افکار و رجال: قصہ فکر غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
اصناف
كان القرن الرابع قبل الميلاد، قرن أفلاطون وأرسطو، هو آخر القرون التي كانت فيها المدينة الحكومية الإغريقية مستقلة حقا، تلك المدينة التي بنيت عليها الثقافة التي قدمنا دراستها. وقد نشأت في القرون الثلاثة التالية على وجه التقريب وحدات سياسية أكبر كثيرا من عالم البحر المتوسط. وكانت هذه الوحدات هي «الدول المتعاقبة» بعد إمبراطورية الإسكندر الأكبر الزائلة، وهي: مقدونيا، ومصر، وسوريا ودول أخرى أقل منها شأنا في آسيا الصغرى. وفي الغرب روما وقرطاجنة. وظلت هذه «القوى الكبرى» تتصارع فيما بينها حتى أمكن لروما في عام 100ق.م أن تهزمها وتمتصها جميعا، وكان إذن - لما يقرب من ثلاثة قرون - للثقافة الإغريقية تأثيرها في مجتمع يخضع لروما من الناحية السياسية. وتحول عالم القبائل والمدن الحكومية المتقاتلة إلى «عالم واحد» من الثقافة الإغريقية الرومانية المتأخرة. وكان عالما موحدا بدرجة غير مألوفة، عالما تسمح فيه الطرق البرية الجيدة والخطوط البحرية المنظمة للأفراد، والأفكار، أن يتنقلوا بحرية، عالما كانت الطبقات المتعلمة فيه على الأقل، مهما تكن مواطنهم الأولى: البريطانيون، والغال، والإسبان، والإيطاليون، والأفريقيون ، والإغريق، والمصريون يشتركون في ثقافة عالمية حقيقية، عالما يتحرر مؤقتا من الحروب بين وحداته التي يتألف منها، ويخضع إجمالا لإدارة سلمية يقوم عليها إداريون تثقفوا بالقانون الروماني.
وفي هذه القرون نشأت مراكز مدنية كبرى، مثل روما ذاتها، وأنطاكية، والإسكندرية. وفي هذه المراكز أقيمت المكتبات والجامعات، التي رفعت البحث العلمي، بل وبعض العلوم، إلى مكانة رفيعة. وليس للبحث العلمي (أو الدراسة الدقيقة) لأكثرنا اليوم إلا معنى يسير، ولكنها - بمضاعفة النصوص - جعلت بقاء العمل العظيم في الثقافة العظمى أكثر احتمالا. أما العلوم - وبخاصة الرياضيات، والفلك، والفيزياء - فقد كونت أساس ما نعرف اليوم، وانتقل إلينا جانب كبير منها عن طريق العرب ورجال الدراسة في العصور الوسطى.
وأهم من ذلك أن هذه القرون الستة شهدت أثر كثير من الأفكار، وكثير من النظرات إلى الحياة - في إطار العالم الجديد الأوسع؛ عالم مقدونيا وروما - التي نشأت في المدينة الحكومية في عهد اليونان الأعظم. وانتشرت في الخارج الأفكار التي تطورت قصرا عن الأخلاق والميتافيزيقا عند المفكرين الإغريق الأوائل، وربما لم تنتشر بين جمهرة الناس، ولكنها ذاعت على الأقل بين الأقليات المتعلمة في خمسين قبيلة وجنسا بشريا. وفقدت الأفكار الإغريقية حدتها، وذوقها الأولي، وانثلمت، واختلطت، لكي تلائم استخدام الصفوة العالمية لها. ولا يزال هذا العمل للعاشق المخلص لثقافة اليونان العظمى ترخيصا للأصل وانحطاطا به إلى المستوى الشعبي. ولكنه عمل هام بالنسبة إلينا، ما دام عن طريقه أمكن للأفكار الإغريقية أن يكون لها تأثيرها في المسيحية. ولا يزال مدى هذا التأثير أمرا يناقش ويمكن الجدل فيه.
وأهم من هذا كله إذن أن المسيحية نشأت في هذه القرون، وهي - بالإضافة إلى القانون الروماني ك «نظام حي» - ما بقي لدينا من هذا العالم الأوحد في الثقافة اليونانية الرومانية. ويستطيع فلاسفة التاريخ أن يبحثوا في الألف العام التي عاشتها الثقافة الإغريقية الرومانية عن بعض ما يفسر لنا مدى حياة جميع الثقافات، كما يستطيعون أن يتبينوا - بالقياس إلى هذه الثقافة - إن كنا اليوم في رائعة النهار، أو في وقت الأصيل. ويستطيع مؤرخو القانون والنظم، واللغة والأدب، أن يتلمسوا ألف حلقة مباشرة تربط بيننا وبين أسلافنا من العهد اليوناني الروماني . أو يستطيع أولئك الذين يبتهجون بغزارة التفصيلات التي يمكن أن نعيد بها بناء هذا العصر - عصر التمدن والتعقيد - أن يستمتعوا بالعالم اليوناني الإغريقي لحد ذاته. أما لأولئك الذين لا بد أن يجدوا بيننا وبين الماضي رابطة أكيدة واضحة، فإن الحقيقة الرئيسية الطاغية في هذه القرون هي أنها كانت أساس المسيحية.
وسوف نتعرض في هذا الفصل على التوالي لأثر اليهود، والإغريق المتأخرين (الهلينستيين) والرومان في ميراثنا الفكري.
العنصر اليهودي
إن بذرة المسيحية جاءت من خارج العالم الإغريقي الروماني. كان يسوع المسيح يهوديا، وقد ولد في وقت كان الوطن اليهودي - تحت حكم هيرود الذي تحول إلى الهلينية - يعتبر وحدة شبه مستقلة في مجموعة الأمم المتشابكة التي نسميها الإمبراطورية الرومانية. ومن الحق أنه كان هناك كثير من اليهود في وقت ميلاد يسوع ممن يتكلمون اليونانية، بل واللاتينية، وكانوا مواطنين من جميع النواحي في ذلك العالم الشامل من الأفكار المتعارضة، والمذاهب الدينية، والعواطف. غير أن أساس المسيحية الأولى يهودي بدرجة قصوى، ينطبع بطابع الخبرة اليهودية الفذة، وهي خبرة أكثر إقليمية وعالمية في آن واحد من أي مدينة حكومية إغريقية كبرى (وليس هنا مفر من هذا التناقض).
وهنا بالذات نلتقي بصعوبة سوف نلاقيها بصورة أحد عند دراسة المسيحية ذاتها. ويجب على المؤرخ أن يسأل نفسه لماذا كان اليهود دون سواهم من جميع قبائل وشعوب شرقي البحر المتوسط الذين يتشابهون معهم في البيئة الجغرافية والظروف المادية الأخرى، ولا يختلفون كثيرا في تاريخهم القديم، لماذا كان اليهود دون سواهم هم الذين صدرت عنهم الديانة التي لا تزال بعد ألفي عام الديانة الرسمية في عالمنا الغربي. وربما أجاب المؤرخ عن هذا السؤال - مسترشدا بالمسيحية الأولى - بأن الله اختار اليهود، وأن كل شيء كان يسير وفقا لخطة مقدسة، وهذه إجابة واضحة لا ترد، وهي إجابة تيسر على المؤرخ واجبه إلى حد كبير. وهي ليست الإجابة التي ينبغي أن نقدمها هنا.
وبغض النظر عن تسليمنا بالإيحاء السماوي الكامل للإنجيل، بعهديه القديم والجديد، فإن هناك مواقف متعددة جدا، تنتشر في الواقع على مدى فسيح من الإيمان الكامل بالإنجيل إلى إنكاره عن عقيدة، هناك مواقف تدعو إلى القول بأن الإنجيل لا يعدو أن يكون مجموعة من الوثائق التاريخية نعاملها كغيرها من الوثائق المشابهة، كإلياذة هومر والأوديسى، أو نبلنجنليد. وأعداء المسيحية من أمثال نيتشه الذين سوف نلتقي بهم في أواخر هذا الكتاب، يميلون أحيانا بعيدا إلى الخلف، ويعلنون أن المكتوب في الإنجيل يحتمل بصفة خاصة أن يكون باطلا.
وسأحاول في هذا الكتاب ألا أتخذ موقفا عقائديا، ولن أقف بالتأكيد في موقف عقائدي ضد المسيحية. ومهما يكن من أمر فإني أفترض هنا أن أفكار اليهودية والمسيحية وعباداتهما هي - من حيث الغرض من التحليل التاريخي - من ثمار الثقافة البشرية في العصر التاريخي. كما أنه من الممكن كل الإمكان أن ننظر إلى حقائق المسيحية - كما ننظر إلى حقائق الأفلاطونية - على أنها حقائق تتجاوز حدود التاريخ - أو لا تتجاوزه - ولكنها في النهاية بالتأكيد لا يمكن تفسيرها في حدود مسير التاريخ. وربما لا يستطيع أحد أن يكون متشككا في الزمان ومؤمنا بالخلود. وعلى أية حال سوف أحاول في هذا الكتاب أن أحتفظ بقدر من التشكك الذي لا يؤذي، بل وبقدر معين من التواضع.
نامعلوم صفحہ