ولكن الولايات المتحدة كانت ظافرة، فكانت الحرب لذلك أمرا مستساغا في نظر أكثر الناس؛ لأنها سوف تضم إلى الولايات أرضا جديدة، ومن أجل ذلك لم ينل أبراهام بخطابه من الرئيس، ولم يكن هناك ما يجبر الرئيس على أن يرد على تلك الأسئلة، فكان الفشل نصيب هذا الخطاب من الناحية السياسية، ولكن أبراهام قد جعل الأمر في هجومه أمر عدالة وخلق لا أمر سياسة؛ فإنه يندد بالعدوان على المكسيك ويستنكر ذلك الفعل، وبخاصة من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض العدالة، ولئن كان موقفه ضعيفا إذا أردنا السياسة، فإنه كان عظيم القوة بما أظهر للملأ من اهتمام بروح العدالة في أمر طرب له أكثرهم غافلين عما به من جور.
عضو في الكونجرس.
ومما جاء في ذلك الخطاب قوله: «إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستشعرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها.» وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، ثم إنه يقرر مبدأ سلطة الأمة ويجعلها أساس كل سلطة.
تلك هي خطبة لنكولن التي افتتح بها عمله في الكونجرس. تراها - وإن لم تصب موضع العطف من نفوس الأعضاء - قد رفعت ذكر ذلك المحامي في قلوب رجال السياسة في وشنطون، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتي ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومبلغ ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه - إلى جانب القصاص الذي لا يبارى - الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين، وإن كانوا عن آرائه معرضين.
وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في الكونجرس يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات ويندد بحرب العدوان، ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه، يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد والرئيس لنكولن يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم نارها، ويكرههم على البقاء في الاتحاد وهم صاغرون!
ولم يقع خطابه موقعا حسنا في نفوس الهوج من أهل سبرنجفيلد، وإن كانوا يرون فيه ما ألفوه منه من توخي العدالة في كل أمر، كتب إليه صديقه وشريكه هرندن يخبره بذلك، ويعلن إليه أنه كذلك يخالفه فيما فعل. ورد أبراهام على كتابه يوضح وجهة نظره، ويذكر أنه ينكر من الحرب بعدها عن العدالة ومخالفتها روح الدستور، ويؤكد لصاحبه أنه لو كان في مكانه لفعل مثل فعله.
ولقد ساء لنكولن وبلغ من نفسه ما كان من سوء وقع خطابه في سبرنجفيلد على النحو الذي ذكره هرندن، فإنه ما كان يتوقع غير الإعجاب بذلك الخطاب الذي عني به عناية شديدة، وإنه ليجعل للخطابة أهمية كبرى يومئذ ويراها عدة السياسي الطموح، تلمس ذلك في كتاب أرسله إلى هرندن قال فيه: «إنما أمسك قلمي لأقول إن مستر ستيفن المنتمي إلى جورجيا، وهو رجل ضئيل الجرم نحيف شاحب الوجه أنهكه السل له صوت مثل صوت لوجان، قد فرغ لتوه من أحسن خطاب استغرق ساعة سمعته في حياتي، وإن عيني الذابلتين الجافتين لا تزالان مملوءتين بالدمع، ولو أنه كتبه ونشره لرأى الناس نسخا عديدة منه.»
ولم يعف أبراهام من استياء رجال حزبه في سبرنجفيلد أنه وافق على الاعتماد المالي الذي قرره الكونجرس لمتابعة الحرب، وكانت حجة أبراهام في ذلك أنه لا مناص من اعتماد المال وقد تورطت الولايات المتحدة في الحرب فعلا، أما مشروعية هذه الحرب أو دستوريتها فهذا ما لا يؤمن به وما لا يزال يدافع عن رأيه فيه. جاء في كتاب له إلى هرندن قوله:
إن احتياط الدستور في جعل السلطة في شئون الحرب إلى الكونجرس قد أملته كما أعتقد الأسباب الآتية: اعتاد الملوك أن يجروا دولهم إلى الحرب ويجلبوا إليها الفاقة مدعين في أغلب الأحيان - إن لم يكن دائما - أن خير أممهم هو رائدهم، وقد فطن رجال المؤتمر الذي وضع الدستور إلى أن هذا في استبداد الملوك أكثر أعمالهم طغيانا، وعلى ذلك فقد صمموا أن يجعلوا الدستور بحيث لا يسمح لفرد أن يملك من السلطة ما يفرض به علينا هذا الطغيان، ولكن وجهة نظرك تقضي على هذا كله وتضع رئيسنا في موضع هؤلاء الملوك.
وكتب إليه هرندن بعد أيام كتابا يصور فيه مبلغ ما وصل إليه استياء أصدقائه في سبرنجفيلد من مسلكه بصدد حرب المكسيك، وكان لنكولن قد اشترك في مؤتمر عقد في فيلادلفيا لترشيح رئيس جديد للاتحاد، وفيه أيد أبراهام ترشيح ذكرى تيلور بطل حرب المكسيك، وانصرف كما انصرف معظم الهوج عن تأييد هنري كليي.
نامعلوم صفحہ