افکار و رجال: قصہ فکر غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
اصناف
وإنما العامل الهام هنا إنما ينبغي في الواقع أن يلتمس في فشل العلوم البحتة في تأثيرها في الهندسة ونواحي النشاط الاقتصادية الأخرى، أو التأثر بها. ونستطيع أن نؤكد أن العلم الحديث قد اتخذ صورته، وأنه تقدم وعاش بسبب الثورات التجارية والصناعية في الأزمنة الحديثة إلى حد كبير. وإذا عبرنا تعبيرا مبتذلا قلنا إن العلم قد عاد علينا بالمنفعة، في حين أنه لم يكن نافعا في العالم القديم. والواقع أننا نرتد هنا إلى سؤال آخر، وهو لماذا لم تقم في الأزمنة القديمة ثورة صناعية؟ كانت هناك بداية في التطبيق، وفي أعمال البنوك وفي التكنولوجيا على السواء. ولكن لم يكن هناك نقص في العمال. وكيف تكون هناك مشكلة العمال مع وجود الرق؟ ومن ثم فلم يكن هناك حافز على إنتاج الآلات التي توفر العمل.
ونستطيع أن نقول في إيجاز إن من بين المصادر المعقدة كلها التي تمخضت عن العالم العلمي الحديث - الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والروحية - لم يتطور تطورا كاملا إلا المصدر الفكري في العالم الإغريقي الروماني.
أما الفرض بأن زيادة التقدم في العلوم وما يتبعها من صناعات كان من الممكن أن يحمي العالم القديم من التدهور الذي أصابه أخيرا؛ فمسألة تستحيل الإجابة عنها. وقد كان المتفائلون في الغرب في القرن التاسع عشر يميلون إلى الاعتقاد بأن نشوب ثورة صناعية وعلمية كان من الممكن أن ينقذ العالم القديم. وهناك كثير من المفكرين في الوقت الحاضر يشكون في أن هذه الثورة قد أنقذت عالمنا فعلا.
ويرى أكثر النقاد المحدثين أن كل الإنجازات الفنية والأدبية الهلينستية، بل والإغريقية المتأخرة، أقل شأنا من مثيلاتها في العصر الأعظم الذي سبقها. ومع ذلك فإن بعض أولئك الذين لعبوا أعظم دور في التربية الكلاسيكية في الأجيال المتأخرة في أوروبا وأمريكا ينتمون إلى هذه السنوات المتأخرة - كاتب السير والأخلاق بلوطارخ، والمؤرخ بوليبيس والشاعر ثيوقريطس، والإمبراطور المفكر ماركس أوريليوس. ثم إن تلك الظاهرة الثقافية - حسنة كانت أم سيئة - التي نسميها البحث العلمي ظهرت أول ما ظهرت بوضوح في العالم الغربي في تلك السنوات.
ويقابل «المتحف» العلمي في الإسكندرية من الناحية الأدبية «المكتبة». وربما كانت هذه المكتبة في أوجها تشتمل على ما يقرب من خمسمائة ألف ملف، أو مجلد بتعبير اليوم. وكانت هذه الكتب مخطوطة باليد على صحائف طويلة من أوراق البردي، وهو نوع من الورق مصنوع من غاب عادي، وملفوف على صورة قريبة الشبه بصحائف عازف البيانو القديمة. وكان لا بد من فضها - بطبيعة الحال - لكي تمكن قراءتها. وكانت «تنشر» عن طريق نسخها باليد، وهي عملية شاقة كانت تقوم بها عادة الطبقة العليا من الرقيق.
وبالرغم من انعدام الجهاز الآلي الحديث في البحث، فإن الباحثين الإسكندريين - كمعاصريهم من العلماء - قد طوروا ما نعرفه في العصر الحديث بالنقابة. وكانوا في القديم يقابلون ما نعرفه في الوقت الحاضر بحملة الدكتوراه. كانوا يجمعون، ويصنفون، ويذيلون، ويحللون ويلخصون أعمال أسلافهم العمالقة من هومر إلى أرسطو. وقد بقيت إلى اليوم هوامشهم وتعليقاتهم بين السطور، التي دونوها في مخطوطات حقيقية وأسموها الحواشي، فيسرت كثيرا من الدراسة الكلاسيكية الحديثة. وهكذا ترى أن الإسكندريين كانوا حلقة أساسية في السلسلة التي تربطنا بثقافة الإغريق العظمى. وكما يحدث للباحثين منذ ذلك الحين، نظر أصحاب الخيال والكتاب المبدعون إلى عملهم بعين الازدراء، وحط النفعيون من شأنهم، ورمقتهم الجماهير عامة بشيء من الحيرة. ولكني أرى أن أي شيء عاش بمثل النجاح الذي عاشت به هذه الدراسة لا بد أن تكون له عند المجتمع قيمة، على الأقل طبقا لنظرية دارون. ومهما يكن من أمر فإن من المخاطرة في الرأي أن نقول إن ظهور هذا النوع من البحث هو في حد ذاته دليل على التدهور الثقافي.
ولم تكن المكتبات التي يقوم فيها هؤلاء الباحثون بالدراسة شبيهة بمكتباتنا الأمريكية الدورية؛ إذ لم تكن ميسرة للجماهير. إنما كانت أماكن تحفظ فيها الكتب التي لا يستخدمها إلا الباحثون. ومع ذلك فلا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير معرفة الكتابة والقراءة كمقياس لسهولة الوصول إلى الأفكار. وقد كانت القدرة على الكتابة والقراءة محصورة في نسبة ضئيلة من السكان. وقد لاحظنا أن الأثينيين كانوا يتحدثون عن الأفكار أكثر مما يقرءون عنها. وبانتشار أسلوب الحياة اليوناني في الشرق، حمل الإغريق معهم عادتهم في الجدل العلني الحي. وكذلك حملوا لغتهم التي فقدت شيئا من رشاقتها في أتيكا ولكنها لم تهبط قط إلى مستوى الرطانة بالإنجليزية التي يستخدمها أهل الشرق الأقصى، وأصبحت اليونانية تعرف باسم «كويني» أي اللسان الشائع، لغة القديس بولس. ثم إن نظام المحاضرة الإغريقي القديم قد تطور حتى أمكن للمفكرين أن يكسبوا عيشهم - وكان الكسب عظيما جدا في الأزمنة المتأخرة للموهوبين بصفة خاصة وللمحظوظين - بطريقة تشبه طريقة الشوتوكوا الأمريكية في أول أمرها، أو الليسيه (أي إلقاء المحاضرات العامة لقاء أجر يتقاضاه المحاضر في شتى فنون المعرفة). ويعرف أكثرنا أن المصارعين المتفوقين - كلاعبي البيسبول المجيدين اليوم - كانوا يتقاضون أجرا عاليا في العالم الإغريقي الروماني، وكذلك أيضا كان الخطباء الناجحون، أو المحاضرون العامون. وكانت الثقافة الأدبية والفلسفية في العالم الإغريقي الروماني منتشرة بوضوح من بعض نواحيها. ولم تكن بالتأكيد محصورة في طبقة صغيرة عليا. وانتشرت المسيحية بين قوم ألفوا تبادل الأفكار علانية.
أما فيما خلا ذلك فقد كانت الثقافة الهلينستية تختلف اختلافا بينا عن ثقافة العصر العظيم، وإن يكن الأسلوب الكلاسيكي ما برح ملحوظا حتى في حالة التدهور والانحراف. وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى بعض اللمحات أو الصفات في الثقافة الهلينستية.
فأولا زادت الموضوعات التي كانت تتناولها الثقافة القديمة وتنوعت. وإنك لتلمس في الفن والكتابة الإغريقية والرومانية المتأخرة المدونة كل لون من ألوان الخبرة البشرية تقريبا. ولنضرب مثلا له أهميته وإن لم تكن له كرامته: إن الإنسان الغربي الحديث لم يضف جديدا إلا في القليل لمجموعة ما وصل إلينا من أدب فاحش، وربما كان هذا التنوع انعكاسا - إلى حد كبير - للفردية التي حلت محل التربية النظامية العامة والمعايير العامة في المدينة الحكومية. كان هناك في العالم الهلينستي تطلع إلى المكانة والنفوذ، والثراء، والتفات الجماهير (وهو هدف إنساني كثيرا ما يحط من شأنه رجال الاجتماع وعلوم السياسة). وكان من بين الوسائل التي يميز الفرد بها نفسه أن يؤدي غير المألوف، وأن يتطرف، وأن يكون مبدعا مبتكرا؛ فظهر مثلا ذلك الشاب الذي أشعل النار في معبد ديانا في أفيسس كي يخلد اسمه في التاريخ - وقد خلد. ومن السيكولوجيين من يسمي شهوة الشهرة المتطرفة «عقدة البطولة».
وإذن فقد امتدت أنماط الثقافة القديمة، وتحورت، وانتشرت بعدة وسائل. ومن اتجاهاتها - التي تتجلى خاصة في فن النحت - السعي وراء المعبر، والمحرك للشعور ، والمؤسي، والمثير. وقد حل محل الهدوء البادي في تماثيل البارثينون لاوكون وأبناؤه يتضورون ألما وسط الأفاعي الملتوية، والغال الميت، وتماثيل هومر الكفيف التي تدعو إلى الحسرة. ومن الحق أن الوسائل القديمة كذلك ظلت باقية؛ فهناك فينوس دي ميلو والنصر المجنح في ساموزريس، وهي من أعمال العصر الهلينستي.
نامعلوم صفحہ