غاب الأب أياما، فما أحس الصبي لغيابه وحشة كما أحس لغياب أمه، أكان ذلك لأن غياب أبيه كان إلى حين وكانت إلى الأبد غيبة أمه؟! على أنه يحس دائما لغيبة أمه في أعماق نفسه حزنا لن يفتر على الأيام، حزنا دفينا يمس خواطره جميعا من بعيد؛ مسا هينا مرة ومسا شديدا مرات، وسيبقى هذا الحزن الهادئ الدفين في أعماق نفسه لا تنقص الأعوام منه شيئا.
وإنه ليسمع همسا حوله أن أباه ما غاب إلا ليعود بزوج أخرى غير أمه، فيستعيد الصبي ما سمعه من قبل عن امرأة الأب وما يكون في قلبها من قسوة على غير بنيها، وهل له أن يلوذ بعطف أبيه، وإنه ليحس منذ وفاة أمه كلما خشن عليه إحساسا لم يكن يداخله من قبل؟! فإن نظرة عطف أو كلمة حنان من أمه كانت تذهب بخشونة أبيه جميعا.
ما باله تتنازعه الهواجس، ويتحرك الحزن في أعماق نفسه؟ وما بال تلك الغابة المحيطة به تملأ اليوم خاطره بصور ينكرها خياله وإن ارتاحت إليها نفسه الحزينة؟
أكان ذلك إرهاص نفس شاعرة؟ إنه ليميد سمعه نحو الغابة إذا جنه الليل، فينصت إلى زئير الوحوش وصراخها وإلى تناوح الريح وصفيرها وإلى هدير الأمواه في الغدران المنحدرة وخريرها، ثم إلى تلك الخشخشة القوية التي تشبه الصوت المنبعث من البحر، تحدثها الأشجار إذ تعصف بها الرياح العاتية، وإنه ليميد خياله نحو الغابة، فيصور لنفسه ما تزدحم به ألفافها من وحوش وهنود وزواحف وأطيار وخلائق أخرى يتحدث عنها الناس حديثا مبهما، وإنه ليخرج من هذا كله بمثل ما يخرج به راكب البحر أو جائب البيد من الشعور بضآلة الإنسان أمام عظمة الخالق، ثم بالإذعان والضراعة والاستسلام.
عاد توماس لنكولن في عربة يجرها أربعة من الجياد القوية الممتلئة، ونزلت من العربة سيدة يذكر الصبي أنه رآها في كنطكي، ونزل منها غلام وبنتان، وكانت السيدة هي زوج أبيه! ودهش أيب لما رأى من متاع جديد؛ فقد رأى سررا حقيقية وكراسي وخوانا ومائدة ومدى وآنية، وأشياء غيرها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ، وسرعان ما كون الصغار رفقة تربط بينها المودة والمحبة، وكانت إحدى البنتين القادمتين تدعى «سارا» ففرح بذلك أيب وفرحت أخته سارا، وما لبثا أن علما أن ربة البيت الجديدة تدعى كذلك «سارا»، فكان لاسمها وقع طيب في نفسيهما الصغيرتين.
وما لبث أيب وأخته أن رأيا في زوج أبيهما امرأة صالحة طيبة القلب رقيقة العاطفة حلوة الشمائل ذكية الفؤاد نشطة دءوبا، تسهر على راحتهم جميعا، وتعنى بشئون الدار كلها في غير تبرم أو كلال، وزادها محبة في نفس أيب أن رآها، فوق ما أولته من عطف، تميل إلى تعليمه وإلى تعليم الصغار جميعا، وقد سمعها تجادل زوجها في ذلك، وتصر على أن يذهبوا عصبة إلى المدرسة، وما زالت به تقنعه، وقد كان في بداوته يقدم الفأس على القلم، ويضن بابنه وقد رأى قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة، وهو أحوج ما يكون إلى عونه، وقد تغلب رأيها آخر الأمر، وسار الأولاد إلى المدرسة وكانت على مسافة ميل ونصف ميل من كوخهم.
وما كان أعظم فرحة الصبي بالذهاب إلى المدرسة! فلقد كان شديد الرغبة في تعلم القراءة، وكانت تتأجج في نفسه تلك الرغبة كلما رأى واعظا يمر بهم أو أحد ماسحي الأرض أو رجلا من المشتغلين بالقانون والمحاماة، وكان يتساءل بينه وبين نفسه لم لا يكون كهؤلاء الذين يقرءون ويكتبون.
وأقبل الصبي على تعلم الكتابة والقراءة إقبالا لم يعهد مثله في نظرائه، ولقد كان يعمد إلى قطع الفحم كلما عاد إلى الكوخ، فيكتب بها على غطاء صندوق من الخشب تارة، أو على ظهر محرك الموقد تارة أخرى! وكان يكرر ذلك في غير ملل مع صعوبة الكتابة بالفحم على مثل تلك الأشياء، وأنى له المداد والورق إلا ما ندر من قصاصات رديئة كان يضن بها على التمرن، فلا يخط عليها إلا ما أحسن كتابته على الخشب، وهكذا تعود الصبي أن ينفي عبارته من الحشو، وأن يفكر مليا قبل أن يكتب كي لا يثبت على الورق إلا ما تطمئن نفسه إليه.
ولم تشغله سعادته التي يجدها في التعلم عن ذكرى أمه، وكانت عادة القوم في تلك الأصقاع أن يقيموا حفلا دينيا لكل ميت خلال العام التالي لعام وفاته، فهل يفوت الصبي إقامة هذا الحفل؟! كلا؛ فما تغيب عن قلبه ذكرى أمه الحبيبة، وإن كان ليرى أباه في شغل عنها، وإن انشغال أبيه عن تلك الذكرى ليوجع نفسه، ولكنه يزيده تعلقا بها ورغبة في إحيائها.
حار الصبي أول الأمر ماذا يفعل، ولكن فيم الحيرة؟ أوليس يستطيع اليوم أن يكتب؟! فليتناول ورقة وليكتب إلى رجل من رجال الدين يعرفه في كنطكي، وأكبر الظن أن الرجل لن يحجم عن الحضور؛ فإنه طيب القلب، ولقد كان كثير العطف على أهل لنكولن، وعلى الأخص ربة الدار، وهكذا كتب الصبي أولى رسائله.
نامعلوم صفحہ