افکار و رجال: قصہ فکر غربی
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
اصناف
ومن ثم فقد كانت حرب بلوبونيز نقطة تحول. نعم كان هناك إغريق سعداء بعد هذه الحرب، وكان هناك إغريق تعساء قبلها، كما كان هناك كتاب وفنانون عظام بعد الحرب، إلا أن شيئا قد اختفى من الحياة اليونانية، وهو ذلك الشيء الذي تظهر حقيقته في أحسن صورها في خطاب الذكرى لبركليز. ولقد فشل الإغريق في مقابلة الأزمة التي اعترضتهم في عام 431ق.م بنجاح.
وقد كانت تلك الأزمة في غاية التعقيد. ولم تكن قط روحية فقط أو فكرية فقط. وأحس بها - بطبيعة الحال - الناس ككل حي في خبرة حياتهم. وإذا اردنا لأغراض التحلل أن نفتتها إلى عناصر سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وفكرية، فإننا نفتت كلا كما يفتت الكيماوي - من بعض الوجوه - الماء إلى هيدروجين وأكسيجين. فليس الماء وحده وليست حرب بلوبونيز وحدها، وليس نضال الطبقات المرير وحده في ذلك الحين، وليس انهيار المدينة الحكومية، وليس انحلال القيود الخلقية القديمة وحده، ليس هذا ولا ذاك وحده هو أزمة الثقافة الإغريقية.
واتخذت الأزمة «السياسية» بشكل ظاهر، صورة تماثل بدرجة مذهلة صورتها في يومنا هذا، لم تستطع في الواقع المدن الحكومية ذات السيادة أن تعيش مستقلة بعضها عن بعض كالقوالب العديدة في الفسيفساء، أو البقع الملونة في المصور الجغرافي. غير أن تبادل العلاقات المستمر بينها كان ينتهي دائما بالحروب. وأخذت هذه الحروب تشتد وتطول تدريجا، حتى اقتربت من موقف يجعل المدن المتحدة الظافرة في مثل الإنهاك الذي تكابده المدن المهزومة. وقد كانت هذه المدن الحكومية اليونانية في وقت من الأوقات - في التسعينيات والثمانينيات من القرن الرابع - قد اتحدت، مع قليل من الفتور لا يعدو تلك الخلافات العادية بين الحلفاء، لكي تهزم تلك القوة الأجنبية، الآسيوية، الفارسية العظمى. ومن الارتفاع الذي حدث من هذا الانتصار على الفرس يبدأ تاريخ بلوغ القمة في الحركة الصاعدة في الثقافة التي درسناها. فنمت أثينا خاصة في ثروتها وقوتها، وشرعت تبني المدن الحكومية في المساحة الإيجية على غرار النظام الأثيني، فكانت في أول الأمر اتحادا دفاعيا ضد الخطر الماثل دائما - خطر عودة الفرس - ثم تقاربت إلى ما نسميه منطقة نفوذ، وانتهت إلى إمبراطورية أثينية. وهذا التهديد للنظام القديم؛ نظام المدن الحكومية المستقلة استقلالا تاما، التي لم ترتبط إلا بأنواع من التحالف المتغير، هذا التهديد هو الذي جر إسبرطة إلى الحرب لكي تحتفظ باستقلال اليونان.
ولم تكف المدن الحكومية اليونانية عن التقاتل فيما بينها، وقد أخذ هذا التقاتل يشتد حتى بات من المؤكد أن سلطة خارجية، إن عاجلا أو آجلا، سلطة غير إغريقية، لا بد أن يستهويها التدخل وتغزو الإغريق جميعا. ولم تكن الإمبراطورية الأثينية قط جهدا مقصودا لتجاوز نظام المدينة الحكومية، إنما كانت امتصاصا عن طريق الغزو، لم تحاول فيه إلا قليلا أن تكتسب الولاء الفعال للبلدان الممتصة. وهذه المدن الحكومية التي امتصتها أثينا انتهزت جميعا في الحرب البلوبونيزية فرصة انتصارات إسبرطة لكي تتخلى عن أثينا وتؤكد «استقلالها». ولم تكن إسبرطة أو طيبة - بعد هزيمة أثينا - أكثر نجاحا في توحيد العالم الإغريقي.
وإذا أنت استبدلت «الحكومة القومية في القرن العشرين» ب «حكومة المدينة في القرن الخامس»، وجدت موقفا يشابه موقفنا من بعض الوجوه في جلاء ووضوح. ليس من المحتمل أن تحتمل الحكومات القومية ذات السيادة في عهدنا التكاليف المادية والروحية لحروب كالحربين الأخيرتين. وكذلك ليس من المحتمل أنها تستطيع أن تتحاشى الخوض في هذه الحروب، ما دامت ترغب في الإبقاء على سيادتها. والمشكلة التي تدعو إلى السلام (كمسرحية لسستراتا الممتعة على سبيل المثال) واضحة اليوم في أعين الكثيرين منا، بيد أنها ربما لم تكن في مثل هذا الوضوح للإغريق القدامى، وليس عليك إلا أن تقرأ مسرحيات أرستوفان في بداية القلاقل - أو نهاية الجدل العظيم بين ديموستنيس وخصومه بشأن تدخل مقدونيا في السياسة الإغريقية؛ لكي تتحقق من أن الإغريق أحسوا طبيعة الأزمة.
وفي عهد متأخر جدا، في القرن الثالث، حاولوا أن يضموا المدن الحكومية طوعا في وحدة فدرالية حقيقية، كما انضمت المستعمرات الأمريكية الثلاث عشرة فيما بين 1787م و1789م. ولكن بالرغم من أن اتحاد إيجة واتحاد إيتوليا كان كلاهما تجربة شائقة في تجاوز المدينة الحكومية ذات السيادة، فإن نجاحهما كان جزئيا، ولم يحدث إلا في عهد متأخر جدا. وفي هذا الوقت كان أعظم الدول الاستعمارية في تاريخنا الغربي، وأقصد روما، على استعداد لأن تحل محل مقدونيا المستضعفة.
وإذن فلم يكن هناك في ذلك الحين تخطيط واضح لقيام حكومة عليا، أو حركة قوية أو محاولة مقصودة لتجاوز الشكل السياسي الذي يسبب المتاعب، كما يحدث اليوم. ويبدو أن صاحبي النظريات السياسية العظيمين في وقت القلاقل هذا - وأعني بهما أفلاطون وأرسطو - كانا لا يبصران أوجه النقص في المدينة الحكومية. والظاهر أن كليهما افترض أن الإغريق يمكن أن يعيشوا على الدوام في المدينة الحكومية في عهد الثقافة العظمى، أو في صورة معدلة لهذه المدينة الحكومية. ونستطيع أن نقول إن الإغريق دخلوا «العالم القديم» الذي مهد لهم دون أن يدركوا تمام الإدراك ما هم فاعلون. ونستطيع في الوقت عينه أن نقول - ونحن مطمئنون - إن شر الحروب المستمرة في الأعوام المائة التي سادت فيها القلاقل التي تهمنا، كان أحد العوامل الرئيسية في اضطراب عقول الناس.
وكانت الحروب إلى حد ما من أجل الثروة، وكذلك من أجل النفوذ والكرامة، حروب لفرض الجزية على المهزوم، وللحصول على الاحتكارات التجارية، بل وربما للحصول على العيش والمجال الحيوي لمقابلة ازدياد السكان الذي يؤثر في مستوى المعيشة - وإن يكن التثبت من ذلك غير ممكن بسبب عدم وجود أرقام إحصائية. ومما لا شك فيه أن أثينا - باعتمادها على التجارة الخارجية لتوفير الطعام لكثرة سكانها - كانت في موقف يجعل الدوافع الاقتصادية من العوامل الهامة في شن الحروب. ونحن نعلم أن المدن الحكومية كانت آخذة في الثراء وازدياد السكان على وجه العموم لعدة قرون. وهذا النمو أدى - وبخاصة في المدن التجارية العظمى مثل أثينا وكورنث - إلى نمو طبقة تجارية من أصحاب الأموال. وكان ذلك سببا في اقتلاع الفلاحين من الأرض، وقذفهم إلى الحياة المدنية بما فيها من قلق وإثارة. وانتهى الأمر - وبخاصة في أثينا - إلى مجتمع متنوع، يحتك فيه الأغنياء بالطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة، مجتمع يستطيع فيه حتى العبد الذي يقوم على مشروع ناجح أن يكسب المال، مجتمع يقوم على أسس الطبقات، ولكن في غير صرامة - أو مجتمع شبيه بمجتمعنا في كثير من وجوهه. وكان هناك في أوقات الرفاهية ما يكفي جميع الطبقات، وكان هناك أمل في حالة أفضل. ولم يكن هذا المجتمع المختلط عرضة للإجهاد الشديد. ولكن بتوالي الحروب، وبتراكم أسباب النقص، وباشتداد التوتر، أضيف نضال الطبقات إلى الحرب الفاشية بين المدن الحكومية، والصراع بين الأغنياء والفقراء، بين الأرستقراطية والديمقراطية، بين اليمين واليسار، تحول في النهاية إلى نضال بين أثينا وإسبرطة؛ لأن الحزب الديمقراطي أو الشعبي في كل مدينة من المدن - عندما اشتدت أزمة الحرب - انضم إلى جانب أثينا، وانضم حزب الأوليجاركية أو الأرستقراط إلى إسبرطة.
وقد عبر ثيوسيديد تعبيرا بسيطا عن نتيجة ذلك كله، عندما كتب عن نشوب أول حرب طبقية في إطار حرب بلوبونيز، التي وقعت في كوركيرا على الساحل الغربي لبلاد اليونان. قال: «وهكذا نشبت الحرب الأهلية في المدن، وابتدع الثائرون المتأخرون - ونصب أعينهم أمثلة سابقة - أفكارا جديدة، تجاوزت كثيرا الآراء القديمة، وكانت مشروعاتهم محكمة، وطرق انتقامهم طريفة. وتغيرت المعاني العادية للكلمات وفسرت الألفاظ بمدلولات جديدة. واعتبر التهور في استهتار شجاعة عند المحارب المخلص، وبات التردد المتسم ببعد النظر مسوغا للجبن، والاعتدال حجة في ضعف الشهامة، وأمست القدرة على رؤية جوانب الموضوع عجزا كاملا عن العمل. وعد الاندفاع التلقائي علامة الرجولة، والحذر من المؤامرة مسوغا ظاهرا للتهرب من العمل. يثق الناس دائما بأسلوب العنف، ويشكون في معارضيه. والنجاح في التآمر ذكاء، وأشد منه ذكاء أن تبتكر المؤامرة. أما إذا أنت ابتكرت سياسة تجعل مثل هذا النجاح في المؤامرة أو هذا التشكك أمرا لا حاجة بأحد إليه، فأنت خارج على حزبك، تبدي الخوف لخصومك.»
وقد يبدو هذا الوصف العام لبعض العقول كلاما مجردا أو غير واقعي. ولكن دعنا نسمح لثيوسيديد بالاستمرار في أسلوب الرواية المحسوس، الشائع بين المؤرخين. فر بعض أهل كورسيريا من حزب الأرستقراط إلى حصن جبلي، وأسلسوا القيادة مطمئنين لأهل أثينا. وبحيلة غير شريفة استطاع أهل كورسيريا من الديمقراطيين - بموافقة سلبية على الأقل من جانب حلفائهم الأثينيين - أن يخرجوا من تحت الحراسة بعض الأفراد، ويغتالوهم. يقول ثيوسيديد: «بهذه الطريقة أخرج ستون رجلا وقتلوا دون علم أصدقائهم المقيمين في نفس المبنى، الذين ظنوا أنهم إنما ينقلون من سجن إلى آخر. وأخيرا فتح أحد الناس أعينهم للحقيقة، وعلى أثر ذلك دعوا الأثينيين ليقتلوهم - إن شاءوا - ورفضوا أن يتركوا المبنى، وقالوا إنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لكي يمنعوا تسلل أي امرئ إلى الداخل. ولما كان أهل كورسيريا راغبين عن اقتحام الأبواب، فقد تسلقوا المبنى، واخترقوا السقف، وألقوا الأحجار التي اقتلعوها جانبا، ثم سددوا نحوهم السهام، التي اتقاها المسجونون قدر المستطاع. وقد انتحر أكثرهم، وحزوا رقابهم بأنفسهم بنفس السهام التي صوبها العدو نحوهم، أو شنقوا أنفسهم بالحبال التي خلعوها من بعض الأسرة التي كانت بالمكان، وبأشرطة صنعوها من ملابسهم واتخذوا - في إيجاز - كل وسيلة ممكنة لقتل أنفسهم، كما وقعوا كذلك فرائس للقذائف التي رماهم بها خصومهم من السقف. وبينما كانت هذه الأهوال تشتد فزعا حل المساء، وانقضى الجانب الأكبر منه قبل أن تنتهي المعركة. ولما بزغ النهار ألقى أهل كورسيريا الجثث أكواما في العربات ونقلوها خارج المدينة. وبيعت كل النساء - اللاتي كن في الحصن أسيرات - إماء. وبهذه الطريقة قضت العامة على أهل كورسيريا المتحصنين في الجبل. وهكذا انتهت الحرب الطبقية بعد أعمال بالغة العنف، انتهت على الأقل فيما يتعلق بالفترة التي اشتعلت فيها؛ إذ لم يبق في الواقع أحد من حزب واحد من الأحزاب.»
نامعلوم صفحہ