افکار و رجال: قصہ فکر غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
اصناف
وهذا الثائر المثالي مشكلة دائمة للمحافظين الذين يديرون الكنائس المسيحية، كاثوليكية كانت أم بروتستانتية، كما يديرون في الواقع أكثر المؤسسات البشرية. وليس من شك في أن الكثيرين من هؤلاء المحافظين يقولون كذلك - أمام الجمهور على الأقل - إن هذا الثائر هو بوجه عام باعث على التنبيه والإيحاء. ومهما يكن من أمر فإن على المحافظ أن يقابله. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى لوثر تنجح عادة - ولا تنجح دائما - في ترويض هؤلاء الثائرين، وفي امتصاصهم في جسم التقاليد المسيحية، التي كانوا من غير شك يؤدون فيها عملية التخمير التي لها قيمتها. هكذا يبدو للخارجي - على سبيل المثال - مصير سنت فرانسيس الأسيسي، الذي ربما انصرف إلى الهرطقة لو أن سلطات الكنيسة عاملته بصرامة أشد. أما لوثر فإن المثاليين المسيحيين والمجددين الأكثر تطرفا كانوا في الواقع من المنحرفين - وقد ثاروا فعلا على الكنائس التي لم تكن لها - فيما يبدو - عقائد ثابتة يثور المرء عليها. وفيما دون هؤلاء الثائرين المتطرفين، الذين كانوا كذلك مثاليين متطرفين، كان هناك دائما مسيحيون ممن يمارسون المسيحية يسمون فوق المستوى غير البطولي للمسيحية العادية - وهؤلاء رجال ونساء لا يكفون عن حث زملائهم على حياة أقرب - على الأقل - إلى المثل المسيحية من حياة الغالبية.
أما الهجوم من الخارج فهو ينبذ المثل المسيحية، أو كثيرا منها، وكان لا بد للمسيحية المنظمة أن تواجه صعوبة التوفيق بين مثلها الأرستقراطية وبين ضرورة الوصول إلى المبتذل وقبول هذه الدنيا الناقصة بعض القبول، وكان عليها كذلك أن تواجه رجالا لا يحبون مثلها، حتى المخففة منها التي قبلتها المسيحية في أكثر الأحيان من الناحية العملية. وكان هؤلاء الخصوم عديدين متنوعين، وبخاصة عندما تمتعوا بشيء من حرية الكلام في الأربعمائة السنة الأخيرة أو ما يقرب منها. وكان من بين هؤلاء دعاة مذهب اللذة، والطبيعيون، وهم أولئك الرجال الذين يعتقدون أن الكائنات البشرية يجب أن تعمل ما تشاء بقدر استطاعتها، وأن الحاجات البشرية طيبة في أساسها، وأن الجسم البشري شيء جميل، وأن الملذات الجسدية شيء كذلك جميل، هؤلاء هم الرجال الذين يرون المسيحية، حتى في ممارستها العادية ، كئيبة، زاهدة، غير واثقة بالجسم وملذاته. وقد كان من بين خصوم المسيحية الماديون الفلسفيون، وأصحاب العقول الجامدة الذين لا يحبون أفلاطون ومؤلف أو مؤلفي الإنجيل الرابع، والوضعيون الذين يستنكرون مثل هذه الألفاظ، والروح، والإيمان والنفس. وكان من بينهم كذلك المتشككون الحقيقيون، وهم رجال لا يثقون بالسماء كما لا يثقون بهذه الدنيا، وكان من بينهم كذلك كل من ينكر إمكان وجود ما فوق الطبيعة، أو المعجزة، أو المقدس - على اختلاف آرائهم الوضعية في الكون. وكان من بينهم أيضا العاطفيون الإنسانيون الذين ينبذون مذهب الخطيئة الأولى فيعتقدون تبعا لذلك أن الناس طيبون بالطبيعة، وأن بعضهم لا يتصف بالخبث إلا لأن المجتمع يريد لهم أن يكونوا كذلك.
وقد كان للهجوم من الخارج في القرون القلائل الأخيرة من الأهمية ما لم يكن له منذ الأيام الأخيرة من عهد الوثنية الإغريقية الرومانية. وكان على المسيحية في الأزمنة الحديثة لا أن تقابل هؤلاء وحدهم، من أمثال سنت فرانسيس، الذي كان يرى أن المسيحيين لا يشبهون المسيح بدرجة كافية، إنما كان عليها أن تقابل أولئك الذين كانوا يرون أن المسيح نفسه أسطورة، أو رجلا جريئا في الرأي، أو بدائيا، أو حتى رجلا منحرف التفكير. كان على المسيحية في إيجاز أن تقابل تحديات كثيرة وأن تواجه جبهات متعددة. وقد شغلت قصة أصول هذه التحديات أو قصة نشأتها، وصراعها مع قيم المسيحية القائمة، مكانة رئيسية في تاريخ الفكر في بلاد الغرب.
الفصل السادس
العصور الوسطى (أولا)
إن مصطلح «العصور الوسطى» هو في ذاته حكم على قيمتها. وقد كان هذا الحكم أصلا محطا من شأنها. ويمثل هذا المصطلح ما كان يعده واضعوه فترة امتدت ألف عام، وكانت أشبه بالوادي أو المنخفض بين قمتين شاهقتين: إحداهما تمثل الماضي، والأخرى تمثل الحديث. وقد شاع استخدام هذا المصطلح، كما شاعت لفظة «الوسيط» التي اشتقت منه وذاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر. ولما حل القرن التاسع عشر تأكد هذا التقسيم الثلاثي إلى القديم، والوسيط، والحديث، حتى لقد استخدمه رجال الغرب في تواريخ أخرى مثل تاريخ الصين؛ حيث لا يكون له أي معنى من المعاني البتة.
وللتسمية التقليدية الثابتة على كل حال ميزة واضحة؛ فهي تفقد أكثر ما في مضمونها الأول من معنى الثناء أو الهجاء. ونحن ننظر إلى «الوسيط» اليوم على أنه يدل في التاريخ الأوروبي على وجه التقريب على ألف العام التي تمتد من عام 500م إلى عام 1500م. ولا تزال قرونه الأولى فيما بين عام 500م وعام 900م أو 1000م تعرف بالعصور المظلمة، وهو اصطلاح لم يستطع حتى استعماله الدائم أن يمحو عنصر الهجاء فيه. وتعتبر العصور الوسطى الحقيقية فترة تمتد من شرلمان في القرن التاسع إلى كولمبس في القرن الخامس عشر، مع شيء من التداخل وعدم الدقة. وكما أن القرن الخامس قبل الميلاد يعتبر عادة عصر ازدهار ثقافة المدينة الحكومية اليونانية، فكذلك يعتبر القرن الثالث عشر عادة عصر ازدهار ثقافة العصور الوسطى. وأخيرا أود أن أقول إن هذه الثقافة كانت ثقافة الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى الامتداد الجديد الذي شمل وسط أوروبا، وأيرلندة، واسكتلندة، وإسكنديناوة. أما الجزء الشرقي من الإمبراطورية، الذي طالما اعتدى عليه السلاف، والعرب، والأتراك، فقد لبث في القسطنطينية حتى عام 1453م. غير أن تاريخه هو في الواقع تاريخ مجتمع منفصل، بل إن تأثيره الثقافي المباشر في الغرب ربما كان أضعف من تأثير الإسلام.
وقد اختلف الحكم على العصور الوسطى اختلافا كبيرا في القرون القلائل التي أعقبت نهايتها. إن الثقافة الإغريقية الرومانية لم تهاجم إلا منذ عهد قريب جدا. ولم يتصد للهجوم عليها إلا أولئك الذين يزدرون التربية الكلاسيكية، في حين أن الكتاب والفنانين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في ذيول العصور الوسطى بدءوا فعلا ينظرون بعين الاحتقار إلى أسلافهم في تلك العصور. وكثير من القذف المعروف الذي وجه إلى ثقافة العصور الوسطى ، كذلك الذي يقال من أن فلاسفة تلك العصور كانوا ينفقون وقتهم في جدل يدور حول عدد الملائكة الذين يستطيعون أن يقفوا على طرف دبوس، يرجع في أصوله إلى هذه السنوات الأولى من الأزمنة الحديثة. أما القذف الذي شاع في العصر الحديث على العصور الوسطى فقد تميز بعبارات كهذه: «ألف عام من غير حمام». بل إن صفة «غوطي» ذاتها التي نستخدمها اليوم بنغمة الثناء على فن العمارة في العصور الوسطى، كانت في بداية الأمر اصطلاحا ينطوي على الازدراء، ويعادل قولنا «بربري».
وقد هبطت سمعة العصور الوسطى إلى أدنى درجاتها في منتصف القرن الثامن عشر، «عصر النشر والعقل». ثم أغرمت الحركة الرومانتيكية في الجيل التالي، التي تزعمها سير ولتر سكوت، بشعر العصور الوسطى وبما حسبوه لا معقولا فيها. وبدأ الناس فعلا في إعادة البناء على النمط الوسيط. ويقال إن الدرجات الحجرية الغوطية الجديدة في إحدى الجامعات الأمريكية المعروفة قد جوفت عمدا كي تبدو قديمة من فعل الأجيال العديدة التي استخدمتها، كما ينبغي أن تبدو الدرجات الغوطية، وكذلك الصبية خلال الإحياء الرومانتيكي لروح العصور الوسطى مثلوا في ألعابهم روبن هود، كما أن من يكبرونهم زخرفوا المخطوطات وكتبوا القصص الشعرية.
ثم كانت هناك في أخريات القرن التاسع عشر حركة مضادة أخمدت هذه الحماسة للعصور الوسطى، وإن لم تطفئها تماما. أما الطالب الأمريكي المتوسط اليوم فلا يكترث مطلقا بالعصور الوسطى. وهو على الجملة يميل إلى الحكم عليها حكما غامضا ويصمها بالتأخر والخرافة. ولكن الأقلية من العشاق والكارهين تعبر عن نفسها تعبيرا واضحا، وكلاهما يمدنا بمشكلتنا الكبرى في هذا الفصل. ويرى بعضهم، وأكثرهم - وإن لم يكونوا كلهم - من الرومان الكاثوليك، أن العصور الوسطى والقرن الثالث عشر خاصة - تمثل قمة العمل الإنساني، وهي مجتمع وإن يكن بغير الثراء الحديث والتكنولوجيا العلمية، إلا أنه يقوم على أساس اجتماعي وخلقي متزن، وعلى عدالة اجتماعية عملية، وأسلوب مسيحي من العيش فيه أكثر من عوض عن اختفاء الوفرة المادية. ويرى آخرون، وأكثرهم - وإن لم يكونوا كلهم - من الوضعيين، الراديكاليين، المضادين للمسيحية ، المؤمنين بالتقدم إيمانا جازما، أن العصور الوسطى زمن بربري، متخلف، يعتقد في الخرافة، وتسوده الفوارق الطبقية، وهي عصر آلام للكثرة من الناس، وعصر عنف وتظاهر كاذب للقلة منهم. وكل من هاتين النظرتين يهدينا إلى عناصر هامة تعيننا على فهم العصور الوسطى، وكلاهما إذا أخذ ككل بغير تعديل بعيد عن الصواب.
نامعلوم صفحہ