اللامعقول يكتفي بأن يلاحظ بأن التفكير يبدو في كثير من الأحيان تحت رحمة الشهوات، والميول الجامحة، والأهواء، والعادات، والأفعال المنعكسة الشرطية، وكثير غير ذلك في الحياة الإنسانية مما ليس بالتفكير. وليست هناك لسوء الحظ لغة اصطلاحية متفق عليها في هذا الصدد. وسوف نستعمل اصطلاح «اللامعقول» في هذا الكتاب لنصف به محاولة الوصول بالعقل إلى تقدير عادل للأدوار الحقيقية التي يلعبها التعقل واللاتعقل في شئون الناس. والاصطلاح واسع الانتشار في استعماله ليصف شيئا يختلف عن ذلك كل الاختلاف - يستعمل ل «الثناء» على اللاتعقل وتمجيده باعتباره النشاط البشري المرغوب حقا فيه، والتشهير بالتقل. وإنا لنؤثر أن نطلق على مثل هذه النظرة - نظرة الكراهية للتعقل وحب اللاتعقل - اسم «الرومانتيكية» وهي الرومانتيكية التي عبر عنها جيته «بأن الشعور هو كل شيء» كما عبر وردزورث عن هذه الكراهية للتعليل في ثبات وحزم حين قال:
إن دفعة واحدة من الغابات في الربيع
قد تعلمك عن الإنسان،
وتعلمك عن الخير والشر في الأخلاق
أكثر مما يستطيع الحكماء أجمعون.
كفانا علما وفنا،
ولنطو هذه الصفحات المجدبة،
واخرجوا وبين جنوبكم قلوب،
قلوب ترى وتستقبل.
إن العاشق الحديث للاتعقل - ككثير من المدافعين عن النازية - يتجاوز كثيرا هؤلاء الرومانتيكيين الأوائل. غير أن جوهر الفكرة هو في الرومانتيكية. ومن نكد الطالع أن يكون هناك مثل هذا الاضطراب في مسألة من مسائل المصطلحات لها أهميتها القصوى. ومهما يكن من أمر فسوف نحاول أن نستعمل اصطلاح «اللامعقول»، لا نهجوه ولا نثني عليه، لنصف محاولة التثبت من مكانة التعقل في المسلك الحقيقي للإنسان.
إن الرجل اللامعقول يميل إلى عدم الثقة في نوع معين من التفكير المجرد الاستنباطي في المشكلات الكبرى من النوع الذي كثيرا ما التقينا به في هذا الكتاب، وبأوضح صورة في العبارة التي اقتبسناها من هيجل في الفصل الثاني عشر عند الكلام على تكييف النظرة الكونية الجديدة وتعديلها. غير أن الرجل اللامعقول - بالرغم من أنه في معارضته لفلسفة حركة التنوير التي تقول بأن تعميم التعليم سوف يهدي كل امرئ بين عشية وضحاها إلى التفكير السليم كثيرا ما يحط من شأن أداة التفكير - هو «بمعنى ما وارث حقيقي لحركة التنوير»، وهو في أعماقه مؤمن بقدرة التفكير على أن تجعل حياة الإنسان هنا فوق هذه الأرض من نوع أفضل. وقد كان فرويد نفسه - الذي يخطئ بعض أصحاب العقول المرنة فيعدونه رسولا لفكرة التمادي في إشباع الشهوات الذاتية الغريزية المظلمة عميقة الغور - يعتقد في قوة الصدق - الصدق العلمي الذي استقر بحق - في ثبات كثبات أي فيلسوف من فلاسفة القرن الثامن عشر، قوة هذا الصدق على الارتفاع بمستوى السلوك الحسن من جانب الفرد الذي أفلح في تعلم الصدق، إلا أن الفيلسوف في القرن الثامن عشر كان يظن أن كل ما يقف بين الفرد وتعلم الصدق ليس إلا قوقعة متعفنة من النظم البائدة، كالكنيسة الكاثوليكية والملكية الفرنسية، في حين أن فرويد كان يظن أن مجموعة النظم العتيدة لا تقف وحدها بين الفرد وتعلم الصدق، وإنما يقف إلى جانبها كذلك مجموعة قوية من العادات والميول الشخصية، ومجموعة قوية من العادات التي تأصلت منذ الطفولة الباكرة - وفي هذا فارق له أهمية كبرى. إن فرويد - حتى في شيخوخته البائسة في منفاه - لم يأمل أن تشق «الكثرة» من الناس طريقها ظافرة نحو هذا النوع من الصدق في فترة وجيزة.
إن الآمال المخففة في التحسن البطيء في العلاقات الإنسانية - وهو تحسن كاد يرفعه حتى أصحاب الميول اليسارية من بين اللاعقليين إلى مرتبة كمال المدينة الفاضلة - يظهر في اقتباس من جراهام والاس، وهو أحد الفابيين من أيام ولز وشو وآل وب، وهو عضو تقدمي في مجلس مقاطعة لندن، ومؤلف كتاب «الطبيعة البشرية في السياسة» الذي نشر في عام 1908م. وقد قام والاس بدراسة «واقعية» لا عقلية خفيفة في السياسة البريطانية، أشار فيها إلى أن الناخبين لا يعللون الأشياء في هدوء ومنطق، بل لا ينظرون في كثير من الأحيان إلى مصالحهم الخاصة نظرة ذكية، وإنما كانوا يتأثرون بالملق، وبمناشدة أهوائهم وبمظهر المرشح الجميل، وباهتمام المرشح بهم - فوق كل شيء - كأشخاص، وبأشياء صغيرة جدا كمناداته إياهم بالاسم. وقد أحس ولاس بالأسى العميق حينما اتهمه أحد زملائه من العمال في حزب العمال بتقربه إلى خصومه بهذه الأمور اللاعقلية فكتب يقول: «إن دور الفكر قد يكون متأخرا في حركة التطور، وقد يكون الفكر ضعيفا بدرجة يرثى لها من حيث قوته الدافعة، غير أن أي امرئ وأي نظام لا يستطيع بغير إرشاد الفكر أن يجد طريقا آمنا وسط الأمور غير الشخصية الكثيرة المعقدة في هذا الكون كما تعلمنا أن ننظر إليه.»
إن اللاعقلي يصر على أن الإنسان مخلوق معقد ينبغي لنا أن ندرس سلوكه بغير أفكار سابقة تتعلق بما في هذا السلوك من خير أو شر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وموقف السلوك الطيب يشبه موقف التفكير المنطقي في الحياة الإنسانية. إن اللاعقلي لا ينكر الفرق بين الخير والشر، ولا يتردد في أن يؤثر الطيب على الخبيث. أما ما يصر عليه فهو أننا إذا حكمنا بالدليل الذي نستمده من ملاحظة ما قام به الناس وما يقومون به لوجدنا قدرا كبيرا من السوء حولنا، ولبدا لنا - وهذا هو الأمر المهم - أنه ليست هناك أية علاقة سببية مباشرة أو بسيطة بين المثل العليا الخلقية عند الناس وبين أعمالهم. ومن أجل هذا نجد أن اللاعقلي يعيد ثناء بيكون على مكيافيلي، وهو من اللاعقليين الأوائل في كثير من اتجاهاته: «إننا مدينون كثيرا لمكيافيلي وغيره ممن كتبوا عما يفعل الناس، ولم يكتبوا عما ينبغي لهم أن يفعلوا.»
وموجز ما قدمنا أن أكثر اللاعقليين يقبلون على وجه العموم أهداف النظام، والسعادة، والحرية الفردية، وغير ذلك مما نربط بينه وبين حركة التنوير، غير أنهم يتمسكون بهذه الأهداف باعتبارها ممكنة التحقيق في هذه الدنيا على صورة ناقصة وفي بطء شديد ليس غير. وهم يعتقدون أن أحسن السبل لتحقيقها لا يكون بالتبشير بضرورة تحقيقها، ولا يكون «بادعاء تحقيقها فيما سبق» (وهو زعم شائع بين المربين الأمريكيين والكتاب، والمبشرين بالآمال للجماهير المستمعة)، وإنما يكون بالعمل الدءوب على بناء علوم اجتماعية صادقة تقوم على أساس مناهج المعرفة التراكمية التي جربت أمدا طويلا، وعلى أساس استخدام الناس لهذه المعرفة للنهوض بالطيب دون الخبيث. وهم على اتفاق على ما هو طيب أتم مما يظن المتشائمون من الشباب، الذين استجدوا في الكشف عن أن الآراء الإنسانية عن الجمال والخير ليست في غينا الجديدة كما هي في نيويورك. وهم على اختلاف أشد في آمالهم. والظاهر أن باريتو، الذي سوف نلتقي به بعد قليل، كان عند وفاته في عام 1923م قليل الأمل في أن يستخدم الناس معرفة بالعلوم الاجتماعية أفضل للنهوض بالخير في هذه الدنيا. ومن المحتمل أن الباحثين في العلوم الاجتماعية من الأمريكيين المعاصرين الذين تأثروا باللامعقول (بالرغم من أنهم قد لا يحبون وصمة اللامعقول هذه)، ومن بينهم كلايد كلكهون من جامعة هارفارد وإسكندر ليتون من جامعة كورنيل، يعتقدون - طبقا للتقاليد الأمريكية الطيبة - أن المعرفة الجديدة سوف تستخدم لأغراض طيبة على وجه العموم - وأن العلوم الاجتماعية سوف تستخدم للنهوض بالعمل الطيب في المجتمع وبصحة هذا المجتمع، كما استخدمت علوم الطب في النهوض بصحة البدن.
اللامعقولية المعاصرة
ذكرنا من قبل كيف أن العلماء الطبيعيين من أمثال نيوتن ودارون كانوا روادا في مجال العلوم الاجتماعية. وإنما تأتي الريادة في عصرنا من البيولوجيا والسيكولوجيا. وربما كان أقوى أصحاب الأمر من حيث التأثير في الدراسات الاجتماعية هما بافلوف وفرويد، وكلاهما من علماء النفس الذين درسوا الفسيولوجيا وغيرها من العلوم البيولوجية. وأرجو أن تلاحظوا أننا لا نبحث هنا في معنى دراساتهما المهنية في حدود ما صارت إليه في الوقت الحاضر مهنتاهما من تخصص شديد، وإنما نحن نبحث في تأثيرهما في تيارات الفكر الأعم بين قوم من أصحاب الدراسات المتنوعة التي تتعلق بالشئون الإنسانية.
وموضوع بافلوف أبسط الموضوعين، إن ما بلغ العالم الخارجي من معامل هذا العالم الروسي الذي قدرت استقلاله حكومتا قيصر والسوفيت على السواء هو هذه العبارة الشهيرة: «فعل الشرط المنعكس». إن كلاب بافلوف مألوفة إلف أي حيوان آخر يدخل في تجارب المعامل. وأكثرنا يعرف كيف يسيل لعابها توقعا للطعام عند مجرد الإشارة إليه، وذلك بعد تكرار إطعامها عند إشارة معينة كالجرس مثلا. إن الاستجابة الطبيعية - أي الاستجابة التي لم تدرب - بسيل اللعاب لا تتأتى عامة إلا عندما يقدم الطعام للكلب فعلا. غير أن بافلوف حصل على نفس الاستجابة بطريقة مصطنعة بإشارة لم تكن لها عند الكلب بالتأكيد رائحة الطعام أو منظره. والنتيجة هي قيام الدليل الواضح على أن التدريب (الاشتراط، أو التكيف) يمكن أن يؤدي إلى استجابات آلية عند الحيوان، وهي استجابات شبيهة أساسا بنوع الاستجابات الآلية التي يولد بها الحيوان. إن أفعال الشرط المنعكسة كسيل اللعاب عند إشارة ما هي بعينها كالانعكاسات الطبيعية كسيل اللعاب عندما نقدم للحيوان قطعة من اللحم المحمر الجميل.
ومعنى هذا للباحثين في العلوم الاجتماعية في خطوط عريضة هو هذا: إن أفكار القرن الثامن عشر عن قوة البيئة (التدريب أو التعليم) من ذلك النوع الذي عبر عنه روبرت أوين في وضوح شديد كما جاء في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب عند الكلام على إيمان المستنير، قد تأيدت إلى حد ما، بمعنى أن البيئة يمكن علاجها بحيث تكسب الكائنات العضوية استجابات جديدة. غير أن الكائن العضوي - وهذه لطمة شديدة لتفاؤل القرن الثامن عشر - بعدما يخضع لهذا التدريب يستوعب النتائج كأنها من أثر الوراثة، لا البيئة، فيصبح التغير الجديد أمرا جد عسير، بل ومستحيلا في بعض الحالات. وقد حاول بافلوف - بعد تدريب بعض كلابه - أن يخلط في إشاراته، فكان يخيب رجاء الكلاب ويربكها بمنع الطعام عند الإشارة التي كانت دائما إيذانا بتقديم الطعام إليها، وهكذا حتى نجح في خلق أعراض تشبه ما يكون في الكائنات البشرية على شكل نورستانيا أو مرض عقلي.
إن الباحث الحذر في العلوم الاجتماعية لا يأخذ بطبيعة الحال أفعال بافلوف الشرطية المنعكسة ويطبقها على كل ضروب السلوك البشري تطبيقا أعمى؛ فهو لا يفترض مثلا أن الرجل من فيرمونت الذي يصوت للجمهوريين يسلك تماما سلوك الكلب الذي يسيل لعابه عندما يدق له جرس ألف سمع رنينه؛ فحتى في فيرمونت ربما لا يكون التصويت للجمهوريين فعلا شرطيا معاكسا. غير أن الباحث الحذر في العلوم الاجتماعية يقول بأن الآراء التي تشبه الأفعال الشرطية المنعكسة تلقي ضوءا على جانب كبير من السلوك البشري الذي تحدده العادة. ويرى اللاعقلي أن عمل بافلوف دليل جديد على أن جانبا كبيرا جدا من سلوكنا لا يخضع - بل ولا يتأثر كثيرا - لما يدور في تلافيف المخ.
أما فرويد فهو أشد تعقيدا من بافلوف - بل هو من أعقد الشخصيات في تاريخ الفكر في الغرب. كان عالما نشأ على عقيدة المحترف البسيط في عالم مادي يختفي فيه عنصر ما فوق الطبيعة، وعنده احتقار العالم لكل الآراء الميتافيزيقية - ما خلا الميتافيزيقيات الإيجابية الثابتة في العلم الحديث التقليدي. ومجموع عمله مركب يحير الألباب من العلوم الطبيعية والميتافيزيقيات المتشائمة التي تكاد تكون مسيحية. وفي كتاب بهذا الحجم لا نستطيع أن نبحث بحثا صحيحا في أمور فرويد المعقدة. ثم إن عمله - كعمل جميع المفكرين من واضعي النظم - يبدو مختلفا جدا للغرباء عنه والمؤمنين به الصادقين. لقد اخترع طريقة لمعالجة أنواع معينة من العجز البشري تعد عادة انهيارا عقليا، أو عصبيا، أو نورستانيا، أو ما إلى ذلك. وتدعى هذه الطريقة التحليل النفساني، ويجب أن نميز بينها وبين معالجة الأمراض العقلية بالطريقة التقليدية، التي يقوم بها عادة أطباء ذوو دربة خاصة، كالمختصين في الأمراض العصبية، مما نسميه بالطب النفساني والتحليل النفساني على طريقة فرويد لا يزال يعد في أكثر الأحيان هرطقة، أو عقيدة طائفة متحمسة، وذلك بالرغم من أنه كجزء من علوم الطب أفضل في سمعته في عام 1950م في أوساط الأطباء التقليديين مما كان يعده المرء ممكنا منذ بضع عشرات من السنين فقط. ويصدق هذا بصفة خاصة حينما امتدت الآراء التي طورها فرويد في علاج الأمراض العقلية - كما مدها فرويد بنفسه في أخريات حياته - إلى أكثر ميادين العلوم الاجتماعية. وأخيرا فإن مما يزيد دراسة فرويد عسرا أنه كان دائما يدخل التعديل حتى على أفكاره الأساسية، حتى بات من الخطر أن تأخذ نظامه في أي وقت بعينه على أنه نظام كامل.
وقد أرشد فرويد الكثيرين في دراسة السلوك البشري، ممن لم يعرفوا شيئا - أو عرفوا القليل - عن التحليل النفساني، وهيكله الخارجي الميتافيزيقي. وأمست السيكولوجيا في هذا القرن حقا هي العلم العصري، كما أضحى المتعلمون يستخدمون في حديثهم المصطلحات السيكولوجية كما كان رواد «الصالونات» في القرن الثامن عشر يتحدثون عن قوانين الفيزياء والفلك التي اكتشفها نيوتن. وكثير من هذه العملة السهلة الحديثة التي يتبادلها الناس في الحديث قد سكها فرويد بنفسه من قبل، مثل اللبيدو (الطاقة الحيوية)، وعقدة أوديب، والإحساس الجنسي عند الأطفال، والتسامي وربما كانت أسهل هذه العملات - وأعني بها عقدة النقص - من صياغة أحد تلاميذه، آدلر، الذي اختلف مع أستاذه فيما بعد، وأقام فرعه النفساني المستقل.
ويهمنا هنا - طبقا للقاعدة التي سرنا عليها في هذا الكتاب - ذلك الجانب من آراء فرويد الذي انتشر بين الطبقات المثقفة أكثر مما تهمنا دلالة هذه الآراء المهنية في علم النفس وفي الطب، ويكفينا لهذا الغرض تخطيط عام جدا لآرائه الأساسية في نحو عام 1920م. يرى فرويد أن ما يسير الناس هو مجموعة كاملة من «الدوافع» التي سماها «اللبيدو» - أو الطاقة الحيوية - في أول الأمر، وربط بينها وبين الرغبات الجنسية التي أطلق عليها فيما بعد اسم «أيد» - أو مجموعة الدوافع الغرزية - ثم خفف قليلا من ناحية الجنس فيها. و«الأيد» في الكائن البشري هو جزء من اللاشعور. وهو يرغب، ويدفع الفرد إلى العمل. غير أن مسلك الكائن البشري كله يرتبط بجزأين آخرين من النفس البشرية، هما «الإيجو» أو الذات، و«السوبريجو» أو الذات العليا. ومما يغضب العلماء الطبيعيين التقليديين كثيرا أنه ليست هناك طريقة لتحديد موضع «الأيد» و«الإيجو» و«السوبريجو» في المخ البشري، أو في أي مكان آخر في جسم الإنسان؛ فليس هناك قط من «شهد» جزءا من «الأيد»، حتى تحت المنظار المكبر. والواقع أن فرويد لم يكن في هذا الصدد - على الأقل - يرتكب إثما في حق العلم الصحيح - فإن معيار الاختبار لهذه الآراء ليس إمكان إدراكها كجزء من تجارب الاستقبال البشرية التي تعينها الآلات، وإنما معيار اختبارها هو صلاحيتها للعمل، وهل يمكننا استخدامها من فهم السلوك البشري فهما أفضل.
إن «الذات» كلها، أو كلها تقريبا، جزء من الحياة العقلية الواعية عند الإنسان، ولكنها ليست نشاطا منطقيا بحتا. هي حكم أو حاكم، وراعية لمصالح الكائن العضوي ككل، والفيصل في الرغبات المتضاربة التي تصدر عن «الأيد» في الشعور. وبعض هذه الرغبات - وبخاصة إن بدت للذات من النوع الذي يحط من قدر الإنسان يكبت بواسطة الذات، ولكنه يبقى ناشطا في «الأيد» اللاشعوري، بعضها «يتسامى»، ويتحول مثلا من هدف جنسي إلى فن أو شعر أو أشخاص حاكمين. وتتضمن «الذات العليا» بعض العناصر التي تدخل في أفعال الشرط المنعكسة. وفي هذه الذات العليا تؤثر في أعمال الفرد الأفكار التي تعلمها عن الحق والباطل، عن الطريقة «الصحيحة» في السلوك، والآراء «الصحيحة» التي يتمسك بها. إن الذات العليا لا شعورية إلى حد ما، يتشبع الفرد منذ الطفولة بأوامرها بحيث لا تسير في العملية المنطقية، فلا تجابهه بمشكلات تتطلب هذا العمل أو ذاك. أما الذات فتشبه إلى حد ما ضمير الفرد اللامسيحي. في حين أن الذات العليا أشبه ما تكون بالضمير الاجتماعي أو الجماعي الذي يؤثر في الفرد ظاهرا وباطنا. الذات تتوسط بين «الأيد» والعالم الخارجي ذي «الواقع» المادي، في حين أن الذات العليا تتوسط بين «الأيد» والعالم الخارجي من جانب المثل و«الأمور العليا» التي نسب إليها أخيرا فرويد - وهو راغم - نوعا من الواقع الموضوعي.
و«الأيد» و«الإيجو» و«السوبريجو» تتضافر في الفرد السليم لكي تجعله على وعي بحقائق بيئته، ولكي تمكنه من تكييف سلوكه طبقا لهذه الحقائق، حتى يمسي بوجه الإجمال رجلا سعيدا ومواطنا صالحا. وفي الشخص العصبي تتراجع الرغبات التي تكبحها سلبية «الذات» أو «الذات العليا» إلى اللاشعور؛ حيث تواصل الحياة وقوة الاندفاع كما تفعل الرغبات. وهي التي تكون مادة الأحلام. وتظهر متنكرة (وإن تكن غير متسامية تساميا صحيحا) في كل أنواع الأفعال التي لا تسير كما يسير السلوك العادي المألوف - تظهر في المخاوف المتسلطة، وفي الانسحاب من المسئوليات العادية، وفي الهموم والأشجان، وفي كل أنواع السلوك التي نسميها اليوم «عصبية». وهذه الرغبات المكبوحة مستقرة في اللاشعور، والشخص العصبي لا يعرف حقا ما يريد.
وفكرة فرويد الأساسية في العلاج النفساني - وهذه الفكرة هي التي تجعلنا نعده من أبناء حركة التنوير - يمكن تلخيصها في أنها طريقة متشعبة عسيرة (باهظة النفقات) يتعلم بها المريض أن يعرف ما يريد حقا. وكان فرويد يعتقد بصفة أخص أن الكبت الأول؛ أي الإرجاع الأول لبعض الرغبات إلى «الأيد»، هو مصدر الشر، أو هو «الجرح» (تروما) الذي يصيب نفسية الفرد. وهذا الجرح في ظنه يرجع إلى عهد الطفولة. ويرتبط أيضا بهذه الحقيقة: وهي أن الرغبات الجنسية المبكرة عند الطفل لا تلقى البتة قبولا في ثقافتنا، وأن ذاته وذاته العليا كلتيهما يتعلمان بشيء من العنف أنهما لا يصح أن يسمحا بمثل هذا السلوك، وحتى إذا لم تكن هناك واقعة مفردة بسيطة ترجع إلى عهد الطفولة يمكن أن تعد منشأ لصعوبة من الصعوبات يلاقيها الفرد في حياته المقبلة، فإن فرويد يعتقد أن السنوات الأولى هي دائما ذات أهمية قصوى، ولكن كيف يبعث الفرد هذه الأمور المنسية؟ لا يكون ذلك إلا بعملية طويلة من «الترابط الحر» الذي يجعل الفرد يتجول في ذكرياته الماضية يوما بعد يوم، عالم التحليل النفساني إلى جانبه يلاحظ الدلائل الدقيقة وهي تظهر وسط الذكريات المتدفقة، وبمعونة الأحلام، حاضرها وماضيها.
ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نحاول هنا وصفا مفصلا لطرائق فرويد في العلاج النفساني، وإنما ينبغي أن تكون هذه النقطة واضحة: وهي أن فرويد كان يعتقد أن الفرد عبارة عن مجموعة من الأفكار والرغبات المضطربة التي لا يمكن أن يكون لها معنى إلا بعد مشقة كبرى. ولكن بعدما يتمكن المحلل النفساني بعد البحث الطويل من إظهار الفرد على «السبب» في مسلكه الذي سلك، يكف الفرد عندئذ عن السلوك السيئ، الذي لا يجديه ولا يجدي رفاقه نفعا. وأرجو أن تلاحظوا أن فرويد لم يقف موقف روسو القديم البريء الذي يرى أن السبيل التي نتجنب بها الصعاب هي أن تجعل كل فرد يتبع منذ الطفولة رغباته، وأن نجعل «الأيد» يملي عليه أعماله، ما دامت المتاعب كلها تنشأ عن الكبت الأول. نعم إن فرويد وأتباعه يميلون إلى أن يكونوا «متسامحين» في تربية الطفل، ويميلون إلى العطف على تحقيق أكبر قسط من الحرية للفرد في المجتمع بقدر ما يمكن. والظاهر أن فرويد نفسه لم يرض قط عن محتوى أكثر «ذواتنا العليا»، عن «الأمور السامية» في التقاليد الغربية. إلا أن أتباع فرويد لا يدفعون عن الاستهتار في الشهوات، ولا يريدون للمرء أن يكون عبدا لشهواته الساذجة، وهم ليسوا في أكثر الحالات من الشواذ الذين ينادون بعدم التقيد بالأخلاق الدينية. إنهم أطباء مدربون، يحاولون أن يخلصوا لمعايير المهنة الدقيقة، ويحاولون أن يروا الناس على حقيقتهم.
لقد كانت مساهمة فرويد في اللامعقولية المعاصرة كبيرة حقا. وإذا ضممنا عمله إلى عمل بافلوف وكثير غيرهم من علماء السيكولوجيا والفسيولوجيا، وجدنا أن ما قاموا به يؤكد بشدة نسبة الأعمال البشرية التي لا تلعب فيها أداة الفكر التقليدية - بمسمياتها المختلفة عند أرسطو والمسيحيين ولوك وكتاب الموسوعة، بل وعند نيومان الذي يقول بوجود حس استنتاجي عند الإنسان - دورا ما، أو تلعب فيها دورا صغيرا، ويرى اللاعقليون أن العمل نتيجة الاستجابات الآلية، طبيعية كانت أو مشروطة، من كل أنواع الدوافع والحوافز، والتقاليد، والعادات الاجتماعية، بل والمبادئ الدينية والميتافيزيقية التي تمسي بالتربية الأولى والتكييف المبكر جزءا من طريقة الفرد في الاستجابة إلى حاجته إلى إصدار قرار من القرارات. إن الفكر التعليلي عند الفرد - كما يرى اللاعقليون - يساوي بالنسبة إلى بقية حياته نسبة أقل من الجزء اليسير من الجبل الثلجي الذي يرى فوق الماء إذا قيس إلى كتلة الجبل كلها. إن «كمية» التعقل في الحياة البشرية، وليس مجرد «وجود» هذا التعقل، هي إذن النقطة التي يختلف فيها اللاعقليون وأولئك الذين يعارضون التعقل. إن ممارسة جانب كبير من السياسة الأمريكية، وكثير من نواحي الحياة الأمريكية لا عقلي - والإعلان مثال واضح لذلك.
إن جذور وفروع هذه النظرة - التي ترى أن مكان أداة الفكر الحقيقي الوظيفي في مجموع نواحي النشاط البشري فوق الأرض محدود - يمكن تتبعها في كثير من مجالات الفكر الحديث - ولنذكر أننا في هذا لا نبتهج لضآلة هذا المكان ولا نرثي لها. إن الجذور الهامة ترجع إلى ما فعل المفكرون الاجتماعيون بداروين؛ إذ قد اتضح أننا لو آمنا - بوجه عام - بأن ما أكسب الناس هذه النتائج الطيبة في تنازع البقاء هو ذهنه، فإن أكثر الحالات المحسوسة تشير إلى أن صاحب العقل لم يكن بأية حال من الأحوال هو المبرز في تنازع البقاء.
وقد كان والتر باجهوت - الكاتب الإنجليزي الذي يعد كتابه «الطبيعة والسياسة» الذي نشر في عام 1689م من المحاولات الأولى للاسترشاد بمبادئ داروين في دراسة شئون الإنسان - من أوائل كتاب القرن التاسع - الذين عالجوا الإنسان باعتباره «سياسيا وأخلاقيا» - الذين تناولوا هذا الموضوع، ومن أكثرهم تشويقا. وكان الأجدر به أن يجعل عنوان كتابه «البيولوجيا والسياسة»، ولم يستخدم باجهوت «الفيزياء» إلا بمعنى «العلوم الطبيعية». قال باجهوت إن المرحلة الأولى في بناء الحضارة من مجرد الهمجية كانت حالة من حالات صلابة القانون والنظام في كل أمر من الأمور - ولا أعني دكتاتورية شخصية، وإنما أعني دكتاتورية ما أسماه باجهوت «قالب العادة». إن تلك الجماعة التي تملك أفضل نظام، أو أثبت قالب من قوالب العادات هي الجماعة التي تفوز في النهاية في معمعان منافسة الجماعات. غير أن العقل المبتكر يلعب دورا أوضح في المرحلة التالية. في هذه المرحلة تصدر أفكار جديدة تمكن الجماعة من مواجهة البيئة بطريقة أفضل. وأخيرا يأتي دور «الحكم بالمناقشة» وهو من طوابع العصر الحديث.
وكل ذلك قد يشبه النظرة التقليدية الفكتورية التي ترى أن التقدم يسير في خط واحد. غير أن باجهوت يحرص على الإصرار على أن المجتمع الناجح - حتى بعد تحطيم «قالب العادة» بالأفكار الجديدة - لا يزال يحتفظ بقدر كبير من الصفات القديمة التي لا تنطبق على العقل، وإلا تدهور. والواقع أنه قد وجد تفسيرا لنجاح الديمقراطية البرلمانية، وهو أمر كان في عصره من المتناقضات، وهو بالنسبة إلينا مثال نموذجي من أمثلة اللامعقولية، فقال: إن المشكلة الكبرى لحضارة من الحضارات التي ينشئها الجنس البشري هي أن الكائنات البشرية حيوانات قلقة، غير مقيدة، تريد دائما أن «تقوم بعمل ما»، وأن الفضيلة الكبرى للحكم بالمناقشة هي أنه «يؤجل» العمل، ويستغرق وقتا طويلا في الجدل والمناقشة، وبذلك يوفر الوقت لعمل الطبيعة العلاجي. وبنفس هذه الطريقة قرر باجهوت أن مشكلة الفرنسيين هي أنهم مبالغون في التعقل، مغرقون في الأفكار، بحيث يتعذر عليهم تحقيق استقرار سياسي كاف. ووجد أن الإنجليز في جملتهم يستطيعون أن يقاوموا إغراء الاستغراق في التفكير المجرد، وأن لديهم الغباء اللازم لكي يجعل الديمقراطية طريقة عملية.
كما أن نيتشه - الذي اتجه في وقت ما نحو السوبرمان (الإنسان الراقي) وكتب في نثر شبيه بنثر الكتاب المقدس عن النبي زرادشت - هو بعينه نيتشه الذي كان في وقت آخر لا عقليا. حاول نيتشه أن يعرض ما أسماه «التاريخ الطبيعي للأخلاق» - وهو عبارة عن عرض سريع للطريقة التي يسلك بها الناس فعلا وعلاقتها بالطريقة التي يرون أن من الواجب عليهم أن يسلكوا بها. وكالكثيرين غيره من أتباع مدرسته، ربما كان مبالغا في الانحياز نحو التناقض بمعارضته للعقيدة العامة عند الناس بأن أعمالهم تترتب منطقيا على عقائدهم. وكان فوق ذلك عاجزا عن الاستمرار في دراسته بطريقة منظمة، وكل عمله سلاسل من الحكم، فأخرج كتابا مطولا عاما بطريقة غير عادية. وبرغم ذلك فإن نيتشه قد أكد بشكل واضح نقطة أخرى من النقاط الرئيسية التي يثيرها اللاعقليون. وهي نقطة قد أثارها مكيافيلي نفسه من قبل. وتلك هي ملاحظة أن الناس كثيرا ما يحققون أهدافا تنفعهم وتنفع المجتمع بسيرهم طبقا لأفكار خاطئة. يقول نيتشه: «إنني لا أرى أن خطأ الرأي يؤدي بنا إلى الاعتراض عليه. وربما كانت لغتنا الجديدة هنا غريبة في مسمعها. إن المسألة هي إلى أي حد يمد الرأي في الحياة، ويحفظها، ويحفظ النوع، وربما يحفظ كذلك تربية النوع. وإني أميل أساسا إلى الاعتقاد بأن أشد الآراء خطأ (التي تتعلق بها أحكام مركبة سابقة) هي أكثر الآراء لزوما لنا، وأميل إلى الاعتقاد بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون إدراكه للأوهام المنطقية، ودون مقارنة الواقع بالعالم «الخيالي»، عالم التجريد والثبات ... وأميل إلى الاعتقاد بأن نبذ الآراء الخاطئة هو نبذ للحياة، وإنكار لها. «الاعتراف بعدم الصدق شرط من شروط الحياة»: ذلك معناه بالتأكيد تفنيد الأفكار التقليدية القيمة بطريقة خطرة. والفلسفة التي تجرؤ على هذا العمل تضع نفسها - بذلك - وحدها فوق الخير والشر.»
وبحلول القرن العشرين كان شيء من اللامعقول قد بدأ يلحق بالطبقات المفكرة، كما بدأ يتغلغل بصورة أقل وضوحا في الوعي الشعبي. وكثير من وجهة النظر التي أطلقنا عليها هنا اسم اللامعقول هي في أصلها وجهة النظر عند الرجل «الراقي» الواعي بنفسه، وهو رجل بلغت به الحكمة أن يعلم خفة أثر الحكمة في هذه الدنيا، وهي وجهة نظر تتحول بسهولة إلى نوع من أنواع الكبرياء، وهو الشعور بأن الجماهير قطيع ونحن - القلة الحكمية - رعاة. وتسري هذه الفكرة عند نيتشه في كل ما كتب، وهو أوضح مثال لهذا الاتجاه في موقف اللامعقولية الحديثة. غير أن هناك أيضا اتجاها، يتميز في فرويد في نهاية الأمر، يؤكد أنه من الممكن لعامة الناس أن يعرفوا الحق عن أنفسهم، وهو حق أعقد كثيرا من نظرة القرن الثامن عشر إلى الإنسان، وأن عامة الناس بمجرد معرفتها لهذا الحق تستطيع بنفسها أن تقوم بالتهيئة الضرورية لهذه الحقيقة التي بدت أخيرا. وبمجرد ما يدرك الناس الصعوبات الجمة الواقعية في سبيل التفكير المستقيم فإنهم - طبقا لهذه النظرة الأكثر ديمقراطية - يطرقون الطريق إلى التفكير المستقيم.
إن أكثر أوجه اللامعقولية المعاصرة شيوعا يوضح لنا هذا الجانب توضيحا كبيرا. إن فلسفة «معاني الألفاظ» من بداية الكتاب الفلسفيين الغامضين المتعذرين من أمثال ألفريد كورزبسكي إلى أولئك الأدباء ذوي الأسلوب الرشيق من أمثال أ. أ. رتشاردز إلى مبسطي المعرفة الصرحاء من أمثال ستيوارت تشيز، قد سارت شوطا بعيدا، وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية. وهذه الفلسفة (السمانتيكس) هي علم المعاني، أو دراسة الطريقة التي تتفاهم بها الكائنات البشرية بعضهم مع بعض. إن فيلسوف المعاني يشير - على سبيل المثال - إلى أن ثلاثة من المشاهدين المختلفين قد يصفون أعمال رابعهم، أولهم بقوله إنه «خنزير»، والثاني بقوله إنه «عنيد» والثالث بقوله إنه «ثابت». والأعمال هي بعينها. أما الألفاظ التي يستعملها المشاهدون لوصف الأعمال فليست هي البتة بعينها. إنها تشير إلى مشاعر خاصة عند المشاهد، وهي توصل هذه المشاعر على أنها ليست تقريرا موضوعيا. وإذن فالألفاظ مشحونة بالأحاسيس العاطفية، وليست مجرد علامات مثل س أو ص في علم الجبر. إن لفظة «الخنزير» تحمل معها الاستنكار الشديد، في حين أن لفظة «العنيد» أقل استنكارا، وفي لفظة «ثابت » شيء من الموافقة. وإذا قلنا «مثابرا» كنا في حدود ثقافتنا أكثر موافقة.
ثم إن هناك الكلمات الضخمة الفخمة التي تشتمل في ذاتها على كل أنواع الآمال والمخاوف البشرية المحيرة، حتى بات من العسير على المحللين المدققين أن يجدوا لها معاني محسوسة، بل إن المصلح المتحمس لهذه الفلسفة يقول إن الأمر مستحيل ولا يتعسر فحسب. إن مثل هذه الكلمات: «الحرية»، «الإخاء»، «المساواة»، ليس لها «مدلول» في لغة أصحاب هذه الفلسفة. فأنت لا تستطيع أن تؤدي العمل الذي يخرجها فتصبح منظورة أو ملموسة. إنها «بغير معنى»، ويشير ستيوارت تشيز في كتابه «تعسف الألفاظ» إلى أننا كلما ملنا إلى استعمال عبارات ضخمة فخمة غامضة مثل «طريقة الحياة الديمقراطية» أو «الفردية الغربية» استطعنا في بساطة أن نستبدل بها لفظا لا معنى له مثل «بلا-بلا» ونقف عند هذا الحد. ونحن عند هذه الدرجة من التطرف نقترب بطبيعة الحال من الشكل السائد الحالي من أشكال الاتجاه الاسمي. ونحن الآن على أهبة النظر في انعكاس هذه اللامعقولية في الفلسفة الرسمية.
ويتخذ هذا الانعكاس شكلا متناقضا؛ فهي فلسفة تستبعد الفلسفة من دراساتنا. وقد طور شراح هذه الفلسفة - الوضعيون المنطقيون - موقفهم، لا من العقيدة الساذجة، عقيدة بعض الوضعيين في القرن التاسع عشر في مجال الاستقراء والعلوم الطبيعية في عهد هربرت سبنسر، ولكن من المنطق القياسي والرياضيات، والآراء الحديثة عن المنهج العلمي. إن الوضعية المنطقية - في إيجاز شديد - تؤكد أن النوع الوحيد من المعرفة الصحيحة هو المعرفة التراكمية، وهو النوع الذي يجده المرء في العلوم الطبيعية. وهناك لهذا النوع من المعرفة طريقة، وهي الطريقة التي تطورت تدريجا في ثقافتنا الغربية على أيدي علمائنا، الطريقة التي يستطيع المرء بواسطتها أن يختبر صدق أي حكم يقال إنه من المعرفة. إنك تستطيع - على حد تعبير بردجمان - أن تجري على الحكم عملية - وقد تكون العملية أحيانا طويلة شاقة تتطلب المعامل والبحث الميداني، وكثيرا من الرياضيات ومن التفكير المنطقي العسير - ولكنها عملية تمكنك من اختبار صدق الحكم أو بطلانه.
والوضعيون المنطقيون - في الأغلب - يستمدون أمثلتهم التوضيحية لنوع المعرفة المشروع من العلوم الطبيعية. ونستطيع أن نغير طريقتهم وأن نجعل أنواع المعرفة المشروعة وغير المشروعة على السواء (كما يزعمون) علاقة على الأقل بذات الموضوع. فإن قلت «إن الناس جميعا يؤمنون بالله» أمكنك أن تختبر هذا الحكم بوسائل معايير الرأي العام. تستطيع أن تطلق الناس يسألون كل من يقابلون هذا السؤال: «هل تؤمن بالله؟» وبمجرد ما يجيب أحدهم بالنفي، فسوف يكون لديك برهان عملي على أن الحكم باطل. ولكنك إن قلت: «إن كل الناس يؤمنون حقا بالله في أعماق نفوسهم، برغم ما يقولون»، فأنت تتجاوز أي اختبار من اختبارات الرأي العام، وتتجاوز إمكان تطبيق اختبارات الوضعيين المنطقيين. وكذلك لا تستطيع أن تثبت علميا صحة هذا الحكم: «ليس هناك ملحدون في الخفاء.» وإن قلت: «إن الله موجود.» فأنت تلقي حكما يقول الوضعي المنطقي إنه لا يمكن أن يدخل في باب «المعرفة». إنما أنت تجيب إجابة ميتافيزيقية عن سؤال ميتافيزيقي، وأنت تفعل ما فعل الناس منذ الإغريق. فأنت ما زلت تحصل على إجابات لا يمكن بأية حال من الأحوال قبولها من كل إنسان - وبخاصة من أصحاب التدريب الأخصائي في الفلسفة. إن الوضعي المنطقي يميل إلى اعتبار كل التفكير الفلسفي التقليدي، ذلك النوع من التفكير الذي يدخل في ميادين كالميتافيزيقا، والأخلاق، والنظريات السياسية، بل وأكثر ما في نظرية المعرفة، وكذلك المنطق الأرسطي البحت بطبيعة الحال، مضيعة كاملة للوقت. وهناك تشبيه يحبه كثير من الناس يوازن بين الفيلسوف التقليدي والسنجاب في قفص التعذيب.
إن الوضعيين المنطقيين هم أنفسهم مفكرون تجريديون إلى حد كبير، اهتمامهم الوضعي هو أساسا الامتداد الحديث لطريقة العالم الرياضي في معالجة الأشياء التي تسمى المنطق الرمزي. وكان بعضهم من أكثرهم براءة يأمل - عندما يبلغ بالمنطق الرمزي حد الكمال - أن يصبح الاتصال بالمنطق الرمزي مفهوما كل الفهم من كل الكائنات البشرية، الذين لن يقوم بينهم بعدئذ نزاع، ما داموا لن يكابدوا الجهل وسوء التفاهم. غير أن الوضعيين المنطقيين اكتفوا في أغلب الأحيان بتجاهل هذه الأمور ذات المعايير الأخلاقية والجمالية (أعني الحكم على القيم) لأنها لديهم «بغير معنى». إنهم لم يعتقدوا في الواقع أن هناك فعلا إجابات لهذه الأمثلة بمقدار ما هنالك من أفراد على وجه الأرض، وذلك لمجرد أن هذه الأسئلة ليست لها إجابات علمية. إنهم لم يكونوا من الناحية العملية في حياتهم متشائمين في الأخلاق أو قائلين بالعدم. وإنما اكتفوا بأن يأخذوا القيم على أنها ليست مما يجدي فيها التفكير، وهي وجهة نظر يستاء منها أولئك الذين نشئوا وسط التقاليد الغربية السائدة، التي مالت إلى الإيمان بأن بعض الأحكام عن الأخلاق وموضوعات الجمال أصدق من غيرها، أو أن هذه الأحكام لها على الأقل معنى أوسع من غيرها.
ومع ذلك فما دام اللامعقول - من صورته البسيطة إلى صورته المعقدة - يؤكد الدور العظيم الذي يلعبه اللاعقل في حياة الناس، فإن هناك إغراء دائما للاعقليين بألا يروا إلا الانتصار البين للتفكير الموضوعي الذي نسميه العلوم الطبيعية. إن اللاعقلي - باعتباره وريثا للجمود العقلي الذي ساد التقاليد الغربية أمدا طويلا - يخشى ذلك النوع من التفكير الذي دافع عنه نيومان وعده من أثر القدرة على الاستنتاج. إنه يرى أن «كل» الرجال من أصحاب العقول السليمة الذين ينالون قدرا كافيا من التعليم يمكن إقناعهم بصدق فروض خاصة في الطبيعة، ويرى أن «كل» الرجال من أصحاب العقول السليمة الذين ينالون قدرا كافيا من التعليم لا يمكن قط إقناعهم بأي فرض في الأدب الإنجليزي - فيما خلا بعض الأحكام الواقعية، مثل قولنا إن شيكسبير كتب مسرحية أطلق عليها اسم «روميو وجولييت». وحتى هنا نجد أولئك الذين يعتقدون أن فرانسيس بيكون هو الذي كتب المسرحية ... ومع ذلك فإن القول بأن رأي أي فرد له قيمة رأي أي فرد آخر، وأن «وخز الإبر كالشعر» كما قال بنتام، وذلك في كل حكم من الأحكام ما عدا تلك الأحكام البسيطة التي يمكن التثبت من صحتها في الواقع، وما عدا تلك الأحكام العلمية الموحدة الثابتة - هذا القول هو ما يستاء منه أكثر الناس - حتى اللاعقليين منهم.
وقد ذكرنا من قبل مخرجا من المخارج لهم فيما أشار إليه مكيافيلي ونيتشه من أن صدق هذه الأحكام على القيم قد لا يمكن إقراره عقليا، غير أن أهميتها في الحياة الاجتماعية في ثقافة من الثقافات هي مما يمكن إقراره. إن المجتمع الذي يعتقد في قوة تأثير طقوس دينية معينة لا تحتمل البتة تعليلا علميا قد يستمد برغم ذلك قوة من مثل هذه العقيدة، ويروي باريتو مثالا لذلك قصة أولئك الملاحين الإغريق في الأزمنة القديمة الذين كانوا يقدمون القرابين لبوزيدون، إله البحر، قبل أن يشرعوا في القيام برحلة بحرية خطرة. ونحن اليوم نميل فيما يتعلى بإله البحر هذا إلى الأخذ بحكم الوضعيين المنطقيين، الذي يقول بأنه ليس بالإمكان إقامة الدليل على وجوده. غير أن باريتو يقول إنه إذا كان من الواضح أن الملاحين - بتأثير اعتقادهم أنهم على وفاق مع بوزيدون - يجدفون في حماسة، ويحتفظون بنظام أفضل، ويتماسكون تماسكا أشد وأقوى إذا ألم بهم الخطر، إذن فمن الواضح أن الإيمان ببوزيدون كان نافعا لهم، وكان صحيحا بمعنى ما.
ويمثل باريتو أفضل تمثيل اللاعقليين في القرن العشرين، وهو مهندس مدرب، ورياضي تحول أول الأمر إلى الاقتصاد ثم انصرف إلى علم الاجتماع، وبذل الجهد في بناء علم اجتماعي يمكن أن يقارن بالعلوم الطبيعية. كان باريتو رجلا إيطاليا أدى أكثر أعماله الإبداعية في سويسرا، ولكنه في سنواته الأخيرة قبل منصبا تحت موسوليني، وبسبب هذا المنصب وبسبب كثير من مبادئه التي عبر عنها في كتابه «العقل والمجتمع» وصم بالرجعية. وعد يمينيا، ووصف بأنه «كارل ماركس للبورجوازية». كان - كأكثر اللاعقليين الصرحاء - باحثا وعقليا واثقا بنفسه، وكان يرتبط ارتباطا عاطفيا بذلك النوع من المثل العليا التي بينها جون مل في كتابه «عن الحرية»، فرأى أن عالمه يبتعد فيما يظهر شيئا فشيئا عن الحرية الفردية وقبول التنوع الشديد في السلوك البشري، ويبتعد عن السلام العالمي وحرية تنقل الأفراد والأفكار. فكان من بعض النواحي متحررا (ليبراليا) زال عنه الوهم، يحاول أن يشرح لماذا فشل مبدأ التحرر، ويؤسفه هذا الفشل. وإن مجرد الاعتراف بأن مبدأ التحرر قد فشل ، والإصرار على أن وقائع الحياة لا تسير كلها طبقا لما ظن المتحرر وطبقا لما أمل، إن مجرد هذا - بالنسبة إلى المتحرر المصلح التقليدي الذي تغمره الألفاظ والعقائد - كان - بطبيعة الحال خيانة من باريتو. وكان بارتو فوق ذلك مثيرا جدا لغضب كثير من القراء، لأنه يصر في حماسة شديدة على أنه في الواقع أول شخص درس العلاقات الإنسانية بانعزال العالم الذي لا يتأثر بحرارة العاطفة، محتفظا بأحكامه على القيم خارج عمله، أو مصرا في الواقع على أنه لا يصدر أحكاما على القيم، وهو بطبيعة الحال لا يعيش على مقربة من هذه الأفكار التي باح بها. وإنك لتلمس في كل صفحة مما كتب أهواءه التي تنم عما يحب وما لا يحب، وإن اختلفت في كثير من الوجوه عن أهواء المتحرر المصلح، وأشد ما يبغض أولئك الذين أطلق عليهم اسم «دعاة الفضيلة»، أو المصلحين المتحمسين تحمسا دينيا الذين يريدون بالتشريع، والشرطة، وربما كذلك بشيء من التربية، أن يمحوا من على وجه الأرض الشذوذ الجنسي، والمشروبات الروحية، والميسر، والرذائل الأخرى الأقل من هذه.
ويصدر باريتو كتابه «العقل والمجتمع » بمقال ممل إلى حد ما ولكنه ليس البتة بعيدا عن الموضوع، عن ماهية المنهج العلمي. ويسمي هذا المنهج «التجريبي المنطقي». ويسمي الأنواع الأخرى من النشاط العقلي البشري الواعي «التجريبية اللامنطقية». وأرجو أن تلاحظوا أنه لم يكتف باستعمال لفظة «المنطقي»؛ وذلك لأنه يؤمن بأن التفكير المنطقي ليس إلا مجموعة من القواعد لاستخدام العقل بطريقة معينة، طريقة يمكن تطبيقها على مشكلات كمشكلة وجود التثليث أو «تحقيق الفكرة الكامنة» التي قال بها أرسطو، وعلى مشكلات كمشكلة التركيب الكيماوي لنوع من أنواع البروتين.
ويهتم باريتو كعالم اجتماعي أساسا بمشكلة فصل المعقول (أو التجريبي المنطقي) عن اللامعقول (أو التجريبي اللامنطقي) في أعمال الناس. وقد وجد باريتو أن في سلوكنا الاجتماعي جزءا يعبر عن ميول خاصة سماها «الرواسب»، وجزء آخر يعبر عن ميول أخرى سماها «الاشتقاق». ويلاحظ أن الرواسب والاشتقاق كليهما ليست عند باريتو دوافع أو بواعث أو شهوات أو لبيدو (طاقة حيوية) أو أي شيء مما يحاول السيكولوجي أن يحلله في السلوك البشري ويعده نوعا من أنواع الدوافع الحيوانية الخفية إلى العمل. إن باريتو يريد أن يفترض هذا الدافع، ويترك دراسته للسيكولوجي. أما ما يهمه كعالم اجتماعي فهو العمل الذي يعبر عنه باللفظ، والطقوس، والرموز، من أي نوع من الأنواع؛ فشراء الجوارب الصوفية للوقاية من الجو البارد - مثلا - هو من هذا النوع من أنواع العمل. فإذا كانت تشترى قصدا للحصول على صنف جيد بثمن يقدر عليه الشاري، فذلك أمر معقول، أو عمل تجريبي منطقي يسير مع مصلحة الفاعل. أما إذا اشتراها بغض النظر عن الثمن عاشق عاطفي لبلاد الإنجليز يشتري الجوارب الإنجليزية المستوردة كي يقوم بعمل يساعد به هذه البلاد، فلا بد إذن أن يكون هناك أمر آخر، شيء يهمله رجل الاقتصاد فيما يجمع من إحصاءات عن الأثمان، يدخل في العملية. وهذا الشيء الآخر هو مادة ما قام به باريتو من دراسة.
إن ذلك الجانب من العمل الذي قام به الملاحون الإغريق الذين أشرنا إليهم عندما قدموا لبوزيدون القرابين، ذلك الجانب الذي رأى في بوزيدون حاكم البحار، وصانع الزوابع ومهدئها، هذا الجانب هو عند باريتو «اشتقاق»؛ أي نظرية أو تفسير، منطقي عادة في شكله، ولكنه «لا تجريبي لا منطقي»، ولا يحتمل إثبات الصدق بوسائل العلوم الطبيعية. إن «الاشتقاق» أقرب إلى ما سماه بيكون بالأوثان (أو الأوهام)، وبما نعرفه اليوم ب «التبرير العقلي». ولكن باريتو يكسبها وصفا أعقد وأكثر فائدة مما فعل بيكون. والحق أن تحليله - بالنسبة إلى أغراض علماء المعاني - من أفضل التحاليل لأشيع الطرق التي اتخذها العقل البشري للعمل في ميدان النظريات الاجتماعية والخلقية. والأمر واضح في ذهنه، إن هذا «الاشتقاق» ضئيل الأثر في السلوك العام للناس في المجتمع، ضئيل الأثر في التغير الاجتماعي، وما أسميناه في هذا الكتاب «نظرات كونية» يعده باريتو في الأغلب نسيجا من أنسجة الاشتقاق. وكان يرى أنه عديم الأثر أو قليل الأثر في سلوك أصحاب هذه النظرات. ومع ذلك فقد كان باريتو في حياته الوجدانية عاجزا بشكل واضح عن أن يعد هذه النظرات الكونية سواء، ليس منها ما يفضل غيره، أو ما يقل عنه شأنا؛ فكان يكره الاشتراكية كما كان يكره مسيحية العصور الوسطى. وكان هو نفسه يمثل بورجوازية القرن التاسع عشر أفضل تمثيل.
أما ما يحرك الناس في المجتمع، ويجعل بينهم تماسكا في المجتمع، فهو «الرواسب» كما يقول باريتو. وهذه الرواسب ليس فيها إلا النزر اليسير من المعقول، وإن تكن مصوغة عادة في شكل منطقي. وهي تعبير عن عواطف كامنة في الناس، ثابتة نسبيا، تعبير لا بد عادة من فصله عن الجزء الذي يقع فعلا في دائرة الاشتقاق، الذي قد يتغير كثيرا وبسرعة. ولنعد إلى مثال الملاحين الإغريق الملحدين، ونوازن بينهم وبين مجموعة من الملاحين الإغريق المسيحيين بعد ذلك ببضعة قرون، يصلون، ويوقدون الشموع، ويقدمون النذور لمريم العذراء قبل إبحارهم. إن الاشتقاق هو تفسير ما يفعله بوزيدون والعذراء على التوالي، ويختلف الاشتقاق الأول عن الاشتقاق الثاني. ويعتقد المؤمن بالعذراء أن أسلافه الملحدين كانوا على خطأ أكيد. أما الرواسب فهي الحاجة إلى الحصول على المعونة السماوية والطمأنينة المقدسة في عمل شاق، وأداء طقوس معينة تؤكد لمن يؤديها هذه المعونة وتلك الطمأنينة؛ فالرواسب تكاد تكون هي بعينها عند المجموعتين من الملاحين. الوثنيون منهم والمسيحيون على السواء لديهم نفس الحاجات الاجتماعية والسيكولوجية، وهم يشبعونها بطرق شديدة التشابه، وإن اختلف تفسير ما يعملون اختلافا شديدا من الناحية الفكرية (أو العقلية).
وآراء باريتو التي تتعلق بالرواسب أكثر أصالة من آرائه في الاشتقاق، وأشق في تفسيرها. وتصنيفه الفعلي للرواسب والتحليل المفصل للطريقة التي تؤثر بها في المجتمع الإنساني لا تبلغ قط ما بلغه الاشتقاق من الجودة. غير أن هناك نوعين أساسيين من أنواع الرواسب التي يميزها يبرزان في وضوح، ويعاونان على تشكيل ما لا بد أن نسميه فلسفته للتاريخ، ونظرته الكونية الصادقة وإن تكن محدودة - وذلك بالرغم من أن هذه الفلسفة لا تجريبية لا منطقية. وهذان هما أولا رواسب «الكليات الثابتة»، ويعني بها الميول التي يتميز بها الرجال الذين يحبون الطرق النظامية، والمرانة الثابتة، والعادة والتقاليد، الرجال الذين يشبهون الإسبرطيين، أو الأسود. وثانيا رواسب «غريزة المجموعات»، ويعني بها الميول التي يتميز بها الرجال الذين يحبون الجديد والمغامرة، الذين يبتكرون الوسائل الجديدة لأداء الأعمال، الذين يميلون إلى التحلل من القديم، المجربين، الذين لا يصدمون بسهولة، الذين يمقتون النظام، كالأثينيين، أو الثعالب. غير أن الناس كأفراد يتميزون بكل أنواع الخلط بين هذين النوعين وغيرهما من الرواسب (وهي عند باريتو في المرتبة الثانية)، وهو خلط في غاية التناقض من الناحية المنطقية. ولكن الناس في المجتمعات التي تضم أفرادا عديدين، أولئك الناس الذين يتأثرون إلى حد كبير بأحد هذين الاتجاهين الأساسيين من اتجاهات الرواسب، هم الذين يميلون إلى فرض اتجاههم، وهم الذين يميزون مجتمعهم، وقد كان باريتو - كأكثر فلاسفة التاريخ - أبعد ما يكون عن الوضوح في بيان كيفية تحول مجتمع محافظ تسوده رواسب «الكليات الثابتة» إلى نوع آخر من المجتمعات. غير أن من المؤكد أنه كانت لديه فكرة عن صورة ذهنية عن ذبذبة البندول، أو اختلاف الدقات، صورة ذهنية عن الصراع بين «الفكرة» و«ضدها»، وإن تكن هذه الموازنة ربما أغضبت باريتو.
كان القرن التاسع عشر في الغرب في ذهن باريتو مجتمعا ربما لعبت فيه رواسب «غريزة المجموعات» أكبر دور تستطيع أن تلعبه في أي مجتمع بشري. كان القرن التاسع عشر قرن منافسة بين الأفراد الممتلئين بالأفكار الجديدة، والابتكارات، والمشروعات، المقتنعين بأن الوسائل القديمة سيئة، وأن الجدة هي أعظم ما يكافح من أجله الإنسان على حساب أي شيء آخر. كان مجتمعا لا يخضع للاتزان بشكل واضح، وكان لا بد له من الاتجاه نحو النوع الآخر من الرواسب، نحو «الكليات الثابتة»، نحو مجتمع تتوافر فيه زيادة في الضمان ونقص في التنافس، وزيادة في النظام ونقص في الحريات، وزيادة في التوحيد ونقص في التنوع. كان لا بد له من السير في الطريق الذي نسلكه في القرن العشرين.
والرأي الأخير عند باريتو هو هذا التوازن في المجتمع، التوازن الذي يختل على الدوام على الأقل في المجتمع الغربي ، ولكنه يتجدد على الدوام بنوع من «العلاج الطبيعي» الذي لا يستطيع أن يبطل فعله أي طبيب اجتماعي أو مخطط للمجتمع. غير أن باريتو لا يستبعد كلية إمكان استطاعة الكائنات البشرية بالتفكير تعديل الأوضاع الاجتماعية في بعض الأمور الهينة هنا وهناك، بطريقة تجعل ما يخططونه يتحول إلى واقع. بيد أن الفكرة التي أصر على تأكيدها في كتابه هي أن التغير في السلوك البشري إجمالا في شئون الناس يجب أن يتميز عن التغير في أفكار الناس وفي مثلهم. ولما كان الإنسان كما نعرفه، ولما كانت رواسب «غريزة المجموعات» في ثقافتنا الغربية واسعة الانتشار، فلا مناص من حدوث التعديل في كثير من ميادين الاهتمامات البشرية. إن الطراز الجديد وكل ما يترتب عليه في شئون التجارة يمكن أن يقال عنه إنه تغير من أجل التغير. غير أن باريتو كان يرى أن هناك أيضا مستوى من السلوك البشري التغير فيه بطيء حقا. يكاد يبلغ في بطئه ذلك التغير الذي يدرسه علماء الجيولوجيا وعلماء التطور وهذا التغير أهم في الإشارة إليه عند باريتو لمجرد أن المصلحين، أو المتحررين أو «دعاة الفضيلة»، أو المخططين المتفائلين لا يرونه.
إن مستوى السلوك البشري الذي يحدث التغير فيه ببطء شديد في الواقع هو مستوى «الرواسب». ولا يستطيع الزعيم السياسي الماهر - على أحسن تقدير في رأي باريتو - إلا أن يعالج الاشتقاق بطريقة تجعل بعض الرواسب غير فعالة، وتنشط بعضها الآخر. إنه لا يستطيع أن يستحدث رواسب جديدة أو أن يهدم رواسب قديمة، وهو لا يجعل التفتيش الحكومي على اللحم - على سبيل المثال - فعالا بمجرد مناشدته الناس إحساسهم بالمسئولية المدنية، أو بمجرد الحجة العقلية من النوع الذي عرفه القرن التاسع عشر، وإنما كذلك بالدعاية، وبالعمل الأدبي الذي يشبه «الغابة» لمؤلفه أبتون سنكلير، وبأن يجعل أكبر عدد ممكن من الناس «يشعر بالخوف» من أنه سوف يأكل لحما قذرا لم يخضع للتفتيش، ويموت 663 من تسمم الطعام ما لم تقم الحكومة بالتفتيش. ومن الواضح أن أولئك الذين يوجهون الإعلان في أمريكا هم من أتباع باريتو وإن لم يعرفوا ذلك.
إن الزعيم العاقل كما يراه باريتو لا بد له من أن يقرأ حكمة بيكون الشهيرة التي يقول فيها: «إنك لا تسيطر على الطبيعة إلا إذا أطعتها.» وفهم منها «أن الإنسان لا يسيطر على الطبيعة (البشرية) إلا إذا أطاعها» - أو على الأقل وضعها في اعتباره؛ فلا ينبغي لنا أن نتوقع من الكائنات البشرية أن تكون غير محبة لذاتها، عاقلة، مكرسة ذواتها للصالح العام، رفيقة، حكيمة. ولا ينبغي لنا - فوق كل ذلك - أن نتوقع أننا نستطيع بأي نظام من النظم، أو بأي معاهدة أو ميثاق، أن نجعلهم كذلك. غير أن باريتو يتجاوز هذه النظرة قليلا، فهو يقول إن التخطيط خطر، إلا إن كان من أجل غايات محدودة ومحسوسة دائما. إن باريتو الذي يبدأ من علوم الرياضة والهندسة، وبعداوة حقيقية للمسيحية، يقترب جدا في هذا الموضوع المعين من بيرك المسيحي؛ فهو يرى أن التغير الضخم الطموح المشرع لا يحتمل فقط ألا يحقق النتائج التي خطط لها المخططون، وإنما يحتمل أن يؤدي إلى نتائج لا يمكن التنبؤ بها وربما كانت منحوسة. وربما كان باريتو ينعم النظر في مصير المادة الثامنة عشرة من قانون الإصلاح، فهي لم تؤد إلى الامتناع عن تعاطي الخمور في الولايات المتحدة، بل عاونت على إظهار عادات أحدث في الشراب غير مرغوب فيها، من نواح عدة - فعاونت مثلا على أن تجعل المشروبات الروحية شرابا محترما عند النساء من الطبقة الوسطى. وحتى تزداد معرفتنا بالعلوم الاجتماعية أرى أن أفضل ما نعمله هو أن نركن إلى ما يصمه العقلي الناشئ في شيء من التعالي بالجانب «اللاعقلي» في الطبيعة البشرية. ويجب أن نعتقد أن العادات المتأصلة في الجنس البشري، حتى لو كان ذلك بمعايير التطور، هي أنفع للبقاء من منطق المصلحين الذي ليس في موضعه.
إن جانبا كبيرا من اللامعقول الحديث ينتشر في الواقع انتشارا واسعا في الثقافة الغربية، وبالرغم من أنه قد لا يكون مستساغا للذوق الديمقراطي المتفائل. وحتى «علوم المعاني» قد امتدت إلى الوعي العام، وامتدت بالتأكيد إلى صور يشق على كورزبسكي نفسه أن يتعرف إليها. وقد سمعنا جميعا عن التبرير، والدعاية، وعما في اللغة من غموض وعجز. ويطرق سمعنا كل يوم أننا لكي ننجح في هذه الحياة لا بد لنا من التدرب على المهارة في معاملة الناس، ويجب أن نكتسب الأصدقاء عمدا، ونؤثر في الناس بحيل غير حيلة المنطق. ويعلم خبراء الدعاية أن أحد العوامل التي لا بد لهم من أن يحسبوا حسابها وعي الجمهور وعدم ثقته بالدعاية، وهو ما يعبر عنه الفرنسيون بقوة - وفي شيء من التشاؤم المر - بعبارة «حشو المخ».
لقد نشأنا في صراحة معادين لمشكلة العلاقة بين اللامعقول وتقاليدنا الديمقراطية، وطريقة معيشتنا، ونظرتنا إلى الكون. إن الديمقراطية كما تم نضجها في القرن الثامن عشر عقدت الأمل على التغير السريع الشامل نحو السعادة العالمية في هذه الدنيا التي تتحقق بتعليم الناس أجمعين على استخدام قواهم المفكرة الطبيعية - أو على الأقل بتخويل السلطة لجماعة مستنيرة من المخططين السياسيين الذين يستطيعون أن يبتكروا النظم التي تتحقق فيها السعادة للناس أجمعين، وأن يديروا هذه النظم. وينادي اللامعقول إزاء هذه المعتقدات الديمقراطية بالإيمان بأن الناس لا يهتدون بعقولهم، تحت أفضل نظام من نظم التعليم، ولا يمكن أن يهتدوا، وأن البواعث، والعادات، وأفعال الشرط المنعكسة التي ترشدهم في أكثر الأحيان لا يمكن أن تتغير بسرعة، وأن في طبيعة الإنسان - باختصار - شيئا يجعلهم يسلكون في المستقبل القريب سلوكا لا يختلف كثيرا عن طريقة سلوكهم بها في الماضي، وأن هذا الشيء سوف يستمر معهم. ويظهر أن هاتين المجموعتين من المعتقدات، المجموعة الديمقراطية، ومجموعة اللامعقول، لا يتفقان بالطبيعة. وكثير من الهجمات اليسارية واليمينية التي تعرضنا لها في الفصل السابق تبدو بالمقارنة أقرب نسبيا إلى الديمقراطية، وأقرب إلى أن تكون امتدادا أو تعديلا لها. غير أن موقف باريتو - مثلا - يبدو في كثير من الأحيان نقيضا متطرفا كما يبدو موقف ميستر، ولا يجدينا - مثله - اليوم كثيرا.
ومع ذلك فإن جراهام والاس كما ذكرنا كان يعطف على ما نسميه الديمقراطية، وسار مع اللاعقليين بعض الطريق. كما أن أحد المدافعين بحرارة عن جميع أنواع القضايا الديمقراطية - وهو ستيوارت تشيس - قد تأثر كثيرا باللامعقول. وكذلك اضطر كل الباحثين في العلوم الاجتماعية في ثقافتنا - إذا استثنينا أشدهم لينا وأكثرهم مثالية - إلى التراجع عن تعقل القرن الثامن عشر، والأخذ عن حركة اللامعقول. ويشق على أكثرنا أن يقرأ ما كتب باريتو - وميكافيلي، وبيكون، ولاروشفوكو، وغيرهم من «الواقعيين» - في الطبيعة البشرية والشئون الإنسانية - دون أن نحس أن كثيرا مما يقولون صادق جدا.
وهنا نعود - بطبيعة الحال - إلى التباين الأبدي، إلى التوتر الأبدي، الذي كان قويا جدا في الثقافة الغربية، بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الواقعي والمثالي، بين العملي والمطلوب. إن اللاعقليين يشدون الديمقراطية نحو الطرف الأول من كل زوج من هذه الأزواج. ومع ذلك فإن تأكيد وقائع الحياة، و«الحقيقة المحددة» لا يعني بالضرورة أن تأخذ بالنتيجة التي تقول إن التحسن في الظروف الواقعية ليس ممكنا. والحق أن الواقعيين في التقاليد الغربية (الواقعيين بالمعنى الحديث، الذي يختلف اختلافا يريك العقل عن معنى «الواقعية» في العصور الوسطى كما عرفناها في الفصل السادس عند الكلام عن العلوم الدينية والفلسفة في العصور الوسطى) كانوا مصلحين أخلاقيين، بل ومتفائلين، أكثر مما كانت تلك الفئة اليائسة من طبيعة الإنسان. وهم قلما يسعدهم ذكر الظروف السيئة التي يصرون على وجودها، وعلى واقعيتها؛ فالواقعي والمثالي ليسا - كما كررنا القول في هذا الكتاب - خصمين بالطبيعة إنما هما مترابطان. ولا يكون أحدهما خطرا على المجتمع إلا عندما ينفصلان ويتجه كل منهما وجهته في تجاهل للعنصر الآخر. ومن المشكلات الكبرى التي نواجهها اليوم تساؤلنا عما إذا كان من الممكن للديمقراطيين المخلصين أن يقبلوا الواقع، الذي يلفت اللاعقليون أنظارهم إليه دون أن يفقدوا إيمانهم بإمكان تحسين هذا الواقع.
الفصل الخامس عشر
منتصف القرن العشرين: عمل لم يتم
لقد عالجت حتى الآن تاريخ الفكر في الغرب دون أن أذكر إلا عرضا شيئا عن أية ثقافة أخرى، وذلك عن قصد وعمد. وركزت البحث في اتجاهات الناس في الغرب، رجالا ونساء، إزاء «المشكلات الكبرى»، وإزاء النظرات الكونية. والواقع أن الغرب - على وجه الإجمال - لم يتأثر كثيرا بالنظرات الكونية، أو حتى بالأفكار الخلقية والجمالية السائدة في الثقافات الأخرى. ولا جدال في أن جانبا كبيرا من الشكل الأول من أشكال الثقافة الغربية التي درسناها هنا، وأقصد الشكل الإغريقي، قد نشأ عن ثقافات منطقة شرقي البحر المتوسط في ألوف السنين التي سبقت هومر وأهل أيونيا. غير أن هذه الثقافات الأولى ليست في كثير من الأمور سوى السلف لثقافتنا الغربية. ومهما يكن من أمر فإنها - باستثناء الثقافة العبرية وغيرها من عناصر الشرق الأدنى في المسيحية - قد فعلت فعلها في الأغلب قبل ظهور الثقافة الإغريقية العظمى.
إن الدراسة المفصلة للثقافة الغربية لا بد لها - بطبيعة الحال - من أن تأخذ في الاعتبار أنواعا كثيرة من الاتصال بالثقافات الأخرى، وبخاصة في الهند والصين، وأن تلاحظ كثيرا من الأمور كان ميراثنا فيها يختلف عما آل إليه لو أن هذه الاتصالات لم تحدث؛ فهناك أولا تبادل السلع المادية المعروف، ذلك التبادل الذي يستطيع حتى من يتعرض لما قبل التاريخ أن يجد له آثارا في البقايا الأركيولوجية. كان الغرب في العادة يميل ميلا شديدا إلى قبول السلع الغريبة، وأن يجرب الأطعمة الغريبة الحارة. وليس الرجل الغربي بذلك المخلص المتفاني في الجديد، أو المبتكر، والخبرة الجديدة كما بدا للتقدميين في القرن التاسع عشر، بالرغم من أن المغرمين بالجديد موجودون دائما حتى في ثقافتنا، غير أن أية لغة غربية حديثة فيها - برغم ذلك - آثار من الاقتباس من كل صقع من أصقاع العالم: مثل السكر، والكحول، والكاري، والطماطم، والتبغ، والبيجاما، والكاوتاو، والبنجالا، وغيرها من الألفاظ الغربية المستعارة من اللغات الأخرى.
وكان من بين هذه الاستعارات أحيانا المخترعات والأفكار. وقد ذكرنا مثالا نموذجيا لهذا النوع من التأثير الخارجي في الثقافة الغربية في رمز الصفر، الهندي الأصل والذي استعرناه عن طريق العرب. وهذه الاستعارة وكثير غيرها لها أهمية قصوى، ولولا بعضها على الأقل لما كانت ثقافتنا الغربية على ما هي اليوم. وقد أعجب العقليون في القرن الثامن عشر بالصينيين كثيرا في الواقع، وسوف نرى أنهم استخدموا - إلى حد ما على الأقل - الصينيين الكنفوشيين الحكماء عصيا يضربون بها خصومهم المسيحيين. وكذلك أدخلوا الفن الصيني في الفن الغربي - مثل الطراز الصيني في أثاث «الصالونات» على سبيل المثال. كما أن شيوع طراز الشينوازري (الطراز الصيني) هو بداية ذلك الخلط الحديث الذي قد ينشأ عنه طراز آخر مستقلا بنفسه. كما أن الفيزيوقراطيين الفرنسيين (الذين ينادون بالحكم وفقا للنظام الطبيعي) قد تأثروا كثيرا بأهل الصين.
وبمكتشفات القرن الخامس عشر وبداية التوسع الأوروبي بدأت دراسة البلاد والشعوب غير الأوروبية من جميع الأنواع تأخذ حيزا كبيرا في المعرفة الغربية. غير أن نمو أكثر العلوم الرسمية كان بطيئا جدا في هذه القرون الأولى؛ فالأنثروبولوجيا في أصلها علم يرجع إلى القرن التاسع عشر، وحتى دراسة اللغويات المقارنة، والدراسة الجادة للهند والصين، ترجع إلى ما بعد حركة التنوير. وما إن حل القرن التاسع عشر حقا - برغم هذا - حتى شاعت بين الباحثين والدارسين الدراسة الدقيقة لكل أوجه الثقافة عند الشعب التي لا تدخل في دائرة التقاليد الغربية، وقد نشرت الصحافة الشعبية، والكتب، ومنصات المحاضرة بين الملايين العديدين من الغربيين شيئا من المعرفة على الأقل عن الشعوب الأخرى. بيد أن هذه المعرفة لم تكن البتة واسعة أو عميقة. وربما كان قليل من الغربيين من يعتقد حقا أنه يمكن أن يتعلم شيئا ما من عبدة الأوثان. وقد لا يكون الرجل البريطاني أو الفرنسي الذي يمثل شعبه تمثيلا صادقا «مرتبطا بثقافته»، أو معجبا بنفسه في تقديره للغرب، كما زعم رجال الفكر الذين أرادوا لنا أن نكون فعلا عالميين، وفعلا إنسانيين، نستوعب خير ما في العالم كله. ومع ذلك فإن الاقتباس الذي يجري على الألسنة نقلا عن تنيسون يمكن أن يعد مثالا طيبا للقيمة التي نسبها الغرب في القرن التاسع عشر للشرق، وذلك قوله: «إن خمسين عاما في أوروبا أفضل من عصر مديد في الصين.»
وهناك وجه آخر من أوجه تبادل العلاقات الثقافية يظهر على أوضح صورة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر. وذلك هو استخدام نتف المعلومات - وهي في الواقع معلومات خاطئة في أكثر الأحيان - عن ثقافة من الثقافات لدفع سياسة يريد المرء أن يحض عليها في ثقافته؛ فكان «فلاسفة» القرن الثامن عشر يخترعون أسماء فارسية، وصينية، وهندوسية، ومن سكان الجزر الجنوبية، من الحكماء، الذين يتصلون بالثقافة الأوروبية فيعرضون حكمتهم للنقد الأوروبي. والمشكلة هي أن كل هؤلاء الرجال الصفر والسود والسمر والحمر، الذين يؤثرون بحكمتهم الوطنية المفترضة في المشكلات الأوروبية، هم في الواقع من «الفلاسفة» الأوروبيين، ولهم نفس الأفكار عن الحق والباطل، والجميل والقبيح، والعقل والخرافة، والطبيعة والعرف، التي يراها المستنيرون الآخرون. وليس هؤلاء الرجال غير الأوروبيين سوى أشخاص خيالية، رجال وهميين، يستخدمون عصيا لضرب شيء غربي، ولا يدل ذكرهم البتة على أننا - نحن الغربيين - قد تعلمنا فعلا على المستويات الخلقية والميتافيزيقية العليا شيئا من الشعوب الأخرى. وبتقدم علوم كعلوم الجغرافيا والأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر استحال الاستمرار في هذه الحيلة الساذجة بنفس الطريقة؛ فقد عرف عن الشعوب البدائية الكثير. ولا تزال حيلة يلجأ إليها - وإن يكن بطريقة أمهر كثيرا - كما يدل على ذلك «الزوني» المتعاونون في هدوء كما ورد في كتاب «أنماط الثقافة» لمؤلفته روث بنيدكت، وكما يدل عليه أيضا العذارى المتعففات في كتاب «ساموا تبلغ سن الرشد» لمؤلفته مرغريت ميد.
ونعود إلى موضوعنا فنقول إن من العسير الشاق أن نهتم اهتماما شديدا بثقافات أخرى غير ثقافة الغرب، وبالأخص من وجهة نظر مؤرخ مجموعات الأفكار التي تتعلق بالمشكلات الكبرى التي سادت بلاد الغرب حتى الآن. وليس في هذا القول تعصب إقليمي أو ميل إلى الشر، إنما هو مجرد اعتراف بالواقع. وفي الحق أن طبيعة المؤثرات الهامشية أو الطائفية - على هذا المستوى - التي ترد من خارج الغرب، تتضح من مصير الجماعات الحديثة الصغيرة التي تتجه نحو حكمة الشرق، من البهائية أو من نوع فلسفة مدام بلافاتسكي الدينية إلى إعجاب المتعلمين بحكمة كونفشيوس وبوذا. إن هذه المذاهب المستوردة تخرج كلها عن التيار الأساسي للفكر والشعور الغربي، مهما تحول إليها من أفراد في صدق وحماسة .
ومن المحتمل أن يتغير موقف الغرب من هذا الاكتفاء الذاتي الروحاني وأن تنشأ في القرن المقبل أو ما إلى ذلك في الغرب بل وفي العالم كله، ديانة عظمى توفق بين جميع اتجاهات وفلسفة موحدة تنصب فيها حكمة الشرق الطويلة. وربما كان كتاب الأستاذ نورثروب الحديث «التقاء الشرق بالغرب» منبئا بهذا الحدث ودليلا على وقوعه. وقد يتوحد العالم روحانيا فيمسي بالإمكان توحيده ماديا. وقد اتضح فعلا أن عددا كبيرا من رجال الغرب ونسائه لا بد بطريقة ما أن يتعودوا فهم ثقافات الشعوب غير الغربية، حتى إن كان مثل هذا الفهم لا ينتهي بالتحول التام إلى هذه الثقافات. ولكنا في شك مما يقع في المستقبل البعيد، ومما يحدث في النظرات الكونية الكبرى في القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين، ولا ينبغي أن يبعد عن ذهنه حتى أقوى العالميين عقلا إمكان تحول بقية العالم في الأجيال القليلة القادمة على الأقل إلى الحاجات المادية الغربية، وأن يتغلب فورد، وتكييف الجو، والأفلام الهزلية، على كونفشيوس وبوذا.
خلاصة
ما هي النغمات السائدة، أو الصفات، أو المميزات، التي يمكن أن يقال إنها من خصائص الثقافة الغربية منذ الإغريق القدماء؟ من الواضح أنه لا يوجد شيء ما - عند هذا المستوى العالي من التجريد - يمكن أن يقنع ذلك النوع من العقل الذي يرفض قبول صحة تشبيهنا بألوان الطيف أو بالخط البياني للتوزيع العادي في أي أمر من الأمور، ومن المحتمل أنك تستطيع أن تشير في وقت ما خلال هذه السنوات الثلاثة الآلاف التي مضت إلى رجل غربي واحد على الأقل في كل لون ممكن تقريبا من ألوان الخبرات البشرية، ولكن ليس هناك حتى الاتفاق على استمرار الثقافة الغربية. إن رجلا مثل شبنجلر يعتقد أن ما عالجناه في هذا الكتاب على أنه تيار واحد مستمر هو في الواقع ثلاثة تيارات، لا يتصل أحدها بالآخرين بأية وسيلة من الوسائل - تيار أبولو، أو الإغريقي الروماني، والتيار المجوسي أو العربي، والتيار الفاوستي أو الأوروبي، دام كل منها ألف عام تقريبا. وحتى لو كان من رأيك أن شبنجلر رجل ألماني مبالغ في روحانيته، فلا تنس أن هناك كثيرين، من عشاق العصور الوسطى وكارهيها على السواء، يعتقدون أن ثقافة العصور الوسطى هي النقيض - بالمعنى العام لا بالمعنى الهيجلي - لثقافتنا في العصر الحديث.
ومع ذلك فإنه من الممكن أن نصدر أحكاما عامة معينة كبرى عن الجو الثقافي في الغرب، فيجب أن نذكر أولا أن العلوم الطبيعية لم تزدهر في أية ثقافة أخرى ازدهارها في ثقافة الغرب. نعم إن كثيرا من الثقافات الأخرى مارسوا تدريجا دراسة العلوم بنجاح عظيم؛ فالعلم في كثير من الوجوه هو أكثر المجهودات البشرية نجاحا في تحطيم حدود الجماعات الخاصة التي تعيش على رقعة معينة من الأرض، أو حدود الدول التي تقوم على أساس قومي، وهي في هذا أكثر نجاحا من التجارة ومن الدين. غير أن العلم في صورته الحديثة يحمل في وضوح طابع الغرب الذي تقدم فيه. وما كان له أن يتقدم إلا في الجو الغربي، جو التوتر بين الواقع والمثالي، بين هذا العالم والعالم الآخر. ذلك أن الاستغراق الكامل للعقل - على الأقل - في عالم آخر ، والإخلاص الكامل للمنطق الباطني، يجعل العلم أمرا مستحيلا. وكذلك الحال في اشتغال العقل الكامل بالدنيا كما هي، والنظر الثاقب في المشكلات الدنيوية المحسوسة، بغير طريقة نظامية، فإن العلم لا يحتاج فقط إلى الاهتمام بالأمور المادية، وإنما هو يحتاج كذلك إلى جهاز عقلي ليضع ترتيب الأمور التي نسميها العلم البالغة في التعقيد. وهو يحتاج - فوق كل شيء - إلى تدريب طويل في استخدام العقل كما أتاحه لنا الإغريق، وإلى فلسفة العصور الوسطى وعلومها الدينية التي يحب الوضعيون المنطقيون أن يحطوا من شأنها في سذاجة تامة.
بيد أن العلوم الطبيعية التي أصررنا عليها لا تمدنا وحدها بنظرة كونية شاملة. إنها تنسجم أو تتفق والنظرات الكونية الغربية الحديثة. وهي لا تنسجم إلى هذا الحد مع النظرات الكونية الأخرى؛ فإن كنت على سبيل المثال متصوفا شرقيا ترى أن الجسم ليس إلا وهما كاملا، فليس من شك في أنك بحاجة إلى أن تغذي هذا الوهم بحد أدنى من الطعام والشراب (وهما أيضا من الأوهام)، ولكنك لا تجعل من نفسك خبيرا في الفسيولوجيا البشرية. غير أنك لا تستطيع مع ذلك أن تظفر من العلم بجواب عن هذا السؤال: هل الجسم البشري وهم الأوهام (وهو سؤال ليس له معنى في التعبير العلمي)، ولن تستطيع أن تظفر حتى بالإجابة عن هذا السؤال: هل من الأفضل أن نعد الجسم البشري شيئا واقعيا - كما يعده أكثرنا في الغرب - أو أن نعده وهما (وهذا أيضا سؤال لا معنى له في العلم). إن متابعة المعرفة العلمية - في كلمة موجزة - قد تكون «جزءا» من قيمنا الغربية، ولكنها لا يمكن أن «تخلق» قيمنا الغربية.
لنوضح ذلك بمثال محسوس. إن ذلك الفرع من فروع البيولوجيا الذي يدرس الوراثة والتناسل قد يزيد من قدرته على السيطرة على مادته إن سار على السوابق. وقد تقدم بالفعل تقدما كافيا يمكننا من أن نتعلم من الأخصائيين في التناسل كثيرا من الاحتمالات البيولوجية في السلالات وفي توليد الكائنات البشرية كذلك. ومن الممكن كذلك أن نتعلم من العلوم الاجتماعية التي لا تزال في طفولتها، والتي كثيرا ما تنكر عليها مكانة العلوم، شيئا - برغم هذا - عن طريقة إغراء الناس بقبول توصيات عالم البيولوجيا، وشيئا عن أنواع الجماعات الاجتماعية التي يمكن توليدها إذا نشأنا أنواعا معينة من الكائنات البشرية، وشيئا عن كثير غير ذلك من المشكلات المتصلة بالموضوع. والواقع أن كمية الجهل في كل هذه الميادين ضخمة جدا، وبخاصة عندما تلتقي؛ فنحن لا نعرف مثلا ما هي العلاقة بين أشكال الجسم البشري والشخصية الإنسانية. ومع ذلك فلنفرض أننا نعرف - أو نستطيع أن نعرف - ما يكفي لتوليد الكائنات البشرية.
فأي نوع نولد؟ هل نتخصص في مثل هذه الأنواع: الفنانين، ولاعبي كرة القدم، والمديرين، والبائعين، والسلسلة المتدرجة من أصحاب الذكاء من المتقدمين المفكرين إلى المتأخرين أو الطبقات العاملة الوضيعة كما وصفها أولدس هكسلي في «عالم الطريف» المتجهم؟ أم هل نحاول أن نولد الرجل المتكامل الذي يستطيع أن يستخدم يده وعقله في أي أمر من الأمور؟ أم هل نحاول أن نهمل الجسم في التربية - ما دمنا ننظر بعيدا إلى الأمام - أو على الأقل ننزل به إلى الحد الأدنى، كما فعل برناردشو في مسرحيته «عود إلى متوشالح» وبذلك نعود إلى الأفلاطونيين ونناقض أنفسنا؟ إن العلم لا يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة. والعقل البشري - على الأقل بالمعنى البسيط القديم، أعني العقل المنطقي المفكر - لا يجيب في الواقع عن هذه الأسئلة وإنما يجاب عنها بما نسميه بالإرادة البشرية، وما برحت أفضل تسمية، أو بقوة الشخصية كلها. ويجاب عنها في الواقع - في الديمقراطية - بما لا ضرر من تسميته بالإرادة العامة، بنوع من أنواع الملاءمة العامة بين الجماعات المتنافسة في غير تباغض، الجماعات التي تسعى إلى غايات متنوعة، وإن لم تكن مختلفة تمام الاختلاف. والقادة، أو الأرستقراطية، أو الصفوة، أو الطبقات الحاكمة في تقاليد الغرب تفعل الكثير لتشكيل هذه الغايات، ولحث الجماهير على قبولها. ولكنهم لا يصنعون هذه الغايات، أو الأهداف، أو القيم، بكاملها - لا يصنعونها على الأقل في النظرة الغربية التقليدية.
ذلك لأن أول حكم من الأحكام العامة التي نستطيع أن نصدرها فيما يتعلق بالفكر الغربي اللاتراكمي هو أن هذا الفكر ينم منذ الإغريق والمسيحيين في العصور الوسطى حتى المستنيرين بالأمس واليوم عن عقيدة بأن إحساس الناس بالقيم إن هو إلا نوع من الإدراك الغامض لتنظيم العالم، وهو تنظيم قد لا يظهر لغير المفكرين، وقد لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية، ولا يتضح كله لأفضل الناس وأحكمهم، ولكنه «تنظيم» على كل حال، وليس حالة من حالات الفوضى. وإن أوضح إشارة عامة - خلال القرون الماضية - إلى هذا الإحساس هي وجود اصطلاح «القانون الطبيعي»، وهو تعبير من المؤكد أنه لم يعن نفس الشيء تماما بالنسبة إلى الرواقي، أو المدرسي، أو فيلسوف القرن الثامن عشر، ولكنه كان يعني لثلاثتهم جميعا إيمانا بالوجود الفعلي للأشياء التي يعقدون عليها الأمل. ونستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن فكرة «القانون الطبيعي» في حد ذاتها تعني أن المؤمنين بها يعتقدون أن الفجوة بين الواقعي والمثالي، بين ما لدينا وما نريد، ليست هوة، وليست في الواقع فجوة «وإنما هي علاقة». وفي «الرسالة إلى العبريين» تلخيص لهذا الرأي في هذه العبارة: «ليس لدينا هنا مدينة دائمة، ولكنا نبحث عنها في المستقبل.»
والحكم الثاني، هو أن هناك - طوال تاريخ الفكر في الغرب . شعورا بما يسمى عادة ب «كرامة الإنسان». وقد تنوع المجال - أو المجموعة البشرية - التي تنطبق عليها الفكرة الأساسية التي تقول بأن الناس لا ينبغي أن يعاملوا كأشياء أو حيوانات؛ فكانت هذه المجموعة عند الإغريق الأوائل محصورة من بعض النواحي في المنتمين إلى القومية الهلينية. وكذلك كانت محصورة بمثل هذا الوضوح في المنتمين إلى العبريين الأوائل، ثم مد الرواقيون الإغريق والأنبياء العبريون هذه الفكرة إلى الجنس البشري بأسره. والناس جميعا في نظر المسيحي سواسية من حيث امتلاك الروح الخالدة. وكذلك كانت مبادئ «الحرية والإخاء والمساواة» الديمقراطية الأساسية - مرة أخرى - جزءا من المدينة السماوية كما تخيلها القرن الثامن عشر. وهذه الفكرة هي في نظرتنا الكونية الحديثة الانعكاس المباشر، والخلف المباشر للفكرة المسيحية عن المساواة بين الأرواح أمام الله. ونستطيع هنا أن نذكر على هامش الكلام أن التقاليد الغربية الرئيسية قد فصلت فصلا تاما بين الإنسان وبقية الطبيعة، التي تأبى أن تعزو إليها المكانة الخاصة التي يكتسبها الإنسان من مساهمته في النضال الخلقي. والحيوانات في نظر أهل الغرب لا روح لها. وليس مذهب وحدة الكون وتأليهه، أو مذهب تناسخ الأرواح، من المبادئ المسيحية العادية. والواقع أن الهندي الذي يرى فينا خشونة شديدة يحسب أننا لا نبالي بمشاعر زملائنا من الحيوان.
وهناك من ناحية ثالثة استمرار عجيب في الأفكار الغربية بشأن الحياة الطيبة في هذه الدنيا. ولا مناص لنا - مرة أخرى - من العودة إلى التشبيه بألوان الطيف. ويتوسط هذه الألوان أسلوب الحياة الذي كان المثل الأعلى في ثقافة الإغريق الأرستقراطية - فكرة عدم المغالاة، أو الوسط الذهبي. ولا يقبل هذا القول أولئك الذين يعتقدون أن الفكرة المسيحية الرئيسية - التي تحققت عمليا في القرن الثالث عشر - هي فكرة التزهد، والتطلع إلى العالم الآخر ، وهي فكرة يعجز عنها التعبير. ولا يقبل هذا القول كذلك أولئك الذين يرون أن الاتجاه الرئيسي في الثقافة الغربية هو نوع من أنواع الاندفاع الجنوني نحو المرتفعات، أيا كانت هذه المرتفعات. وما دمنا في الواقع نستطيع أن نقول إن الاتجاه الرابع العام في الثقافة الغربية يبين - مع استثناء فترة العصور المظلمة - تنوعا مذهلا في الآراء والمسالك، خلقية كانت أو جمالية، وما دام المجتمع الغربي - حتى في أشد حالات استقراره - قلما اقترب من النموذج الإسبرطي الذي يسير على أسس التوحيد والنظام، ما دام الأمر كذلك فإن من الجلي الواضح أن أسلوب التزهد في الحياة والأسلوب الجنوني (هل أقول الفاوستي؟) كلاهما قائم في تقاليدنا. ولكن الوسط الذهبي الذي قال به الإغريق القدامى لا يزال - برغم ذلك قائما - كحل من الحلول التي تتردد حينا بعد حين للتوتر المعقد بين جهاد الغرب نحو المثل الأعلى، والكمال الذي لا يتحقق، ومتعة أهل الغرب واهتمامهم بالعالم القريب. ويظهر هذا الحل أحيانا - كما ظهر عند أكويناس، أو شوسر، أو حتى جون مل، في أشكال ربما كان من المتعذر على بركليز أن يتعرفها. ومن المشكلات الحديثة الحادة هذه المشكلة: إلى أي حد تستطيع الجماهير في المجتمع أن تقترب من هذا الناموس الأخلاقي الأرستقراطي. إن العقيدة الأساسية لفلاسفة القرن الثامن عشر الذين صاغوا الفكرة الديمقراطية هي أن الرجل العادي يستطيع أن يحقق هذه الصورة من الحياة الطيبة بعد ما أمكن تيسير الأساس المادي للجميع، وهو الأساس الذي كانت تعوزه الجماهير الإغريقية.
ولا نستطيع أن نجاوز باطمئنان هذه الأحكام العامة التي تخيب رجاء المتضلعين في فلسفة التاريخ، وليس بوسعنا أن نزعم إمكان الإجابة عن هذه المشكلة التي تحير الألباب، وهي: لماذا كان مجتمعنا الغربي «أنجح» المجتمعات حتى الآن في التاريخ البشري - على الأقل بمعيارنا الذي ليس ذاتيا كله الذي نقيس به البقاء في حركة التطور. إن الإجابة عن هذا السؤال تنحصر في أمور متعددة لا نستطيع أن نفصل أحدها عن الآخر، ولا نستطيع كذلك أن نجمعها فيما يشبه أن يكون صيغة عامة. وربما لم تكن هناك حتى الجذور العميقة، أو العوامل الفاصلة من ذلك النوع الذي يحدده الماركسيون في وسائل الإنتاج. والماركسي بطبيعة الحال لا يقدم لنا صورة مقنعة حقا عن السبب الذي من أجله اختلف تطور الحياة الاقتصادية في الغرب من بساطة الكوخ إلى تعقيد الحياة الصناعية الحديثة عن تطور وسائل الإنتاج في كل مكان آخر فوق الكرة الأرضية. إن جيلنا لا يثق بالتفسير البيئي البسيط، كذلك التفسير المستحب الذي يقول بأن التربة والمناخ في شبه الجزيرة الأوروبية الصغيرة التي تمتد من كتلة الأرض الآسيوية الشاسعة كانا صالحين بصفة خاصة لأي نوع من أنواع المزايا التي تشتد الحاجة إليها - فيما يظهر - لتفسير نجاح المجتمع الغربي - كالنشاط، والقدرة على الابتكار، والخيال، وحب المنافسة، وما إلى ذلك. وأكثرنا لا يثق في أنواع التفسير الساذجة - أو حتى المركبة - التي تعزو استعلاء فطريا لجماعات معينة أو أجناس بشرية معينة، من إهداء الله أو من أثر التطور. وليس بوسعنا أن نعتقد أن هناك في الواقع أي نوع من أنواع «الأجناس البشرية الطارئة»، كالجنس الآري، أو النوردي، أو القوقازي ، أو غير ذلك، عنده استعداد بيولوجي موروث يختلف اختلافا كافيا عن أي جنس من الأجناس غير الغربية، مما يمكن أن نعلل به النجاح الحديث الذي أصبناه في المنافسة بيننا وبين المجتمعات الأخرى. وأكثرنا لا يثق كذلك بأي نوع من أنواع التفسير المثالي، أي نوع من أنواع التفسير الذي يعزو إلى «عقل» الرجل الغربي الشكل الذي اتخذته ثقافتنا. والواقع أن كثيرا من القراء ربما نبذوا الفكرة العقلية المعتدلة التي قدمناها في هذا الكتاب، والتي تقول بأن نمو المعرفة التراكمية (وهي بالتأكيد المعرفة التي اكتسب أهل الغرب عن طريقها الأسلحة التي هزموا بها بقية العالم، والوفرة المادية التي أخضعوهم بها) إنما يرجع إلى ذلك التوازن المقبول الذي استطاعت أن تحتفظ به نظمنا الكونية الكبرى بين هذا العالم (عالم التجربة) والعالم الآخر (عالم المنطق والتخطيط، وروح النظام).
ومع ذلك فإن كل هذه التفسيرات، التي نلفظها بحق حينما ندعي أنها التفسيرات الوحيدة دون سواها، ربما كانت عناصر في ذلك المركب غير المستقر الذي نسميه الثقافة الغربية. فإن أنت استبعدت أحدها، وأي عنصر من العناصر الكثيرة الأخرى التي لم تتعرض لها بالتحليل، ما استطعت تصوير الثقافة الغربية التي نعرفها. إنك إن استبعدت الفحم والحديد من غربي أوروبا، لما قامت بطبيعة الحال الثورة الصناعية كما نعرفها. وإن أنت استبعدت القديس بولس والقديس أوغسطين، وكالفن وكارل ماركس، لما تكونت نظرتنا الغربية إلى الحياة.
أسباب القلق في العصر الحاضر
عند الاستعراض العام لتاريخ الفكر في الغرب نستطيع أن نرى أن كثيرا من المشكلات التي قد تبدو عند أصحاب النفوس الثائرة منا جديدة، تتطلب منا إيجاد الحل وتحتمه، ليست في الواقع إلا مشكلات قديمة جدا استطاع الرجال والنساء في الثقافة الغربية أن يعيشوا بعدها دون أن يجدوا حلا لها. وأخص بالذكر الفلاسفة الذين يتعرضون لمصير الإنسان، الذين يعتقدون أن الرجال الغربيين في العصر الحديث لا بد أن يتفقوا في «المشكلات الكبرى»، وأنه لا بد لنا من الفرار من حالة تعدد المذاهب الحالية إلى عصر إيمان جديد - هؤلاء الفلاسفة يجدون وراءهم آلافا عديدة من سنوات التاريخ الغربي اختلف فيها الناس في هذه الموضوعات الأساسية. ولكنا إذا تجاوزنا مشكلة الاختلاف هذه فيما يتعلق بالمشكلات الكبرى وجدنا أمامنا مشكلة كونية معينة، وهي من مشكلات العصر الحديث المحسوسة: هل نستطيع أن نستمر على الاعتقاد حتى في أفكار التقدم كما عدلت في القرن الثامن عشر، والأفكار التي ترى أن بإمكاننا أن نسد على الفور تلك الهوة التي تفصل بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون»، وهي هوة نرى كمؤرخين أن الإنسان الغربي لم يقترب قط من سدها، ولكنه لم ييأس قط منذ أمد بعيد حتى الآن من سدها؟
إن الاحتمال بأن الأجيال المقبلة لن تشهد تحولا في النظرة الكونية الغربية، وأننا سوف نستمر إجمالا على قبول الإجابات عن «المشكلات الكبرى» التي نقبلها اليوم، بكل ما فيها من تنوع يحير الألباب وتناقض متبادل - إن هذا الاحتمال قائم دائما. واستمرار هذه الحالات العقلية القائمة ممكن بطبيعة الحال، بل ومحتمل عند أصحاب أمزجة معينة. ونحن بالتأكيد لا نعرف بالفحص الطبي مقدار التنوع - في الاتجاهات إزاء المشكلات الأساسية في القيم والسلوك الذي يحتمله المجتمع. ومع ذلك فيبدو من غير المحتمل أن أولئك المتنبئين الذين لا يفتئون يتحدثون عن الأزمات، واختلاف الآراء، وقصر ما تبقى من الزمن على خطأ «تماما»؛ إذ لا مناص لنا من مزيد من التطوير للتركة التي ورثناها عن حركة التنوير. ذلك لأن الفجوة بين مثلنا وسلوكنا، بين العالم الذي نظنه ممتعا - العالم الضروري الذي يكون في الواقع أساس الخلق القويم - والعالم الذي لا بد لنا من العيش فيه، هذه الفجوة بقيت منذ حركة التنوير فجوة ذات صفة نفسية مختلفة جدا عن الفجوة التي عرفها المسيحيون التقليديون وأحسوها.
إن الفجوة بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن ربما كانت قائمة في عقول الناس جميعا، أو هي بالتأكيد قائمة في عقول الناس المتمدنين جميعا. غير أن عامة الناس وقادتهم «لا ينبغي أن يكونوا دائما على وعى بهذه الفجوة يزعج خواطرهم». ويجب في أكثر الأحيان أن يقنعوا أنفسهم بطريقة ما أن الفجوة لا وجود لها - وإن كان المشاهد من الخارج قد يرى أن في موقفهم نفاقا؛ فهناك وسائل عدة لسد هذه الفجوة. هناك شعائر وطقوس في حياة الفرد الخاصة، وهناك إيمان بالانتماء إلى مجموعة من الصفوة الممتازة، وهناك خضوع صوفي لإرادة أسمى - وكل ذلك يعاون على سد الفجوة. أما أولئك الذين ينظرون إلى الإنسانية جملة واحدة، فالسبيل إليهم - أشق أمام المصلح المتفائل الذي يرمي إلى سد الفجوة - بقانون واحد نهائي وبموعظة واحدة أخيرة. وهناك أيضا النظرة المسيحية إلى هذه الفجوة - وهي أنها لا يمكن أن تسد هنا فوق هذه الأرض، ولكن أولئك الذين يعملون بإخلاص وعدالة وحرص لسدها في هذه الدنيا سوف يجدونها مسدودة تماما في الجنة، كما سوف يجدها مسدودة تماما في الجحيم أولئك الذين لا يعملون بهذا الإخلاص وذلك الحرص وتلك العدالة.
ولكن الفجوة - بالنسبة إلى الكثيرين من ورثة حركة التنوير - لا تزال قائمة بصورة مؤلمة، فاغرة فاها كما كانت في أي عهد سبق. وفكرتهم عما يقع على الجانب الآخر، الجانب المثالي من الفجوة - أعني السلام، والوفرة، والسعادة بكل مستوياتها من راحة الكسل والخمول إلى وثبات القلب - ثابتة لا تتغير. إنهم يعتقدون أننا نحن بني الإنسان ينبغي أن نحصل على ما نريد، وأننا لا نستطيع أن نفلح في سد الفجوة التي تفصل بين ما نريد وما نملك بالألفاظ، والطقوس، أو بأي وهم آخر نواسي به أنفسنا. ومن أجل هذا ولأسباب أخرى فإن التوفيق الفكتوري - من وجهة النظر التاريخية الطبيعية - لم يثبت، كما رفضت الطبقات الدنيا أن تبقى خامدة، ودعت الاشتراكية إلى الحاجة إلى الديمقراطية الاقتصادية، لا مجرد المساواة الروحانية. إن الطقوس - مهما تكن - الاقتصادية، لا مجرد المساواة الروحانية. إن الطقوس - مهما تكن - لا يمكن أن تشبع رغبة الفقير في أن يصبح أغنى من الناحية المادية. إن المثل المادية في القرن الثامن عشر تخدع ببساطتها. ولشدة بساطتها ولشدة ماديتها شق علينا أن نزعم أننا حققناها، في حين أننا لم نحققها.
وقد يمكن اليوم أن نخفف من عمق الفجوة بين الواقعي والمثالي برد المثالي شوطا بعيدا إلى الوراء نحو الواقعي، وبوضع أهداف صغيرة متواضعة في كل ناحية من النواحي؛ فلا نقول بمنع الخمر، وإنما نقول بالإقلال من تعاطي الكحول بالدرجة التي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم. ولا نقول بالحياة الجنسية الكاملة في هذه الدنيا، وإنما نقول بالإقلال من حالات الطلاق. ولا نقول باستبعاد «تقليد الأوبرات» وإنما نقول بزيادة الاتزان في برامج الراديو، ولا نقول بالضمان الاقتصادي الكامل، وإنما نقول بتخفيف الأزمات القاتلة بتخفيف انتشار البطالة. ولا ندعو إلى حكومة عالمية تكفل السلام إلى الأبد، وإنما ندعو إلى «هيئة للأمم» تعيننا على منع نشوب الحرب، وعلى التخفيف من ضراوتها إن هي اشتعلت. ونستطيع أن نسترسل في الأمثلة إلى ما لا نهاية. إن الواقعي المعتدل يطالب بأن تتخلى الديمقراطية عن شيء من تفاؤل القرن الثامن عشر بالخير الطبيعي والتعقل الطبيعي عند الإنسان، وبالأثر الساحر للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تتغير باطراد (في قوانينها، ودساتيرها، ومعاهداتها، ونظمها وبرامجها التعليمية الجديدة)، وباقتراب حلول العهد السعيد. إنه يطالب بأن تقبل الديمقراطية شيئا من تشاؤم المسيحية التقليدية كما يتجسد في مبدأ الخطيئة الأولى، وشيئا من الإحساس المؤلم بالحدود البشرية الذي أوحى بالآداب العظمى، وشيئا من الشكوك حول قدرة الناس عامة على التفكير المستقيم كما بين لنا علم النفس الحديث، وشيئا من الوعي العملي، وعي الإدراك العام، باستحالة الكمال الذي يشعر به أكثر المشتغلين في ميادين النشاط التي يعمل المرء فيها تحت عبء المسئولية.
إن الديمقراطيين الغربيين قد يستطيعون أن يزيلوا عن كواهلهم عبء التفاؤل الباهظ بالكمال البشري الذي ورثوه عن حركة التنوير، وأن يكيفوا مثلهم على هذا العالم الخشن. وكثيرون منهم يتزايد وعيهم بضرورة القيام بعمل ما لسد الفجوة بين الأمل والعمل، وهي الفجوة التي فتحتها السنون في الديمقراطيات الغربية. إنهم لا يستطيعون أن يسيروا مع المثاليين الذين يخدعون أنفسهم والذين قد يحسبون أن كل ما يلزم هو تأكيد الأمل بثبات أشد من ذي قبل. وذلك لأنهم قد بدءوا يلمسون شيئا من المرارة التي تؤكد لهم أن المثاليين أنفسهم يستطيعون أن يتلفتوا حواليهم. وإنك لتجد الفكرة التي تقول بأن الديمقراطية راغبة في مجابهة حقائق الحياة مصوغة في عبارة قوية في كتاب «المركز الحيوي» الذي وضعه مستر أ. م. شلزنجر الصغير. ولا يستبعد بتاتا أن تفوز وجهة النظر هذه فوزا حقيقيا في السنوات القلائل المقبلة في الغرب.
ولكن هل مثل هذه الديمقراطية المتشائمة محتملة أو ممكنة؛ أعني الديمقراطية التي ترفض رفضا باتا أن تعد بالجنة على الأرض، ولا تعود في الوقت عينه إلى الجنة الأولى في العالم الآخر؟ لقد أكدنا في أكثر من موضع من هذا الكتاب عنصرا قويا جدا في النظرة الكونية الديمقراطية، وهو إنكار ما فوق الطبيعي، إنكار الحياة الأخرى. وفي الحق أنا قد رأينا أن جانبا كبيرا من النظرة الكونية الديمقراطية قد اتجه نحو الاتفاق مع المسيحية التي ترود الكنيسة رسميا على صورة من الصور. ولكنا لاحظنا أيضا أن جانبا يسيرا جدا مما هو مقدس، وأن المعجز وما وراء الطبيعة، لم يجد له مكانا في الإيمان الرسمي بالعقل، وبخاصة فيما بين الجماعات البروتستانتية المتحررة. وأخيرا لا يفوتني أن أقول إنه ما برح في جميع الديمقراطيات الغربية ملايين البشر ممن يتراوحون بين الوضعية العنيفة ومعاداة رجال الدين، واللامبالين الدنيويين تماما، ملايين ليسوا مسيحيين في بساطة. فهل يستطيع هؤلاء الناس أن يجدوا المصادر الروحية المطلوبة لمواجهة المشقات، وخيبة الآمال، والنضال، والبؤس؛ وكل الشرور التي لقنوا الإيمان بزوالها من الحياة الإنسانية بعد قليل؟ وبالرغم من بقاء كثير من الجماعات المسيحية - خلال القرون الثلاثة الماضية - التي تمسكت بروح ونص العقيدة التقليدية، إلا أنه قد نشأت كذلك جماعات معينة ذات عقائد جديدة تحل محل العقيدة المسيحية التي فقدها الكثيرون، أو التي تحولت إلى مذهب عقلي متفائل يشبه المسيحية وليس بها. وهذه العقائد الجديدة هي الديمقراطية، والقومية، والاشتراكية، والفاشستية، وما تفرع عنها من مذاهب وطوائف متنوعة عديدة. وأكثر هذه العقائد الجديدة تشترك في الاعتقاد بإمكان الكمال للناس في هذه الدنيا وشيكا - بشرط اتخاذ الإجراء السليم. وأكثرها ينكر وجود كائن فوق الطبيعي بوسعه أن يتدخل في شئون هذه الدنيا، وإن يكن كثير منها يحتفظ فعلا بفكرة وجود نوع من أنواع المبادئ المرشدة أو الخير الهادي؛ نوع من الإله غير الشخصي. وكلها يؤمن بأن العالم يمكن أن يتحول إلى مكان يطمئن المرء إلى العيش فيه. ويكمن وراءها جميعا الاتجاه العام أو النظرة الكونية التي شاعت في القرن الثامن عشر، التي ربما اتخذت أحسن صورة تمثلها في نوع نظام القيم المتحرر، الديمقراطي، الذي تلمسه عند جون مل. بيد أن الشكل النظامي الواقعي، وأعني به ما يشبه الكنيسة لهذا الإيمان الجديد، هو الحكومة القومية التي ترتبط برقعة معينة من الأرض، حتى لقد اتحدت الديمقراطية والقومية على صورة معقدة متغيرة. والاشتراكية في أصلها تطور منحرف للتفكير الديمقراطي القديم - أو إن شئت فقل إنها تعميق للأهداف الديمقراطية - وقد ربطت هي أيضا نفسها - حيثما نجحت - بالحكومة القومية وبالوطنية.
إنني قد عبرت عمدا عن هذه العقائد غير الشخصية - هذه الديانات اللاإلهية التي تتخذ من الأفكار المجردة كالفضيلة، أو الحرية، أو من جماعات كالجماعة القومية الخاصة أوثانا - بالنائبة عن غيرها بكل مدلول هذا اللفظ عن شيء تركيبي غير «بديل» يكفي تماما لأن يحل محل شيء آخر. وعجز هذه العقائد غير الشخصية إذا قورنت بالمسيحية يتبين بصفة خاصة فيما يتصل بمشكلات الفرد الذي يلاقي المتاعب. وهذه العقائد غير الشخصية ضعيفة في علاجها للأرواح. ومن الحق أنها في مراحل كفاحها ونضالها الحماسي - كالاشتراكية قبلما تظفر بالحكم مثلا - قادرة على استغلال الحماسة الروحية بكل قوتها عند كثير من المؤمنين، وأن تمدهم بإحساس بالانتماء إلى شيء عظيم حقا، وأن تذيب أنانيتهم التافهة في نوع من الاستسلام العاطفي. غير أن هذه العقائد غير الشخصية بعد استقرارها، وبعدما تجابه هذا العالم الرتيب لا تملك إلا القليل الذي تقدمه للتعساء، غير المنسجمين في هذه الدنيا، والمكابدين المتألمين.
وربما كانت القومية أقوى هذه العقائد. إنها تحض الضعفاء والعاجزين بعضويتهم في الكل العظيم، وبإسهامهم في «التقدير الذاتي المشترك» الذي تضفيه عليهم الوطنية، وقد استطاعت في أوقات الأزمات أن تعتمد على صبر الناس وعلى شجاعتهم على السواء، ولكنها لا تحل محل الإله الذي يواسي. وقد كانت ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، شخصية بطولية تخترق المتاريس. غير أنه من العسير أن يصلي المرء لماريان - كما صلى لمريم العذراء. ويبدو أن قدرة الاشتراكية على المواساة أقل حتى من ذلك. وليس من شك في أنه مما يشجع الماركسي المخلص للمذهب أن يعلم أن المادية الجدلية تجاهد في السعي إلى تحسين الأوضاع بالنسبة إلى المظلومين. غير أن التعساء حقا بحاجة إلى شيء أكثر إنسانية، شيء أشد وعيا «بهم»، لا باعتبارهم فريسة مؤقتة لطريقة الإنتاج، ولكن باعتبارهم كائنات بشرية هامة، فذة، سيدة على نفسها، تستحق من الله أو من وكلائه الرعاية المباشرة.
ثم إن هناك ضعفا نفسانيا آخر في هذه العقائد الجديدة التي أريد بها أن تحل محل العقائد الدينية القديمة؛ ذلك أن العقائد الدنيوية الجديدة يشق عليها أن تسمح بالتوبة والندم؛ ففي المحاكمات العديدة للخيانة (أو المذاهب المنحرفة) التي أجريت في روسيا السوفيتية، لم يمكن البتة العفو عن المتهمين وإعادتهم إلى حظيرة المخلصين، وذلك بالرغم من أنهم كثيرا ما انهارت أعصابهم واعترفوا بأخطائهم اعترافا كاملا. والظاهر أن الولايات المتحدة تميل في هذه الأيام إلى الاعتقاد بأن «الشيوعي إذا تشيع يظل شيوعيا إلى الأبد»، وبخاصة في حالة الإنجليز وغيرهم من الأوروبيين الغربيين. ولا تزال وزارة الخارجية الأمريكية فيما يظهر ترى أن الرجل الفرنسي المثقف، الذي يقر بأنه التحق بالحزب الشيوعي في الأيام المظلمة في الثلاثينيات من هذا القرن ولكنه أعلن توبته منذ ذلك الحين، ما فتئ شيوعيا. غير أن الظاهرة واضحة في أية دراسة للحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة؛ ففي الثورة الفرنسية العظمى - مثلا - كان من العسير، بل من المستحيل، للرجل الذي يعطي صوته بصراحة ل «المعتدلين» في عام 1790م أن يبرئ نفسه في عام 1793م أمام المتطرفين الظافرين في ذلك الحين، باعترافه بخطئه، وبإعلانه أنه تاب ورأى النور الجديد، وكان ينتهي عادة بالمقصلة؛ إذ إنه من المتعذر أن يتوب المرء توبة مقبولة في هذه الديانات اللاشخصية.
ومع ذلك فإن العفو عن المذنب التائب كان إحدى نواحي القوة في المسيحية. وإحدى الوسائل التي خففت بها القيادة المسيحية الرشيدة آلام الجو على الإنسان العادي، وربما كان الموقف الصارم إزاء الندم الذي تظهره العقائد الجديدة اللاشخصية مرتبطا بالمثل الأعلى المجرد الكامل - وهو مثل ينفصل عن الواقع انفصالا غير صحيح - المثل الذي يراه أصحاب هذه العقائد في السلوك البشري في العالم الأمثل الذي خلقوا لتحقيقه في هذه الدنيا، فإن أولئك الذين يتمسكون بهذه المثل يرغبون في حماسة أن يبلغ الإنسان من الكمال حدا لا يجعلهم يتسامحون معه في أية بادرة من بوادر النقص مهما تكن طفيفة. إن الرجل الذي يتمسك بمثل أعلى يتحقق في هذه الدنيا يشق عليه أن يتجنب محاولة استبعاد أولئك الذين لا يسلكون طبقا لمثله. وليس من شك في أن الديمقراطيات الناضجة، كالديمقراطية الإنجليزية، أقل تشددا من الشيوعيين ، وأقوى إرادة في التسامح في الضعف البشري. غير أن هذه الديمقراطيات برغم ذلك لا تقدم - فيما يظهر - لقادتها فرصة للتوفيق المثمر - الذي لا يخجل البتة صاحبه - الذي يهيئه اشتراط المسيحية العفو عن التائب النادم (لأني أرى أن العفو شرط من شروط المسيحية اللازمة). كما أن هذه الديمقراطيات لا تمد من يخلص لها بالطمأنينة الروحية، والنظام المرن، كما يفعل مبدأ المسيحية الذي يؤمن بالذنب والعفو عنه.
وأخيرا أقول إن هذه العقائد المجردة خطر جسيم على الرجل المثقف الحديث، ما دامت تيسر له أن يفترض معرفته بما في هذا العالم من خلل، وطريقة تصميمه، بل إن هذه العقائد تضفي على هذا الافتراض صفة النبل والشرف. إن هذه العقائد تشجع على فصل المثالي عن الواقعي - كما ذكرنا - لأنها تبالغ في تبسيط الطبيعة البشرية. غير أن الرجل المثقف الحديث - الذي انفصل بالفعل عن جمهرة إخوانه بصدع لم يضق بالتأكيد منذ اتخذ شكله الحديث في بداية القرن التاسع عشر - بحاجة إلى أن يرد إلى الدراسة القريبة الواقعية لكل ألوان السلوك البشري بحيث لا يسمح له بالتمادي في آرائه «عما ينبغي أن يكون» مع شعوره بالاستياء الشديد. والواقع أن هذه الآراء حتى بعد أن تتخذ شكلا واقعيا، فتقبل «الأمور كما هي» قبولا لا مرية فيه، صورة واضحة جد الوضوح من تلك «المثالية المقلوبة» التي لمسها بعض الكتاب من قبل في مكيافيلي. إن الاتزان، أو تخفيف التوتر القائم بين المثالي والواقعي تخفيفا سليما هو لب الموضوع. ومن المؤكد أن هذا التوازن يمكن أن يساق - كما ساقه كثير من المفكرين المحدثين من أمثال باريتو - بعيدا جدا عن المثالية. غير أن الانحياز إلى جانب المثالي - في هذه اللحظة من لحظات التاريخ - وأقصد المثالي المغالي في تبسيطه - خطر جسيم تقابله فجاجة عقائدنا الجديدة التي نريد أن نحلها محل الدين وبساطتها. إن رجل الفكر يمكن أن يستسلم ببساطة للتفكير. وإذا رجعنا إلى الماضي وجدنا أن هذا الاندفاع الحماسي نحو المثالي في رجل مثل كارليل - على سبيل المثال - هو ما يعرضه لتهمة التبشير بالفاشستية، وهي تهمة لولا ذلك لكانت باطلة. إن كارليل - كنيتشه - كان قطعا لا يرضى عن النازية التي تريق الدماء، ولكنه ألقى في غير مبالاة على الإطلاق بكثير من الأفكار الدقيقة غير الكريمة التي أثبت الكثير منها فيما بعد أنه أفكار نازية فعالة.
وموجز القول إذن أن هذه العقائد الجديدة لا تتصف بالغزارة وبالعمق في إدراك ماهية الكائنات البشرية على حقيقتها، كما اتصفت الديانات القديمة. وهي من أجل ذلك أقل قدرة من الديانات القديمة في معالجة مشكلة العلاقات الإنسانية في وقت الأزمات. نعم إن الديمقراطية والاشتراكية قد أفلحتا نسبيا حتى الآن، بمعنى ما، في عالم أكثر الاتجاهات المادية ترتفع فيه ارتفاعا حقيقيا في خط بياني يصعد باطراد. ولم يقابلهما بعد من جانب العدد العديد من البائسين من الرجال والنساء الذين لا يرون فيهما - حتى عن بعد - جنة الله على الأرض، صيحات التهديد الطبيعية التي تنادي قائلة: «حققوا لنا الأماني أو كفوا عن الكلام.» وربما لا تقابلهما هذه الصيحات، وربما اتخذت الكتلة الجماهيرية في الغرب الموقف الذي لم يقفه حتى الآن سوى الخاصة من الناس كالرواقيين، فيرون أن دنيانا هذه دنيا مشقة، لا يسعد فيها إنسان، وعلى كل فرد فيها أن يجابه متاعبه، دنيا ليس فيها قبل الموت جزاء. غير أن هذا أمر بعيد الاحتمال؛ فإن الكتلة البشرية - حتى في الغرب - لم يكن بوسعها قط أن تنظر هذه النظرة الحزينة دون الاستعانة بديانة شخصية، ديانة كانت حتى اليوم تتجاوز الوجود، وتحلق فوق الطبيعة، وتتطلع إلى عالم آخر. ومن ثم فإن الديمقراطية إذا لم ترتد بكل قلبها إلى المسيحية (وهناك اليوم الكثيرون ممن يريدون لها هذا الارتداد) لا مناص لها - بشكل ما - من الاتجاه نحو علاج الأرواح.
وثمة صعوبة أخرى - وهي صعوبة أمعن في معقوليتها - تقف عقبة في سبيل نوع من أنواع الديمقراطية الواقعية المتشائمة التي لا تؤمن بما فوق الطبيعي. ذلك أن هذه الديمقراطية يتحتم عليها أن تبسط فوق كل نوع من أنواع نشاطنا الميل إلى المحاولة، والرغبة في التجريب، والصبر ، وقبول الأناة، والاعتراف بحدود الجهود البشرية التي تفرضها هاتان اللفظتان: «المستحيل» و«ما لا يحل» مما يتميز به عمل العالم كعالم، ومما نحققه جميعا - ولو إلى حد - في الواجبات المعينة التي لا بد لنا من أدائها. في مثل هذه الديمقراطية لا مندوحة لعدد كبير جدا من الناس في الواقع عن تجاوز لذة اليقين. وذلك التأكيد الذي ينشأ عن المعرفة السابقة بأن بعض الأحكام المجردة صادق، وأن هناك شيئا ما لا يتغير قط، شيئا لا يكون جزءا من التاريخ، ولكنه يكون جزءا من أنفسنا. بيد أنه من الحق أننا نحن البشر نتشبث باليقين، وأولئك الذين فقدوا اليقين المسيحي سرعان ما حاولوا أن يبحثوا عن اليقين العلمي، أو اليقين التاريخي، اليقين في أي مجال يجدونه فيه. كما أننا نتشبث بالعلم بكل شيء باعتبار هذا العلم الشامل ملازما لليقين - نتشبث بقوى عليمة بكل شيء، إن لم يكن بإله بكل شيء عليم. فإذا ما طلب إلى مواطنينا الجدد في الديمقراطية المتشائمة أن يتقدموا بنسبية في القيم لا هوادة فيها (ولا أقول بطبيعة الحال بنوع من أنواع الانعدام في القيم) - والظاهر أن مثل هذه النسبية وحده هو ما يمكن أن يجد فيه تشاؤمهم سندا قويا، وما يمنعهم على الأقل من الأمل في نوع جديد من أنواع المتعة في السماء - أقول إننا إذا تطلبنا ذلك وجدنا أنه من العسير جدا في واقع الأمر أن نقيم مثل هذه الديمقراطية في عصرنا الحاضر. إننا إن فعلنا ذلك تطلبنا من الطبيعة البشرية الضعيفة أكثر مما تحتمل، وأكثر في الواقع مما تطلبت الديمقراطية المتفائلة ما دام المواطن العادي في الديمقراطية المتفائلة القديمة كان يسمح له باعتناق نوع من أنواع الديانة القديمة التي تدعو إلى الاطمئنان.
وتقابلنا في منتصف القرن العشرين - فوق ذلك - نفس الصعوبة التي التقينا بها في أثينا القديمة: وهي ما هي العلاقة تماما بين نظرة المثقفين إلى «المشكلات الكبرى» وكل بناء المجتمع، أو كل توازنه؟ إن أدنى انتباه إلى ما يجري بين المثقفين في الغرب - الوجوديين في فرنسا ، وأتباع بارث ونيبور في ألمانيا وأمريكا، والمرتدين إلى الكاثوليكية في إنجلترا من الشباب اللامع - يوضح لنا أن المثقفين يضيقون على أنفسهم القيود الروحانية، ويتهيئون لموجة من موجات العسر، ويزدادون ازدراء للديمقراطيين المبتهجين أمثال بنيامين فرانكلن، أو الديمقراطيين السطحيين أمثال توماس جفرسن. وقد تتعرض حركة التنوير لهجوم أشد مرارة من الهجوم الذي تعرضت له من الرومانتيكيين لعهد وردزورث. غير أن الإنسان يتعذر عليه أن يتصور الرجل الأمريكي العادي - أو حتى الرجل الأوروبي العادي - في الحالة العقلية عينها التي مرت بطليعة المثقفين في الغرب حالة اليأس الشامل من كل ما في هذه الدنيا، الذي مبعثه شدة الحساسية وقوة التفكير. إن هناك درجة من الخشونة - كتلك التي تنم عنها «الحكايات الخرافية» التي شاعت في منتصف القرن الثالث عشر بين أصحاب العقول المفكرة - نشك في أنها سوف تبقى على شيء من حرارة الغليان لفترة ما حتى في عالمنا هذا الحزين.
فلا يجدر بنا أن ننتهي إلى أن ثقافتنا الغربية توشك أن تتحول تحولا أساسيا وتدخل في عهد آخر من عهود الإيمان. ويكاد يكون من المؤكد أن النظرة الكونية الديمقراطية سوف تتعرض لإعادة النظر فيها بدرجة أشمل حتى من تلك الإعادة التي أولاها القرن التاسع عشر لميراثه الأساسي الذي ورثه عن حركة التنوير. وليس بوسعنا بتاتا في عام 1950م أن نكون على ثقة من الاتجاه الذي ستتجه إليه هذه الإعادة؛ فإن جانبا كبيرا منها سوف يتوقف على نتيجة النضال بين الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية، وهو نضال يعرض النظرة الكونية كلها للخطر. وقد تدفع ضرورات النضال ذاتها الغرب إلى مجتمع أكثر تجنيدا مما تبيحه تقاليد الغرب؛ لأن من الحقائق البغيضة عن العلاقات الإنسانية - وهي حقيقة من أنواع الحقائق التي لا بد للديمقراطيين الواقعيين الجدد من مجابهتها - أننا نحتاج في أوقات الحروب - ساخنة كانت أو باردة - إلى سلطة أكثر وحرية أقل مما نحتاج إليه في أوقات الهدوء والسلام.
ويبدو أن بكل من الولايات المتحدة وروسيا مجموعة مجسمة من الأفكار التي تعارض الطرف الآخر، وأن هذه الأفكار قد اتحدت على صورة من الصور واستطاعت حتى الآن أن تعزز ذلك التوتر الذي يعد من مميزات الغرب، وذلك بوجه عام جدا، ومع مراعاة كل أنواع الالتواءات والانحرافات في كل منهما مما يتعارض وهذا الحكم العام الذي ألقيناه؛ فلسنا بطبيعة الحال على حرية خالصة وليسوا على تسلط محض. ونحن لا نمثل الفردية المطلقة التي تمثل ذاتية القطط، وهم لا يمثلون الجماعية التي تشبه جماعية النمل أو النحل. ولسنا على تنوع وليسوا على توحيد. ولا يعيش أي منا طبقا للتطرف في مجموعة القيم التي نعتقد فيها، غير أن التعارض قائم برغم ذلك، وهو تعارض حقيقي. إننا نمثل على وجه الإجمال سلسلة القيم التي عالجناها في هذا الكتاب باعتبارها القيم الرئيسية في ثقافة الغرب - الشعور بشيء لا يقبل التجزئة في كل كائن بشري لا تزال أفضل إشارة إليه بهذه الكلمة القديمة العتيقة «الحرية»، وهو شعور قد يتوقف قليلا وينقلب على نفسه عندما تواجهه المشكلات الحقيقية التي توحي بها أمثال هذه العبارات: «يجب أن نرغم الناس على الحرية.» أو «أنت حر عندما تفعل الصواب ولكنك عبد عندما ترتكب الخطأ.» أو «الحرية لا الفوضى.» ولكنه برغم ذلك عميق في نفوسنا، يدفعنا إلى التمسك الشديد بأن هذه المتناقضات لا لزوم لها. إن التقاليد الغربية، التي نعد اليوم أهم المدافعين عنها تدعو إلى «الفردية» في ثبات، وإن لم يكن في يقينية جامدة، أو مثالية بعيدة عن الواقع.
إن الفرصة المتاحة لنا للتمسك بتقاليد الغرب، وللاحتفاظ بها في صورة لا نتعسف إذا وصفناها بالديمقراطية، أعظم مما يقر المتنبئون منا المتشائمون؛ لأنه إذا كان اللامعقول الذي شاع في عشرات السنين القلائل الماضية قد أضعف من الأمل الساذج في قيام الجنة على الأرض عن طريق كمال الطبيعة البشرية، أو عن طريق تحرير الطبيعة البشرية من بيئتها السيئة، إلا أنه قد قدم لنا ما يبرر الاعتقاد بأننا إذا أرسينا فعلا طريقتنا الديمقراطية في الحياة في عاداتنا، وتقاليدنا، ومشاعرنا، وأفعالنا الشرطية المنعكسة، وذواتنا العليا، فإنها تستطيع أن تتغلب على الواقع الجاف وتحيا برغم منه. إن ما بدا لأسلافنا قوة للديمقراطية، وهو اعتمادها على معقولية البشر، يبدو اليوم في الواقع سببا في ضعفها. ومهما يكن من أمر فلربما كانت الديمقراطية - برغم هذا كله - لا تعتمد على معقولية البشر. إن الغرب الديمقراطي قد استطاع أن يصمد أمام حربين كان من المفروض - لإغراقه في التنوع، وانعدام النظام، وتعدد الاتجاهات الروحية، بل ولما فيه من دعة وراحة - أن ينهزم فيهما أمام التنظيم الأعلى، والخشونة، وإجماع الرأي بين خصومه اللاديمقراطيين. بيد أنه لم ينهزم، بل انتصر برغم - بل ربما كان بسبب - ما بدا من نواحي الضعف في نظر بعض النقاد.
لأن ما يبدو في التحليل العقلي المحض انحلالا، وعراكا، وعجزا فاحشا عن الاتفاق على أي شيء مهما يكن قد لا يعدو أن يكون اختلافا في شئون اختلفنا فيها نحن الغربيين صراحة وبعنف في أكثر الأحيان منذ ما نبه سقراط الأذهان في أثينا - وإذا أنت فكرت فيما تتضمنه المذاهب الكاثوليكية، والبروتستانتية، واليهودية، والمادية الماركسية، ذهلت حقا من أن أصحابها قاتلوا جنبا إلى جنب في القوات الأمريكية في الحربين العالميتين. وقد تقول إن أصحاب هذه المذاهب لم يعتقدوا فعلا في مذاهبهم الرسمية كما هو الشأن في الولايات المتحدة، غير أن هذه النظرة أمعن في المنطق من أن تقبل التصديق. وقد تقول إنهم آمنوا بالتسامح الديني وعدوه خيرا إيجابيا، وذلك صادق من غير شك إلى حد ما عند الكثيرين منهم. غير أن أصدق ما تقول هو أنهم لم يفكروا قط في مشكلة التسامح الديني العامة، وأن أكثرهم آمن في بساطة بوجود الكاثوليك، واليهود، والبروتستانت، وكل أنواع المادية، باعتبارها من حقائق الحياة. وباعتبارها من الأمور التي يتقبلها المرء كما يتقبل الجو. وإذن فإن جانبا كبيرا من طريقة الحياة الغربية يستقر في ركن من الأركان عند الأمريكيين العاديين، لا في غشاء أذهانهم على الأرجح، ولكن في مكان آمن من أن يحدد الفسيولوجيون موضعه تماما - في قلوبهم، كما ألفنا التعبير.
ونعود إذن إلى افتراض أن العلاقة بين قوة مجتمع معين ودرجة الاتفاق في شئون النظرات الكونية العامة بين أفراد هذا المجتمع لا يمكن تحديدها، على مدى ما نعرف حتى الآن في حدود العلوم الاجتماعية التراكمية. ويبدو أن هناك دليلا قويا على أن جانبا كبيرا من التنوع في الأمور التي تتعلق بعلوم الدين، والميتافيزيقا، والفن، والأدب، بل والأخلاق، يمكن أن يبقى إذا كان وجود مثل هذا الاختلاف لا يؤخذ مأخذ المثل الأعلى في التسامح، والتقدم عن طريق التنوع (وإن يكن هذا هو الحق عند كثير من رجال الفكر)، وإنما يؤخذ مأخذ الأمر الطبيعي للكائنات البشرية. فإذا كانت الديمقراطية تعني حقا شيئا غير طبيعي - في نظر المثقفين الغربيين - كالاتفاق الفكري، لفقدنا كل أمل فيها. إلا أن مجرى تاريخنا الفكري كله يشير إلى أن رجال الفكر في الغرب - بطريقة عنيدة جامحة - سعوا دائما إلى تأكيد الفوارق بينهم، وأن هذه الفوارق - بطريقة ما - لم تزعج من ليسوا من رجال الفكر إزعاجا يكفي لاختلال التوازن الاجتماعي. وليس هناك دليل معقول حتى اليوم على أن الإنذارات الفكرية لعصرنا، عصر الهموم الفلسفية، قد تجاوزت فعلا ذلك الجزء الصغير من السكان الذي يسلك استعدادات لغوية قوية، بل ولسنا حتى على يقين من أن علماء النفس من أمثال إريك فروم على حق في زعمهم أن القلق العصبي، بل والنورستانيا، أمر شاع في جميع أجزاء المجتمع إلى درجة تهدد طريقتنا في الحياة الديمقراطية التقليدية. وربما كان الفرار من الحرية أمرا مبالغا فيه.
ولكن حتى إن كان هؤلاء المشخصون على صواب، وحتى إن كان مجتمعنا مجتمعا مريضا حقا، فمن غير المحتمل أن يكون المفكرون الجادون الذين يحثوننا على التجمع وعلى الاعتقاد المشترك في شيء سام على جادة الصواب. إذا كان لا بد لنا من دين جديد، فإن كل السوابق الغربية تشير إلى أن الدين لن ينبع من رجال الفكر، وإنما من مصدر أكثر من ذلك تواضعا، وإنه سوف يكون ثقيل الوقع لفترة على الأقل على المفكرين الثابتين - بل وعلى أولئك الذين تنبئوا بظهوره.
وهناك مشكلة فكرية خطيرة أخرى لا يستطيع أن يتجنب مجابهتها أي ديمقراطي مفكر. لقد سلمنا - طبقا لتيار اللامعقول الحديث، وربما كان طبقا كذلك لتيار الإدراك العام - بأن الجنس البشري يملك طاقة عميقة الغور وصلابة لا يمكن أن يحتويها أي نظام فكري، وأن لثقافتنا مصادر للقوة لم تتأثر كثيرا بما عندنا من فلسفة، أو بما ليس عندنا من فلسفة. وحتى باريتو يذكر من بين «رواسبه القوية» «رواسب القدرة على الاشتقاق» - أي رواسب التفسير العقلي للأمور. إن الحاجة إلى إشباع رغبتنا في الفهم، وفي تماسك خبراتنا بالمنطق، وبألا نقع في التناقض بدرجة قوية تصدم الآخرين، وبألا نكون منافقين في نظر أنفسنا وفي نظر الآخرين - هذه الحاجة قوية جدا عند الكائنات البشرية. ولا نتجاوز الصواب إذا قلنا إنه لم تنشأ حضارة من الحضارات بقيادة طبقة من الطبقات المفكرة، مالت إلى الاعتقاد بأن عالم القيم في أعينهم، وبأن تفسيرهم للسبب في وجودهم في مكانهم، ليس إلا زعما باطلا، ونفاقا، وزورا وبهتانا. ولن تبقى طويلا في أية ديمقراطية من الديمقراطيات طبقة مفكرة لا تؤمن، وطبقة غير مفكرة تؤمن، ولا يمكن لطبقة مفكرة متشككة، أو متشائمة، أن تضع دينا للجماهير.
وليست طبقاتنا المفكرة اليوم في مثل هذه الورطة بأية حال من الأحوال. غير أن الكثيرين منهم في حيرة، ومن المحتمل أن تشتد حيرتهم حتى يفلحوا في التغلب على مشكلة تعديل ميراثنا الذي انتقل إلينا من حركة التنوير في القرن الثامن عشر. ولنأت بخلاصة موجزة نهائية لهذه المشكلة.
إن النظرة الديمقراطية العالمية قد تكونت في القرن الثامن عشر في نهاية ثلاثة قرون من التغير توجت بالنصر العظيم للعلوم الطبيعية في العمل الذي قام به نيوتن وزملاؤه. وأيا ما كانت الآراء الفلسفية والدينية لهؤلاء العلماء العاملين في حياتهم الخاصة - ولا يزال الكثيرون منهم إلى يومنا هذا مسيحيين مخلصين للمسيحية - فقد كان لا بد لهم كعلماء من استخدام طريقة عقلية يصلون بها إلى الأحكام العامة، وهي طريقة كانت بكليتها تحت رحمة الوقائع الملاحظة. وقد كانت هذه الوقائع في نهاية أمرها - مهما تفوقت الأدوات التي تسجلها عن الحواس البشرية - أحكاما على عالم الخبرة الحسية، أحكاما على هذا العالم، لا على غيره. وكان لا بد للحكم الذي يصدر طبقا لطرائق العلوم الطبيعية - في إيجاز - أن يتفق ووقائع هذه الدنيا، ولا يتجاوز الحكم هذه الوقائع ولا يناقضها.
غير أن حكمين من الأحكام العامة الهامة عن العقيدة الديمقراطية كما برزت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهما مبدأ الخير الطبيعي عند الإنسان ومعقوليته، ومبدأ التقدم غير المخطط الذي لا مفر منه نحو كمال الإنسان على هذه الأرض، إما يتجاوزان النظرة العلمية إلى الحق أو يتناقضان معها. وليس علينا إلا أن نتابع خلال العصور من ثيوسيديد إلى مكيافيلي إلى أقدر العلماء الاجتماعيين المحدثين لكي نرى أن التقليد السائد بين أولئك الذين يلاحظون فعلا مسلك الكائنات البشرية بدقة هو الإيمان بأن الناس إنما ولدوا للمتاعب، وأن الطبيعة البشرية - في الفترة التي سجلها التاريخ على الأقل - لم تتغير كثيرا. وإذا أنت درست سلوك الجنس البشري الذي سجله التاريخ من أقدم الأزمنة إلى منتصف القرن العشرين بروح العالم الطبيعي وبطرائقه (بمقدار ما يسمح النقص في التسجيل التاريخي بمثل هذه الدراسة) لما استطعت أن تأخذ بوجهة من وجهات النظر التي تشبه ما ارتآه كوندرسيه على سبيل المثال، أو حتى ما ارتآه بين وجفرسون. ولما أمكنك أن تعد الآراء التي تتعلق بالخير الطبيعي وبمعقولية الإنسان واطراد الكمال في حياتنا على الأرض، بالمقاييس البشرية، أحكاما علمية عامة ولو على سبيل التقريب.
إن الديمقراطية - في عبارة موجزة - هي «إلى حد ما» نظام من الأحكام التي لا تتفق مع ما يراه العالم حقا. وما كان هذا التناقض ليخلق المشكلات - وما كان على الأقل ليخلق بعض المشكلات التي يخلقها اليوم - لو أن الديمقراطي استطاع أن يقول بأن مملكته ليست مما يمت إلى هذه الدنيا، لو أنه استطاع أن يقول إن الحق عنده ليس من ذلك النوع الذي يمكن للعالم اختباره بأية وسيلة، إلا بمقدار ما يستطيع التحليل الكيماوي للخبز والنبيذ أن يختبر صدق العقيدة الكاثوليكية في القربان المقدس. إن مثل هذا الحل للورطة الفكرية التي وقع فيها الديمقراطي ليس بالحل السعيد، ولكنه ليس كذلك بالحل الذي لا يمكن تصوره. إن الديمقراطية قد تصبح إيمانا بشيء يجاوز الطبيعة حقا، إيمانا لا يضعف العقيدة فيه انعدام الاتصال بين الفروض التي تقدمها ووقائع الحياة فوق هذه الأرض. وهناك من المتشائمين الذين يقولون إن الأمريكي عندما يفخر بانعدام التمييز الطبقي في بلده لا يزعج قط خاطره بالواقع، واقع بنائنا الطبقي، وواقع الزنوج، واليهود، والمكسيكيين، وغيرهم، ونحن الأمريكيين لا نجد البتة مشقة في إدراك أن المبادئ الأساسية في تلك الهرطقة الديمقراطية، وأعني بها الماركسية، تتعارض تقريبا مع كل مبدأ من البناء الحقيقي للحياة الاجتماعية في روسيا المعاصرة. إننا ندرك أن «الديمقراطية» الروسية تعرف تعريفا يختلف جد الاختلاف عن تعريف ديمقراطيتنا. إن الديمقراطية - في إيجاز - قد تستطيع أن تنزع جنتها الموعودة من هذه الدنيا، وتضعها في عالم الطقوس التي تؤدى، في عالم العقائد فيما فوق الطبيعة، في إشباع الحاجات البشرية بطريقة أخرى، وتستطيع أن تجعلها مثلا أعلى لا يتلطخ بالواقع الملوث.
كما أننا قد نرى تطور النظرة الديمقراطية نحو العالم الذي يقبل حدود الطبيعة البشرية العادية، الذي يقبل نظرة التشاؤم إلى هذه الدنيا، وهي ديمقراطية لا تتطلع إلى المتعة في السماء، ولا ترى في مخزن الطعام غذاء مستساغا من كل الوجوه، أو مشبعا من جميع النواحي. ولطالما قال أعداء الديمقراطية عنها إنها أمر لا يتم إلا في الجو الملائم، لأنها تضع للطبيعة البشرية مستويات لا يمكن الاقتراب منها في السلوك البشري إلا في أوقات الهدوء والرخاء، حتى عندما يكون تحقيقها للحرية والإخاء والمساواة ناقصا. أما في أوقات الشدة فنحن - كما يقولون - نحتاج إلى النظام، والقيادة، والتماسك الذي لا يتحقق إذا نحن سمحنا للأفراد أن يسيروا وراء رغباتهم الخاصة، حتى ولو نظريا أو في الخيال. نعم إن الناس يقبلون مثل هذا النظام في أوقات الأزمات، كما أثبتت أيما إثبات الديمقراطيات الغربية في الحرب الأخيرة، وقد تقبل الإنجليز بقليل جدا من الانهيار النفساني بدرجة تذهل العقول قذف المدن بالقنابل الذي وضع كل المدنيين في خطوط القتال حقيقة لا مجازا. وأدعى من ذلك إلى الذهول، بشكل ما، الروح التي ذهبت بها أكثر الأمريكيين إلى هذه الحرب الأخيرة. ولشد ما كان جزع أصحاب العقول المرنة من المثاليين عندما رأوهم يذهبون إلى الحرب دون ما اعتقاد - إلا في القليل - أنهم سيخلقون عالما أفضل، وبقليل جدا من الروح الصليبية التي ظهرت في حرب 1914-1918م. لقد ذهبوا إلى هذه الحرب باعتبارها واجبا غير محبب ولكنه ضروري، وهم قادرون على إجادة أدائه حقا، وإن كانوا لا يرون سببا يدعوهم إلى ادعاء الابتهاج بها أو تقديسها. «ذهبوا إلى الحرب كما يذهب إليها الواقعيون لا المتشائمون».
وبهذا أختتم الكتاب بمقدار ما يمكن لكتاب من هذا النوع أن يختتم. إن الديمقراطية «المثالية»، الديمقراطية «المعتقدة» (بالمعنى القديم للعقيدة الدينية التي تجاوز الطبيعة) ربما كانت ممكنة وإن شق على هذه الديمقراطية أن توائم بين ميراثها العلمي الذي ينتمي إلى هذه الدنيا والإيمان الذي ينتمي إلى العالم الآخر، وإن إلهها ليحتاج على أقل تقدير إلى أن يتفق في شيء من المشقة مع المعالج النفساني. أما الديمقراطية «الواقعية» المتشائمة - الديمقراطية التي يقترب فيها المواطنون العاديون من قواعد الأخلاق والسياسة بالرغبة في مجابهة النقص الذي يتصف به الفلاح الطيب، والطبيب المجيد، والمشرف البارع على علاج الأرواح، سواء أكان قسيسا، أم من رجال الأكليروس، أم من المرشدين النفسانيين، أم الأطباء النفسانيين - أما هذه الديمقراطية فإنها تتطلب من مواطنيها أكثر مما تطلبت أية ثقافة بشرية من قبل، ولو أمكن إجابتها إلى ما تتطلبه لكانت أكثر الثقافات نجاحا. وهناك أخيرا ديمقراطية «ساخرة»، ديمقراطية يعترف مواطنوها في هذه الدنيا بمجموعة من العقائد، ويعيشون غيرها، وهي ديمقراطية مستحيلة كل الاستحالة. إن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يبقى طويلا في أي مكان. والتوتر بين المثالي والواقعي قد يخف بعدة وسائل في المجتمع السليم، ولكنا لا يمكن أن نتجاهل وجوده.
نامعلوم صفحہ