عامل بريد وماسح أرض
ماذا يصنع أبراهام وقد خذل في الانتخاب وآل الحانوت إلى ما آل إليه بسبب ما فعل صاحبه؟ الحق أنه ألفى نفسه في مأزق، ولعله كان يندم بينه وبين نفسه أن ترك حياة الغابة، ماذا يصنع أبراهام ليكسب قوت يومه؟ ليس أمامه فيما يرى الآن إلا التجارة، ولكن أنى له المال وما في يديه منه شيء؟ على أنه لم يعدم وسيلة لذلك، فليكتب ثمن ما يشتري من بضاعة دينا يدفعه عند الميسرة، وبهذه الطريقة اشترى ما بقي في الحانوت من سلع من ذلك الرجل الذي كان قد اشتراه من صاحبه الأول، واتخذ له في تجارته شريكا يدعى «برى»، ورأى الناس على واجهة الحانوت لافتة جديدة تحمل اسم برى ولنكولن.
وعاد أبراهام يبيع الناس من بضاعته، وقد حمل العبء وحده؛ إذ كان صاحبه لا يكاد يفيق من السكر، على أنه كان عبثا هينا؛ إذ كان البيع قليلا لقلة البضاعة وقلة المشترين، وكان في البلدة حانوت آخر سطا عليه أولئك الفتية العادون لما شجر من خلاف بين صاحبه وبين زعيمهم «آرمسترنج»، وعرض صاحب ذلك الحانوت ما تبقى من بضاعته للبيع، فاشتراها أبراهام بطريق الدين كذلك؛ كتب على نفسه خمسين ومائتي دولار يدفعها حين يتيسر له الدفع.
ولكن صاحبه كل عليه وليس لدى أيب مال ليدفع إليه حقه ويخلص منه، وكان عليه فوق ذلك أن يدفع بعض ما يكتسب ليؤدي ثمن التجارة؛ ولذلك أخذته ربكة شديدة، وحاقت به الخسارة وفدحه الدين، حتى بات يسميه لفداحته بالنسبة إليه الدين الأهلي، يرددها ضاحكا متهكما كلما تطرق الحديث إلى وصف حاله.
وبينا هو في ضيقة إذ اراد الله أن ييسر له أمره بعض اليسر، فاختير عاملا للبريد في تلك الجهة نظير أجر معلوم، اختاره القائمون بالأمر لما علموا من أمانته وذكائه، وفرح أبراهام بما ساقه الله إليه فرحا شديدا.
أقبل أبراهام على عمله الجديد مغتبطا؛ فقد أتاح له ذلك العمل أشياء ترتاح لها نفسه؛ منها أنه يتصل بالناس، ويتعرف أحوالهم، ويدرس طبائعهم من قرب، وهو كلف بذلك حريص عليه، يريد أن ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وأن يحيط بدقائقها كما هو شأنه في كل ما يعرض له، وكم كان يقع على مواطن للدرس والتأمل كلما دعاه أحد الناس ليقرأ له خطابه الذي يسلمه إليه، وهو يطوف بين الدساكر وقد أخرجه من جيبه أو من قبعته، فيقرأ وينظر وقع ما يقرأ على وجوه من يقرأ لهم، وما يرتسم فوقها من انفعالات الحزن أو الفرح أو الرضى أو الغضب أو الحيرة أو الاطمئنان، وفي ذلك كله معرفة له أي معرفة، ومنها أن عمله هذا - فضلا عما أتاح له من اتصال بالناس - قد مهد له من سبل القراءة ما عده خيرا من راتبه ضعفين؛ وذلك أنه كان يقرأ الصحف قبل إعطائها أصحابها، وكان هذا من حقه حسبما كان يجري من عرف في تلك الأصقاع.
ومما حبب إليه ذلك العمل فوق هذا أنه أتاح له كثيرا من الفراغ، وإنه ليلتهم الكتب في ساعات فراغه التهاما، وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، وقد ألقت إليه الأقدار ذات يوم كتابا في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز، وبيان ذلك أنه اشترى بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه؛ وكان صندوقا به أوراق، فقلبه فعثر في قاعه على كنز؛ وهو كتاب بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام.
وما باله يعنى بالقانون ودراسته؟ أكان يأنس في نفسه القوة على الخطابة والإقناع ويحس في أطواء نفسه الرغبة في الدفاع عن الحق، أم كان يريد مجرد احتراف المحاماة كمرتزق يعول عليه؟
إن الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وهو عندهم القوي الأمين الذي لا يتحيز إلى شخص أو إلى فئة، والذي لا يتعثر في أمر، والذي يكره أن يلبس أمامه الحق بالباطل، وكان إذا عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، فإن عجز سأل من يلقاهم ممن هم أعلم بذلك منه، فيفيد من بحثه دراية جديدة وعلما.
وكان الناس يأجرونه على ذلك، فيرسلون بعض القوت إلى الأسرة التي يسكن بين أفرادها، فيجعل ذلك نظير سكناه بينهم، ويعيش هو على وظيفته الضئيلة من عمله في البريد.
نامعلوم صفحہ