ونعود إلى الجمهوريين فنقول إنهم كانوا يعدون العدة لمؤتمرهم العام، وقد اختاروا له مدينة شيكاغو، وكان الرأي السائد أن سيوارد هو الفائز بتشريح الحزب إياه، وكانت أكثر الصحف في الشرق تكاد تجزم بهذا، وكان سيوارد واثقا من ذلك؛ ولهذا لم يكترث لما يشاع عن شهرة لنكولن ومحبة الناس إياه؛ لأنه كان يعتقد أنه مهما يكن من أمره فلن يصل إلى مطاولته؛ فهو رجل الحزب وزعيمه الحقيقي.
وفي شهر مايو احتشد في شيكاغو أربعون ألفا من الجمهوريين ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم، وجاء من نيويورك عدد كبير من أنصار سيوارد من خاصة الناس ومن عامتهم، وجاء من إلينوى عدد مثله من أصحاب لنكولن ومحبيه.
وانعقد المؤتمر من رجالات الحزب وزعمائه من كل ولاية، ولم يحضره لنكولن بل ظل في سبرنجفيلد ينتظر أنباءه، وضاق مكان الاجتماع بشهود المؤتمر وضاق بهم الطريق أمامه.
وتدارس المؤتمرون طويلا في المبادئ أولا فلم تخرج عما أوضحه أبراهام في خطبه وأحاديثه، فالمؤتمرون لا يقرون انتشار الرق بعد اليوم، ويحبون أن ينقرض فيذهب إلى غير عودة، وتقدم مندوب من أهايو يدعى جدنج فاقترح أن يضيف المؤتمر إلى قراره تلك المادة من مواد إعلان استقلال أمريكا، التي تشير إلى أن الناس ولدوا أحرارا، وخاف بعض رجال المؤتمر أن تحمل هذه العبارة على التطرف في مسألة الرق، فيظن بعض الناس أن الجمهوريين قد باتوا من حزب التحرير بالقوة؛ ولذلك أوشكوا أن يرفضوا الاقتراح، حتى نهض من المؤتمرين رجل فصيح هو جورج كيرتس فحمل بفصاحته المؤتمر على قبوله، ودوت جنبات المكان بالتصفيق الشديد، وجاوبه الناس خارج المؤتمر بتصفيق مثله.
وجاء بعد ذلك دور الترشيح فنهض أحد مندوبي نيويورك وقدم اسم وليم سيوارد، ونهض على إثره أحد مندوبي إلينوى وقدم اسم أبراهام لنكولن، ثم ذكرت أسماء خمسة أشخاص غيرهما قدم كلا منهم مندوب، ولكن الحماسة والتصفيق كانا لسيوارد ولنكولن فحسب.
وتأهب مندوبو الصحف ليدونوا ما يريدون تدوينه أثناء الانتخاب، وكثر عددهم في القاعة ونشط أصحاب سيوارد جيئة وذهابا كما نشط أصحاب لنكولن، وجلس على سطح القائمة رجل ظل يرقب من نافذة فيها ليعلن النتيجة للمجتمعين خارجها متى أعلنت، وتأهب المكلفون بالرسائل البرقية من جانب الصحف في طول البلاد وعرضها ليسرعوا إلى مكاتب البريد ليبرقوا لجرائدهم، وبدأ الانتخاب والناس عالقة أنفاسهم وكأن عليهم الطير مما سكنوا.
والقوم خارج القاعة يموج بعضهم في بعض وهم يتساءلون لمن يكون النصر؛ فيؤكد هذا أن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازة فيقبل عليه جماعة منهم فرحين، ويصيح ذاك بل النصر لفالق الأخشاب فيتهافت عليه كثيرون.
وكان أبراهام أثناء ذلك جالسا في قاعة أحد أصحابه من رجال الصحافة في سبرنجفيلد، وكان القلق يساوره أحيانا، فهو يقول لصاحبه: «إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى المحاماة وأعمل عملي في القانون.» ثم يعاوده الأمل حينا ويخالجه الشك حينا، كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال إذ ينتظر المرء عاقبة أمر يهمه، وأي أمر أهم من ذلك الذي كان يتوقع أبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفترق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته!
وطال به الانتظار حتى كاد أن يسأم فلينصرف إلى القراءة، وكان ديوان شعر لبيرنز هذا الذي يقلب صفحاته، وكان يقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله، ثم يدع الكتاب حينا ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين.
والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في تاريخ البلاد فصلا جديدا سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول.
نامعلوم صفحہ