ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه! ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف الدمع السخين، ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده.
ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان يحترف المحاماة، ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار الرئيس إلى العاصمة سار معه، ولما تحرجت الأمور برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ويعدها للنضال، إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل المرتفعات هناك.
ثم إن هذا الشاب - وكان يدعى إلزورث - ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة، وهناك بصر بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى الإسكندرية، فتسلق الحائط في بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة؛ لقد حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده، وجاءت بعده منية دوجلاس، فكانت المنيتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم.
كانت أولى المعارك الكبيرة معركة حدثت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط حصن سمتر، عرفت باسم بول رن، وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب - وإن كان معظمهم من المتطوعين كذلك - قواد مدربون كانوا قبل ذلك في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حيث تفرقت الكلمة!
وبدا أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن موجتهم ما لبثت أن انحسرت، ثم ولوا بعدها هاربين على صورة منكرة تبعث على الرثاء، حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنطون.
ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع، وطافت بالناس الشائعات أن المدينة واقعة لا محالة في أيدي الجنوبيين، فألقى الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى، وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول خمسون وأربعمائة.
ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة، ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا خوف عليهم من أهل الشمال، ثم إنهم قد خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ خمسين ألفا أو يزيدون، مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفا.
وكثيرا ما يكون التاريخ في تطوره رهينا بحادث صغير، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل الجنوب عن الزحف على وشنطون، ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود، وتاريخ غير هذا التاريخ.
وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس، ولولا أن كان على رأسهم أبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم، فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ كشأنه في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه الكثير من آماله، فإنه صبر وصمم ألا يني عن الجهاد مهما بلغ من هول الجهاد.
وسرعان ما سرت روح ابن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على حماسة، فما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة، وينصروا حقهم على باطل أعدائهم.
نامعلوم صفحہ