ومن عجيب الأمور أن يتجه أبراهام هذا المتجه فيكون طالب وظيفة! فهل بات الرجل الكادح الطموح يطلب الرزق من أيسر سبله؟ أم هل بات يطمع في الجاه الرسمي الذي ينال بالمنصب الحكومي؟ ولكن ما له ولهذا وهو لا يتصل أقل صلة بطبعه؟! أترى هو العسر يحمله على السعي إلى ما يكره؟ لعل ذلك هو أقرب الفروض إلى المعقول.
وكان المنصب الذي يطمع فيه هو منصب رئيس ديوان الأراضي العامة بوشنطون، وقد أزمعت الحكومة أن تعين فيه رجلا من حزب الهوج، ومن إلينوى على الأرجح، وكان لأبراهام - بما اكتسب من خبرة في مسح الأرض ومن خبرة في ممارسة القانون - ما يجعله يرى نفسه أهلا لهذا المنصب، فكتب إلى الرئيس تيلور يطلب منه أن يعينه فيه.
ولكن بعض ذوي المكانة من الهوج تطلعوا مثله إلى ذلك المنصب ونافسوه فيه، ومن هؤلاء رجلان؛ يدعى أحدهما إدوارد، والثاني موريسون، كانا أقوى المتطلعين وأشد المنافسين.
ولما عاد لنكولن إلى سبرنجفيلد وفاتحه بعض أصحابه في هذا الأمر، قال إنه اتفق وبعض رجال الهوج في وشنطون على أنه إذا تنازل أحد الرجلين - إدوارد أو موريسون - لصاحبه، أيد الهوج من يبقى منهما يطلب المنصب، ثم قال: «إذا ترك هذا المنصب لولاية إلينوى، وكان ذلك على أن أقبله، لا لأي سبب آخر؛ فإني عندئذ أقبل.»
ورأى أبراهام أن لا بد من السفر إلى وشنطون ليكون على مقربة ممن بيدهم الأمر، فسافر إليها، ولنقص نبأ هذا السفر؛ فإن فيه ما يزيدنا علما بجانب من جوانب شخصية لنكولن.
بدأ رحلته في الصباح الباكر ذات يوم من خان للسفر في سبرنجفيلد، ولم يكن في الخان إلا مسافر واحد غيره من أهل كنطكي كان في طريقه إلى موطنه، فصحب أبراهام مسافة طويلة في عربة السفر، وشاهد المسافر ما آلمه من أمارات الهم والعبوس في وجه لنكولن، فأراد أن يمحو شيئا من سأم الرحلة فعرض على أبراهام مضغة من الطباق، فأجابه: «لا يا سيدي، شكرا لك إني لا أمضغ قط.» ثم أعقب ذلك سكون طويل بينهما، وأخرج الرجل بعد ذلك من جيبه علبة مكسوة بالجلد، وانتزع منها دخينة فقدمها إلى لنكولن، فاعتذر إليه شاكرا كما فعل من قبل؛ لأنه لا يدخن قط. ولما صارا على مقربة من إحدى المحطات التي تغير عندها الخيل، أخرج الرجل زجاجة خمر من بين متاعه، وصب منها في كأس ومد بها يده إلى رفيقه المسافر قائلا: «إيه أيها الرفيق الذي لا أعرفه، هل لك وقد علمت أنك لا تمضغ ولا تدخن أن تتناول قليلا من هذا البرندي الفرنسي؟ إنه ممتع من الطراز الأول، وهو إلى جانب ذلك مثير للشهية.» ولكنه قوبل كذلك بالإعراض من رفيقه الطويل المنطوي على نفسه، وكان عذره أنه كذلك لا يشرب الخمر قط. ولما آن أن يفترقا قبل الظهر ليذهب الكنطكي في طريق آخر، صافح ذلك الرجل أبراهام وهز يده في حماسة قائلا: «الآن أصغ إلي أيها الشخص الذي أجهله، إنك رجل ذكي، ولكن أمرك عجب، ربما كان ذلك آخر لقاء بيننا وإني لا أريد أن أسيء إليك، ولكني أحب أن أقول لك إن تجاربي علمتني أن الرجل الذي لا رذائل له قليل الفضائل ...! طاب يومك.»
وثمة حديث آخر في هذا السفر يقصه رجل يدعى توماس نلسن، اختاره فيما بعد لنكولن وهو رئيس وزيرا في شيلي قال: في ربيع سنة 1849، كنت والقاضي هامند الذي أصبح فيما بعد حاكم إنديانا قد أخذنا الأهبة للسفر إلى إنديانا بولس في عربة من عربات السفر، وكان يلزم لقطع هذه الرحلة عادة يوم كامل، ففي فجر ذات يوم أقبلت عربة من الغرب، فلما ركبنا فيها وجدنا المقعد الخلفي يحتله شخص طويل يبدو كأنما تمتد رجلاه إلى نهاية العربة من ناحية، ورأسه إلى نهايتها من الناحية الأخرى! ولم يكن غيره في العربة، وكان يغط في نوم عميق، فربت هامند على كتفه في غير كلفة قائلا: هل استأجرت العربة وحدك هذا اليوم؟ فأفاق ذلك المجهول من نومه وأجاب قائلا: «يقينا لم أفعل ذلك»، ثم وثب إلى المقعد الأمامي تاركا لنا في رقة وكرم مكان الراحة والتوقير.
وأخذنا هذا الشخص المجهول بلمحة، فإذا هو غريب الهيئة زريها، يرتدي حلة بادية القدم رديئة الهندمة بغير قميص ولا رباط عنق، ويلبس فوق رأسه قبعة رخيصة من الخوص دفعها إلى الخلف، وترى أبرز ملامحه في حالة سكونه كثيبة لا معنى فيها، ولما كنا قد رأينا فيه موضوعا للمزاح فقد استرسلنا في طائفة من النكات، فلاقاها جميعا في براءة وطيبة قلب، وشاركنا في الضحك وإن كان الضحك على حسابه. وتوقفنا عند الظهيرة لنتناول شيئا من الطعام في مطعم على جانب الطريق، ودعوناه ليأكل معنا فدنا من الخوان في هيئة تنم على أنه عد ذلك شرفا عظيما، وجلس بنصف جسمه على مقعد صغير، وكان يضع قبعته تحت إبطه أثناء الطعام، وبعد أن فرغنا من طعامنا استأنفنا السفر، ومال الحديث بنا إلى ذلك المذنب الذي كان يومئذ يثير دنيا العلم.
ورأينا رفيقنا المجهول ينصت إلى الحديث في شغف عظيم، ولقد أدلى بطائفة عجيبة من الآراء من فيض قريحته وسأل أسئلة كثيرة، وملأنا عجبا بكلمات علمية طويلة راعدة الجرس، وبعد أن ألقينا عليه ما يملأ الفؤاد دهشة من تهاويل كلماتنا العلمية، سألنا ذلك الشخص المجهول وقد ملكته الحيرة والدهشة: «وماذا عسى أن تكون آخرة هذا المذنب؟» وأجبته أني لست على بينة من أمري، بيد أني أخالف معظم العلماء والفلاسفة، وأميل إلى الرأي القائل بأن الدنيا كلها ستذهب هباء في إثر ذلك الشيء المخيف! وفي ساعة متأخرة من المساء بلغنا إنديانا بولس وخففنا إلى فندق بروننج، وافترقنا نهائيا عن ذلك الشخص المجهول وآوينا إلى حجرتنا لنغسل التراب عن وجوهنا، وبعد دقائق نزلت إلى ردهة الفندق فوقعت عيناي على ذلك الرجل الطويل الواجم المحيا وسط جماعة من المعجبين به من رجال القانون، تبينت بينهم من القضاة مكليان وهانتنجتون وألبرت هويت وإدوارد هانيجان وريتشارد تومسون، وبدا عليهم جميعا أنهم مقبلون في شغف وإعجاب على قصة كان يقصها عليهم، فسألت بروننج صاحب الفندق من يكون ذلك الشخص الطويل؟ فقال: «هو أبراهام لنكولن من إلينوى أحد أعضاء الكونجرس.» فصعقت لهذا النبأ وهرولت إلى الطابق العلوي؛ حيث قصصت على صاحبي هامند ذلك الخبر المدهش، وسرعان ما غادرنا الفندق خفية من باب خلفي إلى فندق غيره؛ كي لا نتصل بعد ذلك برفيقنا في السفر الذي علمنا أنه من ذوي المكانة.
وكان من عجب الأمور حقا بعد ذلك بسنوات، أن تخلى هامند عن منصبه كحاكم إنديانا لبضعة أيام قبل وصول لنكولن إلى إنديانا بولس، وهو في طريقه إلى وشنطون ليحتفل بولايته الرياسة! أما أنا فلقد واتتني الظروف لأزداد معرفة وقربا إلى لنكولن منذ تلك الرحلة التي صحبناه فيها دون أن نعرفه، ولقد صرت من أكبر المتحمسين له والعاملين على ترشيحه وانتخابه للرياسة، وقبل أن يغادر لنكولن موطنه إلى وشنطون دعا جون ب أشر كما دعاني لمرافقته إلى هناك، واتفقنا على أن نوافيه في إنديانا بولس، ومن ثم نسافر معه، ولما بلغنا تلك المدينة علمنا أن الرئيس ومرافقيه قد بلغوها لتوهم، وأنه يتناول طعامه في حجرة الطعام بالفندق، فدخلنا نبحث عنه ووجدنا الرجال يشغلون جميع المقاعد المرصوصة حول عدد كبير من الموائد، ولكنا لم نر الرئيس، فلما كنا على مقربة من باب إدارة الفندق امتدت ذراع طويلة إلى كتفي وسمعت صوتا حادا يقول: «هالو! نلسون، ألا زلت تعتقد أن الدنيا كلها ستذهب هباء في إثر ذلك الشيء المخيف؟!» وكان المتكلم هو مستر لنكولن!
نامعلوم صفحہ