بسبب مشكلة الرق خاصم أبراهام دوجلاس، وبسبب تلك المشكلة سيعود أبراهام من المحاماة إلى السياسة ليكون محامي الحرية الأكبر، وبالوقوف في وجه الرق ستسمو منزلة أبراهام في قومه ويعظم فيهم خطره ويلتمع في أفق السياسة نجمه، وبقضاء الرئيس لنكولن على الرق سيغدو بطلا من أبطال أمريكا وعلما من أعلام الإنسانية.
وما كان لرجل مثل أبراهام أن ينبه في الناس شأنه إلا لصلته بقضية من قضايا الإنسانية، أما الدوافع الشخصية والأطماع الدنيا فلم تك مما يتفتح له قلب مثل قلبه، ولا مما يمتد إليه بصر كبصره.
كانت تقع عينا الصبي أبراهام لنكولن على نفر من هؤلاء السود أحيانا وهو مع أبيه في الغابة، فتأخذه الحيرة من أمرهم والشفقة والرثاء لهم، ولم تبين له كلمات أبيه سبب شقاء هؤلاء السود ولم كانوا كدواب الزراعة في نظر البيض، فهل كانوا كذلك لأنهم سود فحسب؟ ومن أين جيء بهؤلاء السود؟ ولم كانوا سودا؟ ولم يجعلهم سوادهم أذلة؟
ولن ينسى أبراهام رحلته إلى نيو أورليانز في أول شبابه وانقباض نفسه وانكدار خاطره؛ إذ رأى جموعا من هؤلاء السود في الأصفاد يحشرون إلى حيث يباعون كما تباع الماشية، ولن يبرح يطوف بخياله فيؤلمه مرأى تلك الجارية الحسناء، التي عرضت هناك في أحد الأسواق نصف عارية على المشترين كما تعرض الفرس الكريمة.
منذ ذلك اليوم استقر في أعماق نفسه كراهة الرق، وفي ذلك اليوم قال كلمته وهو يشير بجمع يده: «لئن قدر لي يوما أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.» وكأنما شاءت الأقدار أن تريه ما رأى عن قصد؛ ليكره الرق منذ حداثته كما يكره الأخيار المصطفون منذ نشأتهم الكفر والفسوق والعصيان.
ومنذ ثلاثة عشر عاما من يومه هذا، يوم سماعه بلائحة كنساس، كتب أبراهام كتابا إلى أخت صديقه سبيد يصف رحلة له على صفحة المسيسبي، جاء فيه:
وفي تلك الأثناء كنت تلقاء مثل جميل على ظهر القارب يصلح لأن أتأمل فيه لأرى كيف تؤثر الظروف في سعادة الإنسان؛ اشترى أحد السادة البيض اثنى عشر زنجيا من جهات مختلفة في كنطكي، وكان بسبيله إلى الجنوب ومعه زنوجه، وقد سلكوا كل ستة في سلسلة، وكان يدور غل صغير بمعصم اليد اليسرى لكل منهم، ويوثق بسلسلة صغيرة تنتهي إلى السلسلة الكبيرة على مسافات تدع بين الواحد ومن يليه بعض الفراغ، فكانوا أشبه حالا بسمكات في مثل عددهم تعلق بحبل الصائد كل منها في شص، وكانوا على مثل هذه الصورة ينتزعون إلى الأبد من مجالي طفولتهم ومن أصدقائهم ومن آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم، وفيهم من انتزعوا كذلك من زوجاتهم وأولادهم، ليساقوا إلى رق أبدي، حيث لا تقل ضربات السياط من يد سيدهم فوق أجسادهم لهيبا عنها من أي يد أخرى، وفي مثل هذا الوضع وهاتيك الظروف التي ما حسبناها بادئ الرأي إلا محزنة لنفوسهم، كانوا أكثر من على ظهر القارب مرحا وأكثرهم فيما يبدو من أمرهم سعادة؛ أما أحدهم - وقد كانت جريمته، التي من أجلها بيع، فرط محبته وولوعه بزوجته - فكان لا يكاد يدع المزمار من يده أو يمل ألحانه فيه، وأما الآخرون فكانوا يرقصون ويغنون ويتبادلون النكات ويلعبون ألعابا مختلفة بالورق من يوم إلى يوم، ألا ما أصدق قول القائل «إن الله يسكن الريح من أجل الحمل المجذوذ»، وفي عبارة أخرى إنه يجعل أتعس الظروف الإنسانية محتملة، في حين أنه لا يسمح لأسعدها أن تكون أكثر من أنها محتملة.
وهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره لا يزال يمقت الرق من أعماق قلبه الإنساني الكبير، ولكن المسألة ليست اليوم مجرد عاطفة بل هي مسألة سياسة، وهو اليوم ينظر إليها من ناحيتيها العاطفية والسياسية جميعا، يتألم قلبه أشد الألم كلما فكر في حال الرقيق، ولكنه حذر من الدعوة إلى التحرير لا يميل إلى أصحابها كل الميل؛ لأن سياستهم المتعجلة المتحمسة تؤدي إلى فصم عرى الاتحاد، وذلك ما يخافه أشد الخوف؛ فإن المحافظة على بناء الاتحاد لا تقل عنده أهمية عن القضاء على الرق.
إذن فليقتصر اليوم على الوقوف في وجه الداعين إلى مبدأ السماح بانتشار الرق، وهؤلاء هم الديمقراطيون، حتى تحين الفرصة التي تمكنه من العمل الحاسم ثم من الضربة القاضية.
تألم لنكولن من قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا ألما شديدا كما أسلفنا القول؛ فقد كان قبل هذا القرار - فضلا عن كراهة الرق كرها شديدا - لا يفتأ يفكر في هذه المعضلة ويديرها في رأسه، وإن كثرت في المحاماة مشاغله. تحدث عنه جون ستيوارت، فقال إنه بينما كان وأبراهام في طريقهما ذات يوم أثناء جولة من الجولات القضائية سنة 1850؛ أي قبل قرار الكونجرس بأربعة أعوام، قال له وهو يحاوره: «لنكولن! إنا مقبلون على الوقت الذي سوف نكون فيه إما من دعاة التحرير جميعا أو ديمقراطيين جميعا.» وفكر أبراهام لحظة ثم قال في لهجة التأكيد: «إذا ما جاء ذلك اليوم فقد جمعت له عزمي؛ لأني أعتقد أن معضلة الرق لن ينجح فيها بعد ذلك مساعي التوفيق.»
نامعلوم صفحہ