واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها هو بالتعديل قال: «لسنا أعداء بل نحن أصدقاء، ويجب ألا نكون أعداء، ولو أن الغضب قد جذب حبال مودتنا إلا أنه يجب ألا يقطعها، وإن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال، ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة، لتزيد جوقة الاتحاد إذا ما مسها ثانية وحي من طبيعتنا، كما نثق أنه واقع.»
وأقسم أبراهام ويمناه على الإنجيل، وتولى صيغة القسم القاضي تين، صاحب قضية دردسكوت الشهيرة، وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى أبراهام القسم على أن يحترم الدستور ويحافظ على قوانين البلاد، سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له عقب وصوله أن تناول القلم فكتب إلى سيوارد الكتاب الآتي:
سيدي العزيز
تسلمت رقعتك المؤرخة في اليوم الثاني من الشهر الحالي، والتي تسألني فيها أن أقبل انسحابك من الاشتراك معي في إدارة شئون الحكم، ولقد كانت رقعتك هذه سببا لأعظم القلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجو منك أن تلغي هذا الانسحاب . إن الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في قوة نفس الاتجاه، أرجو أن تتدبر في الأمر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد ...
خادمك المطيع أبراهام
جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا الموقف، على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليرجو بينه وبين نفسه أن يظل سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال، وإن كانت تزن الجبال.
يود أبراهام أن يستعين بصاحبه، فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه. وما بال الرئيس تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟! ما باله طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجته إلا قليلا، ولا يشاطرها جذلها ومرحها، ولا يشاركها فيما دب في قلبه من الزهو بما باتا يتلقبان فيه من نعمة ويحظيان به من جاه؟!
إنما يكرب الريس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خاف أو تردد وما هو عن بذل روحه بضنين، وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدوا في غير موجب لذلك، وهم في عماية عن الحق من تبلبل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن، حيلة.
ورضي سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وقد كان سيوارد قليل الثقة في كفاية صاحبه في إدارة أمور الحكم؛ لأنه لم يسبق له أن شغل منصبا إداريا قبل هذا المنصب الخطير؛ ولذلك كان يطمع سيوارد أن تكون له السلطة فعلا وتكون للرئيس الرياسة فحسب، وبهذه الروح بدأ العمل مع صاحبه.
واختار لنكولن رجالا للحكومة كون منهم مجلسه، ومن أشهر هؤلاء تشيس، وكان من أعظمهم كفاية بعد سيوارد، غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا من منافسيه في الرياسة؛ مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام وأن يعمل كل منهم على توطيد مكانته توطئة للانتخاب القادم، ولكن لنكولن يرد على ذلك بما أملاه عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية، هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم مطمئنا إلى وطنيتهم، قائلا إن الوقت عصيب فما يظن أن أحدا تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه الشخصي في ظروف كتلك الظروف.
نامعلوم صفحہ