وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية، كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة، وما عرف عنه أنه شهد حربا من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الصغيرة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه ضد الصقر الأسود.
ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجبا، وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدي من نور عبقريتهم.
وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أولم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على الإعجاب به ثم على محبته والإجلال له؟ وإذا كان هذا شأنه في السياسة ولم يتعلمها، فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب، وقد استعان بالأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟
أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال؛ إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء، ولقد شهد الذين تتبعوا أطوار هذه الحرب حتى نهايتها أن النصر فيها كان مرده إلى شخص الرئيس وقوة يقينه، فلقد كان وحده جيشا مغالبا، وكان وهو رجل أمته وحده أمة في رجل!
وظل ماكليلان على حاله يدرب جنده ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد باتوا جميعا يستعجلونه بالزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين.
ومع أن الرئيس أمره بهذا الزحف في نهاية شهر يناير سنة 1862؛ أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فإنه لبث في مكانه حتى شهر مارس، ثم أخذ يتحرك ولكن في حذر وبطء؛ مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحرب أن يستحثه؛ لأنه أوشك أن ينفد صبره عليه، ولكن ما كان أعظم دهشتهما إذ كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال؛ لأن العدو متكاثر أمامه! •••
وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من صبر وجهد، يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهما يصمي مهجته، ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده؛ فلقد غالت المنية ابنه ولي، ولقد كان مع أخيه يواسيان الجند في مستشفى من مستشفيات الحرب، فسرت إليهما العدوى ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الريحانة الغضة.
الرئيس الحزين.
لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام هذه المصيبة، ورأى الناس ذلك الجبل الشامخ يتمايل ويتخاذل من الوهن ولا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه وحزنه، وإنه ليجهش كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه كدرة وصفرة. قال لمن حوله ذات مرة: «لقد أذهلتني هذه الضربة، ولقد أطلعتني على ضعفي في صورة لم أر مثلها من قبل.» وقال لصديق له بعد ذلك: «ألم تر في منامك ذات مرة صديقا عزيزا عليك، وشعرت أنك تنعم بلقاء حلو مع هذا الصديق، في حين أنه كان يمازج شعورك هذا شعور آخر حزين بأن ذلك اللقاء لم يكن حقيقة؟ ... هذا يا صاحبي هو حالي، فعلى هذه الصورة أحلم بلقاء ولدي ولي.» وعلم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها، فسألها هذا الطود الذي يحمل أعباء قومه كيف تحملت هاتيك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة، وأنها تثق في رحمة الله، فمنه تستمد العزاء والسلوان ... وهنا يجيبها الرجل العظيم الشديد البأس إنه سيحاول أن يتعلم منها الصبر، وأنه لم ييأس من رحمة الله، وأن الله سوف يهبه العزاء، ثم يردف قائلا: «أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال، هذا الإيمان الذي تتحدثين عنه، وسوف يمدني الله به.» ويعود فيعبر عن مبلغ حزنه بقوله: «إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. لم كان هذا؟! ... لم كان هذا ...؟!» •••
أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال؛ لكيلا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. ولقد كتب إليه الرئيس كتابا كان مما جاء فيه قوله: «أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك، وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة، إن العدو يكسب بتأخرك.»
نامعلوم صفحہ