عندما عادا إلى غرفة النوم ساعدها على الصعود للسرير ثم مزق بضع شرائط أخرى مما تبقى من الملاءة وكبلها بها مرة أخرى لكنه جعلها أقل إحكاما تلك المرة. قال لزوجها: «من الأفضل أن تذهب أنت أيضا. بإمكانك أن تثب حتى هناك إن ساعدتك. فالوقت لا يتسع إلا لأن أحرر يديك فقط.»
لكن ذلك لم يكن أسهل. فحتى بعد أن تحررت يداه ولف ذراعه حول كتف ثيو، كان العجوز لا يملك القوة أو القدرة على الاتزان ما يجعله يقفز قفزات صغيرة حتى، فاضطر ثيو إلى أن يجره جرا تقريبا حتى الحمام.
أخيرا عاد بالرجل المسن إلى السرير. والآن عليه أن يسرع. فقد أهدر بالفعل الكثير من الوقت. توجه بسرعة إلى الجزء الخلفي للمنزل حاملا حقيبة السفر في يده. كان يوجد مطبخ صغير، نظيف ومرتب بعناية، به ثلاجة كبيرة للغاية، ومخزن مؤن صغير له باب من داخل المطبخ. لكن الغنائم التي وجدها كانت مخيبة للآمال. فالثلاجة مع حجمها الضخم لم يكن بها سوى علبة حليب وحزمة بها أربع بيضات، ونصف رطل من الزبد موضوع في طبق مغطى بورق الألمنيوم، وقطعة مغلفة من جبن الشيدر وعلبة بسكويت مفتوحة. وفي حجيرة التجميد أعلاها لم يجد سوى علبة صغيرة من البازلاء وقطعة مجمدة من سمك القد. كانت محتويات مخزن المؤن أيضا مخيبة للآمال، فلم يكن به سوى كمية قليلة من السكر والقهوة والشاي. كان من السخيف أن يكون ثمة منزل تنقصه المؤن إلى ذلك الحد. شعر بفورة غضب تجاه الزوجين العجوزين وكأنهما المسئولان عن خيبة أمله نتيجة خطأ متعمد منهما. هما على الأرجح لا يذهبان للتسوق سوى مرة واحدة في الأسبوع وكان غير محظوظ في يوم مجيئه. أخذ كل ما وجده ودس المؤن في كيس بلاستيكي. كان يوجد أربعة أكواب معلقة على حامل. أخذ اثنين منها ووجد ثلاثة أطباق من خزانة الأواني المعلقة فوق الحوض. وأخذ سكين تشذيب حاد، وسكين تقطيع لحم، وثلاثة سكاكين مائدة، وشوكات وملاعق، ودس علبة ثقاب في جيبه. ثم هرع إلى الطابق العلوي، واتجه تلك المرة إلى غرفة النوم الأمامية حيث جاهد لحمل ملاءات وأغطية ووسادة وجدها على السرير. ستحتاج ميريام إلى مناشف نظيفة للولادة. ركض إلى الحمام فوجد ست مناشف مطوية في خزانة التهوية. ستكون كافية. دس جميع البياضات في حقيبة السفر. ووضع مقص الأظافر في جيبه، إذ تذكر أن ميريام كانت قد طلبت مقصا. وجد في خزانة الحمام زجاجة مطهر فضمها إلى غنائمه.
لم يكن بوسعه أن يمضي وقتا أطول في المنزل، لكن بقيت أمامه مشكلة واحدة؛ الماء. كان معه علبة اللبن الصغيرة؛ لكن تلك لن تكون كافية حتى لتروي ظمأ جوليان. بحث عن وعاء مناسب، فلم يجد أي زجاجة فارغة في أي مكان بالمنزل. كاد يسب الزوجين العجوزين بينما كان يبحث عن وعاء من أي نوع يصلح لأن يضع فيه الماء. لم يجد سوى قنينة حرارية صغيرة. على الأقل سيتمكن من أن يأخذ فيها لجوليان وميريام قهوة ساخنة. لا داعي لأن ينتظر حتى يغلي الماء في الغلاية. من الأفضل أن يصنعها من ماء ساخن من الصنبور مع أن مذاقها سيكون غريبا. سيتلهفان لشربها على الفور. بعد أن فرغ من ذلك، ملأ الغلاية والقدرين الوحيدين اللذين كان قد وجدهما واللذين كان لهما غطاء محكم. سيضطر لأن يحمل كلا منها على حدة إلى السيارة، مما سيهدر المزيد من الوقت. وأخيرا، شرب من الصنبور ملء بطنه مرة أخرى مريقا الماء على وجهه.
على الحائط خلف الباب الأمامي من الداخل كان يوجد صف من شماعات المعاطف. علقت عليها سترة قديمة ووشاح صوفي طويل ومعطفا مطر يبدوان جديدين. تردد لحظة قبل أن يأخذهم ويضعهم على كتفه. ستحتاجهما جوليان إن كان لا ينبغي أن تستلقي على أرض رطبة. لكنهما كانا الشيئين الجديدين الوحيدين في المنزل وشعر أن سرقتهما ستكون الأسوأ بين النثريات التي نهبها.
فتح باب المرأب. كان صندوق السيارة السيتزن صغيرا لكنه حشر الغلاية وأحد القدرين بعناية بين حقيبة السفر وملاءات السرير والمعطفين. ووضع القدر الآخر والكيس البلاستيكي الذي يحتوي على الطعام والأكواب وأدوات المائدة على المقعد الخلفي. عندما أدار محرك السيارة شعر بالارتياح إذ وجده يعمل بسلاسة. كان واضحا أن السيارة كانت تصان جيدا. لكنه رأى أن خزان الوقود كان نصف ممتلئ وأنه لا يوجد خرائط في درجها. على الأرجح لم يستخدم العجوزان السيارة سوى للرحلات القصيرة وللتسوق. بينما كان يرجع بالسيارة إلى الخلف بعناية ليخرجها إلى الممر ويغلق باب المرأب بعد أن خرج، تذكر أنه نسي أن يرفع صوت التلفاز. قال في نفسه إن ذلك الإجراء الاحترازي ليس مهما. فمع كون المنزل المجاور خاويا ووجود الحديقة الطويلة التي تمتد في الخلف، في الغالب لن تسمع صرخات الزوجين الواهنة.
بينما كان يقود السيارة، فكر مليا في الخطوة التالية. هل يتابعون طريقهم أم يعودون أدراجهم؟ سيعرف زان حتما من رولف أنهم كانوا يخططون لعبور الحدود إلى ويلز ويجدون منطقة غابات ريفية. وسيتوقع أن تتغير تلك الخطة. سيتوقع أن يكونوا في أي مكان في غرب البلاد. سيستغرق البحث وقتا طويلا حتى إذا أرسل زان فرقة بحث كبيرة من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لكنه لن يفعل، فتلك طريدة فريدة. إن نجح رولف في الوصول إليه دون أن يكشف عن المعلومات التي لديه حتى مقابلته الأخيرة الحاسمة مع زان، فسيتكتم زان أيضا على الأمر حتى يتأكد من حقيقته. لن يخاطر بوقوع جوليان في يد رجل طموح أو غير نزيه من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لن يعرف زان أنه لا يملك متسعا من الوقت إن كان يريد أن يكون حاضرا عند الولادة. فرولف لن يخبره بأمر لا يعلمه هو نفسه. إلى جانب ذلك، ما مدى ثقته في أعضاء المجلس الآخرين؟ كلا، سيأتي زان بنفسه، في الغالب برفقة فرقة صغيرة مختارة بعناية. وسينجحون حتما في النهاية؛ فذلك أمر محتم. لكن ذلك سيستغرق وقتا. فأهمية مهمتهم وطبيعتها الحرجة ، والسرية المطلوبة، وحجم فرقة البحث، كلها أمور من شأنها أن تبطئهم.
إذن إلى أين يذهبون وأي اتجاه يسلكون؟ لوهلة تساءل إن كانت عودتهم إلى أكسفورد والاختباء في غابة ويثام التي تطل على المدينة، والتي ستكون آخر مكان قد يخطر لزان أن يبحث فيه، ستكون حيلة مجدية. أم أنها ستكون رحلة بالغة الخطورة؟ لكن أي طريق سيكون خطيرا وسيتضاعف الخطر بعد أن يكتشف العجوزان في الساعة السابعة والنصف ويرويان ما حدث معهما. فما الذي يجعل العودة تبدو أخطر من المضي قدما؟ ربما لأن زان موجود في لندن. كما أن لندن نفسها مكان اختباء بديهي لأي هارب عادي. فلندن، مع تناقص أعداد سكانها، لا تزال مجموعة من القرى والأزقة السرية والأبراج السكنية التي تكاد تكون خاوية. لكن لندن فيها أعين كثيرة وليس لديه هناك شخص يمكن أن يأمن اللجوء إليه، ولا منزل يستطيع دخوله. كان حدسه ينبئه، وخمن أن جوليان ستوافقه على ذلك، بأن يبتعد قدر الإمكان عن لندن وأن يلتزم بالخطة الأصلية بالاختباء في عمق الريف البعيد المعزول. فكلما ابتعدوا عن لندن كان ذلك أكثر أمنا.
بينما كان يقود بحرص في الطريق المهجور، لحسن حظه، آخذا في التعود على السيارة، داعب خياله حلم حاول أن يقنع نفسه بأنه هدف منطقي وقابل للتنفيذ. تخيل كوخ حطاب، عذب الرائحة، لا تزال حوائطه المصنوعة من الخشب الصمغي محتفظة بدفء شمس الصيف، يقف راسخا كشجرة وسط غابة بعيدة تحت مظلة من غصون الأشجار القوية الكثيفة الأوراق، مهجورا منذ عدة سنوات وصار باليا، لكنه، بوجود البياضات، وأعواد الثقاب، والطعام المعلب، سيكون كافيا لثلاثتهم. سيكون بجواره ينبوع ماء عذب، وحطب يمكنهم أن يجمعوه لإشعال النار عندما يفسح الخريف المجال للشتاء. بإمكانهم أن يمكثوا هناك لثلاثة أشهر إن اضطروا لذلك، بل ربما حتى لسنوات. كانت تلك هي الصورة الشاعرية التي كان قد سخر منها وازدراها بينما كان يقف بجوار سيارته في سواينبروك، لكنها الآن كانت تبث الطمأنينة في قلبه، مع أنه كان يعلم أن حلمه ذلك مجرد خيال .
في مكان ما في العالم، سيولد أطفال آخرون؛ حمل نفسه على مشاركة جوليان إيمانها بذلك. وحينها لن يكون ذلك الطفل فريدا، وسيزول عنه الخطر. لن يكون ثمة داع لأن يأخذه زان والمجلس من أمه حتى إن كان معروفا أنه المولود البكر لحقبة زمنية جديدة. لكن كل ذلك كان في طور المستقبل، وعندما يحين وقته فسيواجهونه ويتعاملون معه. أما في البضعة الأسابيع القادمة فبإمكان ثلاثتهم أن يعيشوا في أمان حتى يولد الطفل. كان لا يرى أبعد من ذلك، وقال في نفسه إنه لا يحتاج لأن يرى أبعد من ذلك.
نامعلوم صفحہ