الكتاب الأول: أوميجا ()
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الكتاب الثاني: ألفا ()
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الكتاب الأول: أوميجا ()
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الكتاب الثاني: ألفا ()
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
أبناء البشر
أبناء البشر
تأليف
بي دي جيمس
ترجمة
سارة ياقوت
مراجعة
محمد حامد درويش
ولدت بي دي جيمس في أكسفورد عام 1920، ودرست بمدرسة كامبريدج الثانوية للبنات. عملت منذ عام 1949 وحتى 1968 في هيئة الصحة الوطنية ثم في وزارة الداخلية؛ حيث عملت أولا في قطاع الشرطة ثم في قطاع السياسة الإجرامية. استغلت كل تلك الخبرات في كتابة رواياتها. كانت عضوة بالجمعية الملكية للأدب والجمعية الملكية للفنون، وتولت رئاسة هيئة الإذاعة البريطانية، كما كانت عضوة بمجلس الفنون بإنجلترا؛ حيث ترأست لجنة الاستشارات الأدبية، وكانت أحد أعضاء مجلس إدارة المجلس الثقافي البريطاني، وتولت منصب قاضية جزئية في ميديلسكس ولندن. حازت على عدة جوائز في أدب الجريمة في بريطانيا، وأمريكا، وإيطاليا، وإسكندينافيا، من بينها جائزة زعيم كتاب أدب الغموض بأمريكا، وميدالية الشرف للأدب من نادي الفنون الوطنية بالولايات المتحدة. حصلت على درجات علمية شرفية من سبع جامعات إنجليزية، ومنحت رتبة الإمبراطورية البريطانية عام 1983 ورتبة النبلاء مدى الحياة عام 1991. انتخبت عام 1997 رئيسة لجمعية الكتاب.
عاشت في لندن وأكسفورد ورزقت بابنتين، وخمسة أحفاد، وسبعة من أحفاد الأبناء، وتوفيت في السابع والعشرين من نوفمبر من عام 2014.
مرة أخرى، إهداء لابنتي
كلير وجاين
اللتين ساعدتاني.
الكتاب الأول
أوميجا (Ω)
يناير-مارس 2021
الفصل الأول
الجمعة 1 يناير 2021
في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم، 1 يناير 2021، بعد منتصف الليل بثلاث دقائق، أردي آخر بشري ولد على الأرض قتيلا في شجار بحانة في إحدى ضواحي بيونس آيرس، عن عمر ناهز خمسة وعشرين عاما وشهرين واثني عشر يوما. إن صدقت التقارير الأولية، فقد مات جوزيف ريكاردو كما عاش. لطالما كانت الأفضلية التي حظي بها - إن صح أن نسميها كذلك - أكثر مما يطيق، كونه آخر بشري سجلت ولادته رسميا، دون أن تكون راجعة إلى أي مزية أو موهبة يملكها. وها قد مات. جاءنا الخبر هنا في بريطانيا في برنامج الساعة التاسعة الذي يذاع بخدمة الراديو الوطنية وسمعته مصادفة. كنت قد جلست وأنا أنوي الشروع في كتابة تلك اليوميات التي سأضمنها النصف الأخير من حياتي، عندما نظرت إلى الساعة وخطر ببالي أن أطلع على عناوين نشرة أخبار الساعة التاسعة. كان موت ريكاردو آخر خبر ذكر فيها، وقد ذكر باختصار في بضع جمل دون تشديد، قرأها مقدم النشرة بصوته الذي حرص على أن يكون حياديا. لكني شعرت عندما سمعته أنه مبرر صغير آخر لأن أبتدئ تلك اليوميات اليوم بالتحديد، الذي يوافق أول يوم في السنة، وعيد مولدي الخمسين. لطالما أحببت ذلك التاريخ المميز عندما كنت طفلا، حتى مع العناء الذي كان يسببه لي كونه يأتي سريعا بعد الكريسماس بحيث تكفي هدية واحدة للاحتفال بالمناسبتين ولم تكن قط أفضل بكثير من أي هدية كنت سأتلقاها في أي من المناسبتين.
بينما أبتدئ الكتابة، فإن هذه الأحداث الثلاثة؛ رأس السنة، وعيد مولدي الخمسين، وموت ريكاردو، بالكاد تبرر تلطيخ الصفحات الأولى من ذلك الدفتر السلكي الجديد. لكني سأمضي قدما؛ فالكتابة سلاح بسيط يضاف لترسانة أسلحتي لمحاربة جمود النفس. وإن كان لا شيء يستحق التدوين، فسوف أدون هذا اللاشيء، حتى إذا بلغت من العمر أرذله إن قدر لي - كما يتوقع أغلبنا، فقد صرنا خبراء في إطالة العمر - فسوف أفتح إحدى علب أعواد الثقاب التي أكتنزها وأشعل نارا صغيرة وقودها ترهاتي الشخصية تلك؛ فأنا لا أنوي ترك دفتر اليوميات ليكون شاهدا على السنين الأخيرة من حياة رجل، فحتى عندما تبلغ مني الأنانية أوجها، لا أكون مخدوعا بذاتي لتلك الدرجة، فما الذي يمكن أن يثير الاهتمام في دفتر يوميات ثيودور فارون، أستاذ الفلسفة، وزميل كلية ميرتون بجامعة أوكسفورد، ومؤرخ العصر الفيكتوري، المطلق والذي ليس لديه أبناء، والمنعزل، والذي مدعاته الوحيدة للشهرة أنه ابن خالة زان لايبيات، حاكم إنجلترا الديكتاتور. وعلى كل حال، لا داعي لأي سجل شخصي إضافي؛ ففي جميع أنحاء العالم، تستعد حكومات الدول للاحتفاظ بشهادتها من أجل خلفائنا الذين لا نزال أحيانا نخدع أنفسنا بأنهم قد يأتون من بعدنا، تلك الكائنات القادمة من كوكب آخر التي قد تهبط على تلك البرية الخضراء وتتساءل عن ماهية الحياة الحسية التي سكنتها يوما ما. فنخزن كتبنا ومخطوطاتنا، ولوحاتنا الفنية العظيمة، ونوتاتنا وآلاتنا الموسيقية وقطعنا الأثرية. خلال أربعين عاما من الآن على الأكثر، ستكون أعظم مكتبات العالم قد أظلمت وأغلقت أبوابها. وستتحدث المباني، التي ستظل واقفة حينها، عن نفسها.
على الأرجح لن يصمد الحجر اللين لمباني أكسفورد لأكثر من قرنين. وبالفعل تناقش الجامعة إذا ما كان ثمة جدوى من ترميم واجهة مسرح شيلدونيان المتداعية. لكني أحب تصور أن تلك الكائنات الخرافية ستهبط في ميدان سانت بيتر وتدخل إلى الكاتدرائية العظيمة، التي يسودها الصمت ويتردد فيها صدى وقع أقدامهم تحت الغبار الذي خلفته القرون. هل سيدركون أنها كانت يوما أعظم المعابد التي بناها البشر لواحد من آلهتهم الكثيرة؟ هل سينتابهم الفضول تجاه طبيعته، ذلك الإله الذي عبد بذلك القدر من الإجلال والتعظيم، وهل سيحير ألبابهم معنى شعاره الغامض الذي كان يوما بسيطا للغاية، مجرد عصوين متقاطعتين موجود مثلهما في كل مكان في الطبيعة، ومع ذلك ثقلا بالذهب، وزينا ببهاء بالجواهر؟ أم ستكون قيمهم وطرق تفكيرهم غريبة عنا لدرجة أنهم لن يتأثروا بأي مما كان يثير انبهارنا أو يأسر ألبابنا؟ لكن على الرغم من اكتشاف كوكب - كان ذلك في عام 1997 حسبما أذكر - أخبرنا رواد الفضاء أنه قد يكون صالحا للحياة، لم يصدق حقا أنهم قادمون إلا قلة منا؛ هم حتما موجودون. فلا يعقل أن يمنح هذا النجم الصغير وحده وسط هذا الكون الفسيح القدرة على دعم نمو وتطور كائنات ذكية. لكننا لن نصل قط إليهم ولن يأتوا هم إلينا قط.
منذ عشرين عاما، عندما صار العالم شبه مقتنع بالفعل أن جنسنا قد فقد للأبد القدرة على التناسل، صار البحث عن آخر ولادة بشرية هوسا عالميا، وارتفع لمرتبة الفخر القومي، وصار منافسة عالمية كانت في النهاية عديمة الجدوى بقدر ما كانت حادة وشرسة. كي تتأهل ولادة لها، كان يجب أن يوجد إخطار رسمي بها، وأن يسجل تاريخها ووقتها بدقة. استبعد ذلك عمليا نسبة كبيرة من أبناء الجنس البشري الذين عرف تاريخ مولدهم لكن لم تعرف ساعته، وأصبح من المقبول، ولكن من غير المشدد عليه، أن النتيجة لن تكون قط حاسمة. فأنا أكاد أجزم أن في إحدى الغابات النائية، وداخل كوخ بدائي، خرج إلى ذلك العالم اللامبالي آخر بشري دون أن يلاحظه أحد. ولكن بعد شهور من التدقيق والتمحيص، اعترف رسميا، بجوزيف ريكاردو، ذي العرق المختلط، الذي ولد بصفة غير شرعية في مستشفى بيونس آيريس في الساعة الثالثة ودقيقتين، بتوقيت غرب أوروبا الصيفي، يوم 19 أكتوبر 1995. فور إعلان النتيجة، ترك كي يستغل شهرته تلك بأفضل طريقة ممكنة، بينما وجه العالم اهتمامه صوب شيء آخر وكأنما أدرك فجأة عبثية ما كان يفعله. وها قد مات، وأشك في أن أي دولة ستتحمس لإيقاظ مرشحيها الآخرين من غفلتهم.
فنحن ساخطون ومثبطو الهمة، ليس بسبب نهاية جنسنا الوشيكة ولا حتى عدم قدرتنا على منعها، وإنما لفشلنا في اكتشاف السبب؛ فالعلوم الغربية والطب الغربي لم يؤهلانا لمواجهة فداحة ذلك الفشل الذريع ولا للخزي الذي تسبب به لنا. كثيرا ما واجهتنا أمراض كان من الصعب تشخيصها أو علاجها، وكاد أحدها يفتك بسكان قارتين قبل أن ينقضي. لكننا كنا نتمكن دائما من اكتشاف السبب في نهاية المطاف. لشدة حسرتنا، منحنا أسماء للفيروسات والجراثيم، التي لا تزال تصيبنا حتى يومنا هذا؛ إذ يبدو إهانة شخصية لنا كونها لا تزال تجتاحنا، مثل الأعداء القدامى المستمرين في مناوشاتهم وإسقاطهم لضحية من حين لآخر كلما تأكد لعدوهم النصر. كانت العلوم الغربية بمثابة إلهنا؛ فقد استطاعت بسلطانها النافذ إلى كل جوانب حياتنا أن تطيل أعمارنا وأن تمنحنا الطمأنينة والشفاء والدفء والغذاء ووسائل الترفيه، وقد كنا ننتقدها بأريحية بل نكفر بها في بعض الأحيان كما كفر البشر بآلهتهم، مع أنهم يعرفون أنه، مع كفرهم به، سيظل ذلك الإله، الذي خلقوه واستعبدوه، يوفر لهم رزقه من مسكن لأوجاعهم وقلب بديل ورئة جديدة ومضاد حيوي، وعجلات متحركة، وصور متحركة. سيظل النور يضيء دائما عندما نضغط الزر، وإن لم يضئ فبإمكاننا اكتشاف السبب. لم أكن ماهرا في مادة العلوم قط. كنت لا أستوعب إلا القليل منها عندما كنت طالبا بالمدرسة والآن وقد بلغت الخمسين من عمري لم يزد استيعابي لها كثيرا. لكني مع ذلك اتخذتها إلهي أنا أيضا، حتى وإن لم أكن قادرا على سبر أغوار إنجازاتها؛ لذا انضممت إلى أولئك الذين تحرروا من الوهم واعتبروا أن إلههم قد مات. بوسعي أن أتذكر بوضوح الكلمات الواثقة التي قالها عالم أحياء عندما تبين أخيرا أنه لا يوجد على وجه الأرض امرأة حبلى: «قد نستغرق بعض الوقت لاكتشاف سبب ذلك العقم الذي من الواضح أنه أصاب جميع سكان العالم.» ها قد مرت خمس عشرة سنة ولم يعد لدينا أمل في أن ننجح في اكتشافه. كفحل شبق أصابه العجز فجأة، جرح كبرياؤنا بما كنا نعتبره جوهر ثقتنا بأنفسنا. فمع كل ما نملك من علم وذكاء وقوة، لم نعد قادرين على الإتيان بما تأتي به الحيوانات دون تفكير. لا عجب أننا صرنا نعبدهم ونمقتهم في آن واحد.
أصبح عام 1995 هو العام الذي سمي «العام أوميجا»، وقد أصبح ذلك الاسم متعارفا عليه عالميا. دار جدال عام كبير في أواخر تسعينيات القرن العشرين حول إذا ما كانت الدولة التي ستكتشف علاجا لذلك العقم العام ستشاركه مع باقي العالم، وإن فعلت فتحت أي شروط. واتفق على أن هذه كارثة عالمية وأن العالم كله يجب أن يتحد لمواجهتها. كنا لا نزال في أواخر تسعينيات القرن العشرين نتحدث عن أوميجا باعتباره مرضا، أو خللا سيشخص ويعالج بمرور الزمن كما وجد الإنسان علاجا للسل والخناق، وشلل الأطفال، وحتى للإيدز في نهاية المطاف، وإن كان بعد فوات الأوان. وبمرور الأعوام، وعندما لم تؤل الجهود المشتركة تحت رعاية الأمم المتحدة إلى شيء، انهار ذلك القرار بالانفتاح الكامل؛ فغلفت الأبحاث بالسرية، وصارت جهود الدول مدعاة للاهتمام المشوب بالريبة والشغف. ضافر المجتمع الأوروبي جهوده، وحشد مؤسسات البحث والقوى العاملة. كان المركز الأوروبي للخصوبة البشرية الواقع في ضواحي باريس أحد أكثر تلك المؤسسات وجاهة في العالم، وكان يتعاون - على الأقل علانية - مع الولايات المتحدة التي كانت تبذل جهودا أكبر. لكن لم يحدث تعاون مشترك بين الأعراق المختلفة؛ فقد كانت الغنيمة أكبر من أن يتشاركوها فيما بينهم. كانت الشروط التي يمكن مشاركة السر وفقها محل تخمين وجدل محتدم. اتفق على أنه بمجرد أن يكتشف العلاج يتعين مشاركته؛ فقد كان يعد معرفة علمية لا ينبغي، ولا يمكن، لعرق أن يحتكرها لأجل غير مسمى. لكن، عبر القارات والحدود الدولية والعرقية المختلفة، كان كل منا ينظر إلى الآخر بتوجس وريبة، معتمدين على الشائعات والتكهنات. وعاودت حرفة التجسس القديمة الظهور مرة أخرى. تسلل العملاء القدامى خارج جحور تقاعدهم في وايبريدج وتشيلتنهام ولقنوا غيرهم حرفتهم. بالطبع لم يكن التجسس قد توقف، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة رسميا عام 1991؛ فالبشر قد أدمنوا ذلك المزيج المسكر من مجازفة المراهقين وخيانة البالغين لدرجة تمنعهم من التخلي عنه بالكلية. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، ازدهرت مؤسسة التجسس الرسمية كما لم تزدهر منذ انتهاء الحرب الباردة، وخرج من رحمها أبطال جدد، وأشرار جدد، وأساطير جديدة. كانت أعيننا مسلطة على اليابان بالأخص، خشية أن يكون هذا الشعب، الذي يتمتع بعبقرية تقنية، في طريقه بالفعل لإيجاد الحل.
وها قد مرت عشر سنوات وما زلنا نراقبهم، لكن بقلق أقل وأمل منعدم. لا يزال التجسس مستمرا حتى اليوم، ولكن مع أن خمسا وعشرين سنة قد مرت على ولادة آخر بشري، فإن قليلين منا فقط هم من يوقنون في قرارة أنفسهم أن كوكبنا لن يسمع صرخة مولود مرة أخرى. أما اهتمامنا بالجنس فهو آخذ في التلاشي؛ فقد طغى الحب الرومانسي والمثالي على الإشباع الجسدي المجرد رغم جهود حاكم إنجلترا المتمثلة في إقامة محال وطنية إباحية تهدف لاستثارة رغباتنا الواهنة. لكن أصبح لدينا ملذات حسية بديلة؛ وهي متاحة لجميع المسجلين بخدمة الصحة الوطنية. نذهب كي تدلك وتمسد وترطب وتعطر أجسادنا الآخذة في الهرم، وتدرم أظافر أيدينا وأقدامنا وتقاس أطوالنا وأوزاننا. أصبح مبنى كلية «ليدي مارجريت هول» مركز التدليك الخاص بجامعة أكسفورد، وهناك أرقد عصر كل ثلاثاء على الأريكة متطلعا إلى الحدائق التي لا تزال تلقى العناية، متمتعا بساعة التدليل الحسي المحتسبة بدقة التي توفرها لي الدولة. ويا له من جهد دءوب واهتمام مهووس ذلك الذي نوجهه تلقاء التشبث بوهم حيوية منتصف العمر، إن لم يكن الشباب. أصبح الجولف هو الرياضة الوطنية الآن. لولا أوميجا لاعترض دعاة حماية التراث البيئي على تشويه وإعادة تصميم تلك المساحات الواسعة من الريف، التي يعد بعضها من أجمل ما لدينا، لبناء ملاعب جولف أكثر تحديا. جميعها مجانية؛ فذلك جزء من الرفاهية التي وعد بها الحاكم. لكن بعضها صار حصريا، بإبقاء الأعضاء غير المرحب بهم خارجها، ليس بمنعهم من الدخول، فذلك يعد غير قانوني، بل بتلميحات التمييز الطبقي المتوارية التي تعلم كل مواطن بريطاني، حتى أغلظهم، تفسيرها منذ نعومة أظافره. فنحن ما زلنا بحاجة إلى مظاهر الأبهة؛ فالمساواة ما هي إلا نظرية سياسية ولا تصلح سياسة تطبيقية، حتى في ظل حكم زان لبريطانيا القائم على المساواة. جربت مرة أن ألعب الجولف، لكني ما لبثت أن وجدتها لعبة غير جذابة بالمرة، ربما لأنني استطعت زحزحة جلفا من الأرض لكني لم أستطع مطلقا أن أزحزح الكرة عن موضعها. أنا الآن أمارس العدو. كل يوم تقريبا، أخرج للركض فوق التربة الناعمة لبورت ميدو أو في ممرات المشي المهجورة بغابة ويثام، وأعد الأميال التي أقطعها؛ ومن ثم أقيس معدل ضربات القلب وفقدان الوزن وقوة التحمل. فأنا، مثلي مثل الجميع، أتوق لأن أظل على قيد الحياة، وأشاركهم هوس الحفاظ على وظائف جسمي.
أتذكر أن الكثير من هذا بدأ في مطلع تسعينيات القرن العشرين؛ اللجوء إلى الطب البديل، والزيوت العطرية، وتدليك الأجساد وتمسيدها ودهنها بالزيوت، والإمساك بالأحجار الكريمة طلبا للاستشفاء، والجنس بلا إيلاج. ارتفعت معدلات المشاهد الإباحية والعنف الجنسي في الأفلام وعلى التلفاز وفي الكتب وحتى في الواقع، وأصبحت أكثر جرأة، بينما أخذت تقل في الغرب أعداد أولئك الذين يمارسون الحب وينجبون الأطفال. بدا ذلك حينها تطورا مستحسنا في ظل الزيادة السكانية المفرطة التي كان العالم يعاني منها. لكن كوني أستاذ تاريخ، كنت أراه بداية النهاية.
كان لا بد من تحذيرنا في مطلع التسعينيات؛ ففي عام 1991 أظهر تقرير الاتحاد الأوروبي انخفاضا في أعداد الأطفال المولودين في أوروبا، والتي بلغت 8,2 مليون عام 1990، وكان ذلك الانخفاض ملحوظا في البلدان التي يعتنق معظم سكانها مذهب الروم الكاثوليك. اعتقدنا أننا نعرف الأسباب، وأن ذلك الانخفاض جاء متعمدا نتيجة للمواقف التحررية تجاه تنظيم النسل، والإجهاض، وتأخير النساء العاملات للإنجاب سعيا وراء حياتهن المهنية، ورغبة الأسر في رفع مستوى معيشتها. وقد ساهم في انخفاض أعداد السكان أيضا انتشار الإيدز خصوصا في أفريقيا. أطلقت بعض الدول الأوروبية حملة قوية للتشجيع على الإنجاب، لكن معظمنا كان يرى أن ذلك الانخفاض محمود بل ضروري. فقد كنا بأعدادنا الضخمة نلوث الكوكب، وإن كنا سنتكاثر بأعداد أقل فإن ذلك أمر مرحب به. لم تكن المخاوف منصبة على انخفاض أعداد السكان بقدر ما كانت منصبة على رغبة الأمم في الحفاظ على شعوبها وهويتها الثقافية وعرقها، وفي أن ينجب أبناؤها عددا من الصغار يكفي لحفظ هياكلها الاقتصادية. لكن حسبما أذكر، لم يشر أحد إلى أن تغيرا كبيرا يطرأ في نسب الخصوبة لدى الجنس البشري. وعندما جاءت أوميجا، جاءت بغتة، وقوبلت باستنكار. فبين ليلة وضحاها، بدا الأمر وكأن الجنس البشري فقد قدرته على التناسل. في يوليو 1994 تسبب اكتشاف أن حتى الحيوانات المنوية المجمدة والمحفوظة المستخدمة في التجارب والتلقيح الصناعي فقدت فاعليتها، في ذعر غير معهود ألقي على أوميجا بستار من رهبة الخرافات والسحر والتدخل الإلهي. وعاودت الآلهة القديمة الظهور بسلطانها الرهيب.
لم يتخل العالم عن الأمل حتى وصل الجيل الذي ولد عام 1995 إلى سن البلوغ الجنسي. فبعد اكتمال الاختبارات التي أجريت عليهم، واكتشاف أنه لا يوجد من بينهم من يستطيع إنتاج حيوانات منوية خصبة، أدركنا أن تلك لا محالة هي نهاية جنس «الإنسان العاقل». كان ذلك العام، عام 2008، هو العام الذي ارتفعت فيه معدلات الانتحار. ليس بين كبار السن، بل بين أبناء جيلي من متوسطي العمر، ذلك الجيل الذي كان عليه أن يتحمل وطأة تلبية المتطلبات المهينة والملحة لمجتمع يشيخ ويتداعى. حاول زان، الذي كان حينها قد استولى على السلطة في إنجلترا، منع الانتحار الذي كان يتحول إلى وباء بفرض غرامات على أقرب أقرباء على قيد الحياة للمنتحرين، مثلما يصرف المجلس اليوم معاشات كبيرة لأقارب فاقدي الأهلية والعاجزين من كبار السن ممن يقررون إنهاء حياتهم. وقد أتى ذلك بثماره؛ فقد انخفض معدل الانتحار هنا مقارنة بمعدلاته المهولة في مناطق أخرى من العالم، بخاصة الدول التي تقوم ديانتها على عبادة الأسلاف، واستمرار العائلة. لكن أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة استسلموا لتلك النزعة السلبية التي سادت العالم كله تقريبا وأسماها الفرنسيون «الضجر العالمي». فتكت بنا كالمرض الخبيث؛ وقد كانت بالفعل مرضا، له أعراض ما لبثت أن أصبحت شائعة، تمثلت في الوهن الجسدي، والاكتئاب، وتوعك غير معروف السبب، والاستعداد للإصابة بالأمراض المعدية البسيطة، وصداع دائم يمنع من الحركة. حاربته كما فعل كثيرون غيري. بعض الناس، ومن ضمنهم زان، لم يصابوا به على الإطلاق، ربما وقاهم منه افتقارهم للخيال أو في حالته أنانية مفرطة شكلت درعا قوية تمنع أي كارثة خارجية من اختراقها. ما زلت أحيانا بحاجة لأن أصارعه، لكني صرت لا أهابه مثل ذي قبل. الأسلحة التي أحاربه بها هي تلك الأشياء التي أجد فيها سلوتي؛ الكتب والموسيقى والطعام والنبيذ والطبيعة. تلك المبهجات المسكنة هي بمثابة تذكارات حلوة مريرة على أن السعادة البشرية زائلة، لكن متى كانت السعادة دائمة؟ ما زال بوسعي أن أجد اللذة، لذة ذهنية أكثر منها حسية، في ازدهار الربيع في أكسفورد، في أزهار شارع بيلبيرتون رود التي تبدو وكأنها تزداد جمالا عاما بعد عام، في ضوء الشمس وهو يزحف على الجدران الحجرية، وفي أشجار كستناء الهند وهي تتمايل مع الريح في أوج ازدهارها، وفي رائحة حقل فاصوليا تفتحت أزهاره، وفي أول أزهار اللبن الثلجية، وفي رقة تضام أوراق زهرة خزامى. يجب ألا تخبو اللذة، فسيحل الربيع على مدى قرون عدة دون أن يتسنى للبشر التلذذ برؤية تفتح أزهاره، وستتداعى الجدران وتموت الأشجار وتتعفن، وتصبح الحدائق مجرد حشائش وأعشاب.
كل ذلك الجمال سيبقى بعد فناء الذكاء البشري الذي يلاحظه ويتمتع به ويحتفي به. أقول ذلك لنفسي، لكن هل أصدقه حقا بعدما أصبحت اللذة لا تأتي إلا نادرا، وعندما تأتي، يصعب التفريق بينها وبين الألم؟ أتفهم السبب وراء ترك الأرستقراطيين وكبار ملاك الأراضي أملاكهم دون عناية بعد أن فقدوا الأمل في ذرية تخلفهم. فليس بإمكاننا أن نحيا إلا في اللحظة الحالية، وليس بإمكاننا أن نعيش أي لحظة زمنية أخرى، وإدراكنا لذلك هو أبعد ما نستطيع أن نبلغه إلى الحياة الأبدية. لكن عقولنا تشرد إلى القرون الماضية بحثا عن الطمأنينة في وجود أسلافنا، دون أمل في ذرية، ليس لنا فحسب بل لجنسنا كله، ودون أن نجد الطمأنينة في أن جنسنا سيبقى بعد أن نموت نحن، وأشعر أحيانا أن جميع الملذات الذهنية والحسية ما هي إلا وسائل دفاعية متهالكة مثيرة للشفقة تكالبت لتمنعنا من تدمير حياتنا.
في خضم فجيعتنا العالمية، مثل أبوين مكلومين، أخفينا كل ما يذكرنا بما فقدناه. فقد فككت ساحات لعب الأطفال من متنزهاتنا. في الاثنتي عشرة سنة الأولى بعد حدوث أوميجا، رفعت الأراجيح وثبتت لأعلى، وتركت الزحاليق وأطر التسلق دون تجديد طلائها. ثم أزيلت تماما وفرشت أرضيات ساحات اللعب الإسفلتية بالعشب أو زرعت فوقها الأزهار كما لو كانت قبورا جماعية صغيرة. حرقت الألعاب، باستثناء الدمى التي اتخذتها بعض النسوة، اللاتي فقدن عقولهن، بديلا للأطفال. أما المدارس التي أغلقت أبوابها منذ مدة طويلة فقد أوصدت نوافذها بالألواح الخشبية أو أصبحت تستخدم مراكز تعليم للكبار. وأزيلت كتب الأطفال بمنهجية من مكتباتنا. وصرنا لا نسمع أصوات الأطفال إلا في الشرائط والتسجيلات، ولا نرى صورهم المتحركة البهية إلا في الأفلام أو برامج التلفاز التي لا يطيق بعضنا مشاهدتها لكن يدمنها معظمنا كما لو كانت مخدرا.
أطلق على الأطفال الذين ولدوا في العام 1995 اسم «الأوميجيين». لم يخضع أي جيل آخر لذلك الكم من الدراسات والاختبارات التي خضعوا لها ولا نال ذلك القدر من القلق والتقدير والتدليل الذي نالوه. كانوا رجاءنا وأملنا في الخلاص وكانوا، ولا يزالون، يتمتعون بجمال استثنائي. يبدو في بعض الأحيان وكأن الطبيعة في أوج غلظتها جعلتهم كذلك كي تجعلنا نتحسر على ما فقدناه. فالذكور، الذين بلغوا من العمر الخامسة والعشرين الآن، أشداء واستقلاليون وأذكياء ووسماء كآلهة يافعة. العديد منهم أيضا قاس ومتعجرف وعنيف، وثبت أن ذلك ينطبق على كل الأوميجيين في سائر العالم. يشاع أن عصابات «ذوي الوجوه المطلية» المخيفة التي تجوب الريف ليلا، لتنصب الكمائن للمسافرين غير الحذرين وترهبهم، هي من الأوميجيين. ويقال إنه عندما يلقى القبض على أحد الأوميجيين، تعرض عليه الحصانة إن كان مستعدا للانضمام إلى شرطة الأمن الوطني، بينما يلقى بباقي أفراد العصابة، المدانين بنفس تهمته، في المستعمرة العقابية على جزيرة مان، التي ينفى إليها حاليا كل أولئك المدانين بجرائم عنف أو سطو أو سرقة متكررة . ليس من الحكمة أن نقود سياراتنا دون حماية في الطرق الثانوية المتداعية، لكن بلداتنا ومدننا آمنة، وتكافح الجريمة فيها بفاعلية أخيرا بالعودة إلى تطبيق سياسة الترحيل التي كانت مطبقة في القرن التاسع عشر.
أما إناث الأوميجيين فيملكن جمالا من نوع مختلف، جمالا كلاسيكيا جافيا فاترا، يفتقر إلى الحيوية والروح. اتخذن لأنفسهن تصفيفة شعر مميزة لا تقلدها النساء الأخريات قط، ربما بدافع الخوف من التقليد. فهن يتركن شعورهن طويلة ومنسدلة، ويربطن شريطة مفرودة أو مجدولة حول جباههن. وهي تصفيفة لا تليق إلا بوجه ذي جمال كلاسيكي، له جبهة عالية وعينان واسعتان متباعدتان. وكشأن أقرانهن من الذكور، يبدو أنهن يفتقرن إلى القدرة على المشاركة الوجدانية البشرية. يعد الأوميجيون، رجالا ونساء، سلالة منفصلة، تدلل وتسترضى وتهاب، وينظر إليها برهبة تنطوي على بعض الإيمان بالخرافات. قيل لنا إنهم في بعض الدول يقدمون قرابين في طقوس الإخصاب التي عادت إلى الحياة بعد قرون من التحضر الظاهري. أتساءل أحيانا ماذا سنفعل هنا في أوروبا إن وردت إلينا أخبار بأن الآلهة القديمة قبلت تلك القرابين المحرقة وأن طفلا ولد حيا.
ربما نحن من جعلنا الأوميجيين على ما هم عليه بحماقتنا؛ فنظام يجمع بين المراقبة المستمرة والتدليل التام لا يصلح لتنشئة سوية. إن عاملت الأطفال كالآلهة منذ نعومة أظافرهم، فلا لوم عليهم إن تصرفوا كالشياطين عندما يكبرون. أحمل لهم ذكرى لا تزال حاضرة في ذهني بوضوح، وتظل رمزا حيا لنظرتي لهم، ونظرتهم لأنفسهم. حدث ذلك في يونيو الماضي، في يوم حار لكن حره لم يكن خانقا، وكان ضوء شمسه يسطع بوضوح وتزحف السحب ببطء مثل حفن من نسيج قطني رقيق عال في السماء اللازوردية، وهواؤه عليل تشعر ببرودته المعتدلة على وجنتيك، يوم لا يشبه مطلقا أيام صيف أكسفورد الرطبة البطيئة. كنت أزور زميلا أكاديميا في كلية كرايست تشرش وكنت قد دخلت تحت القوس المدبب العريض الذي يعلوه تمثال ولسي كي أعبر ساحة توم كواد عندما رأيتهم، مجموعة أوميجيين من أربعة ذكور وأربع إناث، واقفين يستعرضون أنفسهم بأناقة على قاعدة المبنى الحجرية. بدت النسوة بخصلات شعرهن المعقوصة اللامعة التي أحاطت بوجوههن مثل الهالة، وحواجبهن المرفوعة، والطيات والثنيات المتكلفة لأثوابهن الرقيقة، كما لو كن قد خرجن للتو من رسوم رسمها رسامو ما قبل الرفائيلية على زجاج نوافذ الكاتدرائية. ووراءهن وقف الذكور الأربعة مباعدين بين سيقانهم وعاقدين أذرعهم، موجهين أنظارهم ليس للنسوة بل لما وراء رءوسهن بتعال كما لو كانوا يؤكدون سيادتهم المطلقة على الساحة كلها. بينما كنت أمر، نظرت الإناث نحوي بعيونهن اللامبالية الخاوية من التعبير، التي حملت لمحة ازدراء واضحة. أما الذكور فتجهموا لبرهة ثم أشاحوا بأنظارهم كما لو أنها وقعت على شيء غير جدير بالملاحظة واستمروا في حملقتهم بالساحة. شعرت حينها، كما أشعر الآن، بسعادة بالغة لأني لم أعد مضطرا للتدريس لهم؛ فمعظم الأوميجيين اكتفوا بالحصول على درجة علمية أولى فقط، وليسوا مهتمين بإكمال مسيرتهم التعليمية. كان الطلاب الأوميجيون الذين درست لهم يتمتعون بالذكاء لكنهم كانوا مشاكسين وعديمي الانضباط وملولين. كنت سعيدا لأني لست مضطرا إلى إجابة سؤالهم الذي لم يتفوهوا به: «ما الفائدة من ذلك كله؟» فالتاريخ، الذي يفسر لنا ما حدث في الماضي كي نفهم حاضرنا ونواجه مستقبلنا، لجنس يسير في طريق الانقراض، هو أقل التخصصات نفعا.
زميل الجامعة الذي يتعامل مع أوميجا بهدوء تام هو دانيل هيرتسفيلد، لكن من الناحية الأخرى، باعتباره أستاذا لعلم الحفريات الإحصائي، ينظر عقله إلى الزمن من بعد آخر. كالرب في الترنيمة القديمة، كانت ألف سنة في نظره كليلة أمس التي انقضت. جلس إلى جواري في حفل بالكلية في السنة التي كنت فيها أمين سر مهرجان النبيذ، وقال لي: «ماذا ستقدم لنا بجانب الطيهوج يا فارون؟ هذا سيفي بالغرض تماما. يقلقني أنك أحيانا تميل قليلا إلى أن تكون مغامرا أكثر مما ينبغي. وأتمنى أن تكون قد وضعت برنامجا معقولا لاحتساء النبيذ. سيحزنني، وأنا على فراش الموت، أن أتذكر الأوميجيين الهمجيين وهم يستنفدون مخزون الكلية من النبيذ.»
قلت: «إننا نفكر في الأمر. ما زلنا ننوي اختزان النبيذ بالطبع، لكن على نطاق أضيق . يشعر بعض زملائي أننا نبالغ في التشاؤم.» «لا أعتقد أن المرء يمكنه أن يبالغ في التشاؤم. لا أرى سبب اندهاشكم البالغ جميعا من أوميجا. ففي النهاية، من ضمن أربعة مليارات شكل من أشكال الحياة التي وجدت على هذا الكوكب، انقرض ثلاثة مليارات وتسعمائة وستين مليونا. ولا نعلم السبب. بعضها انقرض انقراضا جائرا، والبعض الآخر بسبب كوارث طبيعية. بعضها قضت عليه الكويكبات والنيازك. في ضوء هذه الانقراضات الجماعية، يبدو من غير المنطقي حقا أن نعتبر أن جنس «الإنسان العاقل» معفيا من ذلك. سيكون جنسنا أحد أقصر الأجناس جميعها عمرا، فيمكنك القول إنه يمثل مجرد طرفة عين للزمن. وبصرف النظر عن أوميجا، ربما كان كويكب ذو حجم كاف لتدمير هذا الكوكب في طريقه إلينا الآن.»
ثم بدأ يلوك قضمات من طيهوجه بصوت عال كما لو أن ذلك الاحتمال قد منحه بهجة عارمة.
الفصل الثاني
الثلاثاء 5 يناير 2021
خلال السنتين اللتين كنت أحضر فيهما اجتماعات المجلس بدعوة من زان بصفتي مستشارا مراقبا، اعتاد الصحفيون أن يكتبوا أننا تربينا معا، وأننا بمثابة أخوين. لكن هذا لم يكن صحيحا. فمنذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، كنا نقضي عطلات الصيف معا لا أكثر. لم يكن ذلك الخطأ مفاجئا. فقد كدت أنا نفسي أصدقه. فحتى الآن، عندما أنظر إلى الماضي يبدو لي الفصل الدراسي الصيفي كسلسلة متعاقبة مملة من الأيام الرتيبة، التي تغلب عليها جداول مواعيد الحصص، ولم تكن مؤلمة ولا كنت أهابها، لكن كان علي أن أتحملها حتى تأتي لحظة الخلاص، وفي بعض الأحيان القليلة استمتعت بها لفترة وجيزة، فقد كنت تلميذا نبيها ومحبوبا نوعا ما. وبعد أن أقضي بضعة أيام في المنزل، كانت والدتي ترسلني إلى وولكوم.
حتى وأنا أكتب الآن، ما زلت أحاول أن أفهم طبيعة مشاعري تجاه زان حينها، ولم ظل الرابط بيننا قويا ولم دام لتلك الفترة الطويلة. لم تكن مشاعري ذات طبيعة جنسية، مع أنه تقريبا في معظم الصداقات الوطيدة يكون ثمة بذرة خفية لانجذاب جنسي. وحسبما أذكر، لم نتلامس قط، حتى من باب اللعب الغليظ. فلم يكن ثمة لعب غليظ؛ فقد كان زان يكره أن يلمسه أحد، وكنت أنا قد أدركت مبكرا حدوده التي يجب ألا أتعداها واحترمتها كما كان هو أيضا يحترم حدودي. ولم تكن أيضا قصة الرفيق المسيطر المعهودة، قصة الرفيق الأكبر عمرا يقود تابعه المعجب به الأصغر منه، وإن كان يكبره بأربعة أشهر فقط، فلم يشعرني قط بأنني أدنى منه؛ فلم يكن ذلك أسلوبه. كان يرحب بي دون مودة خاصة ولكن كما لو كان يستقبل توأمه، أو بضعة منه. كان يحظى بجاذبية بالطبع ولا يزال. عادة تكون الجاذبية صفة مبغوضة لكني لم أعرف قط سببا لذلك. فلا يمكن أن يحظى بها من لا يملك القدرة على الإعجاب بالآخرين بصدق، على الأقل في لحظة لقائهم والتحدث معهم. الجاذبية صفة صادقة دائما؛ فقد تكون سطحية لكنها ليست مصطنعة. عندما يكون زان برفقة شخص ما، فإنه يعطيه انطباعا بالحميمية والاهتمام، ويشعره بأنه لا يحتاج إلى رفقة أي شخص سواه. مع أنه قد يستقبل نبأ وفاة ذلك الشخص في اليوم التالي دون أي تأثر، بل قد يقتله بنفسه حتى دون وخز ضمير. الآن أشاهده على التلفاز وهو يقدم تقريره ربع السنوي للأمة فألحظ نفس الجاذبية.
كلانا توفيت أمه. تلقيتا الرعاية في آخر أيامهما في قصر وولكوم، الذي تحول الآن إلى دار رعاية مسنين لمن يختارهم المجلس. قتل والد زان في حادث سيارة بفرنسا بعد عام من توليه حكم إنجلترا. اعترى ذلك الحادث بعض من الغموض؛ فلم يفصح عن أي تفاصيل بشأنه قط. دارت في ذهني تساؤلات عن الحادث حينها، ولا زالت تدور حتى الآن، وهذا يوضح لي الكثير بشأن علاقتي مع زان. جزء من ذهني ما زال يعتقد أنه قادر على القيام بأي شيء، يحتاج نوعا ما لأن يصدق أنه عديم الرأفة، لا يقهر، خارق للعادة، كما كنت أراه ونحن صبية.
تفرقت سبل الأختين في الحياة. كانت خالتي، بمعاونة مزيج من الجمال والطموح وحسن الحظ، قد تزوجت من بارونيت في منتصف عمره، بينما تزوجت والدتي من موظف حكومي برتبة متوسطة. ولد زان في قصر وولكوم، وهو أحد أجمل القصور في دورست. وولدت أنا في كينجستون، سيري، في جناح الولادة بالمستشفى المحلي، ثم اصطحبت إلى منزل فيكتوري شبه منفصل يقع في شارع طويل كئيب، تصطف فيه منازل مماثلة، يؤدي إلى متنزه ريتشموند بارك. نشأت في أجواء مليئة بالحقد. أتذكر أمي وهي تحزم حقائبي لزيارتي الصيفية إلى وولكوم، وهي ترتب قمصاني النظيفة وتمسك بأفضل معطف أملكه، تفرده وتتفحصه بتمعن بدا كأنه يحمل عداوة شخصية، كما لو أنها كانت تمقته بسبب المبلغ الذي اضطرت لدفعه مقابله، وبسبب أنها اشترته بمقاس يكبرني تحسبا لأن ينمو جسدي، وحينها كان قد أصبح ضيقا لدرجة غير مريحة، وبين هذا وذاك لم يكن ثمة فترة زمنية ناسبني فيها مقاسه بالضبط. كانت تعبر عن شعورها تجاه حظ أختها الحسن بمجموعة من العبارات التي غالبا ما تتكرر: «من الجيد أنهم لا يرتدون الملابس الرسمية على العشاء. فأنا لن أعمل في توزيع المنشورات كي أشتري لك حلة سهرة، ليس في سنك هذا. فتلك حماقة!» ثم يأتي السؤال المحتم، الذي تشيح ببصرها عني لتسألني إياه، فلم تكن تفتقر تماما للحياء: «هي وزوجها منسجمان جيدا، أليس كذلك؟ بالطبع أفراد تلك الطبقة الاجتماعية يبيتون في غرف منفصلة.» ثم تختم بقول: «بالطبع سيرينا لا تمانع ذلك.» كنت أعلم حتى وأنا في الثانية عشرة من عمري أن سيرينا كانت تمانع ذلك.
أظن أن والدتي كانت تفكر في أختها وزوج أختها أكثر بكثير مما كانا يفكران هما فيها. حتى اسمي المسيحي العتيق يرجع الفضل فيه لزان. فقد سمي تيمنا بأحد أجداده وأجداد والده؛ فقد كان «زان» أحد الأسماء المنتشرة في عائلة ليبيات منذ عدة أجيال. أنا أيضا سميت تيمنا بجد والدي. فلم تر أمي أي داع لأن تتفوق عليها أختها في مجال اختيار اسم شاذ لطفل. لكن السير جورج كان يثير حيرتها. ما زلت أذكر تعليقها المتبرم: «لكنه لا يبدو لي مثل بارونيت.» كان السير جورج هو البارونيت الوحيد الذي قابله كلانا، وكنت أتساءل ما الصورة الذهنية التي تستحضرها للبارونيت، فربما تخيلت أحد أبطال لوحات فان ديك الباهتة الرومانسية يخرج من إطار لوحته، بعجرفة بايرونية حزينة، إقطاعي محتقن الوجه متعال، مرتفع الصوت، يجيد رياضة صيد الثعالب. لكني فهمت ما تعنيه؛ فلم يكن يبدو لي أنا أيضا مثل بارونيت. وبكل تأكيد لم يكن يبدو عليه أنه مالك قصر وولكوم. كان وجهه مثلثيا، مرقطا بالأحمر، وكانت له شفتان مخضلتان صغيرتان يعلوهما شارب بدا سخيفا ومصطنعا، وقد بهت شعره الأحمر الذي ورثه عنه زان فصار لونه كلون القش الجاف، وكانت عيناه تسرحان بحزن وحيرة في أراضيه. لكنه كان راميا ماهرا، وكانت أمي ستوافقني في ذلك الرأي. وكذلك كان زان. لم يكن مسموحا له باستخدام بنادق بوردي التي يملكها والده، لكنه كان يمتلك بضع بنادق كان يصطاد بها الأرانب، وكان يسمح له باستخدام مسدسين برصاصات فارغة. كنا نثبت بطاقات التصويب على الأشجار ونقضي ساعات طويلة نحاول تحسين نتائجنا في الرماية. بعد بضعة أيام من التمرين، تفوقت على زان في الرمي بالبندقية وبالمسدس. مثلت براعتي تلك مفاجأة لكلينا، ولي أنا بالأخص. فلم أتوقع أن أحب الرماية أو أن أبرع بها؛ إذ كاد يربكني اكتشافي كم استمتعت بالمتعة الحسية، المشوبة ببعض الذنب، لملمس المعدن في راحة يدي، واتزان الأسلحة الذي يبعث على الرضا.
لم يكن لزان أي رفقاء آخرين خلال العطلات، ولم يبد أنه بحاجة لهم. لم يأت أي أصدقاء من مدرسته بشيربورن لزيارته في وولكوم. وعندما سألته عن المدرسة تملص من الإجابة. «لا بأس بها. أفضل من الحال الذي كان من شأن هارو أن تكون عليه.» «أفضل من إيتون؟» «لم يعد أبناء عائلتنا يلتحقون بإيتون. فجدي الأكبر خاض شجارا كبيرا فيها أدى إلى اتهامات علنية، ورسائل غاضبة، وغادرها حانقا. لا أذكر سبب كل هذا.» «ألا تضايقك قط العودة إلى المدرسة؟» «لم ستضايقني؟ هل تضايقك أنت؟» «لا، بل على العكس أحبها. إن لم يكن بوسعي القدوم إلى هنا، كنت سأفضل الذهاب إلى المدرسة عن الإجازة.»
سكت لبرهة ثم قال: «المشكلة أن المعلمين يريدون أن يفهموا الطلاب، فهذا ما يعتقدون أنهم يتلقون أجرهم لقاءه. لكني أبقيهم في حيرة من أمرهم. فأنا في فصل دراسي طالب مجتهد، أحصل على أعلى الدرجات، والطالب المدلل لناظر القسم، ومؤهل للحصول على منحة من أكسفورد؛ ثم في الفصل الدراسي الذي يليه، أتسبب في مشاكل جمة.» «مشاكل من أي نوع؟» «من النوع الذي لا يستدعي الفصل، ثم بالطبع في الفصل الدراسي الذي بعده أعود طالبا مطيعا. وهذا يربكهم ويقلقهم.»
لم أكن أنا أيضا أفهمه، لكن ذلك لم يشعرني بالقلق. فأنا لم أكن أفهم نفسي حتى.
بالطبع أدرك الآن لم أحب زان استضافتي في وولكوم. أعتقد أني خمنت السبب تقريبا منذ البداية. لم يكن لديه أدنى التزام تجاهي، ولا تقع عليه أي مسئولية ناحيتي، ولا حتى مسئولية الصداقة أو الاختيار الشخصي. وهو لم يخترني. كنت ابن خالته، وقد فرضت عليه، وكان وجودي أمرا واقعا. وبوجودي في وولكوم، لن يضطر قط للإجابة على السؤال الذي لا مفر منه: «لم لا تدعو أصدقاءك لقضاء العطلة هنا؟» ولم قد يحتاج إلى ذلك؟ فلديه ابن خالته يتيم الأب ليسليه. خففت عن كاهله، كونه طفلا وحيدا، عبء القلق الأبوي المفرط. لم أستشعر وجود ذلك القلق بدرجة كبيرة لكن بدوني، ربما كان والداه سيشعران أنهما ملزمان بإبدائه. منذ طفولته، لم يكن بوسع زان أن يتحمل الأسئلة أو الفضول أو أي نوع من التدخل في حياته. وقد تعاطفت مع ذلك؛ فقد كنت أشبهه كثيرا جدا في هذا الشأن. لو كان ثمة وقت كاف أو داع لذلك، لكان من المشوق تتبع نسبنا المشترك للوقوف على أسباب ذلك الاكتفاء الشخصي الزائد عن الحد لدينا. أدرك الآن أن ذلك كان أحد أسباب فشل زواجي. وهو غالبا يقف وراء عزوف زان عن الزواج. فاختراق باب الحصن المنيع الذي يحمي ذلك القلب والعقل يتطلب قوة أكبر من قوة العشق الجسدي.
نادرا ما كنا نرى والديه خلال أسابيع الصيف الطويلة تلك؛ فمثل أغلب المراهقين ، كنا ننام في وقت متأخر وعندما نستيقظ يكونان قد أنهيا إفطارهما. كانت الوجبة التي نتناولها في الظهيرة توضع لنا في المطبخ، وكانت عبارة عن إناء من الحساء المعد في المنزل، والخبز والجبن والفطائر المحشوة، وقطع من كعكة الفواكه الغنية المخبوزة بالمنزل، وكانت تعدها لنا الطاهية الحزينة التي كانت على نحو يتجافى مع المنطق تتذمر من عبء تحضير الوجبة الإضافية لنا وفي الوقت نفسه من غياب حفلات العشاء الراقية التي يمكنها استعراض مهارتها فيها. وكنا نعود إلى المنزل قبل العشاء بوقت بالكاد يكفي كي نغير ملابسنا ونرتدي حلتينا. لم تكن خالتي ولا زوجها يتجاذبان أطراف الحديث معنا مطلقا أثناء العشاء، على الأقل عندما كنت هناك، وكانا يستأثران هما بالحديث كل منهما مع الآخر، بينما كنت أنا وزان نأكل في صمت ونسترق بين الحين والآخر فيما بيننا نظرات المراهقين الانتقادية التآمرية. كان حديثهما المحموم يدور دوما حول خطط بشأننا ويستمر كما لو أننا لم نكن موجودين.
ذات مرة قالت خالتي وهي تنزع برقة القشرة عن ثمرة خوخ دون أن ترفع عينيها عنها: «قد يرغب الولدان في رؤية قلعة مايدن.» «لا يوجد ما يستحق المشاهدة في قلعة مايدن. يمكن لجاك مانينج أن يصطحبهما في قاربه عندما يذهب لصيد الجمبري.» «أنا لا أثق في مانينج. سيقام حفل غدا في بول وقد يودان حضوره.» «حفل من أي نوع؟» «لا أذكر، لقد أعطيتك برنامجه.» «ربما يودان قضاء يوم في لندن.» «ليس في ذلك الطقس البديع. الأفضل لهما أن يخرجا في الهواء الطلق.»
عندما بلغ زان السابعة عشرة من عمره وصار مسموحا له لأول مرة استخدام سيارة والده، كنا نذهب بها إلى بول لملاحقة الفتيات. كنت أجد تلك النزهات مريعة ولم أرافقه فيها إلا مرتين فحسب. كانت بمثابة اقتحام عالم غريب؛ الضحكات العالية، والفتيات وهن يتصيدن الشباب في مجموعات من اثنتين، ونظرات التحدي الجريئة، والحوار الذي يبدو تافها لكنه لازم. بعد المرة الثانية قلت له: «نحن لا نتظاهر بالشعور بالمحبة. فهن لا يرقن لنا حتى؛ ومن المؤكد أننا لا نروق لهن أيضا؛ لذا إن كان كلا الطرفين لا يريد من الآخر إلا المضاجعة، فلماذا لا نصرح بذلك وندع كل تلك المقدمات المحرجة؟» «يبدو أنهن يحتجن إلى تلك المقدمات. النوع الوحيد من النساء الذي يمكنك التودد إليه بتلك الطريقة هو النساء اللاتي يجب أن تدفع لهن المال مقدما. قد يحالفنا الحظ في بول إن شاهدنا فيلما واحتسينا الخمر لبضع ساعات.» «لا أعتقد أني سأرافقك.» «ربما كنت محقا. عادة ما أشعر في الصباح التالي أن الأمر لم يكن يستحق العناء.»
كان من عادته أن يجعل الأمر يبدو وكأن رفضي لم يكن نابعا من مزيج من الخجل والخوف من الفشل والخزي، كما كان يعلم على الأرجح. لا ألوم زان على أني فقدت عذريتي في ظروف غير مريحة في موقف سيارات ببول مع صهباء لم تخف علي، أثناء ملاطفاتي وبعدها، أنها قضت ليالي سبت أفضل من تلك بكثير. ولا أدعي أيضا أن تلك التجربة أثرت بالسلب على حياتي الجنسية؛ ففي النهاية، إن كانت تجاربنا الأولى أثناء الصبا هي التي تحدد مسار حياتنا الجنسية، لآل مصير معظم العالم إلى العزوبية. فذلك هو أكثر جانب من التجارب الإنسانية يؤمن البشر بأن المثابرة فيه ستقودهم لما هو أفضل.
بجانب الطاهية، بوسعي أن أتذكر بضعة خدم آخرين. كان يوجد بستاني يدعى هوبهاوس، وكان لديه كره بالغ للورود، خاصة عندما تزرع مع أنواع أخرى من الأزهار. كان يتذمر من أنها تنمو في كل مكان، كما لو كانت النباتات المتسلقة والشجيرات العادية، التي كان يقلمها بمهارة ممتعضا، قد نبتت من تلقاء نفسها بطريقة غامضة. وكان يوجد أيضا سكوفل الوسيم ذو الملامح المنمقة الذي لم أعلم له وظيفة محددة؛ فقد كان يؤدي دور السائق ومساعد البستاني وعامل الإصلاحات. كان زان إما يتجاهله أو يعامله بغلظة شديدة. لم أعهده يعامل أي خادم آخر بفظاظة، وكنت سأسأله عن السبب لولا شعوري، نتيجة لانتباهي كالعادة لأدق التغيرات في انفعالات ابن خالتي، أنه لم يكن من الحكمة أن أطرح ذلك السؤال.
لم أكره حقيقة أن زان كان هو الحفيد المفضل لدى جدينا؛ فقد بدا لي تفضيله علي أمرا طبيعيا للغاية. بوسعي أن أتذكر مقتطفات من حديث آل إلى مسامعي عرضا في أحد أعياد الميلاد المجيدة أثناء اجتماع كارثي للعائلة كلها في وولكوم. «أتساءل أحيانا إن كان ثيو سينجح في حياته أكثر من زان في نهاية المطاف.» «لا، فثيو ولد وسيم وذكي، أما زان فعبقري.»
تبارينا أنا وزان في ذلك الحكم. عندما ضمنت دخولي إلى جامعة أكسفورد، أسعدهم ذلك، ولكنه فاجأهم أيضا. وعندما قبل زان في كلية باليول، اعتبروا أن ذلك هو ما يستحقه. عندما حصلت على درجتي العلمية بمرتبة الشرف الأولى قالوا إن الحظ قد حالفني. وعندما لم يحقق زان إلا مرتبة الشرف الثانية العليا تذمروا، لكن برفق، من أنه لم يكلف نفسه عناء الاجتهاد.
لم يطلب مني زان أي طلبات، ولم يعاملني كابن خالته الفقير الذي يأتي كل عام ليحظى بطعام وشراب وعطلة بالمجان مقابل رفقته أو تبعيته. وإن أردت الاختلاء بنفسي، كان يسمح لي بذلك دون تذمر أو تعليق. كنت أنفرد بنفسي عادة في المكتبة، تلك الغرفة التي كانت تبعث في نفسي البهجة بأرففها المملوءة بالكتب ذات الأغلفة الجلدية، وأعمدتها الجدارية البارزة والأحرف الكبيرة المحفورة عليها، والمدفأة الحجرية الضخمة وشعار النبالة المحفور عليها، والتماثيل النصفية الرخامية في كواتها الجدارية، وطاولة الخرائط الضخمة التي كان بوسعي أن أفرش عليها كتبي وأوراق مهامي الصيفية، والمقاعد الجلدية الوثيرة ذات المسندين، والمشهد من نوافذها الطويلة الذي يمتد من المرج وحتى النهر والجسر. هنا اكتشفت، بينما كنت أتصفح كتب تاريخ المقاطعات، أن مناوشة وقعت على ذلك الجسر أثناء الحرب الأهلية، وأن خمسة من الخيالة الملكيين الشباب حموا الجسر ضد البرلمانيين حتى سقطوا جميعا. حتى إن أسماءهم كانت مذكورة، وكان لقائمة أسمائهم وقع شجاعة رومانسي: أورميرود، فريمانتل، كول، بايدر، فيرفاكس. ذهبت إلى زان بحماس شديد وجررته إلى المكتبة. «انظر، تاريخ المعركة الفعلي يوافق يوم الأربعاء القادم، 16 أغسطس. لا بد أن نحتفل.» «كيف؟ هل نلقي أزهارا في النهر؟»
لكنه قالها بنبرة لم تكن تحمل استنكافا ولا استخفافا، بل كان مستمتعا نوعا ما بحماسي. «لماذا لا نشرب نخبهم على أي حال؟ لنحتفل بالأمر.»
فعلنا الأمرين. ذهبنا إلى الجسر وقت الغروب ومعنا زجاجة من نبيذ أبيه الفرنسي الأحمر، والمسدسين، وأزهارا ملء ذراعي جمعتها من الحديقة المسورة. تقاسمنا شرب زجاجة النبيذ بيننا، ثم وقف زان موازنا نفسه فوق سور الجسر، مطلقا النار من كلا المسدسين في الهواء، بينما تلوت أنا أسماءهم بصوت عال. كانت تلك إحدى لحظات صباي التي ظلت محفورة في ذاكرتي، كانت أمسية من السعادة الخالصة، لا يعكر صفوها أو يشوبها أي إحساس بالذنب أو التخمة أو الندم، خلدتها في ذهني صورة زان معتليا السور وخلفه الغروب، وشعره الأحمر الناري، وبتلات الورود الفاتحة الطافية مع التيار تحت الجسر حتى غابت عن الأنظار.
الفصل الثالث
الاثنين 18 يناير 2021
بوسعي أن أتذكر أول عطلة قضيتها في وولكوم. تبعت زان صاعدين سلالم درج ثان في نهاية الممر حتى وصلنا إلى غرفة في أعلى طابق بالمنزل تطل على الشرفة والمرجة الممتدة تجاه النهر والجسر. تساءلت في بادئ الأمر، بحساسية ولأني كنت مشبعا بكراهية أمي، إن كنت سأودع في غرف الخدم.
ثم ما لبث زان أن قال: «أنا أسكن في الغرفة المجاورة. لدينا حمامنا الخاص، ستجده في نهاية الممر.»
ما زلت أذكر كل تفصيلة في تلك الغرفة. كانت غرفتي التي قضيت فيها عطلة الصيف كل عام منذ أن كنت طالبا بالمدرسة وحتى تخرجت من أكسفورد. تغيرت أنا، لكنها لم تتغير قط، وفي مخيلتي أرى مجموعة متتابعة من الطلاب المدرسيين والجامعيين جميعهم يشبهونني بشدة، يفتحون ذلك الباب صيفا بعد صيف، ويدلفون إلى إرثهم المشروع. لم أذهب إلى وولكوم منذ توفيت والدتي قبل ثماني سنوات، ولا أنوي العودة إلى هناك مرة أخرى. أحيانا أتخيل أني سأعود إلى وولكوم عندما أصير كهلا لأموت في تلك الغرفة، وأفتح بابها لآخر مرة لأرى السرير ذا القوائم الأربع المنقوشة، والغطاء الباهت المصنوع من الحرير المرقع، والكرسي الهزاز المصنوع من الخشب المثني بوسادته التي طرزتها إحدى نساء عائلة ليبيات الراحلات منذ زمن بعيد، وسطح المكتب الجورجي البالي قليلا لكنه مع ذلك متين وثابت وصالح للاستعمال، وخزانة الكتب التي حوت طبعات القرن التاسع عشر والقرن العشرين من الكتب التي يحبها الصبيان: كتب لهنتي وفينيمور كوبر ورايدر هاجارد وكونان دويل وسابر وجون بوشان، والخزانة ذات الأدراج المقوسة التي تعلوها مرآة عليها وسخ، والصور القديمة لمشاهد معارك؛ خيول مذعورة تشب على قوائمها الخلفية أمام المدافع، وجنود خيالة بعيون محملقة، ومشهد احتضار نلسون. وعلى رأس كل ذلك أذكر اليوم الذي دخلتها فيه لأول مرة، ومشيت إلى النافذة ونظرت خلالها إلى الشرفة والمرجة المنحدرة وأشجار البلوط، وبريق صفحة النهر، والجسر الصغير المقوس.
وقف زان عند الباب، وقال لي: «بإمكاننا أن نخرج إلى مكان ما غدا بالدراجة، إن شئت. لقد اشترى لك البارونيت دراجة.»
عرفت بعدها أنه نادرا ما يذكر أباه بأي طريقة أخرى. قلت: «ذلك لطف منه.» «ليس حقا؛ فقد كان مضطرا إلى ذلك، إن كان يريدنا أن نقضي الوقت معا، أليس كذلك؟» «لدي دراجة؛ فأنا أذهب إلى المدرسة بالدراجة دائما، وكان يمكنني أن أحضرها معي.» «رأى البارونيت أنه من الأيسر الاحتفاظ بواحدة هنا. لست مجبرا على استخدامها. أنا أحب أن أخرج بالدراجة طوال النهار لكنك لست مجبرا على مرافقتي إن لم تود ذلك؛ فركوب الدراجات ليس إلزاميا. في الحقيقة لا يوجد شيء إلزامي في وولكوم سوى التعاسة.»
اكتشفت بعدها أنه يحب إبداء هذا النوع من الملاحظات التهكمية التي تسبق سنه بهدف إثارة إعجابي، وبالفعل نجح في ذلك. لكنني لم أصدقه؛ ففي زيارتي الأولى تلك، ولما انتابني من انبهار بريء، كان من المستحيل أن أتخيل أن أحدا يمكن أن يكون تعيسا في منزل كهذا. وأنه حتما لا يقصد ما قاله.
قلت: «أرغب في أخذ جولة بالمنزل في وقت ما.» ثم احمر وجهي خجلا، خشية أن أكون قد بدوت مثل مشتر محتمل أو سائح. «يمكننا القيام بذلك، بالطبع. إن كان بوسعك أن تنتظر حتى يوم السبت، فستقوم الآنسة ماسكل من الأبرشية بهذه المهمة. سيكلفك ذلك جنيها لكنه يشمل جولة بالحديقة. فالمنزل يفتح للزوار كل سبت لجمع التبرعات لصالح الكنيسة. ما تفتقر إليه مولي ماسكل من معرفة تاريخية وفنية تستعيض عنه بخيالها.» «أفضل أن تصحبني أنت في تلك الجولة.»
لم يجب، وإنما وقف يشاهدني وأنا أجاهد لرفع حقيبة سفري على السرير وأبدأ في إفراغها. كانت أمي قد اشترت لي حقيبة جديدة لهذه الزيارة الأولى. أدركت مغموما أنها كانت كبيرة وأنيقة وثقيلة أكثر من اللازم، وتمنيت لو أني أحضرت بدلا منها حقيبة يدي القماشية القديمة. كنت، بالطبع، قد أحضرت معي ملابس زائدة عن الحاجة وغير مناسبة لكنه لم يعلق، ولا أعرف إن كان ذلك من باب الكياسة أو الذوق، أم لأنه ببساطة لم يلاحظ. دسستها بسرعة في أحد الأدراج، ثم سألته: «ألا تجد العيش في هذا المنزل غريبا؟» «أجده غير مريح وفي بعض الأحيان مضجر، لكني لا أجده غريبا. فقد عاش أجدادي هنا لثلاثمائة سنة.» ثم أضاف قائلا: «إنه منزل صغير للغاية.»
بدا وكأنه يحاول ألا يشعرني بالحرج بتقليله من شأن إرثه، لكني عندما نظرت إليه رأيت، لأول مرة، نظرته التي ألفتها فيما بعد، نظرة استمتاع داخلي خفية بدت في عينيه وعلى شفتيه، لكنها لم تتحول قط لابتسامة صريحة. لم أعلم حينها وما زلت لا أعلم حتى يومنا هذا كم كان يعنيه قصر وولكوم. ما زال القصر يستخدم دارا للعجزة والمتقاعدين من النخبة القليلة؛ من أقرباء وأصدقاء المجلس، وأعضاء المجالس الإقليمية والمحلية ومجالس المقاطعات، الأشخاص الذين يعتبر أنهم خدموا الدولة بشكل أو بآخر. حتى وفاة والدتي، كنت أنا وهيلينا نذهب إلى هناك بانتظام لتأدية واجب الزيارة؛ ما زلت أذكر الأختين وهما تجلسان معا في الشرفة، وقد التحفتا بما يحميهما من البرد، إحداهما تعاني من السرطان في مراحله النهائية، والأخرى من الربو القلبي والتهاب المفاصل، وقد نسيتا الحقد والكراهية في مواجهة الموت المهيب الذي يساوي بين الجميع. عندما أتصور العالم وقد خلا من البشر، أتخيل - ومن منا لا يفعل؟ - الكاتدرائيات والمعابد العظيمة، والقصور والقلاع؛ والقرون غير المأهولة بالبشر تتوالى عليها، والمكتبة البريطانية التي افتتحت قبل أوميجا بفترة قصيرة، بمخطوطاتها وكتبها المحفوظة بعناية التي لن يفتحها أو يقرأها أحد مجددا. لكن وحدها صورة وولكوم هي التي تمس شغاف قلبي؛ عندما أتخيل رائحة العطن في غرفه المهجورة، وأرفف المكتبة المهترئة، واللبلاب وهو يتسلق جدرانه المتداعية، والحشائش والأعشاب البرية تغطي الممرات المفروشة بالحصى، وملعب التنس، والحديقة الرسمية، وذكرى حجرة النوم الخلفية الصغيرة تلك، وقد حرمت من الزوار وظلت على حالها حتى يتعفن مفرش سريرها أخيرا، وتتحول كتبها إلى تراب وتسقط آخر صورة على حائطها.
الفصل الرابع
الخميس 21 يناير 2021
كانت لدى أمي طموحات فنية. لا، هذا ادعاء فيه تكبر وليس صحيحا حتى. فلم يكن لدى أمي طموحات لأي شيء سوى طموحها المستميت للوجاهة. لكنها كانت تملك موهبة فنية نوعا ما، مع أني لم أرها ترسم أي لوحات أصلية. كانت هوايتها إعادة رسم الصور القديمة، التي عادة ما تكون مشاهد فيكتورية مأخوذة من مجلدات الأعداد المجمعة البالية لمجلة «جيرلز أون بيبر» المصورة أو جريدة «إلستريتد لندن نيوز». لا أعتقد أن ذلك كان صعبا، لكنها كانت تفعله بدرجة من الحرفية، وتحرص، كما كانت تقول لي، على أن تستخدم ألوانا صحيحة تاريخيا، مع أني لا أعرف كيف كانت تتأكد من ذلك. أعتقد أنها كانت أقرب ما تكون للسعادة عندما كانت تجلس على طاولة المطبخ بعلبة ألوانها وبرطمانين مملوئين بالماء، ومصباح المكتب الذي كانت تسلطه بدقة على الصورة المبسوطة على ورقة جريدة أمامها. اعتدت أن أشاهدها وهي عاكفة على رسمها، وألحظ الرقة التي كانت تغمس بها الفرشاة الصغيرة في الماء، ودرجات الأزرق والأصفر والأبيض المتداخلة بينما كانت تمزجهم على لوحة ألوانها. لم تكن طاولة المطبخ كبيرة بما يكفي لأن أفرش عليها جميع واجباتي المنزلية، لكنها كانت كبيرة بما يكفي لأن أجلس إليها لكتابة مقالي الأسبوعي. كنت أحب أن أرفع عيني - فلم تكن تضايقها نظراتي المتفحصة الخاطفة - لأشاهد الألوان الزاهية وهي تتشكل تدريجيا على الرسم، والنقاط الرمادية الصغيرة الباهتة وهي تتحول إلى مشهد ينبض بالحياة؛ مشهد لمحطة قطارات نهائية تعج بسيدات يعتمرن القبعات يودعن رجالهن الذاهبين إلى حرب القرم، أو لعائلة فيكتورية ترتدي نساؤها الفراء والمنافج، تزين الكنيسة لاستقبال عيد الميلاد المجيد، أو للملكة فيكتوريا برفقة زوجها وحولهما فتيات صغار ترتدين فساتين منتفشة، أثناء افتتاحها للمعرض الكبير، أو لمناظر التجديف في نهر أيزيس وفي الخلفية مقرات نوادي التجديف الجامعية العائمة التي اندثرت منذ زمن طويل، يظهر فيها رجال ذوو شوارب مرتدين سترات رياضية وفتيات بنهود بارزة وخصور نحيلة ترتدين معاطف وقبعات من القش، أو لموكب متناثر من المصلين يتقدمهم إقطاعي القرية وزوجته يدخلون كنيسة قريتهم لحضور قداس عيد الفصح وفي الخلفية مقابر تكسوها زهور الربيع في مظهر احتفالي. ربما كان افتتاني المبكر بتلك المشاهد هو ما وجه اهتمامي للقرن التاسع عشر بعدما صرت عالم تاريخ، تلك الحقبة التي بدت حينها كما تبدو الآن، كما لو أنك تنظر إليها عبر مقراب، تراها شديدة القرب ولكنها في الوقت نفسه بعيدة للغاية، مبهرة في حيويتها، وتمسكها بالأخلاقيات، وعبقريتها ووسخها.
كانت هواية أمي تلك تدر عائدا ماديا. كانت تضع اللوحات بعد أن تنهيها في إطارات بمساعدة السيد جرينستريت، وكيل الكنيسة المحلية التي كانا يرتادانها بانتظام، والتي كنت أرتادها على مضض، ثم تبيعها لمتاجر التحف القديمة. لن أعرف قط الدور الذي لعبه السيد جرينستريت في حياتها بعيدا عن مهارته اليدوية في استخدم الخشب والغراء، أو الدور الذي كان ليلعبه لولا وجودي الدائم حولهما، كما أني لا أعرف كم كانت أمي تتقاضى مقابل لوحاتها، وما إذا كان ذلك الدخل الإضافي هو الذي كان يوفر ثمن رحلاتي المدرسية ومضارب الكريكيت والكتب الإضافية التي لم تتذمر بشأنها قط. أنا أيضا كان لي مساهمة في ذلك؛ فقد كنت أنا من أجد تلك الصور القديمة. كنت أفتش في صناديق محلات الخردوات المستعملة في بلدة كينجستون وفي مناطق أبعد منها عن المنزل في طريق عودتي من المدرسة أو في أيام السبت، وكنت أحيانا أقود دراجتي لمسافة خمسة عشر أو عشرين ميلا كي أصل إلى محل لديه أفضل الغنائم. كان معظمها بخس الثمن وكنت أشتريها بمصروفي. أما أفضلها فكنت أسرقها، فقد صرت بارعا في اقتصاص اللوحات الرئيسية من مجلدات الأعداد المجمعة دون أن تتضرر، وإخراج الصور من أطرها ودسها في كتاب الخرائط المدرسي. كانت حاجتي إلى القيام بتك الأعمال التخريبية، هي حاجة أي ولد صغير حسبما أظن إلى ارتكاب الجرائم البسيطة. لم يشك بي أحد يوما، فقد كنت أنا ذلك الطالب الوقور بزيه الموحد، طالب مدرسة القواعد الذي كان يأخذ مشترياته الأقل شأنا إلى الخزينة ليدفع ثمنها على مهل ودون أن يبدو عليه التوتر، والذي كان يشتري أحيانا الكتب المستعملة الرخيصة من صناديق المتفرقات الموضوعة خارج باب المحل. كنت أستمتع بتلك الرحلات المنفردة، وبالمخاطرة، ونشوة اكتشاف كنز، والعودة منتصرا بغنائمي. كانت أمي لا تسألني عن شيء إلا عن المبلغ الذي دفعته كي ترده إلي. ولو كانت قد شكت في أن بعض تلك الصور كانت تساوي أكثر من الثمن الذي أخبرتها أني دفعته، فإنها لم تستجوبني يوما، لكني كنت أعلم أنها كانت مسرورة. لم أكن أحبها لكني كنت أسرق من أجلها. تعلمت منذ صغري على طاولة المطبخ تلك أن ثمة طرقا للتملص من التزامات الحب دون الشعور بالذنب.
أعرف، أو أظن أني أعرف، متى بدأت رهبتي من تحمل المسئولية تجاه حياة الآخرين أو سعادتهم، مع أنني ربما أكون أخادع نفسي؛ فقد كنت دوما بارعا في اختلاق تبريرات لنواقصي الشخصية. تعود جذور ذلك إلى عام 1983، وهو العام الذي خسر والدي فيه معركته مع سرطان المعدة. هكذا كنت أسمع الكبار يصفون الأمر. كانوا يقولون: «خسر معركته.» وأرى الآن أنها كانت حقا معركة، خاضها بشيء من الشجاعة حتى وإن كان لم يملك خيارا. حاول والداي أن يعفياني من التفاصيل الصعبة. كانت عبارة «نحن نحاول أن نخفي الأمر عن الصبي.» إحدى العبارات المتكررة التي كنت أسمعها عرضا. لكن إخفاء الأمر عن الصبي كان يعني عدم إخباري بأي شيء سوى أن والدي مريض، أو أنه يجب أن يعرض على طبيب متخصص، أو أنه يجب أن يدخل إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، أو أنه سيعود إلى المنزل قريبا، أو أنه يجب أن يعود للمستشفى مرة أخرى. وأحيانا كانوا لا يخبرونني بتلك الأمور حتى؛ فكنت أعود إلى المنزل فلا أجده، وأجد أمي منهمكة في تنظيف المنزل، بوجه كأنما قد من الصخر. إخفاء الأمور عن الصبي كان يعني أنني عشت طفلا وحيدا دون إخوة في أجواء من الترقب لخطر غير مفهوم، خطر يعني أن ثلاثتنا كنا في طريقنا إلى كارثة حتمية تفوق تصوري، وعندما تحل سأكون أنا السبب فيها. لدى الأطفال دائما الاستعداد لتصديق أنهم السبب في أي كارثة تحل بالكبار. لم تنطق أمي قط كلمة «سرطان» أمامي، ولم تشر لمرضه إلا عرضا. «أبوك متعب قليلا اليوم.» «يجب أن يعود أبوك إلى المستشفى اليوم.» «اجمع تلك الكتب المدرسية من غرفة الجلوس واصعد إلى الأعلى قبل أن يأتي الطبيب. فهو يريد أن يتحدث معي.»
كان من شأنها أن تقول تلك العبارات وهي تشيح ببصرها عني، كما لو كان المرض أمرا مخجلا أو خادشا للحياء، يجب ألا يسمع عنه طفل. أم كان ذلك سرا أعمق، أو معاناة مشتركة بينهما، أصبحت جزءا لا يتجزأ من زواجهما ولهما الحق في استبعادي منها كما استبعدت من سريرهما؟ أتساءل الآن إن كان صمت والدي، الذي كان يبدو لي حينها رفضا متعمدا، أكان سبب ما بيننا من جفاء هو رغبته في ألا يصعب على نفسي ألم فراقه أكثر منه بسبب ألمه وإرهاقه أو فقدانه الأمل الذي كان المرض يستنزفه منه ببطء؟ لكن لا بد أنه لم يكن يحبني كثيرا. فقد كنت طفلا يصعب أن تحبه. وكيف كان لنا أن نتواصل؟ فأصحاب الأمراض التي لا شفاء منها لا ينتمون لعالم الأحياء ولا لعالم الأموات. قابلت منهم آخرين بعد والدي، وكنت في كل مرة أشعر بغربتهم عن عالمنا. فهم يجلسون بيننا، ويتحدثون إلى الناس ويتحدث الناس إليهم، ويسمعون ما يقال، بل يبتسمون، لكن أرواحهم تكون قد فارقتنا بالفعل ولا سبيل لدينا للدخول إلى عالمهم المجهول.
لا أستطيع أن أتذكر الآن من أحداث يوم وفاة والدي سوى أمي وهي تجلس إلى طاولة المطبخ، وتبكي أخيرا دموع الغضب والخيبة. وعندما حاولت أن أحوطها بذراعي بخجل واضطراب، قالت منتحبة: «لم حظي بائس دائما؟» بدا ذلك، في نظر الطفل ذي الاثني عشر عاما حينها كما يبدو لي الآن، ردا غير واف لفجيعة شخصية، وقد أثر ذلك الرد المبتذل على سلوكي تجاه أمي بقية فترة طفولتي. كنت غير منصف ومتسرع في حكمي ذلك، لكن الأطفال بطبيعتهم غير منصفين ومتسرعون في الحكم على والديهم.
على الرغم من أني نسيت أو ربما تناسيت جميع أحداث يوم وفاته إلا واحدا، فإنني أذكر جميع تفاصيل يوم إحراق جثته؛ أذكر المطر الخفيف الذي جعل حديقة المحرقة تبدو مثل لوحة تنقيطية، والانتظار في الرواق المسقوف حتى انتهاء إحراق جثة جاءت قبلنا ويحين دورنا لندخل ونجلس في مقاعد الكنيسة الخالية من الزخارف المصنوعة من خشب الصنوبر، ورائحة بذلتي الجديدة، وأكاليل الزهور المرصوصة بمحاذاة حائط الكنيسة، والتابوت الذي بدا صغيرا للغاية، حتى بدا مستحيلا تصديق أنه كان يحوي جثمان والدي. زادت خشية أمي من أن يحضر الجنازة زوج أختها البارونيت من قلقها على أن يتم كل شيء حسبما يجب. لم يحضر هو ولا زان، الذي كان حينها في مدرسته الإعدادية. لكن خالتي حضرت متأنقة أكثر من اللازم، وكانت السيدة الوحيدة التي لم تتشح كليا بالسواد، مما منح والدتي سببا مقبولا للتذمر. بعد انتهاء المأتم الذي أقيم بعد الجنازة، اتفقت الأختان على أنني يجب أن أقضي العطلة الصيفية القادمة في وولكوم، ومن هنا بدأ نمط كل إجازاتي الصيفية التي تلت ذلك.
لكن أكثر ما أذكره ذلك اليوم هي أجواء الإثارة المكبوتة والاستهجان الشديد الذي شعرت أنه كان منصبا على ذاتي. سمعت في ذلك الحين لأول مرة عبارة تكررت على لسان الأصدقاء والجيران الذين كدت لا أعرفهم وهم متشحون بذلك السواد غير المعهود: «أنت رب الأسرة الآن يا ثيو. والدتك مسئولة منك.» لم أستطع حينها أن أقول ما وقر في نفسي منذ حوالي أربعين سنة. وهو أنني لا أريد لأحد أن يلجأ إلي طلبا للحماية أو السعادة أو الحب أو أي شيء آخر.
أتمنى لو كنت أملك ذكريات أسعد لأبي، أتمنى لو استطعت أن أكون رؤية واضحة، أو على الأقل رؤية ما، لطبيعة ذلك الرجل أستطيع التشبث بها، أو جعلها جزءا من ذاتي. أتمنى لو أني أستطيع ذكر حتى ثلاثا من خصاله. الآن عندما أفكر فيه لأول مرة منذ سنوات طوال، لا ترد على ذهني أي صفات أستطيع وصفه بها، ولا حتى أنه كان لطيفا وطيبا وذكيا ومحبا. ربما كان يملك كل تلك الصفات، غير أني لا أعرف. كل ما أعرفه عنه أنه كان يحتضر. لم يكن السرطان سريعا أو رحيما به - ومتي كان السرطان رحيما؟ - وظل يعاني ما يقرب من ثلاث سنوات حتى مات. يبدو أن معظم طفولتي قد اختزل خلال تلك السنوات في شكل احتضاره وصوته ورائحته. كان السرطان هويته. لم يكن بوسعي أن أرى فيه أكثر من ذلك حينها ولا الآن. ولسنوات ظلت ذكراه لدي، بل هو تجسد أكثر منه ذكرى، مقترنة بالرعب. قبل موته ببضعة أسابيع، جرح سبابته اليسرى وهو يفتح علبة من القصدير وتلوث الجرح. وكان الدم والقيح يتسربان من ضمادة الشاش والقطن الضخمة التي وضعتها له أمي. لم يبد أن ذلك كان يقلقه، فقد كان يأكل بيده اليمنى، واضعا يده الأخرى على الطاولة، ينظر إليها بهدوء، وبدهشة طفيفة كما لو كانت منفصلة عن باقي جسده ولا علاقة لها به. أما أنا فكنت لا أستطيع أن أرفع عيني عنها، وبداخلي يتصارع الجوع مع الغثيان. مثلت لي مصدر رعب مشين. ربما كنت أسقط على إصبعه المضمد ذاك جميع مخاوفي من مرضه المميت. لعدة شهور بعد وفاته، ظل يراودني كابوس متكرر أراه فيه واقفا عند نهاية سريري مشيرا نحوي بجدعة مصفرة دامية ليس لإصبعه بل لكفه كله. لم يتحدث قط؛ بل كان يقف صامتا مرتديا منامته المقلمة. كانت نظرته في بعض الأحيان نظرة استجداء لشيء لا أستطيع منحه إياه، لكن في معظم الوقت كانت نظرة اتهام شديد، وكذلك كانت إشارة يده. يبدو الآن أنه ليس من العدل ألا أذكره طوال ذلك الوقت إلا بالقيح والدم المتسرب وأن تكون ذكراه لدي مقترنة فقط بالرعب. شكل الكابوس أيضا يثير حيرتي الآن حتى إني أحاول أن أحلله بعد أن كبرت بمعرفتي غير المحترفة بعلم النفس. كان تفسيره ليكون أسهل لو كنت فتاة. كانت محاولتي لتحليله بالطبع تشبه محاولة طرد روح شريرة. لا بد أنها نجحت بدرجة ما. فبعد أن قتلت ناتالي كان يزورني في أحلامي كل أسبوع؛ أما الآن فلم يعد يأتي قط. أنا سعيد لأنه رحل أخيرا، آخذا معه ألمه ودمه وقيحه. لكني أتمنى لو كان ترك لي ذكرى مختلفة.
الفصل الخامس
الجمعة 22 يناير 2021
اليوم هو عيد ميلاد ابنتي، أو كان سيكون عيد ميلاد ابنتي لو أنني لم أدهسها بالسيارة وأقتلها. حدث ذلك عام 1994، عندما كان عمرها خمسة عشر شهرا. حينئذ كنا نسكن أنا وهيلينا في منزل إدواردي شبه منفصل في شارع لاثبري، وكانت مساحته أكبر من حاجتنا وسعره يفوق قدرتنا المادية، لكن هيلينا، بمجرد أن علمت بحملها، أصرت على أن نبتاع منزلا بحديقة وغرفة أطفال تطل على الجانب الجنوبي. لا يمكنني الآن تذكر ملابسات الحادث بالتفصيل، وهل كان من المفترض أن أراقب أنا ناتالي أم أني ظننت أنها كانت مع والدتها. لا بد أن كل تلك التفاصيل كشفت أثناء التحقيق القضائي؛ لكن التحقيق القضائي، ذلك التوزيع الرسمي للمسئولية، قد انمحى من ذاكرتي. أذكر أنني كنت أغادر المنزل في طريقي إلى الكلية وكنت أرجع للخلف بالسيارة التي ركنتها هيلينا بإهمال قبلها بيوم، كي أستطيع الخروج بها بسهولة من بوابة الحديقة الضيقة. لم يكن لدينا مرأب في منزلنا بشارع لاثبري، لكن كان لدينا مساحة مخصصة لركن سيارتين أمام المنزل. لا بد أني تركت الباب الأمامي مفتوحا وأن ناتالي التي كانت قد بدأت تمشي منذ أن بلغت ثلاثة عشر شهرا، قد تبعتني حبوا. وحتما ذكر ذلك التقصير البسيط في التحقيق أيضا. لكن بوسعي أن أذكر بعض التفاصيل؛ النتوء اللين الذي مرت فوقه العجلة اليسرى مثل مطب لكنه أنعم وألين، وأكثر غضاضة من أي مطب، وإدراكي على الفور الذي جاء أكيدا ومطلقا ومرعبا لماهيته، والصمت التام الذي ساد لخمس ثوان قبل أن يبدأ الصراخ. كنت أعلم أنه صراخ هيلينا، ومع ذلك، أبى جزء من عقلي أن يصدق أن ما تسمعه أذناي كان صوتا بشريا. وأذكر شعور الخزي. أبى جسدي أن يتحرك، لم أستطع أن أخرج من السيارة ولا حتى أن أمد يدي إلى مقبض الباب. وأذكر بعد ذلك جورج هوكينز، جارنا، وهو يضرب بيديه على الزجاج ويصرخ: «اخرج أيها الوغد، اخرج!» وبوسعي أن أذكر الفكرة التي لا علاقة لها بالأمر التي راودتني وأنا أرى على الزجاج وجهه القبيح الذي شوه الغضب ملامحه: «لم يحبني قط.» ليس بوسعي التظاهر بأن ذلك لم يحدث. ليس بوسعي التظاهر بأنني دهست شخصا آخر. ليس بإمكاني التظاهر بأني معفى من المسئولية.
طغى الهلع والشعور بالذنب على الحزن. ربما لو كانت هيلينا قد وجدت في نفسها القدرة على أن تقول: «الأمر أصعب عليك، يا عزيزي.» أو «الأمر صعب على كلينا، يا عزيزي.» لاستطعنا إنقاذ شيء ما من حطام سفينة زواجنا التي لم تكن صالحة للإبحار منذ البداية. لكنها بطبيعة الحال لم تستطع ذلك؛ فلم يكن ذلك ما اعتقدته. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي، وقد كانت محقة. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي لأني لم أحب بالقدر الكافي، وكانت محقة في ذلك أيضا. كنت سعيدا بكوني أبا. عندما أخبرتني هيلينا أنها حبلى، شعرت بمشاعر أظنها معتادة وغير منطقية من فخر وحنو ودهشة. كنت أشعر بالمحبة تجاه طفلتي، وربما كانت تلك المحبة لتزداد إن كانت أجمل - فقد كانت صورة كاريكاتورية مصغرة من والد هيلينا - وأكثر حنوا، وأكثر تجاوبا، وأقل ميلا للنواح. أنا مسرور لأن أحدا غيري لن يقرأ تلك الكلمات؛ فقد ماتت طفلتي منذ سبع وعشرين سنة وما زلت أشعر بالامتعاض عندما أفكر بها. لكن هيلينا كانت مهووسة بها، وكانت هائمة بها حبا ومتيمة بها تماما، وأعرف أن ما كدر علاقتي بناتالي هو الغيرة. كنت سأتغلب عليها بمرور الوقت، أو على الأقل كنت سأتصالح معها. لكن الوقت لم يتح لي. لا أظن أن هيلينا اعتقدت يوما أني دهست ناتالي عمدا، على الأقل قبل أن تفقد صوابها؛ فحتى في أوج حزنها كانت تمنع نفسها من نطق تلك الكلمات التي لا تغتفر، ربما من باب الإيمان بالخرافات أو لاحتفاظها بشيء من الشفقة تجاهي، فامرأة ابتليت بزوج مريض وصعب العشرة مثلي كانت ستقول تلك الكلمات اللاذعة: «ليتك مت.» لكن لو كان بيدها الخيار، لاختارت أن أموت أنا بدلا من ناتالي. ولا ألومها على ذلك؛ فقد بدا لي ذلك حينها، ولا يزال يبدو لي الآن، منطقيا تماما.
كنت أرقد بعيدا عنها في سريرنا الكبير بانتظار أن تخلد إلى النوم، وأنا أعرف أن ذلك قد يستغرق ساعات، حاملا هم جدول أعمال اليوم التالي المكتظ على آخره، وكيف سأتأقلم مع الليالي الطويلة الحزينة التي بانتظاري، وأردد في الظلام قائمة تبريراتي الطويلة؛ «بحق المسيح، لقد كان حادثا. لم أقصد أن أفعل ذلك. لست الأب الوحيد الذي دهس طفلته. كان من المفترض أن تعتني هي بناتالي، فالطفلة مسئوليتها هي، وليست مسئوليتي كما أوضحت لي. أبسط ما كان بوسعها فعله أن ترعاها كما ينبغي.» لكن تبرير الذات الحانق كان تافها وغير موضوعي كعذر يقدمه طفل كسر زهرية.
علم كلانا أننا يجب أن نغادر لاثبري رود. قالت هيلينا: «لا يمكننا البقاء هنا. ينبغي أن نبحث عن منزل قريب من وسط المدينة. فهذا ما أردته أنت دائما على كل حال. أنت لم تحب يوما هذا المكان.»
كان الاتهام حاضرا لكنه لم يغادر شفتيها قط: أنت سعيد لأننا سننتقل من المنزل، سعيد لأن موتها جعل ذلك ممكنا.
بعد ستة أشهر من الجنازة انتقلنا إلى منزل جورجي مرتفع بشارع سانت جون، يطل بابه الأمامي على الشارع مباشرة حيث كان يصعب ركن السيارة. كان منزلنا بشارع لاثبري رود منزلا عائليا؛ أما ذلك المنزل فهو لغير المثقلين بالتزامات أو لكثيري التنقل. ناسبني الانتقال لأنني أحببت أن أكون قريبا من وسط المدينة، ولأن العمارة الجورجية، حتى تلك المباني التي بنيت بدافع الاستثمار وكانت تحتاج إلى صيانة مستمرة، لها وجاهة تفوق وجاهة العمارة الإدواردية. لم نتضاجع منذ وفاة ناتالي، لكن هيلينا انتقلت إلى غرفة منفصلة حينها. لم نناقش ذلك مطلقا فيما بيننا، لكني عرفت أن ذلك كان بمثابة تصريح منها لي أنه لن يكون ثمة فرصة ثانية، وأني لم أقتل ابنتها الحبيبة فحسب، بل قتلت كذلك أي أمل في أن نحظى بطفل آخر، بالصبي الذي كانت تشك أني أردت حقا أن أنجبه. لكن ذلك كان في أكتوبر من عام 1994، وبعد أن أصبحنا لا نملك ذلك الخيار. لم نظل متباعدين طوال الوقت بالطبع؛ فالجنس والزواج أعقد من ذلك بكثير. من وقت لآخر، كنت أقطع المسافة القصيرة المغطاة بالسجاد التي تفصل بين غرفتينا. لم تكن ترحب بي ولا تعرض عني. لكن الهوة بيننا صارت أوسع وأعمق، ولم أبذل أنا أي مجهود لسدها.
تفوق مساحة هذا المنزل الضيق ذي الخمسة الطوابق حاجتي بكثير، لكن بتعدادنا الآخذ في الانحدار، لن ينتقدني أحد على الأرجح لعدم مشاركتي تلك المساحة الزائدة. فلم يعد يوجد طلاب جامعيون يطالبون بغرف جلوس ونوم مشتركة، ولا أسر شابة بلا مأوى توخز الضمير الاجتماعي للطبقات الثرية. أستخدم المنزل كله، أصعد من طابق لآخر خلال روتيني اليومي، كما لو كنت أضع ختم ملكيتي بمنهجية على الأرضية المكسوة بالفينيل، وعلى السجاجيد والأبسطة وعلى الخشب المصقول. تقع غرفة الطعام والمطبخ في القبو، والأخير به قوس عريض من الدرجات الحجرية المؤدية إلى الحديقة. وفي الطابق الذي يعلوه، حولت غرفتي الجلوس الصغيرتين إلى غرفة جلوس واحدة أستخدمها كذلك مكتبة وغرفة تلفاز وموسيقى ومكانا ملائما لاستقبال طلابي. في الطابق الأول، حولت أيضا غرفتين صغيرتين إلى غرفة استقبال كبيرة على شكل ضلعين متعامدين، وتدل مدفأتاها غير المتناسقتين على استخدامها السابق. تطل نافذتها الخلفية على الحديقة الصغيرة المسيجة التي ليس بها إلا شجرة بتولا واحدة فضية اللون. أما في واجهتها، فتوجد نافذتان أنيقتان تمتدان حتى السقف، وبها شرفة في الخلف، وتطل جميعها على شارع جون ستريت.
لن يجد أي شخص يمر تحت النافذتين صعوبة في وصف مالك الغرفة. من الواضح أنه شخص أكاديمي؛ فثلاثة من حوائطها مغطاة بأرفف الكتب بالكامل من الأرض وحتى السقف. وهو عالم تاريخ، فالكتب نفسها تخبرك بذلك. كما أنه رجل مهتم بالأساس بالقرن التاسع عشر؛ وليست الكتب فحسب هي ما يدل على ولعه بتلك الحقبة، بل أيضا الصور والتحف؛ تماثيل ستافوردشاير التذكارية، واللوحات الزيتية الفيكتورية، وورق الحائط من تصميم ويليام موريس. وهي أيضا غرفة رجل يقدر الراحة ويعيش وحيدا. فلا يوجد بها أي صور عائلية، ولا ألعاب لوحية ولا أي فوضى أو غبار أو أغراض نسائية مبعثرة، وبالكاد يوجد ما يدل على أن أحدا يستخدمها. وقد يخمن الزائر أيضا أن لا شيء فيها موروث، فكل شيء فيها مكتسب؛ ليس بها أي تحف مميزة أو فريدة من نوعها، محفوظة كإرث عائلي، ولا أي صور عائلية، ولا لوحات زيتية غير مميزة معلقة للدلالة على الأصل. بل هي غرفة رجل ارتقى في العالم بجهده، وأحاط نفسه برموز لإنجازاته الشخصية وتلك الأشياء البسيطة التي لديه ولع بها. تأتي السيدة كافاناج، زوجة أحد عمال النظافة بالكلية، ثلاث مرات في الأسبوع كي تقوم بأعمال التنظيف، وتقوم بها على أكمل وجه؛ فأنا لا أرغب في توظيف العمال الوافدين الذين يحق لي توظيفهم باعتباري مستشارا سابقا لحاكم إنجلترا.
تقع غرفتي المفضلة في الطابق الأخير من المنزل، وهي غرفة علية بها مدفأة خلابة مصنوعة من الحديد المطاوع والقرميد المزخرف، وأثاثها الوحيد مكتب وكرسي وبها لوازم صنع القهوة. ولها نافذة بلا ستارة تطل على برج الجرس بكنيسة سانت بارناباس وترى المنظر خارجها حتى المنحدر الأخضر لغابة ويثام. هنا أكتب يومياتي، وأعد محاضراتي وندواتي، وأكتب أبحاثي التاريخية. يقع الباب الأمامي للمنزل تحتها بأربعة طوابق، وهو ما يجعل فتح الباب إن رن جرسه أمرا متعبا؛ لكني حرصت على ألا يأتيني زوار غير متوقعين في حياتي التي أكتفي فيها بذاتي.
في فبراير من العام الماضي، تركتني هيلينا من أجل روبرت كلافرينج الذي يصغرها بثلاث عشرة سنة، ويجمع بين مظهر لاعب رجبي شديد الحماسة ورهافة حس فنان، كما يحمل المرء على الاعتقاد. وهو يعمل بتصميم الملصقات وأغلفة الكتب الورقية ويجيد عمله للغاية. أذكر شيئا قالته خلال مناقشاتنا السابقة للطلاق، التي سعيت جاهدا أن أجعلها غير حادة أو انفعالية، وهو أني كنت أضاجعها على فترات حرصت أن تكون منتظمة لأني أردت لعلاقاتي مع طالباتي أن تكون مدفوعة بما هو أكثر من مجرد الحرمان الجسدي. لم تقل ذلك حرفيا بالطبع، لكن كلماتها حملت ذلك المعنى. أعتقد أنها فاجأت كلينا بنفاذ بصيرتها.
الفصل السادس
أصبحت مهمة كتابة هذه اليوميات - فقد كان ثيو لا يفعلها بغرض المتعة بل يعتبرها مهمة يضطلع بها - جزءا من حياته محكمة التنظيم، وإضافة ليلية لروتينه الأسبوعي الذي فرضت عليه الظروف جزءا منه، وفرض هو على نفسه الجزء الآخر في محاولة لإضفاء النظام والمعنى على حياته الباهتة. كان مجلس إنجلترا قد أقر أن جميع المواطنين ملزمون بحضور جلستي تدريب لمدة أسبوعين، بجانب وظائفهم الأصلية، على مهارات من شأنها أن تساعدهم على البقاء على قيد الحياة إن ظلوا أحياء بعدما تفنى الحضارة. وكان الاختيار متروكا لهم. دوما كان لدى زان من الحكمة ما يجعله يترك الاختيارات غير المهمة للناس. اختار ثيو أن يقضي إحدى الجلستين في مستشفى جون رادكليف، ليس لأنه كان يشعر بالألفة وسط هيكلها الإداري المحكم، أو لأنه كان يتصور أن اعتناءه بالمرضى والمسنين، الذي كان يثير رعبه واشمئزازه، يبعث عليهم السرور أكثر مما يبعثه عليه، بل لأنه كان يعتقد أن المعرفة التي سيكتسبها قد تعود عليه بمنفعة شخصية، ولن يضيره أيضا أن يعرف من أين يمكنه أن يحصل على الأدوية بشيء من الدهاء إن دعت الحاجة. أما ساعتا التدريب الأخريان فقضاهما باستمتاع أكبر في التدرب على الصيانة المنزلية، ووجد في حس الدعابة لدى المهنيين الذين يدرسونها وتعليقاتهم المنتقدة الفظة متنفسا أراحه من إذلال الحياة الأكاديمية المهذبة. كانت وظيفته التي يتقاضى أجرا لقاءها هي التدريس للطلاب الراشدين المتفرغين وغير المتفرغين الذين اتخذتهم الجامعة مبررا لوجودها، هم وبضعة طلاب جامعيين سابقين ممن يقومون بأبحاث أو يسعون لنيل درجة علمية أعلى. وفي ليلتي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، كان يتناول العشاء في قاعة الطعام بالكلية. ويوم الأربعاء كان يحضر باستمرار الصلاة المسائية في كنيسة مجدالين في الساعة الثالثة. ظل عدد صغير من الكليات، التي تضم طلابا غريبي الأطوار أكثر من المعتاد أو التي أصرت بعناد على تجاهل الحقيقة، يستخدم كنائسه للعبادة، وبعضها عاد حتى لاستخدام كتاب الصلاة المشتركة القديم. لكن جوقة المرنمين في كنيسة كلية مجدالين كانت من أفضل الجوقات، وكان ثيو يذهب للاستماع إلى ترنيمهم، وليس للمشاركة في التعبد الذي كان يراه أمرا عفا عليه الزمن.
حدث ما يلي في رابع أربعاء من يناير. كان في طريقه إلى كنيسة كلية مجدالين سيرا على الأقدام كعادته، وكان قد انعطف من شارع سانت جونز إلى شارع بومونت، واقترب من متحف أشموليان عندما دنت منه امرأة تدفع عربة أطفال. كان المطر الخفيف قد توقف، وبينما هي تمر بجانبه توقفت قليلا كي ترفع الغطاء الواقي من المطر وتسدل غطاء عربة الأطفال. حينها انكشفت الدمية، التي استندت منتصبة إلى الوسائد، وقد استند ذراعاها، اللتان يغطي راحتيهما قفازان، على لحاف، في محاكاة هزلية مثيرة للشفقة وخبيثة للطفولة. شعر ثيو بالصدمة والاشمئزاز حتى إنه لم يستطع رفع عينيه عن تلك الدمية. كانت النظرة العمياء التي ترمقه بها بحدقتيها اللامعتين الواسعتين على نحو غير طبيعي، وبريق زرقتهما السماوية التي تفوق زرقة العين البشرية، نظرة غريبة وشنيعة وتنم عن ذكاء كامن. على وجنتيها الخزفيتين المصبوغتين بعناية تدلت رموش عينيها البنية الداكنة كالعناكب، وظهر من تحت القلنسوة الضيقة التي يزين طرفها الدانتيل شعر أصفر غزير كشعر البالغين.
لم ير دمية تنزه هكذا منذ سنوات، مع أن ذلك الأمر كان منتشرا منذ عشرين عاما، وتحول إلى صرعة. كانت صناعة الدمى هي القطاع الوحيد من مجال صناعة ألعاب الأطفال الذي ظل مزدهرا لمدة عقد من الزمان، هو وصناعة عربات الأطفال، وأنتج دمى تلبي جميع رغبات الأمومة المكبوتة، بعضها كان رخيصا ورديئا، لكن البعض الآخر كان مصنوعا بحرفية وجمال استثنائيين ولولا أوميجا، التي خلقت الحاجة إليها في الأصل، لأصبحت موروثات عائلية محببة. كانت الدمى الأغلى ثمنا - بعضها كان سعره يتعدى 2000 جنيه إسترليني حسبما كان يذكر - متوفرة بأحجام مختلفة؛ حجم حديث الولادة، وحجم رضيع بعمر ستة أشهر، وحجم رضيع بعمر سنة، وحجم طفل بعمر ثمانية عشر شهرا وتلك تستطيع الوقوف والمشي، وتعمل بطريقة معقدة. تذكر حينئذ أنها كانت تدعى «ذوات الستة الأشهر». في فترة ما كان من المستحيل أن تسير في شارع هاي ستريت دون أن تعيق طريقك عربات الأطفال التي تحملها، أو مجموعات النسوة المتشبهات بالأمهات اللاتي توقفن كي يبدين إعجابهن بها. بدا أنه تذكر أنه كان ثمة ولادات كاذبة، وأن الدمى التي كانت تعطب كان يقام لها مراسم دفن وتدفن في أماكن مخصصة لها. ألم يكن أحد الجدالات الكنسية الفرعية الدائرة في مطلع القرن الحادي والعشرين هو ما إذا كان من الممكن أن تقام تلك التمثيليات في الكنائس بصفة شرعية أو حتى أن يشارك فيها القساوسة المرسمون؟
لاحظت المرأة نظرته فابتسمت ابتسامة بلهاء فيها التماس لصرف الطرف، وللتهنئة. وعندما التقت عيناهما، أشاح بنظره كي لا ترى نظرته التي اعتراها القليل من الشفقة والكثير من الازدراء، فأرجعت العربة إلى الوراء وحجبتها بذراعها وكأنها تقي الدمية من لجاجته الذكورية. توقفت امرأة أكثر تجاوبا من المارة وتحدثت إليها. اقتربت امرأة في منتصف العمر، شعرها مهندم وترتدي حلة من قماش التويد مفصلة على مقاسها، من عربة الأطفال وابتسمت لمالكة الدمية وبدأت تتمتم بعبارات التهنئة. ابتسمت صاحبة الدمية ابتسامة بلهاء فرحة، وانحنت تسوي لحاف العربة الحريري، وتضبط قلنسوة الدمية، وتسرح خصلة شعر شاردة. دغدغت المرأة الأخرى الدمية أسفل ذقنها كما لو كانت تدغدغ قطة، مستمرة في حديثها الطفولي.
كاد ثيو، الذي أشعرته تلك التمثيلية بكآبة واشمئزاز ، أكثر مما يستدعيه حقا مثل ذلك السلوك المصطنع البريء، يدير ظهره لهما عندما حدث الأمر. فجأة أمسكت المرأة الأخرى بالدمية وسحبتها من تحت الأغطية دون أن تنطق بكلمة، ولوحت بها فوق رأسها مرتين وهي ممسكة بها من رجليها ثم رطمتها بالحائط الحجري بقوة هائلة. تحطم وجهها وتساقطت قطع الخزف ترن على الرصيف. لثانيتين، وقفت صاحبة الدمية صامتة تماما. ثم بدأت تصرخ. كان صوت صراخها مريعا، صراخ امرأة ملتاعة، امرأة ثكلى، عويل مرتاع حاد، تكاد تحسبه غير بشري لكنه بشري بكل ما تحمله الكلمة من معان، عويل لا يمكن إيقافه. وقفت في مكانها، وقد مالت قبعتها، ورفعت رأسها للسماء، وفغرت فمها الذي كان يتدفق منه صوت ألمها وحزنها وغضبها. للوهلة الأولى، بدا أنها غير مدركة لأن المرأة التي هاجمتها كانت لا تزال واقفة في مكانها، تنظر إليها بازدراء صامت. ثم ما لبثت أن استدارت ومشت بخطوات سريعة نحو البوابة المفتوحة التي عبرتها إلى الساحة ومنها إلى داخل متحف أشموليان. حينها أدركت صاحبة الدمية فجأة أن مهاجمتها تلوذ بالهرب، فتبعتها بخطى متعثرة وهي مستمرة في صراخها، ثم يبدو أنها أدركت عدم جدوى ذلك فعادت إلى عربة الأطفال. كانت حينها قد هدأت قليلا، وخرت على ركبتيها تلتقط قطع الخزف المكسورة وتحاول أن تطابقها كما لو كانت تطابق قطع أحجية صور مقطعة وهي تنتحب وتنوح بهدوء. تدحرجت عينان لامعتان، بدتا حقيقيتين بدرجة مخيفة، يربطهما زنبرك، تجاه ثيو. لثانية ألحت عليه نفسه أن يلتقطهما، أن يساعد المرأة أو على الأقل أن يواسيها ببضع كلمات. كان من الممكن أن يذكرها بأن بإمكانها أن تبتاع طفلا آخر. كانت تلك تعزية لم يقدر على أن يقولها لزوجته. لكن تردده ذلك لم يستمر إلا للحظة. وما لبث أن تابع سيره بخطوات سريعة. لم يقترب أي شخص آخر من تلك السيدة. كان من المعروف أن السيدات اللواتي وصلن إلى منتصف العمر، أولئك اللواتي وصلن إلى سن البلوغ في العام الذي وقعت فيه أوميجا، غير مستقرات نفسيا.
وصل إلى الكنيسة بينما كانت الصلاة على وشك البدء. اصطفت الجوقة المكونة من ثمانية رجال وثماني نساء، جالبة معها ذكريات الجوقات القديمة بصبيانها الذين كانوا يدخلون بوجوه ارتسم عليها الوقار، ومشية تكاد لا تلحظ فيها تهاديهم الطفولي، وقد عقدوا أذرعهم أمام صدورهم الصغيرة ممسكين بأوراق الترانيم، وقد استنارت وجوههم الناعمة، وكأنما بضوء شمعة داخلية، وصففت شعورهم تحت القبعات اللامعة، وبدت وجوههم جادة للغاية فوق ياقاتهم المنشاة. طرد ثيو تلك الصورة من ذهنه وهو يتساءل: لم ظلت تراوده بذلك الإلحاح وهو الذي لم يعبأ يوما بالأطفال. ثبت عينيه على القس، متذكرا تلك الحادثة التي وقعت منذ عدة أشهر عندما وصل قبل موعد الصلاة المسائية. بطريقة ما دخل غزال صغير من مرجة كلية مجدالين إلى الكنيسة ووقف بوداعة بجوار المذبح كما لو كان واقفا في بيئته الطبيعية. حينها اندفع القس نحوه وهو يصيح فيه بخشونة، وأمسك بكتب الصلاة وألقاها عليه فأصابت جانبيه الأملسين. تحمل الحيوان الوديع المرتبك ذلك الهجوم لوهلة، ثم تبختر برشاقة خارجا من الكنيسة.
بعدها نظر القس إلى ثيو وقد انهمرت دموعه على وجنتيه. وقال: «يا إلهي، لماذا لا تستطيع تلك الحيوانات البغيضة الانتظار؟ قريبا جدا سيرثون كل شيء. فلماذا لا تستطيع الانتظار؟»
بدت له تلك الصورة الآن وهو يطالع وجه القس الوقور المعتد بنفسه في ضوء الشموع الباعث على السكينة، كمشهد غريب من كابوس لا يذكر تفاصيله.
لم يتجاوز عدد جماعة المصلين الثلاثين كالعادة، وكان ثيو يعرف كثيرين منهم ممن كانوا يحضرون بانتظام مثله. لكن كان ثمة قادم جديد تلك المرة، امرأة شابة، كانت تجلس في المقعد المقابل له مباشرة وكان يصعب تفادي نظرتها من حين لآخر مع أنها لم تبد أي إشارة على أنها تعرفه. كانت إضاءة الكنيسة خافتة، وفي ضوء الشموع المتراقص، كان وجهها يشع بنور رقيق يكاد يكون شفافا، تراه يضوي بوضوح لوهلة ثم يهرب ويخبو كطيف. لكنه كان وجها مألوفا له، فقد رآها من قبل لسبب أو لآخر، ليس لمجرد لمحة عابرة، بل نظر إليها وجها لوجه لفترة طويلة . حاول أن يحمل ذاكرته ويخدعها لتذكرها، وقد ثبت نظره على رأسها المحني أثناء الاعتراف، فبدا كأنه ينظر إلى شيء وراءها بتركيز ورع أثناء قراءة العظة الأولى، دون أن يحيد بانتباهه عنها، ملقيا بشباك الذاكرة حول صورتها. بعد الانتهاء من قراءة العظة الثانية بدأ يشعر بالضيق من فشله، وعندما بدأت الجوقة، المكونة من رجال ونساء معظمهم في منتصف العمر، في ترتيب أوراقها الموسيقية ونظر أفرادها إلى قائدهم في انتظار أن يبدأ عازف الأرغن وأن يرفع القائد الضئيل الجسد ذو الرداء الأبيض كفيه اللذين يشبهان براثن الحيوانات ويلوحهما في الهواء، حينئذ تذكرها ثيو. كانت لفترة وجيزة إحدى الطالبات بدورة الأستاذ كولين سيبروك حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري»، والتي كان عنوانها الفرعي «المرأة في الرواية الفيكتورية»، والتي تولى تدريسها نيابة عن كولين منذ ثمانية عشر شهرا. كانت زوجة سيبروك قد أجرت جراحة لاستئصال ورم سرطاني، وكانت تلك فرصة كي يقضيا عطلة معا إن استطاع كولين أن يجد بديلا له لتدريس تلك الدورة ذات الأربع المحاضرات. تذكر حديثهما، واعتراضه الضجر. «أليس من المفترض أن تدع أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية يدرسها بدلا منك؟» «لقد حاولت أيها العجوز. وجميعهم قدموا لي أعذارا. فهم إما لا يحبون العمل المسائي، أو مشغولون للغاية، أو ليسوا متخصصين في تلك الحقبة الزمنية؛ لا أعتقد أن علماء التاريخ فقط هم من يختارون دراسة ذلك الهراء. يمكنني أن أعطي محاضرة واحدة لكن لن أستطيع إعطاء المحاضرات الأربعة جميعها. مدة المحاضرات ساعة واحدة فقط، يوم الخميس، من الساعة السادسة إلى السابعة. ولن تضطر إلى التحضير لها، فقد حددت لهم أربعة كتب فقط تحفظهم ظهرا عن قلب على الأرجح: «ميدل مارش»، و«صورة سيدة»، و«سوق الأضاليل»، و«كرانفورد». ولا تضم الدورة إلا أربعة عشر طالبا، معظمهم سيدات في الخمسين من عمرهن. كان من المفترض أن يكن منهمكات في تدليل أحفادهن؛ لذا فلديهن وقت فراغ، أنت تعرف الحال. هن سيدات ظريفات، لكن ذوقهن تقليدي إلى حد ما. ستحبهن، وسيسعدهن للغاية أن تدرس لهن . فما يسعون خلفه حقا هو أن يلجأن إلى دفء الثقافة. وابن خالتك، حاكمنا الموقر، حريص جدا على ذلك. كل ما يردنه هو أن يجدن مهربا مؤقتا إلى عالم أكثر إرضاء واستمرارية. جميعنا نفعل ذلك يا عزيزي، غير أننا، أنا وأنت، نسميه منحة دراسية.»
لكن عدد الحضور كان خمسة عشر طالبا وليس أربعة عشر. جاءت متأخرة دقيقتين وجلست بهدوء على مقعد في آخر الصف. حينها كان يرى رأسها كما يراها الآن في ضوء الشموع وخلفها الخشب المنقوش. بعد أن انخفضت أعداد الطلبة الجدد الملتحقين بالجامعة، فتحت أبواب فصول الجامعة الموقرة للطلاب الراشدين غير المتفرغين، وانعقدت تلك الدورة في غرفة محاضرات محببة ذات حوائط مكسوة بألواح خشبية في كلية كوينز كولدج. كان يبدو أنها تستمع إلى كلمته التقديمية عن هنري جايمز بتركيز، ولكنها لم تشارك في بادئ الأمر في المناقشة العامة حتى بدأت امرأة ضخمة تجلس في الصف الأول تبالغ في مدح أخلاق إيزابيل آرشر وترثي بانفعال مصيرها الذي لم تستحقه.
قالت الفتاة فجأة: «لا أفهم لماذا تشفقين إلى هذا الحد على امرأة أعطيت فرصا كثيرة فلم تحسن استغلالها. كان بإمكانها أن تتزوج من اللورد واربرتون وتساعد مستأجري أراضيه كثيرا، تساعد الفقراء. حسنا، هي لم تحبه، وهذا عذر مقبول، كما كان لديها طموحات أكبر من الزواج من اللورد واربرتون. لكن ماذا كانت تلك الطموحات؟ هي لم تمتلك أي موهبة إبداعية ولا وظيفة ولم تتلق أي تعليم مهني. وعندما جعلها ابن خالتها غنية ماذا فعلت؟ ذهبت تهيم على وجهها حول العالم مع السيدة ميرل دون غيرها. ثم تزوجت ذلك المنافق المغرور وصارت تذهب إلى حفلات الاستقبال يوم الخميس مرتدية أبهى الثياب. أين ذهبت تلك المثالية التي كانت تدعيها؟ أنا أتعاطف أكثر مع هنريتا ستاكبول.»
اعترضت السيدة قائلة: «أوه، لكنها فظة للغاية!» «هذا ما تراه السيدة توشيه، ويراه المؤلف. لكنها على الأقل تمتلك موهبة، عكس إيزابيل، وتستغلها في كسب عيشها، وتساعد أختها الأرملة.» ثم أضافت قائلة: «ترفض كل من إيزابيل آرشر ودوروثيا خطابا مناسبين ثم تتزوجان من أحمقين معتدين بنفسيهما، لكني أتعاطف أكثر مع دوروثيا. ربما لأن جورج إليوت تحترم بطلة روايتها، بينما يمقت هنري جيمز، في قرارة نفسه، بطلة روايته.»
اعتقد ثيو أنها ربما تكون قد تعمدت إثارة ذلك الجدل بدافع كسر الملل. لكن أيا كان دافعها، كانت المناقشة التي فتحتها صاخبة وحيوية، وانقضت الثلاثون دقيقة الباقية بسرعة وبطريقة ممتعة. شعر بالأسف والقليل من الحزن عندما انتظر قدومها يوم الخميس التالي فلم تأت.
بعد أن تذكرها وأرضى فضوله، استطاع أن يسترخي في سلام ويستمع إلى الترنيمة الثانية. كان من المعتاد في كنيسة مجدالين في السنوات العشر الأخيرة تشغيل ترنيمة مسجلة أثناء الصلاة المسائية. عرف ثيو من ورقة القداس المطبوعة أن تلك الأمسية ستكون هي الأولى في سلسلة أمسيات سيستمعون فيها إلى ترانيم إنجليزية تعود للقرن الخامس عشر، تبدأ بترنيمتين كتبهما وليام بيارد: «علمني يا ربي»، و«ابتهج يا إلهي». مرت فترة قصيرة من الصمت المترقب بينما انحنى قائد الجوقة لتشغيل الشريط. تدفق صوت الصبيان العذب النقي الذي لا يثير الغرائز، والذي افتقدوه منذ أن وصل آخر صبي جوقة إلى سن البلوغ وتغير صوته، وعم أرجاء الكنيسة. نظر أمامه إلى الفتاة، فوجدها جالسة لا تحرك ساكنا وقد رفعت رأسها لأعلى وثبتت عينيها على السقف ذي العقود فلم ير سوى انحناءة رقبتها تحت ضوء الشموع. لكنه رأى في آخر صف الجالسين أمامه شخصا ميزه فجأة: مارتنديل العجوز الذي كان عضوا على أعتاب التقاعد في هيئة التدريس بقسم اللغة الإنجليزية أثناء سنته الأولى. كان يجلس حينئذ في سكون تام ورأسه العجوز مرفوع، وتلمع في ضوء الشموع دموعه التي كانت تنسال بغزارة على وجنتيه، فبدت كأنها لآلئ تزين تجاعيد وجهه العميقة. أحب مارتي العجوز، الذي ظل أعزب ولم يتزوج، جمال الصبية. تساءل ثيو لماذا يأتي هو ومن هم على شاكلته كل أسبوع كي يتلذذوا بتعذيب ذواتهم بتلك الطريقة؟ بإمكانهم أن يستمعوا لأصوات الأطفال المسجلة في بيوتهم، فلماذا يأتون كي يستمعوا إليها هنا في ذلك المكان الذي ينصهر فيه الماضي والحاضر وسط الجمال وضوء الشموع فيتعزز الشعور بالحسرة؟ لماذا يأتي هو نفسه إلى هنا؟ لكنه كان يعرف إجابة ذلك السؤال. كي يشعر، هذا ما كان يقوله لنفسه، كي يشعر، كي يشعر، كي يشعر. حتى وإن كان ما سيشعر به هو الألم، لكنه كان يدع المشاعر تجتاحه.
غادرت السيدة الكنيسة قبله بخفة، وكأنما تحاول أن تنسل خلسة. وتفاجأ عندما خرج إلى الهواء البارد فوجدها واقفة تنتظره كما بدا واضحا.
دنت منه وقالت: «من فضلك، هل يمكنني أن أتحدث إليك بخصوص أمر مهم؟»
في الضوء الساطع الذي كان ينساب من رواق الكنيسة إلى عتمة المساء خارجها، رأى وجهها بوضوح لأول مرة. كان شعرها داكنا غزيرا ذا لون بني زاه وتتخلله خصلات ذهبية، وكان مصففا في جديلة قصيرة سميكة. وسقطت قصة تنساب على جبينها العالي الذي يغطيه النمش. كانت بشرتها فاتحة بالنسبة إلى شخص داكن الشعر؛ كانت امرأة بلون الشهد، رقبتها طويلة، وعظمتا وجنتيها بارزتان، وعيناها، اللتان لم يستطع تحديد لونهما، متباعدتان، يعلوهما حاجبان مستقيمان محددان، وأنفها طويل ونحيف وفيه حدبة طفيفة، وفمها واسع جميل. كان وجها يشبه وجوه نساء اللوحات ما قبل الرفائيلية. كان روسيتي سيحب أن يرسمها. كانت ملابسها تساير الأزياء العصرية التي ترتديها النساء جميعا ما عدا نساء الأوميجيين؛ سترة ضيقة قصيرة تحتها تنورة من الصوف تصل إلى منتصف ربلتيها، يظهر من تحتها زوجان من تلك الجوارب ذات الألوان الزاهية التي كانت صيحة أزياء تلك السنة. كان لونه أصفر فاقع. وكانت تحمل حقيبة كتف جلدية علقتها على كتفها اليسرى. لم تكن ترتدي قفازا فرأى أن يدها اليسرى مشوهة. كانت سبابتها ووسطاها ملتصقتين وتبدوان مثل جدعة بدون أظافر، وكان في ظهر كفها ورم كبير. أمسكتها بيمناها وكأنما تريحها أو تسندها. لكنها لم تبذل أي جهد لإخفائها. بل بدا كأنها تجهر بتشوهها ذلك في عالم لا ينفك يزداد تعصبا يوما بعد يوم ضد العيوب الجسدية. لكن على الأقل، كان لذلك العيب ميزة واحدة تعوضه؛ فأي امرأة تعاني تشوها جسديا، أو مرضا نفسيا أو جسديا من أي نوع لم تكن موجودة على قوائم النساء اللاتي سيولد من أرحامهن الجنس الجديد إن اكتشف رجل غير عقيم؛ لذا، كانت، على الأقل، معفاة من إجراءات إعادة الفحص نصف السنوية المهينة المستنفدة للوقت، التي كانت تخضع لها جميع النساء الصحيحات تحت سن الخامسة والأربعين.
قالت مرة أخرى بصوت أخفت: «لن آخذ من وقتك الكثير. لكن أرجوك يا دكتور فارون، يجب أن أتحدث معك في أمر.» «حسنا، إن كان ذلك ضروريا.» أثارت حب استطلاعه، لكنه لم يستطع إضفاء الحفاوة على صوته. «ربما يمكننا أن نتمشى في تلك الأروقة المسقوفة الجديدة.» اتجها إليها في صمت. ثم قالت: «أنت لا تعرفني.» «لا، ولكني أتذكرك. حضرت المحاضرة الثانية من المحاضرات التي ألقيتها نيابة عن الدكتور سيبروك. وقد أضفت حيوية على النقاش.» «أخشى أن أسلوبي كان حادا للغاية.» ثم أضافت قائلة، وكأنه كان يهمها للغاية أن تفسر لي ذلك: «أنا معجبة كثيرا برواية «صورة سيدة».» «لكن أظن أنك لم ترتبي لتلك المقابلة كي تناقشيني في ذوقك الأدبي.»
ما إن خرجت تلك الكلمات من بين شفتيه، حتى شعر بالندم عليها. احمرت وجنتاها، وشعر بإعراض غريزي من جانبها، وانخفاضا لثقتها في نفسها، وربما فيه. أزعجته ملاحظتها الساذجة، لكن لم يكن ثمة داع لأن يرد ذلك الرد التهكمي الموجع. كان توترها معديا. وكان يأمل ألا تكون تنوي إحراجه ببوحها بأسرار شخصية أو مطالب عاطفية. كان من الصعب أن يوفق في ذهنه بين المحاورة اللبقة الواثقة من نفسها التي رآها من قبل والمراهقة المرتبكة التي يراها الآن. لم يكن ثمة جدوى من محاولة إصلاح ما أفسده، فسارا في صمت لنصف دقيقة.
ثم قال: «لقد أسفت لأنك لم تعاودي المجيء. كانت المحاضرة كئيبة للغاية في الأسبوع التالي.» «كنت سآتي مرة أخرى، لولا أن مناوبتي في العمل أصبحت صباحية. كنت مضطرة إلى أن أعمل.» لم تفصح عن طبيعة ولا مكان عملها، وإنما أضافت قائلة: «اسمي جوليان. أنا أعرف اسمك بالطبع.» «جوليان! هذا اسم غير معتاد لامرأة . هل سميت تيمنا بالكاتبة جوليان النورويتشية؟» «لا، لا أظن أن والدي سمعا بها. عندما ذهب أبي لتسجيل ولادتي أعطى لأمين السجلات اسم جولي آن. كان ذلك هو الاسم الذي اختاره لي والدي في الأصل. لا بد أن أمين السجلات لم يسمعه بوضوح، أو ربما لم ينطقه أبي بوضوح. لم تكتشف أمي ذلك الخطأ إلا بعد ثلاثة أسابيع، وظنت أن الأوان قد فات لتغييره. على كل حال، أعتقد أن الاسم أعجبها؛ لذا عمدت باسم جوليان.» «لكن أعتقد أن الناس ينادونك جولي.» «أي ناس؟» «أصدقاؤك وعائلتك.» «ليس لي عائلة. فوالداي قتلا في أعمال الشغب العنصرية عام 2002. لكن لم سينادونني جولي؟ فاسمي ليس جولي.»
قالت ذلك بأدب جم لا يحمل أي عدوانية. ربما افترض أن تعليقه ذلك أربكها، لكنه لم يكن ثمة ما يدعو للارتباك. ربما كانت ملاحظته تلك خرقاء ووليدة اللحظة وفيها شيء من التلطف المصطنع، إلا أنها لم تكن سخيفة. وإذا كان لقاؤهما ذلك خطوة تمهيدية لأن تطلب منه إلقاء خطاب عن التاريخ الاجتماعي للقرن التاسع عشر، فهو لقاء غير اعتيادي.
سألها: «لماذا تريدين أن تتحدثي معي؟»
الآن وقد حانت اللحظة الحاسمة، شعر بترددها في البدء، لكنه استشعر أن ترددها ذلك لم يكن نابعا من خجلها أو ندمها على ترتيب ذلك اللقاء، بل من أهمية ما ستقوله واحتياجها لأن تتخير كلماتها بعناية.
سكتت لبرهة ونظرت إليه. ثم قالت: «تحدث أشياء في إنجلترا - في بريطانيا - أشياء ليست عادلة. أنا أنتمي إلى جماعة صغيرة من الرفقاء الذين يؤمنون أننا يجب أن نحاول التصدي لها. لقد كنت في السابق أحد أعضاء مجلس إنجلترا. كما أنك ابن خالة الحاكم. فكرنا في أن بإمكانك أن تتحدث معه نيابة عنا قبل أن نتخذ خطوات فعلية. لسنا متأكدين تماما من أن بإمكانك مساعدتنا، لكن اثنين منا، هما أنا ولوك - لوك قس - اعتقدنا أنه ربما بوسعك مساعدتنا. قائد تلك الجماعة هو زوجي رولف، وقد وافق على أن أتحدث إليك.» «لماذا أنت؟ لماذا لم يأت بنفسه؟» «أظن أنه اعتقد - لقد اعتقدوا - أنني أنا التي سأستطيع إقناعك.» «إقناعي بماذا؟» «بأن توافق فقط على لقائنا، كي نشرح لك ما يتعين علينا القيام به.» «ولماذا لا تشرحينه الآن، وبعدها أقرر ما إذا كنت مستعدا لمقابلتكم أم لا؟ وما تلك الجماعة التي تتحدثين عنها؟» «هي جماعة مكونة من خمسة أفراد فقط. لم نبدأ نشاطنا الفعلي بعد. وقد لا نضطر لذلك إن كان ثمة أمل في إقناع الحاكم بالتصرف.»
قال بحذر: «أنا لم أكن يوما عضو كامل العضوية في المجلس، كنت مجرد مستشار شخصي لحاكم إنجلترا. ولم أحضر جلسات المجلس منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم أعد أقابل الحاكم. وقرابتنا لا تعني شيئا لي ولا له؛ لذا على الأغلب لن يكون تأثيري عليه أكبر من تأثيركم.» «لكنك على الأقل تستطيع مقابلته. أما نحن فلا نستطيع ذلك.» «يمكنكم أن تحاولوا. فهو ليس شخصا يتعذر الوصول إليه تماما. يمكن للناس مهاتفته أحيانا للتحدث إليه. بطبيعة الحال يجب أن يحمي نفسه.» «من شعبه؟ ثم إن مقابلته أو حتى مجرد التحدث إليه، سيؤديان إلى أن تعرف شرطة الأمن الوطني بوجودنا، وربما حتى أن تعرف هوياتنا. ليس من الآمن أن نحاول نحن ذلك.» «هل تعتقدين ذلك حقا؟»
قالت بأسى: «أجل، ألا تظن أنت ذلك؟» «كلا، لا أظن ذلك. لكن إن صح ما تقولين، فما تفعلينه الآن فيه مخاطرة كبيرة. فما الذي يجعلك تظنين أن بإمكانك الوثوق بي؟ أتقولين لي إنك تضعين سلامتك بين يدي استنادا إلى محاضرة واحدة عن الأدب الفيكتوري؟ هل قابلني من قبل حتى أي عضو آخر من تلك الجماعة؟» «كلا. لكن أنا ولوك قرأنا بعض كتبك.»
قال بنبرة جادة: «ليس من الحكمة أن تحكما على نزاهة أي شخص أكاديمي من أعماله المكتوبة.» «لم يكن أمامنا سوى تلك الطريقة. نحن نعلم أن الأمر ينطوي على مخاطرة لكنها مخاطرة لا بد منها. أرجوك وافق على لقائنا. أرجوك، على الأقل استمع لما نود أن نقوله لك.»
كانت في صوتها نبرة استجداء واضحة، وصريحة ومباشرة، وفجأة ظن أنه أدرك سببها. كان التحدث معه فكرتها هي. وقد أتت إليه بإذعان متردد من باقي أفراد الجماعة، وربما حتى دون موافقة قائدها. كانت هي من تخاطر بنفسها. إن رفض طلبها، فسترجع إليهم خاوية الوفاض وذليلة. وأحس أنه لا يستطيع أن يكون سببا في ذلك.
قال، وهو يعلم أنها ستكون غلطة: «حسنا. سأتحدث معكم. متي وأين تودين أن يكون لقاؤنا القادم؟» «يوم الأحد في الساعة العاشرة مساء في كنيسة سانت مارجريت في بينسي. هل تعرفها؟» «أجل، أعرف بينسي.» «إذن موعدنا الساعة العاشرة، في الكنيسة.»
حصلت على ما جاءت من أجله فلم تطل البقاء. بالكاد سمعها تتمتم: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم انسلت من جانبه بسرعة وبهدوء شديدين كما لو كانت أحد ظلال الرواق الكثيرة المتحركة.
تلكأ قليلا حتى لا تكون ثمة فرصة لأن يلحق بها، ثم مشى وحيدا صامتا إلى منزله.
الفصل السابع
السبت 30 يناير 2021
في الساعة السابعة من صباح اليوم، هاتفني جاسبر بالمر سميث وطلب مني زيارته بخصوص أمر عاجل. لم يقدم لي أي تفسير، لكن تلك هي عادته. قلت له إنني أستطيع موافاته بعد الغداء مباشرة. في الآونة الأخيرة، أصبحت استدعاءاته التي تزداد حسما أكثر تكررا. كان من قبل لا يطلب لقائي إلا مرة تقريبا كل ثلاثة أشهر؛ أما الآن فصارت مرة كل شهر. كان يدرس لي التاريخ عندما كنت طالبا، وقد كان مدرسا رائعا، على الأقل للطلبة النجباء. عندما كنت طالبا جامعيا، لم أصرح قط بأني معجب به، بل كنت أقول بسماحة عرضية: «لا بأس بجاسبر؛ فأنا منسجم معه إلى حد كبير.» وقد كنت أنسجم معه لسبب مفهوم وإن لم يكن ذا وجاهة؛ فقد كنت الطالب المفضل لديه في دفعتي. كان دائما لديه طالب مفضل. وكانت العلاقة بينه وبين طالبه المفضل تكاد تكون علاقة أكاديمية بحتة؛ فلم يكن مثليا ولا محبا للصبية على الخصوص، وفي الواقع لا يخفى على أحد كرهه الشديد للأطفال، وعادة كان مضيفوه يخفونهم عن نظره في المرات النادرة التي كان يمن عليهم فيها بقبول دعوة عشاء خاصة. لكن كل عام كان يختار طالبا جامعيا، دائما ما يكون ذكرا، ليخصه باستحسانه ورعايته. كنا نفترض أن المعايير التي يختاره بناء عليها هي الذكاء في المقام الأول، ثم حسن المظهر ثانيا والفطنة ثالثا. كان يتمهل في اختياره، لكن بمجرد أن يختار كان اختياره ذلك نهائيا لا رجعة فيه. لم تكن تلك العلاقة تفرض أي ضغط على الطالب المفضل؛ فبمجرد أن يقع الاختيار عليه، كان يتغاضى عن أخطائه. ولم تكن كذلك تثير الضغينة أو الحقد بينه وبين زملائه، فلم تكن لجاسبر شعبية كبيرة للغاية كي يحاول الطلاب كسب وده، وكان يقر من باب الإنصاف أن الطالب المفضل لم يكن له دخل في اختياره. لا أنكر أنني توقعت أن أحصل على درجتي العلمية مع مرتبة الشرف الأولى، فجميع طلابه المفضلين حصلوا على تلك الدرجة. حينما اختارني كنت أملك من الغرور والثقة ما جعلني واثقا من أن ذلك احتمال وارد، لكنه كان احتمالا لم أكن سأضطر لأن أفكر به إلا بعد عامين على الأقل. لكني اجتهدت لأجله، وأردت أن أرضيه، وأن أبرهن على حسن اختياره. أن يقع الاختيار عليك دون غيرك هو دوما أمر مرض لتقدير الذات، ويشعر المرء بأن من واجبه أن يرد ذلك المعروف، وهي حقيقة تقف وراء زيجات كثيرة لم تكن متوقعة لولا ذلك. ربما كان ذلك أيضا أساس زواجه من زميلة أستاذة رياضيات بكلية نيو كوليدج تكبره بخمسة أعوام. بدا أنهما منسجمان معا، على الأقل وسط رفقائهما، لكن في العموم، كانت النساء تنفر منه بشدة. في مطلع التسعينيات، عندما تزايدت ادعاءات التحرش الجنسي، بدأ حملة باءت بالفشل تكفل وجود مرافقة مراقبة في جميع الدروس الخصوصية التي تقام داخل الجامعة وتضم طالبات استنادا إلى أنه وزملاءه الذكور كانوا عرضة لادعاءات مجحفة. لم يكن أحد يفوقه في قدرته على تحطيم ثقة النساء في أنفسهن، بينما يعاملهن بأدب جم وكياسة تكاد تصل إلى حد الإهانة.
كان صورة هزلية للفكرة الشائعة عن الأستاذ الجامعي بجامعة أكسفورد؛ بجبهته العالية، وشعره المنحسر عن مقدمة رأسه، ونحوله ، وأنفه المعقوف قليلا، وشفتيه المزمومتين. كان يمشي وذقنه ممدود للأمام وكأنما يواجه عاصفة قوية، وكتفاه محدودبتان، وعباءته الباهتة ترفرف في الهواء. توقع المرء أن يرى صورته في مجلة «فانيتي فير» مرتديا قميصا بياقة عالية وممسكا واحدا من كتبه بأصابعه النحيلة النيقة.
أحيانا كان يركن إلي ويعاملني كأنما يعدني لأكون خليفة له. لكن ذلك بالطبع كان محض هراء؛ فقد كان يمنحني الكثير، لكن بعض الأشياء لم تكن مشمولة في منحته. لكن الانطباع الذي يعطيه طالبه المفضل الحالي بأنه ولي عهده جعلني أتساءل بالتبعية عما إذا كانت تلك هي الطريقة التي يواجه بها التقدم في السن، ومرور الزمن، والتبلد الآتي لا محالة لذهنه الحاد الذكاء، وربما كان ذلك مدفوعا بوهم شخصي لديه بالخلود.
دائما ما كان يجهر برأيه في أوميجا، الذي أصبح بمثابة ابتهال تعزية يردده عدد من زملائه، بخاصة أولئك الذين كانوا يختزنون كميات كبيرة من النبيذ أو كان مسموحا لهم باستخدام قبو النبيذ في كلياتهم. «ذلك الأمر لا يقلقني كثيرا. لا أعني بذلك أنني لم أشعر بالندم لوهلة عندما عرفت لأول مرة أن هيلدا عقيمة؛ ففي ظني أن الجينات تحافظ على ضروراتها التأسلية. لكني في المجمل سعيد به؛ فلا يمكن أن تحزن على أن أحفادك لن يولدوا عندما يكون لا أمل في ذلك. هذا الكوكب محكوم عليه بالدمار على أي حال. في نهاية المطاف ستنفجر الشمس أو تتجمد وستختفي ذرة لا قيمة لها في ذلك الكون الهائل دون أي أثر سوى رجة خفيفة. وإن كان محكوما على الجنس البشري بالفناء، فالعقم العالمي وسيلة ليست أكثر إيلاما من غيرها. كما أنه يوجد منافع شخصية في الأمر؛ فطوال الستين عاما الأخيرة كنا نسعى متملقين لاسترضاء أكثر فئات المجتمع جهلا وإجراما وأنانية. والآن ولما تبقى من حياتنا سنعفى من همجية الشباب الفجة ومن ضوضائهم، ومن ذلك القرع المتكرر، المولد بالحاسوب، الذي يدعونه موسيقى، ومن غرورهم المستتر وراء المثالية. يا إلهي، قد نتخلص حتى من عيد الميلاد المجيد، ذلك الاحتفال السنوي الذي يعني شعور الأبوين بالذنب وشعور صغارهم بالطمع. أعتزم أن أصنع لنفسي حياة مريحة، وعندما لا تصبح كذلك، عندئذ سأبتلع حبة الدواء التي ستنهي حياتي بزجاجة من النبيذ الفرنسي الأحمر.»
كانت خطته للبقاء على قيد الحياة ناعما بالراحة حتى آخر لحظة خطة تبناها آلاف الناس في تلك الأعوام الأولى التي سبقت وصول زان للحكم، عندما سادت المخاوف من تفشي الفوضى التامة. كانت تلك الخطة عبارة عن الخروج من المدينة - في حالته من كلاريندون سكوير - إلى منزل ريفي صغير أو كوخ في الريف المشجر له حديقة لإنتاج الغذاء، قريب من جدول ماء عذب، مياهه صالحة للشرب بعد غليها، وموقد حطب مفتوح، ومخزون يكفي لأعوام من الحطب وعلب الطعام المختارة بعناية وأعواد الثقاب، وخزينة أدوية مليئة بالعقاقير والحقن الطبية، والأهم من ذلك كله أبواب وأقفال متينة تحسبا لأن تلتفت يوما ما إلى تدابيرهم تلك أنظار الحاقدين ممن كانوا أقل حذرا. لكن في الأعوام الأخيرة أصبح جاسبر مهووسا. استبدل بالمخزن الخشبي في حديقته بناء من الطوب له باب معدني يتحكم به عن طريق جهاز تحكم عن بعد. وأحاط الحديقة بسور عال، ووضع قفلا حديديا على باب القبو.
عندما أزوره عادة ما أجد البوابة الخارجية المصنوعة من الحديد المطاوع غير موصدة في انتظار قدومي، وأستطيع أن أفتحها وأترك سيارتي في مدخل السيارات القصير المؤدي إلى منزله. لكن عصر ذلك اليوم، كانت مغلقة واضطررت لأن أضغط الجرس. عندما جاء جاسبر ليفتحها لي، صعقت من التغير الذي طرأ على مظهره خلال شهر واحد فقط. كان لا يزال منتصب القامة، ثابت الخطى، لكن عندما اقترب مني رأيت أن جلده المشدود بشدة حول عظام وجهه القوية قد صار أكثر شحوبا، وأن توترا أشد، يكاد يرقى إلى درجة الارتياب، كان باديا في عينيه الغائرتين، وهو ما لم ألاحظه عليه من قبل. التقدم في العمر أمر لا مناص منه، لكنه لا يسير على وتيرة واحدة. ثمة فترات، تمتد لأعوام، يتوقف فيها الزمن وتبدو فيها ملامح الأصدقاء والمعارف كأنما لا تتغير. ثم يتسارع الزمن وخلال أسبوع يحدث التحول. بدا لي كأن ستة أعوام قد أضيفت إلى عمر جاسبر خلال ما يزيد قليلا عن ستة أسابيع.
تبعته إلى غرفة الجلوس الواسعة في ظهر المنزل بنوافذها الفرنسية المطلة على الشرفة والحديقة. كانت حوائطها مغطاة تماما بالكتب كما كان الحال في مكتبه. وكانت، كالعادة، مرتبة حد الوسواس، فكان كل ما بها من أثاث وكتب وتحف في موضعه بدقة. لكني لاحظت، لأول مرة، علامات تنذر ببوادر إهمال، كزجاج النوافذ الملطخ، وبعض فتات طعام على السجادة، وطبقة غبار رقيقة على رف المدفأة. ومع أن مدفأة كهربائية كانت تشع خلف شبكة المدفأة، فإن الغرفة كانت باردة. قدم لي جاسبر شرابا، وقبلت مع أني لا أفضل شرب النبيذ في فترة العصر. لاحظت أن عدد الزجاجات المرصوصة بسخاء على الطاولة الجانبية كان أكبر مما كان أثناء زيارتي الأخيرة. كان جاسبر من القلائل الذين أعرفهم ممن يستخدمون النبيذ الفرنسي الأحمر مشروبا مسكرا لجميع المناسبات والأوقات.
كانت هيلدا تجلس بجوار المدفأة، وحول كتفيها سترة صوفية. كان نظرها مثبتا إلى الأمام، ولم تنطق بأي عبارة ترحيب أو حتى تنظر نحوي، وعندما حييتها لم تبد أي رد فعل سوى إيماءة سريعة. كان التغير البادي عليها ملحوظا أكثر حتى من التغير الذي طرأ على جاسبر. لسنوات، لم أر أي تغير يطرأ على مظهرها، أو هكذا بدا لي: الجسد النحيف والقامة المنتصبة، والتنورة المتقنة الصنع من التويد ذات الطيات الثلاثة المزدوجة والقميص الحريري ذو الياقة العالية، والسترة المصنوعة من صوف الكاشمير، والشعر الرمادي الغزير المعقود بعناية على هيئة كعكة أعلى رأسها. أما الآن فكان الطعام المتخثر يلوث مقدمة سترتها التي كادت تنزلق عن كتفيها، وكانت جواربها الطويلة القذرة تتدلى في طيات مهلهلة فوق حذائها المتسخ، وخصلات شعرها مبعثرة حول وجهها الذي ارتسم على ملامحه استنكار منفر. تساءلت حينها، كما كنت أتساءل في زيارات سابقة، عما ألم بها. لا يمكن أن يكون مرض آلزهايمر الذي سيطر عليه الأطباء بشكل كبير منذ أواخر التسعينيات. لكن ثمة أنواعا أخرى من خرف الشيخوخة التي لا يزال اهتمامنا العلمي، المهووس بمشاكل الشيخوخة، عاجزا عن شفائها. أو ربما هرمت فحسب، أو ربما كانت متعبة فقط، ولا تطيق وجودي. أعتقد أن الشيخوخة تتيح للمرء ميزة التقوقع داخل عالم خاص به، لكنها لا تكون ميزة إن كان عالمه هذا جحيما.
تساءلت في نفسي لم استدعاني لزيارته؟ لكني لم أحب أن أسأله مباشرة. أخيرا قال جاسبر: «ثمة أمر أردت مناقشته معك. أنا أفكر في الانتقال لأكسفورد مرة أخرى. كان آخر بث للحاكم هو ما جعلني أحسم أمري. من الواضح أن خطته النهائية هي أن ينتقل الجميع إلى المدن حيث يمكن تركيز المرافق والخدمات. قال إنه لن يمانع أن يظل من يودون البقاء في المقاطعات المعزولة موجودين فيها، لكنه لن يستطيع أن يضمن وصول الإمدادات، من كهرباء أو وقود لوسائل النقل، إليهم. ونحن معزولان للغاية هنا.»
قلت: «وما رأي هيلدا في ذلك؟»
لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليها. وقال: «هيلدا ليست في وضع يسمح لها بالاعتراض. أنا من يعتني بها. وإن كان ذلك سيسهل الأمر علي، فهو ما يجب فعله. خطر لي أنه قد يناسب كلينا - أعني أنا وأنت - إن شاركتك منزلك بشارع جون ستريت. فأنت لا تحتاج إلى ذلك المنزل الضخم. ويوجد مساحة تكفي لتحويلها إلى شقة منفصلة في الطابق العلوي. سأتحمل أنا نفقة تلك التعديلات بالطبع.» هالتني الفكرة. وأتمنى أن أكون قد نجحت في إخفاء امتعاضي منها. سكت وكأني أتدبر الفكرة، ثم قلت: «لا أعتقد أن ذلك سيناسبك حقا. فسوف تفتقد كثيرا وجود حديقة. وسيكون صعود الدرج صعبا على هيلدا.»
ساد الصمت برهة ثم قال جاسبر: «أفترض أنك سمعت عن «الراحة الأبدية»، فعالية الانتحار الجماعي للمسنين، أليس كذلك؟» قلت: «لا أعرف عنها إلا ما قرأته باختصار في الصحف أو شاهدته على التلفاز.»
تذكرت لقطة، أظن أنها الوحيدة التي عرضت في التلفاز: أشخاص مسنون يتشحون بملابس بيضاء يجرون على مقاعد متحركة أو يسندون للصعود على متن سفينة تشبه الصندل، وسط أصوات الغناء العالية الحادة، ثم تبحر بهم السفينة ببطء في ضوء الغسق في مشهد يبعث على السكينة، وجرى تصويره وإضاءته بدهاء.
قلت: «أنا لا أحبذ الموت الجماعي. الانتحار فعل يجب أن يكون له خصوصيته مثله مثل الجنس. إن أراد المرء قتل نفسه، فالوسائل متاحة دائما، إذن لماذا لا يفعل ذلك وهو مرتاح في سريره؟ أفضل أن أحقق «راحتي الأبدية» بطعنة من خنجر مسلول.»
قال جاسبر: «لا أعلم، يوجد أناس يحبون أن يجعلوا من طقوس الرحيل تلك حدثا. الأمر يحدث في جميع أنحاء العالم بشكل أو بآخر. أظن أنهم يجدون نوعا من السلوى في الأعداد، وفي المراسم. كما أن أقاربهم الأحياء يحصلون على معاش من الدولة. معاش ليس بزهيد، أليس كذلك؟ كلا، أعتقد أني أرى ميزات الأمر. كانت هيلدا تتحدث عنه منذ أيام قلائل.»
استبعدت ذلك. بوسعي أن أتخيل رأي هيلدا التي عرفتها في مثل ذلك الاستعراض العلني للمشاعر والتضحية. كانت في أوج نجاحها أكاديمية من العيار الثقيل، وكان الناس يقولون إنها أمهر من زوجها الذي كانت تدافع عنه بشراسة بلسانها اللاذع. بعد زواجها قلت وتيرة نشرها للكتب وإلقائها للمحاضرات، وخبت موهبتها وشخصيتها تحت تأثير عبودية الحب المريعة.
قبل أن أغادر قلت: «يبدو أنك بحاجة إلى مساعدة إضافية. لم لا تقدم طلبا بالحصول على بعض العمال الوافدين المؤقتين لخدمتك؟ لا بد أنك ستكون مخولا للحصول عليهم.»
لكنه رفض تلك الفكرة قائلا: «لا أريد أي غرباء هنا، وبخاصة العمال الوافدين. فأنا لا أثق بهم. سيكون ذلك بمثابة طلب بأن أقتل تحت سقف بيتي. ومعظمهم لا يعرف معنى العمل ليوم كامل. من الأفضل الاستعانة بهم لإصلاح الشوارع وتنظيف المجاري وجمع القمامة، تلك الأعمال التي يكونون فيها خاضعين للإشراف.»
قلت: «لكن العمال المنزليين ينتقون بعناية شديدة.» «ربما، ولكني لا أريدهم.»
نجحت في التملص دون أن أقطع له أي وعود. وفي رحلة عودتي إلى أوكسفورد ظللت أفكر في طريقة لإثناء جاسبر عن قراره. فقد اعتاد على أن يحصل دائما على مراده. يبدو الأمر وكأنه يطالبني متأخرا بتسديد حساب جميع الخدمات التي قدمها لي خلال الثلاثين عاما الماضية من توجيه خاص وحفلات عشاء فاخرة وتذاكر حفلات الأوبرا والمسرح. لكن فكرة مشاركة منزل شارع سانت جونز، واقتحام خصوصيتي، وتحمل عبء رعاية رجل مسن صعب المراس تثير اشمئزازي. إنني مدين لجاسبر بالكثير، لكني لا أدين له بذلك.
بينما كنت أقود سيارتي داخل المدينة، رأيت طابورا طوله نحو مائة ياردة خارج مبنى الاختبارات بجامعة أكسفورد. كان يتكون من كهول ومسنين منظمين ومهندمي الثياب، ولكن النساء كن أكثر من الرجال. وقفوا ينتظرون بهدوء وصبر بروح المشاركة، والتطلع الخفي، وغياب التوتر مما يتسم به طابور لدى جميع أفراده تذاكر دخول؛ فالدخول مضمون، وثمة توقع أكيد بأن المرح الذي سيحظون به بالداخل يستحق الانتظار. لوهلة انتابتني الحيرة ثم تذكرت: المبشرة روزي ماكلور تزور المدينة. كان حريا بي أن أدرك ذلك على الفور؛ فقد كانت الدعاية لزيارتها تلك في كل مكان. روزي هي أحدث وأنجح المؤدين على التلفاز الذين يبيعون الخلاص ويجنون ثروات طائلة من بضاعة يتهافت عليها الناس دوما ولا يكلفهم منحها شيئا. في أول عامين بعد أوميجا، ظهر روجر الراعد ورفيقه سام المسهب، ولا يزال يوجد متابعون لفترة روجر التلفزيونية الأسبوعية. كان روجر، ولا يزال، خطيبا مؤثرا بالفطرة، فهو رجل ضخم له لحية بيضاء، يتعمد قولبة نفسه حسب الصورة الذهنية السائدة لرسول من رسل العهد القديم، فيصب الوعيد الإلهي بصوت جهور زادته بقايا لكنته الشمال أيرلندية سلطوية. كانت رسالته بسيطة ولا جديد فيها: عقم البشر هو عقاب الرب على عصيانهم وإثمهم. ولن يرفع عنهم غضب الرب المستحق سوى التوبة، وأفضل برهان على التوبة هو التبرع بسخاء لتغطية تكاليف حملة روجر الراعد. كان لا يطلب المال بنفسه قط؛ فقد كانت تلك مهمة سام المسهب. كانا ثنائيا مؤثرا تأثيرا غير عادي في بداياتهما، ومنزلهما الضخم على كينجستون هيل خير شاهد على نجاحهما. في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت أوميجا، كان لدعوتهما تلك مصداقية نوعا ما، فقد كان روجر ينتقد بشدة العنف الذي يحدث داخل المدن، ومهاجمة النساء العجائز وهتك أعراضهن، والانتهاك الجنسي للأطفال، وحصر معنى الزواج في مجرد كونه عقدا ماليا، والطلاق الذي صار عاديا، وتفشي الخيانة وانحراف الغريزة الجنسية. كان يتلو آيات العهد القديم المليئة باللعنات واحدة تلو الأخرى وهو يرفع عاليا كتابه المقدس الذي تبدو عليه آثار كثرة الاستعمال. غير أن مدة صلاحية منتجه ذلك لم تكن طويلة. فمن الصعب أن تنجح في أن تثور على الأعراف الجنسية للمجتمع في عالم ساد فيه الفتور، وأن تدين الانتهاك الجنسي للأطفال عندما لا يعود ثمة وجود لأطفال، وأن تشجب أعمال العنف داخل المدن في وقت باتت فيه المدن تصير آمنة لكبار السن الطيعين. لم ينتقد روجر قط عنف الأوميجيين ولا أنانيتهم؛ فغريزة حفظ الذات قوية لديه.
والآن بعد أن أفل نجمه، ظهرت روزي ماكلور. بزغ نجم روزي اللطيفة التي قدمت من ولاية ألاباما لكنها غادرت الولايات المتحدة في عام 2019، على الأغلب لأن سلعة الهيدونية الدينية التي تبيعها موجودة بوفرة هناك. كانت تعاليم الإنجيل طبقا لروزي بسيطة: الله محبة، والمحبة تبرر كل شيء. أعادت إحياء الأغنية الشعبية «الحب هو كل ما تحتاجه.» التي غنتها فرقة «البيتلز» الغنائية التي كانت مكونة من مجموعة شباب يافعين من ليفربول في الستينيات، وكانت تستهل اجتماعاتها الحاشدة بتلك الأغنية المتناغمة المتكررة وليس بترنيمة. من وجهة نظرها أن المجيء الثاني لن يحدث في المستقبل بل يحدث الآن بينما تحصد أرواح المؤمنين واحدا تلو الآخر بعد انقضاء أعمارهم الطبيعية وانتقالهم إلى العلياء. تذكر روزي بالتفصيل الشديد المباهج التي بانتظارهم. كجميع المبشرين الدينيين، تدرك أن تخيل المرء دخوله الجنة لن يكون مرضيا له بالقدر الكافي إن لم يستطع تخيل الأهوال التي سيلقاها غيره في الجحيم. لكن الجحيم الذي تصفه روزي ليس مكانا للعذاب بقدر ما هو مكان أشبه بفندق رديء سيئ الإدارة يضطر نزلاؤه غير المنسجمين لتحمل رفقة بعضهم لبعض للأبد، وغسل ملابسهم بأنفسهم مع نقص المرافق، مع أنه من المفترض أنهم لن يحرموا المياه المغلية. كما ذكرت أيضا بنفس التفصيل مباهج الجنة. «في بيت أبي منازل كثيرة .» وتطمئن روزي أتباعها أن بانتظارهم منازل تناسب جميع الأذواق وجميع درجات التقوى، وأن قمة النعيم محجوزة للقلة المختارة. ولكن كل من يستجيب إلى دعوة روزي للحب سيجد مكانا مستطابا، شاطئا جميلا ينعم فيه للأبد بالطعام، والشراب، والشمس والمتعة الجنسية. الشر لا مكان له في فلسفة روزي. أسوأ ادعاء هو أن البشر يقعون في الخطيئة لأنهم لم يفهموا قانون الحب. علاج الألم هو حبة مسكن أو إسبيرين، وعلاج الوحدة هو الاطمئنان إلى العناية الإلهية، وعلاج حزن الفقد هو التيقن في اجتماع الشمل. يجب ألا يطالب أي من البشر بالمغالاة في إنكار الذات لأن الرب، كونه محبة، لا يريد لأبنائه سوى السعادة.
تركز روزي على تدليل الجسد الدنيوي وإشباع رغباته، ولا تترفع عن إعطاء بضع نصائح للجمال خلال عظاتها التي تنظم تنظيما باهرا، بالجوقة المكونة من مائة فرد يرتدون الأبيض من عازفي آلات النفخ ومرتلي الإنجيل الذين يرتصون في درجات تحت كشافات الضوء المتواتر. يشاركهم الحشد ترديد القوافي المبهجة، ويضحكون ويبكون ويلوحون بأذرعهم مثل دمى الماريونيت البلهاء. تبدل روزي نفسها فساتينها المبهرجة ثلاث مرات على الأقل في كل اجتماع من اجتماعاتها الحاشدة. تزعم روزي أن الحب هو كل ما نحتاجه. ويجب ألا يحرم أحد من أن يكون له ما يحبه. ليس بالضرورة أن يكون شخصا آخر؛ فيمكن أن يكون حيوانا؛ قطة أو كلبا، أو حديقة، أو زهرة، أو شجرة. فالطبيعة كلها عبارة عن كيان واحد، يتواصل بالحب، ويسمو بالحب، ويبرأ من خطاياه بالحب. قد يحسب المرء أن روزي لم تر قط قطة ممسكة بفأر. في نهاية تلك التجمعات الحاشدة، يعانق معتنقو مذهبها السعداء بعضهم بعضا عشوائيا ويضعون الأوراق النقدية في صناديق التبرع بحماس أهوج.
في منتصف التسعينيات، اتجهت الكنائس الرسمية، وبخاصة كنيسة إنجلترا، من عقيدة الخطيئة والتوبة إلى مذهب أقل تشددا؛ مذهب جمع بين المسئولية الاجتماعية والإنسانوية العاطفية. لكن روزي ذهبت لأبعد من ذلك، فنفت فعليا الأقنوم الثاني من أقانيم الثالوث المقدس وكذلك صليبه، الذي استبدلت به كرة ذهبية اللون ترمز للشمس في أوجها بدت شبيهة بلافتة حانة فيكتورية مبهرجة. ما لبث ذلك التغيير أن لاقى شعبية. فحتى لغير المؤمنين مثلي، لم يكن الصليب، الذي يمثل همجية السلطة وقسوة البشر التي لا مناص منها، رمزا مريحا.
الفصل الثامن
قبيل التاسعة والنصف من صباح يوم الأحد، انطلق ثيو في رحلته إلى بينسي قاطعا بورت ميدو سيرا على الأقدام. لقد وعد جوليان وكان وفاؤه بوعده لها مسألة كبرياء لا تراجع فيها. لكنه اعترف لنفسه أن لديه سببا أقل نبالة للوفاء بوعده. كانت تلك الجماعة تعرف من هو وأين يمكنهم العثور عليه؛ لذا فمن الأفضل له أن يكلف نفسه عناء لقائهم مرة واحدة ويزيح عن عاتقه ذلك الأمر، من أن يقضي الأشهر القليلة القادمة في ترقب وجل من لقاء جوليان كل مرة يذهب فيها إلى الكنيسة أو يذهب إلى التسوق في السوق المغطى. كان ضوء النهار ساطعا، والهواء باردا لكنه جاف، والسماء تبدو صافية بلونها الأزرق الزاهي، وكان يسمع تحت قدميه صوت خشخشة العشب الذي تركته برودة الصباح الباكر منتعشا. كان النهر يبدو مثل شريط مموج يعكس لوحة السماء، وبينما توقف لينظر لأسفل أثناء عبوره الجسر، اقترب سرب صاخب من البط وإوزتين، فاغرين مناقيرهم يسألون الطعام كما لو كان لا يزال يوجد أطفال يرمون لهم بفتات الخبز ثم يفرون هاربين في خوف تشوبه الإثارة من إلحاحهم الصاخب. كانت القرية الصغيرة خاوية. كانت بيوت المزارعين على يمين المرج الأخضر لا تزال قائمة لكن معظم نوافذها كان موصدا بالألواح الخشبية. حطمت الألواح في بعض المواضع فلمح من خلال شظايا ونتوءات الزجاج المهشم الحادة التي تحيط بإطارات النوافذ بقايا ورق حائط متقشر منقوش بنقشات ورود اختير بعناية شديدة يوما ما، أما الآن فلم يبق منه سوى بقايا بالية، وقفت كشواهد هشة على الحياة التي غادرتها. كانت الألواح الأردوازية لأحد الأسطح قد بدأت تنزلق، كاشفة عن الألواح الخشبية المتعفنة، وتحولت الحدائق إلى قفور تغطيها أعشاب وحشائش وصلت في ارتفاعها إلى مستوى الكتف.
كما كان يعلم، كان نزل «بيرش إن » مغلقا منذ وقت طويل بعد أن تقلصت أعداد زبائنه. كانت رحلة الذهاب إلى بينسي عبر بورت ميدو هي إحدى نزهات السير المفضلة لديه صباح أيام الأحد، وكان ذلك النزل هو مقصدها. أما الآن فشعر أن من يقطع تلك القرية الصغيرة هو شبح الرجل الذي كان عليه في السابق، مبصرا بعينين غريبتين عنه الجادة الضيقة التي تحفها على الجانبين أشجار الكستناء الممتدة لنصف ميل، والتي تتجه إلى الشمال الغربي من بينسي إلى كنيسة سانت مارجريت. حاول تذكر متى كانت آخر مرة قام فيها بهذه النزهة. أكان ذلك منذ سبع سنوات، أم عشر؟ لم يستطع تذكر النزهة نفسها ولا من رافقه فيها إن كان أحد قد رافقه. لكن الجادة تغيرت. كانت أشجار الكستناء لا تزال قائمة، لكن الجادة، التي ظللتها الأغصان المتشابكة فأعتمتها، قد ضاقت حتى أصبحت مجرد ممشى ضيق تعفنت على سطحه أوراق الأشجار الساقطة وتشابكت فيه، بغزارة ودونما تقليم، أغصان أشجار البلسان والدردار. كان يعرف أن المجلس المحلي قد خصص ممرات مشي معينة لإماطة تلك العوائق عنها، لكن تدريجيا تقلص عدد تلك الممرات التي كانت تلقى عناية منه. فقد كان المسنون أوهن من أن يقوموا بالعمل، والكهول الذين يقع على عاتقهم مسئولية الحفاظ على حياة الدولة كانوا مشغولين للغاية، أما الشباب فلم يكونوا يهتمون كثيرا بالحفاظ على الريف. فلماذا يحافظون على ما سينعمون فيما بعد بوفرة منه؟ فسيرثون جميعهم عما قريب عالما من المرتفعات غير المأهولة، والجداول النقية، والغابات والأحراش الشاسعة، والأخوار المهجورة. نادرا ما كنت تراهم في الريف، ويبدو أنهم كانوا يهابونه. كانت الغابات، على وجه الخصوص، قد صارت مواطن خطر يهاب كثيرون دخولها، وكأنهم كانوا يخشون أنهم لن يخرجوا إلى النور قط إن تاهوا وسط جذوع أشجارها الداكنة المتصلبة وممراتها المنسية. ولم يكن ذلك مقتصرا على الشباب. فقد أخذت أعداد من يبحثون عن رفقة بني جنسهم تزداد، فهجروا القرى الموحشة حتى قبل أن تستدعي الحصافة أو القرار الرسمي ذلك، ونزحوا إلى تلك المقاطعات الحضرية التي وعد الحاكم بأنه سيعمل على توفير الإنارة والطاقة بها حتى النهاية، إن أمكن.
كان المنزل المنفرد الذي كان يذكره لا يزال قائما وسط حديقته على يمين الكنيسة، ولدهشته رأى ثيو أن جزءا منه على الأقل مأهول. فقد كانت الستائر تغطي نوافذه، وعمود من الدخان يتصاعد من مدخنته، وعلى يسار الممر كان من الواضح أن أحدا حاول اجتثاث الحشائش، التي بلغت في ارتفاعها مستوى الركبة، لزراعة حديقة خضر. إذ تدلت بضعة أعواد ذابلة من الفاصوليا القرمزية من الأوتاد الداعمة كما كان يوجد صفوف غير مستوية من الكرنب وكرنب بروكسل التي كان لونها قد بدأ في الاصفرار. خلال زياراته وقتما كان طالبا جامعيا، تذكر شعوره بالحسرة من أن الضجيج الصاخب المتواصل للطريق السريع «إم 40» كان يعكر سكينة أجواء المنزل والكنيسة اللذين كان يصعب تصديق أنهما قريبان من المدينة لتلك الدرجة، أما الآن فكان يكاد لا يسمع له أي ضجيج، وبدا المنزل وكأنما يلفه هدوء سرمدي.
قطع ذلك الهدوء عندما انفتح الباب بقوة واندفع خارجا منه رجل مسن يرتدي جبة كاهن باهتة وهو يزعق ويسير بخطى متعثرة في الممر ملوحا بذراعيه وكأنما يطرد وحوشا جامحة. صاح بصوت مرتعش: «لا يوجد قداس! لن يقام قداس اليوم. ستقام معمودية في الحادية عشرة.»
قال ثيو: «لم آت لحضور قداس، وإنما جئت للزيارة فقط.» «هذا كل ما يفعلونه، أو هكذا يزعمون. لكني أحتاج جرن المعمودية في الحادية عشرة؛ لذا لا بد أن يخرج الجميع بحلول ذلك الوقت. الجميع باستثناء من أتوا لحضور المعمودية.» «لا أظن أنني سأمكث هنا حتى ذلك الوقت. هل أنت قس الأبرشية؟»
اقترب من ثيو ونظر إليه بعينين حادتين مرتابتين. خيل لثيو أنه لم ير أحدا أطعن منه في السن، فقد كان جلده المبقع الرقيق كالورقة مشدودا للغاية حول عظام جمجمته وكأنما لا يطيق الموت الانتظار حتى يحصد روحه.
قال الرجل الطاعن في السن: «لقد أقاموا قداسا أسود هنا يوم الأربعاء الماضي، وظلوا يغنون ويصرخون طوال الليل. هذا لا يصح. لا يمكنني إيقافه، لكني لا أوافق عليه . كما أنهم لا ينظفون المكان بعد الفوضى التي يحدثونها؛ الدم والريش والنبيذ الذين يغطون الأرض، وآثار شحم الشمع الأسود. لا يمكن إزالتها، فهي تأبى أن تزول، كما تعلم. كل ذلك يترك لي لأقوم به. وهم لا يأبهون. هذا ليس عدلا، ولا يصح.»
قال ثيو: «لم لا توصد باب الكنيسة؟»
بدأت نبرة العجوز تغدو تآمرية. «لأنهم أخذوا المفتاح. هذا هو السبب. وأنا أعرف من أخذه. نعم، أعرف.» دار على عقبيه وسار بخطى متعثرة تجاه المنزل وهو يتمتم، ثم التفت عندما وصل إلى الباب كي يصيح بإنذار أخير: «اخرج في تمام الحادية عشرة. إلا إذا كنت ستحضر المعمودية. على الجميع الخروج بحلول الحادية عشرة.»
سار ثيو إلى الكنيسة. كانت عبارة عن بناء حجري، ولها برج قصير ذي جرسين جعلها تبدو كمنزل حجري متواضع بمدخنة واحدة. كانت ساحة الكنيسة مغشاة بالأعشاب البرية مثل حقل طال إهماله. كان العشب طويلا وباهتا كالقش، وزحف اللبلاب على شواهد القبور طامسا أسماء أصحابها. في مكان ما وسط تلك البرية المتشابكة كان يقف بئر سانت فريدسوايد الذي كان فيما مضى مكانا يحج إليه الناس. سيواجه أي حاج في يومنا هذا صعوبة في العثور عليه. لكن كان من الواضح أن الكنيسة نفسها كانت تحظى بزوار. كان على كل جانب من جانبي رواقها أصيص من الفخار مزروع به شجيرة ورد واحدة، تجردت سيقانها من الأوراق لكنها لا تزال تحمل بضعة براعم عطشى لفحها الشتاء.
كانت جوليان تنتظره في الرواق. لم تمد يدها لتصافحه أو حتى تبتسم، وإنما قالت: «شكرا لقدومك، جميعنا موجودون.» ثم دفعت الباب فاتحة إياه. تبعها إلى داخل الكنيسة المعتمة فاستقبلته على الفور موجة قوية من البخور طغت على رائحة أخرى أشد ضراوة. عندما أتى إلى هنا للمرة الأولى، منذ خمسة وعشرين عاما، نقله سكونها وسلامها السرمدي إلى عالم آخر، وشعر كأن ما يدوي حوله في الهواء صدى تراتيل طواها النسيان، وابتهالات قديمة وصلوات يائسة. كل ذلك لم يعد موجودا. في السابق كان السكون الذي يغلف هذا المكان أكثر من مجرد غياب للضوضاء. أما الآن فقد صار مجرد مبنى حجري، لا أكثر.
كان قد توقع أن يجد أفراد الجماعة بانتظاره، واقفين أو جالسين معا في ذلك الخلاء الريفي المعتم. لكنه وجدهم قد تفرقوا وكان كل منهم يتمشى في جزء مختلف من الكنيسة وكأنما دفعهم إلى التفرق جدال ما أو حاجة ملحة إلى العزلة. كانوا أربعة، ثلاثة رجال وامرأة طويلة القامة وقفت بجوار المذبح. عندما دخل هو وجوليان، اقترب بعضهم من بعض بهدوء، وتجمعوا قبالته في الممر.
لم تواجهه أي صعوبة في تحديد أي منهم هو زوج جوليان وقائدهم حتى قبل أن يتقدم بترو ويقف في مواجهته. وقف كل منهما مواجها للآخر مثل غريمين يقيم كل منهما الآخر. لم يبتسم أي منهما أو يمد يده للمصافحة. كان ذا بشرة داكنة للغاية، ووجه وسيم متجهم نوعا ما، وحملت عيناه النبيهتان الغائرتان نظرات قلق وشك، وكان له حاجبان كثان ومستقيمان، كأنهما مرسومان بفرشاة رسم، يبرزان نتوء عظام وجنتيه. وتناثرت على جفنيه المرتخيين بضع شعرات سوداوات فبدا كأن حاجبيه ملتصقان برموشه. كانت أذناه كبيرتين وبارزتين، ولهما شحمتان ناتئتان، ولم تتماش الأذنان البارزتان مع فمه المطبق بعناد وفكه المشدود القوي. لم يكن وجهه وجه رجل متصالح مع نفسه أو مع عالمه، لكن لماذا يكون كذلك، وقد ولد قبل جيل الأوميجيين ببضع سنوات ففاتته الأفضلية والامتيازات التي يحظى بها أبناء ذلك الجيل؟ كان أبناء جيله، قد خضعوا كشأن جيلهم، للملاحظة والدراسة ودللوا، وأشبعت رغباتهم، في انتظار أن تأتي اللحظة التي يصيرون فيها ذكورا بالغين وينتجون الحيوانات المنوية الخصبة المرجوة. كان جيلا تهيأ للفشل، فقد كان أبناؤه أكبر خيبة أمل لوالديهم الذين أنجبوهم ولسائر الجنس البشري الذي كان قد تعهدهم بالكثير من الرعاية الخاصة ووضع فيهم أملا كبيرا.
عندما تكلم، كان صوته أعلى مما توقع ثيو، وبه نبرة خشنة وأثر لكنة غريبة لم يستطع تحديدها. دون أن ينتظر أن تقدم جوليان أحدهما للآخر، قال: «لا حاجة لك بمعرفة كنياتنا. سنكتفي بالأسماء الأولى فقط. أنا رولف ، قائد الجماعة. وجوليان هي زوجتي. هذه ميريام، وهذا لوك وهذا جاسكوين. جاسكوين هو اسمه الأول. اختاره له جده عام 1990 لسبب لا يعلمه إلا الله. كانت ميريام قابلة، ولوك قسا. لا حاجة لديك لأن تعرف وظيفة أي منا الحالية.»
كانت المرأة هي الوحيدة التي تقدمت وصافحت ثيو. كانت سوداء البشرة، جامايكية على الأرجح، وكانت أكبر أفراد الجماعة سنا، وخمن ثيو أنها تكبره هو أيضا، ربما كانت في منتصف أو أواخر الخمسينيات من عمرها. كان الشيب يتخلل شعرها القصير الكثيف ذا التجعيدات الضيقة. وكان التباين بين الأبيض والأسود صارخا حتى إن رأسها بدا كأنه مغطى بمسحوق مما أضفى عليها وقارا وأناقة. كانت طويلة القامة رشيقة البنية، ووجهها طويلا ذا ملامح منمقة، وبالكاد تظهر في بشرتها الداكنة أي خطوط تجاعيد، مما يتنافى مع شيب شعرها. كانت ترتدي بنطالا ضيقا أسود، وحذاء ذا رقبة طويلة أدخلت فيه طرفي بنطالها، وقميصا ذا رقبة عالية فوقه صدار من جلد الغنم، وتباينت ملابسها الأنيقة التي تكاد تكون غير تقليدية مع ملابس الرجال الثلاثة الخشنة التي تحتاج إلى الإصلاح. ألقت التحية على ثيو بمصافحة قوية ونظرة متمعنة تآمرية يشوبها شيء من الابتهاج، وكأنما صار بالفعل شريكها في المؤامرة.
للوهلة الأولى لم ير ما يلفت النظر في الفتى - فقد كان يبدو كفتى مع أن عمره حتما لا يقل عن الواحد والثلاثين - الذي يدعى جاسكوين. كان قصير القامة، يكاد يكون بدينا، ذا شعر قصير ووجه ودود مستدير، وعينين واسعتين وأنف أفطس. كان له وجه طفل كبر في السن لكن ملامحه لم تتبدل كثيرا منذ أن تطلع لأول مرة من عربة الأطفال إلى عالم رآه حينها غريبا وغير ودود كما يراه الآن حسبما يدل سمته الذي تغلب عليه البراءة المرتبكة.
كان الرجل الذي يدعى لوك، الذي تذكر أن جوليان أيضا كانت قد ذكرت أنه قس، أكبر سنا من جاسكوين؛ إذ كان، على الأرجح، قد تخطى الأربعين. كان طويل القامة، ذا وجه شاحب مرهف، وجسد نحيل، وتدلى كفاه اللذان تبرز عظامهما من رسغين نحيلين، وكأنما في طفولته نفدت قواه فلم يصل إلى كامل نضجه. كان شعره الأشقر ينسدل على جبينه العالي مثل قصة حريرية، وعيناه الرماديتان متباعدتين وهادئتين. كان لا يبدو شريكا لهم في التآمر؛ فقد كان ثمة تباين ملحوظ بين رقته البادية وملامح رولف السمراء الذكورية. ابتسم لثيو ابتسامة سريعة أحدثت تحولا في ملامحه التي يشوبها شيء من الحزن، لكنه لم يقل شيئا.
قال رولف: «لقد شرحت لك جوليان لم وافقنا على مقابلتك.» جعل الأمر يبدو وكأنما كان ثيو هو من توسل لمقابلتهم. «تريدونني أن أستخدم نفوذي للتأثير على حاكم إنجلترا. يتعين علي أن أخبركم أني لا أملك أي نفوذ. فقد تخليت عن أي من ذلك عندما تركت منصبي بصفتي مستشارا له. سأسمع ما تودون قوله لكني لا أظن أني أملك أي طريقة للتأثير على المجلس أو على حاكم إنجلترا. فلم يكن ذلك ممكنا يوما. وذلك كان أحد أسباب استقالتي.»
قال رولف: «لكنك ابن خالته، وقريبه الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة. وقد تربيتما معا نوعا ما. وتقول الشائعات إنك الشخص الوحيد في إنجلترا الذي استمع لرأيه.»
قال ثيو: «إذن، الشائعات غير صحيحة.» ثم أضاف قائلا: «ثم ما طبيعة جماعتكم تلك؟ هل تجرون اجتماعاتكم دائما في هذه الكنيسة؟ هل أنتم جماعة دينية؟»
كانت مريام هي من أجابت. قالت: «لا، كما أوضح رولف، لوك قس، لكنه لا يعمل بدوام كامل ولا ينتمي لأبرشية. هو وجوليان يدينان بالمسيحية، أما بقيتنا فلا ندين بها. نحن نتقابل في الكنائس لأنها متاحة ومفتوحة ومجانية وعادة ما تكون خاوية، على الأقل الكنائس التي نختارها تكون كذلك. قد نضطر للتخلي عن تلك الكنيسة، فقد بدأ أناس آخرون يرتادونها.»
قاطعها رولف بنفاد صبر وبنبرة صارمة: «لا علاقة للأمر بالدين أو بالمسيحية. على الإطلاق!»
تابعت مريام حديثها وكأنها لم تسمعه: «يلتقي العديد من غريبي الأطوار في الكنائس. ما نحن إلا جماعة من بين جماعات كثيرة منهم. لا أحد يطرح علينا أي أسئلة. وإن حدث، نقول إننا «نادي كرانمر». نجتمع كي نقرأ ونتدارس كتاب الصلاة المشتركة القديم.»
قال جاسكوين: «هذا غطاؤنا.» قالها ببهجة طفل اطلع على سر من أسرار الكبار.
التفت إليه ثيو. «حقا؟ ماذا إذن سيكون ردكم إن طلبت منكم شرطة الأمن الوطني تلاوة دعاء «الأحد الأول من المجيء»؟» ثم أضاف بعد أن لاحظ وجل عدم الفهم عليه: «هذا ليس غطاء مقنعا.»
قالت جوليان بهدوء: «قد لا تكون متعاطفا معنا، لكن لا داعي لأن تزدرينا. ليس الهدف من غطائنا هذا خداع الشرطة. فشرطة الأمن الوطني إن بدأت تلتفت إلينا، فلن يحمينا منها أي غطاء. سيقضون علينا في عشر دقائق. نحن نعرف ذلك. ذلك الغطاء يمنحنا سببا أو ذريعة للاجتماع بانتظام في الكنائس. نحن لا نعلنه. لقد وضعناه كي نستخدمه عند الحاجة، إن سألنا أحد.»
قال جاسكوين: «أنا أعرف أن الصلوات تدعى «أدعية». هل تحفظ الدعاء الذي سألتني عنه؟» لم يكن في صوته نبرة اتهام، بل مجرد فضول.
قال ثيو: «لقد تربيت على كتاب الصلاة القديم. لا بد أن الكنيسة التي كانت أمي تأخذني إليها وأنا طفل كانت من آخر الكنائس التي استخدمته. كما أني أستاذ تاريخ. وأنا مهتم بالكنيسة الفيكتورية، وبالطقوس الدينية القديمة وأشكال العبادة التي بطل استخدامها.»
قال رولف بنفاد صبر: «كل هذا غير مهم. كما قالت جوليان، إن اعتقلتنا شرطة الأمن الوطني فلن يضيعوا الوقت في استجوابنا حول التعاليم الدينية القديمة. لسنا في خطر حتى الآن، إلا إذا خنتنا. فماذا فعلنا حتى الآن؟ لا شيء سوى الكلام. قبل أن نفعل شيئا، ارتأى اثنان منا أنه قد يكون من الحكمة أن نقدم التماسا بمطالبنا لحاكم إنجلترا، ابن خالتك.»
قالت ميريام: «ثلاثة منا. كان ذلك قرار الأغلبية. فقد وافقت لوك وجوليان. ارتأيت أن الأمر يستحق المحاولة.» تجاهلها رولف مرة أخرى. «لم يكن استدعاؤك إلى هنا فكرتي. سأكون صريحا معك. أنا لا أملك سببا يدعوني للوثوق بك، ولا أرغب في وجودك بالأساس.»
رد ثيو: «هذا يجعلنا متعادلين فأنا لم أرد الحضور بالأساس. تريدون مني أن أتحدث مع الحاكم. لم لا تتحدثون معه بأنفسكم؟» «لأنه لن يسمع لنا. لكنه قد يسمع لك.» «وإن وافقت على مقابلته، وإن سمع لي بالفعل، فما الذي تريدون مني قوله؟»
كان السؤال مباغتا للغاية فألجمهم لوهلة. نظر كل منهم إلى الآخر وكأنما يتساءلون من منهم سيبتدئ الحديث.
كان رولف هو من أجاب: «صعد الحاكم إلى السلطة عن طريق الانتخاب، لكن مضى على ذلك خمسة عشر عاما. ومنذ ذلك الحين، لم يجر أي انتخابات. يدعي أنه يحكم بإرادة الشعب، لكنه في الواقع طاغية مستبد.»
قال ثيو بأسلوب جاف: «إن كان أحد على استعداد لإبلاغه تلك الرسالة فسيكون رسولا شجاعا.»
قال جاسكوين: «كما أن حرس الجرينادير يمثلون جيشه الخاص. فهم يؤدون قسم الولاء له. ولم يعودوا يخدمون الوطن بل يخدمونه هو. لا يحق له أن يستغل الاسم. كان جدي جنديا في حرس الجرينادير. أخبرني أنهم كانوا أفضل فرقة في الجيش البريطاني.»
تجاهله رولف، وتابع قائلا: «كما أن ثمة أمورا يمكن أن يفعلها دون أن يضطر للانتظار حتى تجرى انتخابات عامة. فبإمكانه أن ينهي برنامج اختبار الحيوانات المنوية. فهو مضيعة للوقت ومهين وعلى كل حال لا أمل يرجى منه. وبإمكانه أن يترك للمجالس المحلية والإقليمية اختيار رؤسائها. سيكون ذلك على الأقل بداية للديموقراطية.»
قال لوك: «ليس اختبارات الحيوانات المنوية فحسب. يجب أن يوقف الفحوصات النسائية الإلزامية. فهي مهينة للنساء. كما نريده أن يضع نهاية لفعاليات الراحة الأبدية. أعرف أنه من المفترض أن يكون جميع المسنين المشاركين بها قد تطوعوا لذلك. ربما كان الأمر كذلك في بداياتها، وربما لا يزال بعض منهم كذلك. لكن هل سيرغبون حقا في الموت إن منحناهم أملا؟»
شعر ثيو برغبة عارمة في أن يسأله: «أمل في ماذا؟»
قاطعته جوليان قائلة: «كما أننا نريد أن يفعل شيئا بخصوص العمال الوافدين. هل تعتقد أن من الصواب أن يصدر أمر رسمي بمنع أوميجيينا من الهجرة؟ نحن نستقدم الأوميجيين والشباب من البلدان الفقيرة كي يقوموا عنا بالأعمال الشاقة من تنظيف للمجاري ورفع للقمامة ورعاية للمقعدين والمسنين.»
قال ثيو: «هم من يتهافتون للقدوم، على الأرجح لأنهم ينعمون بمستوى معيشة أفضل هنا.»
قالت جوليان: «بل يأتون كي يجدوا ما يسد رمقهم. ثم عندما يصبحون طاعنين في السن - الستون هو السن الأقصى، أليس كذلك؟ - يرحلون إلى بلادهم شاءوا أم أبوا.» «ذلك شر تقع مسئولية معالجته على بلدانهم. بإمكانهم أن يبدءوا بإدارة شئونهم بطريقة أفضل. على أي حال، أعدادهم ليست بالكبيرة. فهي مقيدة بحصة، ويتحكم بعناية في أعداد المقبولين منهم.» «ليس بحصة فحسب، بل بشروط صارمة أيضا. فيشترط أن يكونوا أشداء وأصحاء وليس لهم أي سوابق جنائية. نحن نأخذ خيرتهم ثم نطردهم إلى بلدانهم عندما لا يعود ثمة حاجة إليهم. ومن يحصل على خدماتهم؟ ليس أكثر الناس حاجة إليهم. بل أعضاء المجلس وأصدقاؤهم. ومن يعتني بالأوميجيين الأجانب أثناء إقامتهم هنا؟ هم يعملون لقاء أجر زهيد، ويسكنون في مخيمات، ويعزل رجالهم عن نسائهم. نحن حتى لا نمنحهم الجنسية؛ هذا نوع من أنواع العبودية المقننة.»
قال ثيو: «لا أعتقد أنكم ستبدءون ثورة من أجل قضية العمال الوافدين، أو حتى فعاليات الراحة الأبدية؛ فالناس لا يبالون بالقدر الكافي.»
قالت جوليان: «نحن نريد أن نساعدهم على أن يبالوا.» «ولماذا سيفعلون؟ إنهم يحيون بلا أي أمل على كوكب يحتضر. كل ما يريدونه هو الأمان والراحة والمتعة. وحاكم إنجلترا بيده أن يعد بتحقيق المطلبين الأول والثاني، وهذا أكثر مما تقدر معظم الحكومات الأجنبية على الوفاء به.»
كان رولف يستمع إلى حديثهم المتبادل دون أن يشارك به، ثم قال فجأة: «كيف هو؟ أقصد حاكم إنجلترا؟ أي نوع من الرجال هو؟ لا بد أنك تعرف، فقد تربيتما معا.» «لكن هذا لا يمنحني إمكانية الولوج إلى عقله.» «كل تلك السلطة بين يديه، سلطة تفوق أي سلطة حظي بها أي شخص يوما، على الأقل في ذلك البلد. هل يستمتع بها؟» «على الأرجح. فهو لا يبدو متلهفا للتنازل عنها.» ثم أضاف قائلا: «إن أردت ديموقراطية، فعليك إيجاد طريقة لإعادة الحياة إلى المجلس المحلي. فهي تبدأ من هناك.»
قال رولف: «وهناك تنتهي أيضا. فهذه هي الطريقة التي يفرض بها الحاكم سيطرته على ذلك المستوى. هل رأيت رئيس مجلسنا المحلي ريجي ديمسديل؟ إنه رجل متذمر جبان في السبعين من عمره، يقوم بذلك العمل فقط لأنه يتلقى مقابله ضعف حصة الوقود، وبضعة عمال من الأوميجيين الأجانب ليعتنوا بمنزله اللعين الضخم ذي المزرعة، وينظفونه إن أسلس البول. لن يضطر للمشاركة في الراحة الأبدية.» «لقد جاء للمجلس بالانتخاب. جميعهم جاءوا بالانتخاب.» «من انتخبهم؟ هل أدليت بصوتك؟ لا أحد يبالي. ارتاح الناس لمجرد أنهم وجدوا من يقوم بذلك العمل. أنت تعلم كيف تسير تلك الأمور. لا يعين رئيس المجلس المحلي إلا بموافقة مجلس المقاطعة، الذي يحتاج بدوره إلى موافقة المجلس الإقليمي. الذي يجب أن يوافق عليه مجلس إنجلترا. يفرض الحاكم سيطرته على النظام من أوله إلى آخره، لا بد أنك تعلم ذلك. ويفرض سيطرته عليه كذلك في اسكتلندا وويلز. كلتا الدولتين لهما حاكم منفصل، لكن من يعينه؟ بوسع زان ليبيات أن يطلق على نفسه لقب حاكم بريطانيا العظمى لولا أن ذلك اللقب ليس له نفس الوقع الرومانسي على نفسه.»
خطر على بال ثيو أن تلك ملاحظة تنم عن بصيرة ثاقبة. استحضر إلى ذهنه حديثا قديما مع زان. «لا أظن أن لقب رئيس الوزراء سيكون مناسبا. فأنا لا أريد أن أستولي على لقب شخص آخر، بخاصة إن كان لقبا له وزن في كفة التقاليد والالتزامات. فقد ينتظر مني أن أجري انتخابات كل خمسة أعوام. ولا لقب «اللورد الحامي» كذلك؛ فآخر شخص حمل ذلك اللقب لم يحقق نجاحا باهرا. سيكون لقب «الحاكم» مناسبا جدا. لكن هل هو لقب «حاكم بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية»؟ ليس له الوقع الرومانسي الذي أنشده.»
قالت جوليان: «لن نصل إلى شيء مع المجلس المحلي. أنت مواطن تعيش في أكسفورد مثلك مثل الجميع. وأنت حتما تطلع على الأمور التي ينشرونها بعد الاجتماعات بخصوص الأمور التي يناقشونها. صيانة ملاعب الجولف والبولينج. وما إذا كانت مرافق مبنى النادي كافية. وقرارات بشأن توزيع فرص العمل، وشكاوى حصص الوقود، والطلبات المقدمة للحصول على عامل وافد. وتجارب الأداء لجوقة الهواة المحلية. وإذا ما كان عدد الذين يطلبون دروس العزف على الكمان يستدعي أن يعين المجلس مدربا محترفا بدوام كامل. أحيانا يناقشون حتى تأمين الشرطة للشوارع الذي لم يعد ضروريا الآن بعد أن أصبح خطر الترحيل إلى مستعمرة مان العقابية يتهدد اللصوص الذين ينوون السرقة.»
قال لوك برفق: «الحماية والراحة والمتعة. لا بد أنه يوجد ما هو أكثر من ذلك.» «تلك هي الأمور التي يأبه لها الناس ويحتاجونها. فما الذي يمكن أن يقدمه المجلس أكثر من ذلك.» «الرحمة والعدل والحب.» «لم تعن أي دولة من قبل بالحب، ولا يمكن أن تعنى به يوما.»
قالت جوليان: «لكن يمكن أن تعنى الدولة بالعدل.»
قال رولف وقد نفد صبره: «الرحمة والعدل والحب. إنها مجرد كلمات. ما نتحدث عنه هو السلطة. الحاكم ديكتاتور يلبس رداء القائد الديموقراطي. يجب أن يحمله أحد على الاستجابة لإرادة الشعب.»
قال ثيو: «إرادة الشعب. تلك عبارة لها وقع حسن. لكن يبدو في الوقت الحالي أن إرادة الشعب تتلخص في الحماية والراحة والمتعة.» ثم قال في نفسه: أعرف ما يضايقك؛ أن زان يتمتع بتلك السلطة، وليس الطريقة التي يمارسها بها. لم يكن ثمة وجود لأي ترابط فعلي بين أفراد تلك الجماعة الصغيرة وتوقع عدم وجود أي غاية مشتركة بينهم. فما كان يحرك جاسكوين هو السخط من استئثار الحاكم بفرقة حرس الجرينادير، أما ميريام فقد كان يحركها دافع لم يتضح له بعد، أما جوليان ولوك فقد كانا مدفوعين بالمثالية الدينية، وأما ما كان يحرك رولف فهو الغيرة والطموح. كونه أستاذ تاريخ كان بإمكانه أن يسمي عدة نظراء تاريخيين لهم.
قالت جوليان: «أخبريه عما حدث لأخيك يا ميريام. أخبريه عن هنري. لكن دعونا نجلس قبل أن تبدئي.»
جلسوا على أحد مقاعد الكنيسة الخشبية وقد انحنوا إلى الأمام محاولين الاستماع لصوت ميريام الخافت، فبدوا لثيو كمجموعة من المصلين المكرهين غير المنسجمين. «رحل هنري إلى الجزيرة منذ ثمانية عشر شهرا بتهمة السرقة باستخدام العنف. لم يكن عنفا شديدا، أو عنفا فعليا. فقد سرق أوميجية ودفعها أرضا. كانت مجرد دفعة بسيطة لكنها سقطت على الأرض، وادعت في المحكمة أن هنري ركلها في ضلوعها بينما كانت ممددة على الأرض. وهذا لم يحدث. أنا لا أزعم أن هنري لم يدفعها. لقد كان مصدرا للحزن والمشكلات منذ طفولته. لكنه لم يركل تلك الأوميجية عندما سقطت أرضا. بل انتشل حقيبة يدها ودفعها ثم فر هاربا. حدث ذلك في لندن قبل منتصف الليل بقليل. ركض حتى انعطف عند ناصية شارع لادبروك جروف وهناك وقع في قبضة رجال شرطة الأمن الوطني. لقد كان حظه عاثرا طوال حياته.» «هل حضرت المحاكمة؟» «حضرتها أنا وأمي. فقد توفي أبي منذ عامين. وكلنا محاميا لهنري - ودفعنا له المال أيضا - لكنه لم يهتم حقا بالقضية. أخذ مالنا ولم يفعل شيئا لمساعدتنا. كان بوسعنا أن نرى أنه وافق الادعاء في قراره بنفي هنري للجزيرة. أيا كان الأمر، فقد سرق أوميجية. وهذا يحتسب ضده. ثم إنه أسود البشرة.»
قال رولف بنفاد صبر: «لا تخوضي في هرائك عن التمييز العنصري. فقد كان دفعه للفتاة هو ما جعله ينال تلك العقوبة لا لون بشرته. لا يرسل المرء إلى مستعمرة العقاب إلا إذا ارتكب جريمة تنطوي على عنف مع من سرقه أو إذا أدين للمرة الثانية بجريمة سطو. لم يدن هنري بأي جرائم سطو لكنه أدين بجريمتي سرقة.»
قالت ميريام: «سرقة سلع من متاجر. لم يكن أمرا سيئا للغاية. سرق وشاحا كي يهديه إلى أمي في عيد ميلادها ولوح شوكولاتة. لكنه كان طفلا حينها. بربك يا رولف، لقد كان في الثانية عشرة من عمره! كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما.»
قال ثيو: «إن كان قد أسقط المعتدى عليها أرضا، فسيكون قد ارتكب جريمة عنف سواء ركلها أم لا.» «لكنه لم يركلها. لقد دفعها جانبا فسقطت. لم يفعل ذلك عمدا.» «لا بد أن هيئة المحلفين لم توافقك الرأي.» «لم يكن ثمة وجود لهيئة محلفين. أنت تعرف مدى صعوبة حمل الناس على أداء الخدمة في الهيئة. فهم ليسوا مهتمين. ولن يكلفوا أنفسهم العناء. حوكم وفق النظام الجديد، في حضور قاض وقاضيين جزئيين. لديهم السلطة لنفي الناس للجزيرة. ويكون قرار النفي ساريا مدى الحياة. لا يوجد أي تخفيف للحكم، ولا سبيل للخروج لمن يحكم عليه. حكم عليه بالنفي مدى الحياة بسبب دفعة غير متعمدة. تسبب ذلك في وفاة والدتي. فقد كان هنري ابنها الوحيد وكانت تعرف أنها لن تراه قط. انسحبت من الحياة بعدها. لكنني سعيدة لوفاتها. فعلى الأقل ماتت دون أن تعرف أسوأ ما ألم به.»
ثم نظرت إلى ثيو وقالت ببساطة: «لكني عرفت. فقد عاد إلى البيت.» «أتعنين أنه هرب من الجزيرة؟ كنت أظن ذلك مستحيلا.» «لقد فعله هنري. عثر على قارب صغير معطوب أغفلته قوات الأمن أثناء تجهيزها الجزيرة لاستقبال المدانين. كانوا يحرقون أي قارب لم تكن حالته تستحق أخذه، لكن أحدها خبئ أو ترك سهوا، أو ربما اعتبروه متضررا للغاية ولم يعد صالحا للاستخدام. كان هنري دائما ماهرا بالأعمال اليدوية. أصلحه سرا وصنع له مجدافين. ومنذ أربعة أسابيع، في الثالث من يناير، انتظر حتى حلول الظلام وأبحر به.» «كان ذلك عين التهور.» «كلا، بل كان عين العقل. كان يعرف أنه ليس أمامه إلا النجاح في العودة أو الغرق، والغرق كان خيرا له من البقاء على تلك الجزيرة. وبالفعل عاد إلى البيت، لقد عاد. أنا أسكن؛ لا يهم أين أسكن. أسكن كوخا على أطراف قرية. وصل بعد منتصف الليل. كنت قد أمضيت يوما مرهقا في العمل، وكنت أنوي الخلود إلى النوم مبكرا. كنت متعبة لكن قلقة؛ لذا أعددت لنفسي قدحا من الشاي عندما وصلت للمنزل ثم غفوت وأنا جالسة على كرسي. لم أنم لأكثر من عشرين دقيقة لكني عندما استيقظت، وجدت أنني لم أكن جاهزة للذهاب إلى سريري. تعرف ذلك الشعور. تكون قد وصلت إلى مرحلة تفوق التعب. ويصبح حتى تبديل ثيابك أمرا يفوق قدرتك.
كانت ليلة حالكة الظلمة، لا ترى فيها النجوم، وكانت الرياح تشتد. عادة أحب صوت الرياح عندما أكون دافئة في بيتي ، لكن تلك الليلة كان وقع صوتها مختلفا على أذني، لم يكن مطمئنا، بل كان ينتحب ويهس بينما يمر في المدخنة، كان مرعبا. خيم على نفسي الاكتئاب، ذلك الكلب الأسود الجاثم على عاتقي، وأنا أفكر في وفاة أمي وهنري الذي لن أراه ثانية. فكرت أنه من الأفضل أن أزيح عن نفسي ذلك الشعور وأذهب إلى سريري. حينها سمعت طرقا على الباب. يوجد جرس لكنه لم يستعمله. بل طرقه بمقرعة الباب مرتين، كان طرقا خفيفا لكني سمعته. نظرت عبر وصواص الباب فلم أر سوى الظلام. كان ذلك بعد منتصف الليل وتساءلت من الذي جاء لزيارتي في ذلك الوقت المتأخر. لكني وضعت سلسلة الباب وفتحته. كان ثمة شخص داكن متكوم بجوار الحائط. بالكاد استطاع طرق الباب مرتين قبل أن تخور قواه ويسقط مغشيا عليه. سحبته إلى الداخل وساعدته على استعادة وعيه. وأعطيته القليل من الحساء والبراندي وبعد ساعة صار يقوى على الحديث. كان يتوق كثيرا للحديث، فضممته بين ذراعي وتركته يتكلم.»
سأل ثيو: «كيف كانت حالته؟»
كان رولف هو من أجاب: «كان متسخا، نتن الرائحة ونحيفا للغاية. فقد جاء من ساحل كمبيريا سيرا على الأقدام.»
تابعت ميريام قائلة: «حممته وضمدت قدميه وتمكنت من أن أضعه في السرير. كان مرتعبا من النوم وحده؛ لذا استلقيت بجواره بكامل ثيابي. لم أستطع النوم. حينها بدأ يتكلم. تكلم لأكثر من ساعة. ظللت خلالها صامتة. فقط ضممته وأنصت له. ثم صمت أخيرا فعرفت أنه نام. ظللت مستلقية بجواره أضمه وأستمع إلى صوت تنفسه وتمتماته. كان أحيانا يتأوه ثم ينتفض فجأة ويهب جالسا، لكني كنت أهدئه كما لو كان طفلا رضيعا وكان يعود للنوم مرة أخرى. استلقيت بجواره وانتحبت في صمت من بشاعة الأمور التي أخبرني بها. لكني شعرت بالغضب أيضا. كان الغضب جمرة ملتهبة تحرق صدري.
تلك الجزيرة بمثابة جحيم على الأرض. تقريبا جميع من وصل إليها وفي داخله شيء من الإنسانية مات، ولم يبق عليها إلا الشياطين. سكانها يتضورون جوعا. أعرف أن لديهم البذور والحبوب والآلات، لكن معظمهم مجرمون عاشوا في المدن ولم يألفوا الزراعة ولا الأعمال اليدوية. والآن نفد مخزونهم من الأكل، وجردت الحدائق والحقول من زروعها. وعندما يموت الناس، يأكلون بعضهم أيضا. أقسم لك إن ذلك حدث. يدير الجزيرة عصابة من أقوى المساجين. يتلذذون بالعنف، وعلى جزيرة مان لديهم حرية ممارسة الضرب والتعذيب والتبريح ولا يوجد من يمنعهم أو يراقبهم. أولئك الرفقاء اللطفاء، الذين لا ينبغي أن يكونوا هناك، لا يصمدون كثيرا. بعض النساء هن الأسوأ بينهم. أخبرني هنري أمورا لن أستطيع تكرارها على لساني ولا محوها من ذاكرتي.
وفي صباح اليوم التالي أتوا لأخذه. لم يقتحموا المنزل أو يحدثوا جلبة كبيرة. بل حاصروا الكوخ بهدوء وطرقوا الباب.»
سأل ثيو: «من كانوا؟» «ستة جنود من فرقة حرس الجرينادير وستة رجال من شرطة الأمن الوطني. أرسلوا اثني عشر رجلا من أجل رجل واحد أعياه التعب والإرهاق. كان رجال شرطة الأمن الوطني هم الأسوأ. أظنهم كانوا من الأوميجيين. لم ينطقوا بكلمة لي في بادئ الأمر، بل صعدوا إلى الأعلى وجرجروه لأسفل. ما إن وقعت عينه عليهم حتى صرخ صرخة شديدة. لن تنمحي تلك الصرخة من ذاكرتي قط ما حييت. قط ... ثم التفتوا إلي، لكن ضابطا من فرقة حرس الجرينادير طلب أن أخبرهم أن يتركوني وشأني. قال: «إنها أخته، من الطبيعي أن يأتي إليها. ولم تملك خيارا إلا مساعدته».»
قالت جوليان: «ظننا بعدها أنه لا بد أن له أختا أو شخصا يعلم أنه لن يخذله قط، وسيكون دائما في ظهره.»
قال رولف بنفاد صبر: «أو ربما كان يظن أن بإمكانه أن يتصرف بشيء من الإنسانية ثم يطلب مقابلا لذلك من ميريام بطريقة أو بأخرى.»
هزت ميريام رأسها نفيا وقالت: «لا، لم يكن الأمر كذلك. كان يحاول أن يتصرف بلطف. سألته ماذا سيحدث لهنري فلم يجب. لكن أحد رجال شرطة الأمن الوطني أجابني قائلا: «ماذا تتوقعين؟ لكن لا تقلقي، سنرسل إليك رفاته.» أخبرني قائده أنهم كان بإمكانهم اعتقاله منذ أن رسا قاربه على الساحل لكنهم تبعوه طوال الطريق من كمبيريا إلى أكسفورد، من ناحية كي يعرفوا إلى أين سيتوجه، على ما أظن، وأحسبهم أيضا كانوا يريدون الانتظار حتى يشعر بالأمان قبل أن يعتقلوه.»
قال رولف بغضب مرير: «ذلك التفنن في القسوة هو ما يجعلهم يشعرون بالنشوة.» «بعد أسبوع، وصل الطرد. كان ثقيلا كرطلين من السكر، وله نفس مظهره، ملفوف بورق بني وعليه بطاقة مطبوعة. بداخله كان يوجد كيس بلاستيكي مملوء بحبيبات بيضاء خشنة. بدت كسماد الحدائق، لم أر فيها أي شيء من هنري. كان عليه ملاحظة مطبوعة دون توقيع. «قتل أثناء محاولته الهرب.» هذا كل شيء. حفرت حفرة في الحديقة. أذكر أن السماء كانت تمطر حينها وعندما صببت الحبيبات البيضاء في الحفرة شعرت وكأن الحديقة بأكملها تبكيه. لكنني لم أبك. فقد انتهت معاناة هنري. أي شيء كان خيرا له من أن يعود إلى تلك الجزيرة.»
قال رولف: «لم يكن إعادته إليها خيارا مطروحا بالطبع. فما كانوا سيريدون أن يعلم أحد أن الهروب ممكن. وهو لم يعد ممكنا بعد الآن. فسيبدءون بنشر دوريات الحراسة على الساحل.»
وضعت جوليان يدها على ذراع ثيو ونظرت إلى عينيه مباشرة قائلة: «لا يصح أن يعاملوا البشر بتلك الطريقة. أيا كانت الجريمة التي ارتكبوها، أو أيا من كانوا، يجب ألا يعامل الناس بتلك الطريقة. يجب أن نضع حدا لذلك.»
قال ثيو: «يوجد شرور اجتماعية لكنها لا تقارن ببشاعة ما يحدث في أماكن أخرى من العالم. السؤال هو ما الثمن الذي يجب على الدولة أن تدفعه مقابل أن تحظى بحكومة رشيدة.»
سألته جوليان: «ما الذي تعنيه بحكومة رشيدة؟» «أعني حفظ النظام العام، وغياب الفساد في المناصب العليا، والأمن من الحروب والجريمة، وتوزيع عادل بقدر معقول للثروات والموارد، والحرص على حياة الأفراد.»
قال لوك: «إذن ليس لدينا حكومة رشيدة.» «قد تكون تلك هي أفضل حكومة يمكن أن نحظى بها في ظل الظروف الحالية. كان يوجد دعم واسع من الرأي العام لإقامة مستعمرة مان العقابية. لا يمكن لأي حكومة أن تتصرف بما يخالف إرادة الشعب الأخلاقية.»
قالت جوليان : «إذن علينا أن نغير الإرادة الأخلاقية. علينا أن نغير الناس.»
ضحك ثيو وقال: «أهذا هو نوع الثورة التي تفكرون في القيام بها إذن؟ ليس على النظام بل على قلوب البشر وعقولهم؟ ستكونون أخطر ثوار على الإطلاق إن كنتم تملكون أدنى فكرة عن كيفية بدء ثورتكم تلك، أو إن كان لديكم أي فرصة للنجاح.»
سألته جوليان كما لو كانت مهتمة حقا بالإجابة: «كيف كنت أنت ستبدؤها؟» «ما كنت سأبدؤها من الأصل. فالتاريخ يخبرني بما حدث لأولئك الذين فعلوا. أنت تعلقين تذكارا لذلك في تلك السلسلة التي تضعينها حول عنقك.»
رفعت يدها المشوهة ولمست لمسة سريعة الصليب الذي بدا كتميمة ضئيلة وهشة للغاية بجوار يدها المتورمة.
قال رولف: «سيجد المرء دائما أعذارا للوقوف مكتوف اليدين. الحقيقة هي أن الحاكم يحكم إنجلترا وكأنها إقطاعيته الخاصة. إن فرقة حرس الجرينادير هي جيشه الخاص ورجال شرطة الأمن الوطني هم جواسيسه وجلادوه.» «أنتم لا تملكون دليلا على ذلك.» «من قتل شقيق ميريام؟ أكان ذلك حكم إعدام صدر بعد محاكمة عادلة، أم جريمة قتل ارتكبت في السر؟ ما نريده هو ديموقراطية فعلية.» «تكون أنت رئيسها؟» «سأدير الأمور بطريقة أفضل.» «أتصور أن ذلك بالضبط ما دار بذهنه عندما تولى السلطة من رئيس الوزراء الأخير.»
قالت جوليان: «إذن، فلن تتحدث إلى الحاكم؟»
قاطعها رولف قائلا: «بالطبع لن يتحدث إليه. لم يكن ينوي ذلك من الأساس. كان إحضاره إلى هنا مضيعة للوقت. كان تصرفا عديم الجدوى وغبيا وخطيرا.»
قال ثيو بهدوء: «أنا لم أقل إني لن أقابله. لكن يجب أن أذهب إليه بشيء أكثر من مجرد أقاويل، وخاصة لأنه ليس بإمكاني أن أخبره كيف ومن أين حصلت على معلوماتي. قبل أن أبلغكم بقراري، أريد أن أشهد أحد فعاليات الراحة الأبدية. متى ستقام الفعالية القادمة؟ هل يعلم أحد منكم موعدها؟»
كانت جوليان هي من أجابت. «لم يعودوا يعلنون عن تلك الفعاليات، لكن بالطبع تنتشر الأنباء قبلها. ستقام إحدى فعاليات الراحة الأبدية المخصصة للإناث في ساوثولد يوم الأربعاء القادم، في غضون ثلاثة أيام. قبالة رصيف الميناء، شمال البلدة. هل تعرف البلدة؟ هي تقع على بعد ثمانية أميال جنوب لويستوفت.» «هذا ليس مكانا ملائما.»
قال رولف: «قد لا يكون ملائما بالنسبة لك، لكنه كذلك بالنسبة لهم. فلا يمر خط سكة حديدية من هناك؛ لذا لن يكون هناك حشود، والطريق بالسيارة طويل لدرجة تجعل الناس يتساءلون إن كان توديع جداتهم المرتديات القمصان البيضاء على أنغام ترنيمة «امكث معي» يستحق الوقود المستهلك في الرحلة. كما أنه يوجد طريق واحد فقط يؤدي إلى هناك. بذلك يستطيعون التحكم بأعداد الحاضرين ومراقبتهم. وإن حدثت مشكلة، يكون بإمكانهم تحديد المتسببين بها.»
سألته جوليان: «كم من الوقت يتعين علينا أن ننتظر قبل أن نتلقى منك ردا؟» «سأقرر إذن ما إن كنت سأقابل الحاكم أم لا بعد حضوري فعالية الراحة الأبدية مباشرة. ثم سيكون من الأفضل الانتظار لأسبوع قبل ترتيب لقاء.»
قال رولف: «لتنتظر أسبوعين. إن قابلت الحاكم، فقد يضعونك تحت المراقبة.»
سألته جوليان: «كيف سنعرف إن وافقت على مقابلته؟» «سوف أترك رسالة بعد أن أشهد فعالية الراحة الأبدية. هل تعرفون متحف نماذج الجص في بوسي لين؟»
قال رولف: «لا.»
قال لوك بحماس: «أنا أعرفه. إنه جزء من متحف أشموليان، معرض لنماذج من الجص ونسخ من الرخام من تماثيل إغريقية ورومانية. كانوا يصطحبوننا إليه أثناء حصص الفنون في المدرسة. لم أذهب إليه منذ سنوات. لم أكن أعرف حتى إن متحف أشموليان يبقيه مفتوحا.»
قال ثيو: «لا يوجد ما يستدعي إغلاقه. فهو لا يتطلب إشرافا دقيقا. يدخله عدد قليل من الطلبة المسنين من حين لآخر. ساعات العمل مكتوبة على اللوحة المعلقة خارجه.»
قال رولف بارتياب: «لماذا هناك بالتحديد؟» «لأني أحب زيارته من آن لآخر، والمشرف معتاد على رؤيتي هناك. ولأن به عدة أماكن للاختباء يسهل الوصول إليها. والأهم من ذلك أنه يناسبني. فلا شيء آخر يناسبني في تلك المغامرة.»
قال لوك: «أين بالتحديد ستترك الرسالة؟» «في الطابق الأول، الحائط الأيمن، تحت تمثال رأس ديادومينوس. هو مدرج في فهرس المعروضات برقم «سي 38» وستجدون ذلك مكتوبا تحت التمثال. إن لم تستطيعوا تذكر الاسم، فستتذكرون الرقم على الأرجح. إن لم يكن بإمكانكم تذكر الرقم، إذن دونوه.»
قالت جوليان: «هذا عمر لوك، سيسهل ذلك تذكره. هل سنحتاج لرفع التمثال؟» «هو ليس تمثالا كاملا، بل مجرد رأس، ولن تحتاجوا إلى لمسه حتى. يوجد فجوة ضيقة للغاية بين قاعدته وحامله. هناك سأترك إجابتي على بطاقة. لن يكون بها ما يدين. مجرد «نعم» أو «لا». بإمكانكم الحصول على تلك الإجابة عبر الهاتف، لكنكم بلا شك تعتقدون أن ذلك لن يكون تصرفا حكيما.»
قال رولف: «نحن نحاول ألا نستعمل الهاتف قط. مع أننا لم نبدأ نشاطنا بعد، نتخذ الاحتياطات العادية؛ فالجميع يعرف أن خطوط الهاتف مراقبة.»
سألته جوليان: «وإن كانت إجابتك «نعم»، ووافق الحاكم على مقابلتك، متى ستبلغنا بما قاله، وبما وعد بالقيام به؟»
تدخل رولف قائلا: «من الأفضل تأجيل ذلك لأسبوعين على الأقل. أبلغني بها يوم الأربعاء، بعد فعالية الراحة الأبدية بأربعة عشرة يوما. سأقابلك سيرا على الأقدام في أي مكان في أكسفورد. من الأفضل أن يكون مكانا مفتوحا.»
قال ثيو: «الأماكن المفتوحة يسهل مراقبتها بواسطة منظار مقرب. سيلفت شخصان، يجتمعان علنا في وسط متنزه أو مرجة أو ساحة جامعية، الأنظار حتما. إن اللقاء في بناية عامة أكثر أمنا. سأقابل جوليان في متحف بيت ريفرز.»
قال رولف: «يبدو أنك مولع بالمتاحف.» «ميزتها أنها أماكن يحق للناس التسكع بها.»
قال رولف: «إذن سأقابلك الساعة الثانية عشرة في متحف بيت ريفرز.» «ليس أنت، بل جوليان. فقد استخدمت جوليان كي تتواصل معي في المرة الأولى. وجوليان هي السبب في مجيئي إلى هنا اليوم. سأكون في متحف بيت ريفرز ظهيرة يوم الأربعاء الذي يلي الراحة الأبدية بأسبوعين، وأتوقع أن تأتي جوليان وحدها.»
كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة عندما تركهم ثيو في الكنيسة. وقف لبرهة في الرواق، ونظر إلى ساعته ثم تطلع إلى المقبرة المهملة. تمنى لو أنه لم يأت، ولم يتورط بتلك المغامرة المحرجة التي لا طائل منها. تأثر بقصة ميريام أكثر مما أبدى. وتمنى لو أنه لم يسمعها. ما الذي يتوقع منه أن يفعله، هو أو غيره؟ لكن كان الأوان قد فات. لم يعتقد أن ثمة أي خطر يحيق بتلك الجماعة. كانت بعض مخاوفهم أقرب إلى الارتياب. وكان يأمل في أن يعفى مؤقتا من المسئولية، وألا تعقد أي من فعاليات راحة الموت لشهور. سيكون الأربعاء يوما سيئا بالنسبة له. وسيترتب عليه أن يعيد ترتيب جدول مواعيده في وقت قصير. لم يكن قد رأى زان منذ ثلاث سنوات. وإن التقيا مرة أخرى، فسيكون من المهين وغير المقبول له أن يجد نفسه في موضع السائل المتوسل. كان متضايقا من نفسه مثلما كان متضايقا من الجماعة. قد يمقتهم لكونهم جماعة من الهواة الناقمين على السلطة، لكنهم مع ذلك فاقوه دهاء، وأرسلوا العضوة الوحيدة من بينهم التي عرفوا أنه سيصعب عليه رفض طلبها. لماذا وجد صعوبة في ذلك؟ كان ذلك سؤالا لم يشأ أن يبحث له عن إجابة في الوقت الحالي. سوف يذهب إلى فعالية الراحة الأبدية كما وعدهم ثم يترك لهم رسالة في متحف تماثيل الجص. كان يأمل أن تحوي الرسالة كلمة واحدة مبررة هي «لا».
كانت جماعة المعمودية تتقدم في الممر، يقودها الرجل العجوز، الذي كان الآن يرتدى دثارا، مطلقا صيحات تشجيع قصيرة. كان هناك سيدتان في مرحلة الكهولة ورجلان يكبراهما سنا، وارتدى الرجلان حلتين أنيقتين زرقاوين، بينما ارتدت السيدتان قبعتين مزينتين بالورود لا تلائمان معطفيهما الشتوي. وحملت كل منهما باقة بيضاء ملفوفة في وشاح تدلت من تحته ثنيات رداء التعميد المزين بالدانتيل. حاول ثيو تجاوزهم، مشيحا بنظره عنهم بكياسة، لكن السيدتين وقفتا أمامه تسدان طريقه تقريبا، وعلى وجهيهما ابتسامة خرقاء لا معنى لها، ودفعتا بباقتيهما إليه، داعيتيه لإبداء إعجابه. كان مظهر القطيطتين، اللتين انفردت أذناهما تحت القلنسوتين المربوطتين بشرائط، سخيفا ومحببا في آن واحد. بدت عيناهما البلهاوان المتسعتان على آخرهما، كدائرتين بلون الأوبال، ولم يبد عليهما القلق من تقييد حركتهما. تساءل إذا ما كانتا قد خدرتا، ثم ما لبث أن استقر إلى أنهما على الأرجح يمسكان ويملسان ويحملان كالأطفال الرضع منذ ولادتهما وقد تعودتا على ذلك. تساءل أيضا إذا ما كان القس قد رسم بصفة شرعية أم كان منتحلا تلك الصفة؛ وقد كان يوجد الكثير من أولئك المنتحلين، فالطقس الذي يمارسه لا يعد طقسا أرثوذكسيا. كانت كنيسة إنجلترا، التي لم يعد لها مذهب موحد أو طقوس دينية موحدة، ممزقة لدرجة أنه لا يوجد سبيل لمعرفة الأمور التي لم تعد بعض الطوائف تؤمن بها، لكنه كان يشك في أن أيا منها كان يشجع تعميد الحيوانات. كان يظن أن رئيسة الأساقفة الجديدة، التي تصف نفسها بأنها مسيحية عقلانية، ربما كانت ستمنع تعميد الأطفال على أساس كونه خرافة، لو كان تعميد الأطفال لا يزال ممكنا. لكن كان يصعب عليها التحكم فيما يحدث داخل كل كنيسة زائدة عن الحاجة. على الأرجح لن ترحب القطيطتان بصب الماء البارد فوق رأسيهما، لكن من غير المتوقع أن يعترض أحد آخر. كانت تلك التمثيلية نهاية ملائمة لنهار مليء بالحماقات. انطلق يسير بسرعة تجاه ذلك المنزل الخاوي غير المنتهك الذي يدعوه بيته ناشدا سلامة العقل.
الفصل التاسع
صباح يوم فعالية الراحة الأبدية، استيقظ ثيو شاعرا بضيق، ليس قويا كفاية كي يعتبره قلقا، بل كان اكتئابا خفيفا باهتا، مثل بقايا حلم بغيض لا يذكره. وحتى قبل أن يمد يده إلى مفتاح الإضاءة، كان يعرف ما يحمله له اليوم في جعبته. اعتاد طوال حياته أن يدبر ملذات بسيطة يخفف بها من وطأة الواجبات المكدرة. عادة كان من شأنه أن يبدأ الآن بتخطيط طريقه بعناية؛ ليمر بحانة جيدة يتناول فيها وجبة غداء مبكرة، وكنيسة مشوقة يزورها، وربما ينحرف عن طريقه ليتأمل قرية خلابة. لكن لا شيء يمكنه أن يخفف من وطأة رحلة الموت هو وجهتها وغايتها. كان من الأفضل أن يصل إلى وجهته بأسرع ما يمكن، ويشاهد ما وعد بمشاهدته، ثم يعود إلى بيته، ويخبر جوليان أنه ليس بيده ولا بيد الجماعة شيء، ثم يحاول محو تلك التجربة الثقيلة على نفسه، التي لم يشأ خوضها، بأكملها من ذهنه. كان ذلك يعني أنه لن يسلك الطريق المشوق الذي يمر ببدفورد، كامبريدج، وبلدة ستاوماركت، بل سيسلك الطريق السريع «إم 40» حتى طريق «إم 25» ثم يسلك طريق «إيه 12» باتجاه الشمال الشرقي حتى ساحل سافولك. فذلك الطريق سيكون أسرع وإن لم يكن مباشرا أو مشوقا، لكنه لم يتوقع أن تكون رحلته بالسيارة ممتعة.
لكنه قطع مسافة جيدة. كان حال الطريق «إيه 12» أفضل بكثير مما توقع نظرا لأن موانئ الساحل الشرقي قد صارت شبه مهجورة. قطع المسافة في زمن ممتاز، فقد وصل إلى الخور في بلايثبرو قبل الساعة الثانية بقليل. كان المد آخذا في الانحسار، لكن وراء البوص والسهل الساحلي، كان الماء يمتد كوشاح حريري، وكان ضوء شمس العصر الباكر المتقلب الذهبي ينعكس في نوافذ كنيسة بلايثبرو.
مر ثمان وعشرون عاما على آخر زيارة له لذلك المكان. حينها كان يقضي هو وهيلينا عطلة نهاية الأسبوع في فندق «ذا سوان» في سوثولد عندما كان عمر ناتالي ستة أشهر. كانت قدرتهما المالية في ذلك الوقت لا تسمح باقتناء ما هو أفضل من سيارة فورد مستعملة. ربط مهد ناتالي جيدا في مقعدها الخلفي، وملئ صندوق أمتعتها بلوازم الرضيعة؛ حزم كبيرة من الحفاظات للاستعمال الواحد، وأدوات تعقيم زجاجات الرضاعة، وعلب من طعام الرضع. عندما وصلوا إلى بلايثبرو، بدأت ناتالي تبكي وقالت هيلينا إنها جائعة ويجب أن تطعمها الآن دون الانتظار حتى الوصول إلى الفندق. اقترحت أن يتوقفا عند نزل «وايت هارت» في بلايثبرو. فلا بد أن صاحب النزل سيكون لديه ما يلزم لتدفئة الحليب. كما يمكنهما أن يتناولا الغداء في الحانة بينما ترضع ناتالي. لكنه رأى أن موقف السيارات كان مكتظا، وكان يكره المتاعب والعناء الذي قد يتسبب به وجود الطفلة ومطالب هيلينا. قوبل إصراره على التصبر لبضعة أميال أخرى حتى يصلوا إلى ساوثولد بتذمر. بالكاد لمحت هيلينا، التي كانت تحاول تهدئة الطفلة دون جدوى، صفحة النهر المتلألئة، والكنيسة الضخمة التي بدت كسفينة ملكية راسية وسط البوص. كانت عطلة نهاية الأسبوع قد بدأت بالكدر المعتاد واستمرت بمحاولته كبت مزاجه الحاد. كان ذلك بالطبع خطأه. فقد آثر إيذاء مشاعر زوجته وحرمان طفلته على تحمل عناء دخول حانة مكتظة بالغرباء. تمنى لو كان يملك ذكرى واحدة لطفلته المتوفاة لا يلوثها الشعور بالذنب والندم.
قرر بدون تفكير أن يتناول غداءه في تلك الحانة. اليوم كانت سيارته هي السيارة الوحيدة المركونة في موقفها. وداخل الغرفة ذات دعامات السقف الخشبية المنخفضة، حلت مدفأة كهربائية ذات أنبوبي تسخين محل أرض الموقد السوداء الذي كانت تشع منه نيران الحطب التي كان يذكرها. كان الزبون الوحيد في الحانة. قدم له صاحب الحانة العجوز جعة محلية الصنع. كانت لذيذة، لكن الطعام الوحيد الذي كان متوفرا لديه كان الفطائر المخبوزة سلفا والتي سخنها الرجل في فرن الميكروويف. لم تكن تلك وجبة كافية لتهيئته للمحنة التي هو مقدم عليها.
سلك المنعطف، الذي كان يذكره، المؤدي إلى طريق سوثولد. بدا ريف سافولك المجدب والمقفر تحت سماء الشتاء دون تغيير، لكن الطريق نفسه كان قد تردى حاله، مما جعل الرحلة وعرة وخطرة كأنما يخوض سباق سيارات على الطرق الوعرة. ولكن عندما وصل إلى ضواحي رايدون، رأى جماعات صغيرة من العمال الوافدين ومشرفيهم يتجهزون، كما كان واضحا، لإصلاح الطريق. تطلعت إليه وجوههم الداكنة بينما كان يمر بجانبهم بحرص مبطئا سرعته. كان وجودهم مفاجئا له. فقد كان متأكدا من أن ساوثولد لم تحدد ضمن مراكز السكان المستقبلية المعتمدة. إذن لماذا يهم ضمان توفر مدخل آمن لها؟
مر بحاجز الرياح الذي صنعته أشجار مدرسة سانت فيلكس وأراضيها ومبانيها، التي كتب على لوحة كبيرة علقت على مدخلها أنها صارت الآن مركز حرف شرق سافولك. على الأرجح لم تكن أبوابها تفتح إلا في فصل الصيف أو عطلات نهاية الأسبوع، فلم ير أحدا يسير وسط مروجها الخضراء الواسعة غير المشذبة. ثم عبر جسر برايت ودلف إلى البلدة الصغيرة التي بدت بيوتها المطلية كأنها تعاني خدر التخمة. منذ ثلاثين عاما كان أغلب ساكنيها من المسنين؛ جنودا متقاعدين ينزهون كلابهم، وأزواجا متقاعدين بعيون بريئة متطلعة لوحتها الشمس، يسيرون على شاطئها وقد تأبط كل منهم ذراع زوجه. كان يسودها جو من الهدوء المنظم، سكنت فيه كل المخاوف. أما الآن فقد صارت شبه مهجورة. كان عجوزان يجلسان متجاورين على مقعد خارج فندق كراون يحدقان في الفضاء أمامهما، ويستندان بيديهما المتيبستين إلى عكازيهما.
قرر أن يوقف السيارة في باحة فندق ذا سوان ليحتسي فنجانا من القهوة قبل أن يتابع طريقه متجها إلى الشاطئ الشمالي، لكنه كان مغلقا. بينما كان يهم بركوب السيارة مرة أخرى، خرجت امرأة في مرحلة الكهولة، ترتدي مئزرا مزينا بنقشات الورود، من الباب الجانبي وأغلقته خلفها.
قال لها: «كنت آمل أن أحتسي فنجان قهوة. هل أغلق الفندق نهائيا؟»
كان وجهها محببا لكن ارتسمت عليه أمارات التوتر، وتلفتت حولها قبل أن تجيبه قائلة: «بل اليوم فقط يا سيدي. هي لفتة احترام. فاليوم تقام فعالية الراحة الأبدية كما تعلم، أو لعلك لم تكن تعلم.»
قال: «بل كنت أعلم.»
ورغبة منه في كسر أجواء العزلة التي كانت تخيم بشدة على المباني والشوارع، قال: «أتيت إلى هنا آخر مرة منذ ثلاثين عاما. لم يتغير المكان كثيرا.»
وضعت يدها على نافذة السيارة وقالت: «بل تغير يا سيدي، تغير. لكن لا يزال ذا سوان فندقا. لا يأتينا زبائن كثيرون بالطبع، فالناس الآن ينزحون من البلدة. فكما تعلم، تحدد موعد لإخلائها. فالحكومة لن تستطيع ضمان توفير الطاقة أو الخدمات في النهاية؛ لذا ينتقل سكانها إما إلى إبسويتش أو نورويتش.» تساءل بضيق، لم العجلة؟ فزان حتما يستطيع إمداد تلك البلدة بالخدمات لعشرين عاما أخرى.
في النهاية، أوقف سيارته في الساحة الخضراء الصغيرة في آخر شارع ترينيتي، وانطلق يسير في الطريق المؤدي إلى أعلى الجرف متجها إلى الرصيف البحري.
كان البحر الرمادي يتماوج ببطء تحت السماء ناصعة البياض، التي لا يشع إلا ضياء واهن من خط أفقها وكأن الشمس متقلبة الأطوار على وشك أن تشرق مرة أخرى من وراء السحب. علت مجموعات من السحب الرمادية والداكنة السحب الخفيفة الشفافة فبدت السماء مثل ستار نصف مرفوع. على مسافة ثلاثين قدما بالأسفل، كان يرى جوف الأمواج المزركشة التي كانت تعلو ثم لا تلبث أن تنحسر بإنهاك لا مناص منه، وكأنما أثقلتها الرمال والحصى. اعترى الصدأ سور الممر الشاطئي الذي كان يوما ما نظيفا وأبيض، وتكسرت أجزاء منه، وبدا كأن المنحدر المعشب بين الممشى وأكواخ الشاطئ لم يشذب منذ أعوام. فيما مضى كان سيرى في الأسفل صفا طويلا من الأكواخ الخشبية اللامعة ذات الأسماء المدللة السخيفة التي امتدت قبالة البحر كبيوت الدمى المطلية بألوان زاهية. أما الآن، فكان يتخلل الصف فراغات كأنها أسنان مفقودة في ثغر نخرت أسنانه، وما بقي منها كان متداعيا، تقشر طلاؤه، وربط دون تثبيت إلى أوتاد مغروسة على ضفة البحر، بانتظار أن تذروه العاصفة التالية. كان ارتفاع الحشائش الجافة من حوله يصل إلى الخصر، يتدلى منها قرون حبوب جفت، يحركها بعشوائية النسيم الذي لم يغب يوما عن ذلك الساحل الشرقي.
كان من الواضح أن السفينة لن تبحر من الرصيف البحري نفسه بل من مرفأ شيد بجواره خصيصى لذلك الغرض. كان بوسعه أن يرى من بعيد القاربين المنخفضي السطح، اللذين زين سطحاهما بأكاليل من الزهور، وعلى شفا الرصيف البحري المطل على المرفأ، رأى مجموعة صغيرة من الأشخاص يرتدي بعضهم، حسب ظنه، زيا موحدا. على مسافة ثمانين ياردة تقريبا أمامه، اقتربت ثلاث حافلات في الممشى. بينما كان يدنو منها، بدأ ركابها في النزول. نزلت أولا مجموعة صغيرة من أفراد فرقة موسيقية يرتدون سترات حمراء وسراويل سوداء. وقفوا في تجمع صغير غير منظم يتجاذبون أطراف الحديث، بينما انعكس ضوء الشمس متلألئا على آلاتهم النحاسية. صفع واحد منهم من يقف بجواره ممازحا إياه. ولبضع ثوان تظاهرا بأنهما يتعاركان، ثم ما لبثا أن سئما ذلك المزاح الخشن، فأوقدا سيجارتين ووقفا يتطلعان إلى البحر. بعدهم نزلت المسنات، اللواتي كان منهن القادرات على المشي دون مساعدة، ومنهن من كن يتكئن على الممرضات. فتحت حجيرة الأمتعة بأحد الحافلات وأخرج منها عدد من الكراسي المتحركة. وأخيرا، تلقت أوهن المسنات المساعدة على الخروج من الحافلة والجلوس على الكراسي المتحركة.
وقف ثيو على مسافة منهم يشاهد الطابور الهزيل من العجائز مقوسات الظهر وهن ينزلن بصعوبة المنحدر الذي يمر في منتصف الجرف، في طريقهن للأكواخ الشاطئية المشيدة على الممشى السفلي. فجأة فهم ما كان يحدث. كانوا يستخدمون الأكواخ كي تبدل فيها النساء المسنات ملابسهن ويرتدين أرديتهن البيضاء، تلك الأكواخ التي ظل صدى ضحكات الأطفال يتردد بين جدرانها لعقود طويلة، لكن أسماءها، التي لم يفكر فيها منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، وردت على ذهنه دون أن يستدعيها، تلك الأسماء السخيفة السعيدة التي كانت بمثابة احتفاء بالعطلات العائلية: «منزل بييت»، «بيت المحيط»، «كوخ نسيم البحر»، «كوخ السعادة». وقف متشبثا بسور الممشى أعلى الجرف، يراقب المشهد بينما تساعد الممرضات السيدات المسنات، اثنتين اثنتين، على صعود سلالم الأكواخ ودخولها. أثناء ذلك، وقف أفراد الفرقة الموسيقية يشاهدون لكن لم يتحرك منهم أحد. بعدها تشاوروا قليلا فيما بينهم، وأطفئوا سجائرهم، ثم حملوا آلاتهم الموسيقية ونزلوا الجرف، واصطفوا في صف ووقفوا منتظرين. كان السكون غامضا مخيفا. وراءه كان يقف صف من المنازل الفيكتورية المهدمة الخاوية، مثل نصب تذكاري بال شاهد على أيام سعيدة ولت. بالأسفل كان الشاطئ مهجورا، ولم يكسر الصمت إلا زعيق النوارس.
بعد ذلك بدأت السيدات العجائز في النزول من الأكواخ بمساعدة الممرضات ويصطففن في طابور. كان جميعهن يرتدين أردية بيضاء طويلة، ربما كانت أردية نوم، فوقها أوشحة وأردية خارجية صوفية فضفاضة، كانت ضرورية لتدفئتهم من الرياح الشديدة. كان ممتنا لدفء معطفه المصنوع من قماش التويد. كانت كل واحدة منهن تحمل باقة زهور صغيرة فبدون مثل مجموعة من وصيفات عروس شعثاوات الرءوس. وجد نفسه يتساءل عمن جهز الزهور وفتح الأكواخ، وترك أردية النوم المطوية لذلك الغرض. لا بد أن الحدث، الذي كان يبدو بأكمله عفويا وتلقائيا، قد جهز له بعناية. ولاحظ للمرة الأولى أن الأكواخ الواقعة في ذلك الجزء من الممشى السفلي قد أصلحت وطليت حديثا.
بدأت الفرقة بالعزف بينما تقدم الموكب ببطء في الممشى السفلي باتجاه الميناء. عندما دوى صوت آلات العزف كاسرا الصمت، اعتراه شعور بالغضب العارم والشفقة الشديدة. كانوا يعزفون ألحانا أغاني مبهجة، ألحانا من زمن جديه، أغاني عسكرية من الحرب العالمية الثانية لم يتذكر أسماءها في بادئ الأمر. ثم بدأت ذاكرته في استحضار بعض أسمائها: «الوداع يا بلاكبيرد»، و«أحد خطف حبيبتي»، و«في مكان ما فوق قوس قزح». عندما دنوا من الميناء، تبدلت الموسيقى وميزت أذناه ألحان ترنيمة «امكث معي». بعد أن عزفت ألحان المقطع الأول، وبدأت النغمة مرة أخرى، أتاه من أسفل صوت مواء متحسر يشبه صوت طيور البحر، ما لبث أن أدرك أنه صوت غناء النسوة العجائز. بينما كان يشاهد، بدأت بعض النسوة يتمايلن مع الموسيقى وهن يفردن أطراف أرديتهن البيضاء ويدرن حول أنفسهن بخطوات متعثرة. خطر لثيو أنهن ربما يكن قد خدرن.
تبعهم نحو الميناء مجاريا وتيرة آخر زوجين في الطابور. أصبح المشهد أسفل منه واضحا. كان يوجد حشد من حوالي عشرين شخصا فقط، ربما كان بعضهم من الأقارب والأصدقاء، لكن أغلبهم كانوا من أفراد شرطة الأمن الوطني. تبادر إلى ذهن ثيو أن القاربين الذاتيين المنخفضي السطح ربما كانا فيما سبق صندلين صغيرين لم يبق منهما سوى هيكليهما اللذين جهزا بصفوف من المقاعد. كان على متن كل قارب من القاربين جنديان، وبينما كانت النسوة يصعدن على متنهما واحدة تلو الأخرى، كانا ينحنيان إما لتصفيد كواحلهن أو لربطها بالأثقال. اتضحت له الخطة من الزورق البخاري الذي كان راسيا في الميناء نفسه. بمجرد أن تغيب السفينتان عن الأنظار، سيغرقهما الجنود ثم يصعدون على متن القارب البخاري ويعودون به إلى الشاطئ. كانت الفرقة الموسيقية على الشاطئ تعزف ألحان أغنية «نمرود» لإلجار. كان الغناء قد توقف فلم يصل إلى أذنيه إلا صوت تلاطم الأمواج المتتابعة على حصى الشاطئ أو بضعة أوامر عابرة لفظت بصوت منخفض حملتها له نسمات الهواء المخلخل.
قال في نفسه إنه رأى ما يكفي. لن يكون عليه حرج إن عاد إلى سيارته الآن. كان كل ما يريده هو أن يقودها بسرعة مبتعدا عن تلك البلدة الصغيرة التي لم ير منها إلا العجز والوهن، والخواء والموت. لكنه كان قد وعد جوليان بأنه سيشهد فعالية راحة الموت، ولا بد أن هذا يعني أن يبقى حتى يغيب القاربان عن الأنظار. وكأنما أراد تعزيز نيته؛ إذ سار نازلا الدرجات الإسمنتية من الممشى العلوي للشاطئ. لم يعترض أحد طريقه ليأمره بالمغادرة. لم يبد أن أحدا من جماعة الموظفين من ممرضات وجنود وحتى أفراد الفرقة الموسيقية قد لاحظ حتى وجوده، فقد كان كل منهم منشغلا بتأدية دوره في مراسم الموت تلك.
فجأة حدثت جلبة. أطلقت إحدى السيدات، اللواتي كن يسندن للصعود على متن السفينة الأقرب إليه، صرخة وبدأت تضرب بذراعيها بعنف. فاجأ فعلها الممرضة التي كانت تصاحبها، وقبل حتى أن تتحرك، قفزت المرأة من المرسى إلى البحر وصارعت الأمواج للوصول إلى الشاطئ. دون تفكير، خلع ثيو معطفه الثقيل وانطلق يعدو نحوها، وقدماه تخشفان فوق الحصى، شاعرا بلسعة برد مياه البحر التي أحاطت بكاحليه. عندما صار على بعد نحو عشرين ياردة فقط منها، رأى بوضوح شعرها الأشعث الأبيض ورداءها الذي التصق على جسدها، ونهديها المتهدلين وذراعيها المترهلين. لطمتها موجة فعرت رداءها عن كتفها اليسرى ورأى أحد نهديها يتمايل كقنديل بحر عملاق. كانت مستمرة في صراخها العالي الحاد الذي كان يشبه صراخ حيوان يعذب. عرفها على الفور. كانت هيلدا بالمر سميث. تلاطمته الأمواج بينما كان يجاهد للوصول إليها مادا يديه إليها.
ثم حدث ما حدث. كانت يداه الممدودتان على وشك أن تمسكا برسغيها عندما قفز أحد الجنود في الماء من المرسى، وضربها بشراسة بكعب سلاحه على جانب رأسها. سقطت في البحر ملوحة بيديها. ولوهلة ظهرت لطخة حمراء حتى أتت الموجة التالية، فغلفتها وحملتها ثم انحسرت وتركتها ممددة على صفحة المياه وقد انفرج ذراعاها ورجلاها وسط الزبد. حاولت أن تنهض لكنه ضربها ضربة أخرى. كان ثيو قد وصل إليها حينها وأمسك بإحدى يديها. لكنه على الفور شعر بيدين تمسكان بكتفيه وتطرحانه جانبا. وسمع صوتا هادئا آمرا، يقول بشيء من الرفق: «دع الأمر يأخذ مجراه يا سيدي. لا تتدخل.»
غمرتها موجة أخرى، أكبر من سابقتها، وطرحته هو أرضا. بعد أن انحسرت، جاهد للنهوض فرآها مرة أخرى ممددة ورداؤها منحسر عن ساقيها النحيلتين، كاشفا عن الجزء السفلي من جسدها بالكامل. تأوه وعاود السير مترنحا نحوها، لكن هذه المرة شعر، هو أيضا، بضربة على جانب رأسه فخر واقعا. أحس بالحصى الخشن يسحن وجهه، وبالرائحة النفاذة لمياه البحر المالحة، وبطنين في أذنيه. خمش بيده الحصى محاولا التشبث بشيء. لكن الرمل والحصى انحسرا من تحته. ثم ضربته موجة أخرى فشعر بها تسحبه إلى المياه الأعمق. وهو شبه واع، حاول أن يرفع رأسه، أن يتنفس، مدركا أنه موشك على الغرق. ثم جاءت الموجة الثالثة فحملت جسده وطرحته وسط أحجار الشاطئ.
لكنهم لم يريدوا له الغرق. فبينما كان يرتعد من البرد ويبصق ويتهوع، أحس بيدين قويتين تندسان تحت إبطيه وتسحبانه من الماء بخفة وكأنه طفل. كان أحدهم يجرجره على الشاطئ ووجهه مواجه للأرض. شعر بمقدمتي حذائه تكشطان الرمال المبللة وبمقاومة الحصى على بنطاله المتشرب بالماء. كان ذراعاه يتدليان بوهن، وبالأحجار الكبيرة على الجزء المرتفع من الشاطئ ترض ظاهر كفيه وتسحجهما. وطوال الوقت كان بوسعه أن يشم رائحة مياه البحر النفاذة المميزة للشاطئ ويسمع إيقاع صوت تكسر الأمواج عليه. ثم توقفت الجرجرة، وألقي بقسوة فوق الرمال الناعمة الجافة. ثم شعر بثقل معطفه وهو يلقى فوق جسده. ورأى على نحو غير واضح كيانا قاتما يمر من فوقه، ثم ترك وحيدا.
حاول أن يرفع رأسه، شاعرا للمرة الأولى بألم نابض، يتمدد وينقبض وكأنه كائن حي ينبض داخل جمجمته. في كل مرة كان يحاول رفع رأسه، كان يتأرجح بوهن يمينا ويسارا، ثم يسقط مرة أخرى في الرمال. لكن في ثالث محاولة استطاع رفعه لبضع بوصات وفتح عينيه. كان يثقل جفنيه طبقة سميكة من الرمال التي غطت وجهه وانحشرت في فمه، بينما تشابكت أعشاب بحرية لزجة بين أصابعه وتدلت من شعره. شعر كأنه رجل أخرج من قبر مغمور بالماء ولا تزال جميع آثار الموت بادية عليه. ولكن قبل أن يغيب عن وعيه بلحظات، كان بوسعه أن يرى أن أحدهم جره إلى الممر الضيق بين كوخين شاطئيين. كان كل منهما يرتفع عن الأرض على ركائز منخفضة فاستطاع أن يرى تحت أرضيتهما فضلات، خلفتها العطلات التي طواها النسيان، شبه مدفونة في الرمال القذرة؛ غلاف فضي لامع، وزجاجة بلاستيكية قديمة، وكرسي شاطئ اهترأ قماشه وتكسرت قوائمه، ومجراف طفل مكسور. تقلب بألم محاولا الاقتراب، ومد يده كأنما سيحظى بالأمان والسكينة إن وضع يده عليه. لكن المجهود كان أكبر من قدرته، فأغمض عينيه اللتين كانتا تؤلمانه بشدة، وتنهد ثم ترك الظلام يبتلعه.
عندما أفاق، ظن للوهلة الأولى أنه يرقد في ظلام تام. ثم تقلب على ظهره ونظر إلى الأعلى فرأى السماء المرصعة بالنجوم الباهتة، ورأى أمامه لمعان مياه البحر الخافت. تذكر أين هو وما حدث. كان رأسه لا يزال يؤلمه، لكن الألم كان حينئذ خفيفا مستقرا. مرر يده على رأسه فشعر بنتوء بحجم البيضة، لكن بدا أن الضرر لم يكن عظيما. لم يدر كم الساعة وكانت رؤية عقارب ساعة يده مستحيلة. دلك أطرافه المتيبسة ليعيد إليها الدماء، ونفض عن معطفه الرمال وارتداه، ثم سار بخطى مترنحة حتى وصل إلى حافة المياه وهناك جثا على ركبتيه ليغسل وجهه. كانت المياه باردة كالثلج. كان البحر أهدأ الآن وكان القمر الذي تغطيه السحب يعكس على صفحته خطا من الضوء المتلألئ. كانت صفحة المياه تعلو وتهبط بهدوء أمامه خاوية تماما، فتخيل الغريقات وهن لا يزلن مصفدات في صفوف، فرقتها ألواح القارب، وشعورهن البيضاء تعلو وتهبط بخفة مع التيار. عاد إلى أكواخ الشاطئ، وجلس على أحد السلالم بضع دقائق يستجمع قواه. ثم فتش جيوب معطفه. كانت محفظته الجلدية متشربة بالماء، لكنه على الأقل لم يفقدها أو يفقد أيا من محتوياتها.
صعد السلالم المؤدية إلى الممشى. لم يكن هناك سوى بضعة أعمدة إنارة لكنها كانت كافية كي يرى عقارب ساعته. كانت الساعة السابعة. لقد ظل غائبا عن الوعي، ثم على الأرجح نائما، لأربع ساعات إلا قليلا. بينما كان يقترب من شارع ترينيتي، شعر بارتياح لرؤية سيارته لا تزال مركونة هناك، لكن لم ير أي أثر آخر للحياة. وقف مكانه مترددا. بدأ جسده يرتعد وشعر بتوق إلى طعام وشراب ساخن. كانت فكرة القيادة حتى أكسفورد في حالته تلك فكرة مروعة، لكن حاجته لأن يغادر ساوثولد كانت لا تقل إلحاحا عن حاجته للطعام والشراب. وبينما كان يقف مترددا، سمع صوت باب يصفد فنظر حوله. خرجت امرأة، تمسك برسن كلب صغير الحجم، من أحد البيوت الفيكتورية ذات الشرفات المواجهة للمرجة الصغيرة. كان المنزل الوحيد الذي رأى أنواره مضاءة، ولاحظ أنه على نافذة الطابق الأول علقت لافتة كبيرة مكتوب عليها «مبيت وإفطار».
بدون سابق تفكير، سار إليها وقال: «أخشى أنني تعرضت لحادث. وملابسي مبتلة جدا. لا أظن أن بوسعي القيادة إلى بيتي الليلة. هل لديك أي غرف شاغرة؟ اسمي فارون، ثيو فارون.»
كانت أكبر سنا مما توقع، لها وجه مستدير لوحه الهواء، به تجاعيد خفيفة كتجاعيد بالون تسرب منه الهواء، وعينان نبيهتان مدورتان وثغر صغير رقيق الشكل، كان جميلا فيما مضى، لكنه رآه الآن، بينما كان ينظر إليها، يلوك شيئا وكأنها لا تزال تتلذذ بما تبقى من مذاق لوجبتها الأخيرة.
لم يبد أن طلبه فاجأها أو أخافها، وعندما تحدثت كان صوتها عذبا. «لدي غرفة شاغرة إن انتظرت حتى آخذ كلوي إلى مهماتها المسائية. لدينا مكان صغير مخصص للكلاب. فنحن نحرص على عدم تلويث الشاطئ. كانت الأمهات يشتكين إن لم يكن الشاطئ نظيفا من أجل أطفالهن، والعادات القديمة تلازم المرء. وجبة العشاء اختيارية هنا. هل تريد أن أحضرها لك؟»
نظرت إليه ولأول مرة رأى شيئا من التوتر في عينيها النبيهتين. قال إنه يرغب بشدة في ذلك.
عادت في غضون ثلاث دقائق فتبعها في الردهة الضيقة إلى غرفة جلوس خلفية. كانت غرفة صغيرة تكاد تكون خانقة، تكتظ بأثاث قديم الطراز. لاحظ قماش ستائر باهتا ورف مدفأة مزدحما بتماثيل خزفية صغيرة لحيوانات، ووسائد مصنوعة من قصاصات القماش المجمعة على الكراسي المنخفضة المجاورة للمدفأة، وصورا فوتوغرافية موضوعة داخل إطارات فضية ورائحة اللافندر. بدت له الغرفة ملاذا، تحوي داخل حوائطها، المغطاة بورق حائط منقوش بالورود، الراحة والأمان، شعورين لم ينعم بهما قط في طفولته المشحونة بالتوتر والقلق.
قالت: «أخشى أن ليس لدي الكثير في الثلاجة الليلة، لكن بإمكاني أن أقدم لك حساء وعجة بيض.» «سيكون ذلك رائعا.» «الحساء ليس مطهوا بالمنزل، للأسف، لكني أمزج علبتين منه كي أجعل طعمه أفضل وأضيف له القليل من شيء، مثل البقدونس المقطع أو البصل. أعتقد أنك ستجده لذيذا. هل تريد تناوله في غرفة الطعام أم هنا في غرفة الجلوس أمام المدفأة؟ أعتقد أن هنا أكثر راحة لك.» «أريده هنا من فضلك.»
استقر في كرسي منخفض ظهره مزين بالأزرار، ومدد رجليه أمام المدفأة الكهربائية، وراقب البخار المتصاعد من بنطاله الذي بدأ يجف. أحضر الطعام بسرعة، الحساء أولا، الذي وجده مزيجا من الفطر والدجاج المرشوش بالبقدونس. كان ساخنا ولذيذا على غير المتوقع، وكان رغيف الخبز والزبد اللذين جاءا معه طازجين. ثم أحضرت له عجة بيض بالأعشاب. سألته إن كان يريد الشاي أم القهوة أم الكاكاو. كان ما يريده هو مشروبا كحوليا، لكن بدا أن ذلك لم يكن متوفرا. اختار الشاي الذي تركته يحتسيه وحده مثلما تركته قبلئذ أثناء تناوله لوجبته.
عندما انتهى، عاودت الظهور، وكأنما كانت تنتظر عند الباب، وقالت: «لقد أعددت لك الغرفة الخلفية. من المريح أحيانا أن يبتعد المرء عن صوت البحر. ولا تقلق بشأن تهوية الفراش. فأنا أحرص بشدة على تهوية الفرش. وضعت لك قربتين ساخنتين تحت الغطاء. بإمكانك أن تتخلص منهما إن شعرت بالحر الشديد. شغلت سخان المياه؛ لذا إن أردت الاستحمام فستجد مياها ساخنة تكفي لذلك.»
كانت أطرافه تؤلمه من الاستلقاء على الرمال الرطبة لساعات، وتصور أن تمديدها في المياه الساخنة مغر. لكن بعد أن سكن جوعه وارتوى عطشه، طغى عليه التعب. كان حتى الاستحمام مرهقا للغاية.
قال لها: «سأستحم في الصباح إن سمحت.»
كانت غرفته في الطابق الثاني، وكانت خلفية كما وعدته. تنحت جانبا وهو يدخلها، وقالت: «أخشى أنه ليس لدي منامة كبيرة تناسب مقاسك، لكن لدي فضال قديم جدا يمكنك أن ترتديه. كان لزوجي.»
لم يبد أن عدم إحضاره أي ملابس نوم معه قد أخافها أو أقلقها. كانت توجد مدفأة كهربائية موصلة بالكهرباء بالقرب من الموقد الفيكتوري. انحنت لتطفئها قبل أن تغادر وأدرك أن السعر الذي تطلبه للغرفة لن يغطي تكاليف تدفئة الغرفة طوال الليل. لكنه لم يحتج إليها. فما إن أغلقت الباب خلفها، حتى خلع ملابسه ورفع أغطية السرير واندس تحتها في الدفء والراحة والنسيان.
قدم له الإفطار صباح اليوم التالي في غرفة الطعام في الطابق الأرضي في الجانب الأمامي من المنزل. كان بها خمس طاولات، غطي كل منها بمفرش أبيض نظيف وزهرية بها زهور اصطناعية، لكن لم يجد أي نزلاء آخرين.
جعلته الغرفة، بخوائها المزدحم ومظهرها الذي يعد بأكثر مما هو موجود، يستحضر ذكرى آخر عطلة قضاها مع والديه. كان في الحادية عشرة من عمره حين قضوا أسبوعا في برايتون في نزل إقامة وإفطار على قمة الجرف بالقرب من كيمب تاون. كان المطر يهطل تقريبا كل يوم وذكراه عن تلك العطلة هي رائحة معاطف المطر المبتلة، وثلاثتهم وهم يقفون متلاصقين يحتمون من المطر ويتطلعون إلى البحر الرمادي المتماوج، والتجول في الشوارع بحثا عن وسائل ترفيه رخيصة حتى تحين السادسة والنصف ثم العودة لتناول العشاء. كانوا يتناولون وجباتهم في غرفة كتلك تماما، وسط الأسر التي لم تعتد أن يخدمها أحد، يجلسون في صمت مرتبك حتى تدخل صاحبة النزل التي تتعمد إظهار البهجة بالصواني المحملة باللحم وصنفين من الخضروات. طوال العطلة كان الامتعاض والملل ملازمين له. أدرك الآن لأول مرة، كم كان حظ والديه من البهجة قليلا، وكم كانت مساهمته فيها، كونه ابنهما الوحيد، ضئيلة.
قدمت له بشغف وجبة إفطار كاملة من شرائح اللحم والبيض والبطاطس المقلية، وكانت محتارة بين رغبتها في مراقبته وهو يتناولها باستمتاع وبين إدراكها أنه سيفضل أن يأكل وحده. أكل بسرعة متلهفا للمغادرة.
قال بينما كان يدفع لها : «كان كرما منك أن قبلت استضافتي وأنا رجل وحيد وليس معي حتى حقيبة لوازمي للمبيت. بعض الناس كان من الممكن أن يرفضوا ذلك.» «لم أتفاجأ على الإطلاق من رؤيتك. ولم أخف منك. فقد كنت استجابة لدعوة دعوتها.» «لا أظن أن أحدا أغدق علي بذلك الوصف من قبل.» «لكنك كنت كذلك فعلا. فأنا لم يأتني أي نزلاء منذ أربعة أشهر وهذا يجعلني أشعر بأني عديمة النفع. لا يوجد أسوأ من شعور المرء بأنه عديم النفع عندما يصير عجوزا؛ لذا دعوت الرب أن يرشدني لما يجب أن أفعله، وإذا ما كان ثمة جدوى من الاستمرار. فأرسلك لي. ألا تجد دائما أنك عندما تقع في مصيبة، أو تواجهك مشكلات تبدو فوق طاقتك، وتدعوه فإنه دائما يستجيب؟»
قال وهو يعد العملات المعدنية: «كلا، ليس بوسعي القول إن تلك كانت تجربتي.»
تابعت حديثها وكأنها لم تسمعه: «أدرك بالطبع أني سأضطر للرضوخ للواقع في نهاية المطاف. فتلك البلدة الصغيرة تحتضر. نحن لم ندرج ضمن المراكز السكانية؛ لذا لم يعد المتقاعدون حديثا يأتون إلى هنا، والشباب يغادرون. لكننا سنكون بخير. فقد وعد الحاكم أن الجميع سيتلقى الرعاية في النهاية. أتوقع أن ينقلوني إلى شقة صغيرة في نورويتش.»
قال في نفسه: «تلجأ لربها كي يرسل لها نزيلا عابرا يبيت ليلة واحدة، لكنها تعتمد على الحاكم في توفير الأساسيات.» دون سابق تفكير سألها: «هل شهدت الراحة الأبدية التي أقيمت هنا أمس؟» «الراحة الأبدية؟» «الفعالية التي أقيمت هنا. القاربان اللذان كانا عند المرفأ.»
قالت بنبرة حازمة: «أعتقد أنك مخطئ يا سيد فارون. لم تقم فعالية راحة أبدية هنا؛ فنحن لا نقيم مثل تلك الفعاليات في ساوثولد.»
بعد ذلك شعر أنها متلهفة لذهابه بقدر تلهفه للمغادرة. شكرها مرة أخرى. لم تخبره باسمها ولم يسأل عنه. شعر برغبة في أن يقول لها: «لقد ارتحت كثيرا هنا. لا بد أن أعود لأقضي عطلة قصيرة معك.» لكنه كان يعرف أنه لن يعود قط، وكان معروفها لا يستحق منه أن يرده بكذبة عابرة.
الفصل العاشر
في صباح اليوم التالي كتب كلمة «نعم» على بطاقة بريدية وطواها بدقة وعناية، ممررا إبهامه فوق طيتها. شعر بأن كتابته لتك الكلمة ذات الأحرف الثلاثة هي نذير لسوء لم يكن بوسعه توقع ماهيته، والتزام بشيء أكبر من مجرد وعده بزيارة زان.
بعد العاشرة بقليل، سار في زقاق بيوسي الضيق المرصوف بالأحجار متجها إلى المتحف. هناك وجد حارسا واحدا فقط يجلس كالعادة على طاولة خشبية في مواجهة الباب. كان مسنا للغاية وكان يغط في نوم عميق. كان يحتضن رأسه المدبب المنمش الذي يكسوه شعر أشيب خشن بذراعه اليمنى التي وضعها مقوسا على الطاولة. وبدت يده اليسرى وكأنها محنطة؛ إذ كانت عبارة عن مجموعة من العظام يربطها قفاز ملطخ من الجلد المبقع. بجوارها كانت توجد نسخة ورقية الغلاف مفتوحة من محاورة «الثيئيتتس» لأفلاطون. كان على الأرجح طالبا، من المجموعة التي تطوعت للتناوب على الحراسة دون مقابل كي يظل المتحف مفتوحا. كان وجوده نائما أو مستيقظا غير ضروري؛ فلن يخاطر أحد بالترحيل إلى جزيرة مان من أجل الميداليات المعدودة المعروضة في صندوق العرض، ومن سيريد أو سيستطيع حمل تمثال «نصر سامافايا» أو تمثال «نصر ساموثراس المجنح» الضخمين خارجا؟
كان ثيو يقرأ كتب التاريخ، لكن زان كان من عرفه بمتحف النماذج الجصية، الذي دخله بخطى رشيقة بترقب فرح كطفل يستعرض كنوز غرفته المليئة باللعب الجديدة. وقع ثيو أيضا أسيرا لسحره. حتى في المتاحف كان ذوقاهما متباينين. كان زان يحب التماثيل الكلاسيكية للذكور ذوي الوجوه الجادة الصارمة الخالية من التعبيرات المعروضة في الطابق الأرضي. بينما كان ثيو يفضل الغرفة السفلى بنماذجها ذات الخطوط الهلنستية الناعمة السلسة. رأى أن شيئا لم يتغير. وقفت التماثيل والنماذج تحت الضوء القادم عبر النوافذ العالية، مثل الألواح الخشبية المرصوصة جنبا إلى جنب لحضارة منبوذة، جذوع بلا أذرع ذات ملامح جادة وشفاه متعجرفة وخصلات مجعدة مصففة بعناية فوق حواجب منعقدة، آلهة بلا عيون تبتسم خفية، كما لو أنها مطلعة على حقيقة أعمق من الرسالة الكاذبة التي توصلها أطرافها الباردة كالثلج؛ وهي أن الحضارات تزدهر وتسقط، وما يبقى هو الإنسان.
بقدر علمه، لم يزر زان المتحف مرة أخرى بعد أن اصطحبه إلى هناك، لكنه أصبح ملاذا لثيو على مر السنوات. في تلك الشهور العصيبة التي تلت موت ناتالي، وجد في انتقاله لشارع سانت
القاسية، يقرأ أو يفكر في صمت، ونادرا ما كان يزعجه أي صوت بشري. من حين لآخر، كان يدخل المتحف مجموعات صغيرة من أطفال المدارس أو طلبة منفردين، حينها كان يغلق كتابه ويغادر؛ فقد كانت الأجواء الخاصة التي كان يحظى بها في ذلك المكان تعتمد على كونه بمفرده.
قبل أن يفعل ما جاء لفعله، أخذ جولة في المتحف، من ناحية بسبب شعوره الوهمي بأنه حتى في ذلك السكون والخواء يجب أن يتصرف كزائر عادي، ومن ناحية أخرى لأنه يحتاج لزيارة المسرات القديمة ليعرف إذا كانت لا تزال تؤثر فيه؛ شاهد الضريح الأثيني الذي يصور أما شابة من القرن الرابع قبل الميلاد، والخادمة التي تحمل الطفل المقمط، وشاهد القبر الذي يصور طفلة صغيرة تمسك بحمامتين؛ الحزن الذي يتحدث عبر حوالي 3000 سنة. نظر وتأمل وتذكر.
عندما صعد إلى الطابق الأرضي مرة أخرى رأى الحارس لا يزال نائما. كان تمثال رأس ديادومينوس لا يزال في مكانه بصالة العرض في الطابق الأرضي لكن رؤيته لم تحرك مشاعره كما فعلت أول مرة وقعت عيناه عليه فيها منذ اثنين وثلاثين عاما. الآن كانت اللذة التي شعر بها منعزلة عن الحس، كانت لذة عقلية؛ أما حينها فقد مرر يده على جبهة التمثال وتحسس خطوطه من الأنف حتى الرقبة، بينما كان يجتاحه مزيج من الانبهار والرهبة والحماسة طالما، كانت الأعمال الفنية العظيمة حينها قادرة على أن تستثير فيه أيام الصبا تلك.
أخرج البطاقة البريدية من جيبه، وأدخلها في الفتحة بين القاعدة والحامل، بحيث كان طرفها بالكاد ظاهرا للعين المتفحصة المتمعنة. أيا كان الشخص الذي سيرسله رولف لأخذها سيستطيع إخراجها بطرف ظفره، أو بعملة معدنية، أو قلم رصاص. لم يكن يخشى أن يعثر عليها أحد آخر، وحتى إن حدث ذلك، فلن يفهم معنى الرسالة. بينما كان يتأكد من أن طرف البطاقة ظاهر للعين، شعر مجددا بذلك المزيج من الغضب والإحراج الذي كان قد انتابه للمرة الأولى في الكنيسة ببينسي. لكن الآن كان اقتناعه بأنه يتورط دون رغبته في مغامرة سخيفة لا طائل منها أقل قوة من المرة السابقة. مشهد جسد هيلدا نصف العاري وهو يتقلب وسط الأمواج المتلاطمة، والموكب الهزيل الباكي، وصوت كعب السلاح وهو يرتطم بعظام الرأس؛ كانت تلك الأمور كفيلة بفرض الوقار والجدية حتى على أكثر الألعاب صبيانية. بمجرد أن يغمض عينيه كان يسمع من جديد صوت تكسر الموجة المنحدرة، وتنهيدتها الطويلة وهي تنحسر.
كان يجد في دور المتفرج الذي اختاره لنفسه شيئا من الوقار وكثيرا من الأمان، لكن بعض الأفعال الشنيعة تجبر المرء على اعتلاء مسرح الأحداث. سيقابل زان. لكن أكان ما يحركه هو غضبه الجم من هول ما حدث أثناء فعالية الراحة الأبدية أم ذكرى الإهانة الشخصية التي تعرض لها، والضربة التي وجهت له بعناية، وجرجرة جسده على الشاطئ ورميه كما لو كان حطاما غير مرغوب فيه؟
بينما كان يمر بجوار الطاولة الموضوعة عند الباب في طريقه للخروج، تقلقل الحارس المسن وانتصب في جلسته. ربما اخترق وقع الخطى عقله، الذي كان بين النوم واليقظة، منبها إياه إلى واجبه الذي أهمله. كانت نظرته الأولى إلى ثيو نظرة خوف تكاد ترقى للرعب. ثم عرفه ثيو. كان ديجبي يول، الذي كان محاضرا متقاعدا لمادة الكلاسيكيات بكلية ميرتون.
عرفه ثيو بنفسه: «سعدت لرؤيتك يا سيدي. كيف حالك؟»
بدا أن سؤاله زاد من توتر يول؛ فقد بدأت أصابع يده اليمنى لا إراديا تنقر سطح الطاولة. قال: «أوه، أنا بخير، أجل، بخير تماما، شكرا لك يا فارون. أنا أتدبر أموري جيدا. فأنا أخدم نفسي كما تعلم. أسكن في نزل قبالة طريق إيفلي لكني أتدبر أمري جيدا. وأقوم بكل شيء لنفسي. فصاحبة النزل امرأة صعبة المراس - أعني أن لديها مشكلاتها الخاصة - لكني لا أشكل عبئا عليها. لا أشكل عبئا على أحد.»
تساءل ثيو عما يخيفه؛ أيخشى مكالمة هامسة لشرطة الأمن الوطني لإبلاغهم بأن هناك مواطنا آخر قد صار عبئا على غيره؟ شعر أن حواسه بدأت تتيقظ بدرجة تفوق العادة؛ فقد كان يشم أثر الرائحة النفاذة الخفيفة للمطهر، ويرى قشيرات رغوة الصابون التي جفت على لحيته القصيرة وذقنه، ويلاحظ أن نصف البوصة من كمي قميصه البارزة من معطفه البالي كانت نظيفة لكنها غير مكوية. ثم خطر له أن بإمكانه أن يقول له: «إن لم تكن مرتاحا حيث تسكن، فهناك متسع في منزلي بشارع سانت جونز. فأنا أسكن وحدي الآن، وسيسرني أن أحظى ببعض الرفقة.»
لكنه اعترف لنفسه بحزم أن ذلك لن يسره، وأن العرض سيبدو فظا وفيه لطف مصطنع، وأن الرجل لن يستطيع التأقلم مع السلالم، تلك السلالم المريحة التي كان يتذرع بها لرفض واجباته الخيرية. هيلدا أيضا لم تكن ستستطيع التأقلم مع السلالم. لكن هيلدا ماتت.
كان يول يقول: «أنا آتي إلى هنا مرتين في الأسبوع فحسب. الاثنين والخميس. أنوب عن زميل لي. من الجيد أن يكون لدي شيء مفيد لأفعله، كما أنني أحب طابع الصمت هنا. فهو مختلف عن الصمت في أي مبنى آخر من مباني جامعة أكسفورد.»
خطر لثيو أنه ربما سيموت هنا بهدوء وهو جالس على تلك الطاولة. لن يجد مكانا أفضل. ثم تخيل العجوز وقد ترك هنا جالسا على الطاولة، وتخيل آخر حارس للمتحف وهو يوصد الباب، والأعوام اللانهائية من الصمت الذي لن يكسره شيء، وجسده الذي سيتحنط أو يتعفن أخيرا تحت أنظار تلك التماثيل الرخامية ذات الأعين الخاوية التي لا ترى.
الفصل الحادي عشر
الثلاثاء 9 فبراير 2021
اليوم رأيت زان للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات. لم أجد صعوبة في تحديد موعد معه، مع أن الوجه الذي ظهر على شاشة الهاتف المرئي لم يكن وجهه، بل وجه أحد معاونيه، أحد أفراد فرقة حرس الجرينادير برتبة رقيب. كان يحمي زان، ويطهو طعامه، ويقود سيارته، ويخدمه جماعة صغيرة من أفراد جيشه الخاص؛ حتى منذ البداية لم توظف أي سكرتيرات أو مساعدات شخصيات أو مدبرات منزل أو طاهيات في بلاط الحاكم. كنت أتساءل إذا ما كان سبب ذلك هو تجنب حتى أي إيعاز بفضيحة جنسية، أم أن نوع الولاء الذي كان يطلبه زان ولاء ذكوري بحت، قائم على أساس التسلسل القيادي، مطلق، لا تشوبه العواطف.
أرسل سيارة لتقلني. أخبرت فرد حرس الجرينادير أنني أفضل أن أذهب إلى لندن بسيارتي، لكنه لم يزد على أن قال بحزم غير صارم: «سيرسل لك الحاكم سيارة بسائق يا سيدي. سيكون أمام بابك في تمام التاسعة والنصف.»
بطريقة ما كنت قد توقعت أن يكون ذلك السائق هو جورج، الذي كان سائقي المعتاد عندما كنت مستشار زان. كنت أحب جورج. كان له وجه بشوش سمح، وأذنان ناتئتان، وفم واسع وأنف عريض أقعى. نادرا ما كان يتكلم، ولم يكن يتحدث قط إلا إذا ابتدأت أنا الحديث. أظن أن السائقين جميعهم يلتزمون بتلك القاعدة، لكن جورج كانت تشع منه روح من الألفة، وربما حتى الاستحسان - أو هكذا شعرت - جعلت رحلاتي بالسيارة معه فاصلا مريحا لا توتر فيه بين إحباطات اجتماعات المجلس وتعاسة البيت. أما ذلك السائق فكان أنحف جسدا وكان يبدو شديد الأناقة في زيه الموحد الذي يبدو أنه كان جديدا ولم تفصح عيناه التي التقت بعيني عن أي شيء، ولا حتى عن الجفاء.
قلت: «ألم يعد جورج يقود؟» «لقد توفي جورج يا سيدي، إثر حادث على طريق «إيه 4». اسمي هيدجز. وسأكون سائقك في رحلتي الذهاب والعودة.»
كان يصعب تصور أن جورج، ذلك السائق المخضرم الشديد الحرص، قد تعرض لحادث مميت، لكني لم أطرح المزيد من الأسئلة؛ فشيء ما أخبرني بأن فضولي لن يشبع وأن التمادي في الاستفسار ليس أمرا حكيما.
لم يكن ثمة جدوى من محاولة التدرب على ما سأقوله في المقابلة أو التنبؤ بكيفية استقبال زان لي بعد ثلاث سنوات من الصمت. لم نفترق غاضبين أو حانقين، لكني كنت أعرف أن ما فعلته كان في نظره لا يبرر. وتساءلت إن كان يراه أيضا لا يغتفر؛ فقد اعتاد أن يحصل على مراده دائما، وكان مراده أن أكون إلى جانبه، ولقد تركت جانبه. لكنه وافق على مقابلتي الآن. في غضون أقل من نصف الساعة سأعرف ما إذا كان يريد لذلك الصدع أن يكون دائما. أتساءل إن كان قد أخبر أيا من أعضاء المجلس الآخرين أني قد طلبت مقابلته. لا أتوقع رؤيتهم ولا أرغب في ذلك؛ فقد طويت تلك الصفحة من حياتي، لكني فكرت فيهم بينما كانت السيارة تقطع الطريق بسرعة وسلاسة وصمت في اتجاه لندن.
هم أربعة؛ مارتن ولفينجتون، المسئول عن الصناعة والإنتاج، وهارييت ماروود، المسئولة عن الصحة والعلوم والترفيه، وفيليشيا رانكن، التي تتضمن حقيبتها الوزارية المتنوعة المهام وزارات الداخلية والإسكان والنقل، وكارل إنجلباتش، وزير العدل والأمن الوطني. كان ذلك التوزيع للمسئوليات طريقة مريحة لتقسيم أعباء العمل أكثر منه تخصيصا للسلطة المطلقة. فلم يمنع أحد منهم، على الأقل عندما كنت أحضر اجتماعات المجلس، من التعدي على مجال اختصاص غيره وكان المجلس بأكمله يتخذ القرارات حسب أصوات الأغلبية في تصويت لم أكن أشارك فيه باعتباري مجرد مستشار لزان. أتساءل الآن هل كان هذا الاستبعاد المهين وليس إدراكي لعدم جدوى وجودي هو ما جعل منصبي غير محتمل؛ فالنفوذ ليس بديلا للسلطة.
صرت متأكدا من فائدة وجود مارتن ولفينجتون لزان والمبرر لوجوده في المجلس الذي لا بد أنه صار أقوى منذ تركي له. فهو عضو المجلس الأقرب إلى زان، وهو على الأرجح أقرب ما يكون لصديق. كانا في نفس الكتيبة وخدما معا برتبة ملازم، وكان ولفينجتون ضمن أول من عينهم زان للعمل في المجلس. كانت حقيبة الصناعة والإنتاج من أثقل الحقائب الوزارية، فهي تتضمن الزراعة والغذاء والطاقة وإدارة العمالة. كان تعيين ولفينجتون في مجلس معروف عن أعضائه الذكاء الحاد مفاجئا لي في البداية. لكنه ليس غبيا؛ فالجيش البريطاني توقف عن تقدير صفة الغباء في قادته قبل التسعينيات بفترة طويلة، ومارتن كان يستحق مركزه تماما لما يمتلكه من ذكاء عملي غير معرفي وقدرة غير عادية على العمل الدءوب. وهو لا يتحدث كثيرا في اجتماعات المجلس لكن مشاركاته دائما ما تكون سديدة ورشيدة. وولاؤه لزان مطلق. خلال اجتماعات المجلس، كان هو الوحيد الذي يرسم رسومات عبثية. كنت أظن دوما أن الرسومات العبثية علامة على توتر خفيف، وحاجة لإبقاء اليدين مشغولتين، وحيلة مفيدة لتجنب التقاء عينيه بعيون الآخرين. كانت رسومات مارتن فريدة. كان يعطي انطباعا بأنه يكره إضاعة الوقت. فبإمكانه أن يستمع بذهن شارد بينما يرسم على الورق خطوط معركته، وخطة مناوراته، وحتى جنوده الصغار المتقنين الذين عادة ما كان يرسمهم مرتدين أزياء الحروب النابليونية. وكان يغادر تاركا أوراقه على الطاولة، فكانت تدهشني دقة رسوماته وبراعتها. كنت أحبه لأنه كان دمثا على الدوام ولم يبد عليه أي تأفف مضمر من وجودي كنت أستشعره لدى جميع الأعضاء الآخرين كوني شديد الحساسية للجو العام حولي. لكني لم أفهمه قط، وأشك أنه خطر بباله يوما أن يحاول أن يفهمني. إن كان وجودي هو إرادة الحاكم، فذلك كان سببا كافيا له. بنيته أطول من المتوسط بقليل، وله شعر فاتح مموج، ووجه مرهف جميل الملامح كان يذكرني بشدة بصورة فوتوغرافية كنت قد رأيتها لنجم أفلام الثلاثينيات ليزلي هوارد. بمجرد أن أدركت الشبه بينهما، تعزز لدي، وأضفى عليه في نظري صبغة من رهافة الحس والتأثير الدرامي كانت غريبة عن طبيعته العملية في الأساس.
لم أطمئن قط إلى فيليشيا رانكن. لو أن زان كان يريد زميلة شابة وكذلك محامية بارعة، فقد كان متاحا أمامه خيارات تقل عنها لذاعة. لم أفهم قط سبب اختياره لفيليشيا. كان مظهرها غير عادي. كانت دائما تظهر على شاشة التلفاز أو في الصور الفوتوغرافية بجانب وجهها أو بنصفه، وكانت رؤيتها كذلك تعطي انطباعا بجمال هادئ وتقليدي؛ فقد كان لها بنية عظام كلاسيكية وحاجبين مقوسين، وشعر أشقر تعقده خلف رأسها. لكن عند رؤية وجهها كاملا، يتلاشى ذلك التناسق. كان وجهها يبدو كأنه مكون من نصفين مختلفين، كل منهما جذاب بمفرده، لكن بينهما، مجتمعين، نشاز يبدو أقرب إلى التشوه في ظروف إضاءة معينة؛ فعينها اليمنى أوسع من اليسرى، وجبهتها التي تعلوها تبرز قليلا، كما أن أذنها اليمنى أكبر من أختها. لكن عينيها مميزتان؛ إذ إن حدقتيهما كبيرتان ورماديتان بصفاء. عندما كنت أنظر إليهما ووجهها مسترخ، كنت أتساءل كيف يشعر المرء عندما يفوته الجمال بذلك الفارق الدقيق. أحيانا في المجلس، كنت أجد صعوبة في عدم النظر إليها، وكانت تدير رأسها فجأة لتقابل عيني بنظرتها الجريئة المزدرية قبل أن أشيح بنظري عنها بسرعة. أتساءل الآن كم غذى هوسي المرضي بمظهرها الكراهية المتبادلة بيننا.
هارييت ماروود، التي تبلغ من العمر ثمانية وستين عاما، هي أكبر الأعضاء سنا، وهي المسئولة عن العلوم والصحة والترفيه، لكن وظيفتها الأساسية في المجلس اتضحت لي بعد أول اجتماع حضرته، وكانت بالطبع واضحة للبلد بأكمله. هارييت هي العجوز الحكيمة في القبيلة، وجدة الكل، الباعثة على الطمأنينة والسكينة، الموجودة دائما، المحافظة على مبادئها الأخلاقية القديمة، والتي تفترض أن أحفادها سيمتثلون لها. عندما تظهر على شاشات التلفاز لتشرح آخر التعليمات، كان يستحيل ألا يصدق المرء أن هذا ما فيه الصالح العام. بإمكانها أن تجعل قانونا يلزم بالانتحار العام يبدو منطقيا للغاية؛ وسيستجيب له على الفور، في ظني، نصف سكان البلد. فيها تجسدت حكمة العجائز، بثقتها وتعنتها واهتمامها. قبل أوميجا كانت ناظرة مدرسة فتيات عامة، وكان التدريس شغفها. حتى بعد أن صارت ناظرة، استمرت في التدريس للمرحلة الثانوية. لكنها كانت تريد التدريس للصغار. كانت تزدري تنازلي بقبولي وظيفة في مجال تعليم البالغين، أغذي عقول الكهول الضجرين للتاريخ المحبوب والأدب الأكثر شعبية. صار نشاطها وحماسها، الذي كانت تمنحه طالباتها اليافعات أثناء التدريس، موجها الآن للمجلس. كانت تعتبر أعضاءه تلاميذها وأبناءها، وعلى نطاق أوسع، كانت تعتبر الشعب جميعه كذلك. أظن أن زان كان يرى لها فوائد لا أستطيع تخمينها. أعتقد كذلك أنها خطيرة للغاية.
يقول من يتكبدون عناء دراسة شخصيات أعضاء المجلس إن كارل إنجلباتش هو عقله المدبر، وإن التخطيط والإدارة البارعين للمنظمة المحكمة التي تسيطر على البلاد هما نتاج رأسه المدبب ، وإنه بدون عبقريته الإدارية كان حاكم إنجلترا سيصبح عديم النفع. هذا ما يقال دائما عن ذوي السلطان، وقد يكون حتى هو من حرض على نشر تلك الأقاويل، مع أني أشك في ذلك. فهو لا يتأثر بالرأي العام. مبدؤه بسيط. ثمة أمور تحدث حولنا لا يمكننا القيام بأي شيء بصددها، ومحاولة تغييرها ستكون مضيعة للوقت. وثمة أمور يجب تغييرها، وفور اتخاذ القرار بذلك، يجب الشروع في تنفيذه دون تسويف أو أناة. هو أخبث عضو في المجلس وأعلاهم سلطة بعد الحاكم.
لم أتحدث إلى سائقي حتى وصلنا إلى ميدان شيباردز بوش، حينها ملت إلى الأمام ونقرت على الزجاج الفاصل بيننا وقلت: «أريدك أن تسلك شارع هايد بارك ثم تنعطف إلى شارع كونستيتيوشن هيل وتسير فيه حتى نهايته ثم تسلك شارع بيردكيدج ووك من فضلك.»
قال، دون أن أدنى حركة لكتفيه أو أي تعبير في صوته: «هذا هو الطريق الذي أمرني الحاكم بالسير فيه يا سيدي.»
مررنا من أمام القصر ذي النوافذ المغلقة، وسارية العلم التي ينقصها علمها، وأكشاك الحراسة الخاوية، والبوابة الضخمة المقفولة والموصدة بقفل حديدي. بدا متنزه سانت جيمس مهملا أكثر من آخر مرة رأيته فيها. كان أحد المتنزهات التي قرر المجلس صيانتها جيدا، ورأيت بالفعل من بعيد مجموعة من الأشخاص الكادحين، يرتدون ثياب العمل الخاصة بالعمال الوافدين ذات اللونين الأصفر والبني، يجمعون القمامة ويقلمون، على ما يبدو، حواف مراقد الأزهار التي لا تزال عارية من الأزهار. أضاءت شمس الشتاء صفحة البحيرة التي برز فيها بوضوح الريش ذو الألوان الزاهية لبطتين من فصيلة المندرين بدتا كلعبتين ملونتين. تحت الأشجار كانت توجد طبقة رقيقة من الثلوج التي تساقطت الأسبوع الماضي، وأثار اهتمامي، ولكن ليس بهجتي، أن رأيت أن أقرب رقعة بيضاء ما هي إلا شطء زهور اللبن الثلجية.
كانت حركة سير السيارات خفيفة جدا في ميدان البرلمان، وكانت البوابة الحديدية المؤدية إلى مدخل قصر وستمنستر مغلقة. مرة كل عام ينعقد هنا البرلمان الذي انتخبت مجالس المقاطعات والمجالس الإقليمية أعضاءه. لا تناقش أي قوانين أو تسن أي تشريعات؛ فمجلس إنجلترا هو الذي يحكم بريطانيا بموجب مرسوم. والوظيفة الرسمية للبرلمان هي تلقي المعلومات ومناقشتها وتقديم الاستشارات وإعطاء التوصيات. يقدم كل عضو من أعضاء المجلس الخمسة تقريره شخصيا فيما يصفه الإعلام بالرسالة السنوية للأمة. تدوم دورة البرلمان شهرا فقط، والمجلس هو من يضع جدول أعماله. وتكون القضايا التي يناقشها غير مهمة. وتصعد القرارات التي يوافق عليها بأغلبية ثلثي الأصوات إلى مجلس إنجلترا الذي يمكن أن يوافق عليها أو يرفضها حسب ما يشاء. يتميز ذلك النظام بالبساطة، ويرسم وهم الديموقراطية لشعب لم يعد لديه طاقة لأن يأبه بمن يحكمه أو كيف يحكمه ما دام يحصل على ما وعد به الحاكم، وهو التحرر من الخوف، ومن العوز، ومن الضجر.
في بضع السنوات التي تلت أوميجا، افتتح الملك، الذي لم يكن قد توج بعد، البرلمان بمظاهر الأبهة القديمة نفسها، لكن سيارته كانت تسير في شوارع شبه فارغة؛ فقد تحول من كونه رمزا للاستمرارية والتقاليد لكونه رمزا قديما بطل استخدامه وصار بلا معنى يذكرنا بما فقدناه. والآن لا يزال يفتتح البرلمان، لكن دون جلبة، مرتديا حلة رسمية عادية، آتيا إلى لندن ومغادرا لها خلسة دون أن يلاحظه أحد تقريبا.
أتذكر حديثا خضته مع زان قبل استقالتي من منصبي بأسبوع. «لماذا لا تتوج الملك؟ اعتقدت أنك حريص على الحفاظ على نظامية الوضع.» «ما الجدوى من ذلك؟ الشعب لا يكترث. وسيكره النفقات الضخمة التي ستتكلفها مراسم التتويج الجوفاء.» «صرنا لا نسمع عنه إلا نادرا. أهو تحت الإقامة الجبرية في منزله؟»
ضحك زان ضحكته المكتومة. «ليس منزله. بل قل في قصره أو قلعته. لديه سبل الراحة الكافية. على كل حال لا أعتقد أن كبيرة أساقفة كانتربري ستوافق على تتويجه.»
وأذكر ردي حينها: «هذا ليس مفاجئا؛ فعندما عينت مارجريت شيفنهام في منصب رئيسة أساقفة كانتربري كنت تعلم أنها متعصبة للحزب الجمهوري.»
داخل المتنزه وبالقرب من سوره، أتت جماعة من المتسوطين تسير في صف على العشب. كانوا عراة حتى الخصر، ولا يرتدون، حتى في طقس فبراير البارد، سوى أزر صفراء وصنادل في أقدامهم العارية. بينما كانوا يسيرون، كانوا يأرجحون حبال سياطهم الثقيلة المعقودة إلى الوراء لتمزق ظهورهم الدامية أصلا. حتى من خلف زجاج نافذة السيارة، كان بوسعي أن أسمع صفير جلد السياط وهو يشق الهواء وقرعها على جلودهم العارية. نظرت إلى مؤخر رأس السائق، إلى نصف الدائرة من الشعر الداكن المقصوص قصا قصيرا بعناية الذي يظهر من قبعته، والشامة التي تعلو ياقة قميصه التي أزعجتني فلم أستطع رفع عيني عنها خلال معظم رحلتنا الصامتة.
حينئذ، مصمما على أن أحمله على إعطائي أي رد، قلت له: «كنت أظن أن القانون صار يمنع ذلك النوع من الاستعراضات العامة.» «فقط على الطرق السريعة أو الأرصفة العامة يا سيدي. أتصور أنهم يعتبرون أنه يحق لهم السير داخل المتنزه.»
سألته: «ألا تجد ذلك المشهد مريعا؟ أعتقد أن ذلك هو السبب في حظر المتسوطين. الناس يكرهون منظر الدم.» «بل أجده سخيفا يا سيدي. إن كان ثمة وجود للإله، وكان يرى أنه ضاق بنا ذرعا، فلن يثنيه عن رأيه بضعة همج عديمو النفع يرتدون الأصفر ويجولون المتنزه منتحبين.» «هل تؤمن به؟ هل تؤمن بوجوده؟» كنا قد توقفنا أمام باب وزارة الخارجية القديم. قبل أن يترجل من السيارة ليفتح لي الباب، التفت إلي وثبت بصره على وجهي قائلا: «ربما فشلت تجربته فشلا ذريعا يا سيدي. ربما أربكته رؤية تلك الفوضى، ولا يعرف كيف يتداركها. أو ربما كان لا يريد أن يتداركها. ربما لم يعد لديه طاقة تكفي إلا لأن يتدخل تدخلا نهائيا. وها قد فعل. أيا من كان، وكيفما كان، أتمنى أن يحترق في جحيمه.»
خرجت منه تلك الكلمات بمرارة بالغة، ثم ما لبث أن وضع قناع البرود والجمود مرة أخرى. وقف وقفة تأهب وفتح لي باب السيارة.
الفصل الثاني عشر
كان ثيو يعرف جندي فرقة حرس الجرينادير الذي كان يداوم الوقوف خلف الباب. قال: «صباح الخير يا سيدي.» وابتسم كما لو أنه لم يمر ثلاث سنوات منذ آخر مرة رأى ثيو وأنه يدخل ليأخذ مكانه الطبيعي. تقدم جندي آخر، هذه المرة لم يكن ثيو يعرفه، وأدى التحية العسكرية. وصعدا معا الدرج المزخرف.
رفض زان أن يتخذ من المنزل رقم عشرة بشارع داونينج مكتبا ومسكنا له، واختار عوضا عنه مبنى وزارة الخارجية وشئون الكومنولث القديم المطل على متنزه سانت جيمس. هنا كان له شقة خاصة في الطابق العلوي يعرف ثيو أنه يعيش فيها بأسلوب بسيط مريح ومنظم لا يتحقق إلا بمساعدة المال وطاقم الخدمة. كانت الغرفة التي في مقدمة المبنى والتي كان يشغلها منذ خمس وعشرين سنة وزير الخارجية، قد صارت منذ البداية مكتب زان وغرفة اجتماعات المجلس.
فتح جندي الجرينادير الباب دون أن يطرقه وأعلن اسمه بصوت عال.
وجد نفسه يقف ليس أمام زان فحسب، بل أمام أعضاء المجلس كلهم. كانوا يجلسون على نفس الطاولة البيضاوية الصغيرة التي يتذكرها، لكن على جانب واحد فقط منها وكان بعضهم أقرب إلى بعض من المعتاد. كان زان يجلس في المنتصف وتحيط به فيليشيا وهارييت، ومارتن على أقصى اليسار، وعلى يمينه كارل. وضع كرسي واحد شاغر في مواجهة زان مباشرة. كانت حيلة مدبرة من الواضح أن الهدف منها إرباكه، ولوهلة نجحت في ذلك. عرف أن العيون العشر التي تراقبه بتمعن لم يفتها تردده التلقائي عند الباب، واحمرار وجهه ضيقا وخجلا. لكن صدمة المفاجأة فجرت غضبه، وكان الغضب نافعا. كانوا قد أخذوا زمام المبادرة، لكن لم يكن يوجد سبب يجعلهم يحتفظون بها.
كان زان يضع يديه بخفة على الطاولة وقد قوس أصابعهما. رأى ثيو فيها الخاتم وصدم عندما ميزه وأدرك أن رؤيته له مقصودة؛ فهو خاتم يصعب إخفاؤه. كان زان يرتدي في وسطى يده اليسرى خاتم التتويج، خاتم الزواج الملكي لإنجلترا المرصع بياقوتة زرقاء ضخمة يطوقها الألماس ويعلوها صليب من الياقوت الأحمر. نظر إليه وابتسم قائلا: «تلك فكرة هارييت. قد يرى المرء مظهره مبتذلا ومنفرا إن كان لا يعرف أنه أصلي. الناس يحتاجون لرؤية حلي ملوكهم. لا تقلق، فأنا لا أنوي أن أجعل مارجريت شيفنهام تباركني في دير وستمنستر. أشك في قدرتي على إتمام المراسم بالجدية المطلوبة؛ فمظهرها يبدو مضحكا للغاية وهي ترتدي تاج رئيس الأساقفة. لعلك تقول في نفسك إنني فيما مضى ما كنت لأرتديه.»
قال ثيو: «فيما مضى ما كنت ستشعر بحاجة إلى ارتدائه.» وكان بوسعه أن يضيف: «ولا الحاجة لأن تخبرني بأن ارتداءه كان فكرة هارييت.»
أشار زان إلى الكرسي الشاغر. جلس عليه ثيو وقال: «لقد طلبت مقابلة شخصية مع حاكم إنجلترا وما فهمته هو أن ذلك هو ما سأحصل عليه. فأنا لا أقدم طلبا لشغل وظيفة، ولست ماثلا أمام لجنة اختبار شفهي.»
قال زان: «لقد مضت ثلاث سنوات منذ أن تقابلنا أو تحدثنا. ظننا أنك قد تود مقابلة - ماذا كنت لتقولين يا فيليشيا - أصدقاء، رفقاء، زملاء قدامى؟»
قالت فيليشيا: «كنت سأقول معارف. فأنا لم أفهم وظيفة الدكتور فارون بالتحديد عندما كان مستشارا للحاكم ولم تتضح لي بعد غيابه الذي مرت عليه ثلاث سنوات.»
رفع ولفينجتون عينيه عن رسوماته العبثية. لا بد أن المجلس منعقد منذ مدة؛ فقد انتهى بالفعل من رسم جماعة من جنود المشاة. قال: «لم تكن وظيفته واضحة قط. لكن الحاكم طلب أن يكون موجودا وكان ذلك كافيا لي. هو لم يشارك بالكثير حسبما أتذكر، لكنه أيضا لم يعق عملنا.»
ابتسم زان لكن ابتسامته لم تتسع لتشمل عينيه. «كان ذلك فيما مضى. أهلا بعودتك. قل ما جئت لتقوله. نحن جميعا أصدقاء هنا.» نطق تلك الكلمات البريئة بنبرة جعلتها تبدو كأنها تهديد.
لم يكن ثمة داع للمواربة. قال ثيو: «لقد حضرت فعالية الراحة الأبدية التي أقيمت في ساوثولد يوم الأربعاء الماضي. وما شهدته كان قتلا متعمدا. المنتحرات نصفهن بدون مخدرات وأولئك اللواتي كن واعيات لم يذهبن كلهن طواعية. رأيت نسوة تجر إلى السفينة وتصفد. إحداهن ضربت حتى الموت على الشاطئ. هل صرنا نذبح مسنينا كالحيوانات غير المرغوب فيها؟ أهذا الموكب الدموي هو ما يعنيه المجلس بالأمان والراحة والمتعة؟ أهذا هو الموت بكرامة؟ لقد جئت إلى هنا لأني ارتأيت أنكم يجب أن تعرفوا ما يحدث باسم المجلس.»
قال في نفسه: «لقد انجرفت في حماستي، وأثرت عداوتهم من قبل حتى أن أبدأ فعليا. لأحافظ على هدوئي.»
قالت فيليشيا: «لقد أسيئت إدارة فعالية راحة الموت تلك بالتحديد. خرجت الأمور عن السيطرة. لقد طلبت تقريرا بما حدث. من المحتمل أن يكون بعض الحراس قد تجاوزوا حدود واجباتهم.»
قال ثيو: «أحد ما تجاوز حدود واجباته. أليست تلك هي الذريعة التي تستخدم دائما؟ وما الحاجة إلى حراس مسلحين وأصفاد إن كانت تلك النسوة قد ذهبن للموت طواعية؟»
كررت فيليشا تفسيرها بنفاد صبر عجزت عن إخفائه: «لقد أسيئت إدارة فعالية راحة الموت تلك بالتحديد. ستتخذ الإجراءات الملائمة ضد المسئولين عن ذلك. سيأخذ المجلس مسألتك بعين الاعتبار، مسألتك المنطقية والمحمودة بالتأكيد. أهذا كل شيء؟»
قال زان الذي بدا كأنه لم يسمع سؤالها: «عندما يحين دوري سأبتلع كبسولتي المميتة وأنا مرتاح في سريري داخل بيتي وسأفضل أن أفعل ذلك بمفردي. لم أفهم قط المغزى من فعاليات الراحة الأبدية، مع أنك تبدين متحمسة لها يا فيليشيا.»
قالت فيليشيا: «لقد بدأت عفوية. فقد قرر حوالي عشرين مسنا بعمر الثمانين في دار رعاية بسوسيكس تنظيم رحلة بالحافلة إلى إيستبورن، ثم قفزوا من فوق جرف بيتشي هيد، ممسك بعضهم بيد بعض. ثم ما لبث الأمر أن تحول إلى صرعة. بعد ذلك رأت بضعة مجالس محلية أنها يجب أن تستجيب لذلك الإقبال الواضح وتنظم الأمر بطريقة لائقة؛ فالقفز من فوق جرف قد يكون طريقة موت سهلة للمسنين، لكن سيتعين على أحد ما أن يتولى جمع جثثهم وهي مهمة بغيضة. وأعتقد أن عددا قليلا منهم بقي على قيد الحياة لفترة وجيزة. كان الأمر برمته فوضويا وغير مرض؛ لذا كان سحبهم إلى داخل البحر خيارا أكثر منطقية.»
مالت هارييت إلى الأمام وقالت بصوت مقنع وعقلاني: «الناس يحتاجون إلى طقوس الرحيل ويريدون أن يحظوا برفقة عندما تحين النهاية. أنت تملك القوة كي تموت وحيدا أيها الحاكم، لكن معظم الناس يجدون سكينة في الشعور بلمسة يد إنسان.»
قال ثيو : «المرأة التي ماتت أمام عيني لم تحظ بلمسة يد إنسان عدا لمسة يدي التي استمرت للحظة. كان ما حظيت به هو ضربة كعب سلاح هشمت جمجمتها.»
تمتم ولفينجتون دون أن يتكبد عناء رفع عينيه عن رسمه: «جميعنا سنموت وحيدين. علينا أن نقاسي موتنا كما قاسينا ولادتنا. كلتا التجربتين لا يمكن مشاركتهما.»
التفتت هارييت ماروود إلى ثيو قائلة: «بالطبع راحة الموت أمر اختياري تماما. وتتخذ جميع الاحتياطات التي تضمن ذلك. فيتعين على المشاركين توقيع استمارة؛ من نسختين. أليس كذلك يا فيليشيا؟»
قالت فيليشيا باقتضاب فظ: «بل من ثلاث نسخ؛ نسخة للمجلس المحلي، ونسخة لأقرب أقرباء المسن تخوله المطالبة بدية وفاته، ونسخة يحتفظ بها المسن نفسه وتؤخذ منه قبل أن يصعد على متن القارب. وتلك تئول إلى مكتب الإحصاء السكاني وتعداد السكان.»
قال زان: «كما ترى، فيليشيا تبقي الأمر كله تحت السيطرة. أهذا كل شيء يا ثيو؟» «كلا. مستعمرة مان العقابية. أتدرون ما يحدث هناك؟ أتدرون بعمليات القتل والتجويع والانفلات التام للأمن والنظام؟!»
قال زان: «أجل، ندري. السؤال هو كيف تعرف أنت بذلك؟»
لم يجبه ثيو، لكن وعيه الذي صار أكثر حدة أدرك أن ذلك السؤال يدق ناقوس خطر جلي.
قالت فيليشيا: «أتذكر أنك كنت حاضرا لاجتماعنا بصفتك المبهمة عندما كنا نناقش تجهيز مستعمرة مان العقابية. ولم تعترض إلا لصالح السكان الذين كانوا مقيمين بها حينها، والذين اقترحنا إعادة توطينهم في البر الرئيسي. وقد أعيد توطينهم على نحو مريح وموات في الأماكن التي اختاروها في الدولة. ولا نتلقى منهم أي شكاوى.» «افترضت أن المستعمرة ستدار كما ينبغي، وأن الضروريات الأساسية لحياة مقبولة ستتوفر بها.» «وهي كذلك بالفعل. المأوى والمياه والحبوب لإنبات الغذاء.» «افترضت كذلك أن المستعمرة ستخضع للحراسة وسيكون ثمة من يديرها. حتى في القرن التاسع عشر عندما كان المدانون يرحلون إلى أستراليا، كان لكل مستعمرة حاكم، بعضهم كان متساهلا والبعض الآخر كان متشددا، لكنهم جميعا كانوا مسئولين عن حفظ السلام والنظام داخلها. لم تترك المستعمرات تحت رحمة أقوى المساجين وأعتاهم إجراما .»
قالت فيليشيا: «أولم يكونوا كذلك؟ تلك مسألة تقديرية. لكن الوضع هنا مختلف. أنت تعرف منطق نظام العقوبات. إن اختار الناس أن يعتدوا على الآخرين ويسرقوهم ويرهبوهم ويؤذوهم ويستغلوهم، فدعهم يعيشون مع من يشبهونهم فكرا. إذا كان ذلك هو المجتمع الذي يريدونه، فلينعموا به إذن. إن كان فيهم شيء من الصلاح، فسينظمون أنفسهم على نحو معقول ويتعايشون بسلام. وإلا فسينهار مجتمعهم وتسوده الفوضى التي لا يتورعون عن فرضها على الآخرين. الخيار متروك لهم تماما.»
تدخلت هارييت قائلة: «وفيما يتعلق بتعيين آمر أو ضباط سجون لفرض النظام، فمن أين ستأتي بأولئك الأشخاص؟ هل أتيت إلى هنا للتطوع للقيام بذلك؟ وإن لم تتطوع أنت فمن سيريد ذلك؟ لقد ضاق الناس ذرعا بالمجرمين والإجرام. وليسوا مستعدين في الوقت الحالي لأن يقضوا حياتهم خائفين. لقد ولدت عام 1971، أليس كذلك؟ لا بد أنك تذكر التسعينيات، حينما كانت النساء يخشين السير في شوارع مدنهن، وارتفع معدل جرائم العنف والانتهاك الجنسي، وكان المسنون يحبسون أنفسهم داخل شققهم - بعضهم مات محروقا في محبسه ذلك - وكان المشاغبون السكارى يقلقون سلام بلداتنا؛ ولم يكن أطفالهم أقل خطورة من كبارهم، ولم تأمن من شرهم أي ممتلكات إلا تلك التي كانت تحميها أجهزة إنذار وشبكات حماية من السرقة الباهظة الثمن. حاولنا بشتى الطرق شفاء البشر من إجرامهم، بكل أنواع ما يسمى علاجا نفسيا، وطبق كل نظام في سجوننا. لم تجد القسوة والشدة نفعا، ولا الرفق والتسامح. منذ أوميجا والناس يقولون لنا «طفح الكيل». لم يستطع القساوسة ولا الأطباء النفسيون ولا الاختصاصيون النفسيون ولا علماء الجريمة إيجاد الحل. ما نضمنه هو التحرر من الخوف والعوز والملل. والتحرر من الأمرين الأخيرين لا معنى له دون التحرر من الخوف.»
قال زان: «لكن النظام القديم لم يكن عديم النفع تماما، أليس كذلك؟ فقد كان أفراد الشرطة يتلقون رواتب جيدة. وكانت الطبقات الوسطى من المجتمع تنتفع من ورائه كثيرا، ضباط المراقبة، والعاملون بالخدمة الاجتماعية، وحكام الصلح والقضاة وموظفو المحاكم، كانت صناعة مربحة تقوم بالكامل على مخالفي القانون. وكان المشتغلون بمهنتك يا فيليشيا يتربحون جيدا بممارسة مهاراتهم القانونية الباهظة التكاليف لإدانة المتهمين كي يتسنى لزملائهم نقض الحكم في الاستئناف. لكن في الوقت الحالي تشجيع المجرمين يعد رفاهية لا نستطيع تحمل كلفتها، حتى إن كانت ستوفر حياة كريمة للليبراليين من الطبقة المتوسطة. لكني لا أظن أن مستعمرة مان العقابية هي آخر مشكلاتك.»
قال ثيو: «يوجد انزعاج من أسلوب التعامل مع العمال الوافدين. فنحن نستقدمهم كالرقيق ونعاملهم معاملة العبيد. ولماذا يوجد حصة محددة لأعدادهم؟ دعهم يأتون ويغادرون كيفما أرادوا.»
كان ولفينجتون قد انتهى من رسم أول صفين من الخيالة الذين كانوا يختالون بزهو على ورقته. رفع عينيه وقال: «أتقترح أن نفتح باب الهجرة دون قيود؟ أتذكر ما حدث في أوروبا في التسعينيات؟ لقد ضاق الناس ذرعا بالحشود التي اجتاحت بلادنا قادمة من بلاد لا تقل مواردها الطبيعية عن مواردنا، ولكنهم سمحوا لحكامهم بأن يسيئوا حكمهم لعقود طويلة بسبب جبنهم وتكاسلهم وغبائهم، وجاءوا متوقعين أن يستغلوا منافعنا التي اكتسبناها على مدى قرون بذكائنا وعرقنا وشجاعتنا، بينما يشوهون ويدمرون عرضا الحضارة التي كانوا يتلهفون أن يصيروا جزءا منها.»
رأى ثيو أنهم جميعا صاروا يتحدثون بلسان رجل واحد. وأيا كان من يتحدث منهم، فهو يتحدث بلسان زان. قال: «نحن لا نتحدث عن الماضي. نحن الآن لا نعاني نقصا في الموارد، أو الوظائف أو المساكن. وسياسة تقييد الهجرة في عالم يحتضر ويعاني نقصا في السكان ليست سياسة كريمة على الإطلاق.»
قال زان: «هي لم تكن يوما كذلك؛ فالكرم فضيلة تصلح للأفراد لا الحكومات. عندما تكون الحكومات كريمة فإنها تجود بأموال الآخرين وأمنهم ومستقبلهم.»
حينها تكلم كارل إنجلباتش للمرة الأولى. كان يجلس جلسته التي اعتاد ثيو أن يراه عليها؛ إذ كان يميل إلى الأمام قليلا في كرسيه، وقد أحكم قبضتيه وأراحهما على الطاولة، إحداهما بمحاذاة الأخرى تماما ووجههما إلى الأسفل وكأنما يخبئ داخلهما شيئا قيما لكن ينبغي أن يعرف المجلس بامتلاكه له، أو ربما كما لو كان على وشك أن يلعب لعبة طفولية فيفتح إحدى قبضتيه ثم الأخرى ليكشف عن عملة معدنية نقلها من يد إلى أخرى. كان يبدو كنسخة دمثة من لينين - والأرجح أنه مل سماع ذلك - برأسه المدبب الأملس وعينيه السوداوين النبيهتين. كان يكره قيد ربطات العنق وأزرار الياقات، وعزز ذلك الشبه حلته المصنوعة من الكتان ذات اللون البني المصفر التي كان يرتديها دائما، والتي كانت متقنة الصنع ولها ياقة عالية وأزرار على الكتف اليسرى. لكنه اليوم كان يبدو مختلفا للغاية. رأى ثيو منذ أن وقعت عيناه عليه أنه مريض بمرض مميت، بل ربما كان يقف على أعتاب الموت. كانت رأسه مجرد جمجمة يعلوها غشاء من الجلد مشدود بإحكام على عظامه الناتئة، ورقبته الهزيلة تبرز من ياقة قميصه مثل رقبة السلحفاة، وكان جلده المبقع مصابا باليرقان. لكن تلك النظرة لم تكن غريبة عن ثيو. وحدهما عيناه لم تتغيرا، كانتا متقدتين من محجريهما كنقطتي ضوء صغيرتين. لكن عندما تحدث كان صوته قويا كعادته. بدا كأن ما تبقى من قواه كان مركزا في عقله وصوته الشجي والرنان الذي يعبر به عما يدور في خلده. «أنت رجل تاريخ. وتعرف أي شرور ارتكبت على مر العصور لضمان استمرارية شعوب وطوائف وأديان بل حتى عائلات منفردة. أيا كان ما يفعل الإنسان من خير أو شر فإنه يفعله وهو يدرك أن التاريخ هو ما جاء به، وأن حياته هو قصيرة وغير مضمونة وواهية، لكن سيكون دائما مستقبلا لأمته أو لعرقه أو لقبيلته. هذا الأمل زال أخيرا إلا من أذهان الحمقى والمتطرفين. سيهلك الإنسان إن عاش دون أن يعرف ماضيه؛ وسيتحول إلى وحش إن لم يكن لديه أمل في مستقبل ما. نرى انعدام ذلك الأمل في كل دول العالم، نرى نهاية العلوم والابتكارات، باستثناء الاكتشافات التي قد تطيل عمر الإنسان أو تزيد راحته ومتعته، نرى نهاية اهتمامنا بالعالم المادي وبكوكبنا. فما أهمية ما سنخلفه وراءنا من إرث عن تلك الفترة القصيرة التدميرية التي قضيناها هنا؟ الهجرات الجماعية، والاضطرابات الداخلية الكبيرة، والحروب الدينية والقبلية التي شنت في التسعينيات مهدت الطريق لانعدام القيم الأخلاقية على مستوى العالم، فترك الناس البذر وحصد المحاصيل، وأهملوا الحيوانات، وانتشرت المجاعات والحروب الأهلية، ونهب القوي الضعيف. نرى ارتداد الناس للأساطير والخرافات القديمة، بل حتى للتضحية بالبشر قرابين، وهو ما يحدث أحيانا على نطاق هائل. من يقف وراء منع تلك الكارثة العالمية من أن تنال هذا البلد بدرجة كبيرة هم الخمسة الأشخاص الجالسون على تلك الطاولة. وبالأخص حاكم إنجلترا؛ فلدينا نظام يمتد من هذا المجلس وحتى المجالس المحلية، وهو يحتفظ بآثار من الديموقراطية لأولئك الذين لا يزالون يكترثون لها. لدينا إدارة بشرية للعمالة لا تزال تولي بعضا من العناية للرغبات والمواهب الفردية، وتضمن أن يستمر الناس في العمل حتى إن كانوا لن يتركوا وراءهم ذرية ترث ثمار مجهوداتهم. حتى مع وجود رغبة ملحة في الإنفاق، والتملك، وإشباع الرغبات الآنية، ما زلنا نملك اقتصادا قويا ومعدل تضخم منخفضا. لدينا خطط ستضمن أن يتوفر لدى آخر جيل، يملك من الحظ ما يكفي لأن يسكن في ذلك النزل المتعدد الأعراق الذي نسميه بريطانيا، مخزونا من الغذاء والأدوية الضرورية والإضاءة والمياه والطاقة. مقابل تلك الإنجازات، هل يكترث الشعب كثيرا بكون بعض العمال الوافدين غير راضين عن أوضاعهم، أو أن بعض المسنين يختارون الموت في جماعة، أو أن السلام لا يسود داخل مستعمرة مان العقابية؟»
قالت هارييت: «ألم تنأ بنفسك عن تلك القرارات؟ ليس من الشرف أن تتخلى عن المسئولية ثم تأتي لتتذمر عندما لا تعجبك نتيجة مجهودات غيرك. أنت من اخترت الاستقالة، أتذكر؟ على أي حال أنتم علماء التاريخ تحبون أن تحيوا في الماضي؛ لذا لم لا تبقون هناك؟»
قالت فيليشيا: «الرجوع إلى الوراء هو ما يألفه بالتأكيد. حتى عندما قتل ابنته، كان يرجع إلى الوراء.» أعقب ذلك التعليق فترة قصيرة من الصمت المتوتر استطاع ثيو أن يكسره قائلا: «أنا لا أنكر إنجازاتكم، لكن هل حقا سيضير إجراء بعض الإصلاحات بالنظام المستتب، والراحة والأمان، تلك الأمور التي توفرونها للناس؟ أوقفوا فعاليات راحة الموت. إن أراد الناس قتل أنفسهم - وأتفق على أن تلك طريقة منطقية لإنهاء الحياة - فأرسلوا لهم حبوب الانتحار اللازمة، لكن دون إقناع أو إرغام جماعي. أرسلوا قوة إلى مستعمرة مان العقابية وأعيدوا إليها بعض النظام. أوقفوا اختبارات الحيوانات المنوية الإجبارية، والفحوص الدورية للسيدات المتمتعات بصحة جيدة؛ فهي مهينة ولا جدوى منها على أي حال. أغلقوا المحال الإباحية الحكومية. عاملوا العمال الوافدين معاملة البشر لا العبيد. بإمكانكم أن تفعلوا كل تلك الأمور بسهولة. بإمكان الحاكم أن يجعلها تتحقق بتوقيع واحد منه. هذا كل ما أطلبه منكم.»
قال زان: «وما تطلبه كثير في نظر المجلس. كنا لنعطي وزنا أكبر لمطالبك لو كنت جالسا على جانبنا من الطاولة، وقد كان بإمكانك أن تختار ذلك. لكن موقعك الآن لا يختلف عن سائر أفراد الشعب البريطاني. أنت تريد تحقيق الغاية لكنك تغض الطرف عن الوسيلة. تريد للحديقة أن تكون غناء دون أن تطول رائحة السماد إلى أنفك المتأفف.»
هب زان واقفا وحذا حذوه باقي أعضاء المجلس واحدا تلو الآخر. لكنه لم يمد يده للمصافحة. أدرك ثيو أن جندي الجرينادير الذي اصطحبه إلى الداخل قد تحرك بهدوء ليقف بجواره وكأنما استجاب لإشارة خفية ما. وتوقع أن يشعر بيد تمسك بكتفه. دون أن ينطق بكلمة استدار وتبعه خارج غرفة المجلس.
الفصل الثالث عشر
كانت السيارة في انتظاره. عندما رآه السائق ترجل من السيارة وفتح له الباب. لكن فجأة وجد زان بجواره. قال لهيدجز: «أوصلنا إلى طريق ذا مول وانتظرنا عند تمثال الملكة فيكتوريا.» ثم التفت إلى ثيو قائلا: «سنتمشى قليلا في المتنزه. انتظر ريثما أحضر معطفي.»
عاد قبل أقل من دقيقة وهو يرتدي معطفه المعتاد المصنوع من قماش التويد الذي يرتديه على الدوام في اللقطات التلفزيونية الخارجية، والذي كان مضيقا قليلا عند الخصر وتعلوه طبقتان فضفاضتان عند الكتفين، على الطراز الريجنسي، الذي شاع لفترة وجيزة في مطلع القرن العشرين، وكان باهظ الثمن. كان المعطف قديما لكنه احتفظ به.
كان ثيو لا يزال يتذكر حديثهما عندما طلبه: «لقد جننت. ستدفع كل ذلك مقابل معطف!» «سيدوم للأبد.» «لكنك لن تدوم للأبد، ولا تلك الصرعة.» «لا أهتم بالصرعات. سيعجبني الطراز أكثر عندما لا يرتديه أحد غيري.»
والآن لم يكن أحد غيره يرتديه.
عبرا الطريق ودخلا إلى المتنزه. قال زان: «قدومك اليوم إلى هنا لم يكن تصرفا حكيما. يوجد حدود لقدرتي على حمايتك أو حماية من تصاحبهم.» «لم أكن أعرف أني بحاجة إلى الحماية، فأنا مواطن حر جاء للتشاور مع حاكم إنجلترا المنتخب بطريقة ديمقراطية. لماذا إذن سأحتاج إلى حماية منك أو من غيرك؟»
لم يجب زان. دون سابق تفكير، قال ثيو: «لماذا تفعل ذلك؟ لماذا بحق السماء تريد تلك الوظيفة؟» خطر له أنه الوحيد الذي لديه المقدرة أو الجرأة على طرح ذلك السؤال.
صمت زان لبرهة قبل أن يجيب، وقد ضيق عينيه وركزهما على البحيرة كما لو أن شيئا لا يراه غيره قد أثار اهتمامه فجأة. لكن ثيو كان يرى أنه لم يكن ثمة داع لديه للتردد. إذ لا بد أنه فكر في إجابة ذلك السؤال مليا. ثم التفت وتابع سيره قائلا: «في البداية ظننت أني سأجدها ممتعة. سأجد السلطة ممتعة. لكن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد. فأنا لا أطيق قط رؤية شخص يؤدي بطريقة سيئة عملا ما أعرف أني كنت لأقوم به بطريقة جيدة. بعد مضي الخمس السنوات الأولى، وجدت أني لم أعد أستمتع بها بالدرجة نفسها، لكن حينها كان الأوان قد فات. فشخص ما عليه أن يقوم بهذا العمل، والأشخاص الوحيدون الذين يريدون القيام به هم الأربعة الجالسون حول تلك الطاولة. أكنت تفضل أن تقوم به فيليشيا؟ أو هارييت؟ أو مارتن؟ أو كارل؟ يستطيع كارل القيام به، ولكنه يحتضر. الثلاثة الآخرون لا يستطيعون الحفاظ على تماسك المجلس، فما بالك بالدولة. «إذن، هذا هو السبب؟ مجرد أداء للواجب العام منزها عن أي مصلحة شخصية؟» «هل سمعت يوما بأحد تخلى عن السلطة، أعني السلطة الحقيقية؟» «بعض الناس يفعلون ذلك.» «وهل رأيت أيا منهم، أولئك الموتى الأحياء؟ لكن السلطة ليست هي السبب الأساسي. سأخبرك بالسبب الحقيقي. هذا العمل لا يجعلني أشعر بالملل قط. أيا كانت المشاعر التي تجتاحني الآن، الملل ليس قط من ضمنها.»
سارا في صمت على حافة البحيرة. ثم ما لبث زان أن قال: «يؤمن المسيحيون يأن المجيء الثاني والأخير يحدث الآن، إلا أن ربهم يجمعهم واحدا تلو الآخر عوضا عن أن يتنزل في مجده بأسلوب أكثر استعراضية بين السحب الموعودة. بهذه الطريقة يمكن أن تتحكم السماء في أعداد الصاعدين إليها. وتسهل عملية صعود جماعة ذوي الأردية البيضاء، ممن نالوا الخلاص، إليها. أحب أن أعتقد أن الرب يشغل باله بالترتيبات العملية. لكنهم مستعدون للتخلي عن ذلك الوهم مقابل سماع ضحكة طفل واحد.»
لم يرد ثيو، فقال زان بهدوء: «من هؤلاء الأشخاص؟ من الأفضل لك أن تخبرني.» «لا يوجد أشخاص بعينهم.» «ذلك المزيج من كل تلك الأفكار المشوشة الذي عرضته في غرفة المجلس. أنت لم تفكر في ذلك بنفسك. لا أعني أنك غير قادر على التفكير فيه؛ فأنت تقدر على ما هو أكثر من ذلك بكثير، لكنك لم تبال بأي من ذلك طوال ثلاث سنوات، وحتى قبل ذلك لم تكن تبالي كثيرا. شخص ما أثر عليك!» «ليس شخصا بعينه؛ فأنا أعيش في العالم الحقيقي حتى وأنا في أكسفورد. أقف في طابور صندوق الدفع، وأذهب للتسوق، وأستقل الحافلة، وأسمع للآخرين. يتحدث الناس معي أحيانا. لا أحد يعنيني أمره، بل مجرد أشخاص عابرين. ما لدي هو أني على تواصل مع الغرباء.» «أي غرباء؟ طلابك؟» «ليس طلابي. لا أعني أحدا بعينه.» «غريب أنك صرت منفتحا لتلك الدرجة. فقد اعتدت أن تحيط نفسك بحائل منيع من الخصوصية، يحيط بك كمشيمة غير مرئية. عندما تتحدث إلى أولئك الغرباء الغامضين مرة أخرى، اسألهم إن كانوا يستطيعون القيام بوظيفتي أفضل مني، وإن كانوا يستطيعون ذلك، فقل لهم أن يأتوا إلي ويخبروني بذلك وجها لوجه؛ فأنت لست مبعوثا مقنعا للغاية. سيكون من المؤسف أن نضطر إلى إغلاق مدرسة تعليم الكبار في أكسفورد. لن يكون لدينا خيار إن تحول المكان إلى بؤرة للتحريض على التمرد.» «أنت حتما لا تعني ما تقول.» «هذا ما كانت فيليشيا ستقترحه.» «منذ متى تأخذ فيليشيا على محمل الجد؟»
ابتسم زان ابتسامته المكتومة المعهودة. «أنت محق بالطبع. أنا لا آخذ فيليشيا على محمل الجد.»
أثناء عبورهما الجسر الممتد عبر البحيرة، توقفا ونظرا باتجاه طريق وايتهول. كان هذا المنظر الذي لم يتغير هو أحد أكثر المناظر المثيرة في لندن، كان ذا طابع إنجليزي لكنه أيضا كان فريدا من نوعه؛ حيث تظهر أبراج حصن الإمبراطورية الأنيقة الباهرة وسط إطار من الأشجار وراء صفحة البحيرة المتلألئة. تذكر ثيو وقوفهما في ذلك المكان بالضبط بعد أسبوع من انضمامه للمجلس، وتذكر تأمله للمنظر نفسه، وارتداء زان للمعطف نفسه. كان يتذكر كل كلمة قالها بوضوح كأنما قيلت للتو. «يجب أن توقف فحوصات الحيوانات المنوية الإجبارية؛ فهي مهينة، وقد استمرت لأكثر من عشرين عاما دون أي جدوى. وعلى أي حال، أنت لا تخضع لها إلا الذكور الأصحاء المختارين. ماذا عن الآخرين؟» «إن كانوا يستطيعون التناسل، فحظا سعيدا لهم، لكن ما دام لدينا مرافق محدودة لإجراء الفحوصات، فلنحتفظ بها لأولئك الملائمين جسديا وأخلاقيا.» «إذن، فخطتك تضع في الاعتبار الفضيلة إلى جانب الصحة؟» «أجل، يمكنك أن تقول ذلك. إن كان الخيار بيدنا فلن نسمح لأي شخص له سجل إجرامي أو لدى أحد من أفراد عائلته سوابق جنائية بالتناسل.» «إذن ستعتبر القانون الجنائي مقياسا للفضيلة؟» «أهناك طريقة أخرى لقياسها؟» الدولة لا تستطيع النظر داخل قلوب الرجال. حسنا، هذا حل قاس لكنه فعال، كما أننا سنتغاضى عن الجنح البسيطة. لكن ما حاجتنا إلى جعل الأغبياء والضعفاء والعنيفين يتناسلون؟» «إذن في عالمك الجديد ذلك لن يكون ثمة مكان للص التائب؟» «قد أثني على توبته دون أن أريد له أن يتناسل. لكن اسمع يا ثيو، ذلك لن يحدث فعليا. فنحن نخطط من أجل التخطيط، من أجل التظاهر بأنه يوجد مستقبل للبشرية. لكن كم عدد الناس الذين يصدقون بالفعل في الوقت الحالي أننا سنجد منيا خصبا؟!» «ولنفترض أنكم بطريقة ما اكتشفتم أن شخصا سيكوباتيا عنيفا يمتلك منيا خصبا. هل ستستخدمونه للتناسل؟» «بالطبع. إن كان هو أملنا الوحيد فسنستخدمه. سنقبل بما يمكننا الحصول عليه. لكننا سنتخير الأمهات بعناية شديدة ممن يتمتعن بالصحة والذكاء وليس لديهن سجل جنائي. سنحاول استبعاد سمة السيكوباتية من نسله.» «وتلك المراكز الإباحية. أهي ضرورية حقا؟» «لست مجبرا على استخدامها. كما أن المواد الإباحية دائما ما كانت موجودة.» «كانت الحكومة تقبل بوجودها لكن لا توفرها.» «الفرق ليس كبيرا. وما ضررها على الناس وقد فقدوا الأمل؟ لا يوجد ما هو أفضل من إبقاء الجسد مشغولا وإبقاء العقل ساكنا.»
قال ثيو حينها: «لكن ذلك ليس هو الغرض الفعلي من إنشائها، أليس كذلك؟» «بالطبع لا. فلا أمل للبشر في التكاثر دون اتصال جنسي. إن انعدمت رغبة الناس في ذلك تماما فسنضيع.»
عندئذ، تابعا سيرهما ببطء. كاسرا الصمت الذي كاد يكون مؤنسا، سأل ثيو: «هل تتردد على وولكوم؟» «مقبرة الأحياء تلك؟ ذلك المكان يخيفني. كنت أزوره من حين لآخر لأؤدي واجب زيارة أمي. لم أذهب إلى هناك منذ خمس سنوات. لم يعد أحد يموت قط الآن في وولكوم. يحتاج ذلك المكان إلى راحة أبدية تأتيه على صورة قنبلة. ألا تجد ذلك غريبا؟ كل الأبحاث الطبية الحديثة تقريبا مكرسة لتحسين صحة العجائز وإطالة أعمار البشر، وفي النهاية يزيد عدد المسنين الهرمين عوضا عن أن يقل. ما الغرض من إطالة أعمارهم؟ نعطيهم عقاقير لتحسين الذاكرة القصيرة المدى، وعقاقير لتحسين المزاج، وعقاقير لفتح الشهية. وليسوا بحاجة إلى عقاقير تساعدهم على النوم، فهم على ما يبدو لا يفعلون سوى ذلك. أتساءل عما يدور داخل عقولهم الخرفة أثناء تلك الفترات الطويلة التي يكونون فيها شبه فاقدي الوعي. أظن أنها ذكريات، وصلوات.»
قال ثيو: «بل صلاة واحدة: «وترى بني بنيك. سلام على إسرائيل.» هل عرفتك أمك قبل أن تموت؟» «لسوء الحظ، أجل.» «قلت لي ذات مرة إن أباك كان يكرهها.» «لا أعرف لم قلت لك ذلك. أظن أنني كنت أحاول أن أثير دهشتك، أو إعجابك. كان يصعب إثارة دهشتك حتى حين كنت صبيا. ولم يثر أي شيء مما حققته، من دخولي الجامعة أو خدمتي في الجيش أو تقلدي منصب الحاكم، إعجابك حقا، أليس كذلك؟ لقد كان والداي منسجمين جيدا. لكن والدي كان مثليا بالطبع. ألم تدرك ذلك؟ كان الأمر يضايقني كثيرا عندما كنت صبيا، أما الآن فيبدو لي غير مهم على الإطلاق. فلماذا لا يعيش حياته بالطريقة التي أرادها؟ لطالما فعلت أنا ذلك. ذلك يفسر زيجته بالطبع. أراد أن يحظى بالوجاهة واحتاج إلى ابن؛ لذا اختار امرأة، كان من شأن الحصول على وولكوم، والزواج من بارونيت واللقب الذي ستحظى به أن يبهرها فلا تتذمر عندما تعلم أنها لن تحصل على ما هو أبعد من ذلك.» «لكن والدك لم يحاول قط التودد إلي.»
ضحك زان. «يا لك من مغرور يا ثيو. أنت لم تكن نوعه المفضل، كما أنه كان رجلا يحافظ بشدة على التقاليد. كان يؤمن بمقولة «لا تتغوط حيث تأكل.» بجانب ذلك، كان لديه سكوفل. كان سكوفل معه في السيارة عندما وقع الحادث. نجحت في التكتم على ذلك جيدا؛ بدافع شفقة البنوة، حسبما أظن. فأنا لم أكن أمانع أن يعرف أحد بالأمر، لكنه كان سيمانع. ولقد كنت ابنا شديد العقوق. وكنت مدينا له بذلك.»
ثم فجأة قال زان: «لن نكون آخر رجلين أحياء على الأرض. فذلك الامتياز سيحظى به أحد الأوميجيين، ليكن الرب في عونه. لكن لنتخيل لو كنا كذلك، ماذا تعتقد أننا كنا سنفعل حينها؟» «سنحتسي الخمر. نحيي الظلام ونتذكر النور. ونصيح بأسماء الحضور ثم نطلق النار على نفسينا.» «أي أسماء؟» «مايكل أنجلو، ليوناردو دافنشي، شكسبير، باخ، موزارت. يسوع المسيح.» «لتكن تلك قائمة حضور للبشرية. لنحذف منها الآلهة، والأنبياء، والمتعصبين. سأحب أن يكون الفصل منتصف الصيف، وأن يكون النبيذ فرنسيا أحمر، وأن يكون المكان الجسر القريب من وولكوم.» «ولأننا، في النهاية، إنجليزيان، فمن الممكن أن نختم بخطاب بروسبيرو الوداعي من مسرحية «العاصفة».» «هذا إن لم يمنعنا هرمنا حينها من تذكر كلماتها، ولم يوهن النبيذ، عندما ينفد، جسدينا فلا نقدر على رفع مسدسينا.»
كانا حينها قد وصلا إلى نهاية البحيرة. في طريق ذا مول، كانت السيارة بانتظارهم أمام تمثال الملكة فيكتوريا. وقف السائق إلى جانبها مباعدا بين ساقيه وعاقدا ساعديه أمام صدره، محدقا فيهما من تحت حافة قبعته. كانت وقفته تلك وقفة سجان أو ربما جلاد. استبدل ثيو في مخيلته بالقبعة طاقية سوداء، وقناعا، وفأسا.
ثم أتاه صوت زان ينطق بالكلمات التي ودعه بها: «أخبر أصدقاءك، أيا كانوا، أن يتعقلوا. إن لم يكن بإمكانهم التعقل، فأخبرهم أن يلتزموا الحذر. أنا لست بطاغية، لكني لا أستطيع تحمل كلفة أن أكون رحيما. لن أتوانى عن فعل ما يلزم، أيا كان.»
ونظر إلى ثيو، الذي ظن للحظة لا تتكرر أنه رأى في عيني زان نظرة تستجدي تفهمه. ثم كرر زان مرة أخرى: «أخبرهم يا ثيو. أخبرهم أنني سأفعل ما يلزم فعله.»
الفصل الرابع عشر
كان ثيو لا يزال يجد صعوبة في اعتياد عبور جادة سانت جايلز وهي خاوية. لا بد أن ذكرى أيامه الأولى في أوكسفورد؛ صفوف السيارات التي ركنت متلاصقة تحت أشجار الدردار، وقلقه الذي كان يتزايد بينما يقف منتظرا فرصته لعبور الجادة التي كانت حركة المرور تكاد لا تنقطع فيها، كانت أقوى من أي ذكريات أخرى أكثر تفاؤلا أو أعظم شأنا، فقد كانت تحضر في ذهنه بسهولة شديدة. كان لا يزال يجد نفسه تلقائيا يقف مترددا قبل أن يجتاز حافة الرصيف، ولا يزال خلو الشارع من السيارات يدهشه. ألقى نظرة خاطفة عن يمينه ويساره قبل أن يعبر الشارع العريض، ثم قطع الزقاق المرصوف بالحجارة المجاور لحانة «لامب آند فلاج» وسار إلى المتحف. كان الباب مغلقا ولوهلة خشي أن يكون المتحف مغلقا أيضا، وشعر بالضيق لأنه لم يكلف نفسه عناء إجراء مكالمة هاتفية. لكن الباب انفتح عندما أدار مقبضه، ورأى أن الباب الداخلي الخشبي كان مواربا. دلف إلى الغرفة الشاسعة المربعة التي يغلب عليها الزجاج والحديد.
كان الهواء شديد البرودة، على ما يبدو كان أكثر برودة منه في الشارع بالخارج، وكان المتحف يخلو من الناس عدا سيدة عجوز، كانت متدثرة جيدا فكان لا يظهر إلا عيناها من بين وشاحها الصوفي المخطط وقلنسوتها، وكانت تجلس على طاولة البيع في متجر المتحف. كان بوسعه أن يرى أن البطاقات البريدية نفسها كانت معروضة؛ بطاقات عليها صور لديناصورات وجواهر، وفراشات، وللأحرف الكبيرة المحفورة بوضوح على الأعمدة، وصور فوتوغرافية للآباء المؤسسين لتلك الكاتدرائية العلمانية التي تحوي ثقة العصر الفيكتوري، لجون راسكين والسير هنري أكلاند وهما جالسان معا عام 1874، ولبينجامين وودوارد ذي الوجه المرهف الحزين. وقف صامتا ينظر إلى أعلى، إلى السقف الذي يرتكز على صفوف من الأعمدة المصنوعة من الحديد الصلب، وإلى الفرج المزخرفة بين أطر الأقواس وحوافها، التي تتفرع منها بأناقة أوراق شجر وثمار فاكهة وأزهار وأشجار وشجيرات. لكنه كان يعلم أن الوخز الخفيف غير المعتاد الذي كان يشعر به إثر الإثارة، والذي وجده مقلقا أكثر منه مبهجا، لم يكن سببه المبنى بل مقابلته المرتقبة مع جوليان، وحاول أن يسيطر عليه بالتركيز على براعة وجودة صناعة الحديد الصلب وجمال الزخارف. ففي النهاية كانت تلك هي الحقبة الزمنية التي يألفها جيدا. هنا تجلت الثقة الفيكتورية، والجدية الفيكتورية؛ باحترام التعلم، والحرف اليدوية والفنون؛ وبالاعتقاد أن الإنسان يمكن أن يحيا حياته بأكملها في انسجام مع الطبيعة. لم يكن قد زار المتحف منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يكن أي شيء قد تغير. بالفعل لم يتغير أي شيء منذ أن دخله للمرة الأولى عندما كان طالبا جامعيا، عدا اختفاء تلك اللافتة التي تذكر أنها كانت تستند إلى أحد الأعمدة، مرحبة بقدوم الأطفال لكنها تحذرهم، دون جدوى حسبما يذكر، من الركض أو رفع أصواتهم. كان هيكل الديناصور ذي الإبهام المعقوف لا يزال يحتل موقع الصدارة بين المعروضات. عاد بذاكرته، وهو يتأمله، إلى مدرسته الابتدائية في كينجستون. كانت السيدة لادبروك قد علقت صورة للديناصور على السبورة وشرحت لهم أن ذلك الحيوان، شديد الضخامة دقيق الرأس، كان قوي الجسد لكنه كان ضعيف العقل؛ ولذلك لم يستطع التأقلم وانقرض. حتى عندما كان عمره عشر سنوات، لم يكن يقتنع بهذا التفسير. فقد ظل ذلك الديناصور، ذو العقل الصغير، على قيد الحياة لبضعة ملايين من السنوات؛ وبهذا يكون قد تفوق على جنس «الإنسان العاقل».
عبر من القوس في آخر المبنى الرئيسي إلى متحف بيت ريفرز، الذي يضم أحد أضخم المجموعات الإثنولوجية في العالم. كانت المعروضات متلاصقة للغاية فكان يصعب معرفة إذا ما كانت تقف بالفعل في انتظاره هناك ربما وراء قاعدة الطوطم الذي يبلغ ارتفاعه أربعين قدما. لكن عندما توقف لبرهة، لم يأته أي صوت لوقع أقدام. كان الصمت تاما، وكان يعلم أنه وحده في المكان، لكنه كان يعلم أيضا أنها ستأتي.
بدا متحف بيت ريفرز أكثر تكدسا مما كان في آخر زيارة له. بدت نماذج السفن والأقنعة والأغراض المصنوعة من العاج والأشغال المصنوعة من الخرز والتمائم وحاملات النذور كأنها تستعرض نفسها بصمت داخل صناديق العرض غير المنظمة لجذب انتباهه. شق طريقه بينها وتوقف أخيرا أمام أحد المعروضات الذي كان مفضلا لديه، وكان لا يزال معروضا لكن بطاقته صارت مصفرة وباهتة للغاية، وبالكاد كان يمكن قراءة الكتابة عليها. كان عقدا مصنوعا من ثلاثة وعشرين سنا مصقولا من أسنان حوت عنبر، أعطاه الملك ثاكومبو عام 1874 القس جيمس كالفرت، وأهداه للمتحف ابن حفيده، وهو ضابط طيار توفي متأثرا بجروحه في بداية الحرب العالمية الثانية. شعر ثيو بالانبهار نفسه الذي شعر به عندما كان طالبا جامعيا بسلسلة الأحداث العجيبة التي ربطت بين صنع يدي نحات من جزيرة فيجي والطيار الشاب ذي المصير المشئوم. تخيل مرة أخرى مراسم الإهداء؛ والملك جالسا على عرشه محاطا بمحاربيه الذين يرتدون التنانير المصنوعة من الكلأ، والمبشر وقد ارتسمت على ملامحه الجدية أثناء قبوله تلك الهبة الغريبة. خاض جده الحرب التي استمرت من 1939 حتى 1945، وكان أيضا قد قتل أثناء تأديته الخدمة في سلاح القوات الجوية الملكية عندما أسقطت طائرته قاذفة القنابل من طراز لانكاستر أثناء مشاركتها في الغارة الجوية الضخمة على مدينة دريزدن. عندما كان لا يزال طالبا جامعيا، مشغولا طوال الوقت بلغز الزمن، كان يحب أن يعتقد أن ذلك يربطه هو أيضا بالملك، المدفونة عظامه في الجانب الآخر من العالم.
ثم سمع صوت وقع خطوات. تلفت حوله لكنه انتظر مكانه حتى صارت جوليان بجواره. كان رأسها مكشوفا لكنها كانت ترتدي معطفا مبطنا وبنطالا. عندما تكلمت، خرجت أنفاسها في صورة نفحات صغيرة من الضباب. «آسفة على التأخير. فقد أتيت إلى هنا بالدراجة وانثقب إطارها. هل قابلته؟»
لم يتبادلا التحية، فعرف أنه كان يمثل لها مجرد رسول. سار مبتعدا عن صندوق العرض فتبعته وهي تجول بنظرها من جانب إلى آخر. افترض أنها تفعل ذلك لكي تعطي انطباعا بأنهما زائران تقابلا عرضا حتى وسط ذلك الخواء الواضح. لم يكن أداؤها مقنعا وتساءل لم تكلف نفسها عناء ذلك.
قال: «أجل قابلته. في الواقع قابلت المجلس بأكمله. ثم بعدها قابلت الحاكم منفردا. لم تكن مقابلتي مثمرة؛ بل ربما أكون قد تسببت في بعض الضرر. فقد استشف أن شخصا ما قد حرضني على تلك الزيارة. والآن إن مضيتم قدما في تنفيذ خططكم، فقد أنذر بها.» «هل شرحت له ما يحدث في فعاليات الراحة الأبدية، وما يلقاه العمال الوافدون من معاملة، وما يحدث في جزيرة مان؟» «هذا ما طلبتم مني أن أفعله، وهذا ما فعلته. لم أكن أتوقع أن أنجح في إقناعه وبالفعل لم أنجح. حسنا، قد يقوم ببعض التغييرات مع أنه لم يقطع لي أي وعود. على الأرجح سيغلق المحال الإباحية المتبقية، لكن سيفعل ذلك تدريجيا، ويتساهل في القوانين المتعلقة بفحوصات الحيوانات المنوية الإلزامية. فهي مضيعة للوقت على أي حال، وأشك أن لديه العدد اللازم من فنيي المعامل للاستمرار في إجرائها على النطاق الوطني أكثر من ذلك. فنصفهم لم يعد يكترث. فقد تخلفت عن موعدين العام الماضي ولم يكلف أحد نفسه عناء مراجعتي. لا أعتقد أنه سيفعل أي شيء بخصوص فعاليات الراحة الأبدية عدا، ربما، ما يضمن له أنها ستنظم بطريقة أفضل في المستقبل.» «ماذا عن مستعمرة مان العقابية؟» «لا شيء. لن يهدر أي رجال أو موارد على إحلال السلام في الجزيرة. ولماذا يفعل؟ فإنشاء المستعمرة العقابية كان على الأرجح أكثر إنجازاته شعبية.» «ومعاملة العمال الوافدين؟ منحهم حقوق المواطنة الكاملة، وحياة كريمة هنا، والفرصة كي يبقوا؟» «أهميتهم ضئيلة جدا في نظره مقارنة بما هو أهم: حفظ النظام في إنجلترا، وضمان أن يموت الجنس البشري وهو يتمتع بشيء من الكرامة.»
قالت: «الكرامة؟ كيف ستوجد الكرامة إذا كنا لا نهتم بكرامة الآخرين؟»
كانا قد اقتربا من قاعدة الطوطم الضخمة. مرر ثيو يده على خشبها. قالت غير مكترثة بالنظر إليها: «إذن، سنضطر إلى القيام بأقصى ما بوسعنا.» «ليس بوسعكم أي شيء إلا التسبب في موتكم أو إرسالكم إلى الجزيرة، هذا إن كان الحاكم والمجلس عديمي الرحمة كما تظنونهم. وكما يمكن لميريام أن تؤكد لكم، الموت سيكون أفضل من النفي إلى الجزيرة.»
قالت كأنما تفكر في خطة جدية: «ربما إن خطط بضعة أشخاص أو مجموعة صغيرة من الأصدقاء، أن ينفوا إلى الجزيرة معا، فقد يستطيعون فعل شيء لتغيير الأوضاع هناك. أو إن عرضنا أن نذهب إلى هناك طواعية، فلماذا سيمنعنا الحاكم، لماذا سيهتم؟ فحتى مجموعة صغيرة من الأشخاص قد تمد يد العون إن ذهبت بدافع المحبة.»
قال ثيو وهو يسمع نبرة استخفاف في صوته: «تريدون رفع صليب المسيح في وجه سكان الجزيرة الهمجيين كما فعل المبشرون في أمريكا الجنوبية، كي تقتلوا بوحشية على الشواطئ، كما حدث معهم؟ ألا تقرءون التاريخ؟ لا يوجد إلا سببان للإقدام على مثل تلك الحماقة. أحدهما هو أنكم تتوقون إلى نيل الشهادة. وهذا ليس بالجديد ما دام دينك يدعو إلى ذلك. طالما اعتبرت ذلك مزيجا من الماسوشية واللذة الحسية لكني أجده يروق لبعض الاتجاهات الفكرية. لكن الجديد في الأمر هو أن ذكرى استشهادكم لن تخلد ولن يلحظه أحد حتى. وخلال بضعة وسبعين عاما، لن يكون له أي قيمة لأنه لن يبقى أحد على وجه الأرض ليمنحه قيمة، ولا حتى ليبني ضريحا صغيرا على جانب الطريق لشهداء أكسفورد الجدد. السبب الثاني أكثر دناءة وسيتفهمه زان جدا. إن نجحتم في مسعاكم، فيا للسلطة العظيمة التي ستحظون بها ! سيعم السلام على جزيرة مان، ويعيش المجرمون العنيفون في سلام، وستزرع المحاصيل وتحصد، ويتلقى المرضى الرعاية، وتقام قداسات الأحد في الكنائس، وسيقبل المنقذون أيدي القديسين الأحياء الذين جعلوا كل ذلك ممكنا. حينها ستعرفون شعور حاكم إنجلترا في كل لحظة في صحوه، الشعور الذي يتلذذ به ولا يستطيع التخلي عنه. شعور أن تحظوا بالسلطة المطلقة داخل مملكتكم الصغيرة. أتفهم أن ذلك مغر، لكنه لن يتحقق.»
وقفا صامتين لبرهة، ثم قال برفق: «انسوا الأمر. لا تهدروا ما تبقى من حياتكم في سبيل قضية مستحيلة لا طائل منها. سوف تتحسن الأوضاع. في خلال خمسة عشر عاما - وهذا ليس بالزمن الطويل - ستكون أعمار 90 بالمائة من سكان إنجلترا قد تعدت الثمانين. ولن تعود لديهم طاقة للشر أكثر من طاقة الخير التي ستكون لديهم. تخيلي كيف ستصبح إنجلترا حينها. ستكون المباني الضخمة خاوية وساكنة، والطرق متروكة دون صيانة، تمتد بين حواجز كستها النباتات البرية، والمتبقون من البشرية سيتجمعون معا في مكان واحد بحثا عن الراحة والأمان، ثم ما تلبث أن تتداعى الخدمات التي تقوم عليها الحضارة، وفي النهاية تنقطع الطاقة والإنارة. حينها ستضاء الشموع التي يكتنزها الناس ثم ما تلبث أن تخبو وتنطفئ. ألا يجعل ذلك ما يحدث في جزيرة مان يبدو ضئيل الأهمية في نظرك؟»
قالت: «إن كنا سنموت فالأفضل لنا أن نموت بشرا وليس شياطين. وداعا، وشكرا لأنك قابلت الحاكم.»
لكنه شعر بضرورة أن يقوم بمحاولة أخيرة. فقال: «لا أستطيع تصور جماعة تفوقكم في عدم جاهزيتها لمواجهة جهاز الدولة. ينقصكم المال والموارد والتأثير والدعم الشعبي. وليس لديكم حتى فلسفة متسقة للثورة. فميريام تفعل ذلك من أجل الانتقام لأخيها. وجاسكوين يفعل ذلك، على ما يبدو؛ لأن الحاكم أهان اسم فرقة حرس الجرينادير. ولوك يفعله بدافع من مثالية مسيحية غير واضحة المعالم، ولأجل أفكار مجردة مثل الرحمة والعدل والحب. ورولف لا يمتلك حتى مبررا أخلاقيا. فدافعه هو الطموح؛ فهو ناقم على الحاكم لتمتعه بالسلطة المطلقة التي يريدها لنفسه. وأنت تفعلين ذلك لأنك متزوجة من رولف. وهو يدفع بك إلى ذلك الخطر المريع لأجل إشباع طموحه. لا يحق له أن يرغمك على ذلك. اتركيه. تحرري منه.»
قالت برفق: «لا أملك إلا أن أكون متزوجة به. لا أستطيع تركه. وأنت مخطئ، فليس ذلك هو السبب. أنا معهم لأن ذلك هو ما يجب علي فعله.» «أجل، لأن رولف يريد منك ذلك.» «كلا، لأن الرب يريد مني ذلك.»
شعر برغبة في أن يرطم رأسه بقاعدة الطوطم من فرط خيبة أمله. «إن كنت تؤمنين بوجوده، فمن المفترض أنك تؤمنين بأنه منحك عقلك وذكاءك، فاستخدميهما. كنت أحسب أنك تملكين من عزة النفس ما يمنعك من أن تجعلي من نفسك أضحوكة.»
لكنها لم تتأثر بمحاولات التملق السطحية تلك. قالت: «لا يتغير العالم على يد الأنانيين بل على يد رجال ونساء لديهم استعداد لأن يجعلوا من أنفسهم أضحوكة. وداعا يا دكتور فارون. وشكرا لك على المحاولة.» استدارت دون أن تلامسه وشاهدها تغادر.
لم تطلب منه ألا يخونهم. لم تكن بحاجة لأن تطلب منه ذلك، لكنه كان سعيدا لأنها لم تنطق بتلك الكلمات. ولم يكن بإمكانه أن يعد بذلك. لم يكن يصدق أن زان سيقبل بتعريضه للتعذيب، لكن بالنسبة له كان مجرد التهديد بالتعذيب كافيا، وأدرك للمرة الأولى أنه ربما يكون قد أساء الحكم على زان لأسباب غاية في السذاجة؛ وهي أنه لا يصدق أن رجلا يملك ذكاء شديدا وحس فكاهة وجاذبية، رجلا يعتبره صديقه، يمكن أن يكون شريرا. ربما كان هو من يحتاج إلى درس في التاريخ وليس جوليان.
الفصل الخامس عشر
لم تنتظر الجماعة طويلا، فبعد أسبوعين من مقابلته مع جوليان، نزل ليفطر فوجد، ضمن مجموعة الخطابات البريدية المبعثرة على دواسة الباب، ورقة مطوية. كان يعلو الكلمات المطبوعة رسمة دقيقة لسمكة صغيرة تشبه سمكة الرنجة. كانت تبدو كرسمة رسمها طفل؛ لكن أحدا تكبد عناء رسمها. قرأ ثيو مضمون الرسالة أدناها بشفقة حانقة.
إلى شعب بريطانيا
لا نستطيع أن نغض الطرف أكثر من ذلك عن الإساءات التي تحدث في مجتمعنا. إن كان جنسنا في سبيله إلى الموت، فلنمت على الأقل رجالا ونساء أحرارا، بشرا، لا شياطين. نطالب حاكم إنجلترا بما يلي: (1)
إجراء انتخابات عامة وعرض سياساته أمام الشعب. (2)
منح العمال الوافدين حقوق المواطنة كاملة، وفيها حق السكن في بيوتهم الخاصة، واستقدام عائلاتهم، والبقاء في بريطانيا بعد انقضاء مدة عقد خدمتهم. (3)
إيقاف فعاليات راحة الموت. (4)
التوقف عن إرسال المجرمين المدانين إلى مستعمرة جزيرة مان العقابية، وضمان حياة آمنة كريمة لأولئك الذين يعيشون فيها بالفعل. (5)
إيقاف فحوصات الحيوانات المنوية والفحوصات التي تخضع لها النساء الشابات الصحيحات، وإغلاق المحال الإباحية العامة.
السمكات الخمس
صدمته الكلمات من فرط بساطتها ومعقوليتها وجوهرها الإنساني. وتساءل عن السبب وراء أنه كان متأكدا من أن جوليان هي التي كتبتها. لكنها ما كانت ستجدي نفعا. فما الذي تنشده جماعة «السمكات الخمس»؟ أتريد أن يخرج الناس في مسيرات احتجاجية أمام المجالس المحلية أو أن يقتحموا مبنى وزارة الخارجية القديم؟ هذه الجماعة كان ينقصها التنظيم ولم تكن تملك أي أساس للسلطة، ولا المال، ولا خطة واضحة لحملتها. أقصى ما كان يمكنهم أن يطمحوا إلى تحقيقه هو أن يستحثوا الناس على التفكير، وأن يثيروا السخط العام، ويشجعوا الرجال على التخلف عن موعد فحوصات الحيوانات المنوية القادم، وأن يشجعوا النساء على رفض الحضور إلى الفحص الطبي النسائي القادم. وما الفارق الذي سيصنعه ذلك؟ فقد أصبحت الفحوصات تؤدى لمجرد التخلص من الواجب؛ إذ لم يعد ثمة أمل.
كانت الورقة ذات جودة رديئة، وكانت الرسالة مطبوعة عليها بطريقة تفتقر للاحترافية. على ما يبدو أنهم كان لديهم مطبعة مخبأة في سرداب كنيسة أو داخل حظيرة بغابة معزولة لكن يسهل الوصول إليها. لكن حتام ستظل سرا إن أخذت شرطة الأمن الوطني على عاتقها مطاردتهم؟
قرأ المطالب الخمسة مرة أخرى. على الأرجح لن يثير المطلب الأول قلق زان؛ فالشعب لن يرحب بالنفقات التي سيتكلفها إجراء انتخابات عامة أو الاضطرابات التي سيثيرها ذلك، لكن إن دعا إلى إجرائها، فستؤكد الأغلبية العظمى أحقيته في السلطة، سواء وجد من يملك من الرعونة ما يجعله يقف أمامه أم لا. سأل ثيو نفسه كم من الإصلاحات الأخرى المطلوبة كان بإمكانه أن يحقق لو ظل مستشارا لزان. لكنه كان يعرف الإجابة؛ فعجزه حينها كان لا يختلف عن عجز جماعة «السمكات الخمس» الآن. لولا أوميجا، لاعتبرت تلك المطالب أهدافا يمكن للمرء أن يحارب من أجلها أو حتى يلاقي الأهوال في سبيلها. لكن لولا أوميجا، لما وجدت الشرور من الأساس. كان من المنطقي أن يناضل المرء أو يعاني أو حتى يموت في سبيل أن يحظى بمجتمع أكثر عدلا ورحمة، لكن ذلك ليس منطقيا في عالم لا مستقبل له، عالم ستصير فيه الكلمات «عدل» و«رحمة» و«مجتمع» و«نضال» و«شر» في القريب العاجل مجرد أصداء لا يسمعها أحد تدوي في هواء لا يستنشقه أحد. ستقول جوليان أن ننقذ ولو عاملا وافدا واحدا من سوء المعاملة، أو نمنع ترحيل مجرم واحد
«السمكات الخمس»، فلن يتحقق ذلك؛ فذلك خارج حدود قدراتهم. أعاد قراءة المطالب الخمسة فشعر بالشفقة التي انتابته في بادئ الأمر تزول. قال في نفسه إن أغلب الرجال والنساء، الذين حرموا من أن يكون لهم نسل، يبذلون أقصى ما بوسعهم كي يحملوا عبء أحزانهم وندمهم، وقد تدبر كل منهم ملذات بديلة، واستغرقوا في توافههم الشخصية البسيطة، وصاروا يعاملون الآخرين وأي عمال وافدين يقابلونهم باحترام. فبأي حق تسعى جماعة «السمكات الخمس» لفرض عبء الفضيلة البطولي الذي لا جدوى منه على أولئك المسلوبين غير المبالين؟ أخذ الورقة إلى المرحاض وقطعها بدقة إلى أرباع وألقاها فيه ثم سحب المدفقة. بينما كانت المياه تسحبها وتدورها لتختفي عن نظره، تمنى للحظة فقط لو كان بوسعه أن يشاركهم الحماسة والطيش اللذين يربطان بين أفراد تلك الجماعة غير المسلحة المثيرة للشفقة.
الفصل السادس عشر
السبت 6 مارس 2021
اليوم اتصلت بي هيلينا بعد الإفطار لتدعوني لاحتساء الشاي ورؤية هرر ماتيلدا. كانت قد أرسلت لي بطاقة بريدية منذ خمسة أيام كي تعلمني بولادتها سالمة، لكنها لم تدعني إلى حفل الولادة. تساءلت إذا ما كانا قد أقاما حفلا للولادة أم اعتبراها امتيازا خاصا، أو تجربة يتشاركانها معا كاحتفاء متأخر بحياتهما الجديدة معا وتوطيد لها. حتى إن كان الأمر كذلك، فعلى الأرجح لن يفوتا ما يعتبره العرف في حكم الواجب، وهو إتاحة الفرصة للأصدقاء أن يشهدوا معجزة ولادة حياة جديدة. عادة يدعى ستة أشخاص بحد أقصى لمشاهدة الولادة، لكن من مسافة محسوبة بعناية، كي لا يقلقوا الأم أو يزعجوها. وبعدها، إن سار كل شيء على ما يرام، تقام وليمة احتفالية، عادة ما تقدم معها الشمبانيا. لكن هذه الولادات لا تخلو من الحزن؛ فالقوانين المتعلقة بالحيوانات الأليفة الولود واضحة وتطبق بصرامة. وهي تقضي بتعقيم ماتيلدا والسماح لهيلينا وروبرت بالاحتفاظ بأنثى واحدة من هررها المولودة في ذلك البطن للتناسل. بدلا من ذلك، سيسمح لماتيلدا بولادة بطن أخرى، لكن حينها تعدم دون ألم جميع الهرر التي تلدها في ذلك البطن عدا ذكر واحد.
بعد أن تلقيت اتصال هيلينا، شغلت الراديو لأستمع إلى نشرة أخبار الساعة الثامنة. عندما سمعت تاريخ اليوم يذكر، أدركت للمرة الأولى أنه قد مر عام واحد بالضبط منذ أن تركتني من أجل روبرت. وربما هو يوم مناسب لزيارتي الأولى لبيتهما. اخترت أن أسميه «بيتا» لا «منزلا» لأني واثق من أن هيلينا كانت ستصفه بهذه الكلمة، تعظيما من شأن بناء عادي في شمال أكسفورد بإضفاء أهمية مقدسة لما يتشاركانه فيه من حب وأعمال تنظيف منزلية والتزام وصراحة تامة ونظام غذاء متوازن، ومطبخ صحي، وجماع صحي مرتين في الأسبوع. أتساءل، بشيء من الندم على تصرفاتي الشهوانية، كيف هي حياتهما الجنسية، لكني أقول في نفسي إن فضولي ذلك أمر طبيعي ومباح. ففي النهاية، يستمتع روبرت الآن، أو لعله يفشل في الاستمتاع، بجسدها الذي أكاد أعرفه عن ظهر قلب مثلما أعرف جسدي. الزواج الفاشل هو أكبر إثبات مخز على أن شهوة الجسد عابرة ومؤقتة. فبوسع المتحابين اكتشاف أحدهما كل خطوط جسد الآخر ومنحنياته وثناياه، وأن يبلغا معا قمة النشوة التي لا توصف؛ لكن تتضاءل أهمية ذلك عندما يفنى الحب أو تخبو الشهوة أخيرا ولا يبقى بينهما إلا النزاع على الممتلكات، وفواتير المحامين، والحطام البائس الذي يشغل غرفة الكراكيب، وعندما يتحول البيت الذي اختاراه وأثثاه وامتلكاه وهما مفعمان بالحماس والأمل إلى سجن، ويرتسم الامتعاض الكدر على وجهيهما، وترى عينا كل منهما، وقد خبت منها العاطفة وزالت عنها الغشاوة، جميع عيوب الآخر الجسدية بعد أن تزول رغبته فيه. أتساءل إن كانت هيلينا تتحدث مع روبرت عما كان يدور بيننا في السرير. أتصور ذلك؛ فالامتناع عن ذلك يتطلب مقدارا من ضبط النفس ورهافة الحس أكبر مما عهدته فيها يوما. ثمة عرق من الفجاجة يشوب الوجاهة الاجتماعية التي نشأت عليها هيلينا، وبإمكاني أن أتصور ما كانت ستقوله له. «كان ثيو يظن أنه عشيق رائع، لكنه لم يكن يميزه إلا أسلوبه. ستظنه تعلمه من كتيب إرشادات للجماع؛ فهو لم يكن يتحدث معي، أعني يتحدث معي فعليا. فلا فرق لديه بيني وبين أي امرأة أخرى.»
يمكنني أن أتصور أنها تقول تلك الكلمات لأني أعرف أنها محقة؛ فقد آذيتها أكثر مما آذتني، حتى إن أخرجنا من الحسبان قتلي طفلتها الوحيدة. لم تزوجتها؟ تزوجتها لأنها كانت ابنة أستاذي وهذا من شأنه أن يمنحني الوجاهة؛ ولأنها هي أيضا تحمل درجة علمية في التاريخ فاعتقدت أن لدينا اهتمامات فكرية مشتركة، ولأني كنت أجدها جذابة شكلا، وهذا جعلني أقنع قلبي الضنين بأن ذلك وإن لم يكن حبا، فهو أقرب إلى الحب مما سأصل إليه يوما على الأرجح. نجم عن مصاهرتي أستاذي توتر أكثر مما نجم عنه من لذة (فقد كان في الحقيقة شخصا متباهيا لدرجة منفرة، ولا عجب أن هيلينا كانت تتلهف للتملص من قبضته)، أما اهتماماتها الفكرية فكانت منعدمة (فقد قبلت في جامعة أكسفورد لأنها ابنة عميد إحدى كلياتها، ولأنها بمزيج من الاجتهاد والتعليم الجيد الباهظ الثمن الذي حظيت به، حصلت على شهادات المستوى المتقدم الثلاث اللازمة للقبول، وهذا جعل جامعة أكسفورد تبرر ذلك الاختيار الذي لم تكن لتختاره لولا ذلك). والانجذاب الجنسي ؟ حسنا، لقد دام ذلك لفترة أطول، مع أنه يخضع لقانون العوائد المتناقصة، حتى قتلته أخيرا بقتلي ناتالي. فلا يوجد ما هو أكثر فاعلية في كشف الفراغ الذي يقوم عليه زواج متداع دون أي مواربة للنفس من موت طفل.
أتساءل إن كان حظ هيلينا مع روبرت أفضل. إن كانا يستمتعان بحياتهما الجنسية فسيكونان من الأقلية المحظوظة؛ فقد صار الجنس أحد أقل المتع الحسية أهمية لدى البشر. قد يخيل للمرء أن بانعدام الخوف من الحمل للأبد، وزوال الحاجة لاستعمال اللوازم التي من شأنها تقليل الشعور بالإثارة الجنسية من حبوب منع الحمل والعوازل الذكرية وحسابات التبويض، ستتحرر الممارسات الجنسية ويفتح المجال لطرق إمتاع جديدة وإبداعية. لكن ما حدث هو العكس؛ فمن الواضح أنه حتى أولئك الرجال والنساء، الذين لم يكونوا ليرغبوا عادة في الإنجاب، بحاجة للاطمئنان إلى قدرتهم على إنجاب طفل إن أرادوا ذلك يوما. فبعد أن انفصل الجنس تماما عن التناسل، صار مجرد حركات بهلوانية لا معنى لها. وتزايدت شكاوى النساء مما أسموه بهزة الجماع المؤلمة؛ مجرد انقباضات لا يصحبها أي لذة. تكرس المجلات النسائية صفحات كاملة لمناقشة تلك الظاهرة الشائعة. أخيرا أصبح لدى النساء - اللواتي ظل انتقادهن للرجال وتعصبهن ضدهم يتزايد خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين - مبرر قوي لتلك الكراهية التي ظلت مكبوتة لعدة قرون؛ فبعد أن صرنا لا نستطيع منحهم أطفالا، لم نعد حتى نستطيع منحهم اللذة. قد لا يزال الجماع يمثل راحة للطرفين؛ لكنه نادرا ما يكون متعة متبادلة فيما بينهما. كانت المحال الإباحية، التي تشرف عليها الحكومة، والأدبيات التي لا تنفك تزداد إباحية، وجميع الوسائل التي من شأنها استثارة اللذة، جميعها بلا جدوى. ما زال الرجال والنساء يتزوجون، لكن ليس بنفس الكثرة، وبمراسم احتفالية أبسط وعادة يتزوجون من نفس جنسهم. ما يزال الناس يقعون في الحب، أو يدعون ذلك. ثمة بحث يكاد يكون مستميتا عن الشخص المناسب، الذي يفضل أن يكون أصغر سنا أو على الأقل من نفس السن، والذي سيواجه معه المرء الخراب والاضمحلال الآتي لا محالة . ما زلنا نحتاج إلى راحة جسد يتجاوب معنا، ويد تتشابك مع أيدينا، وشفاه تلامس شفاهنا. لكننا نقرأ قصائد الحب التي كتبت في العصور الماضية بشيء من الاستغراب.
بينما كنت أسير في شارع والتون ظهر اليوم، لم أشعر بأي ممانعة لفكرة رؤية هيلينا مرة أخرى، وانتابتني بهجة مترقبة لفكرة رؤية ماتيلدا. باعتباري أحد مالكيها المسجلين برخصة ملكية حيوان أليف ولود، كان يحق لي بالطبع أن أرفع دعوى أمام محكمة الوصاية على الحيوانات للحصول على الوصاية المشتركة أو أمر بالرؤية، لكني آثرت ألا أعرض نفسي لتلك المهانة. فبعض قضايا الوصاية على الحيوانات يتنازع عليها علانية بشراسة وتكون باهظة التكاليف، ولا نية لدي أن أضيف إلى ذلك العدد من القضايا واحدة أخرى. أدرك أني خسرت ماتيلدا، وأنها، كونها حيوان غدار بطبعه محب للراحة، ستكون قد نسيتني الآن.
لكن عندما رأيتها، كان من الصعب ألا أخدع نفسي. فقد كانت ترقد داخل سلتها ومعها هريرتان نابضتان بالحياة بدتا مثل فأرين أبيضين أملسين، وكانتا ترضعان من ثدييها برقة. حملقت نحوي بعينيها الزرقاوين الخاليتين من التعبير وبدأت تصدر قرقرة مبحوحة عالية بدا كأنها تهز السلة. مددت يدي لألمس رأسها الحريري.
قلت: «هل سار كل شيء على ما يرام؟» «أجل، تماما. بالطبع استدعينا الطبيب البيطري إلى هنا منذ أن بدأ المخاض، لكنه قال إنه نادرا ما يشهد ولادة سهلة كتلك. أخذ معه اثنتين من الهريرات المولودة. ولم نقرر بعد بأي سنحتفظ من هاتين الاثنتين.»
منزلهما صغير، وغير مميز معماريا، وهو عبارة عن فيلا شبه منفصلة مبنية من الحجارة في الضواحي، ميزتها الأساسية هي حديقتها الخلفية الطويلة المنحدرة التي تمتد حتى القناة. بدا معظم أثاثها وجميع سجادها جديدا، وأعتقد أنه من اختيار هيلينا التي كانت قد تخلصت من عتاد حياة حبيبها القديمة، من الأصدقاء والنوادي، والأثاث العائلي والصور العائلية اللذين كانا يؤنسان وحدته في عزوبيته واللذين ورثهما مع المنزل. لقد استمتعت بتأثيث بيت له - كنت متأكدا من أن تلك هي العبارة التي استخدمتها - وأنه تنعم في نتيجة جهودها مثل طفل حصل على غرفة ألعاب جديدة. كانت تفوح في كل مكان بالمنزل رائحة الطلاء الجديد. كما جرت العادة في مثل ذلك النوع من المنازل الأكسفوردية، أزيل الحائط الخلفي لغرفة الجلوس لإنشاء غرفة كبيرة واحدة بها نافذة مشرفة على الواجهة، ونوافذ فرنسية تؤدي إلى شرفة زجاجية في الجانب الخلفي. على امتداد أحد حوائط الردهة المطلية باللون الأبيض، علق صف من الرسومات الأصلية لأغلفة الكتب التي رسمها روبرت، وقد وضع كل منها داخل إطار خشبي أبيض. يوجد اثنتا عشرة رسمة في المجمل وتساءلت إن كان عرضها على الملأ فكرة هيلينا أم فكرته. في كلتا الحالتين، كانت مبررا لاستنكاري الحانق الذي انتابني للحظة. أردت أن أتمهل وأتفحص الرسومات، لكن هذا كان يعني أن أضطر إلى التعليق عليها ولم يكن يوجد ما أود أن أقوله. لكن حتى من نظرتي العابرة لها رأيت أن بها قدرا بالغا من التأثير؛ إن روبرت فنان لا يستهان به؛ وذلك الاستعراض للموهبة الذي ينطوي على العجب بالذات أكد لي ما كنت أعرفه بالفعل.
في الغرفة الزجاجية تناولنا وجبة الشاي التي كانت عبارة عن وليمة مسرفة في البذخ من الباتيه والشطائر، والبسكويت الإنجليزي المصنوع بالمنزل وكعكة فواكه أحضرت على صينية عليها مفرش من الكتان منشى حديثا ومحارم مائدة صغيرة تتماشى معه. كانت الكلمة التي حضرت في ذهني هي «منمق». عندما نظرت إلى المفرش أدركت أنه مفرش كانت هيلينا تطرزه قبل أن تهجرني بقليل. إذن، كان ذلك التطريز المرسوم بعناية جزءا من جهازها المنزلي الذي كانت تعده أثناء خيانتها لي. أكانت تلك الوليمة المنمقة - وأصر على ذلك الوصف الازدرائي - معدة لإبهاري، كي تريني كيف يمكن أن تكون زوجة جيدة لرجل لديه استعداد لتقدير مواهبها؟ كان من الواضح لي أن روبرت يقدرها. فهو يكاد يتنعم في تدليلها الأمومي. ربما كونه فنانا يجعله يعتبر اهتمامها واعتناءها به حقا مكتسبا. أعتقد أن الغرفة الزجاجية تكون دافئة ومريحة في فصلي الربيع والخريف. حتى الآن، وبوجود مدفأة واحدة، كانت دافئة بالقدر الذي يبعث على الراحة ورأيت بصعوبة عبر الزجاج أنهما كانا يعملان بكد على تنسيق الحديقة. فقد استند صف من شجيرات الورد الشائكة التي لفت جذورها في الخيش إلى ما بدا أنه سياج جديد. الأمن والراحة والمتعة. كان زان ومجلسه سيستحسنون ذلك.
بعد الشاي اختفى روبرت لبرهة داخل غرفة الجلوس. ثم عاد وناولني منشورا. تعرفت عليه على الفور. فقد كان مطابقا لذلك المنشور الذي دفعت به جماعة «السمكات الخمس» تحت عقب بابي. قرأته بإمعان متظاهرا بأني أراه لأول مرة. بدا أن روبرت كان ينتظر مني ردا. عندما لم يحصل مني على رد قال: «كانوا يخاطرون بتنقلهم من باب إلى باب.»
وجدت نفسي أقول ما أعتقد أنهم فعلوه حتما، وتضايقت من معرفتي بذلك، ومن عدم قدرتي على إبقاء فمي مطبقا. «ما كانوا سيفعلونها بتلك الطريقة. هذه المنشورات لا تشبه مجلة أبرشية، أليس كذلك؟ من شخص بمفرده أن يوزعها، ربما متنقلا على دراجة، أو على قدميه، دافعا بمنشور تحت عقب أي باب يقابله ويصادف ألا يكون أحد موجودا بالجوار، تاركا بعضها في محطات انتظار الحافلات، وواضعا واحدة منها تحت مساحة زجاج سيارة مركونة.»
قالت هيلينا: «ما زالت تلك مخاطرة أيضا، أليس كذلك؟ أو ستكون كذلك إذا ما قررت شرطة الأمن الوطني مطاردتهم.»
قال روبرت: «لا أعتقد أنهم سيتكبدون عناء ذلك. فلا أحد سيأخذ ذلك على محمل الجد.»
سألته: «هل فعلت أنت؟»
فقد احتفظ بالمنشور على كل حال. أربكه السؤال الذي خرج مني بحدة لم أقصدها. نظر إلى هيلينا مترددا. أتساءل إذا ما كانا قد اختلفا حول ذلك الأمر. ربما كان سببا لأول شجار بينهما. لكني كنت سأتفاءل إن اعتقدت ذلك. لو كانا قد تشاجرا، لكانا قد تخلصا من المنشور بعد أول بادرة صلح.
قال: «كنت أتساءل إذا ما كان من الضروري أن نبلغ المجلس المحلي بها عندما ذهبنا لتسجيل الهريرات. لكننا قررنا ألا نفعل ذلك. فلا أرى أنه يوجد ما يمكن للمجلس المحلي أن يفعله.» «بإمكانه أن يبلغ شرطة الأمن الوطني ليقبضوا عليك بتهمة حيازة مواد تحريضية.» «حسنا ، تساءلنا عن ذلك الأمر بالفعل. لم نرد أن يعتقد المسئولون أننا ندعم كل ذلك الهراء.» «هل تلقى أي شخص آخر في شارعكم واحدا؟» «لم يصرح أحد بذلك، ولم نرد أن نسأل.»
قالت هيلينا: «على كل حال، هذا ليس أمرا يملك المجلس أن يفعل شيئا بصدده. فلا أحد يريد لمستعمرة مان العقابية أن تغلق.»
كان روبرت لا يزال ممسكا بالمنشور وكأنما لا يعرف ما يجب أن يفعل به. قال: «على الجانب الآخر، يسمع المرء شائعات حول ما يحدث داخل مخيمات العمال الوافدين وأعتقد أنه يجب أن نمنحهم معاملة عادلة ما داموا قد قدموا إلى هنا بالفعل.»
قالت هيلينا بحدة: «إنهم يحصلون هنا على معاملة أفضل مما كانوا سيحصلون عليها في بلادهم. وهم من يتلهفون للقدوم. لا أحد يجبرهم على ذلك. كما أن اقتراح إغلاق المستعمرة العقابية اقتراح سخيف.»
قلت في نفسي إن هذا هو ما يثير قلقها. الجريمة والعنف اللذان يهددان سلام ذلك المنزل الصغير، ومفرش الصينية المطرز، وغرفة الجلوس المريحة، والغرفة الزجاجية بحوائطها الزجاجية الضعيفة، المطلة على الحديقة المظللة التي بإمكانها أن تطمئن الآن إلى أنه لا يختبئ بها أي شر يتربص بهما.
قلت: «هم لا يقترحون إغلاقها. لكن يمكن إثبات أنها يجب أن تخضع لحراسة شرطية جيدة ويجب أن يتوفر للمساجين حياة مقبولة.» «لكن ليس هذا ما تقترحه جماعة «السمكات الخمس» تلك. مكتوب في المنشور أنه يجب إيقاف الترحيلات. هم يريدون إغلاقها. ثم من يريدون أن يحرسها؟ أنا لن أدع روبرت يتطوع لتلك المهمة. وبإمكان المساجين أن يحظوا بحياة مقبولة إن أرادوا. الأمر بيديهم. فالجزيرة واسعة كفاية ويتوفر لهم الغذاء والمأوى. بالطبع لن يخلي المجلس الجزيرة. فمن شأن ذلك أن يثير احتجاجا عاما؛ أن يطلق سراح جميع أولئك القتلة والمغتصبين مرة أخرى. أليس مساجين مستشفى برودمور هناك أيضا؟ هؤلاء مجانين، مجانين وفاسدون.»
لاحظت أنها استخدمت كلمة «مساجين» وليس «مرضى». قلت: «لا بد أن أسوأهم قد صار عجوزا للغاية فلا يمكن أن يشكل خطرا كبيرا.»
صاحت قائلة: «لكن بعضهم في أواخر الأربعينيات، كما أنهم يرسلون أشخاصا جددا إلى هناك كل عام. في العام الماضي أرسلوا أكثر من ألفي شخص، أليس كذلك؟» التفتت إلى روبرت، وقالت: «عزيزي، أظن أنه يجب أن نمزق المنشور. فلا داعي للاحتفاظ به. لا يوجد ما يمكننا فعله. مهمن كانوا، لا يحق لهم طباعة مثل تلك المنشورات. فهي لا تتسبب إلا في إثارة القلق لدى الناس.»
قال: «سأتخلص منه في المرحاض.»
عندما خرج من الغرفة التفتت نحوي، وقالت: «أنت لا تصدق أيا من تلك الأشياء، أليس كذلك يا ثيو؟» «بإمكاني أن أصدق أن الحياة بشعة فوق المعتاد على جزيرة مان.»
كررت بإصرار: «حسنا، هذا يرجع إلى المساجين أنفسهم، أليس كذلك؟»
لم نتطرق إلى المنشور مرة أخرى، وبعد عشر دقائق، بعد أن قمت بزيارة أخيرة لماتيلدا، كان من الواضح أن هيلينا قد توقعتها ولم تمانعها ماتيلدا، تركتهما. لست آسفا على قيامي بتلك الزيارة. لم يكن دافعي الوحيد للقيام بها هو رؤية ماتيلدا؛ فجمع الشمل القصير جعلني أشعر بالألم وليس بالبهجة. لكن صار الآن بإمكاني أن ألقي وراء ظهري شيئا كنت قد تركته غير مكتمل. هيلينا سعيدة. وهي تبدو حتى أصغر عمرا، وأجمل. فحسنها الممشوق المقبول الذي كنت فيما مضى أرفعه إلى مرتبة الجمال قد نضج ليصير بهاء أكيدا. لا أزعم أني سعيد من أجلها حقا. فمن الصعب أن نفكر فيمن تسببنا لهم في أذى شديد بذلك القدر من اللطف. لكني على الأقل لم أعد مسئولا عن سعادتها أو تعاستها. ليس لدي أي رغبة في رؤية أي منهما مرة أخرى، لكن بإمكاني الآن أن أفكر فيهما دون أن أشعر بالمرارة أو بالذنب.
كانت ثمة لحظة واحدة فقط قبل أن أغادر بقليل شعرت فيها بأكثر من مجرد اهتمام عابر لا مبال تجاه اكتفائهما بحياتهما الأسرية. كنت قد تركتهما لأذهب للحمام ذي منشفة اليد النظيفة المطرزة، والصابون الجديد، وحوض المرحاض بلون المطهر الأزرق الرغوي والوعاء الصغير الذي يحوي بتلات الأزهار العطرية المجففة؛ كل ذلك لاحظته وشعرت بالازدراء تجاهه. عندما عدت إليهما بهدوء، كانا يجلسان متباعدين قليلا ورأيتهما يمد كل منهما يده للآخر عبر الفراغ بينهما، وعندما سمعا وقع خطواتي سحب كل منهما يده بعيدا عن الآخر بحركة يكاد يشوبها الشعور بالذنب. تلك اللحظة العابرة من الرقة والذوق أو ربما حتى الشفقة، جعلتني أشعر لبرهة بمشاعر متناقضة، مرت بداخلي بوهن حتى إنها ذهبت لحال سبيلها بمجرد أن أدركت طبيعتها. لكني كنت أعلم أن ما شعرت به هو الحسد والندم، ليس على شيء فقدته، وإنما على شيء لم أستطع أن أصل إليه يوما.
الفصل السابع عشر
الاثنين 15 مارس 2021
اليوم زارني رجلان من رجال شرطة الأمن الوطني. كوني استطعت كتابة تلك الكلمات يعني أنني لم أعتقل وأنهم لم يجدوا دفتر اليوميات. أعترف أنهم لم يبحثوا عنه، بل لم يبحثوا عن أي شيء. يعلم الرب أن دفتر اليوميات يجرمني كفاية في عين من يبحث عن النواقص الأخلاقية والعيوب الشخصية، لكنهم كانوا يبحثون عن جرائم أكثر مادية. كما ذكرت، كانا اثنين؛ شابا، من الواضح أنه من الأوميجيين - كم هو غريب أن المرء يستطيع أن يميزهم دائما - وضابطا كبيرا، يصغرني بقليل، وكان يحمل معطف مطر وحقيبة أوراق جلدية سوداء. قدم نفسه على أنه مفتش أول جورج رولينجز وعرف رفيقه بأنه النقيب أوليفر كاثكارت. كان كاثكارت عابسا، أنيقا، ذا تعبيرات جامدة، كسائر الأوميجيين. أما رولينجز فكان ممتلئا، وأخرق في حركاته بعض الشيء، وكان له شعر كثيف أشيب مصفف بعناية، وكأنما عمد إلى قصه لدى حلاق باهظ الثمن ليبرز تموجاته المعقوصة على جانبي رأسه وفي خلفها. كانت ملامح وجهه غليظة وعيناه ضيقتان غائرتان لدرجة أن حدقتيهما كانتا غير ظاهرتين، وكان له فم واسع وشفة علوية مدببة كالسهم، وبارزة كمنقار. كان كلاهما يرتدي ملابس مدنية، وكانت بذلتاهما متقنتي الصنع للغاية. في ظروف أخرى، كان من الممكن أن أشعر برغبة في سؤالهما إذا كانا يقصدان الخياط نفسه.
كانت الساعة الحادية عشرة عندما وصلا. أدخلتهما إلى غرفة الجلوس بالطابق الأرضي وسألتهما إذا ما كانا يودان شرب القهوة. أجابا بالنفي. عندما عرضت عليهما الجلوس، جلس رولينجز مسترخيا في مقعد بالقرب من المدفأة، بينما جلس كاثكارت بعد لحظة من التردد قبالته بتكلف فاردا ظهره. جلست أنا في الكرسي الدوار أمام المكتب ودرت به لأواجههما.
قال رولينجز: «إحدى بنات أختي، وهي أصغر بناتها، فاتها أوميجا بعام واحد فحسب، حضرت سلسلتك القصيرة من الندوات حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». ليست امرأة فائقة الذكاء، وعلى الأرجح لن تتذكرها. لكنك قد تتذكرها. اسمها ماريون هوبكروفت. أخبرتني أن عدد الحاضرين كان قليلا، وظل يقل كل أسبوع. الناس يفتقرون إلى القدرة على المواظبة. فهم يقبلون على الأمور التي يتحمسون لها، لكن سرعان ما تخور عزيمتهم، خصوصا إن لم يستثر اهتمامهم باستمرار.»
في بضع عبارات، كان قد جعل مجموعة المحاضرات تبدو سلسلة من الندوات المملة يحضرها عدد متضائل من الطلاب العديمي الذكاء. لم تكن تلك الحيلة ماكرة لكني أشك في أنه يقصد استخدام المكر. قلت: «يبدو الاسم مألوفا لكني لا أذكرها.» ««الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». اعتقدت أن كلمة «العصر الفيكتوري» زائدة. لم ليس «الحياة الفيكتورية» فحسب؟ أو كان من الممكن أن تسميها «الحياة في إنجلترا الفيكتورية».» «لم أختر عنوان الدورة الدراسية.» «حقا؟ هذا غريب. كنت أفترض أنك فعلت. أعتقد أنك يجب أن تصر على اختيار عنوان سلسلة ندواتك.»
لم أرد. لم يساورني أي شك في أنه يعرف جيدا أني توليت تلك الدورة الدراسية نيابة عن كولين سيبروك، لكن إن كان لا يعرف، فلا أنوي إيضاح ذلك له.
بعد برهة من الصمت لم يبد أنها أشعرته بالحرج هو أو كاثكارت، تابع قائلا: «أعتقد أني قد أحضر إحدى دورات البالغين تلك. لكن في التاريخ لا في الأدب. لكني لن أختار دورة حول العهد الفيكتوري في إنجلترا. بل أفضل أن أعود للوراء أكثر، لعهد أسرة تيودور. طالما كانت تلك الأسرة تبهرني، وبخاصة إليزابيث الأولى.»
قلت: «ما الذي يجذبك إلى تلك الحقبة؟ العنف والمجد، وعظمة إنجازاتهم، والشعر المشوب بالعنف، وتلك الوجوه الماكرة الحاذقة التي تعلو الياقات المنتفشة، والمحكمة المهيبة التي كانت تقوم على استخدام آلات التعذيب الوحشية؟»
بدا أنه يفكر في السؤال للحظة، ثم قال: «لا أظن أن عصر تيودور كانت تميزه وحشية تفوق المعتاد يا دكتور فارون. كان الناس يموتون في أعمار صغيرة في تلك الأيام، وأظن أن معظمهم كان يموت متألما. كل عصر وله جوانبه الوحشية. وإذا نظرنا إلى الألم، فالموت بسبب السرطان دون أي أدوية، الذي طالما اختبره البشر على مر العصور، كان أبشع من أي آلات تعذيب كان بإمكان أسرة تيودور ابتكارها. خصوصا في حالة الأطفال، ألا تعتقد ذلك؟ من الصعب أن ترى الغاية من ذلك، أليس كذلك؟ أعني من اختبار الأطفال للعذاب.»
قلت: «ربما لا ينبغي أن نفترض أن للطبيعة غاية من أفعالها.»
تابع حديثه وكأنما لم أتكلم: «جدي - الذي كان أحد أولئك الواعظين الذين ينذرون بعذاب الجحيم - كان يعتقد أن كل شيء له غاية، حتى الألم. ولد جدي في الزمان الخاطئ، كان سيغدو أسعد في القرن التاسع عشر. أذكر أني عندما كنت في التاسعة انتابني ألم أسنان شديد بسبب خراج. لم أخبر به أحدا خشية الذهاب إلى طبيب الأسنان، لكني استيقظت ذات ليلة وأنا أشعر بألم مبرح. قالت أمي إنها ستأخذني إلى العيادة فور أن تفتح، لكني ظللت مستلقيا حتى الصباح ينازعني الألم. أتى جدي ليطمئن علي. وقال لي: «بوسعنا أن نفعل شيئا لتخفيف آلام الدنيا البسيطة، لكن ليس بوسعنا تخفيف آلام الآخرة الأبدية. تذكر ذلك يا فتى.» كان حتما موفقا في اختيار الوقت المناسب لقول ذلك. ألم أسنان أبدي. كانت تلك فكرة مرعبة لطفل في التاسعة من عمره.»
قلت: «أو حتى لشخص بالغ.» «لقد تركنا وراءنا ذلك الاعتقاد، عدا روجر الراعد. فهو لا يزال له أتباع.» صمت لبرهة كأنما يمعن التفكير في عظات روجر الراعد المفعمة بالتقريع، ثم تابع قائلا دون أن تتغير نبرة صوته: «المجلس منزعج، أو ربما قلق هي الكلمة الأنسب، من نشاطات جماعة من الناس.»
ربما كان ينتظر مني أن أسأله: «أي نشاطات؟ أي ناس؟» لكني قلت: «يجب أن أغادر بعد أكثر من نصف ساعة بقليل. إن كان زميلك يريد تفتيش المنزل، فبإمكانه أن يبدأ بذلك الآن بينما نتحدث. يوجد بضعة أغراض ذات قيمة خاصة لدي، معالق غرف الشاي الموضوعة في خزانة العرض الجورجية، وقطع ستافورد شاير الفيكتورية التذكارية في غرفة الاستقبال، والإصدارات الأولى من بضعة كتب. عادة أتوقع أن أكون حاضرا أثناء عملية التفتيش لكني أثق تمام الثقة في نزاهة شرطة الأمن الوطني.»
قلت تلك الكلمات الأخيرة وأنا أنظر مباشرة إلى عيني كاثكارت. فلم تطرفا حتى.
قال رولينجز بصوت يحمل نبرة عتاب خفيفة: «لم نأت على ذكر التفتيش يا دكتور فارون. لماذا تفترض الآن أننا نريد تفتيش منزلك؟ وما الذي سنفتش عنه؟ أنت لست شخصا يسعى لنشر الفتنة يا سيدي. لا، هذا مجرد حديث، أو سمه استشارة إن شئت. كما ذكرت لك، تحدث أمور تثير قلق المجلس قليلا. ما أخبرك به بالطبع هو سر بيننا. هذه الأمور لم تذع علانية في الصحف أو عبر الراديو أو التلفاز.»
قلت: «هذا تصرف حكيم من قبل المجلس. فمثيرو القلاقل، على افتراض أنهم صاروا في قبضتكم، يعتمدون على الضجة الإعلامية. فلماذا إذن نمنحهم إياها؟» «بالضبط. لقد استغرقت الحكومات وقتا طويلا كي تدرك أنها ليست بحاجة للتلاعب بالأخبار غير السارة. كل ما عليها فعله هو ألا تذيعها.» «وما الذي لا تذيعونه؟» «حوادث صغيرة، غير مهمة في ذاتها، لكنها ربما تكون دليلا على مؤامرة تحاك. أعيقت فعاليتي راحة الموت الأخيرتين. فقد فجرت منصات الصعود صباح اليوم الذي كان من المفترض إقامة المراسم فيه، قبل نصف ساعة فقط من موعد وصول الضحايا الافتدائيين - أو ربما «ضحايا» ليست الكلمة المناسبة، لنسمهم الشهداء الافتدائيين.»
صمت لحظة ثم أضاف قائلا: «لكن ربما كلمة «شهداء» فيها مبالغة. لنقل قبل موعد وصول المنتحرين المرتقبين. وقد تسبب لهم ذلك بانزعاج شديد. نفذ الإرهابي أو الإرهابية ذلك الهجوم في آخر لحظة. لو كان تأخر ثلاثون دقيقة، كان المسنون سيلقون حتفهم بطريقة أكثر بشاعة مما كان مخططا له. وردت مكالمة هاتفية تحذيرية - بصوت ذكر شاب - لكنها جاءت متأخرة جدا فلم يسعنا إلا إبعاد الحشد عن موقع الحدث.»
قلت: «يا له من إزعاج مثير للحنق. لقد حضرت إحدى فعاليات راحة الموت منذ حوالي شهر. كانت المنصة التي أبحرت منها السفينة حسبما أظن قد نصبت بسرعة نوعا ما. لا أفترض أن ذلك الفعل الإجرامي التخريبي قد أخر الفعالية لأكثر من يوم واحد.» «كما ذكرت يا دكتور فارون، هو مجرد إزعاج بسيط، لكن ربما يكون له دلالة. لقد زاد عدد تلك الإزعاجات البسيطة مؤخرا. وثمة أمر آخر أيضا وهو المنشورات. بعضها يركز على معاملة العمال الوافدين. اضطررنا للجوء إلى القوة لترحيل آخر مجموعة من العمال الوافدين التي تضم أولئك الذين بلغوا الستين أو أقعدهم المرض. وأدى ذلك لوقوع مشاهد مؤسفة عند رصيف الميناء. أنا لا أجزم أن ثمة صلة بين تلك الحادثة وبين المنشورات التي توزع، لكن الأمر قد يكون أكثر من مجرد صدفة بحتة. توزيع منشورات ذات محتوى سياسي بين العمال الوافدين أمر غير قانوني، لكننا نعلم أن تلك المنشورات التحريضية توزع داخل المخيمات. كما وزعت منشورات أخرى على المنازل تتذمر من معاملة العمال الوافدين بصفة عامة، ومن الأوضاع على جزيرة مان، واختبارات الحيوانات المنوية الإلزامية والأمور التي من الواضح أن أولئك المتمردين يرونها تمثل خللا في العملية الديموقراطية. في منشور حديث أدرجوا جميع تلك الأمور التي تثير سخطهم في قائمة مطالب. ربما تكون قد رأيته.»
مد يده وتناول حقيبة الأوراق الجلدية السوداء، وضعها في حجره ثم فتحها. كان يلعب دور الزائر العابر الودود، غير الواثق تماما من سبب زيارته، وكنت أتوقع نوعا ما أن يتظاهر بالبحث ضمن أوراقه قبل أن يعثر على الورقة التي ينشدها. لكنه فاجأني عندما أمسك بها على الفور.
مررها لي وقال: «هل رأيت أحد تلك المنشورات من قبل يا سيدي؟»
نظرت إليها سريعا وقلت: «أجل، رأيتها. دفع بإحداها تحت عقب باب منزلي منذ بضعة أسابيع.» لم يكن ثمة داع للإنكار. فبكل تأكيد تعلم شرطة الأمن الوطني أن المنشورات وزعت على المنازل في شارع سانت جون، فلماذا سيكون منزلي استثناء؟ أعدتها إليه بعد أن أعدت قراءتها. «هل تلقى أي أحد آخر من معارفك واحدا منها؟» «على حد علمي لا. لكني أتصور أنها وزعت حتما على نطاق واسع. لم أهتم كثيرا بسؤال أحد عنها.»
تفحصها رولينجز بنظره وكأنما يراها لأول مرة. ثم قال: ««السمكات الخمس». اسم حاذق لكن ليس ذكيا. أفترض أننا نبحث عن جماعة صغيرة من خمسة أشخاص. خمسة أصدقاء، أو خمسة أفراد من عائلة واحدة، أو خمسة زملاء عمل، أو خمسة متآمرين. ربما استوحوا تلك الفكرة من مجلس إنجلترا. ألا تتفق معي يا سيدي أن ذلك عدد مفيد؟ فهو يضمن وجود أغلبية دائما في أي مناقشة.» لم أرد، فتابع قائلا: ««السمكات الخمس». أتصور أن لكل منهم اسم حركي ربما يكون مستمدا من أول حرف من اسمه الأول؛ بحيث يسهل على الكل تذكره. مع أن حرف الألف سيكون صعبا. فأنا لا يحضرني الآن اسم سمكة يبدأ بحرف الألف. ربما لا يبدأ اسم أي منهم بحرف الألف. لديهم البلطي يبدأ بحرف الباء، والتونة بحرف التاء، والثاء ليس صعبا؛ فهناك سمك الثعبان. الجريث سيكون ملائما لحرف الجيم. أما الحاء فقد يمثل صعوبة. لكن ربما أكون مخطئا، فأنا أحسب أنهم لم يكونوا ليختاروا اسم «السمكات الخمس» إن لم يكن بإمكانهم أن يجدوا أسماء سمكات يتماشى مع اسم كل عضو من أعضاء العصابة. ما رأيك في ذلك يا سيدي؟ أقصد عملية الاستدلال المنطقي تلك.»
قلت: «أراها عبقرية. من المشوق رؤية منهجيات تفكير شرطة الأمن الوطني وهي تطبق على أرض الواقع. فهذه فرصة لم تتسن إلا لقلة من المواطنين، على الأقل قلة من المواطنين المتمتعين بحريتهم.»
بدا وكأنه لم يسمع ما قلت. تابع تفحص المنشور بنظره، ثم قال: «هذه سمكة. وهي مرسومة بإتقان. لم يرسمها فنان محترف حسبما أظن، بل رسمها شخص لديه حس تصميم جيد؛ فالسمكة رمز مسيحي. أتساءل إن كان من الممكن أن تكون تلك الجماعة جماعة دينية مسيحية.» ثم رفع بصره إلي وقال: «إذن أنت تعترف أنه كان بحوزتك إحدى تلك المنشورات يا سيدي لكنك لم تتخذ أي إجراء بخصوص ذلك؟ ألم تشعر أن من واجبك الإبلاغ عن الأمر؟» «عاملت المنشور كما أعامل جميع رسائل البريد غير المهمة وغير المرغوب فيها.» حينها شعرت أن الوقت قد حان كي أبادر أنا بالهجوم، فقلت: «عذرا أيها المفتش الأول، لكني لا أفهم ما الذي يثير قلق المجلس بالضبط. لا يخلو أي مجتمع من الناقمين. ومن الواضح أن تلك الجماعة بالتحديد لم تتسبب في أذى كبير عدا تفجير بضع منصات ركوب مؤقتة ضعيفة وتوزيع منشورات تتضمن نقدا غير متمعن للحكومة.» «قد يصف البعض تلك المنشورات بأنها مواد تحريضية يا سيدي.» «سمها ما شئت، لكنك بالكاد تستطيع رفع ذلك الأمر لمرتبة المؤامرة الضخمة. بكل تأكيد لن تحشد شرطة الأمن الوطني فرقها لأن بضعة ناقمين يشعرون بالملل يفضلون تسلية أنفسهم بممارسة لعبة أخطر من الجولف. فما الذي يثير قلق المجلس بالضبط؟ إن كان يوجد جماعة منشقة بالفعل، فستكون أعمار أعضائها صغيرة إلى حد ما، أو على الأقل سيكونون في منتصف عمرهم. لكن الزمن سيدركهم كما سيدركنا جميعا. هل نسيت الأرقام؟ لا ينفك مجلس إنجلترا يذكرنا بها. فقد انخفض تعداد السكان من ثمانية وخمسين مليونا عام 1996 إلى ستة وثلاثين مليونا هذا العام، منهم 20 بالمائة أعمارهم فوق السبعين. جنسنا في طريقه إلى الفناء أيها المفتش الأول. النضج والهرم يطفئ أي حماسة، حتى حماسة المؤامرة المغوية. لا يوجد أي معارضة حقيقية لحاكم إنجلترا. وتلك هي الحال منذ أن تولى السلطة.» «من واجبنا يا سيدي أن نتأكد من ذلك.» «بالطبع ستفعل ما تراه ضروريا. لكني سآخذ ذلك على محمل الجد فقط إن كنت أعتقد أنه جدي بالفعل؛ كأن يكون معارضة منبثقة ربما من داخل المجلس نفسه لسلطة الحاكم.»
كان تلفظي بتلك الكلمات مخاطرة محسوبة وربما حتى خطيرة، لكني رأيت أنها أربكته. وكان ذلك هو مقصدي.
بعد لحظة من الصمت العفوي، الذي لم يكن محسوبا، قال: «إن كان يوجد أي شك في ذلك، فلن يكون الأمر بيدي يا سيدي. سيتعامل معه على مستوى أعلى كليا.»
قلت وأنا أنهض واقفا: «حاكم إنجلترا هو ابن خالتي وصديقي. عاملني بلطف في طفولتي، حينما كان للطف أهمية كبيرة. لم أعد مستشاره في المجلس لكن هذا لا يعني أني لم أعد ابن خالته وصديقه. لو كنت أملك دليلا على مؤامرة تحاك ضده، فسأخبره هو شخصيا. لن أخبرك أنت أيها المفتش الأول، ولن أتواصل مع شرطة الأمن الوطني. بل سأخبر الشخص المعني، سأخبر حاكم إنجلترا.»
كانت تلك تمثيلية بالطبع وكلانا كان يدرك ذلك. لم نتصافح أو نتكلم بينما رافقتهما للباب، لكن هذا ليس لأني كسبت عدوا. فرولينجز لم يسمح لنفسه بالانغماس في عداوات شخصية مثلما لن يسمح لنفسه بالشعور بالتعاطف، أو لمشاعره بأن تتحرك بالإعجاب أو الشفقة تجاه ضحاياه الذين يزورهم ويستجوبهم. ظننت أني أفهم طبيعة هذه الفئة؛ الموظفين البيروقراطيين التابعين لحكومات الاستبداد، الرجال الذين يتلذذون بالمقدار الضئيل المحسوب بعناية من السلطة الممنوحة لهم، والذين يحتاجون لأن يسيروا وحولهم هالة من الخوف المصطنع، ولأن يشعروا بأن الخوف يسبقهم إلى أي غرفة يدخلونها ويظل ماكثا فيها مثل رائحة كريهة بعد أن يغادروها، لكنهم لا يملكون السادية ولا الشجاعة اللازمة للوصول لأقصى درجات الوحشية. مع ذلك يحتاجون إلى دورهم في الأحداث. لا يكفيهم أن يقفوا ليراقبوا المشهد من بعيد مثل أغلبنا.
الفصل الثامن عشر
أغلق ثيو دفتر اليوميات ووضعه في الدرج العلوي لمكتبه، وأغلقه بالمفتاح ثم وضع المفتاح في جيبه. كان المكتب متقن الصنع، وأدراجه متينة، لكنها لن تصمد أمام محاولة متمرسة أو عنيدة لفتحها عنوة. لكن، على الأرجح لن تحدث محاولة، وإن حدثت، فقد كان حريصا على أن تخلو روايته لأحداث زيارة رولينجز من أي شيء يؤخذ ضده. لكنه كان يعرف أن شعوره بالحاجة إلى اللجوء إلى الرقابة الذاتية دليل على عدم الارتياح. ضايقه أن يضطر لأخذ ذلك الإجراء الوقائي؛ فقد بدأ كتابة تلك اليوميات ليس لتسجيل أحداث حياته (فلمن سيتركها ولماذا؟ وأي حياة تلك التي تستحق أحداثها التسجيل؟) بل باعتبارها نوعا من استكشاف الذات ينغمس فيه بصفة منتظمة ووسيلة لمحاولة فهم أحداث السنوات التي مضت من عمره، بغرض التنفيس عما بداخله من ناحية، وباعتباره مصادقة مطمئنة من ناحية أخرى. ستكون تلك اليوميات، التي صارت جزءا من روتين حياته، عديمة النفع إن اضطر إلى مراقبة محتواها، وحذف ما لا يليق، إن اضطر إلى اللجوء للمداراة لا التنوير.
استرجع أحداث مقابلته مع رولينجز وكاثكارت. وتفاجأ حينها من أنه لم يخفهما. بعد أن غادرا، شعر بشيء من الرضا تجاه عدم خوفه، وبالكفاءة التي تعامل بها مع تلك المواجهة. لكنه الآن يتساءل إذا ما كانت ثقته بنفسه تلك مبررة. فهو يتذكر تقريبا كل ما قيل بالضبط، فلطالما كانت الذاكرة اللفظية إحدى مواهبه. لكن تدوين حديثهما المبهم أثار بداخله مخاوف لم يشعر بها حينها. قال في نفسه إنه لا يوجد ما يستدعي خوفه؛ فلم يكذب كذبة صريحة إلا مرة واحدة، عندما أنكر علمه بتلقي أي من معارفه أحد منشورات «السمكات الخمس». وتلك كذبة يستطيع تبريرها إن احتاج لذلك؛ فسيقول إنه ما الداعي لأن يأتي على ذكر زوجته السابقة ويعرضها للإزعاج والقلق الذي ستتسبب به زيارة من شرطة الأمن الوطني لها؟ إن مسألة استلامها هي أو غيرها لمنشور ليس لها أي أهمية؛ إذ لا بد أن تلك الورقات قد دفعت من تحت أبواب جميع المنازل في الشارع. وكذبة واحدة ليست دليلا على الجرم. على الأرجح لن يقبض عليه بسبب كذبة صغيرة؛ فإنجلترا لا زال يحكمها القانون، على الأقل في حالة المواطنين البريطانيين.
انتقل إلى غرفة الاستقبال وظل يجوب تلك الغرفة الواسعة جيئة وذهابا، وهو يشعر برهبة غامضة من الطوابق غير المضاءة فوقه وأسفل منه كما لو كان ثمة خطر يتربص به في كل غرفة من تلك الغرف الصامتة. توقف أمام نافذة تطل على الشارع من وراء سور شرفتها المصنوع من الحديد المطاوع. كان مطر خفيف قد بدأ يتساقط. كان يرى قطرات المطر الفضية تتساقط أمام أضواء الشارع، وتحتها الرصيف الزلق المعتم. كانت ستائر النافذة المقابلة له مغلقة، وواجهتها الحجرية لا تدل على أي أثر للحياة، ولا حتى وراء الشق الدقيق حيث تلتقي ستائرها. جثم الاكتئاب على صدره كلحاف ثقيل مألوف، وأثقله الشعور بالذنب والذكريات والقلق حتى كاد يشم رائحة للنفايات التي ظلت تتراكم بداخله طوال السنوات البائدة. ورويدا رويدا، زالت ثقته بنفسه وتمكن منه الخوف. قال في نفسه إنه خلال المواجهة لم يكن يفكر إلا في نفسه، وفي سلامته وحنكته واحترامه لذاته. لكنه لم يكن هو محل اهتمامهم الأساسي، بل كانوا يسعون وراء جوليان وجماعة «السمكات الخمس». لم يفصح عن أي شيء، ولا داعي للشعور بالذنب تجاه ذلك، لكنهم قصدوه، وذلك يعني أنهم كانوا يشكون في أنه يعرف شيئا ما. بالطبع كانوا يشكون في ذلك؛ فالمجلس لم يقتنع قط بأن زيارته تلك جاءت بمحض إرادته. ستزوره شرطة الأمن الوطني مرة أخرى؛ وحينها سيكون ستار الذوق الذي يقفون خلفه أرق، وستكون الأسئلة أكثر حدة، ومن المحتمل أن تكون النتيجة أكثر إيلاما.
ما مقدار ما كانوا يعرفونه زيادة عما أفصح عنه رولينجز؟ فجأة بدا له أن من الغريب أنهم لم يلقوا القبض بالفعل على أعضاء الجماعة لاستجوابهم. لكن ربما يكونون قد فعلوا. أكان ذلك هو سبب زيارتهم له اليوم؟ هل أمسكوا بجوليان وبباقي أعضاء الجماعة بالفعل وكانوا يختبرون مدى تورطه؟ وبالتأكيد سرعان ما سيستدلون على ميريام. تذكر سؤاله للمجلس حول الأوضاع في جزيرة مان الذي كان ردهم عليه: «نحن نعرف. السؤال هو كيف تعرف أنت؟» هم يبحثون عن شخص يعرف الأوضاع على الجزيرة، وكون الزيارات ممنوعة ولا يسمح بمرور الرسائل من الجزيرة وإليها، وفي ظل غياب الدعاية، كيف له أن يحصل على تلك المعلومات؟ لا بد أن هروب شقيق ميريام مسجل لديهم. كان من الغريب أنهم لم يستدعوها للاستجواب فور أن بدأت جماعة «السمكات الخمس» نشاطها. لكن ربما يكونون قد فعلوا. ربما حتى كانت هي وجوليان في قبضتهم الآن بالفعل.
كانت أفكاره تدور في دائرة مفرغة، وللمرة الأولى في حياته شعر بوحدة موحشة. لم يكن ذلك الشعور مألوفا له. وهو شعور يبغضه ولا يثق فيه. بينما كان يتطلع إلى الشارع الخاوي، تمنى للمرة الأولى لو كان لديه شخص أو صديق يمكنه أن يثق فيه، ويأتمنه على سره. قبل أن تهجره هيلينا قالت له: «نحن نسكن المنزل نفسه، لكننا مثل مستأجرين أو نزيلين في الفندق نفسه؛ فنحن لا نتحدث قط.» ضايقته تلك الشكوى التافهة المتوقعة، والتذمر المعتاد للزوجات البائسات، فأجابها قائلا: «نتحدث حول ماذا؟ ها أنا ذا. إن كنت تريدين أن تتحدثي إلي الآن فكلي آذان مصغية.»
شعر بأن حتى الحديث معها هي وسماع ردودها الممانعة غير المفيدة حول تلك المعضلة التي يواجهها سيكون مطمئنا. وامتزج بالخوف والذنب والوحدة شعور متجدد بالضيق؛ من جوليان ومن الجماعة ومن نفسه لتورطه معهم. على الأقل فعل ما طلبوه منه. قابل حاكم إنجلترا ثم حذر جوليان. ليس خطأه أن الجماعة لم تأخذ بتحذيره. لا شك أنهم سيزعمون أن من واجبه أن يوصل لهم الرسالة، وأن يعلمهم بأنهم في خطر. ولكن لا بد أن يعرفوا أنهم في خطر. كيف له أن يحذرهم؟ فهو لا يعرف عنوان أي منهم ولا وظيفته ولا محل عمله. الأمر الوحيد الذي يمكنه فعله إن قبض على جوليان هو أن يتوسط لها لدى زان. لكن هل سيعلم عندما يقبض عليها؟ سيكون ذلك ممكنا إن بحث عن أحد أعضاء الجماعة، لكن كيف يتقصى عنهم دون أن يثير بحثه الانتباه؟ فربما يكون، من الآن حتى، تحت مراقبة شرطة الأمن الوطني. لم يكن بوسعه سوى أن ينتظر.
الفصل التاسع عشر
الجمعة 26 مارس 2021
اليوم رأيتها للمرة الأولى منذ مقابلتنا في متحف بيت ريفرز. كنت أبتاع الجبن من السوق المغطى وكنت قد استدرت لتوي من أمام طاولة البيع وأنا أحمل الرزم الصغيرة من الجبن الروكفورت والجبن الأزرق الدنماركي، وجبن الكاممبر الفرنسي الملفوفة بعناية، عندما وقعت عيني عليها على بعد بضع ياردات فقط مني. كانت تنتقي الفاكهة، لا تنتقيها بتمعن بحثا عن أفضلها مذاقا كما أفعل، بل تشير لاختيارها دون تردد وهي تمسك بحقيبة قماشية مفتوحة بسماحة لتستقبل الأكياس البنية الضعيفة التي تكاد تنبثق منها ثمرات البرتقال الذهبية المنقرة المدورة، وانحناءات الموز البراقة، وتفاح كوكس ذو اللون الأصفر الشاحب. رأيتها في وهج من الألوان المتألقة، وبدا كأن بشرتها وشعرها كانا يمتصان التوهج من الفاكهة، وكأنها لم تكن تسير تحت أضواء المتجر الوهاجة بل تحت ضوء شمس الجنوب الدافئ. وقفت أشاهدها وهي تناول البائع ورقة نقدية، ثم تعد العملات المعدنية كي تدفع المبلغ المطلوب بالضبط وتناوله إياه بابتسامة، ثم ترفع الحزام العريض لحقيبتها القماشية لتحملها على كتفها، والتي جعلها وزنها تميل قليلا. مر المتسوقون بيننا لكني ظللت ثابتا في مكاني، لا أريد التحرك أو ربما لا أستطيع ذلك، ويموج عقلي بمشاعر غريبة ومستثقلة. اجتاحتني رغبة ملحة سخيفة في أن أندفع إلى كشك الزهور، وأضع النقود في يد البائع وأخطف باقات أزهار النرجس والتيوليب والزنبق والورود من آنيتها وأضعها بين ذراعيها وأحمل عنها الحقيبة التي كانت تثقل كتفها. كانت تلك نزوة رومانسية مفاجئة، طفولية وسخيفة، لم تجتحني منذ الصبا. كنت في السابق أبغض تلك المشاعر الرومانسية ولا أثق فيها. أما الآن فتروعني بقوتها، ولا منطقيتها، وقدرتها التدميرية.
استدارت دون أن تراني، وسارت باتجاه المخرج المؤدي إلى شارع هاي ستريت. تبعتها، وأنا أشق طريقي بين متسوقي يوم الجمعة الصباحيين الذين يجرون سلات مشترياتهم على عجلات، ولا أكاد أطيق أن يعيق أحدهم طريقي لحظيا. كنت أقول لنفسي إنني أتصرف كالأحمق، وإنني يجب أن أدعها تغيب عن نظري، وإنها امرأة لم أقابلها إلا أربع مرات ولم تبدي في أي منها أي اهتمام بي سوى إصرارها العنيد على أن أنفذ ما كانت تريده، وإني لا أعرف عنها سوى أنها متزوجة، وإن حاجتي الملحة تلك لأن أسمع صوتها وألمسها ليست سوى أول أعراض الاضطراب العاطفي الرهيب لوحدة منتصف العمر. حاولت ألا أسرع الخطى في اعتراف مهين مني بحاجتي. لكن مع ذلك، استطعت اللحاق بها وهي تدلف إلى شارع هاي ستريت.
لمست كتفها وقلت: «صباح الخير.»
أي تحية أخرى كانت ستبدو مبتذلة. على الأقل كانت تلك بريئة. التفتت ناحيتي ولثانية تمكنت من أن أخادع نفسي بأن الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها كانت ابتسامة ابتهاج لرؤيتي. لكنها كانت الابتسامة نفسها التي منحتها للخضري.
وضعت يدي على الحقيبة وقلت: «أتسمحين لي أن أحمل تلك عنك؟» شعرت وكأني تلميذ لجوج.
هزت رأسها نفيا وقالت: «شكرا لك، لكن الشاحنة مركونة قريبا جدا.»
تساءلت أي شاحنة؟ ولمن اشترت الفاكهة؟ بالتأكيد ليس لها ولرولف فقط. هل تعمل في مؤسسة ما؟ لكني لم أسألها، فقد كنت أعرف أنها لن تخبرني.
قلت: «هل أنت بخير؟»
ابتسمت مرة أخرى وقالت: «أجل، كما ترى. وأنت؟» «كما ترين.»
أدارت لي ظهرها. فعلت ذلك بكياسة - لم تكن تريد أن تؤذي مشاعري - لكنها كانت حركة متعمدة وقصدت منها أن تكون ردا نهائيا.
قلت بصوت خافت: «أريد أن أتحدث إليك. الأمر مهم. لن آخذ من وقتك الكثير. أيوجد مكان يمكننا أن نقصده؟» «السوق أكثر أمنا من هنا.»
استدارت عائدة، وسرت إلى جوارها ببساطة، دون أن أنظر إليها، فبدونا مجرد متسوقين ضمن الحشد أجبرهما تزاحم الأجساد على أن يقترب أحدهما من الآخر مؤقتا. بعد أن صرنا داخل السوق، توقفت لتتطلع إلى واجهة محل يبيع وراءها رجل عجوز ومساعده الكعك المحلى والفطائر الطازجة التي خرجت لتوها من الفرن. وقفت إلى جوارها أتظاهر بإبداء اهتمامي بالجبن الساخن والمرق الذي ينز من الفطائر. شممت الرائحة، وكانت شهية وقوية، رائحة أتذكرها. فهما يخبزان الفطير هنا منذ أن كنت طالبا جامعيا.
وقفت أشاهدهما متظاهرا بأني أتأمل ما يعرضانه، ثم همست في أذنها بصوت خافت جدا قائلا: «لقد زارتني شرطة الأمن الوطني - قد يكونون قريبين جدا. هم يبحثون عن جماعة من خمسة أفراد.»
أدارت ظهرها للواجهة وتابعت السير. ظللت إلى جوارها.
قالت: «بالطبع. هم يعرفون أننا خمسة. فهذا لا يخفى على أحد.»
قلت وأنا واقف بجوارها: «لا أعلم ماذا عرفوا أو خمنوا غير ذلك. توقفوا الآن. ما تفعلونه لا يفيد بشيء. وقد لا يكون أمامكم متسع من الوقت. إن لم يشأ الآخرون أن يتوقفوا فاتركيهم أنت.»
حينها استدارت لتواجهني. والتقت عينانا للحظة، لكن حينها، وبعيدا عن الأضواء المتوهجة والتماعة ألوان الفاكهة الزاهية، رأيت ما لم ألحظه من قبل؛ رأيت أن وجهها يبدو متعبا وأكبر عمرا ومستنفدا.
قالت: «من فضلك اذهب. من الأفضل ألا نلتقي مجددا.»
ومدت يدها لتصافحني، وفي لحظة تحد للمخاطرة صافحتها. قلت: «أنا لا أعرف كنيتك. ولا أعرف أين تسكنين أو أين أجدك. لكنك تعرفين أين تجدينني. إن احتجت إلي يوما، فأرسلي في طلبي في شارع سانت جونز وسآتي إليك.»
ثم استدرت ومشيت مبتعدا كي لا أضطر لأن أشاهدها وهي تبتعد عني.
أكتب تلك الكلمات بعد العشاء، وأنا أتطلع من النافذة الخلفية الصغيرة إلى غابة ويثام المنحدرة البعيدة. أنا الآن في الخمسين لكني لم أذق يوما طعم الحب. أكتب تلك الكلمات وأنا أعلم أنها حقيقية، لكني لا أشعر بالحسرة على ذلك، اللهم إلا كحسرة رجل، يعاني صمم الطبقات الصوتية، على عدم قدرته على تذوق الموسيقى، حسرة ليست بالبالغة لأنها على شيء لم أعرفه يوما، لا على شيء فقدته. لكن المشاعر تختار الزمان والمكان المناسبين لها. عمر الخمسين ليس عمرا مناسبا لأن يسعى المرء بنفسه إلى ويلات الحب، بخاصة على ذلك الكوكب الهالك الكئيب حيث سيرقد البشر تحت التراب وتخبو كل الرغبات؛ لذا أخطط لأن ألوذ بالهرب. ليس سهلا لمن تقل أعمارهم عن الخامسة والستين أن يحصلوا على تصريح بالخروج من البلاد؛ فمنذ أن وقعت أوميجا، لا يسمح بالسفر بحرية إلا لكبار السن. لكني لا أتوقع أن أواجه أي صعوبة. فلا يزال ثمة مميزات لكوني ابن خالة الحاكم، حتى إن لم آت على ذكر صلة القرابة تلك. فهي تكتشف بمجرد أن أتواصل مع السلطات الرسمية. وجواز سفري به بالفعل ختم تصريح السفر الذي أحتاج إليه. سأجد من ينوب عني في تدريس الدورة الصيفية، وأرتاح من عبء ذلك الضجر الجماعي. فليس لدي أي معارف جديدة أضيفها، ولا حماس لأن أتواصل مع الناس. سأستقل العبارة ثم أطوف بالسيارة، أزور مجددا مدن أوروبا العظيمة، وكاتدرائياتها ومعابدها، بينما لا تزال توجد طرق تصلح للسير ، وفنادق بها موظفون كافون لتقديم مستوى مقبول على الأقل من الضيافة المريحة، وأضمن أن أستطيع شراء الوقود، على الأقل داخل المدن. سألقي وراء ظهري بذكرى ما شهدته في ساوثولد، ومقابلتي لزان والمجلس، وتلك المدينة الرمادية التي يقف كل ما بها حتى الأحجار شاهدا على سرعة زوال الشباب والتعلم والحب. سأمزق تلك الصفحة من دفتر يومياتي. فكتابة تلك الكلمات كان دربا من إطلاق العنان للنفس، وتركها سيكون دربا من الحماقة. وسأحاول أن أنسى الوعد الذي قطعته لها هذا الصباح. فقد قطعته في لحظة جنون. لا أحسب أنها ستأخذه على محمل الجد. وإن فعلت، فستجد المنزل خاويا.
الكتاب الثاني
ألفا (A)
أكتوبر 2021
الفصل العشرون
عاد إلى أكسفورد في آخر يوم من سبتمبر، ووصل في منتصف ما بعد ظهيرة ذلك اليوم. لم يحاول أحد منعه من الذهاب، ولم يجد من يرحب به عند عودته. كانت رائحة المنزل غير نظيفة، فقد كانت تفوح من القبو وغرفة الطعام رائحة الرطوبة والعطن، بينما كانت الغرف العلوية بحاجة إلى التهوية. كان قد طلب من السيدة كافاناج أن تفتح النوافذ من حين لآخر، لكن رائحة الهواء المكتوم البغيضة أشعرته أنها كانت مغلقة بإحكام منذ سنوات. تناثرت الخطابات في الردهة الضيقة، وبدت الأظرف الرقيقة كأنما التحمت بالسجادة. كانت الستائر الطويلة لغرفة الاستقبال مسدلة حاجبة ضوء شمس ما بعد الظهيرة فجعلت المنزل يبدو كأنه منزل أموات، وتجمعت كتل صغيرة من الركام وبقع من السخام من المدخنة، وسحقتها قدماه في البساط دون قصد. استنشق الهواء المعبأ بالسخام والعطن. بدا المنزل نفسه كأنه يوشك أن يتداعى أمام عينيه.
أدهشه أن الغرفة العلوية الصغيرة، المطلة على برج الجرس بكنيسة سانت بارناباس وأشجار غابة ويثام التي اكتست أوراقها بألوان بدايات الخريف، كانت باردة جدا، لكن عدا ذلك لم تتغير. هناك جلس يقلب بضيق صفحات دفتر يومياته الذي دون فيه أحداث كل يوم مر عليه في أسفاره، وبكآبة وبدقة، عدد في ذهنه المدن والمزارات التي كان يخطط لأن يعيد زيارتها كما لو كان تلميذا يحاول إتمام مهمة صيفية. أوفيرن، وفونتينبلو، وقرقشونة، وفلورنسا، والبندقية، وبيروجيا، وكاتدرائية أورفيتو، واللوحات الفسيفسائية بكنيسة سان فيتالي، ورافينا، ومعبد هيرا بمدينة بيستيوم. لم ينطلق في رحلته تلك بحس الترقب والحماس، ولم يكن ينوي خوض أي مغامرات، ولم يسع لزيارة أماكن بدائية لا يألفها؛ حيث كان شعور الحداثة والاستكشاف سيعوضانه عن رتابة الطعام وخشونة الفرش. بل كان يتنقل بطريقة منظمة ومرفهة ومريحة من عاصمة إلى أخرى: باريس، ومدريد، وبرلين، وروما. ولم يكن يقصد حتى أن يودع جمال وروائع تلك المدن التي كان قد رآها للمرة الأولى في شبابه؛ فقد كان يأمل أن يزورها مرة أخرى؛ فلا داعي لأن تكون تلك زيارته الأخيرة. بل كان الغرض من رحلته تلك هو الهرب، لا البحث عن ملذات منسية. لكنه كان يعلم الآن أن الجانب من نفسه الذي كان أكثر احتياجا لأن يهرب منه كان قد بقي في أكسفورد.
بحلول أغسطس، اشتدت حرارة الطقس في إيطاليا. هروبا من الحرارة والغبار والصحبة الكئيبة للعجائز الذين بدا أنهم يجوبون أوروبا كالضباب الزاحف، سلك الطريق المتعرج المؤدي إلى مدينة رافيللو، المنظومة مثل عش طائر بين مياه البحر المتوسط الزرقاء الداكنة والسماء. وهناك وجد فندقا صغيرا تديره عائلة، وكان باهظ الثمن وشبه خاو. مكث فيه بقية الشهر. لم يكن بإمكانه أن يمنحه السلام، لكن منحه الراحة والعزلة.
كانت ذكراه الأكثر تأثيرا هي زيارته لروما، ووقوفه أمام تمثال «بييتا» لمايكل أنجلو في كاتدرائية سانت بيترز، ورؤية صفوف الشموع ذات الأضواء المتراقصة، والنساء من الغنيات والفقيرات، والصغيرات والعجائز اللواتي ركعن وأعينهن مثبتة على وجه العذراء بنظرة توق شديد تؤلم مشاهدتها النفس إيلاما شديدا. تذكر أيديهن الممدودة، وراحاتهن التي استندت إلى العازل الزجاجي، وهمهمات صلواتهم الخافتة وكأنها أنين ملتاع خرج من حلق واحد وحمل لذلك الرخام الجامد شوق العالم بأسره الذي انقطع منه الرجاء.
عاد إلى أكسفورد التي تركها الصيف الحار باهتة ومستنفدة، لأجواء أعطته انطباعا بالقلق والاضطراب والتخوف. سار في الساحات الفارغة، التي أكسبت شمس الخريف الناعمة أحجارها لونا ذهبيا، ولا تزال حوائطها تلتمع ببقايا بهرجة ذروة الصيف، ولم يقابل أي وجوه يعرفها. صور له خياله المشوه الذي سيطر عليه الاكتئاب أن السكان السابقين قد أخلوا منها بطريقة غامضة، وأن من يجوبون الشوارع الرمادية ويجلسون مثل أشباح عائدة أسفل أشجار حدائق الكليات هم غرباء. كان الحديث الذي دار في غرفة كبار الأساتذة المشتركة مصطنعا وغير مترابط. شعر أن زملاءه يتحاشون النظر في عينيه. سأله أولئك الذين أدركوا أنه كان متغيبا عما حققه من نجاح في رحلته، لكن دونما اهتمام فعلي، مجرد لفتة لياقة. شعر أنه جلب معه عدوى خارجية مشينة. لقد عاد إلى مدينته، إلى مكانه الذي يألفه، ومع ذلك خيم عليه ذلك الشعور المقلق غير المألوف الذي لا يعرف له اسما سوى الوحدة.
بعد الأسبوع الأول، اتصل بهيلينا، مندهشا لرغبته في سماع صوتها، بل أمله في أن تدعوه للزيارة. إلا أنها لم تفعل. لم تحاول إخفاء خيبة أملها عندما جاءها صوته. كانت ماتيلدا تعاني ضعفا ولا تتناول طعامها. أجرى لها الطبيب البيطري بضعة فحوصات وكانت تنتظر أن يهاتفها.
قال: «لقد كنت خارج أكسفورد طوال الصيف. هل حدثت أي مستجدات؟» «ماذا تعني بالمستجدات؟ وأي نوع من المستجدات؟ لم يحدث أي جديد.» «لا أظن ذلك؛ فالمرء يعود بعد ستة أشهر متوقعا أن يجد الأمور قد تغيرت.» «لا شيء يتغير في أكسفورد. فلم قد يتغير أي شيء؟» «لم أكن أعني أكسفورد. بل البلد بأسره. لم تردني أخبار كثيرة عندما كنت في الخارج.» «لا يوجد أي أخبار. ولم تسألني أنا؟ حدثت مشكلة بشأن بعض المنشقين، هذا كل شيء. هي على الأرجح شائعة. يبدو أنهم كانوا يفجرون أرصفة بحرية، محاولين إيقاف فعاليات الراحة الأبدية. وذكر شيء عن ذلك في التلفاز منذ نحو شهر. ذكر المذيع أن جماعة منهم يخططون لتحرير جميع المساجين على جزيرة مان، وأنهم حتى قد يحاولون تنظيم غزو من الجزيرة لتنحية الحاكم.»
قال ثيو: «تلك حماقة.» «هذا ما يقوله روبرت. لكن لا ينبغي أن يذيعوا أمورا كتلك إن لم تكن حقيقية؛ فهي لا تتسبب إلا في إثارة قلق الناس. من قبل كان كل شيء هادئا.» «هل يعلمون هوية أولئك المنشقين؟» «لا أعتقد ذلك. لا أظن أنهم يعرفون هويتهم. ثيو، يجب أن أنهي المكالمة الآن؛ فأنا أنتظر مكالمة من الطبيب البيطري.»
دون أن تنتظر أن تسمع منه وداعا، وضعت سماعة الهاتف.
في الساعات الأولى من اليوم العاشر لعودته، عاد الكابوس. لكن هذه المرة لم يكن أبوه هو من يقف عند نهاية سريره ويشير بجدعته الدامية، بل كان لوك، ولم يكن هو مستلقيا في سريره، بل كان جالسا في سيارته، ليس أمام منزل شارع لاثبري، بل كان في صحن كنيسة بينسي. كانت نوافذ السيارة مغلقة، وكان يسمع امرأة تصرخ مثلما صرخت هيلينا. كان رولف موجودا، محتقن الوجه، وكان يضرب بقبضتيه زجاج السيارة ويصرخ قائلا: «لقد قتلت جوليان، لقد قتلت جوليان!» وأمام السيارة وقف لوك بصمت يشير إليه بجدعته الدامية. لم يستطع التحرك، وكان جامدا جمود الموتى. جاءته أصواتهم الغاضبة تقول: «اخرج! اخرج!» لكن جسده أبى أن يتحرك. جلس مكانه يحملق بعينين خاويتين خلال الزجاج الأمامي في إصبع لوك الذي يشير إليه باتهام، منتظرا أن يفتح الباب عنوة، وأن تجره أيديهم إلى الخارج كي يواجه هول ما ارتكبه هو وحده.
خلف الكابوس إرثا من القلق ظل يكبر يوما بعد يوم. حاول أن يتغلب عليه لكن لم يكن في حياته الوحيدة الرتيبة، التي يغلب عليها الروتين، أي شيء يقوى على أن يشغل أكثر من جانب واحد من ذهنه. قال في نفسه إنه يجب أن يتصرف على سجيته، وأن يظهر عدم الاهتمام، وأنه تحت مراقبة من نوع ما. لكن لم يكن ثمة ما يدل على ذلك؛ فلم يبلغه أي شيء من زان ولا المجلس، ولم يتلق أي اتصالات، ولم يلاحظ أن أحدا يتبعه. كان يخشى أن يتصل به جاسبر، كي يجدد عرضه بأن ينضم إليه في سكنه. لكن جاسبر لم يتواصل معه منذ الراحة الأبدية ولم تأته أي مكالمة منه. تابع ممارسة تمارينه البدنية المعتادة، وبعد عودته بأسبوعين انطلق يعدو في الصباح الباكر عبر بورت ميدو متجها إلى كنيسة بينسي. كان يعلم أنه ليس من الحكمة أن يزور الكنيسة ويسأل القس العجوز، وكان يجد صعوبة في أن يفسر لنفسه أهمية زيارة بينسي مرة أخرى، أو ما كان يرجوه من تلك الزيارة. بينما كان يعدو بخطواته الواسعة المنتظمة عبر بورت ميدو، خشي لوهلة أنه ربما يقود شرطة الأمن الوطني لأحد أماكن التقاء الجماعة. لكن عندما وصل إلى بينسي، وجد القرية الصغيرة مهجورة تماما، فقال لنفسه إنه من غير المحتمل أن يستمروا في اللقاء في أي من الأماكن التي كانوا يترددون عليها من قبل. لكن أينما كانوا، كان يعرف أنهم في خطر محدق. انتابته حينها، كما كان يحدث كل يوم، فيض من المشاعر المتضاربة المألوفة؛ ضيق من تورطه في الأمر، وندم على أنه لم يتدبر أمر مقابلته مع المجلس بطريقة أفضل، ورعب من أن تكون جوليان الآن بالفعل في قبضة شرطة الأمن الوطني، وخيبة أمل من عدم وجود طريقة للتواصل معها، ولا شخص بإمكانه أن يأمن الحديث إليه.
كان الممشى المؤدي لكنيسة سانت مارجريت قد صار مهملا أكثر، وكانت النباتات البرية قد غشيته أكثر من آخر مرة سار فيه، وجعلته الأغصان المتشابكة فوقه مظلما ومشئوما كأنه نفق. عندما وصل إلى باحة الكنيسة رأى سيارة جنازات مركونة خارج المنزل، ورجلين يحملان تابوتا بسيطا من خشب الصنوبر ويسيران في الممر.
سألهما: «هل مات القس العجوز؟»
بالكاد نظر إليه الرجل الذي رد عليه قائلا: «أحرى به أن يكون ميتا؛ فهو في التابوت.» أدخل التابوت بحرفية في مؤخرة السيارة، وأغلق الباب بقوة ثم انطلقا بالسيارة مبتعدين.
كان الباب المؤدي إلى الكنيسة مفتوحا فدلف إلى ذلك المبنى الخاوي المعتم الذي فقد رمزيته الدينية. كانت آثار الخراب الداهم بادية عليه بالفعل؛ فقد حمل الهواء أوراق الشجر عبر الباب المفتوح وكانت أرضية المذبح مغطاة بالطمي وملطخة بسائل يشبه الدم. كان الغبار الكثيف يغطي المقاعد، وكان واضحا من الرائحة أن حيوانات، على الأرجح كلاب، كانت تتجول هناك بحرية. أمام المذبح رسمت رموز غريبة على الأرض، وكان بعضها مألوفا نوعا ما. ندم على قدومه لذلك المكان الخرب المدنس. خرج من الكنيسة وأغلق خلفه الباب الثقيل وهو يشعر بالراحة. لكنه لم يكتشف أي شيء، وكانت زيارته بلا طائل. لم تثمر رحلته القصيرة العديمة الجدوى تلك عن شيء إلا تعميق شعوره بالعجز، وبكارثة وشيكة.
الفصل الحادي والعشرون
كانت الساعة الثامنة والنصف تلك الليلة عندما سمع الطرق على الباب. كان في المطبخ يتبل السلطة تحضيرا لوجبة العشاء، فكان يمزج بعناية زيت الزيتون مع خل النبيذ بالنسب المضبوطة. كان سيتناول العشاء، كما كان يفعل عادة في المساء، من صينية يضعها في مكتبه، وكان قد أعد بالفعل الصينية ومفرشها النظيف وفوطة المائدة على طاولة المطبخ. وكانت شريحة لحم الحمل موضوعة على الشواية. كان قد فتح زجاجة النبيذ الفرنسي الفاخر منذ ساعة وصب منها أول كأس ليشربها بينما كان يطهو. كان يقوم بالحركات المألوفة دون حماس، ودون اهتمام تقريبا، ويفترض أنه يحتاج لأن يأكل. اعتاد أن يكلف نفسه عناء تتبيل السلطة. وحتى بينما كانت يداه مشغولتين بتلك التحضيرات المعتادة، كان عقله يخبره بأن كل ذلك بلا أهمية على الإطلاق.
أغلق ستائر الأبواب الفرنسية المؤدية إلى الباحة الأمامية ودرجات السلم المؤدية إلى الحديقة، ليس للحفاظ على خصوصيته - فذلك لم يكن ضروريا - بل لأن من عادته إغلاقها ليحجب ظلمة الليل. فيما عدا الأصوات الخافتة التي يصدرها هو، كان محاطا بسكون تام، وشعر كأن طوابق المنزل الخاوية من فوقه وزن فعلي يجثم على صدره. وفي اللحظة التي رفع فيها الكأس لشفتيه، سمع طرقة. كانت خافتة لكنها ملحة، طرقة واحدة على الزجاج تبعها على التو ثلاث طرقات أخرى واضحة كأنها إشارة. أزاح الستائر فلم ير إلا معالم وجه يكاد يلتصق بالزجاج. وجه داكن. فأدرك بحدسه لا ببصره أنها ميريام. سحب المزلاجين وفتح الباب فدلفت إلى الداخل على الفور.
لم تهدر أي وقت على عبارات التحية، بل قالت: «هل أنت بمفردك؟» «أجل. ما الأمر؟ ماذا حدث؟» «لقد قبضوا على جاسكوين. نحن مطاردون. جوليان تحتاجك. لم يكن من السهل أن تأتي إليك بنفسها؛ لذا أرسلتني.»
اندهش من قدرته على مقابلة انفعالها وخوفها، الذي حاولت إخفاءه، بذلك القدر من الهدوء. لكن تلك الزيارة، مع أنها غير متوقعة، لم تبد إلا ذروة طبيعية للتوتر الذي ظل يتراكم طوال الأسبوع. كان يعرف أن شيئا صادما سيحدث، وأن طلبا غير عادي سيطلب منه. وها قد أتى الاستدعاء.
عندما لم تسمع منه ردا، قالت: «لقد قلت لجوليان إنك ستأتي إليها إن احتاجتك. وهي الآن بحاجة إليك.» «أين هم؟»
صمتت ثانية كأنما تتساءل إن كان من المأمون إخباره، ثم قالت: «في كنيسة صغيرة بقرية ويدفود خارج سواينبروك. معنا سيارة رولف لكن لا بد أن شرطة الأمن الوطني تعرف أرقام لوحتها. نحن نحتاج إليك وإلى سيارتك. يجب أن نهرب قبل أن ينهار جاسكوين ويخبرهم بأسمائنا.»
لم يشك أي منهم في أن جاسكوين سينهار. لن يكون استخدام أساليب قاسية كالتعذيب البدني ضروريا؛ فسيكون لدى شرطة الأمن الوطني ما يلزم من عقاقير وما يلزم لاستخدامه من خبرة وقسوة.
سألها: «كيف جئت إلى هنا؟»
قالت بنفاد صبر: «بالدراجة. تركتها أمام بوابتك الخلفية. كانت مغلقة لكن لحسن الحظ كان جارك قد أخرج سلة قمامته، فتسلقت فوقها. اسمع، الوقت لا يتسع لأن تأكل. من الأفضل أن تأخذ معك أي طعام جاهز، ولدينا بعض الخبز والجبن وبضع معلبات. أين سيارتك؟» «في مرأب متفرع من زقاق بيوسي. سأحضر معطفي. ستجدين حقيبة معلقة خلف باب الخزانة، وخزانة المؤن هناك. اجلبي ما يمكنك تجميعه من الطعام. ومن الأفضل أن تغلقي زجاجة النبيذ وتأخذيها معك.»
صعد إلى الأعلى كي يحضر معطفه الثقيل، ثم صعد طابقا آخر إلى الحجرة الخلفية الصغيرة، وأخذ دفتر يومياته ودسه في جيب معطفه الداخلي الكبير. فعل ذلك دونما تفكير، وإن سأله أحد عن سبب فعله ذلك كان سيجد صعوبة في شرح السبب حتى لنفسه؛ فلم يكن بدفتر اليوميات ما يجرمه؛ فقد كان حريصا على ذلك. ولم يكن يتوقع أن يغيب لأكثر من بضع ساعات عن تلك الحياة التي يسجل دفتر اليوميات وقائعها وتحتويها جدران ذلك المنزل الخاوي. وحتى إن كانت الرحلة بداية لرحلة طويلة، فقد كان ثمة تمائم أنفع وأقيم وأنسب كان بإمكانه أن يدسها في جيبه.
كان نداء ميريام الأخير له بأن يسرع غير ضروري؛ فقد كان يعلم أن الوقت ضيق جدا. إن كان يريد أن يصل إلى الجماعة كي يناقش معهم أفضل طريقة لاستخدام نفوذه لدى زان، وفوق كل شيء، إن كان يريد أن يرى جوليان قبل أن تعتقل، فعليه أن ينطلق في طريقه دون أدنى تأخير. ففور أن تعرف شرطة الأمن الوطني أن الجماعة لاذت بالهرب، سيوجهون اهتمامهم له. كان رقم لوحة سيارته مسجلا لديهم. وستكون وجبة العشاء المتروكة، حتى إن أهدر وقتا لرميها في سلة القمامة، دليلا دامغا على أنه غادر في عجالة. في خضم تلهفه لأن يصل إلى جوليان، لم تعنه سلامته الشخصية إلا قليلا؛ فقد كان لا يزال مستشارا سابقا للمجلس. ويوجد رجل واحد في بريطانيا يملك القوة المطلقة، والسلطة المطلقة، والحكم المطلق، وهو ابن خالة ذلك الرجل. وفي النهاية حتى شرطة الأمن الوطني لم تكن تستطيع أن تمنعه من مقابلة زان. لكنها تستطيع أن تمنعه من رؤية جوليان؛ على الأقل كان في قدرتها أن تفعل ذلك.
كانت ميريام بانتظاره عند الباب الأمامي ممسكة بحقيبة كبيرة ممتلئة. فتح الباب لكنها أشارت إليه أن يتراجع، وأسندت رأسها إلى قائم الباب ونظرت سريعا للخارج في كلا الاتجاهين، ثم قالت: «المكان يبدو آمنا بالخارج.»
لا بد أن السماء أمطرت؛ فقد كان الهواء عليلا مع أن السماء كانت مظلمة، وكانت مصابيح الشارع تلقي بضوئها الخافت على الأحجار الرمادية، وعلى أسطح السيارات المبقعة بمياه الأمطار. على جانبي الشارع كانت الستائر مسدلة على النوافذ عدا نافذة مرتفعة مربعة يشع منها الضوء، ورأى خيالا داكنا لرءوس تمر وراءها، وسمع صوت موسيقى خافتة يأتي منها. ثم رفع شخص ما بالغرفة صوت الموسيقى وفجأة انساب إلى الشارع الرمادي مزيج شديد العذوبة من أصوات الجهير والتينور والسوبرانو تتغنى برباعية أوبرالية، هي حتما لموزارت، لكنه لم يميز أي واحدة هي. في غمرة من الحنين القوي إلى الماضي والحسرة، أعاده صوت الموسيقى إلى ذكرى ذلك الشارع الذي وطئته قدماه لأول مرة قبل ثلاثين عاما، ولأصدقاء كانوا يسكنون فيه ورحلوا، ولذكرى النوافذ المفتوحة في ليالي الصيف، وأصوات شابة تنادي وصوت الموسيقى والضحكات.
لم يكن يوجد أي أثر لأعين تتجسس عليهما، ولا أثر لأي حياة عدا ذلك الصوت البديع، ومع ذلك قطع هو وميريام بسرعة وبخفة الثلاثين ياردة بشارع بيوسي وقد خفضا رأسيهما وظلا صامتين، كما لو أن مجرد همسة أو وقع أقدام ثقيلة قد يتسببان في إيقاظ الشارع من ثباته لتدب فيه الحياة. انعطفا إلى زقاق بيوسي وانتظرت هي في صمت، ريثما فتح باب المرأب وشغل محرك سيارته الروفر، وفتح لها الباب فركبت بسرعة. قاد السيارة بسرعة عبر طريق وودستوك لكن بحرص وفي نطاق حد السرعة المسموح به. كانا قد وصلا إلى أطراف المدينة عندما تكلم. «متى اعتقلوا جاسكوين؟» «منذ حوالي ساعتين. كان يضع متفجرات لتفجير منصة إرساء في شورهام. كانت ستقام هناك فعالية أخرى من فعاليات راحة الموت. كانت شرطة الأمن الوطني بانتظاره.» «ليس ذلك مستغربا. فأنتم تفجرون منصات الإرساء منذ فترة. لا بد أنهم وضعوها تحت المراقبة. إذن هو لديهم منذ ساعتين. أنا مندهش من أنهم لم يعتقلوكم حتى الآن.» «على الأرجح انتظروا حتى عودتهم إلى لندن كي يستجوبوه. ولا أظن أنهم في عجلة من أمرهم، فنحن لا نمثل أهمية كبيرة. لكنهم سيأتون حتما.» «بالطبع. كيف عرفتم أنهم قبضوا على جاسكوين؟» «لقد اتصل بنا كي يعلمنا بما ينوي فعله. فقد كانت تلك مبادرة شخصية منه لم يصرح بها رولف. وعادة نتصل مرة أخرى بعد إتمام المهمة، لكنه لم يفعل. فذهب رولف إلى مسكنه المؤجر في كاولي. كانت شرطة الأمن الوطني قد أتت لتفتيشه؛ على الأقل، تقول صاحبة العقار إن أحدا ما جاء لتفتيشه. من الواضح أنهم شرطة الأمن الوطني.» «لم يكن من الحكمة أن يذهب رولف لمنزله. كان من الممكن أن يكونوا في انتظاره هناك.» «لم يكن أي مما فعلناه من الحكمة في شيء، لكنه كان ضروريا.»
قال: «لا أعلم ماذا تنتظرون مني، لكن إن كنتم تريدون أن أساعدكم فمن الأفضل أن تخبريني بالقليل عنكم. فأنا لا أعرف إلا أسماءكم الأولى. أين تسكنون؟ فيم تشتغلون؟ كيف التقيتم؟» «سأخبرك، وإن كنت لا أرى أهمية لذلك ولا سببا لرغبتك في معرفه تلك المعلومات. جاسكوين يعمل، أو كان يعمل، سائق شاحنات لمسافات طويلة. لهذا السبب جنده رولف. أعتقد أنهما تقابلا في إحدى الحانات. فبإمكانه أن يوزع منشوراتنا في جميع أنحاء إنجلترا.» «سائق شاحنات لمسافات طويلة وخبير متفجرات. بإمكاني أن أرى نفعه.» «لقد تعلم التعامل مع المتفجرات من جده. كان ضابطا بالجيش وكانا مقربين بعضهما لبعض. لم يكن يحتاج لأن يكون خبيرا. فليس ثمة أي تعقيد في تفجير منصات الإرساء أو غيرها. رولف مهندس. ويعمل في مجال الطاقة الكهربائية.» «وماذا أضاف رولف إلى مؤسستكم بعيدا عن قيادته غير الرشيدة بالمرة؟»
تجاهلت ميريام تهكمه. وتابعت قائلة: «أنت تعرف بشأن لوك. فقد كان قسا. وأفترض أنه لا يزال كذلك. فهو يقول إن القس يظل قسا للأبد. ليس لديه أبرشية لأنه لم يتبق الكثير من الكنائس التي ترغب في اتباع مذهبه من المسيحية.» «أي مذهب ذلك؟» «المذهب الذي تخلصت منه الكنيسة في التسعينيات. الذي يتبع الكتاب المقدس القديم، وكتاب الصلوات القديم. أحيانا يقيم قداسا إن طلب منه الناس ذلك. هو يعمل بوظيفة في الحدائق النباتية ويتعلم تربية الحيوانات.» «ولماذا جنده رولف؟ بالتأكيد ليس لتقديم الدعم الروحي للجماعة.» «جوليان هي من رغبت في وجوده.» «وماذا عنك؟» «أنت تعرف بالفعل. كنت أعمل قابلة. كانت تلك الوظيفة هي أقصى طموحي. وبعد أوميجا عملت بوظيفة عاملة في صناديق الدفع في متجر كبير بمنطقة هيدنجتون. وأنا الآن أدير المتجر.» «وكيف تساعدين «السمكات الخمس»؟ هل تدسين المنشورات داخل علب حبوب الإفطار؟»
قالت: «قلت لك إننا لم نتصرف بحكمة. لكنني لم أقل إننا حمقى. لو لم نكن حريصين، أو كنا غير أكفاء كما تظننا ، ما كنا سنصمد كل ذلك الوقت.»
قال: «لقد صمدتم كل ذلك الوقت لأن هذا ما أراده الحاكم. كان بإمكانه أن يعتقلكم منذ عدة أشهر. لم يفعل ذلك لأنكم أنفع له وأنتم طلقاء مما ستكونون وأنتم مسجونون. فهو لا يريد أن يصنع منكم شهداء. ما يريده هو مزاعم بوجود خطر داخلي يهدد الأمن العام المستتب. فذلك يساعده على توطيد سلطته. جميع الطغاة احتاجوا إلى ذلك من حين لآخر. كل ما عليه فعله هو أن يخبر الناس أن ثمة جماعة تعمل سرا، وقد تبدو بياناتها المنشورة تحررية، لكنها في الحقيقة مخادعة، وهدفها الحقيقي هو إغلاق مستعمرة جزيرة مان، وإطلاق سراح عشرة آلاف مجرم سيكوباتي ليعيثوا فسادا في مجتمعنا الآخذ في الهرم، وإعادة جميع العمال الوافدين إلى بلادهم فلا يجد الناس من يجمع القمامة أو يكنس الشوارع، ثم الإطاحة بالمجلس وبالحاكم نفسه في نهاية المطاف.» «لماذا سيصدق الناس ذلك؟» «ولماذا لا يصدقونه؟ ففيما بينكم أنتم الخمسة، على الأغلب تودون لو فعلتم كل تلك الأمور. ورولف بالتأكيد يود لو فعل ذلك الأمر الأخير. في ظل حكم الحكومات غير الديموقراطية، لا مكان لمعارضة مقبولة ولا لتمرد هادئ. أعرف أنكم تطلقون على أنفسكم اسم «السمكات الخمس». لا أرى مانعا من أن تطلعيني على أسمائكم الحركية.» «الاسم الحركي لرولف هو رنجة، وللوك هو لخ، ولجاسكوين هو جوردن، وأنا منوة.» «وجوليان؟» «واجهتنا مشكلة هنا. لا يوجد إلا سمكة واحدة يبدأ اسمها بحرف الجيم وهي سمكة الجندوري.»
اضطر لأن يمنع نفسه من أن يضحك بصوت مسموع. قال: «ما الجدوى من ذلك؟ لقد أعلنتم للبلد بأسره أنكم تطلقون على أنفسكم اسم «السمكات الخمس». أفترض أن رولف عندما يتصل بك يقول: «هنا رنجة يتصل بمنوة.» على أمل أنه إن كانت شرطة الأمن الوطني تتنصت على المكالمة فسيشدون شعورهم ويعضون أناملهم من فرط الحيرة.»
قالت: «حسنا، لقد أوضحت وجهة نظرك. نحن لا نستخدم تلك الأسماء فعليا، ليس كثيرا على أي حال. كان مجرد فكرة من بنات أفكار رولف.» «اعتقدت ذلك.» «اسمع، هلا توقفت عن ذلك الحوار التهكمي؟ نحن نعلم أنك ذكي وأن التهكم هو وسيلتك للتباهي بذكائك أمامنا، لكنني لا أتحمله الآن. ولا تهاجم رولف. إن كان يهمك أمر جوليان، فتوقف عن ذلك، هلا فعلت؟»
ظلا صامتين لبضع دقائق. نظر إلى ميريام فوجد أنها تحملق في الطريق أمامها بانفعال بالغ كما لو كانت تتوقع أن تجده ملغما. كانت تقبض بيديها على الحقيبة بإحكام حتى ابيضت براجمها، وشعر أنها تجيش بحماس يكاد يتجسد أمامه. أجابت عن أسئلته، لكن ذهنها كان شاردا عنه.
ثم تكلمت، وعندما نطقت باسمه، باغتته قليلا تلك اللفتة الحميمية التي لم يكن يتوقعها. «ثيو، ثمة أمر يجب أن أخبرك به. قالت لي جوليان ألا أخبرك حتى ننطلق في طريقنا إليهم. ليس لأنه اختبار لمصداقيتك. فهي كانت تعلم أنك ستأتي إن أرسلت في طلبك. لكن إن لم تفعل، إن منعك أمر مهم، أو لم تستطع أن تأتي، لم أكن سأخبرك. فحينها لن يكون ثمة داع لإخبارك على أي حال.» «إخباري بماذا؟» نظر إليها مطولا. كانت لا تزال تحملق في الطريق أمامها، وشفتاها تتحركان بصمت كأنما تبحث عن الكلمات المناسبة. «تخبرينني بماذا يا ميريام؟»
قالت وهي لا تزال تشيح بنظرها عنه: «لن تصدقني. ولا أتوقع أن تصدقني. لكن عدم تصديقك لا يهم لأنه خلال أكثر بقليل من ثلاثين دقيقة سترى الحقيقة بنفسك. كل ما أطلبه منك هو ألا تجادلني بشأن ما سأقول. فأنا لا أريد في الوقت الحالي أن أضطر لتحمل أي اعتراضات أو مجادلات. لن أحاول إقناعك، فتلك مهمة جوليان.» «فقط أخبريني. وسأقرر إذا ما كنت سأصدقك أم لا.»
حينها التفتت برأسها ونظرت إليه. قالت بصوت واضح يعلو على ضجيج المحرك: «جوليان حبلى. لهذا السبب تحتاج إليك. ستلد طفلا.»
خلال فترة الصمت الذي تلت ذلك، انتابه أولا شعور غامر بخيبة الأمل تلاه شعور بالضيق ثم بالاشمئزاز. كان من الصعب عليه أن يصدق أن جوليان قادرة على خداع نفسها بتصديق ذلك الهراء أو أن ميريام كانت تمتلك من الحماقة ما يجعلها تسايرها في الأمر. فخلال مقابلتهما الأولى والوحيدة في بينسي، مع أنها كانت قصيرة، أعجب بها وكان يحسبها عاقلة وذكية. لم يحب أن يتعرض حكمه على شخص للتشويه إلى ذلك الحد.
بعد برهة قال: «لن أجادل في الأمر، لكني لا أصدق ما تقولين. لا أقول إنك تكذبين عمدا، فأنا أظن أنك تعتقدين أنه صحيح. لكنه ليس كذلك.»
كان ذلك، على أي حال، وهما شائعا فيما مضى. في الأعوام الأولى التي تلت أوميجا، كانت النساء في جميع أنحاء العالم يتوهمن أنهن حبليات، وكانت تظهر عليهن أعراض الحمل، ويمشين بفخر ببطون منتفخة؛ فقد كان يراهن يسرن في شارع هاي ستريت بأكسفورد. وكن يضعن خططا للولادة، حتى إنهن كان يأتيهن مخاض كاذب، ويتعالى أنينهن ويحاولن جاهدات لكن لا ينتج عن ذلك سوى الغازات والألم الشديد.
بعد خمس دقائق قال: «كم مر على تصديقك لتلك القصة؟» «قلت إني لا أريد أن أتكلم عن الأمر. قلت إن عليك أن تنتظر.» «قلت ألا أجادلك. وأنا لا أجادلك. بل أسألك سؤالا واحدا.» «منذ أن تحرك الجنين. فجوليان لم تعرف إلا حينها. وكيف كان لها أن تعرف؟ بعد ذلك تحدثت إلي وأكدت لها الحمل. فأنا قابلة، أتذكر؟ ظننا أنه من الحكمة ألا نتقابل أكثر من اللازم خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. لو كنت رأيتها أكثر تكرارا لكنت علمت في وقت أبكر. حتى بعد مرور خمسة وعشرين عاما، كان حريا بي أن أعرف.»
قال: «إن كنت تصدقين ذلك فعلا، وهو أمر يستحيل تصديقه، فأنت تتقبلينه بهدوء شديد.» «كان لدي الوقت الكافي لأعتاد هيبته. أما الآن فتهمني أكثر الخطوات العملية.»
ساد الصمت. ثم قالت، وكأنما أمامها الوقت بطوله لتستغرق في ذكرياتها: «كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما حدثت أوميجا، وكنت أعمل في قسم الولادة بمستشفى جون رادكليف. كنت أقوم بمناوبة في عيادة متابعة الحمل حينها. وأذكر أني كنت أحجز موعدا لمريضة لزيارتها القادمة عندما لاحظت فجأة أن الصفحة لم يكن بها أي مواعيد محجوزة لمدة سبعة أشهر قادمة. لم يكن يوجد بها ولا اسم واحد. عادة كانت النساء يحجزن مواعيد الكشف عندما يتأخر عنهن الحيض لشهرين، وبعضهن كن يأتين بمجرد أن يتأخر لشهر واحد. لكني لم أجد ولا حتى اسما واحدا. تساءلت في نفسي ما الذي يحدث لرجال هذه المدينة؟ ثم اتصلت بصديقة لي تعمل في مستشفى كوين شارلوت. فأخبرتني أن الوضع مماثل لديها. وقالت إنها ستتصل بشخص تعرفه يعمل بمستشفى روزي للولادة بكامبريدج. واتصلت بي بعدها بعشرين دقيقة. كان الوضع مماثلا هناك أيضا. حينها عرفت، ولا بد أنني كنت من أوائل من عرفوا بالأمر. شهدت النهاية بعيني. والآن سأشهد البداية.»
كانا حينها يدخلان إلى سواينبروك، فخفف من سرعته وأطفأ الأنوار الأمامية وكأنما ستجعلهما تلك الاحتياطات بطريقة ما غير مرئيين. لكن القرية كانت مهجورة. كان القمر اللامع يتهادى في السماء التي بدت كوشاح حريري يهتز متأرجحا بين الرمادي والأزرق، وتلتمع فيها بضع نجمات بعيدة. كانت الليلة أقل ظلاما مما توقع، وكان الهواء هادئا عليلا، يحمل رائحة العشب. تحت ضوء القمر الشاحب، التمعت الأحجار الملساء بوهج خافت بدا كأنما يغمر الهواء فكان يرى بوضوح معالم المنازل ذات الأسطح العالية المنحدرة وأسوار الحدائق التي تتدلى منها الأزهار. لم تكن ثمة أي نوافذ مضاءة، وكانت القرية تسبح في صمت وخواء مثل موقع تصوير فيلم مهجور، ظاهريا يبدو راسخا وباقيا لكنه لن يدوم طويلا، فالحوائط المطلية التي لا يدعمها سوى دعائم خشبية كانت تخفي وراءها الحطام المتعفن لسكانها الذين هجروها. لوهلة تخيل أنه إن استند إلى أحد تلك الحوائط، فستنهار لتصبح كومة من الجص والعوارض الخشبية المتهالكة. وشعر أن القرية بدت مألوفة له. حتى في ذلك الضوء الواهن استطاع أن يميز معالمها؛ المرجة الخضراء الصغيرة المجاورة للبركة وشجرتها العملاقة التي تظللها والمقاعد المحيطة، ومدخل الزقاق الضيق المؤدي إلى الكنيسة.
كان قد جاء إلى هنا من قبل، مع زان، في عامهما الأول بالجامعة. كان يوما شديد الحرارة في أواخر يونيو حينما كانت أكسفورد مكانا يفر منه الناس؛ إذ كانت أرصفتها الحارة تعج بالسياح، وهواؤها معبقا بعوادم السيارات ويعلو فيها صخب اللغات الأجنبية، التي غزا ناطقوها ساحاتها الجامعية الهادئة. كانا يسيران بالسيارة في طريق وودستوك دون وجهة محددة عندما تذكر ثيو رغبته في زيارة كنيسة أوزولد في قرية ويدفورد. لم يكن ثمة فارق بين تلك الوجهة وغيرها. أسعدهما أن صار لرحلتهما هدف، فسلكا الطريق المؤدي إلى سواينبروك. كان ذلك اليوم في ذاكرته بمثابة رمز يستحضره ذهنه للصورة المثالية للصيف الإنجليزي؛ بسمائه الزرقاء الساطعة التي تكاد تخلو من الغيوم، والغشاوة التي صنعها نبات السرفل البري، ورائحة العشب المجزوز، والهواء القوي الذي يتخلل شعرهما. يمكن لتلك الذكرى أن تستحضر أشياء أخرى أيضا، أشياء أسرع زوالا بعكس الصيف، أشياء فقدت للأبد؛ الشباب والثقة بالنفس والبهجة وأمل الوقوع في الحب. لم يكونا في عجلة من أمرهما. خارج سواينبروك كانت تقام مباراة كريكيت محلية فركنا السيارة وقعدنا على ضفة البحيرة المكسوة بالعشب وراء السور الحجري لمشاهدتها وانتقاد اللاعبين والتصفيق لهم. ثم ركنا السيارة مرة أخرى في المكان نفسه الذي ركن فيه السيارة الآن، بجوار البحيرة، ومشيا في نفس الطريق الذي هو بصدد أن يسلكه مع ميريام، مرورا بمكتب البريد القديم، وعبر الزقاق الضيق المرصوف بالأحجار الذي يحده عن الجانبين سور عال يكسوه اللبلاب، إلى كنيسة القرية. وكان يقام حينها حفل معمودية. كان ركب صغير من القرويين يسير في الممشى باتجاه رواق الكنيسة، يتقدمه الأبوان، الأم تحمل رضيعها الذي ألبسته رداء المعمودية الأبيض الفضفاض، والنساء يرتدين قبعات تزينها الورود، والرجال، خجلين قليلا، يتعرقون في بذلاتهم المحكمة الزرقاء والرمادية. تذكر أنه شعر أن ذلك المشهد لا يحده زمان، وللحظة تسلى بتخيل حفلات تعميد جرت في أزمنة سابقة تغيرت فيها الأزياء لكن لم تتغير الوجوه الريفية، التي ارتسم عليها مزيج من العزم والترقب والبهجة. فكر حينها كما يفكر الآن بانقضاء الزمن، الزمن القاسي عديم الشفقة الذي لا سبيل إلى إيقافه. لكن تلك الفكرة حينها كانت مجرد تمرين ذهني يخلو من الألم أو الحنين إلى الماضي، فقد كان الزمن لا يزال ممتدا أمامه، وبدا كالدهر لشاب في التاسعة عشرة من عمره.
الآن، بينما كان يلتفت لإغلاق السيارة، قال: «إن كان مكان اجتماعكم هو كنيسة سانت أوزولد، فالحاكم يعرفها.»
أجابت بهدوء: «لكنه لا يعلم أننا نعرفها.» «سيعلم ذلك عندما يتكلم جاسكوين.» «جاسكوين أيضا لا يعلم. فهذا مكان اجتماع احتياطي أبقاه رولف سرا عنا تحسبا لأن يعتقل أحدنا.» «أين ترك سيارته؟» «أخفاها في مكان ما بعيدا عن الطريق. فقد خططوا لأن يقطعوا آخر ميل تقريبا من الطريق سيرا على الأقدام.»
قال ثيو: «عبر الحقول الوعرة، وفي الظلام. ليس مكانا يسهل الهروب منه سريعا.» «أنت محق، لكنه منعزل وغير مستخدم، كما أن الكنيسة مفتوحة طوال الوقت. لن نضطر للتفكير في مهرب سريع إن كان مكاننا لا يعرفه أحد.»
قال ثيو في نفسه إنه لا بد أنه يوجد مكان أنسب، ومرة أخرى شعر بشك في كفاءة رولف في التخطيط والقيادة. أراحه ازدراؤه لرولف، فقال في نفسه: هو يملك الوسامة والقوة لكنه لا يمتلك قدرا كبيرا من الذكاء، فهو مجرد همجي طموح. كيف، بحق السماء، تزوجت به؟
وصلا إلى نهاية الزقاق فانعطفا يسارا إلى ممر ضيق يغطيه التراب والحجارة ويحده من الجانبين سور يكسوه اللبلاب، وعبرا فوق عائق ماشية ومنه إلى الحقل. أسفل التل إلى اليسار كان يوجد بيت مزرعة منخفض لا يذكر أنه كان قد رآه من قبل.
قالت ميريام: «إنه خاو. القرية بأكملها صارت الآن مهجورة. لا أعلم لماذا يحدث ذلك في بعض الأماكن دون غيرها. أعتقد أنه عندما تغادر بضع عائلات كبيرة، يصيب الهلع العائلات الأخرى وتحذو حذوها.»
كان الحقل وعرا ومكسوا بالحشائش، وكانا يسيران بحذر وأعينهما صوب الأرض. من حين لآخر كان أحدهما يتعثر فيمد الآخر يده بسرعة ليسنده، بينما كانت ميريام تصوب كشافها وتبحث في دائرة ضوئه عن مسار لم يكن موجودا. خيل لثيو أنه لا بد أنهما يبدوان مثل زوجين مسنين، آخر ساكنين بالقرية المهجورة يشقان طريقهما خلال الظلمة النهائية إلى كنيسة سانت أوزولد يدفعهما فكر رجعي أو حاجة غريبة لأن يموتا على أرض مقدسة. على يساره امتدت الحقول حتى سياج شجري عال كان يعلم أن وراءه يجري نهر ويندرش. بعد زيارتهما للكنيسة، اضطجع هو وزان هناك على العشب ليراقبا الأسماك وهي تندفع وتتقافز في تياره البطيء، ثم استلقيا على ظهريهما وحملقا للأعلى عبر أوراق الشجر الفضية إلى السماء الزرقاء الصافية. كانا قد أحضرا معهما نبيذا وحبات فراولة ابتاعاها في طريقهما. وجد أنه يتذكر كل كلمة من حديثهما.
قال زان وهو يضع حبة فراولة في فمه، ثم يتقلب ليلتقط زجاجة الخمر: «يا لها من أجواء تشبه أجواء مسلسل «برايدشيد» يا صديقي العزيز. أشعر أني بحاجة إلى دب لعبة.» ثم أردف، دون أن تتغير نبرة صوته: «أفكر في الالتحاق بالجيش.» «لماذا يا زان؟» «لا يوجد سبب محدد. على الأقل لن يكون الوضع مضجرا.» «بل سيكون مضجرا على نحو لا يوصف، إلا لمن يحبون السفر وممارسة الرياضة، وأنت لا تحب أيا من الأمرين عدا الكريكيت، وهي ليست لعبة تمارس في الجيش. فهؤلاء الفتية يمارسون رياضات عنيفة. وعلى أي حال لن يقبلوك على الأرجح. فبعد أن تقلص عددهم للغاية سمعت أنهم صاروا يدققون للغاية في الاختيار.» «بل سيقبلونني. وبعدها قد أجرب خوض مجال السياسة.» «سيكون هذا أكثر ضجرا. وأنت لم تبد أدنى اهتمام بالسياسة يوما. ولا تتبنى أي معتقدات سياسية.» «بإمكاني أن أكتسبها. ولن يكون ذلك مضجرا بقدر الحياة التي خططتها لنفسك. فأنت سوف تحصل على درجتك العلمية بمرتبة الشرف الأولى، بالطبع، ثم سيجد جاسبر وظيفة بحثية لطالبه المفضل. ثم سيأتي التعيين الإقليمي المعتاد، وستعين في إحدى الجامعات الحديثة غير المرموقة، وتنشر أوراقك البحثية، وتكتب كتابا متقن البحث سيلاقي استحسانا. ثم ستعود إلى أكسفورد بمنحة زمالة. بكلية «أول سولز» إن حالفك الحظ ولم تكن قد حصلت عليها بالفعل، ووظيفة مستديمة في التدريس للطلاب الجامعيين الذين يرون التاريخ اختيارا سهلا. آه، كدت أنسى. زوجة مناسبة، تملك من الذكاء ما يكفي لفتح حديث مقبول على طاولة العشاء لكن لا يكفي لأن تكون ندا لك، وبيت مرهون في شمال أكسفورد وطفلان ذكيان مملان يعيدان الكرة.»
حسنا، لقد صحت معظم تخميناته، بل كلها عدا الزوجة الذكية والطفلين. هل كان ما قاله في ذلك الحوار العفوي حينها حتى جزءا من خطته؟ كان محقا؛ فقد قبله الجيش. وصار أصغر كولونيل منذ 150 عاما. لكنه ظل دون ولاء سياسي، ولم يتبن أي معتقدات سوى اعتقاده أنه يجب أن يحصل على مراده، وأنه عندما يضع نصب عينيه شيئا فإنه حتما سينجح في الوصول إليه. بعد أوميجا، عندما غرق البلد في الفتور واللامبالاة، وفقد الناس الرغبة في العمل، وتوقفت الخدمات تقريبا، وخرجت الجريمة عن حدود السيطرة، وضاع الأمل والطموح إلى الأبد، كانت إنجلترا بمثابة ثمرة ناضجة في انتظار أن يمد يده ليقطفها. قد يكون ذلك التشبيه مبتذلا لكني لا أجد أدق منه. كانت كثمرة تتدلى من شجرتها ناضجة أكثر من اللازم وعطنة؛ وما كان على زان سوى أن يمد يده ليقطفها. حاول ثيو أن يزيح الماضي عن ذاكرته، لكن صدى أصوات ذلك الصيف المنقضي كان يتردد في ذهنه، وحتى في تلك الليلة الخريفية الباردة، كان يشعر بحرارة شمسه تلفح ظهره.
الآن ظهرت الكنيسة واضحة أمامهما، بمحرابها وصحنها اللذين يغطيهما سقف واحد، وبرج الجرس الصغير الذي يتوسطها. كانت تبدو بالضبط كما رآها لأول مرة، صغيرة للغاية، كنيسة بناها مؤمن شديد الإيمان كلعبة أطفال. بينما كانا يقتربان من الباب اجتاحه شعور مفاجئ بالتردد جعله يتسمر في مكانه لحظة، متسائلا للمرة الأولى بفضول وقلق متزايد عن طبيعة ما سيجده هنا بالضبط. لم يستطع أن يصدق أن جوليان حبلى، لكن ذلك لم يكن سبب قدومه إلى هنا. صحيح أن ميريام قابلة، لكنها لم تمارس تلك المهنة منذ خمسة وعشرين عاما، كما أن ثمة العديد من الحالات الطبية التي قد تحاكي أعراضها الحمل. بعض تلك الحالات خطير؛ أهو ورم خبيث ترك دون علاج لأن ميريام وجوليان انخدعتا بأمل زائف؟ كانت تلك مأساة متكررة في الأعوام الأولى التي تلت حدوث أوميجا، وكادت تماثل في شيوعها الحمل الكاذب. كره فكرة أن تكون جوليان حمقاء متوهمة، لكنه كره أكثر فكرة أن تكون مريضة بمرض مميت. وأبغض قلقه عليها، وما بدا أنه هوس بها. لكن ما الذي أتى به غير هذا إلى ذلك المكان الموحش غير المأهول؟
مررت ميريام ضوء الكشاف على الباب ثم أطفأته. انفتح الباب بسهولة عندما دفعته بيدها.
كانت الكنيسة مظلمة لكن أعضاء الجماعة كانوا قد أضاءوا ثمانية مصابيح ليلية ورصوها في صف أمام المذبح. تساءل إذا ما كان رولف قد أحضرها إلى هنا في السر سلفا قبل أن تكون ثمة حاجة لها أم تركها زوار آخرون أمضوا بالكنيسة مدة أطول. اهتزت شعلاتها لوهلة بفعل نسمة الهواء الداخلة من الباب المفتوح، فألقت ظلالا على الأرضية الحجرية وخشب المقاعد الباهت غير المصقول قبل أن تستقر مصدرة وهجا خفيفا لبني اللون. في بادئ الأمر ظن أن الكنيسة خاوية، لكنه ما لبث أن رأى ثلاثة رءوس داكنة ينهض أصحابها من أحد مقاعد الكنيسة المسورة. خرجوا منه إلى الممر الضيق ووقفوا ينظرون إليه. كانوا يلبسون ملابس توحي بأنهم سينطلقون في رحلة، فقد كان رولف يلبس قبعة قبطان وسترة واسعة من جلد الغنم، وكان لوك يلبس معطفا وكوفية سوداوين رثين، أما جوليان فكانت تضع عباءة طويلة تكاد تلامس الأرض. كانت ملامح وجوههم غير واضحة في ضوء الشموع الخافت. لم ينطق أحد. ثم استدار لوك وأمسك بإحدى الشموع ورفعها عاليا. تحركت جوليان إلى حيث يقف ثيو ورفعت بصرها إلى وجهه وهي تبتسم.
قالت: «الأمر حقيقي يا ثيو، تحسسه.»
تحت العباءة كانت ترتدي قميصا وبنطالا فضفاضين. أمسكت بيده اليمنى وأدخلتها تحت القميص القطني وأزاحت حزام البنطال المطاطي المشدود إلى آخره. شعرت يده ببطنها المنتفخ مشدودا، وأول ما خطر على باله هو الدهشة من أن بطنها البارز بالكاد كان ظاهرا تحت ملابسها. في بادئ الأمر شعر أن بشرتها المشدودة الناعمة كالحرير باردة تحت يده، لكن تدريجيا انتقل دفء يده إلى بطنها فلم يعد يشعر بأي فرق، بل شعر أن جلديهما التحم فصارا واحدا. ثم فجأة، أحس في يده بركلة. ضحكت فدوى صوت ضحكاتها المجلجلة المبتهجة في أرجاء الكنيسة.
قالت: «استمع، استمع إلى نبضات قلبها.»
كان من الأسهل أن يجثو على ركبتيه، فجثا، دون تكلف، ودون أن يعتبرها لفتة إجلال، لكنه فقط كان يعلم أنه كان يجب أن ينزل على ركبتيه. طوق خصرها بذراعه اليمنى ووضع أذنه على بطنها. لم يستطع أن يسمع نبض قلب جنينها، لكنه استطاع أن يسمع حركته ويشعر بها، شعر بحياة تنبض بداخلها. اجتاحته موجة من الأحاسيس القوية، فتلاطمته وغمرته بمزيج مضطرب من الرهبة والانفعال والرعب، ثم انحسرت فتركته منهكا واهنا. لوهلة ظل جاثيا، لا يقوى على الحركة، يكاد يستند إلى جسد جوليان، تاركا رائحتها ودفئها وروحها يتخللونه. ثم اعتدل ونهض، مدركا أن أعينهم تراقبه. لكن لم ينطق أي منهم بكلمة. تمنى لو يختفون كي يستطيع أن يسير بجوليان إلى ظلمة الليل وسكونه ويصيرا معا جزءا من الظلام ويقفا معا في ذلك السكون المهيب. كان يحتاج لأن يريح عقله في سلام، وأن يدع المشاعر تجتاحه دون أن يضطر لأن يتكلم. لكنه كان يعلم أنه مضطر لأن يتكلم وأنه سيحتاج إلى كامل قدرته على الإقناع. وقد لا تكفي الكلمات وحدها. سيحتاج لأن يجابههم بنفس القدر من العزيمة والشغف. وكل ما كان بوسعه أن يقدمه هو المنطق والحجة والفطنة، وطوال حياته كان يضع ثقته فيهم. لكنه كان الآن يشعر بضعفه وقصوره في أكثر الجوانب التي كان يثق بها في السابق.
ابتعد عن جوليان وقال موجها كلامه لميريام: «أعطيني الكشاف.»
ناولته إياه دون أن تنطق بكلمة فأضاءه ومرر ضوءه على وجوههم. كانوا يحملقون فيه؛ نظرت إليه ميريام بعينين متسائلتين مبتسمة، ونظر إليه رولف بحنق وبانتصار، أما لوك فنظر إليه بعينين مليئتين باستعطاف يائس.
كان لوك هو أول من تكلم: «ها قد رأيت بنفسك يا ثيو أننا اضطررنا للهروب، وأننا يجب أن نحافظ على سلامة جوليان.»
قال ثيو: «لن تحافظوا على سلامتها بالهرب. هذا يغير كل شيء، ليس لكم فحسب بل للعالم بأكمله. لا شيء يهم الآن إلا سلامة جوليان وطفلها. يجب أن تكون في مستشفى. هاتفوا الحاكم أو دعوني أنا أفعل. بمجرد أن يعرف ذلك، لن يفكر أحد بالمنشورات المحرضة أو بانشقاقكم. فأي شخص ذو نفوذ في المجلس أو في البلد بل في العالم بأسره، لن يعنيه سوى أمر واحد: أن يولد ذلك الطفل سالما.»
وضعت جوليان يدها المشوهة على يده وقالت: «رجاء لا تجبرني على ذلك. لا أريده أن يكون حاضرا عندما ألد طفلي.» «لا داعي لأن يكون حاضرا فعليا. سيرضخ لما تريدين. الجميع سيرضخون لما تريدين.» «سيكون حاضرا. أنت تعلم ذلك. سيكون حاضرا أثناء الولادة، وسيكون حاضرا على الدوام. لقد تسبب في قتل شقيق ميريام؛ وها هو يقتل جاسكوين الآن. إن وقعت في قبضته، فلن أتحرر منه قط. لن ينعم طفلي بالحرية قط.»
تساءل ثيو كيف تنوي أن تنأى هي وطفلها عن الوقوع في يده. أتقترح أن تبقي الطفل سرا للأبد؟ قال: «يجب أن تفكري في مصلحة طفلك أولا. ماذا إن حدثت مضاعفات، أو نزيف؟» «لن يحدث أي شيء. ستعتني بي ميريام.»
التفت ثيو إلى ميريام وقال: «تحدثي إليها يا ميريام. أنت متخصصة. وتعلمين أنها يجب أن تكون في المستشفى. أم أنك لا تفكرين إلا في نفسك؟ ألا تفكرون إلا في أنفسكم؟ وفي مجدكم الشخصي؟ سيكون ذلك أمرا عظيما، أليس كذلك؟ أن تكوني قابلة لأول طفل يولد في الجيل الجديد، هذا إن قدر لذلك الطفل أن يولد. وأنت لا تريدين أن يشاركك أحد في ذلك المجد؛ أو تخشين ألا يسمح لك حتى بالمشاركة فيه. تريدين أن تكوني الشخص الوحيد الذي يشهد معجزة قدوم هذا الطفل إلى العالم.»
قالت ميريام بهدوء: «لقد ولدت مائتين وثمانين طفلا. شعرت أن كل واحد منهم كان معجزة، على الأقل في لحظة ولادته. كل ما أريده هو سلامة الأم وطفلها. لن أترك امرأة حبلى تحت رحمة حاكم إنجلترا. أجل، أفضل أن يولد الطفل في المستشفى، لكن لجوليان الحق في الاختيار.»
التفت ثيو إلى رولف. «وماذا يرى الوالد؟»
قال رولف وقد نفد صبره: «إن ظللنا واقفين هنا نتجادل في الأمر أكثر من هذا، فلن يكون أمامنا خيار. جوليان محقة. بمجرد أن تقع في يد الحاكم، فسيتولى زمام الأمر كله. سيكون حاضرا أثناء الولادة. وسيذيع الأمر للعالم كله. سيظهر على التلفاز وهو يعرض طفلي للأمة. وهذا أمر يحق لي أنا أن أفعله، لا هو.»
قال ثيو في نفسه: هو يظن أنه بذلك يدعم زوجته. لكنه لا يهمه فعليا سوى أن يولد الطفل سالما قبل أن يكتشف زان والمجلس أمر حمل جوليان.
جعل الغضب وخيبة الأمل صوته غليظا: «هذا جنون. أنتم لستم أطفالا حصلوا على لعبة جديدة يريدون أن يحتفظوا بها لأنفسهم، ويلعبوا بها وحدهم، ويمنعوا الأطفال الآخرين من مشاركتهم إياها. ولادة هذا الطفل لا تعني إنجلترا فحسب، بل العالم كله. هذا الطفل ملك للبشرية بأسرها.»
قال لوك: «بل هو ملك للرب.»
التفت إليه ثيو. «بحق المسيح! ألا يمكننا أن نناقش الأمر بعقلانية؟»
كانت مريام هي من تكلمت. قالت: «الطفل ملك نفسه، لكن جوليان هي أمه. حتى ولادته ولفترة بعدها، يكون الطفل والأم واحدا. جوليان لها الحق في أن تقرر أين تريد أن تلد طفلها.» «حتى إن كان ذلك يعني أن تخاطر بحياته.»
قالت جوليان: «إن ولدت طفلي في حضور الحاكم فسيموت كلانا.» «تلك حماقة.»
قالت ميريام بهدوء: «أتريد أن تغامر بذلك؟» لم يجبها. انتظرت قليلا ثم كررت سؤالها: «هل أنت مستعد لتحمل مسئولية ذلك؟» «ما هي خطتكم إذن؟»
كان رولف هو من أجاب. «أن نجد مكانا آمنا، أو أقرب ما يكون للأمان. بيت مهجور أو كوخ، أي مكان يمكننا أن نأوي إليه لأربعة أسابيع. يجب أن يكون في بلدة معزولة، أو ربما غابة. نحتاج إلى مؤن ومياه وسيارة. ليس لدينا سوى سيارتي، ولا بد أنهم يعرفون رقم لوحتها!»
قال ثيو: «لا يمكننا أن نستخدم سيارتي أيضا، ليس لوقت طويل. على الأرجح شرطة الأمن الوطني تزور منزلي في شارع سانت جون الآن. تلك المغامرة بأكملها عبث. بمجرد أن يتكلم جاسكوين - وسوف يفعل، ولا حاجة لهم لأن يلجئوا للتعذيب فلديهم العقاقير - وبمجرد أن يعرف المجلس بشأن الحمل، سيسعون وراءكم بكل ما أوتوا. كم تعتقدون أنكم ستبتعدون قبل أن يجدوكم؟»
جاء صوت لوك هادئا حليما، كما لو كان يشرح تفاصيل الوضع لطفل لا يتمتع بذكاء حاد. «نحن نعرف أنهم سيأتون. هم يبحثون عنا ويريدون القضاء علينا. لكنهم قد لا يأتون بسرعة، وقد لا يهتمون كثيرا في بادئ الأمر. هم لا يعلمون بأمر الطفل. فنحن لم نطلع جاسكوين على الأمر مطلقا.» «لكنه كان جزءا من تلك الجماعة. ألم يخمن ذلك؟ لديه عينان، ألا يستطيع أن يرى بنفسه؟»
قالت جوليان: «إنه في الحادية والثلاثين من عمره، وأشك أنه رأى امرأة حبلى من قبل. فلم تلد أي امرأة منذ خمسة وعشرين عاما. لم يكن ذلك احتمالا واردا في ذهنه. وكذلك لم يكن واردا في أذهان العمال الوافدين الذين كنت أعمل معهم في المعسكر كذلك. لا أحد يعلم سوانا نحن الخمسة.»
قالت ميريام: «وجوليان عريضة الفخذين وحملها بارز لأعلى. ما كنت ستلاحظه أنت لولا أنك شعرت بحركة الجنين.»
قال ثيو في نفسه، إنهم إذن لم يأمنوا لجاسكوين، على الأقل لم يأتمنوه على أهم سر على الإطلاق. لم يعتقدوا أن جاسكوين أهل لأن يعرفه، ذلك الرجل الحازم البسيط المحترم الذي شعر ثيو في أول لقاء بينهم أنه بمثابة المرساة القوية التي تركن إليها الجماعة. لو كانوا وثقوا به، لامتثل للأوامر. ولما كان قام بالمحاولة التخريبية، ولا اعتقل.
قال رولف وكأنما يقرأ أفكاره: «كان ذلك لحمايته، ولحمايتنا. كلما قل عدد من يعرفون السر كان ذلك أفضل. كان لا بد من أن أخبر ميريام، بالطبع. فقد كنا بحاجة إلى مهاراتها. ثم أخبرت لوك لأن جوليان أرادته أن يعرف. لسبب يتعلق بكونه قسا، لإيمانها بخرافة ما، أو شيء من هذا القبيل. يفترض أن يجلب لنا الحظ الجيد. كان ذلك خلافا لمشورتي، لكنني أخبرته.»
قالت جوليان: «أنا من أخبرت لوك.»
خطر لثيو أن إحضاره إلى هنا كان أيضا خلافا لمشورة رولف على الأرجح. فجوليان أرادت أن تحضره، وقد كانوا يحاولون أن يمتثلوا لما تريد. لكن لا يمكن للمرء أن يغض الطرف عن ذلك السر بمجرد أن يطلع عليه. ربما ما زال بإمكانه أن يحاول التملص من المسئولية لكن ليس بإمكانه الآن أن يهرب مما عرفه.
للمرة الأولى ظهرت نبرة استعجال في صوت لوك. «لنهرب قبل أن يأتوا. يمكننا أن نستقل سيارتك. وبوسعنا أن نتابع حديثنا في الطريق. سيكون لديك متسع من الوقت والفرصة لأن تقنع جوليان بتغيير رأيها.»
قالت جوليان: «أرجوك تعال معنا يا ثيو. أرجوك ساعدنا.»
قال رولف بنفاد صبر: «ليس أمامه خيار آخر. فهو يعرف أكثر مما ينبغي. لا يمكننا أن ندعه يذهب الآن.»
نظر ثيو إلى جوليان. أراد أن يسألها: «أهذا هو الرجل الذي اخترته أنت والرب لإعادة تعمير العالم؟»
قال ببرود: «بربك، لا تبدأ بتهديدي. لديك القدرة على أن تنقص من قيمة أي شيء، حتى ما نحن فيه، لتوصله إلى مستوى فيلم رديء. إن أتيت معكم فسيكون ذلك لأنني اخترت ذلك.»
الفصل الثاني والعشرون
أطفئوا الشموع واحدا تلو الآخر. وعادت الكنيسة الصغيرة إلى هدوئها السرمدي. أغلق رولف الباب وبدءوا يسيرون بحذر عبر الحقل يتقدمهم رولف. كان قد أخذ الكشاف وكان ضوءه الدائري الذي يشبه قمرا صغيرا يتقافز مثل وهج المستنقعات فوق كتل العشب الذابل المتشابك، فيسقط لوهلة كأنه ضوء كاشف مصغر على زهرة متراقصة وعلى رقع من أزهار الأقحوان بدت ساطعة كالأزرار فيضيؤها. خلف رولف، كانت المرأتان تسيران معا وقد تأبطت جوليان ذراع ميريام. بينما كان لوك وثيو يسيران في مؤخرة الركب. لم يتحدثا لكن ثيو استشعر أن لوك كان سعيدا بصحبته. أدهشه أنه يمكن لمشاعر بتلك القوة أن تتملكه هو نفسه، وأن يجيش بالذهول والانفعال والرهبة، ومع ذلك يظل قادرا على ملاحظة وتحليل تأثير مشاعره على أفعاله وأفكاره. وأدهشه أيضا أن يجد للحنق مجالا وسط كل ذلك الصخب. فقد كان يبدو شعورا تافها وفي غير محله مقارنة بالأهمية الهائلة لتلك المعضلة. لكن الوضع كله كان مليئا بالتناقضات. أيعقل أن تتباين الوسائل والغايات لمجموعة أشخاص لتلك الدرجة ؟ أيوجد من هو أضعف وأقل كفاءة من أولئك المغامرين ليخوض مهمة بهذا القدر الهائل من الأهمية؟ لكنه لم يكن مضطرا لأن يكون واحدا منهم. فبدون سلاح، لم يكن بوسعهم أن يجبروه على مرافقتهم بالقوة، كما أن مفتاح سيارته كان لا يزال بحوزته. بإمكانه أن يهرب، ويتصل بزان، ويضع حدا للأمر. لكنه إن فعل ذلك، فستموت جوليان. أو على الأقل هذا ما كانت تعتقده هي، وربما كان اعتقادها قويا بما يكفي لقتلها هي وطفلها. وقد تسبب في موت طفلة من قبل. وهذا كاف.
عندما وصلوا أخيرا إلى البحيرة والمرجة حيث ركن سيارته الروفر، كان يتوقع أن يجدها محاطة برجال شرطة الأمن الوطني بهيئتهم السوداء المتسمرة، وأعينهم الجامدة، متأهبين بأسلحتهم. لكن القرية كانت مهجورة عندما وصلوا. وبينما كانوا يقتربون من السيارة، قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة.
التفت إلى جوليان وقال: «أيا كان شعورك تجاه الحاكم، وأيا كان ما يخيفك، دعيني أتصل به الآن. دعيني أتحدث إليه. هو ليس شيطانا كما تظنين.» كان رولف هو من أجابه بنفاد صبر. «ألا تستسلم قط؟ هي لا تريدك وصيا عليها. ولا تثق بوعودك. سنفعل ما خططنا له، سنبتعد قدر الإمكان عن هنا ونجد مأوى لنا. سنسرق احتياجنا من الطعام حتى يولد الطفل.»
قالت ميريام: «ثيو، ليس أمامنا خيار آخر. لا بد أنه يوجد مكان يمكننا أن نأوي إليه، كوخ مهجور في عمق غابة مثلا.»
التفت إليها ثيو. «يا لها من فكرة شاعرية، أليس كذلك؟ أتخيلكم جميعا في كوخ صغير دافئ في فسحة بغابة بعيدة، يتصاعد دخان حطب مدفأته من المدخنة، وبالجوار بئر مياه عذبة، وتحيط به الأرانب والطيور التي تجلس بانتظار أن تصطادوها، وحديقة خلفية زاخرة بالخضراوات. وقد تجدون حتى بضع دجاجات وعنزة تحلبون لبنها. وبالطبع سيكون ملاكه السابقين قد تركوا بمنتهى الكرم عربة أطفال في مخزن الحديقة.»
مجددا قالت ميريام بهدوء وهي تنظر إلى عينيه مباشرة: «ثيو، ليس أمامنا خيار آخر.»
وهو أيضا لم يكن أمامه خيار آخر. فتلك اللحظة التي جثا فيها عند قدمي جوليان، وشعرت يده بحركة طفلها، جعلت ارتباطه بهم لا رجعة فيه. وهم بحاجة إليه. صحيح أن رولف يمقته لكنهم بحاجة إليه. إن وقعت أسوأ الاحتمالات، بوسعه أن يتوسط لهم لدى زان. وإن وقعوا في قبضة شرطة الأمن الوطني، فربما يصغون إليه.
أخرج مفاتيح السيارة من جيبه. مد رولف يده ليأخذها، فقال ثيو: «سأقود بنفسي. يمكنك أن تختار أنت الطريق. أفترض أنك تستطيع قراءة الخرائط.»
كان تهكمه المبتذل ذلك تصرفا أخرق. جاءه صوت رولف هادئا إلى حد مخيف: «أنت تزدرينا، أليس كذلك؟» «كلا، ولماذا أفعل؟» «لست بحاجة إلى سبب. فأنت تزدري العالم بأسره عدا أمثالك، من تلقوا التعليم نفسه، وينعمون بامتيازاتك واختياراتك نفسها. كان جاسكوين رجلا أفضل منك بكثير. ماذا أنجزت أنت في حياتك؟ ماذا فعلت سوى الحديث عن الماضي؟ لا عجب أنك اخترت المتاحف أماكن للقاء. فأنت تشعر بالألفة فيها. بوسع جاسكوين أن يدمر منصة إرساء ويوقف فعالية راحة الموت وحده. أتستطيع أنت ذلك؟» «تعني استخدام المتفجرات؟ لا، أعترف بأن ذلك ليس من ضمن إنجازاتي.»
قلد رولف صوته مستهزئا: ««أعترف بأن ذلك ليس من ضمن إنجازاتي!» ينبغي أن تستمع لما تقول. أنت لست واحدا منا، ولم تكن يوما كذلك. فأنت لا تملك الشجاعة لذلك. ولا أظن أننا نريدك حقا. ولا أظن أننا نقبلك. أنت هنا لأنك ابن خالة الحاكم. وقد يكون هذا مفيدا.»
استخدم ضمير الجمع لكن كليهما كان يعرف بلسان من كان يتحدث. فقال ثيو: «إن كنت معجبا بجاسكوين إلى ذلك الحد، فلم لم تأتمنه على السر؟ لو كنت أخبرته بأمر الطفل، لما خالف أوامرك. قد لا أكون واحدا منكم، لكنه كان. كان من حقه أن يعرف. أنت مسئول عن اعتقاله، وإن مات، فسيكون موته مسئوليتك. لا تلمني أنا إن كنت تشعر بالذنب.»
وضعت ميريام يدها على ذراعه. وقالت بنبرة آمرة هادئة: «اهدأ يا ثيو. إن تشاجرنا فسنموت. لنبتعد عن هنا، حسنا؟»
عندما استقلوا السيارة، وجلس ثيو ورولف في المقعدين الأماميين، قال ثيو: «إلى أي طريق سنتجه؟» «سنذهب باتجاه الشمال الغربي حتى ويلز. سنكون في أمان أكثر إن عبرنا الحدود. فسلطة الحاكم تسري هناك، لكن من يكرهونه هناك أكثر ممن يحبونه. سنتحرك ليلا وننام نهارا. وسنلزم الطرق غير الرئيسية. فالتخفي أهم لنا من قطع مسافة طويلة. كما أنهم سيبحثون عن هذه السيارة. إن سنحت لنا الفرصة فسنغيرها.»
حينها استلهم ثيو الفكرة. جاسبر. جاسبر يسكن على بعد مسافة قصيرة ملائمة، ولديه ما يكفي من المؤن. جاسبر الذي كان يريد بشدة أن ينتقل ليسكن معه في شارع سانت جون.
قال: «لدي صديق يسكن خارج قرية أستهول، وهي تقريبا القرية التالية. لديه مخزون من الطعام وأظن أنني أستطيع إقناعه أن يعيرنا سيارته.»
سأل رولف: «ولم تظن أنه سيوافق على ذلك؟» «لأنني أستطيع أن أعطيه شيئا يريده بشدة.»
قال رولف: «لا وقت لدينا لنضيعه. كم من الوقت سيستغرق إقناعه؟»
كتم ثيو حنقه وقال: «الحصول على سيارة أخرى وملؤها بالمؤن التي نحتاجها ليس مضيعة للوقت. بل كنت سأقول إنه ضرورة. لكن إن كان لديك اقتراح أفضل، فكلي آذان مصغية.»
قال رولف: «حسنا إذن، لننطلق.»
رفع ثيو قدمه عن دواسة التعشيق وانطلق بالسيارة بحرص في الظلام. عندما وصلوا إلى أطراف أستهول، قال: «سنستعير سيارته ونترك سيارتي في مرأبه. إن حالفنا الحظ فلن يصلوا إليه إلا بعد وقت طويل. وأعتقد أن بإمكاني أن أعدكم أنه لن يتكلم.»
مالت جوليان إلى الأمام وقالت: «ألن يعني ذلك تعريض صديقك للخطر؟ يجب ألا نفعل ذلك.»
قال رولف وقد نفد صبره: «سيضطر لأن يغامر بذلك.»
قال ثيو موجها كلامه إلى جوليان: «إن قبض علينا، فلن يجدوا بيننا وبينه أي رابط سوى السيارة. وبإمكانه أن يدعي أنها أخذت أثناء الليل، أننا سرقناها، أو أجبرناه أن يتعاون معنا.»
قال رولف: «ماذا إن رفض التعاون معنا؟ من الأفضل أن أصحبك كي أضمن أن يتعاون.» «بالقوة؟ لا تكن أحمق. لكم من الوقت سيبقى فمه مطبقا بعدها إن فعلت؟ سيتعاون معنا، لكن ليس إن شرعت في تهديده. سأحتاج أن يرافقني شخص واحد. سآخذ ميريام.» «ولماذا ميريام؟» «لأنها تعرف ما ستحتاج إليه من أجل الولادة.»
لم يجادله رولف أكثر. تساءل ثيو إن كان قد تعامل مع رولف بحصافة كافية، ثم شعر بالغيظ من غطرسته التي جعلته مضطرا لتلك الحصافة. لكن عليه بطريقة ما أن يتجنب وقوع مشاجرة. ومقارنة بسلامة جوليان، والأهمية الهائلة لما هم مقدمون عليه، بدا له حنقه المتزايد من رولف رفاهية خطرة رغم تفاهتها. فقد اختار مرافقتهم بإرادته، لكن في الواقع لم يكن أمامه خيار. لم يكن يدين بالولاء إلا لجوليان ولطفلها الذي لم يولد بعد، ولا أحد سواهما.
عندما رفع يده ليضغط على زر الجرس عند البوابة الضخمة الموجودة بالسور، أدهشه أن وجدها مفتوحة. أشار إلى ميريام لتتبعه ودخلا معا. وأغلق البوابة بعد أن دخلا. كان المنزل بالكامل يسبح في الظلام عدا غرفة الجلوس. كانت ستائرها مسدلة لكن يظهر من ورائها بصيص من الضوء. رأى أيضا أن المرأب لم يكن مغلقا؛ فقد كان بابه مرفوعا، وكانت السيارة الرينو الداكنة مركونة بداخله. لم يتفاجأ عندما وجد الباب الجانبي مفتوحا. أضاء نور الردهة، ونادى بصوت خافت، لكن لم يأته أي رد. سار في الممر، وبجواره ميريام، حتى غرفة الجلوس.
ما إن دفع الباب بيده ليفتحه حتى عرف ما سيجده؛ فقد خنقته الرائحة، رائحة نفاذة كريهة كالوباء؛ رائحة الدماء والغوط، رائحة الموت النتنة. لقد جعل جاسبر الفصل الأخير من حياته مريحا. كان يجلس في مقعد بمسندين أمام المدفأة الفارغة، وقد تدلت يداه على مسنديه. كانت الطريقة التي اختارها كارثية ونتيجتها حتمية. فقد وضع فوهة مسدسه في فمه وفجر أم رأسه. وكان ما تبقى منها منكفئا على صدره حيث تشكلت بقعه دماء جافة بنية بدت مثل قيء جاف. كان أعسر فاستقر المسدس على الأرض بجوار الكرسي، تحت طاولة صغيرة مستديرة استقرت فوقها مفاتيح منزله وسيارته، وكأس فارغة وزجاجة نبيذ فرنسي فارغة، وملاحظة مكتوبه بخط اليد، كتب الجزء الأول منها باللاتينية والجزء الأخير بالإنجليزية.
Quid te exempta iuvat spinis de pluribus una?
Vivere si recte nescis, decede peritis.
Lusisti satis, edisti satis atque bibisti:
Tempus abire tibi est.
اقتربت منه ميريام ولمست أصابعه الباردة في لفتة تعاطف غريزية لا طائل منها، وقالت : «يا له من رجل مسكين! يا له من رجل مسكين!» «كان رولف سيقول إنه أسدى إلينا خدمة. فلن يضيع الوقت في إقناعه الآن.» «لماذا أقدم على ذلك؟ ماذا كتب في الملاحظة؟» «إنه قول مقتبس عن هوراس. وهو يعني أنه: لا جدوى من نزع شوكة واحدة إن طالتك شوكات عدة. إن لم يكن بإمكانك أن تحيا حياة جيدة، فالأحرى بك أن تغادر الحياة. على الأرجح وجد ذلك الاقتباس في «كتاب أكسفورد للاقتباسات».»
كان الجزء المكتوب تحته بالإنجليزية أوضح وأكثر اقتضابا: «أعتذر عن الفوضى. تبقت رصاصة واحدة في المسدس.» تساءل ثيو إن كان ذلك تحذيرا أم دعوة؟ وما الذي دفع جاسبر إلى أن يقدم على ذلك الفعل؟ أكان الندم، أم الوحدة، أم اليأس، أم إدراكه أن الألم كان لا يمكن أن يشفى حتى بعد أن نزعت الشوكة؟ قال: «على الأرجح ستجدين الأغطية والبطاطين بالأعلى. سأتولى أنا أمر المؤن.»
كان سعيدا لأنه ارتدى معطفه الريفي الطويل. فالجيب الداخلي ببطانته سيكفي بسهولة لوضع المسدس به. تأكد من أن حجيرة المسدس تحوي بالفعل رصاصة واحدة، ثم أخرجها ودس المسدس والرصاصة في جيبه.
كان المطبخ، بأسطحه الخاوية، وصف فناجين معلقة من مقابضها في خط مستقيم، قذرا لكنه كان مرتبا ولم يكن يوجد ما يدل على أنه استخدم من قبل إلا منشفة صحون مكرمشة، من الواضح أنها غسلت حديثا، وفردت على حامل الأطباق الفارغ لتجف. وكانت النغمة الناشزة الوحيدة في تلك المعزوفة المحكمة هي حصيرتان لفتا وأسندتا إلى الحائط. هل كان جاسبر ينوي أن يقتل نفسه هنا لكنه قلق من أن يصعب تنظيف الأرضية الحجرية من الدماء؟ أم كان ينوي أن يمسح الأرضية مرة أخرى ثم أدرك تفاهة اهتمامه الأخير بالمظاهر؟
كان باب مخزن المؤن غير موصد. بعد خمسة وعشرين عاما من الاقتصاد والتدبير الحريص، وبعد أن صار لا يحتاج إلى مخزونه المكتنز، تركه مفتوحا، كما ترك حياته لينهبها العابرون. هنا أيضا كان كل شيء مرتبا ومنظما. ارتصت على الحوامل الخشبية علب كبيرة من القصدير، ملفوف حول حوافها شريط لاصق. كان على كل منها ملصق مكتوب بخط يد جاسبر الأنيق: «لحم»، «فواكه معلبة»، «مسحوق حليب»، «سكر»، «قهوة»، «أرز»، «شاي»، «دقيق». أثار منظر الملصقات، والأحرف المخطوطة عليها بعناية، في نفس ثيو رجفة بسيطة من التعاطف، كانت مؤلمة وثقيلة، موجة من الشفقة والندم، لم يستحثهما منظر دماغ جاسبر المبعثرة ولا بقعة الدماء التي كانت تلطخ صدره. تركها تتملكه لوهلة ثم ركز على مهمته التي كان بصددها. كان أول ما خطر على باله هو أن يبعثر العبوات على الأرض ثم يختار مجموعة من الأشياء التي يرجح أن يحتاجوها، على الأقل في الأسبوع الأول، لكنه قال في نفسه إن الوقت لن يتسع لذلك. فحتى نزع الشريط اللاصق كان سيؤخره. من الأفضل أن يأخذ مجموعة دون أن يفتحها، من كل من اللحم ومسحوق الحليب والفواكه المجففة، والسكر والخضراوات المعلبة. كانت العلب الأصغر المكتوب عليها «أدوية» و«حقن»، و«أقراص منقية للماء»، و«أعواد ثقاب» اختيارات واضحة، وكذلك كانت البوصلة. لكن قرار أخذ موقدي الكيروسين كان أصعب. كان أحدهما موقدا من طراز قديم له شعلة واحدة، أما الآخر فكان أحدث، وأضخم، وله ثلاث شعلات، استثناه لأنه كان سيشغل حيزا كبيرا. شعر بالاطمئنان عندما عثر على علبة كيروسين وعلبة تحوي جالونين من الوقود. كان يأمل ألا يكون خزان الوقود بالسيارة فارغا.
كان بوسعه أن يسمع حركة ميريام السريعة الخافتة بالأعلى، وبينما كان عائدا بعد أن نقل الدفعة الثانية من العبوات للسيارة، قابلها تنزل السلم وهي تحمل أربع وسادات.
قالت: «لا بأس من أن نكون مرتاحين أيضا.» «ستشغل حيزا لا بأس به. هل جلبت كل ما تحتاجينه للولادة؟» «جلبت عددا كافيا من المناشف والأغطية. وبإمكاننا أن نجلس على الوسائد. ويوجد أيضا خزانة أدوية في غرفة النوم. أفرغت محتوياتها كلها، ووضعتها داخل غطاء وسادة. سيكون المطهر مفيدا، لكن أغلبها أدوية بسيطة؛ أسبرين وبيكربونات وشراب للسعال. هذا المنزل به كل شيء. خسارة أننا لا نستطيع أن نمكث هنا.»
عارض ذلك الاقتراح مع أنه كان يعلم أنه لم يكن اقتراحا جادا. «بمجرد أن يكتشفوا أنني مفقود، سيكون ذلك أول مكان يزورونه. سيزورون جميع معارفي ويستجوبونهم.»
تعاونا معا بصمت ومنهجية. بعد أن امتلأت حقيبة السيارة، أغلقها بهدوء ثم قال: «سنضع سيارتي في المرأب ونوصد بابه. وسأوصد البوابة الخارجية أيضا. لن يمنع ذلك شرطة الأمن الوطني من الدخول، لكنه قد يمنعهم من اكتشاف الأمر قبل أوانه.»
بينما كان يوصد باب الكوخ، وضعت ميريام يدها على ذراعه وقالت بسرعة: «المسدس. من الأفضل ألا يعرف رولف أنه معك.»
كان ثمة نبرة إلحاح سلطوية نوعا ما في صوتها الذي وجد صداه في قلقه الغريزي. قال: «لا أنوي إعلام رولف.» «ومن الأفضل ألا تخبر جوليان أيضا. سيحاول رولف أن يأخذه منك وجوليان ستريدك أن تتخلص منه.» قال باحترام: «لن أخبر أيا منهما. وإن كانت جوليان تريد حماية نفسها وطفلها، فسيتعين عليها أن تتقبل الوسيلة. أتطمح أن تكون أتقى من ربها؟»
أخرج السيارة الرينو من البوابة بحرص وأوقفها خلف الروفر. كان رولف يجول حانقا جيئة وذهابا بجوار السيارة. «لقد تأخرتما كثيرا. هل واجهتكما أي مشاكل؟» «كلا، لقد مات جاسبر. انتحر. لقد جمعنا من المؤن بقدر ما تتسع السيارة. قد السيارة الروفر وأدخلها إلى المرأب وسأوصد بابه وكذلك البوابة الخارجية. لقد أوصدت أبواب المنزل بالفعل.»
لم يكن يوجد ما يستحق نقله من السيارة الروفر إلى الرينو عدا خرائط الطريق ونسخة ورقية من رواية «إيما»، وجدها داخل درج القفازات. دس الكتاب في جيب معطفه الداخلي الذي يحتفظ بداخله بالمسدس ودفتر يومياته. وبعد دقيقتين كانوا جميعا يجلسون داخل السيارة الرينو. جلس ثيو في مقعد السائق. وبعد برهة من التردد، جلس رولف في المقعد المجاور له، وجلست جوليان في الخلف بين ميريام ولوك. أوصد ثيو البوابة وألقى بالمفتاح من فوقها إلى الداخل. كان لا يرى من المنزل المعتم سوى انحدار سطحه العالي الأسود.
الفصل الثالث والعشرون
توقفوا مرتين في الساعة الأولى كي تتوارى ميريام وجوليان في الظلام. تبعهما رولف ببصره، وبدا عليه القلق بمجرد أن غابا عن بصره. ردا على تبرمه الواضح، قالت ميريام: «سيتعين عليك أن تعتاد الأمر؛ فذلك يحدث في أواخر الحمل بسبب الضغط على المثانة.»
في ثالث مرة توقفوا فيها، خرجوا جميعا للتمشي، بينما اتجه لوك أيضا ناحية سياج الشجيرات بعدما تمتم بعذر ما. بعد أن أطفئت أنوار السيارة وسكن محركها، بدا الصمت مطلقا. كان الهواء دافئا عذبا كما لو كانوا لا يزالون في فصل الصيف، وكانت النجوم لامعة بعيدة. خيل لثيو أنه يشم رائحة حقل فاصوليا بعيد، لكن ذلك بالطبع كان وهما؛ فأزهاره ستكون قد ذبلت وتساقطت الآن، وستكون حبوب الفاصوليا في غلافها.
جاء رولف ووقف بجواره. قال: «أنا وأنت يجب أن نتحدث.» «تحدث إذن.» «لا يمكن أن يكون لتلك الرحلة قائدان.» «أهي رحلة إذن؟ خمسة من الهاربين ليس معنا ما يكفي من العتاد ولا لدينا فكرة واضحة عن وجهتنا أو ما سنفعله عندما نصل إليها. الأمر لا يستدعي تسلسلا قياديا. لكن إن كان لقب القائد يرضيك، فلا يقلقني ذلك ما دمت لا تتوقع مني الطاعة العمياء.» «أنت لم تكن يوما واحدا منا، لم تكن يوما عضوا في جماعتنا. لقد أتيحت لك فرصة للانضمام إلينا لكنك رفضتها. أنت هنا لأني استدعيتك.» «أنا هنا لأن جوليان استدعتني. نحن عالقان معا. أستطيع أن أتحملك بما أنه ليس لدي خيار. وأقترح أن تتحمل أنت الآخر وجودي.» «أريد أن أقود.» ثم أضاف وكأنما لم يوضح مقصده: «أريد أن أتولى قيادة السيارة من الآن فصاعدا.» ضحك ثيو ضحكة عفوية غير مصطنعة. «سيعتبر الناس طفل جوليان معجزة. وسيعتبرونك والد ذلك الطفل المعجزة. آدم الجديد، أبو الجيل الجديد، ومنقذ البشرية. وسيمنحك هذا سلطة كافية لأي رجل، سلطة أعتقد أنها ستفوق قدرتك على التعامل معها. وأنت قلق من أنك لا تنال نصيبك من قيادة السيارة!»
صمت رولف لبرهة قبل أن يجيب: «حسنا، سأعقد معك اتفاقا. وربما حتى يكون بمقدوري أن أستفيد من وجودك معي؛ فالحاكم كان يظن أن لديك ما تقدمه. وأنا أيضا سأحتاج إلى مستشار.» «يبدو أن الجميع يعتبرونني نجيهم. على الأرجح سأخيب ظنك كما خيبت ظنه.» وسكت لبرهة ثم سأل: «إذن، أنت تفكر في تولي زمام الحكم؟» «ولم لا؟ إن كانوا يريدون منيي فعليهم أن يقبلوا بي حاكما. لا يمكن أن ينالوا هذا دون ذلك. أنا أهل لأن أؤدي وظيفته بالكفاءة نفسها.» «كنت أحسب أن جماعتك ترى أنه حاكم سيئ، وأنه طاغية عديم الشفقة. إذن، أنت تقترح أن نستبدل بنظام ديكتاتوري نظاما آخر. لكن تلك المرة ستكون ديكتاتورية خيرة. هكذا تكون بداية معظم الطغاة.»
لم يجبه رولف. فكر ثيو: «نحن بمفردنا. وقد تكون تلك فرصتي الوحيدة لأتحدث إليه منفردا.» قال: «اسمع، لا أزال أرى أننا يجب أن نتصل بالحاكم، ونوفر لجوليان الرعاية التي تحتاجها. أنت تعلم أن ذلك هو التصرف المنطقي الوحيد.» «وأنت تعلم أنه ليس بوسعها أن تتقبل ذلك. ستكون على ما يرام. فالولادة عملية طبيعية، أليس كذلك؟ كما أن معها قابلة.» «قابلة لم تولد طفلا منذ خمسة وعشرين عاما. ويوجد دائما احتمال حدوث مضاعفات.» «لن تحدث أي مضاعفات. ميريام ليست قلقة. على أي حال، ستكون عرضة لحدوث مضاعفات أكبر، جسدية أو عقلية، إن أدخلت المستشفى قسرا. فهي تخشى الحاكم، وتراه شريرا؛ فقد تسبب في قتل شقيق ميريام، وهو على الأرجح يقتل جاسكوين الآن. هي تخشى من أن يؤذي طفلها.» «تلك سخافة! كيف لأي منكم أن يعتقد ذلك؟ هذا آخر شيء سيود فعله. فبمجرد أن يصير الطفل بين يديه، سيزداد نفوذه بشدة، ليس داخل بريطانيا فحسب، بل في العالم بأسره.» «ليس نفوذه هو، بل نفوذي أنا. أنا لست قلقا بشأن سلامتها هي؛ فالمجلس لن يضر بها ولا بالطفل. لكن أنا من سيقدم الطفل للعالم وليس زان ليبيات، وحينها سنرى من هو حاكم إنجلترا.» «إذن ما خطتك؟» «ماذا تعني؟» كان صوت رولف مرتابا. «لا بد أن لديك فكرة عما تنوي فعله إن استطعت أن تنتزع السلطة من الحاكم.» «لن أحتاج لأن أنتزعها بالقوة؛ فالناس هم من سيمنحونني إياها. سيكون عليهم فعل ذلك إن أرادوا إعادة إعمار إنجلترا بالبشر.» «فهمت. سيمنحك الشعب إياها. أنت محق على الأرجح. وماذا بعد ذلك؟» «سأعين مجلسا تابعا لي، ولكن لن يكون زان ليبيات عضوا فيه؛ فقد حظي زان ليبيات بنصيبه من السلطة.» «أفترض أنك ستفعل شيئا بخصوص تهدئة الأوضاع في جزيرة مان.» «لن أعطي ذلك أولوية قصوى. فالشعب لن يشكر لي إطلاق سراح عصابة من المجرمين السيكوباتيين بينه. سأنتظر حتى يتقلص عددهم طبيعيا. ستحل تلك المشكلة من تلقاء نفسها.»
قال ثيو: «أعتقد أن هذا ما يتصوره ليبيات أيضا. لكن ذلك لن يرضي ميريام.» «لست مضطرا لأن أنال رضا ميريام. فلديها مهمة محددة وعندما تنتهي منها ستنال مقابلها مكافأة لائقة.» «وماذا عن العمال الوافدين؟ أتنوي أن توفر لهم معاملة أفضل أم ستضع حدا بالكامل لهجرة الأجانب اليافعين؟ فعلى كل حال، بلادهم بحاجة إليهم.» «سأضع ضوابط لذلك وأضمن أن يحظى أولئك الذين نسمح لهم بالقدوم بمعاملة عادلة وصارمة.» «أظن أن هذا ما يخيل للحاكم أنه يفعله. ماذا عن الراحة الأبدية؟» «لن أتدخل في رغبة الناس في إنهاء حياتهم بالطريقة التي تناسبهم.» «سيوافقك حاكم إنجلترا في ذلك.»
قال رولف: «ما أستطيع فعله ولا يستطيع هو فعله هو إنجاب الجيل الجديد. لدينا بالفعل على جهاز الحاسب بيانات جميع النسوة الصحيحات الأبدان في الفئة العمرية من الثلاثين وحتى الخمسين. ستكون المنافسة على المني الخصب شرسة. وبالطبع يشكل اختلاط الأنساب مخاطرة. لهذا يجب أن نتخير النسوة بعناية بناء على الصحة الجسدية ومستوى الذكاء المرتفع.» «سيوافقك حاكم إنجلترا في ذلك؛ فتلك كانت خطته.» «لكنه لا يملك منيا خصبا، أما أنا فأملكه.»
قال ثيو: «ثمة أمر من الواضح أنك أغفلته. سيعتمد ذلك على حالة الطفل الذي ستلده، أليس كذلك؟ يتعين أن يكون طفلا طبيعيا صحيحا. ماذا إن كانت تحمل بداخلها مولودا مشوها؟» «ولماذا يكون مشوها؟ لماذا لا يكون طفلها مني طبيعيا؟»
أثارت تلك اللحظة من الضعف ومن النجوى المتبادلة، التي صرح فيها أخيرا بمخاوفه السرية ونطق بها، في نفس ثيو القليل من الشفقة. لم تكن كافية لأن تجعله يحبه؛ لكنها كانت كافية لأن تمنعه من أن يخبره بما يدور في ذهنه: «ستكون محظوظا إن جاء الطفل غير طبيعي، أو مشوها، أو أبله، أو مسخا. إن ولد صحيحا، فستصير لما تبقى من حياتك حيوانا معمليا. هل تتصور أن يتنازل الحاكم لرجل آخر عن سلطته، حتى إن كان ذلك الرجل هو أبا الجيل الجديد؟ ربما يحتاجون إلى منيك، لكن بإمكانهم أن يحصلوا منه على ما يكفي لإعادة إعمار إنجلترا، بل ونصف العالم، بالبشر، ثم يقررون بعدها أنهم لم يعودوا بحاجة إليك. ذلك ما سيحدث على الأرجح بمجرد أن يشعر الحاكم أنك تمثل تهديدا له.»
إلا أنه لم ينطق بذلك.
خرج من الظلام ثلاثة أشباح، لوك أولا، ثم تبعته ميريام وجوليان تسيران بحذر فوق حافة الطريق المنبعجة وقد أمسكت إحداهما بيد الأخرى. جلس رولف أمام عجلة القيادة.
وقال: «حسنا، لننطلق. من الآن فصاعدا سأتولى أنا قيادة السيارة.»
الفصل الرابع والعشرون
بمجرد أن انتفضت السيارة للأمام، أدرك ثيو أن رولف سيقود بسرعة جنونية. نظر إليه، وتساءل في نفسه إن كان يجرؤ على المخاطرة بتحذيره، آملا في أن يتحسن الطريق فلا يحتاج إلى ذلك. في ضوء المصابيح الأمامية الأبيض، بدا الطريق المليء بالنتوءات مفزعا وغريبا كسطح القمر؛ إذ كان يبدو في آن واحد قريبا، وبعيدا ولا نهائيا على نحو غامض. كان رولف يحملق خلال الزجاج الأمامي للسيارة بتركيز شديد كأنه سائق يخوص سباقا على الطرق الوعرة، وكان يدير عجلة القيادة بحدة كلما ظهر أمامه في الظلام عائق جديد. كان من شأن الطريق المليء بالحفر والشقوق والنتوءات أن يكون خطيرا حتى لو كان قائد السيارة سائقا ماهرا. أما في ظل قيادة رولف العنيفة، فقد كانت السيارة ترتج وتترنح، ويتمايل معها الركاب الثلاثة المحشورون في المقعد الخلفي.
جاهدت ميريام لتميل إلى الأمام وقالت: «على رسلك يا رولف. هدئ من سرعتك. هذا ليس جيدا لجوليان. أتريدها أن تلد ولادة مبكرة؟»
كان صوتها هادئا، لكنه يحمل سلطة مطلقة، وأتى بثماره على الفور. للتو، رفع رولف قدمه قليلا عن دواسة الوقود. لكن الأوان كان قد فات. فقد ارتجت السيارة وانتفضت وانحرفت بشدة، ولثلاث ثوان دارت خارجة عن السيطرة. ضغط رولف بقوة على دواسة المكابح فتوقفت السيارة بانتفاضة.
قال بصوت خافت: «تبا! لقد ثقب أحد الإطارين الأماميين.»
لم يكن ثمة جدوى من تبادل التهم. فك ثيو حزام أمان مقعده. «يوجد إطار احتياطي في صندوق السيارة. لنخرج السيارة عن الطريق.»
نزلوا من السيارة ووقفوا في ظلال حاجز الطريق المعتمة بينما توجه رولف بالسيارة إلى حافة الطريق العشبية. وجد ثيو أنهم وسط الريف الممتد، على بعد حوالي عشرة أميال من ستراتفورد حسبما ظن. على كلا الاتجاهين كان يمتد حاجز غير مشذب من شجيرات عالية متشابكة يتخللها فراغات يرى من خلالها حواف الحقل المحروث. وقفت جوليان، ملتحفة بعباءتها، في هدوء وصمت، كطفل وديع أخذه والداه في نزهة ويقف بصبر في انتظار أن يحل الكبار مشكلة بسيطة.
كان صوت ميريام هادئا، لكنها لم تستطع إخفاء نبرة القلق التي تخللته. «كم سيستغرق الأمر؟» كان رولف يتلفت حوله. قال: «حوالي عشرين دقيقة، أو أقل إن حالفنا الحظ. لكن سنكون في أمان أكثر إن خرجنا عن الطريق؛ إلى موضع لا يرانا فيه أحد.»
ودون أي تفسير، انطلق يسير بخطوات سريعة. وقفوا منتظرين يتابعونه ببصرهم. عاد خلال أقل من دقيقة. «على بعد حوالي مائة ياردة جهة اليمين يوجد بوابة ودرب وعر. يبدو أنهما يؤديان إلى أجمة من الأشجار. سنكون بأمان أكثر هناك. من المفترض أن هذا الطريق غير سالك لكن إن استطعنا نحن أن نسلكه، فلن يعجز غيرنا عن ذلك. يجب ألا نخاطر بأن يتوقف أحد الحمقى ليعرض علينا المساعدة.»
عارضته ميريام قائلة: «كم يبعد؟ لا نريد أن نبتعد أكثر من اللازم، كما أن ذلك سيكون حملا على الإطار.»
قال رولف: «يجب أن نتوارى عن الأنظار. فلست واثقا كم سيستغرق الأمر. يجب أن نختفي تماما عن مرأى من يسير في الطريق.»
وافقه ثيو في سره. فقد كان التواري عن الأنظار أهم من قطع مسافة كبيرة. فشرطة الأمن الوطني لن تعرف أي اتجاه سلكوا ، ولا رقم السيارة أو اسم مالكها إلا إن كانوا بالفعل قد عثروا على جثة جاسبر. جلس في مقعد السائق ولم يبد رولف اعتراضا.
قال: «بوجود كل تلك المؤن في صندوق السيارة، من الأفضل أن نخفف الحمولة. بإمكان جوليان أن تركب، أما بقيتنا فسنسير.»
كانت البوابة والدرب أقرب مما توقع ثيو. كان الدرب الوعر يمتد بسلاسة لأعلى بمحاذاة طرف حقل غير محروث، من الواضح أنه بذر وترك حتى تنبت بذوره منذ فترة طويلة. كان الدرب منخفضا كالأخدود وانطبعت عليه آثار إطارات الجرارات الثقيلة؛ بينما كان الحز المرتفع الذي يتوسط تلك الآثار متوجا بعشب طويل كان يتمايل كهوائيات ضعيفة أمام أنوار مصابيح السيارة الأمامية. قاد ثيو السيارة ببطء وبعناية شديدة، وبجواره جلست جوليان، بينما سار الثلاثة الآخرون بجانبهم في صمت كظلال داكنة. عندما وصلوا إلى مجموعة الشجيرات، رأى أن تلك الغابة وفرت لهم مخبئا كثيفا أفضل مما توقع. لكن كان ثمة عقبة أخيرة. فقد كان يفصل بينهم وبين الدرب أخدود عميق عرضه أكثر من ستة أقدام.
طرق رولف على زجاج السيارة وقال: «توقف هنا للحظة.» وانطلق يعدو للأمام. ثم ما لبث أن عاد وقال: «يوجد معبر يبعد حوالي ثلاثين ياردة. يبدو أنه يؤدي إلى ما يشبه الفسحة.»
كان المدخل إلى الغابة عبارة عن معبر ضيق من جذوع الشجر المقطعة وكانت الأرض مغطاة بالعشب والحشائش. أراح ثيو أن رأى أنه يتسع لمرور السيارة، لكنه انتظر ريثما حمل رولف الكشاف وفحص جذوع الشجر ليتأكد من أنها لم تعطن. أشار بيده فقاد ثيو السيارة فوقه بغير صعوبة. نزلت السيارة من فوق المعبر برفق فأحاطتها أجمة من أشجار الزان التي كونت أغصانها العالية مظلة من الأوراق البرونزية تشابكت كأنها سقف منقوش. عندما نزل ثيو من السيارة رأى أنهم توقفوا وسط كومة من أوراق الأشجار المتساقطة الجافة وثمار الزان المفلوقة.
حاول رولف وثيو فك الإطار الأمامي بينما أمسكت ميريام بالكشاف. وقف لوك وجوليان معا يراقبانهم في صمت بينما أخرج رولف الإطار الاحتياطي والمرفاع ومفتاح فك العجلات. لكن فك الإطار كان أصعب مما توقع ثيو. فقد كانت البراغي مربوطة بإحكام شديد حتى إنه لم يستطع هو ولا رولف تحريكها.
تحرك ضوء الكشاف حركة غير منتظمة بينما كانت ميريام تحاول أن تعدل من وقفتها. قال رولف بنفاد صبر: «بحق الرب أمسكيه بإحكام. لا أستطيع رؤية ما أفعله. والعتمة شديدة.»
بعدها بثوان انطفأ الضوء.
لم تنتظر ميريام سؤال رولف، بل بادرت قائلة: «ليس معنا بطارية احتياطية. أنا آسفة. سنضطر للمكوث هنا حتى يحل الصباح.»
انتظر ثيو أن يثور رولف غضبا. إلا أنه لم يفعل. بل نهض قائلا بهدوء: «إذن، لا مانع من أن نأكل شيئا ونرتاح لما تبقى من تلك الليلة.»
الفصل الخامس والعشرون
اختار ثيو ورولف النوم على الأرض بينما اختار الثلاثة الآخرون النوم في السيارة؛ فاحتل لوك المقعد الأمامي وتكورت المرأتان في المقعد الخلفي. جرف ثيو أكواما صغيرة من أوراق شجر الزان وفرش فوقها معطف مطر جاسبر وتغطى ببطانية وبمعطفه. كان آخر ما وعاه هو الأصوات البعيدة للمرأتين بينما كانتا تتحضران للنوم، وصوت تكسر الغصينات تحته بينما كان يتململ ويغوص أكثر في فراشه الذي صنعه من أوراق الشجر. قبل أن يستغرق في النوم، كانت الرياح قد بدأت تشتد، ليس لدرجة كافية لإهاجة أغصان الزان المنخفضة فوق رأسه، لكنها كانت تثير أصواتا بعيدة وكأنما كانت الحياة تدب في الغابة.
في الصباح التالي فتح عينيه فرأى أشعة الضوء الخافت تتخلل أوراق شجر الزان البرونزية والمصفرة. وشعر بخشونة الأرض من تحته، وأتته الرائحة النفاذة التي تبعث على الراحة للتربة وأوراق الشجر. جاهد لينهض من تحت ثقل البطانية والمعطف اللذين كانا يغطيانه، وتمدد، فشعر بألم في كتفيه وفي أسفل ظهره. أدهشه أن نام نوما عميقا فوق ذلك الفراش الذي كان في البداية غضا للغاية، لكنه ما لبث أن انضغط بفعل وزنه فصار كاللوح الخشبي.
بدا أنه كان آخر من استيقظ؛ فقد كانت أبواب السيارة مفتوحة ومقاعدها خاوية. كان شاي الصباح معدا. وعلى الجانب المستوي من جذع شجرة مقطوع ارتصت خمسة أكواب من مجموعة أكواب جاسبر المطبوع عليها شعارات التتويج، وإبريق شاي معدني. بدت الأكواب الملونة مبهجة للغاية.
قال رولف: «تفضل.»
كانت ميريام تمسك بوسادتين وتنفضهما بقوة، ثم أعادتهما إلى السيارة حيث كان رولف قد شرع بالفعل في إصلاح الإطار. شرب ثيو الشاي، ثم مضى ليساعده، فعملا معا بكفاءة وتآلف. كانت يدا رولف الكبيرة ذات الأصابع المربعة ماهرتين للغاية. استطاعا معا فك البراغي التي استعصى عليهما فكها من قبل، ربما لأن كليهما نال قسطا من الراحة فخف قلقه ولم يعد ضوء
سأل ثيو وقد اغترف حفنة من أوراق الشجر ليمسح يده بها: «أين جوليان ولوك؟»
كان رولف هو من أجاب: «يتلوان صلواتهما. فهما يفعلان ذلك كل يوم. سنفطر عندما يعودان. لقد جعلت لوك مسئولا عن حصص الطعام. عله يفعل شيئا أنفع من تلاوة الصلوات مع زوجتي.» «لماذا لم يصليا هنا؟ يجب ألا نفترق.» «لم يبتعدا كثيرا. لكنها يحبان أن يحظيا بالخصوصية. على كل حال، ليس بيدي أن أمنعهما؛ فجوليان تحب ذلك، وميريام تقول إنني يجب أن أحرص على أن تظل هادئة وسعيدة. وظاهر الأمر أن الصلاة تجعلها هادئة وسعيدة. إنها تمثل لهما نوعا من الطقوس. ولا ضرر منها. لماذا لا تنضم لهما إن كنت قلقا؟»
قال ثيو: «لا أظن أنهما سيرحبان بي.» «لا أعرف، ربما يفعلان. وقد يحاولان حتى دعوتك لاعتناق المسيحية. هل أنت مسيحي؟» «كلا، لست مسيحيا.» «بماذا تؤمن إذن؟» «أومن بشأن ماذا؟» «بشأن تلك الأمور التي يعتبرها المتدينون مهمة. هل يوجد إله؟ كيف تفسر وجود الشر؟ ماذا يحدث لنا بعد الموت؟ لماذا خلقنا؟ كيف ينبغي أن نعيش حياتنا؟»
قال ثيو: «السؤال الأخير هو الأهم، بل هو السؤال الوحيد الذي يهم حقا. لا يلزم أن تكون متدينا كي تعتقد ذلك. ولا يلزم أن تكون مسيحيا كي تجد إجابة عليه.»
التفت رولف إليه وسأله، وكأنما يهمه حقا أن يعرف: «لكن بماذا تؤمن؟ ولا أعني الدين فحسب. ما الذي تؤمن به يقينا؟» «إنني يوما كنت عدما لكني موجود الآن. ويوما ما سأصير عدما.»
ضحك رولف ضحكة مقتضبة حادة تشبه الصيحة. «هذا يصعب دحضه. لا يستطيع أحد أن يجادلك في ذلك. وبماذا يؤمن حاكم إنجلترا؟» «لا أدري. لم نناقش هذا الأمر قط.»
جاءت ميريام وجلست مسندة ظهرها إلى جذع شجرة، ومددت ساقيها، وأغمضت عينيها، ورفعت رأسها للأعلى وابتسمت بلطف للسماء، تستمع إلينا دون أن تتكلم.
قال رولف: «كنت أومن بالرب وبالشيطان، ولكني فقدت إيماني ذات صباح عندما كنت في الثانية عشرة من عمري. استيقظت ذات يوم فوجدت أني لم أعد أومن بأي من الأمور التي لقنني إياها الإخوان المسيحيون. كنت أحسب أنني سأخشى أن أتابع حياتي إن حدث ذلك، لكنه لم يمثل أي فرق. يوما ما نمت مؤمنا، ثم استيقظت في الصباح التالي فلم أجد في قلبي إيمانا. لم يسعني حتى أن أتأسف للرب، فهو لم يعد موجودا. ومع ذلك، لم أكترث. ومنذ ذلك الحين، وأنا لا أكترث.»
قالت ميريام دون أن تفتح عينيها: «وماذا أحللت مكانه بعد أن صار شاغرا.» «لم يعد له مكان حتى يصبح شاغرا. هذا ما أعنيه.» «ماذا عن الشيطان؟» «أومن بحاكم إنجلترا؛ فهو حقيقي، وكفى به شيطانا.»
ابتعد ثيو عنهما وسار في الممر الضيق بين الأشجار. كان غياب جوليان لا يزال يضايقه ويغضبه. يجب أن تدرك أنهم يجب ألا يفترقوا، ويجب أن تدرك أن شخصا ما، ربما عابر سبيل أو حطاب أو عامل في ضيعة، قد يسلك ذلك المسار ويراهم؛ فليس رجال شرطة الأمن الوطني والحرس الملكي وحدهم الذين كانوا يشكلون خطرا عليهم. كان يعرف أنه يغذي ضيقه بتلك المخاوف غير المنطقية. فمن الذي سيباغتهم في ذلك المكان المهجور وفي تلك الساعة؟ تراكم الغضب بداخله لدرجة مخيفة.
ثم رآهما. كانا جاثيين على ركبتيهما فوق رقعة صغيرة تغطيها الطحالب على بعد خمسين ياردة فقط من الفسحة والسيارة. كانا منهمكين تماما فيما يفعلانه. كان لوك قد جهز هيكله؛ الذي كان قد صنعه من علب قصدير مقلوبة فرش عليها منشفة صحون، ووضع فوقه شمعة واحدة ثبتها في صحن فنجان. وبجواره وضع صحن آخر به قطعتا خبز صغيرتان وبجانبه كوب صغير. كان يرتدي وشاح قسيس ذا لون أبيض مصفر. تساءل ثيو إن كان يحمله مطويا في جيبه طوال الوقت. لم يشعرا بوجوده، وذكره منظرهما بطفلين مستغرقين تماما في لعبة طفولية؛ إذ كانت ظلال أوراق الشجر تنعكس على وجهيهما. وقف يراقبهما بينما رفع لوك طبق الفنجان، الذي به قطعتا الخبز، بيده اليسرى، وغطاه بيده اليمنى. أحنت جوليان رأسها أكثر فبدت كأنها جاثية على الأرض.
سمع ثيو بوضوح الكلمات التي يذكر بعضا منها من طفولته البعيدة، مع أنها قيلت بصوت خافت. «نتضرع إليك بكل خضوع يا أبانا الرحيم، فاسمع نداءنا؛ وهبنا ونحن نتناول مخلوقيك هذين من الخبز والنبيذ، على العهد المقدس ليسوع المسيح ابنك ومخلصنا، استذكارا لموته وآلامه، لعلنا نتناول جسده ودمه المقدسين: الذي في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزا وشكر فكسر وأعطى تلاميذه وقال: خذوا كلوا؛ هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري.»
وقف يراقبهم مستترا وراء الأشجار. عاد بذاكرته إلى الكنيسة الصغيرة الكئيبة في سوري وحلته الكحلية التي كان يرتديها للكنيسة يوم الأحد، والسيد جرينستريت وهو يرافق المصلين في كل مقعد إلى حاجز المذبح كابحا اعتداده بذاته. وتذكر رأس أمه المحني. كان يشعر أنه مستبعد حينها كما كان يشعر الآن.
انسل من بين الأشجار وعاد إلى الفسحة وقال: «كادا ينتهيان. لن يتأخرا كثيرا.»
قال رولف: «لا يتأخران قط. لا مانع من أن نؤخر الإفطار من أجلهما. أعتقد أننا يجب أن نكون شاكرين لأن لوك لا يشعر بالحاجة لأن يلقي عليها عظة.»
كانت نبرة صوته وابتسامته تحملان ترفقا. تساءل ثيو عن طبيعة العلاقة بينه وبين لوك الذي يبدو أنه يتحمله وكأنه طفل حسن النية لا ينتظر منه أن يشارك مشاركة كاملة كالكبار لكنه يبذل أقصى وسعه ليكون مفيدا ولا يتسبب في أي مشاكل. هل يلبي رولف ما يراه رغبة زوجته الحبلى لا أكثر؟ وإن كان ما أرادته جوليان هو أن تحظى بخدمات قسيس خاص ، فلم يمانع في ضم لوك إلى «السمكات الخمس» مع أنه لم يكن يملك أي مهارات عملية ينفعهم بها. أم أن رولف، مع رفضه التام للدين الذي تعلمه في طفولته، ظل محتفظا ببقايا معتقدات خرافية؟ هل يعتقد في عقله الباطن أن لوك صانع معجزات بإمكانه أن يحول فتات الخبز الجافة إلى لحم، أو جالب للحظ، أو صاحب قدرات خفية وسحر قديم، وأن مجرد وجوده بينهم يسكن غضب آلهة الغابة والليل الخطيرة.
الفصل السادس والعشرون
الجمعة 15 أكتوبر 2021
أكتب تلك الكلمات وأنا جالس في فرجة في غابة أشجار زان، مسندا ظهري إلى جذع شجرة. لقد حل وقت العصر وبدأت الظلال تطول، لكن تلك الأجمة من الأشجار ما زالت تحتفظ بدفء النهار. لدي اعتقاد بأن هذا سيكون آخر ما أكتبه في دفتر اليوميات، لكن حتى إن لم أنج أنا ولم تنج تلك الكلمات، فإنني بحاجة لأن أسجل هذا اليوم. كان يوما سعيدا للغاية، وقد قضيته مع أربعة غرباء. في الأعوام التي سبقت أوميجا، وفي بداية كل عام أكاديمي، كنت أكتب تقييما لكل من المتقدمين الذين أختارهم للقبول بالكلية. وكنت أحتفظ بذلك التقييم ومعه صورة فوتوغرافية آخذها من استمارة التقديم في ملف خاص. في نهاية سنواتهم الثلاث التي يقضونها في الكلية، كنت أحب أن أرى كم كان وصفي المبدئي لهم دقيقا، وكيف أنهم لم يتغيروا كثيرا، وكيف أني عجزت عن تغيير طبائعهم الجوهرية. نادرا ما كان يجانبني الصواب بشأنهم. عزز ذلك الفعل من ثقتي الفطرية في حكمي على الآخرين، بل ربما كان ذلك هو الغرض منه. اعتقدت أني أستطيع الحكم عليهم، وقد كنت محقا في حكمي. لكني لا أشعر بذلك تجاه رفقائي الهاربين. ما زلت لا أعرف عنهم شيئا؛ لا أعرف آباءهم، ولا عائلاتهم، ولا تعليمهم، ولا أهواءهم، ولا تطلعاتهم ورغباتهم. مع ذلك لم أشعر براحة في رفقة بشر آخرين كما شعرت اليوم وأنا في رفقة هؤلاء الغرباء الأربعة الذين ما زلت شبه مجبر على ملازمتهم وما زلت أتعلم أن أحب واحدة منهم.
كان يوما خريفيا مثاليا؛ إذ كانت السماء زرقاء صافية، وكان ضوء الشمس هادئا ولطيفا لكنه قوي كضوئها في منتصف يونيو، وكان الهواء عذب الرائحة، يحمل شبح رائحة دخان الحطب، والعشب المجزوز، وروائح الصيف العذبة مجتمعة. ربما لأن أجمة أشجار الزان تلك كانت منعزلة ومحصورة للغاية، تشاركنا شعورا بالأمان التام. شغلنا وقتنا بالنوم، والحديث، والعمل، ولعب ألعاب صبيانية بالأحجار والغصينات وورقات مزقتها من دفتر يومياتي. فحص رولف السيارة ونظفها. وأنا أراقبه وهو يولي اهتماما شديدا بكل جزء في السيارة، يدعكها ويلمعها بحماس، كان من المستحيل أن أصدق أن ذلك الميكانيكي الماهر بالفطرة المنهمك ببراءة الذي يستمتع بتلك المهمة البسيطة هو نفسه رولف الذي كان يظهر أمس تلك الغطرسة والطموح المجرد.
شغل لوك نفسه بالمؤن. تجلت مهارة القيادة الفطرية لدى رولف بمنحه تلك المسئولية. قرر لوك أننا ينبغي أن نأكل الأطعمة الطازجة أولا ثم المعلبات حسب ترتيب تواريخ الصلاحية المطبوعة عليها، ومنحه هذا الترتيب الحصيف للأولويات ثقة في قدراته الإدارية كانت غائبة عنه. رتب المعلبات، وصنع بها قوائم، وابتكر قوائم وجبات. بعد أن ننتهي من الأكل كان يجلس بهدوء وفي يده كتاب الصلوات أو ينضم إلى ميريام وجوليان ليستمع لي وأنا أقرأ عليهما من رواية «إيما». وأنا مستلق على ظهري فوق أوراق شجر الزان ناظرا لأعلى ألمح ومضات من السماء شديدة الزرقة، كنت أشعر ببهجة بريئة وكأننا في نزهة خلوية. وقد كنا بالفعل في نزهة خلوية. لم نناقش خططنا المستقبلية أو الأخطار التي سنواجهها. يبدو لي ذلك مستغربا الآن، لكني أعتقد أنه لم يكن قرارا واعيا بعدم مناقشة الخطط أو الدخول في جدالات أو نقاشات بقدر ما كان رغبة في عدم المساس ببهجة هذا اليوم. كما أني لم أقض وقتا في قراءة مدوناتي السابقة في هذا الدفتر. ففي خضم السعادة الغامرة التي أشعر بها حاليا لا أريد أن أتذكر ذلك الرجل الأناني والمتهكم والوحيد. لا يتعدى عمر تلك اليوميات العشرة الأشهر، لكني بعد اليوم، لن يصير لي حاجة إليها.
الضوء آخذ الآن في الوهن وبالكاد أرى الصفحة. في غضون ساعة سنبدأ رحلتنا. فها قد حزمت أغراضنا بالسيارة التي أعاد لها رولف بريقها، وصارت جاهزة. مثلما أعرف يقينا أن هذا سيكون آخر ما أدونه في يومياتي، أعرف أننا سنلاقي أخطارا وأهوالا ليس بوسعي تخيلها حاليا. لم أعتقد يوما بالخرافات، لكنني فشلت في أن أكذب ذلك الاعتقاد بالحجة أو المنطق. إلا أن اعتقادي بذلك لم يؤثر على سلامي النفسي. وأنا سعيد بأننا حظينا بتلك الاستراحة، وسرقنا تلك الساعات السعيدة البريئة من الزمن الذي لا يلين لأحد. بعد الظهر بينما كانت ميريام تفتش المقعد الخلفي للسيارة، عثرت على كشاف آخر حجمه أكبر قليلا من القلم الرصاص، محشورا بجانب أحد المقاعد. لن يكون كافيا لأن يحل محل ذلك الذي نفدت بطاريته، لكنني ممتن أننا لم نكن نعلم بوجوده. فقد كنا بحاجة ماسة إلى ذلك اليوم.
الفصل السابع والعشرون
كانت الساعة في لوحة عدادات السيارة تشير إلى الثالثة إلا خمس دقائق، وكان ذلك متأخرا عما توقع ثيو أن يكون عليه الوقت. كان الطريق الضيق المهجور يمتد أمامهم، ويمر تحت عجلات السيارة كقماشة بالية متسخة. كان سطحه مترديا وبين الفينة والأخرى كانت السيارة ترتج بشدة إثر مرورها فوق نقرة. كانت القيادة بسرعة في طريق كهذا مستحيلة؛ فلم يجرؤ على أن يخاطر بحدوث ثقب آخر في الإطارات. كان الليل مظلما لكنه لم يكن معتما بالكامل؛ فقد كان القمر المنتصف يظهر ويختفي وراء السحب التي تسوقها الريح، وكانت النجوم تبدو كنقاط بعيدة تكون مجموعات فلكية غير مكتملة، ودرب التبانة يبدو كلطخة من الضوء. بدت السيارة، التي كان التحكم بها سلسا، بمثابة ملاذ متنقل، دفأت أنفاسهم الهواء داخلها، وكانت تفوح منها روائح خفيفة مألوفة تبعث على الأمان حاول أن يتبينها في ظل ارتباكه؛ الوقود، الأجساد، كلب جاسبر العجوز، الذي كان قد مات منذ زمن طويل، وأيضا رائحة نعناع خفيفة. كان رولف يجلس بجواره صامتا ومتوترا، يحملق أمامه. في المقعد الخلفي، جلست جوليان محشورة بين ميريام ولوك. كان ذلك أقل المواضع راحة لكنها اختارته ؛ ربما لأن جلوسها محاطة بجسدين كان يمنحها وهم الأمان الإضافي. كانت عيناها مغمضتين، وقد أراحت رأسها على كتف ميريام. وبينما كان يراقبها في المرآة رأى رأسها يهتز وينزلق ويميل للأمام. فرفعته ميريام برفق لموضع مريح أكثر. كان لوك، هو الآخر، يبدو نائما، فقد كان رأسه مائلا للخلف، وشفتاه منفرجتين قليلا.
كان الطريق مليئا بالتعرجات والمنعطفات لكن سطحه صار ممهدا أكثر. بعد ساعات من القيادة التي خلت من أي صعوبات، بدأ ثيو يشعر بالثقة تدريجيا. ربما، في نهاية المطاف، لن يكون ثمة حاجة لأن تكون تلك الرحلة كارثية. لا بد أن جاسكوين قد تكلم، لكنه لم يكن يعرف بأمر الطفل. في نظر زان، كانت «السمكات الخمس» مجرد عصابة صغيرة وتافهة من الهواة. حتى إنه قد لا يكلف نفسه عناء مطاردتهم. لأول مرة منذ بداية الرحلة، تفجر في داخله ينبوع من الأمل.
بالكاد رأى جذع الشجرة الساقط في الوقت المناسب، وضغط دواسة المكابح بقوة قبل أن تلامس أغصانها البارزة غطاء المحرك. استيقظ رولف من نومه مفزوعا وأطلق سبة. أطفأ ثيو محرك السيارة. عم الصمت لبرهة راودته خلالها خاطرتان، تبعت إحداهما الأخرى في اللحظة نفسها تقريبا، فأعادتاه إلى كامل وعيه. كانت الخاطرة الأولى هي الارتياح؛ فجذع الشجرة لم يكن يبدو ثقيلا مع أنه كان لا يزال محتفظا بأوراقه الخريفية. وعلى الأرجح لن يجد هو والرجلان الآخران صعوبة كبيرة في إزاحته عن الطريق. أما الثانية فقد كانت الهلع. لا يمكن أن يكون ذلك الجذع قد سقط عرضا؛ فلم تهب أي رياح قوية مؤخرا. لقد أسقط عمدا لإعاقة طريقهم.
وفي تلك اللحظة انقض عليهم الأوميجيون. لهول الأمر، في البداية اقتربوا في صمت تام دون أن يسمع لهم صوت. من وراء كل نافذة من نوافذ سيارتهم، كانت تحملق بهم الوجوه المطلية تحت ضوء المشاعل. صرخت ميريام صرخة قصيرة لا إرادية. وصاح رولف: «ارجع بالسيارة للخلف! ارجع إلى الخلف!» وحاول أن يمسك بعجلة القيادة وذراع النقل. فتشابكت يده ويد ثيو. دفعه ثيو جانبا وحرك ذراع النقل لترس الحركة العكسية. دبت الحياة في المحرك، وانطلقت السيارة للخلف. لكنهم اصطدموا بعائق بقوة جعلت جسده ينتفض إلى الأمام. لا بد أن الأوميجيين قد تحركوا بسرعة وبصمت وحاصروهم بعائق آخر. عادت الوجوه تحملق من النوافذ مجددا. حدق في عيونهم الخاوية من التعبيرات اللامعة المحددة بطلاء أبيض ويحيط بها قناع من الدوائر المطلية بالأزرق والأحمر والأصفر. فوق جباههم المطلية كانت شعورهم مرفوعة ومعقودة أعلى رءوسهم. كان الأوميجي يحمل في يد مشعلا مضاء وفي يده الأخرى هراوة، تبدو كعصا شرطي، مزينة بجدائل من الشعر. تذكر ثيو مرتاعا أنه سمع أن ذوي الوجوه المطلية، بعد أن يقتلوا ضحيتهم، يحلقون شعرها ويجدلونه ويحتفظون به تذكارا، ولم يصدق تلك الشائعة كليا وكان يعتبرها أسطورة من أساطير فلكلور أدب الرعب. تساءل الآن، بينما كان يحدق بهلع مذهول في الضفيرة التي تتدلى من الهراوة، عما إذا كانت لرجل أم لامرأة.
لم ينبس أحد من ركاب السيارة ببنت شفة. لا بد أن الصمت، الذي بدا أنه دام لبضع دقائق، لم يدم لأكثر من بضع ثوان. ثم بدأت الرقصة الطقسية. أطلق أولئك الأشخاص صيحة عالية وبدءوا يتبخترون حول السيارة، ويضربون بهراواتهم جوانبها وسقفها في قرع إيقاعي يتماشى مع أصوات غنائهم المرتفعة. كانوا لا يرتدون إلا السراويل القصيرة لكن أجسادهم لم تكن مطلية. فبدت صدورهم العارية بيضاء كالحليب في ضوء المشاعل، وبدت عظام صدورهم هشة ضعيفة. جعلتهم سيقانهم، التي كانت تنتفض بعنف، ورءوسهم المزينة، ووجوههم المنقوشة بالطلاء، تشقها أفواههم المفغورة الصادحة، يبدون كمجموعة من أطفال كبار يمارسون ألعابهم التي قد تكون تخريبية لكنها في الأصل بريئة.
تساءل ثيو: هل من الممكن أن يتكلم معهم وأن يحاورهم بالمنطق، أو يجعلهم يدركون على الأقل أنهم إخوة في الإنسانية؟ لكنه لم يضع وقته في التمعن في تلك الفكرة. تذكر أنه التقى ذات يوم بأحد ضحاياهم وتذكر مقتطفا من حوارهما. «يقال إنهم يقتلون ضحية واحدة يقدمونها قربانا، لكني أشكر الرب أن تلك المرة اكتفوا بالسيارة.» ثم أضاف قائلا: «لا تعبث معهم. اترك سيارتك ولذ بالفرار .» فيما يخصه، لم يكن الهرب سهلا؛ أما فيما يخصهم، وبوجود امرأة حبلى معهم فبدا مستحيلا. لكن كانت توجد حقيقة واحدة قد تثنيهم عن فكرة القتل، إن كانوا قادرين على التفكير المنطقي وصدقوها؛ وهي حمل جوليان. كان الدليل على حملها قد صار بينا الآن حتى لأوميجي. لكنه لم يكن مضطرا لأن يتساءل عن رد فعل جوليان تجاه تلك الفكرة؛ فلم يهربوا من زان ومجلسه ليقعوا في قبضة عصابة ذوي الوجوه المطلية. نظر إلى جوليان بالخلف. كانت تجلس محنية رأسها. على الأغلب كانت تصلي. تمنى لها حظا سعيدا مع إلهها. كانت عينا ميريام جاحظتين ومرتعبتين. كان يستحيل رؤية وجه لوك لكن من مقعده كان رولف يطلق سيلا من السباب.
استمر الرقص، وتحركت أجسادهم المتلوية بسرعة أكبر، وصار صوت غنائهم أعلى. كان من الصعب أن يتبين عددهم لكنه خمن أنه لم يكن يقل عن دزينة. لم يحاولوا فتح أبواب السيارة لكنه كان يدرك أن أقفال أمانها لن توفر أي حماية فعلية منهم. فعددهم كان كافيا لقلب السيارة. وكانت المشاعل كفيلة بإشعال النيران بها. كان إجبارهم على الخروج منها مسألة وقت لا أكثر.
تسارعت الأفكار في رأس ثيو. ما فرص النجاح في الهروب، على الأقل لجوليان ورولف؟ من خلال مجموعة الأجساد المتراقصة تأمل المنطقة من حولهم. على يسارهم كان يوجد سور حجري تهدمت أجزاء منه، وخمن أن ارتفاعه لا يزيد عن ثلاثة أقدام. رأى وراءه صفا مظلما من الأشجار. كان معه المسدس ورصاصة واحدة، لكنه كان يدرك أن مجرد إظهار المسدس قد يؤدي إلى عواقب مهلكة. ليس بإمكانه أن يقتل إلا واحد منهم فقط؛ وسيتكالب بقيتهم عليهم بغضب ثأري. وسيتحول الأمر إلى مجزرة. ولم يكن خيار الاشتباك معهم بدنيا سيجدي نفعا، فقد كانوا يفوقونهم عددا. كان الظلام هو أملهم الوحيد. إن استطاعت جوليان ورولف أن يبلغا صف الأشجار، فسيكون لديهم على الأقل فرصة للاختباء. متابعة الركض والسقوط بصوت مسموع وسط شجيرات غابة لا يعرفانها كان سيستحث المطاردة، لكن الاختباء قد يكون ممكنا. سيعتمد نجاحهما في ذلك عما إذا كان الأوميجيون سيتجشمون عناء مطاردتهما. كان ثمة فرصة وإن كانت ضئيلة أن يكتفوا بالسيارة والضحايا الثلاثة المتبقين.
قال في نفسه إنهم يجب ألا يروا أننا نتكلم، أو يدركوا أننا نخطط للفرار. لم يكونوا يخشون أن يسمع حديثهم؛ فصوت الصرخات والصيحات التي حولت الليل إلى جحيم كاد يطغى تماما على صوته. كان عليه أن يتكلم بصوت عال وواضح إن أراد أن يسمعه لوك وجوليان في الخلف، لكنه حرص على ألا يدير رأسه تجاههما.
قال: «سيجبروننا في النهاية على مغادرة السيارة. وعلينا أن نخطط بعناية لما سنفعله حينها. الأمر بيدك يا رولف. عندما يسحبوننا إلى خارج السيارة، اعبر بجوليان فوق ذلك الجدار، ثم اركضا إلى الأشجار واختبئا. تخير بعناية اللحظة التي ستفعل فيها ذلك. من جانبنا سنحاول أن نغطي على غيابكما.»
قال رولف: «كيف؟ ماذا تعني بذلك؟ كيف يمكنكم أن تغطوا على غيابنا؟» «بالحديث. بجذب انتباههم.» ثم أتاه الإلهام. «بمشاركتهم الرقص.»
تكلم رولف بصوت مرتفع، قريب من الهيستيريا. «ترقصون مع أولئك الملاعين؟ أي دعابة تلك؟ أولئك الملاعين لا يتناقشون. لا يتناقشون ولا يرقصون مع ضحاياهم. بل يحرقونهم ويقتلونهم.» «لا يفعلون ذلك بأكثر من ضحية واحدة. ويجب أن نضمن ألا تكون تلك الضحية هي أنت أو جوليان.» «سيطاردوننا. وجوليان لا تستطيع الركض.» «أشك في أنهم سيتجشمون عناء مطاردتكما بينما بحوزتهم ثلاث ضحايا محتملين آخرين وسيارة يحرقونها. يجب أن نتخير اللحظة المناسبة. اعبر بجوليان ذلك الجدار حتى إن اضطررت إلى جرها. ثم اتجها إلى الأشجار. أتفهمني؟» «ذلك جنون!» «إن كان لديك خطة غيرها فلتعرضها علينا.»
بعد أن فكر رولف لبرهة قال: «يمكننا أن نريهم جوليان. ونخبرهم بأنها حبلى، وندعهم يتأكدون من ذلك بأنفسهم. ونخبرهم أني أبو الطفل. يمكننا أن نعقد معهم اتفاقا. على الأقل سيضمن ذلك بقاءنا على قيد الحياة. سنتحدث معهم الآن قبل أن يحاولوا إجبارنا على الخروج من السيارة.»
من المقعد الخلفي، تكلمت جوليان للمرة الأولى. قالت بوضوح: «كلا.»
بعد أن نطقت بتلك الكلمة، صمت الجميع لبرهة. ثم كرر ثيو: «سيجبروننا في النهاية على مغادرة السيارة. أو سيضرمون فيها النيران. لهذا يجب أن نخطط لما سنفعله بالضبط حينها. إن انضممنا نحن للرقصة، إن لم يكونوا قد قتلونا حينها، قد ننجح في تشتيت انتباههم لوقت كاف لأن نمنحك أنت وجوليان فرصة للهرب.»
تكلم رولف بصوت أقرب إلى الهيستيريا. «لن أتحرك من مكاني. سيكون عليهم أن يسحبوني خارج السيارة.» «وهذا ما سيفعلونه.»
تكلم لوك للمرة الأولى وقال: «ربما إن لم نفعل ما يستفزهم فسيملون ويرحلون.»
قال ثيو: «لن يرحلوا. دائما ما يحرقون السيارة. علينا أن نقرر إذا ما كنا نريد أن نكون بداخلها أو خارجها عندما يفعلون ذلك.»
دوى صوت ارتطام. وتشظى الزجاج الأمامي وظهرت فيه متاهة من الشقوق لكنه لم يتهشم. ثم ضرب أحد الأوميجيين زجاج النافذة الأمامية بهراوته فتساقط الزجاج متهشما في حجر رولف. اندفع هواء الليل إلى داخل السيارة باردا كالموت. شهق رولف وانتفض للخلف عندما دفع الأوميجي بمشعله عبر النافذة وأمسك به مشتعلا أمام وجهه.
فضحك الأوميجي ثم قال بصوت يحمل لطفا مصطنعا، مثقفا، يكاد يشوبه نبرة استمالة: «اخرج، اخرج كائنا من كنت.»
ثم دوى صوت ارتطامين وسقط زجاج النافذتين الخلفيتين. صرخت ميريام عندما سفع المشعل وجهها. وفاحت رائحة شعر يشيط. لم يكن لدى ثيو وقت إلا لأن يقول: «تذكرا. الرقصة. ثم اتجها إلى الجدار.» قبل أن يخرج الخمسة من السيارة متعثرين ويمسك بهم الأوميجيون ويسحبونهم بعيدا عنها.
وعلى الفور حاصروهم. وقف الأوميجيون لبرهة يتطلعون إليهم رافعين مشاعلهم بيسراهم وممسكين بهراواتهم في يمناهم، ثم ما لبثوا أن بدءوا رقصتهم الطقسية حول ضحاياهم. لكن هذه المرة كانت حركاتهم في البداية أبطأ، واحتفالية أكثر، وصوت الغناء أعمق، ولم يعد الغناء احتفاليا بل صار جنائزيا. على الفور انضم لهم ثيو، رافعا ذراعيه، وتلوى بجسده وامتزج صوته بأصواتهم. وواحدا تلو الآخر، انسل الأربعة الآخرون لينضموا للدائرة. لكنهم تفرقوا. ولم يكن ذلك بالأمر الجيد. كان يريد أن يكون رولف وجوليان متقاربين كي يعطيهما الإشارة بالتحرك. لكن الجزء الأول والأخطر من خطته كان قد نجح. فقد كان يخشى أن يضربوه إن تحرك، وهيأ نفسه لتلقي ضربة قاضية تنهي حياته وتضع حدا لمسئوليته. إلا أنها لم تأت.
ثم كأنما يمتثلون لأوامر سرية، بدأ الأوميجيون يدقون الأرض بأقدامهم بإيقاع متناغم متسارع ثم عادوا يرقصون رقصتهم الدورانية. تلوى الأوميجي الذي كان أمامه ثم بدأ يختال للخلف بخطوات رشيقة خفيفة، كخطوات هرة، وهو يلوح بهراوته فوق رأسه. ونظر إلى وجه ثيو مبتسما، واقترب منه حتى كاد أنفاهما يتلامسان. نالت رائحته أنف ثيو، وكان في رائحته نتن لكنها لم تكن بشعة بالكلية، واستطاع أن يتبين الدوائر والمنحنيات المرسومة على وجهه بالطلاء الأزرق والأحمر والأسود، التي تحدد عظمتي وجنتيه وتمتد حتى أعلى حاجبيه، وتغطي وجهه بالكامل بنقش كان يبدو بربريا وراقيا في آن واحد. للحظة تذكر ساكني جزر بحر الجنوب ذوي الوجوه المطلية والشعور المعقودة أعلى رءوسهم في متحف بيت ريفرز، وتذكر وقوفه مع جوليان في خوائه الساكن.
استقرت عينا الأوميجي، اللتان بدتا ككرتين سوداوين وسط وهج الألوان على عينيه. لم يجرؤ على أن يشيح بنظره عنه ليبحث عن جوليان أو رولف. ظلوا يرقصون في دائرة بوتيرة متسارعة. متي سيتحرك رولف وجوليان؟ حتى بينما كان يحملق في عيني الأوميجي، كان يرجو في ذهنه أن ينطلقا تجاه السور الآن قبل أن يمل آسروهم ذلك الود المفتعل. ثم انصرف عنه الأوميجي ليتابع الرقص أمامه فاستطاع أن يدير رأسه. كان رولف، وبجواره جوليان، في الجانب المقابل من الدائرة، وكان رولف يتقافز في حركات خرقاء في محاولة لتقليد حركات الرقص، رافعا ذراعيه لأعلى، وكانت جوليان تمسك بعباءتها بيدها اليسرى، ويدها اليمنى خاوية، ويتمايل جسدها الذي تغطيه العباءة مع غناء الراقصين الصاخب.
ثم جاءت لحظة مرعبة. فقد مد الأوميجي، الذي يتمايل خلفها، يده اليسرى وأمسك بشعرها المجدول. شده فانفكت جديلتها. توقفت لبرهة ثم عاودت الرقص من جديد وشعرها يتطاير حول وجهها. كانا قد اقتربا من حافة الطريق المعشبة ومن الجزء الأكثر انخفاضا من الجدار. رآه بوضوح في ضوء المشاعل بأحجاره المتهدمة على العشب وشكل الأشجار الحالكة خلفه. أراد أن يصرخ بصوت مسموع: «الآن. اذهبا الآن. هيا! هيا انطلقا!» في تلك اللحظة تحرك رولف. فأمسك بيد جوليان وانطلقا يعدوان نحو الجدار. قفز رولف من فوقه أولا، ثم أرجح جوليان وجرها عبره. تابع بعض الراقصين المنهمكين المنتشين عويلهم الحاد، لكن الأوميجي الأقرب إليهما كان سريعا. فألقى بمشعله وانطلق يعدو في إثرهما، مطلقا صيحة وحشية، وأمسك بطرف عباءة جوليان بينما كانت تتدلى وهي تعبر الجدار.
في تلك اللحظة اندفع لوك نحوهم. وأمسك بالأوميجي وحاول دون جدوى أن يجذبه للخلف وهو يصيح: «لا، لا. خذني أنا! خذني أنا!»
ترك الأوميجي طرف العباءة وبصرخة غضب التفت إلى لوك. لوهلة رأى ثيو جوليان تقف مترددة، وتمد ذراعها تجاهه، لكن رولف جذبها بقوة واختفى شبحاهما الهاربان عن نظره وسط ظلال الأشجار. انتهى الأمر في لحظات، تاركا في ذهن ثيو مشهدا مشوشا لذراع جوليان الممدود ونظرتها المتوسلة، ولرولف وهو يجذبها بعيدا، ولمشعل الأوميجي وهو يتوهج فوق العشب.
الآن صار لدى الأوميجيين ضحية اختارت مصيرها طواعية. عم صمت مخيف بينما تجمعوا حوله متجاهلين ثيو وميريام. عندما وقعت أول ضربة هراوة خشبية على عظامه، سمع ثيو صرخة لكنه لم يتبين إن كانت قد صدرت من ميريام أم من لوك. ثم سقط لوك أرضا، وتكالب عليه قاتلوه كالوحوش حول فريستها، يتدافعون كي يفسح كل منهم لنفسه مكانا، وانهالوا عليه بضرباتهم في فورة من الجنون. انتهت الرقصة واكتملت مراسم الموت، وبدأ القتل. كانوا يقتلونه في صمت، في صمت رهيب حتى إنه خيل لثيو أنه يسمع صوت تكسر وتفلق كل عظمة من عظام جسد لوك، ويطرش أذنيه صوت تدفق دمائه. أمسك بميريام وجذبها تجاه الجدار.
قالت لاهثة: «لا. يجب ألا نفعل ذلك! يجب ألا نتركه.» «نحن مضطرون. ليس بإمكاننا مساعدته الآن. جوليان بحاجة إليك.» لم يحاول الأوميجيون أن يتبعوهما. عندما وصل ثيو وميريام إلى أطراف الغابة، توقفا والتفتا وراءهما. كان القتل لا يبدو الآن كعملية سفك دماء هوجاء بقدر ما كان يبدو قتلا ممنهجا. كان خمسة أو ستة أوميجيون يرفعون مشاعلهم ويقفون في دائرة حول ظلال داكنة صامتة، ذات صدور عارية، ممسكة بالهراوات التي تعلو وتهبط في رقصة إيقاعية طقسية تحتفي بالموت. حتى من تلك المسافة، خيل لثيو أن صوت تهشم عظام لوك كان يشق الهواء. لكنه كان يعلم أنه لم يكن يصل لأذنيه سوى صوت لهاث ميريام وضربات قلبه. أحس برولف وجوليان يقتربان منهما ويقفان بهدوء خلفهما. وقفوا معا ينظرون في صمت بينما بدأ الأوميجيون يصيحون مرة أخرى بعد أن أتموا عملهم واندفعوا نحو السيارة التي استولوا عليها. في ضوء المشاعل، تبين ثيو معالم بوابة واسعة تؤدي إلى الحقل المحاذي للطريق. أمسكها أوميجيان ليبقياها مفتوحة وسيقت السيارة عبر الحافة العشبية يقودها أحد أفراد العصابة بينما كان بقيتهم يدفعونها من الخلف. عرف ثيو أنه لا بد أن معهم سيارتهم الخاصة، التي ربما كانت شاحنة صغيرة، مع أنه لم يكن بوسعه أن يتذكر أنه رآها. لوهلة انتابه أمل أحمق أنهم قد يهجرونها مؤقتا في خضم انشغالهم بإضرام النيران في السيارة، وأنه قد تواتيهم الفرصة للوصول إليها، وربما حتى يجدون المفاتيح في موضع التشغيل. لكنه كان يدرك أن تلك لم تكن فكرة منطقية. بمجرد أن وردت على ذهنه، رأى شاحنة سوداء صغيرة تسير في الطريق وتعبر البوابة إلى الحقل.
قدر ثيو أنهم لم يبتعدوا لأكثر من خمسين ياردة. ثم بدأ الصياح والرقص الجنوني مجددا. ودوى صوت انفجار وتصاعدت النيران من السيارة الرينو. واحترقت معها المؤن الطبية التي كانت ميريام قد جمعتها، وطعامهم ومياههم وأغطيتهم. معها ضاعت كل آمالهم.
سمع جوليان تقول: «يمكننا إحضار لوك الآن. بينما هم منشغلون.»
قال رولف: «من الأفضل أن نتركه. إن اكتشفوا اختفاء جثته، فسيذكرهم ذلك بأننا لا نزال بالجوار. سنحضره فيما بعد.» جذبت جوليان كم ثيو برفق. «رجاء أحضره إلى هنا. ربما يكون ثمة فرصة أن يكون ما زال على قيد الحياة.»
جاء صوت ميريام من الظلام: «لن يكون على قيد الحياة، لكني لن أتركه هناك. أحياء أو أمواتا سنظل معا.»
كانت قد بدأت تسير تجاهه بالفعل لكن ثيو أمسك بكمها. وقال بهدوء: «ابقي مع جوليان. سأتدبر ذلك الأمر أنا ورولف.»
وسار باتجاه الطريق دون أن ينظر إلى رولف. في البداية كان يظن أنه وحده، لكن بعد لحظات كان رولف يسير إلى جواره.
عندما وصلا إلى الجسد الداكن المسجى على جانبه وكأنه نائم، قال ثيو: «أنت الأقوى. أمسك أنت برأسه.»
معا قلبا الجثة على ظهرها. لم يعد وجه لوك موجودا. حتى في الضوء البعيد المحمر القادم من السيارة المشتعلة، كان بوسعهما أن يريا أن رأسه بأكملها قد تهشمت وصارت كومة من الدماء والجلد والعظام المتكسرة. كانت ذراعاه معوجتين، وشعر ثيو بينما كان يتهيأ لرفعه أن ساقيه تلتويان. بدا كأنهما يحاولان الإمساك بدمية ماريونيت.
كان وزنه أخف مما توقع ثيو، مع أنه كان يسمع صوت لهاثه هو ورولف بينما كانا يعبران الأخدود الضحل بين الطريق والجدار ويمرران جثته عبره. عندما انضمت جوليان وميريام لهما، استدارتا وسارتا أمامهما دون أن تنطقا بكلمة كما لو كانوا يسيرون في موكب جنازة معدة سلفا. أشعلت ميريام الكشاف وتبعوا دائرة ضوئه الصغيرة. بدت رحلتهم بلا نهاية لكن قدر ثيو أنهم لم يسيروا لأكثر من دقيقة عندما وصلوا إلى شجرة ساقطة.
قال: «سوف نضعه على الأرض هنا.»
كانت ميريام حريصة على ألا تسلط ضوء الكشاف على لوك. الآن قالت لجوليان: «لا تنظري إليه. لا داعي لأن تنظري إليه.»
كان صوت جوليان هادئا. «يجب أن أراه. سيكون عدم رؤيته أسوأ. ناوليني الكشاف.»
دون اعتراض آخر، ناولتها ميريام الكشاف. ببطء سلطته جوليان على جثة لوك، ثم جثت على ركبتيها أمام رأسه وحاولت أن تمسح الدم عن وجهه بطرف تنورتها.
قالت ميريام برفق: «لا جدوى من ذلك. فلم يعد أي شيء موجودا في مكانه.»
قالت جوليان: «لقد ضحى بحياته كي ينقذني.» «بل ضحى بحياته كي ينقذنا جميعا.»
شعر ثيو فجأة بإرهاق شديد. قال في نفسه: يجب أن ندفنه. يجب أن نواريه الثرى قبل أن نتابع طريقنا. لكن نتابع طريقنا إلى أين وكيف؟ بطريقة ما يجب أن نحصل على سيارة أخرى وطعام ومياه وأغطية. لكن الحاجة الأشد كانت للماء في الوقت الحالي. كان متعطشا للماء، وكان عطشه يطغى على جوعه. كانت جوليان جاثية على ركبتيها بجوار جثة لوك، تحتضن رأسه المهشم في حجرها، وينسدل شعرها الداكن على وجهه. لكن دون أن يصدر عنها أي صوت.
ثم انحنى رولف وأخذ الكشاف من يد جوليان. وسلطه بالكامل على وجه ميريام. طرفت بعينيها في ضوئه الرفيع القوي، ورفعت يدها أمام وجهها في حركة غريزية. كان صوته خافتا وغليظا ومشوشا كأنه يحاول الخروج عنوة من حنجرة مريضة. قال: «طفل من الذي في أحشائها؟»
خفضت ميريام يدها ونظرت إليه بثبات لكنها لم تتكلم.
كرر: «سألتك طفل من الذي في أحشائها؟» كان صوته أوضح تلك المرة، لكن رأى ثيو أن جسده كله كان ينتفض. اقترب ثيو من جوليان على نحو غريزي.
فالتفت إليه رولف. «لا تتدخل في هذا الشأن! لا شأن لك بهذا الأمر. أنا أسأل ميريام.» ثم كرر بعنف أكبر: «لا شأن لك بهذا الأمر على الإطلاق!»
جاء صوت جوليان من الظلام: «ولم لا تسألني أنا؟»
التفت إليها للمرة الأولى منذ وفاة لوك. انتقل ضوء الكشاف بثبات وبطء من وجه ميريام إلى وجهها.
قالت: «لوك هو والد الطفل.»
كان صوت رولف خافتا جدا: «هل أنت متأكدة؟» «أجل متأكدة.»
سلط الكشاف على جسد لوك وتمعنه باهتمام مهني بارد وكأنه جلاد يتأكد من موت المحكوم عليه بالإعدام، وأنه لا حاجة لأن يجهز عليه برصاصة رحمة أخيرة. ثم استدار بحركة مباغتة حادة وسار مبتعدا عنهم، وتعثر بين الأشجار وارتمى بجسده على إحدى شجرات الزان وأحاطها بذراعيه.
قالت ميريام: «يا إلهي، يا له من توقيت لطرح ذلك السؤال. ويا له من توقيت لمعرفة إجابته.»
قال ثيو: «اذهبي إليه يا ميريام.» «لن تفيده مهاراتي. سيحتاج لأن يتقبل ذلك الأمر بنفسه.»
كانت جوليان لا تزال جاثية أمام رأس لوك. وقف ثيو وميريام معا، يحدقان بثبات في شبح رولف الداكن وكأنما يخشيان أن يختفي وسط ظلال الغابة الأكثر ظلاما إن أشاحا بنظرهما عنه. لم يسمع له أي صوت لكن بدا لثيو أنه يحك وجهه بلحاء الشجرة كحيوان معذب يحاول التخلص من الحشرات التي تلدغه. ثم بدأ يضرب الشجرة بجسده كله كأنما ينفس عن غضبه وألمه في خشبها الصلب. بينما كان ثيو يراقب أطرافه المنتفضة في محاكاتها للشهوة تعزز اقتناعه بأنه من غير اللائق النظر إلى شخص يعاني ذلك القدر الهائل من الألم.
أشاح بوجهه وقال لميريام بصوت خافت: «هل كنت تعرفين أن لوك هو والد الطفل؟» «أجل، كنت أعرف.» «هل أخبرتك بذلك؟» «بل خمنته.» «لكنك لم تقولي شيئا.» «ماذا كنت تتوقع مني أن أقول؟ ليس من عادتي أن أسأل عن هوية آباء الأطفال الذين أولدهم. الطفل يظل طفلا مهما كان.» «ذلك الطفل مختلف.» «القابلة لا تراه كذلك.» «هل أحبته؟» «هذا ما يريد الرجال دوما أن يعرفوه. من الأفضل أن تسألها هي.»
قال ثيو: «ميريام، أرجوك تكلمي.» «أظن أنها كانت تشعر بالأسى لحاله. لا أظن أنها أحبت أيا منهما، أعني رولف ولوك. لكنها بدأت تحبك، أيا كان ما يعنيه ذلك، لكني أظن أنك تعرف ذلك. ما كنت ستقف هنا الآن لو لم تكن تعرف ذلك أو تأمل حدوثه.» «ألم يخضع لوك من قبل للفحوصات؟ أم أنه توقف هو ورولف عن الذهاب إلى فحوصات الحيوانات المنوية؟» «توقف رولف عن الذهاب إليها، على الأقل في البضعة الشهور الأخيرة. فهو يعتقد أن فنيي الفحص صاروا مهملين ولا يتكبدون عناء فحص نصف العينات التي يأخذونها. أما لوك فكان معفيا من تلك الفحوصات. فقد كان يعاني من الصرع الخفيف عندما كان طفلا. كان لوك غير مستوف للمعايير كجوليان.»
كانا قد ابتعدا قليلا عن جوليان. وبينما كان ثيو ينظر إلى هيئتها الجاثية المعتمة، قال: «إنها هادئة جدا. من شأن أي أحد أن يظن أنها ستلد هذا الطفل في أفضل الظروف الممكنة.» «وما هي أفضل الظروف الممكنة؟ النساء يلدن في الحروب، والثورات، والمجاعات، ومعسكرات الاعتقال، والمسيرات. لديها الضروريات التي تحتاج إليها، أنت وقابلة تثق فيها.» «هي تثق في ربها.» «ربما عليك أن تحاول أن تفعل مثلها. فقد ينالك شيء من سكينتها. لاحقا عندما يولد الطفل، سأحتاج إلى مساعدتك. بالتأكيد لن أحتاج إلى قلقك.»
سألها: «وهل تفعلين أنت؟»
ابتسمت ابتسامة تنم عن فهمها للسؤال. «تعني هل أومن بالرب؟ كلا، لقد فات الأوان فيما يخصني. لكني أومن بقوة جوليان وشجاعتها وأومن بمهارتي. لكن إن عبر بنا لبر الأمان فسأغير رأيي، وأرى ما إذا كان بإمكاني أن أوطد علاقتي به.» «لا أظن أنه يقبل المساومات.» «بل يقبلها. قد لا أكون مؤمنة لكني درست الكتاب المقدس. فقد كانت أمي حريصة على ذلك. أعرف أنه يقبل المساومات بكل تأكيد. لكن من المفترض أنه عادل. إن كان يريد أن أومن به، فعليه أن يعطيني برهانا.» «على أنه موجود؟» «على أنه يبالي.»
وظلا واقفين ينظران ذلك الجسد المعتم التي كان بالكاد يمكن تمييزه عن جذع الشجرة الأكثر عتمة، والذي بدا كأنه جزء منه، لكنه كان ساكنا الآن لا يتحرك، يستند إلى الشجرة وكأنما بلغ به الإرهاق مبلغه.
سأل ثيو ميريام وهو يدرك عدم جدوى السؤال: «هل سيكون على ما يرام؟» «لا أدري. كيف لي أن أعرف؟»
تحركت من جانبه وسارت تجاه رولف، ثم وقفت في صمت تنتظر وهي تعلم أنه بحاجة إلى شخص يواسيه، ولم يكن يوجد أحد يمكن أن يلجأ إليه سواها.
نهضت جوليان من أمام جثة لوك. وشعر ثيو بعباءتها تلامس ذراعه لكنه لم يلتفت لينظر إليها. كان يجتاحه مزيج من المشاعر، الغضب الذي كان يعلم أنه لا يحق له الشعور به، وراحة قوية أقرب إلى البهجة؛ لأن رولف لم يكن هو والد الطفل. لكن الغضب كان هو الشعور الأقوى في تلك اللحظة. كان يريد أن ينفجر فيها غضبا، وأن يقول لها: «أتلك حقيقتك إذن؟ بائعة هوى لأفراد الجماعة؟ ماذا عن جاسكوين؟ كيف تعرفين أنه ليس والد الطفل؟» لكن تلك الكلمات لم تكن ستغتفر أو ستنسى إن كان تفوه بها. كان يدرك أنه لا يحق له السؤال لكنه لم يستطع أن يكتم كلماته الحادة المنطوية على اتهام أو يخفي الألم المستتر وراءها. «هل أحببت أيا منهما؟ هل تحبين زوجك؟»
قالت بهدوء: «هل أحببت زوجتك؟»
رأى أن سؤالها كان جديا وليس انتقاميا، فأجابها إجابة جدية صادقة. «أقنعت نفسي أني أحبها عندما تزوجتها. واستحضرت بداخلي المشاعر الملائمة دون أن أعرف ما هي تلك المشاعر الملائمة. منحتها صفات ليست بها ثم كرهتها لأنها تفتقر إليها. كان ممكنا فيما بعد أن أتعلم أن أحبها لو كنت اهتممت باحتياجاتها أكثر من اهتمامي باحتياجاتي.»
قال في نفسه: ذلك وصف دقيق للزواج. ربما تلخص تلك العبارات الأربعة حال معظم الزيجات، ناجحة كانت أم فاشلة.
نظرت إليه بثبات لبرهة ثم قالت: «تلك هي إجابة سؤالك.» «ولوك؟» «لا، لم أحبه، لكنني أحببت حبه لي. كنت أغبطه لقدرته على أن يحب بتلك القوة، وأن يشعر بتلك القوة. لم يكن لي أحد من قبل مشاعر بتلك القوة؛ لذا منحته ما أراد. لو كنت أحببته لكان ...» سكتت لبرهة ثم قالت: «لكان ذنبي أهون.» «ألا تظنين أن تلك كلمة أكبر من أن تستخدم لوصف فعل بسيط ينم عن الكرم؟» «لم يكن فعلا بسيطا ينم عن الكرم. بل كان إشباعا لرغبة في نفسي.»
كان يدرك أن ذلك ليس بالوقت المناسب لخوض ذلك الحديث، لكن متى يحين الوقت المناسب؟ كان يجب أن يعرف وأن يفهم. قال: «لكنك كنت ستعتبرين الأمر عاديا، أو لكان ذنبك أهون، على حد تعبيرك، لو كنت أحببته. أنت إذن تتفقين مع روزي مكلور في أن الحب مبرر وعذر لكل شيء؟» «كلا، لكنه فطرة جبل عليها البشر. ما فعلته هو أني استغللت لوك بدافع الفضول وكسر الملل، وربما كنوع من الانتقام من رولف لأن اهتمامه بالجماعة يفوق اهتمامه بي، وعقابا له لأني ما عدت أحبه. هل يمكنك أن تتفهم ذلك؟ هل يمكنك أن تتفهم الحاجة لأن تؤذي شخصا لأنك لم تعد تحبه؟» «أجل أتفهمه.»
أضافت: «كانت علاقتنا مبتذلة ومتوقعة ووضيعة.»
قال ثيو: «ورخيصة.» «كلا، لم تكن كذلك. لم يكن أي شيء يتعلق بلوك رخيصا. لكنها تسببت له بأذى أكثر مما أسعدته. لعلك كنت تحسبني قديسة؟» «كلا، لكني كنت أحسبك امرأة صالحة.»
قالت بهدوء: «ها قد بت تعرف أني لست كذلك.»
حدق ثيو في الظلام شبه التام ليجد أن رولف قد ابتعد عن الشجرة وكان يسير عائدا إليهم. توجهت ميريام ناحيته كي تستقبله. حدق ثلاثتهم في وجه رولف مترقبين، بانتظار كلماته الأولى. عندما اقترب منهم، رأى ثيو أن وجنته اليسرى وجبهته كانتا مجروحتين وأن جلدهما قد انسلخ عنهما.
كان صوت رولف هادئا تماما لكن نبرته كانت غريبة حتى إنه خيل لثيو في لحظة من الحماقة أن غريبا قد انسل بينهم في الظلام: «قبل أن نتابع طريقنا، علينا أن ندفنه. ذلك يعني أن ننتظر حتى يحل الضوء. من الأفضل أن نخلع عنه معطفه قبل أن تتيبس جثته أكثر. نحتاج لكل الثياب المدفئة التي بحوزتنا.»
قالت ميريام: «لن يكون من السهل دفنه دون رفش. الأرض ليست صلبة لكننا نحتاج لأن نحفر حفرة بطريقة ما. لا يمكننا أن نكتفي بتغطيته بأوراق الشجر.»
قال رولف: «يمكن لذلك أن ينتظر حتى الصباح. سننزع عنه معطفه الآن. فلم يعد بحاجة إليه الآن.»
بعد أن اقترح تلك الفكرة لم يصدر عنه أي بادرة لتنفيذها وكانت ميريام وثيو هما من قلبا الجثة وحررا المعطف من ذراعيه. كانت الدماء تلطخ كميه بكثرة. شعر ثيو في يده بابتلالهما بالدماء. وضعا الجثة على ظهرها مرة أخرى ووضعا الذراعين بمحاذاتها.
قال رولف: «غدا سأستولي على سيارة أخرى. أما في الوقت الحالي فلنحصل على أكبر قسط ممكن من الراحة.»
جلسوا متلاصقين بين غصني شجرة زان ساقطة. منحهم غصن بارز، كان لا يزال عامرا بأوراق الخريف البرونزية الذابلة، شعورا مزيفا بالأمان، وتجمعوا تحته كأطفال يدركون أنهم أساءوا التصرف، ويختبئون سدى من البالغين الذين يبحثون عنهم. جلس رولف إلى الطرف وبجواره ميريام التي كانت جوليان تتوسطها هي وثيو. بدا كأن أجسادهم المتيبسة من فرط التوتر قد نشرت توترهم في الهواء من حولهم. كانت الغابة نفسها مضطربة؛ فقد كان هواؤها المتوتر يحمل حفيف أصواتها الخافتة المتصلة وهمسها؛ ولم يستطع ثيو النوم، وأدرك من أصوات الأنفاس غير المنتظمة والسعال المكتوم والهمهمات والتنهيدات الخافتة أن الباقين يشاركونه يقظته. سيحين وقت النوم. سيحين عندما يحل دفء النهار، وعندما يدفن ذلك الجسد المتيبس، الذي كان لا يزال حيا في أذهانهم مع أنه متوار عن الأنظار على الجانب الآخر من الشجرة الساقطة. كان يحس بدفء جسد جوليان الملاصق لجسده ويعرف أنه لا بد أنها تشعر تجاهه بنفس الراحة. كانت ميريام قد ألقت بمعطف لوك حول جسد جوليان فخيل لثيو أنه يشم رائحة الدماء الجافة عليه. كان يشعر كأنه عالق في برزخ زمني، يحس بالبرد والعطش ويسمع أصوات الغابة العديدة، لكنه لا يعي مرور الوقت. كباقي رفقائه تحمل وانتظر حلول الفجر.
الفصل الثامن والعشرون
تسلل ضوء النهار الخافت الكئيب إلى الغابة كالنسيم البارد، ولف جذوع الشجر والأغصان المكسورة، فأعطى الظلام والغموض شكلا ومضمونا. عندما فتح ثيو عينيه، لم يصدق أنه غفا حقا، لكن لا بد أنه غاب عن وعيه لبرهة؛ إذ إنه لم يكن يذكر أن رولف نهض وغادرهم.
كان يراه الآن يسير قادما نحوهم خلال الأشجار. قال: «ذهبت لاستكشاف المنطقة. تلك ليست غابة فعلية، بل هي أقرب إلى دغل. فمساحتها لا تتعدى ثمانين ياردة. لا يمكننا الاختباء هنا لفترة طويلة. يوجد ما يشبه الخندق بين حافة تلك الغابة والحقل. سيفي ذلك بالغرض.»
مجددا، لم يصدر عن رولف أي بادرة للمس جثة لوك. فكان ثيو وميريام هما من رفعاها معا. أمسكت ميريام بساقي لوك المتباعدتين اللتان استندتا إلى فخذيها. بينما حمل ثيو ثقل رأسه وكتفيه، وأحس بأن الجثة بدأت بالفعل تتيبس. ترنحت الجثة بينهما فيما كانا يتبعان رولف عبر الأشجار. سارت جوليان بجوارهما وهي تقبض على عباءتها الملفوفة بإحكام حول جسدها، وكان وجهها هادئا لكنه شاحب للغاية، وكانت تحمل معطف لوك الملوث بالدماء ووشاحه الأبيض المصفر مطويين على ذراعها. كانت تحملهما وكأنهما غنيمتان من معركة.
عندما صاروا على بعد خمسين ياردة فقط من حافة الدغل، وجدوا أنهم يطلون على منطقة ريفية ذات انحدارات بسيطة. كان الحصاد قد انتهى فكانت حزم القش موضوعة كوسائد أسطوانية مبعثرة على الأراضي المرتفعة البعيدة. كان الضباب الخفيف الذي غلف الحقول والسهول البعيدة قد بدأ ينقشع بفعل ضوء قرص الشمس الأبيض القوي الذي امتص ألوان الخريف ومزجها ليصنع منها لونا أخضر زيتيا هادئا بدت فيه الأشجار المتفرقة كأنها نماذج سوداء. كان من المتوقع أن يكون نهارا خريفيا لطيفا. انفرجت أسارير ثيو عندما رأى سورا من شجيرات التوت البري المحملة بالثمار تحف الغابة. تمالك نفسه بكل ما أوتي من قوة حتى لا يفلت جثة لوك وينقض عليها من شدة جوعه.
لم يكن الخندق عميقا، كان مجرد قناة ضيقة تمر بين الدغل والحقل. لكن كان يصعب إيجاد مكان أنسب للدفن. كان الحقل قد حرث مؤخرا وكانت طينته المحززة تبدو ناعمة نوعا ما. انحنى ثيو وميريام وأفلتا الجثة وتركاها تتدحرج إلى قاع الخندق غير العميق. تمنى ثيو لو كان بمقدورهما أن يفعلا ذلك بطريقة أكثر وقارا، ليس وكأنهما يلقيان بجثة حيوان غير مرغوب فيه. استقر لوك على وجهه. شعر ثيو أن هذا ليس ما تريده له جوليان، فقفز داخل الخندق وحاول أن يقلب الجثة لتستقر على ظهرها. كانت المهمة أصعب مما توقع وكان الأحرى به ألا يحاول القيام بها. في النهاية اضطرت ميريام إلى مساعدته وجاهدا معا وسط الطين وأوراق الشجر حتى استطاعا أن يقلباه ليستقر على ظهره ووجهه المهشم الملطخ بالطمي يتطلع للسماء.
قالت ميريام: «بإمكاننا أن نغطيه بأوراق الشجر، ثم نهيل عليه التراب.»
مجددا لم يظهر رولف أي بادرة للمساعدة، لكن الثلاثة الآخرين رجعوا إلى الغابة ثم عادوا محملين ملء أذرعهم بأوراق شجر جافة بالية اختلط فيها اللون البرونزي لأوراق أشجار الزان التي سقطت حديثا باللون البني للأوراق القديمة فتفتح لونها. قبل أن يبدءوا الدفن، طوت جوليان وشاح لوك وألقته في القبر. ولوهلة راودت ثيو فكرة الاعتراض. فلم يكن معهم الكثير؛ فقط ملابسهم وكشاف صغير والمسدس ذو الطلقة الواحدة. ربما كان الوشاح سينفعهم. لكن في ماذا؟ لماذا يستكثر على لوك ما هو له؟ غطى ثلاثتهم الجثة بأوراق الشجر، ثم بدءوا يهيلون التراب بأيديهم من شفا الحقل على القبر. كان من الأسرع والأيسر على ثيو أن يركل بقدمه كتل الطين المتزحزحة على الجثة ثم يساويها بقدميه لكنه لم يكن يجرؤ على الإتيان بمثل ذلك التصرف الفظ في حضور جوليان.
ظلت جوليان صامتة وهادئة تماما طوال الدفن. ثم قالت فجأة: «كان من الأحرى أن يرقد في أرض مقدسة.» لأول مرة كان بصوتها نبرة حزن وتردد وكآبة طفل قلق.
شعر ثيو بنوبة مفاجئة من الحنق. وتساءل ماذا تتوقع منهم أن يفعلوا. أتتوقع أن ينتظروا حتى يحل الظلام وينبشوا ليخرجوا الجثة ويحملوها لأقرب مقبرة ثم يعيدوا فتح أحد القبور؟
كانت ميريام هي من أجابت. قالت برفق وهي تتطلع إلى جوليان: «أي أرض يرقد تحت ثراها رجل صالح هي أرض مقدسة.»
التفتت جوليان إلى ثيو. «كان لوك سيرغب بأن نصلي عليه قداس الجنازة. كتاب صلواته موجود في جيبه. رجاء افعل ذلك من أجله.»
فردت المعطف الملطخ بالدماء وأخرجت من جيبه الداخلي العلوي كتاب صلوات صغير بغلاف جلدي أسود، ثم أعطته ثيو. لم يستغرق إيجاد موضع الصلاة منه وقتا طويلا. كان يعرف أن القداس ليس طويلا، لكنه مع ذلك قرر أن يبتتره. فلم يستطع أن يرد طلبها، لكن تلك المهمة كانت ثقيلة على نفسه. بدأ يتلو الكلمات، بينما وقفت جوليان على يساره وميريام على يمينه. في حين وقف رولف على حافة القبر مباعدا بين ساقيه وعاقدا ساعديه يحدق أمامه. كان وجهه المجروح شاحبا للغاية، وجسده متسمرا حتى إن ثيو، عندما رفع عينيه لينظر إليه، خشى قليلا أن يسقط على وجهه في الطين الهش. لكن احترامه له ازداد. فقد كان يستحيل عليه أن يتخيل القدر الهائل من خيبة الأمل ومرارة الخيانة اللتين كان شاعرا بهما. لكنه على الأقل كان لا يزال واقفا على قدميه. تساءل إن كان في استطاعته الحفاظ على رباطة جأشه مثله لو كان في مكانه . لم يرفع عينيه عن كتاب الصلوات، لكنه كان يدرك أن عيني رولف الداكنتين كانتا تحدقان به من الجانب الآخر للقبر.
في البداية بدا صوته غريبا على أذنيه، لكن عندما وصل إلى كلمات المزمور تمكنت منه الكلمات فنطقها بهدوء وثقة من يعرفها عن ظهر قلب. «يا رب من جيل إلى جيل كنت معينا لنا. من قبل أن تولد الجبال وتنشأ الأرض وساكنوها، من الأزل إلى الأبد أنت الله. تعيد الإنسان إلى الغبار وتقول: «عودوا يا بني آدم.» ألف سنة في عينيك كيوم أمس الذي عبر، أو كهنيهة من الليل.»
ثم وصل إلى كلمات الدفن. وبينما نطق بالجملة: «من التراب إلى التراب ومن الرماد إلى الرماد ومن الغبار إلى الغبار؛ على رجاء القيامة إلى الحياة الأبدية بالمسيح يسوع ربنا.» جلست جوليان القرفصاء وألقت بحفنة من التراب في القبر. بعد لحظة من التردد فعلت ميريام الشيء نفسه. كان يصعب على جوليان بجسدها المنتفخ ثقيل الحركة أن تجلس القرفصاء فمدت ميريام يدها لتسندها. حينها وردت على ذهن ثيو، لا إراديا ودون رغبة منه، صورة لحيوان يقضى حاجته. كره نفسه لذلك وصرفها عن ذهنه. عندما بدأ بتلاوة كلمات صلاة الشكر، انضم إليه صوت جوليان. بعد أن انتهى أغلق كتاب الصلوات. كان رولف لا يزال ساكنا صامتا.
فجأة وبحركة مباغتة حادة، دار على عقبيه وقال: «الليلة سيكون علينا أن نستولي على سيارة أخرى. أما الآن فسأخلد إلى النوم. من الأفضل أن تفعلوا نفس الشيء.» لكن قبل ذلك، توجهوا إلى سور الشجيرات وأخذوا يملئون أفواههم بالتوت البري الذي لطخ أيديهم وشفاههم باللون الأرجواني. كانت الشجيرات التي لم تقطف ثمارها عامرة بثمار التوت البري الناضجة، التي تفجرت حلاوتها في أفواههم. تعجب ثيو من قدرة رولف على مقاومتها. أم أنه أكل منها ملء بطنه هذا الصباح؟ أعادت إليه حبات التوت، ذات العصارة اللذيذة للغاية التي تفجرت في فمه، الأمل والقوة.
ثم بعد أن سد جوعهم وروي عطشهم نوعا ما، عادوا إلى الدغل وإلى جذع الشجرة الساقطة نفسه الذي بدا أنه كان يمنحهم على الأقل الطمأنينة النفسية التي يبعثها في النفس المخبأ. استلقت المرأتان متجاورتين ولفتا معطف لوك، الذي جفت عليه الدماء، حول جسديهما. وتمدد ثيو عند قدميهما. كان رولف قد اختار لنفسه بالفعل مضجعا على الجانب الآخر من جذع الشجرة. كانت الأرض، التي تجمعت فوقها أوراق الشجر الذابلة التي تساقطت على مر العقود، طرية، لكن حتى لو كانت صلبة كالحديد، كان ثيو سيستغرق في النوم فوقها.
الفصل التاسع والعشرون
استيقظ ثيو في المساء الباكر ليجد جوليان تقف بجواره. قالت: «لقد غادر رولف.»
على الفور استفاق. «هل أنت متأكدة؟» «أجل متأكدة.»
صدقها، لكنه مع ذلك شعر بأن عليه أن يقول لها تلك الكلمات التي تحمل أملا زائفا: «ربما ذهب ليتمشى، ربما كان بحاجة للاختلاء بنفسه كي يفكر في الأمر.» «لقد فكر في الأمر، وها قد غادر.»
حاول بإصرار أن يقنعها مع أنه كان غير مقتنع، فقال: «إنه غاضب وذهنه مشوش. لم يعد يريد أن يكون إلى جوارك عندما يولد الطفل، لكني لا أعتقد أنه سيخونك.» «ولم لا؟ فقد خنته أنا. من الأحرى أن نوقظ ميريام.» لكنهما لم يحتاجا لذلك؛ فقد بلغت كلماتهما مسمع ميريام؛ فهبت جالسة ونظرت إلى حيث كان رولف راقدا. قالت وهي تنهض بصعوبة: «إذن فقد ذهب. كان من الأحرى أن نتوقع أن يفعل ذلك. على كل حال ما كنا سنستطيع أن نمنعه.»
قال ثيو: «بل ربما كنت سأستطيع حمله على البقاء؛ فمعي المسدس.»
كانت ميريام هي من أجابت عن السؤال البادي في عيني جوليان. «معنا مسدس. لا تقلقي، فقد ينفعنا.» التفتت من جوليان إلى ثيو. «ربما كنا سنحمله على البقاء معنا، لكن لكم من الوقت؟ وكيف؟ بأن يصوب أحدنا المسدس إلى رأسه طوال اليوم، ونتناوب على النوم، وعلى مراقبته؟» «هل تعتقد أنه ذهب إلى المجلس؟» «ليس للمجلس بل للحاكم؛ فقد تبدل ولاؤه. دائما ما كان مفتونا بالسلطة. وها هو سينضم إلى مصدر السلطة. لكني لا أعتقد أنه سيهاتف مكتبه بلندن؛ فذلك الخبر أهم بكثير من أن يخاطر بتسريبه. سيود أن يبلغه بنفسه للحاكم وحده. وهذا يمنحنا بضع ساعات، وربما أكثر، لنقل خمس ساعات إن كنا محظوظين. هذا يعتمد على موعد مغادرته لنا، والمسافة التي قطعها حتى الآن.»
قال ثيو في نفسه: «ما الفارق إن كانت خمس ساعات أو خمسين؟» تسلل شعور باليأس إلى ذهنه وسرى إلى أطرافه، فأوهن جسده حتى كادت تتمكن منه رغبة غريزية في أن يخر على الأرض. وللحظة، ليس أكثر، تجمدت أفكاره؛ لكنها لم تدم. عاد ذكاؤه ليثبت وجوده، وبعودته تجدد أمله. ماذا كان سيفعل لو كان مكان رولف؟ هل سيتوجه إلى الطريق ويوقف أول سيارة تمر ويجد أقرب هاتف؟ ولكن هل الأمر بتلك البساطة؟ رولف رجل مطارد ليس معه أي مال أو وسيلة انتقال أو طعام. كانت ميريام محقة؛ فالسر الذي كان يحمله كان بالأهمية التي تحتم أن يكتمه حتى يتسنى له أن يبلغه للرجل الذي يعنيه أكثر من غيره أن يعرفه وسيدفع أعلى ثمن كي يحصل عليه؛ زان.
كان يتعين على رولف أن يصل إلى زان، وأن يصل إليه بطريقة آمنة. لم يكن بوسعه أن يخاطر بالوقوع في الأسر، أو أن تصيبه عرضا رصاصة طائشة من سلاح أحد أفراد شرطة الأمن الوطني. حتى وقوعه في قبضة حرس الجرينادير لن يكون أقل كارثية؛ فسيسجن في زنزانة تحت رحمتهم، وسيقابل طلبه بمقابلة حاكم إنجلترا في الحال بالسخرية والازدراء. كلا، سيحاول أن يشق طريقه إلى لندن، مسافرا كما فعلوا تحت ستار الليل، ويقتات على ثمار البرية. وما إن يصل إلى العاصمة سيتوجه إلى مبنى وزارة الشئون الخارجية القديم، ويطلب مقابلة الحاكم، وهو مطمئن إلى أنه بلغ المكان الذي سيؤخذ فيه طلبه بجدية؛ حيث توجد السلطة المطلقة وتمارس. وإن فشل في إقناعهم ومنع من الدخول، فسيستخدم ورقته الأخيرة. «يجب أن أراه. أخبره عني أن المرأة حبلى.» حينها سيوافق زان على مقابلته.
لكن فور أن يبلغهم بذلك الخبر ويصدقوه، سيأتون بسرعة. حتى إن ظن زان أن رولف يكذب فسيأتون أيضا. حتى إن ظنوا أن هذا هو آخر حمل كاذب، وأن تلك الدلالات والأعراض، والبطن المنتفخ، كلها ستنتهي نهاية هزلية، سيأتون أيضا. فالأمر أهم من أن يدعوا احتمالا للخطأ. سيأتون بطائرة مروحية محملة بالأطباء والقابلات، وبمجرد أن تتأكد لهم حقيقة الأمر سيأتون ومعهم كاميرات التلفاز أيضا. ستؤخذ جوليان برفق لتوضع في فراش مستشفى عام، وتحظى برعاية تكنولوجيا الولادة التي ظلت غير مستخدمة طيلة خمسة وعشرين عاما. سيترأس زان بنفسه الأمر وسيعلن الخبر للعالم المتشكك. لن يكون مهد ذلك الطفل محاطا برعاة بسطاء كمهد المسيح.
قال: «أظن أننا على بعد خمسة عشر ميلا من ليومنستر. الخطة الأصلية لا تزال صالحة. بإمكاننا أن نجد مأوى، كوخا أو بيتا في أعماق الغابة. من الواضح أن فكرة الذهاب إلى ويلز لم تعد قائمة. لكن بإمكاننا أن نتجه صوب الجنوب الشرقي إلى غابة دين. نحتاج إلى وسيلة تنقل ومياه وطعام. فور أن يحل الظلام سأسير إلى أقرب قرية وأسرق سيارة. فنحن نبعد حوالي عشرة أميال عن أقرب قرية. لقد رأيت أضواءها قبل أن ينقض علينا الأوميجيون.»
توقع أن تسأل ميريام كيف سيفعل ذلك. لكنها قالت: «الأمر يستحق المحاولة. لكن لا تجازف إلا للضرورة.»
قالت جوليان: «أرجوك يا ثيو، لا تأخذ المسدس معك.»
التفت إليها كاظما غضبه. «سآخذ ما أحتاج إليه وسأفعل ما أنا مضطر له. لكم من الوقت ستصمدين من دون مياه؟ لا يمكننا أن نعيش على التوت البري. نحن بحاجة إلى طعام وشراب وأغطية ولوازم للولادة. نحن بحاجة إلى سيارة. سيكون لدينا أمل إن استطعنا الوصول إلى مخبأ قبل أن يصل رولف إلى المجلس. أم أنك بدلت رأيك؟ ربما تريدين أن تتبعي خطاه وتسلمي نفسك إليهم.»
هزت رأسها نفيا دون أن تنطق بكلمة. رأى الدموع تترقرق في عينيها. أراد أن يضمها بين ذراعيه. لكنه ظل واقفا على مسافة منها، ووضع يده في جيب معطفه الداخلي وتحسس ثقل المسدس البارد.
الفصل الثلاثون
انطلق فور أن حل الظلام، متلهفا للذهاب، كارها إضاعة أي لحظة. كانت سلامتهم تعتمد على سرعة تحصله على سيارة. سارت جوليان وميريام حتى حافة الغابة وراقبتاه وهما متواريتان عن الأنظار. عندما التفت ليلقي عليهما نظرة أخيرة، جاهد كي يدفع عن ذهنه الاعتقاد الذي راوده للحظات بأن تلك قد تكون آخر مرة يراهما. تذكر أنه رأى أضواء قرية أو بلدة صغيرة غرب الطريق. قد يكون أقصر طريق هو عبور الحقول، لكنه كان قد ترك الكشاف مع المرأتين، ومحاولة شق طريقه وسط الحقول في الظلام في بلدة لا يعرفها قد يكون لها عواقب كارثية. انطلق يعدو، ثم سار في الطريق الذي سلكوه أثناء سفرهم وهو يمشي تارة ويعدو تارة أخرى. بعد نصف ساعة وصل إلى مفترق طرق، ووقف يفكر لبرهة ثم سلك الطريق الأيسر.
بعد نصف ساعة أخرى من المشي السريع، وصل إلى أطراف البلدة. كان الطريق الريفي المعتم محفوفا من جهة بسور من الشجيرات العالية المنتشرة بغير نظام وبدغل غير كثيف من الجهة الأخرى. كانت تلك هي الجهة التي سار فيها، وعندما سمع سيارة تقترب، انسل ليتوارى في ظل الأشجار، مدفوعا برغبة غريزية في الاختباء من ناحية، ومن ناحية أخرى بخوفه المبرر من أنه قد يثير الانتباه كونه رجلا وحيدا يسير مسرع الخطى في الظلام، لكن ما لبث أن حل محل سور الشجيرات والدغل منازل معزولة تقف بعيدة عن الطريق وسط حدائق واسعة. لا بد أنه سيجد بمرأب أحد تلك المنازل سيارة أو ربما أكثر. لكن من شأن المنازل ومرائبها أن تكون مؤمنة جيدا؛ فتلك المنازل المترفة الفاخرة لن تترك دون تحصين من لص عابر عديم الخبرة. كان يبحث عن ضحايا يسهل إثارة خوفهم.
وعندما وصل إلى البلدة أبطأ الخطى. شعر بنبضه يتسارع، بالدقات القوية المنتظمة بين ضلوعه. لم يكن يريد أن يتعمق في البلدة ويقترب من مركزها كثيرا؛ فقد كان من المهم أن يعثر على ما يحتاجه في أقرب وقت ممكن ثم يجد طريقا للهرب. حينها رأى، في زقاق إلى يمينه، صفا من الفيلات شبه المنفصلة، المكسوة حوائطها بكسارة الحصباء. كان كل منزلين متصلين متطابقين شكلا، ولهما نافذة مشرفة بجوار الباب ومرأب متصل بالحائط الجانبي. دخل وهو يكاد يسير على أطراف أصابعه كي يتفحص أول منزلين قابلاه. كان المنزل على اليسار خاويا، ونوافذه موصدة بالألواح الخشبية ومعلق على بوابته الأمامية لافتة كتب عليها «للبيع». كان من الواضح أنه خاو منذ وقت طويل؛ فقد كان العشب أمامه طويلا وغير مشذب، وكان مرقد الأزهار الدائري الوحيد بمنتصف حديقته عبارة عن كومة من شجيرات الورود التي نمت نموا مفرطا وتشابكت أغصانها الشائكة، وتدلت آخر ورودها المتفتحة على آخرها متهدلة ذابلة.
أما المنزل على اليمين فكان مأهولا وكان يبدو مختلفا عنه تماما؛ فقد كان الضوء يظهر من خلف ستائر غرفته الأمامية المسدلة، وكان عشب حديقته الأمامية مجذوذا بعناية ويحف الدرب مرقد من أزهار الأقحوان والأضاليا. ثبت سياج جديد ليفصل بين المنزلين، ربما في محاولة لحجب وحشة المنزل المجاور، أو كي لا تتسلل إليه الحشائش الضارة. بدا مثاليا لغرضه. فدون جيران، لن يتلصص أو يتسمع عليه أحد، وبقربه من الطريق سيكون بإمكانه أن يلوذ بالفرار سريعا. لكن هل توجد بمرأبه سيارة؟ سار إلى بوابته وأمعن النظر في الممر المفروش بالحصى فتبين علامات إطارات سيارة وبقعة زيت صغيرة. أثارت بقعة الزيت قلقه، لكن المنزل الصغير كان في حالة جيدة للغاية، وكانت الحديقة بلا شائبة، فلم يتخيل ألا يجد السيارة تعمل مهما كانت صغيرة وقديمة. لكن ماذا إن كانت لا تعمل؟ حينها سيكون عليه أن يبدأ مرة أخرى وخطر محاولة ثانية سيكون مضاعفا. درس عقله الاحتمالات بينما كان يقف بجوار البوابة يتلفت يمينا ويسارا ليتأكد من أن لا أحد يراقب تلكؤه أمامها. بإمكانه أن يمنع سكان ذلك المنزل من الإبلاغ عنه؛ سيتعين عليه أن يقطع سلك الهاتف وأن يكبلهم. لكن ماذا إن فشلت محاولته للعثور على سيارة في المنزل التالي الذي سيبحث فيه أو الذي يليه؟ كانت فكرة تكبيل مجموعة متتابعة من الضحايا فكرة هزلية وخطيرة في الوقت نفسه. في أفضل الظروف سيحظى فقط بمحاولتين. إن فشل في إيجاد سيارة هنا فقد تكون أفضل خطة هي أن يوقف سيارة على الطريق ويجبر سائقها وركابها على الخروج منها. بتلك الطريقة سيضمن على الأقل أن تكون سيارة تعمل.
تلفت حوله بسرعة مرة أخيرة ثم فتح مزلاج البوابة بهدوء ودخل يمشى بخطى سريعة، ويكاد يخطو على أطراف أصابعه، نحو الباب الأمامي للمنزل. حينها تنفس الصعداء. كانت الستائر غير مسدلة بالكامل على اللوح الزجاجي الجانبي للنافذة البارزة وكانت توجد فرجة عرضها حوالي ثلاث بوصات بين حافة الستارة وإطار النافذة استطاع أن يراقب خلالها بوضوح ما يجري داخل الغرفة.
لم يكن بها مدفأة وكان جهاز تلفاز قديم يشغل حيزا كبيرا منها. أمام التلفاز كان يوجد مقعدان بمسندي ذراع وكان بوسعه أن يرى رأسين أشيبين لعجوزين، على الأرجح رجل وزوجته. كانت الغرفة مفروشة بأثاث بسيط فكان بها طاولة وكرسيان وضعت بجوار نافذة جانبية، ومكتب صغير من خشب الزان. لم ير بها أي صور أو كتب أو تحف أو أزهار، لكن على أحد حوائطها علقت صورة فوتوغرافية ملونة كبيرة لطفلة واستقر تحتها كرسي أطفال مرتفع عليه دب لعبة يرتدي رابطة عنق ضخمة منقطة.
حتى من وراء الزجاج، كان بوسعه أن يسمع صوت التلفاز بوضوح. لا بد أن ذينك العجوزين أصمان. عرف البرنامج المعروض على التلفاز: كان اسمه «الجيران»، وهو مسلسل تلفازي بميزانية منخفضة من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أنتج في أستراليا، وكانت أغنية مقدمته تافهة لدرجة لا تقارن. من الواضح أن المسلسل حصد نسبة متابعات ضخمة عندما عرض للمرة الأولى على أجهزة التلفاز القديمة، والآن أعيد تهيئته ليناسب أجهزة التلفاز الحديثة ذات الوضوح العالي، وأصبح له جمهور معجبون. وكان سبب ذلك لا يخفى على أحد؛ فقد كانت أحداثه التي تقع في إحدى الضواحي المشمسة النائية تثير الاشتياق والحنين إلى عالم وهمي من البراءة والأمل. لكن الأهم من ذلك أن أحداثه كانت تدور حول الصغار؛ فقد كانت الصور المشرقة لوجوه الصغار وأطرافهم وأصواتهم، مع أنها غير ملموسة، تخلق شعورا وهميا بأنه في مكان ما تحت سماء موازية لا يزال ذلك العالم اليافع المؤنس موجودا ويمكن للمرء الدخول إليه إن أراد. بالدافع نفسه وللحاجة نفسها، كان الناس يبتاعون مقاطع فيديو لولادات، أو لأناشيد أطفال، وبرامج أطفال مثل «رجلا أصيص الزهور»، و«بلو بيتر».
دق جرس الباب ووقف ينتظر. خمن أنهما سيجيبان الباب معا بعد أن حل الظلام. من وراء خشب المنزل الضعيف، جاءه صوت وقع أقدام ثقيلة ثم صوت خشخشة رتاج الباب. فتح الباب بينما ظلت سلسلة رتاجه مربوطة، ومن خلال الفرجة الصغيرة كان بوسعه أن يرى أن الزوجين كانا أكبر سنا مما توقع. تطلعت إلى عينيه عينان مليئتان بالقذى بنظرة شك لا قلق.
كانت نبرة الرجل حادة لدرجة لم يتوقعها. «ماذا تريد؟»
خمن ثيو أن صوته الهادئ الراقي سيبعث على الاطمئنان. قال: «أنا من المجلس المحلي. نحن نجري استبيانا حول هوايات الناس واهتماماتهم. معي استمارة أحتاج منك أن تملأها. لن يستغرق ذلك وقتا طويلا. لكن من الضروري أن تقوم بذلك الآن.»
تردد الرجل للحظة قبل أن يحل سلسلة الرتاج. بدفعة واحدة سريعة، صار ثيو داخل المنزل، ظهره إلى الباب وبيده المسدس. قبل أن يتكلما أو يصرخا قال: «لا بأس. أنتما لستما في خطر. لن أوذيكما. ستكونان بأمان إن حافظتما على هدوئكما وفعلتما ما أطلبه منكما.»
بدأت المرأة ترتعد بشدة وهي متشبثة بذراع زوجها. كانت تبدو شديدة الوهن، وضئيلة الجسد، وكانت سترتها الصوفية تتدلى من كتفيها اللتين بدوتا أضعف من أن تتحملا ثقلها.
نظر ثيو إلى عينيها فرأى نظرتها المذعورة المدهوشة، وقال مستحضرا كامل قدراته الإقناعية: «أنا لست بمجرم. أحتاج إلى المساعدة. أحتاج إلى استخدام سيارتكما وإلى طعام وشراب. هل تملكان سيارة؟»
أومأ الرجل برأسه إيجابا.
تابع ثيو سؤاله: «من أي طراز؟» «سيتزن.» سيارة الشعب، رخيصة واقتصادية. كان عمر جميع السيارات من ذلك الطراز عشر سنوات، لكنها كانت متقنة الصنع ويعتمد عليها. كانت أفضل من غيرها. «في خزانها وقود؟»
أومأ الرجل برأسه إيجابا مرة أخرى.
قال ثيو: «أهي بحالة جيدة؟» «أجل، فأنا حريص على صيانتها.» «حسنا. الآن أريدكما أن تصعدا لأعلى.»
أرعبهما ذلك الطلب. ماذا ظنا؟ هل ظنا أنه ينوي قتلهما في غرفة نومهما؟
قال الرجل متوسلا: «لا تقتلني. فليس لديها أحد سواها. وهي مريضة. قلبها عليل. إن مت فسيكون مصيرها إلى الراحة الأبدية.» «لن يؤذيكما أحد. لن يكون ثمة راحة أبدية.» كرر بحدة: «لا راحة أبدية!»
صعدا الدرج ببطء، خطوة بخطوة، والمرأة لا تزال متشبثة بذراع زوجها.
بالأعلى، تبين له من نظرة سريعة أن تخطيط المنزل بسيط؛ فالجانب الأمامي كان يحوي غرفة النوم وقبالتها كان الحمام، وبجواره مرحاض منفصل. بينما كان الجانب الخلفي يضم غرفتي نوم صغيرتين. أشار إليهما بالمسدس أن يدخلا إلى غرفة النوم الخلفية الأكبر. كان بها سرير فردي، وعندما أزاح عنه المفرش رأى أنه كان مرتبا.
قال موجها كلامه للرجل: «مزق تلك الملاءة إلى شرائط.»
أمسك بها الرجل بيديه المتجعدتين وحاول دون جدوى أن يمزق نسيجها القطني. لكن صعب عليه تمزيق طرفها.
قال ثيو بنفاد صبر: «نحتاج إلى مقص. فأين أجده؟»
كانت المرأة هي من تكلمت: «في الغرفة الأمامية، على منضدة الزينة.» «رجاء أحضريه.»
خرجت من الغرفة بخطوات مترنحة جامدة وعادت بعد بضع ثوان وهي تحمل مقص أظافر. كان صغيرا لكنه كان كافيا ليؤدي الغرض. لكنه كان سيضيع لحظات ثمينة إن ترك تلك المهمة ليدي الرجل المرتعشتين.
قال بخشونة: «تراجعا وقفا جنبا إلى جنب أمام الحائط.»
أطاعاه، فوقف قبالتهما يفصل بينه وبينهما السرير الذي ترك فوقه المسدس بالقرب من يده اليمنى. ثم بدأ يمزق الملاءة. أحس أن الصوت عال على نحو غير طبيعي. وخيل له أن ما يمزقه هو الهواء أو نسيج البيت نفسه. بعدما انتهى، قال للمرأة: «تعالي واستلقي على السرير.»
نظرت إلى زوجها وكأنما تطلب إذنه فمنحها إيماءة سريعة. «افعلي ما يقول يا عزيزتي.»
وجدت صعوبة في الصعود إلى السرير فاضطر ثيو إلى حملها. كان جسدها خفيفا للغاية فارتفعت يده التي وضعها تحت فخذها لأعلى بسرعة جدا وكادت تنقلب عن السرير وتسقط أرضا. خلع حذاءها وربط كاحليها أحدهما بالآخر بقوة، ثم كبل يديها خلف ظهرها.
قال: «هل أنت بخير؟»
أومأت برأسها إيماءة خفيفة. كان السرير ضيقا فتساءل إذا كان سيتسع لزوجها أيضا، لكن الزوج استشف ما يدور بذهنه فبادره بسرعة قائلا: «لا تفصلنا. لا تأخذني إلى الغرفة الأخرى. لا ترديني.»
قال ثيو بنفاد صبر: «لن أرديك. فالمسدس ليس ملقما حتى.» صار من المأمون أن تنكشف كذبته الآن. فقد أدى المسدس الغرض منه.
قال بدماثة: «استلق بجوارها.»
كان يوجد متسع له لكنه بالكاد كان كافيا. أوثق يدي الرجل خلف ظهره وربط كاحليه، ثم بقطعة أخيرة من النسيج القطني ربط ساق كل منهما بساق الآخر. كانا مستلقيين على جانبهما الأيمن متلاصقين.
كان يعرف أن يديهما لم تكونا مرتاحتين وهما مكبلتان خلف ظهريهما، لكنه لم يجرؤ على تكبيلها أمامهما فحينها قد يتمكن الرجل من فك قيده بأسنانه.
قال: «أين مفاتيح المرأب والسيارة؟»
قال الرجل هامسا: «في المكتب بغرفة الجلوس. داخل الدرج العلوي إلى اليمين.»
ذهب فلم يجد صعوبة في العثور على المفاتيح. ثم عاد إلى غرفة النوم مرة أخرى. «أحتاج إلى حقيبة سفر كبيرة. هل لديكما واحدة؟»
كانت المرأة هي من أجابته: «تحت السرير.»
مد يده وسحبها. كانت كبيرة الحجم لكن خفيفة، مصنوعة من الورق المقوى المدعوم فقط في الأركان. تساءل إن كان ما تبقى من الملاءة الممزقة يستحق أن يأخذه معه. بينما كان يقف ممسكا بها في يديه مترددا، قال الرجل: «رجاء لا تكممنا. أعدك أننا لن نصرخ. رجاء لا تكممنا. زوجتي لن تستطيع التنفس.»
قال ثيو: «سأضطر لأن أبلغ شخصا ما أنكما مكبلين هنا. لن يتسنى لي أن أفعل ذلك إلا بعد مرور اثنتي عشرة ساعة على الأقل، لكني أعدكما أنني سأفعل. هل تتوقعون زيارة من أحد؟»
قال الرجل دون أن ينظر إليه: «السيدة كولينز، مساعدتنا المنزلية، ستأتي غدا في السابعة والنصف. هي تأتي مبكرا لأن لديها مهمة نهارية أخرى بعدنا.» «هل معها مفتاح؟» «أجل، دائما ما يكون معها مفتاح.» «ألا تنتظرون أحدا آخر؟ أحد أفراد العائلة مثلا؟» «ليس لدينا عائلة. كانت لدينا ابنة لكنها توفيت.» «هل أنتما متأكدان من أن السيدة كولينز ستكون هنا في السابعة والنصف؟» «أجل، فهي جديرة بالثقة جدا. ستأتي حتما.»
وارب الستارة القطنية الخفيفة المنقوشة بالورود وتطلع إلى الظلام في الخارج. لم ير إلا حديقة ممتدة ووراءها تبين معالم تل مظلم. إن صرخا طوال الليل فعلى الأرجح لن يبلغ صوتهما الواهن مسامع أحد. على كل حال، سيترك التلفاز مفتوحا ويرفع صوته إلى آخره.
قال: «لن أكممكما. سأترك التلفاز يعمل بصوت مرتفع حتى لا يسمعكما أحد. فلا تهدرا قواكما في الصراخ. ستتحرران عندما تأتي السيدة كولينز غدا. حاولا أن تحصلا على قسط من الراحة، أن تناما. أنا آسف لأني اضطررت لفعل ذلك. ستستعيدان سيارتكما في النهاية.»
شعر أنه سخيف وغير صادق وهو ينطق بذلك الوعد. قال: «أتحتاجان لأي شيء؟»
قالت المرأة بصوت واهن: «الماء.»
ذكرته الكلمة بظمئه. كان من الغريب أنه، بعد أن ظل ظمآن لساعات طويلة، استطاع أن يتناسى ظمأه لفترة وجيزة. دخل إلى الحمام وملأ كوب فرش الأسنان، دون حتى أن يتكبد عناء شطفه، وأخذ يتجرع الماء البارد حتى امتلأت بطنه عن آخرها. ثم ملأ الكوب وعاد به إلى غرفة النوم. رفع رأس المرأة على ذراعه ووضع الكوب على شفتيها، فشربت بتعطش. انسال الماء على جانب وجهها وعلى سترتها الصوفية الرقيقة. كانت العروق الأرجوانية على جانبي جبهتها تنبض بشدة وكأنها على وشك أن تنفجر، وكانت عضلات عنقها مشدودة على آخرها كالأوتار. بعد أن انتهت أخذ قطعة من الملاءة ومسح بها فمها. ثم ملأ الكوب مرة أخرى وساعد زوجها على الشرب. شعر بتردد عجيب في أن يتركهما. كونه زائرا مؤذيا غير مرحب به، لم يستطع أن يصيغ عبارة وداع ملائمة.
عندما وصل إلى الباب التفت إليهما وقال: «أنا آسف لأني اضطررت لفعل ذلك. حاولا أن تحصلا على قسط من النوم. ستأتي السيدة كولينز في الصباح.»
تساءل إن كان قال ذلك ليطمئنهما أم ليطمئن نفسه. قال في نفسه: على الأقل هما معا.
ثم أضاف قائلا: «هل أنتما مرتاحان كفاية؟»
أدرك سخافة سؤاله ذلك بمجرد أن غادر شفتيه. مرتاحان ؟ كيف لهما أن يكونا مرتاحين وهما مقيدان كالحيوانات على سرير ضيق قد يسقطان من عليه إن أتيا بأي حركة. همست المرأة بشيء لم تستطع أذناه أن تلتقطه، لكن بدا أن زوجها فهمه. بصعوبة، رفع رأسه ونظر إلى عيني ثيو مباشرة فرأى ثيو في عينيه الباهتتين نظرة تستجدي تفهمه وعطفه.
قال: «تريد الذهاب للحمام؟»
كاد ثيو يضحك بصوت عال. وشعر بأنه طفل في الثامنة من عمره يسمع صوت أمه الضجر. «كان يجب أن تفكر في ذلك قبل أن ننطلق.» ما الرد الذي يتوقعانه منه؟ «كان يجب أن تفكرا بذلك قبل أن أكبلكما»؟ كان يجب أن يفكر أحدهما بذلك. لكن كان الأوان قد فات الآن. فقد أهدر الكثير من الوقت بالفعل عليهما. فكر في جوليان وميريام اللتين تنتظرانه في قلق شديد وهما مختبئتان في ظلال الأشجار تترقب أذناهما صوت كل سيارة تقترب وتصور خيبة أملهما عندما تمر بهما فلا تتوقف. كما أنه لا يزال أمامه مهام كثيرة تنتظره؛ يجب أن يفحص السيارة، ويجمع المؤن. سيستغرق حل تلك العقد الكثيرة عدة دقائق لا يملك أن يضيعها. سيكون عليها أن تظل مستلقية وسط فضلاتها حتى تصل السيدة كولينز في الصباح.
لكنه كان يعلم أنه لا يقدر على فعل ذلك بها. كانت تستلقي في خجل شديد مكبلة عاجزة تفوح منها رائحة الخوف، وعيناها كانتا تتحاشيان النظر إلى عينيه، وكان بيده أن يجنبها تلك الإهانة على الأقل. بدأت أصابعه تحل النسيج القطني المحكم. كان حله أصعب مما توقع، فأمسك بمقص الأظافر وقطع به قيودها محررا كاحليها ويديها، محاولا أن يتجنب النظر إلى الأثر الذي تركته القيود على معصميها. لم يكن إنزالها عن السرير سهلا كذلك، فجسدها الهش، الذي بدا له من قبل خفيفا كجسد عصفور، كان متيبسا من فرط الخوف. استغرقت دقيقة تقريبا حتى استطاعت أن تجر قدميها ببطء حتى المرحاض وهو يلف ذراعه حول خصرها ليسندها.
قال بصوت جعله التبرم والخجل غليظا: «لا تغلقي الباب. اتركيه مواربا.»
انتظر بالخارج محاولا أن يقاوم رغبته في أن يجوب الممر جيئة وذهابا، ودقات قلبه تسابق الثواني التي تحولت إلى دقائق قبل أن يسمع صوت مدفق المرحاض وتعاود هي الظهور ببطء. همست: «شكرا لك.»
عندما عادا إلى غرفة النوم ساعدها على الصعود للسرير ثم مزق بضع شرائط أخرى مما تبقى من الملاءة وكبلها بها مرة أخرى لكنه جعلها أقل إحكاما تلك المرة. قال لزوجها: «من الأفضل أن تذهب أنت أيضا. بإمكانك أن تثب حتى هناك إن ساعدتك. فالوقت لا يتسع إلا لأن أحرر يديك فقط.»
لكن ذلك لم يكن أسهل. فحتى بعد أن تحررت يداه ولف ذراعه حول كتف ثيو، كان العجوز لا يملك القوة أو القدرة على الاتزان ما يجعله يقفز قفزات صغيرة حتى، فاضطر ثيو إلى أن يجره جرا تقريبا حتى الحمام.
أخيرا عاد بالرجل المسن إلى السرير. والآن عليه أن يسرع. فقد أهدر بالفعل الكثير من الوقت. توجه بسرعة إلى الجزء الخلفي للمنزل حاملا حقيبة السفر في يده. كان يوجد مطبخ صغير، نظيف ومرتب بعناية، به ثلاجة كبيرة للغاية، ومخزن مؤن صغير له باب من داخل المطبخ. لكن الغنائم التي وجدها كانت مخيبة للآمال. فالثلاجة مع حجمها الضخم لم يكن بها سوى علبة حليب وحزمة بها أربع بيضات، ونصف رطل من الزبد موضوع في طبق مغطى بورق الألمنيوم، وقطعة مغلفة من جبن الشيدر وعلبة بسكويت مفتوحة. وفي حجيرة التجميد أعلاها لم يجد سوى علبة صغيرة من البازلاء وقطعة مجمدة من سمك القد. كانت محتويات مخزن المؤن أيضا مخيبة للآمال، فلم يكن به سوى كمية قليلة من السكر والقهوة والشاي. كان من السخيف أن يكون ثمة منزل تنقصه المؤن إلى ذلك الحد. شعر بفورة غضب تجاه الزوجين العجوزين وكأنهما المسئولان عن خيبة أمله نتيجة خطأ متعمد منهما. هما على الأرجح لا يذهبان للتسوق سوى مرة واحدة في الأسبوع وكان غير محظوظ في يوم مجيئه. أخذ كل ما وجده ودس المؤن في كيس بلاستيكي. كان يوجد أربعة أكواب معلقة على حامل. أخذ اثنين منها ووجد ثلاثة أطباق من خزانة الأواني المعلقة فوق الحوض. وأخذ سكين تشذيب حاد، وسكين تقطيع لحم، وثلاثة سكاكين مائدة، وشوكات وملاعق، ودس علبة ثقاب في جيبه. ثم هرع إلى الطابق العلوي، واتجه تلك المرة إلى غرفة النوم الأمامية حيث جاهد لحمل ملاءات وأغطية ووسادة وجدها على السرير. ستحتاج ميريام إلى مناشف نظيفة للولادة. ركض إلى الحمام فوجد ست مناشف مطوية في خزانة التهوية. ستكون كافية. دس جميع البياضات في حقيبة السفر. ووضع مقص الأظافر في جيبه، إذ تذكر أن ميريام كانت قد طلبت مقصا. وجد في خزانة الحمام زجاجة مطهر فضمها إلى غنائمه.
لم يكن بوسعه أن يمضي وقتا أطول في المنزل، لكن بقيت أمامه مشكلة واحدة؛ الماء. كان معه علبة اللبن الصغيرة؛ لكن تلك لن تكون كافية حتى لتروي ظمأ جوليان. بحث عن وعاء مناسب، فلم يجد أي زجاجة فارغة في أي مكان بالمنزل. كاد يسب الزوجين العجوزين بينما كان يبحث عن وعاء من أي نوع يصلح لأن يضع فيه الماء. لم يجد سوى قنينة حرارية صغيرة. على الأقل سيتمكن من أن يأخذ فيها لجوليان وميريام قهوة ساخنة. لا داعي لأن ينتظر حتى يغلي الماء في الغلاية. من الأفضل أن يصنعها من ماء ساخن من الصنبور مع أن مذاقها سيكون غريبا. سيتلهفان لشربها على الفور. بعد أن فرغ من ذلك، ملأ الغلاية والقدرين الوحيدين اللذين كان قد وجدهما واللذين كان لهما غطاء محكم. سيضطر لأن يحمل كلا منها على حدة إلى السيارة، مما سيهدر المزيد من الوقت. وأخيرا، شرب من الصنبور ملء بطنه مرة أخرى مريقا الماء على وجهه.
على الحائط خلف الباب الأمامي من الداخل كان يوجد صف من شماعات المعاطف. علقت عليها سترة قديمة ووشاح صوفي طويل ومعطفا مطر يبدوان جديدين. تردد لحظة قبل أن يأخذهم ويضعهم على كتفه. ستحتاجهما جوليان إن كان لا ينبغي أن تستلقي على أرض رطبة. لكنهما كانا الشيئين الجديدين الوحيدين في المنزل وشعر أن سرقتهما ستكون الأسوأ بين النثريات التي نهبها.
فتح باب المرأب. كان صندوق السيارة السيتزن صغيرا لكنه حشر الغلاية وأحد القدرين بعناية بين حقيبة السفر وملاءات السرير والمعطفين. ووضع القدر الآخر والكيس البلاستيكي الذي يحتوي على الطعام والأكواب وأدوات المائدة على المقعد الخلفي. عندما أدار محرك السيارة شعر بالارتياح إذ وجده يعمل بسلاسة. كان واضحا أن السيارة كانت تصان جيدا. لكنه رأى أن خزان الوقود كان نصف ممتلئ وأنه لا يوجد خرائط في درجها. على الأرجح لم يستخدم العجوزان السيارة سوى للرحلات القصيرة وللتسوق. بينما كان يرجع بالسيارة إلى الخلف بعناية ليخرجها إلى الممر ويغلق باب المرأب بعد أن خرج، تذكر أنه نسي أن يرفع صوت التلفاز. قال في نفسه إن ذلك الإجراء الاحترازي ليس مهما. فمع كون المنزل المجاور خاويا ووجود الحديقة الطويلة التي تمتد في الخلف، في الغالب لن تسمع صرخات الزوجين الواهنة.
بينما كان يقود السيارة، فكر مليا في الخطوة التالية. هل يتابعون طريقهم أم يعودون أدراجهم؟ سيعرف زان حتما من رولف أنهم كانوا يخططون لعبور الحدود إلى ويلز ويجدون منطقة غابات ريفية. وسيتوقع أن تتغير تلك الخطة. سيتوقع أن يكونوا في أي مكان في غرب البلاد. سيستغرق البحث وقتا طويلا حتى إذا أرسل زان فرقة بحث كبيرة من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لكنه لن يفعل، فتلك طريدة فريدة. إن نجح رولف في الوصول إليه دون أن يكشف عن المعلومات التي لديه حتى مقابلته الأخيرة الحاسمة مع زان، فسيتكتم زان أيضا على الأمر حتى يتأكد من حقيقته. لن يخاطر بوقوع جوليان في يد رجل طموح أو غير نزيه من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لن يعرف زان أنه لا يملك متسعا من الوقت إن كان يريد أن يكون حاضرا عند الولادة. فرولف لن يخبره بأمر لا يعلمه هو نفسه. إلى جانب ذلك، ما مدى ثقته في أعضاء المجلس الآخرين؟ كلا، سيأتي زان بنفسه، في الغالب برفقة فرقة صغيرة مختارة بعناية. وسينجحون حتما في النهاية؛ فذلك أمر محتم. لكن ذلك سيستغرق وقتا. فأهمية مهمتهم وطبيعتها الحرجة ، والسرية المطلوبة، وحجم فرقة البحث، كلها أمور من شأنها أن تبطئهم.
إذن إلى أين يذهبون وأي اتجاه يسلكون؟ لوهلة تساءل إن كانت عودتهم إلى أكسفورد والاختباء في غابة ويثام التي تطل على المدينة، والتي ستكون آخر مكان قد يخطر لزان أن يبحث فيه، ستكون حيلة مجدية. أم أنها ستكون رحلة بالغة الخطورة؟ لكن أي طريق سيكون خطيرا وسيتضاعف الخطر بعد أن يكتشف العجوزان في الساعة السابعة والنصف ويرويان ما حدث معهما. فما الذي يجعل العودة تبدو أخطر من المضي قدما؟ ربما لأن زان موجود في لندن. كما أن لندن نفسها مكان اختباء بديهي لأي هارب عادي. فلندن، مع تناقص أعداد سكانها، لا تزال مجموعة من القرى والأزقة السرية والأبراج السكنية التي تكاد تكون خاوية. لكن لندن فيها أعين كثيرة وليس لديه هناك شخص يمكن أن يأمن اللجوء إليه، ولا منزل يستطيع دخوله. كان حدسه ينبئه، وخمن أن جوليان ستوافقه على ذلك، بأن يبتعد قدر الإمكان عن لندن وأن يلتزم بالخطة الأصلية بالاختباء في عمق الريف البعيد المعزول. فكلما ابتعدوا عن لندن كان ذلك أكثر أمنا.
بينما كان يقود بحرص في الطريق المهجور، لحسن حظه، آخذا في التعود على السيارة، داعب خياله حلم حاول أن يقنع نفسه بأنه هدف منطقي وقابل للتنفيذ. تخيل كوخ حطاب، عذب الرائحة، لا تزال حوائطه المصنوعة من الخشب الصمغي محتفظة بدفء شمس الصيف، يقف راسخا كشجرة وسط غابة بعيدة تحت مظلة من غصون الأشجار القوية الكثيفة الأوراق، مهجورا منذ عدة سنوات وصار باليا، لكنه، بوجود البياضات، وأعواد الثقاب، والطعام المعلب، سيكون كافيا لثلاثتهم. سيكون بجواره ينبوع ماء عذب، وحطب يمكنهم أن يجمعوه لإشعال النار عندما يفسح الخريف المجال للشتاء. بإمكانهم أن يمكثوا هناك لثلاثة أشهر إن اضطروا لذلك، بل ربما حتى لسنوات. كانت تلك هي الصورة الشاعرية التي كان قد سخر منها وازدراها بينما كان يقف بجوار سيارته في سواينبروك، لكنها الآن كانت تبث الطمأنينة في قلبه، مع أنه كان يعلم أن حلمه ذلك مجرد خيال .
في مكان ما في العالم، سيولد أطفال آخرون؛ حمل نفسه على مشاركة جوليان إيمانها بذلك. وحينها لن يكون ذلك الطفل فريدا، وسيزول عنه الخطر. لن يكون ثمة داع لأن يأخذه زان والمجلس من أمه حتى إن كان معروفا أنه المولود البكر لحقبة زمنية جديدة. لكن كل ذلك كان في طور المستقبل، وعندما يحين وقته فسيواجهونه ويتعاملون معه. أما في البضعة الأسابيع القادمة فبإمكان ثلاثتهم أن يعيشوا في أمان حتى يولد الطفل. كان لا يرى أبعد من ذلك، وقال في نفسه إنه لا يحتاج لأن يرى أبعد من ذلك.
الفصل الحادي والثلاثون
كان عقله وكامل طاقاته الجسدية منصبين في الساعتين الأخيرتين بشدة على مهمته، فلم يتصور أن يجد صعوبة في التعرف على حدود الغابة. عندما انعطف يمينا من الجادة إلى الطريق، حاول أن يتذكر كم سار قبل أن يسلك المنعطف المؤدي إلى البلدة. لكن في ذاكرته، كانت رحلة سيره تلك قد أصبحت مزيجا مضطربا من الخوف والتوتر والتصميم، والظمأ المضني، واللهاث وألم مبرح شعر به بجانبه، فلا يذكر بوضوح المسافة والوقت. ظهر على يساره دغل صغير تعرفه على الفور، فانفرجت أساريره. لكن ما لبث أن انتهى صف الأشجار وظهر سياج شجري منخفض وأرض مستوية. ثم ظهرت أشجار مرة أخرى وبداية سور حجري. أبطأ سرعته وأبقى عينيه على الطريق. ثم رأى ما كان يخشى ويأمل رؤيته في الوقت نفسه؛ دماء لوك التي تلطخ الأسفلت، لم يعد لونها أحمر بل بدت كلطخة سوداء تحت أضواء السيارة الأمامية، وإلى يساره رأى الجدار ذا الأحجار المتهدمة.
عندما لم يخرجا على الفور من وراء الأشجار ليقابلاه، شعر للحظة من القلق المرتاع أنهما ليستا هناك، وأنهما خطفتا. أوقف السيارة بالقرب من السور، ثم عبره إلى الغابة. عند سماع وقع أقدامه، تقدمتا باتجاهه وأتاه صوت ميريام يتمتم: «حمدا لله! كان القلق قد بدأ يتسلل إلينا. هل حصلت على سيارة؟» «سيارة سيتزن. هذا كل ما حصلت عليه. لم أجد الكثير في المنزل. ها قد أحضرت ترمس من القهوة الساخنة .»
كادت ميريام تخطفه منه خطفا. فتحت غطائه وصبت فيه القهوة بحرص، فكل قطرة منها ثمينة، ثم ناولته لجوليان.
قالت بصوت تعمدت أن يكون هادئا: «لقد تغير الوضع يا ثيو. لم يعد أمامنا وقت كثير الآن. فقد بدأ المخاض.»
قال ثيو: «كم أمامنا من الوقت؟» «لا يمكنني أن أجزم في الولادات الأولى. لكن قد لا يكون أمامنا سوى بضع ساعات. وقد يكون أمامنا أربع وعشرين ساعة. جوليان لا تزال في المراحل الأولى لكن يتعين أن نجد مأوى بسرعة.»
فجأة، هبت رياح اليقين والأمل فأزاحت كل حيرته السابقة. خطر على ذهنه اسم واحد بوضوح شديد وكأنما سمع صوتا غير صوته ينطق به بصوت مسموع. غابة ويتشوود. تخيل نزهة صيفية على الأقدام في ممشى مظلل بجوار سور حجري متهدم يؤدي إلى أعماق الغابة ثم يصل إلى فرجة يكسوها العشب وبها بحيرة وبعدها، على يمين الممشى، سقيفة حطب. ما كانت غابة ويتشوود ستكون اختياره الأول أو اختيارا بديهي؛ فهي صغيرة للغاية، ويسهل تفتيشها، وتبعد عن أكسفورد أقل من عشرين ميلا. لكن الآن كان قربها ذلك ميزة. فزان سيتوقع أن يتابعوا طريقهم. لكنهم عوضا عن ذلك سيعودون أدراجهم إلى مكان يذكره ويألفه، مكان من المؤكد أنهم سيجدون فيه مأوى.
قال: «اركبا في السيارة. سنعود أدراجنا. سنتجه إلى غابة ويتشوود. وسنأكل في طريقنا.»
لم يكن ثمة وقت للنقاش، أو دراسة البدائل المحتملة. فقد كان لدى المرأتين أمر جلل يشغلهما؛ لذا كان عليه هو أن يقرر متى يذهبون وكيف.
لم يكن يخشى فعليا هجوما آخر من ذوي الوجوه المطلية. فقد بدت له تلك الحادثة المرعبة كأنها تحقيق لقناعته شبه الخرافية التي ساورته في بداية رحلتهم بأن أمرا مأساويا لا فرار منه سيلم بهم ولا يستطيع التنبؤ بطبيعته أو متى سيحدث. وها قد أتى ووقع الأسوأ؛ لكنه انقضى. مثل مسافر في طائرة يخشى الطيران ويتوقع أن تسقط طائرته كلما حلقت، كان بإمكانه أن يطمئن إلى أن الكارثة التي ينتظرها قد وقعت بالفعل وأنه يوجد ناجون. لكنه كان يدرك أن جوليان وميريام لن تستطيعا بسهولة طرد خوفهما من ذوي الوجوه المطلية. استحوذ خوفهما على السيارة الصغيرة. وطيلة العشرة الأميال الأولى، جلستا خلفه متسمرتين وقد ثبتتا أعينهما على الطريق، وكأنما تتوقعان أن تسمعا مرة أخرى صرخات الانتصار الوحشية وتريا نيران مشاعلهم وعيونهم اللامعة وراء كل منعطف وكل عائق صغير يقابلونه.
كانت تحدق بهم أخطار أخرى أيضا، وسيطر عليهم أكبر مخاوفهم. فلم يكن ثمة سبيل لمعرفة متى غادرهم رولف فعليا. إن كان قد وصل إلى زان، فقد يكون البحث عنهم قد بدأ، وسيكونون قد بدءوا في نصب حواجز الطرق في مواضعها، وأخرجوا الطائرات المروحية من مستودعاتها وملئوها بالوقود في انتظار بزوغ الفجر. كانت الطرق الجانبية الضيقة الملتوية التي تحدها أسوار من الشجيرات غير المشذبة التي يطوحها الهواء، والأسوار المهدمة المبنية بالحجارة دون ملاط هي، ربما على نحو غير عقلاني، أملهم الوحيد في الأمان. كجميع المخلوقات المطاردة، كانت غريزة ثيو تدفعه لأن يسلك طرقا ملتوية ومتعرجة، وأن يتوارى عن الأنظار ويستتر بالظلام. لكن كان للجادات الريفية أيضا مخاطرها. فقد اضطر أربع مرات لأن يضغط دواسة المكابح بغتة بحدة ويتراجع بالسيارة قبل مقطع من الطريق تشقق فيه الأسفلت فصار غير صالح للسير عليه. في إحدى المرات، بعد الساعة الثانية بقليل، كادت تلك المناورة أن تؤدي إلى عواقب كارثية. فقد انزلقت العجلتان الخلفيتان إلى حفرة، واستغرق إخراجها نصف ساعة قبل أن تنجح جهوده هو وميريام في إعادة السيارة السيتزن إلى الطريق مرة أخرى.
تذمر من عدم وجود خرائط، لكن بمرور الوقت بدأت قاعدة السحب تنقشع لتظهر وراءها بوضوح مجموعات النجوم فرأى لطخة الضوء التي تمثل مجرة درب التبانة وبدأ يستدل على الاتجاهات بكوكبة الدب الأكبر والنجم القطبي. لكن تلك المعرفة القديمة كانت لا تعدو كونها حسابات غير دقيقة لطريقه، فكان طوال الوقت معرضا لخطر أن يضل الطريق. من وقت لآخر، كانت تطل من الظلام لافتة استرشادية بوضوح كمشنقة من القرن الثامن عشر، فكان يترجل ويسير بحرص نحوها على الطريق المتكسر، وهو يتوقع أن يسمع قعقعة السلاسل ويرى جسدا ذا رقبة ممدودة يتلوى ببطء، بينما يحاول بدائرة الضوء الضيقة للكشاف، التي كانت تبدو كعين باحثة، تبين أسماء القرى غير المعروفة المدونة عليها. كانت الليلة قد اشتدت برودة، ولاحت بادرة برد الشتاء القارس؛ فقد لفح الهواء، الذي لم يعد معبقا برائحة العشب ودفء الشمس، أنفه برائحة حادة تشبه رائحة مطهر باهتة، وكأنما اقتربوا من البحر. في كل مرة كان يطفئ فيها المحرك، كان يعم صمت مطبق. بينما كان يقف تحت لافته إرشادية تحمل أسماء تبدو وكأنها كتبت بلغة أجنبية، شعر بالتيه والغربة، وكأن تلك الحقول المظلمة المنعزلة والتراب تحت قدميه، وهذا الهواء الغريب عديم الرائحة، لم يعودوا موطنه الطبيعي، وكأنه لم يعد لجنسه المعرض للانقراض موطن ولا مكان آمن تحت تلك السماء اللامبالية.
بعد أن بدأت الرحلة بقليل، تباطأت أعراض المخاض لدى جوليان أو توقفت. قلل هذا من توتره؛ فالتأخير لم يعد كارثيا وصار بإمكانه أن يمنح الأولوية للأمان على حساب السرعة. لكنه كان يعرف أن التأخير كان يثير جزع المرأتين. وخمن أن أملهما الآن في الهروب، لأسابيع، أو حتى لأيام، من الوقوع في قبضه زان كان، كأمله، ضئيلا. إن كان المخاض مجرد إنذار كاذب، أو إن طالت مدته، فقد يقعون في قبضته قبل حتى أن يولد الطفل. من آن لآخر، كانت ميريام تميل للأمام لتطلب منه بهدوء أن يتوقف على جانب الطريق كي تنزل هي وجوليان لتتمشيا. وكان يخرج هو أيضا من السيارة ويتكئ عليها ليراقب ظليهما الداكنين وهما يتمشيان جيئة وذهابا على حافة الطريق، وكان يسمع صوتيهما الهامسين، ويدرك أنهما بعيدتان عنه بأكثر من مجرد بضع ياردات من طريق ريفي، وأنهما تتشاركان قلقا عظيما لا تشركانه به. لم تهتما كثيرا بالطريق؛ أو بالحوادث العرضية التي كانت تقابلهم أثناء الرحلة. فكل ذلك، حسبما استشف من صمتهما، كان شأنه هو.
لكن بحلول الصباح الباكر، أخبرته ميريام بأن انقباضات جوليان قد بدأت من جديد، وأنها قوية. لم تستطع إخفاء نبرة الانتصار في صوتها. وقبل مطلع الفجر، أدرك بالضبط أين هم. فآخر لافتة كانت تشير باتجاه تشيبينج نورتون. وقد حان الوقت لترك الجادات المتعرجة والمخاطرة بقطع البضعة الأميال الأخيرة على الطريق الرئيسي.
على الأقل صار سطح الطريق أفضل. ولم يعد ثمة داع لأن يقود وهو يخشى دوما من أن يثقب الإطار مرة أخرى. لم تمر بهم أي سيارة أخرى، وبعد أن قطع أول ميلين، استرخت يداه المتوترتان على مقود السيارة. كان يقود بسرعة لكن بحذر، متلهفا للوصول إلى الغابة دون أي تأخير. كان مؤشر الوقود قد بدأ يهبط لمقياس حرج، ولم يكن أمامه أي سبيل آمن للتزود بالوقود. أدهشه قصر المسافة التي قطعوها منذ أن بدءوا رحلتهم من سواينبروك. فقد خيل إليه أنهم يقطعون الطريق منذ أسابيع؛ كمسافرين متعبين مشئومين بلا زاد. كان يعرف أن ليس بيده ما يفعله لتجنب الوقوع في الأسر خلال تلك الرحلة التي من المؤكد أنها ستكون الأخيرة. إن صادفوا أحد حواجز الطريق التابعة لشرطة الأمن الوطني فلن يكون لديهم أي أمل في التملص منهم بالمماطلة أو المجادلة؛ فشرطة الأمن الوطني ليست مثل عصابة ذوي الوجوه المطلية. لم يكن أمامه سوى الاستمرار في القيادة والتمسك بالأمل.
من آن لآخر، كان يخيل له أنه سمع صوت لهاث جوليان وصوت ميريام تتمتم بعبارات طمأنة بصوت منخفض، لكنهما لم تتكلما إلا قليلا. بعد حوالي ربع ساعة، سمع ميريام تتحرك في الخلف ثم سمع صوت وقع شوكة منتظم على شيء خزفي. ناولته كوبا. «لقد احتفظت بالطعام حتى تلك اللحظة. جوليان تحتاج إلى كامل قواها أثناء الولادة. لقد خفقت البيضات مع الحليب وأضفت إليهم السكر. تلك حصتك، ولي مثلها. والباقي لجوليان.»
كان الكوب ممتلئا حتى ربعه فقط وعادة كان سيشمئز من ذلك المزيج المخفوق الحلو. لكنه الآن كان يتجرعه بنهم، ويرغب في المزيد، وعلى الفور أحس بمفعوله المقوي. أعاد إليها الكوب فأعطته قطعة بسكويت مدهونة بالزبد وفوقها شريحة من الجبن الصلب. في حياته لم يستشعر حلاوة طعم الجبن كما استشعرها الآن.
قالت ميريام: «اثنان لكل منا، وأربعة لجوليان.»
احتجت جوليان. «يجب أن نتقاسمها بالتساوي.» لكن شهقة ألم قطعت كلمتها الأخيرة.
سأل ثيو: «ألن تحتفظي بشيء منه.» «من ثلاثة أرباع علبة بسكويت ونصف رطل من الجبن؟ نحن بحاجة إلى قوانا الآن.» زاد البسكويت الجاف والجبن من ظمئهم فأنهوا الوجبة بشرب الماء من الإناء الصغير.
ناولته ميريام الكيس البلاستيكي وقد وضعت فيه الكوبين وأدوات المائدة فوضعه على أرضية السيارة. ثم أضافت قائلة، وكأنما خشيت أن يحمل كلامها على اللوم: «لم يحالفك الحظ يا ثيو. لكنك نجحت في الحصول على سيارة، وذلك لم يكن يسيرا. ودونها ما كان سيصبح أمامنا أي فرصة.»
تمنى لو أنها قالت: «لقد اعتمدنا عليك فلم تخذلنا.» وابتسم بحسرة عندما خطر له كيف أنه، وهو الذي لم يسع يوما لأن ينال استحسان أحد، كان يسعى لنيل رضاها وثنائها.
وصلوا أخيرا إلى أطراف شارلبوري. أبطأ سرعته، باحثا عن محطة فينستوك القديمة، ومنحنى الطريق. كان عليه أن يبحث عن الدرب المؤدي إلى الغابة على الجانب الأيمن بعد المنحنى مباشرة. كان معتادا على القدوم إليها من أكسفورد وحتى حينها كان يسهل أن يغفل عن المنعطف. أطلق تنهيدة ارتياح مسموعة عندما مر بالسيارة بجوار مباني المحطة، ثم سلك المنحنى، فرأى على يمينه صف الأكواخ الحجرية الذي استدل به على اقترابه من الدرب. كانت الأكواخ خاوية، ونوافذها موصدة بالألواح الخشبية، وتكاد تكون حطاما. لوهلة، تساءل إذا كان بإمكانهم أن يتخذوا من أحدها ملجأ؛ لكنها كانت مكشوفة وقريبة للغاية من الطريق. كان يعلم أن جوليان تريد أن تتوغل داخل الغابة.
قاد بحرص في الدرب وسط الحقول المهملة صوب الأشجار الكثيفة البعيدة. قريبا سيحل ضوء النهار. نظر إلى ساعة يده فوجد أن السيدة كولينز ستكون قد وصلت وحررت الزوجين العجوزين. بل إنهما على الأرجح يستمتعان الآن باحتساء قدح من الشاي، ويرويان محنتهما، فيما ينتظران وصول الشرطة. عندما بدل التروس كي ينجح في اجتياز جزء صعب من الدرب الصاعد، خيل إليه أنه سمع جوليان تشهق وتحدث صوتا غريبا بين النخير والأنين.
استقبلتهم الغابة فاتحة أذرعها الداكنة القوية. صار الدرب أضيق، وأطبقت عليهم الأشجار. كان على يمينهم جدار من الأحجار الجافة تهدم نصفه، فتبعثرت حجارته المكسورة على أرض الدرب. وضع ذراع النقل على ترس السرعة الأولى وحاول أن يحافظ على ثبات السيارة. بعد أن قطعوا حوالي ميل، مالت ميريام إلى الأمام وقالت: «أظن أننا سنتمشى لبعض الوقت. سيكون ذلك أسهل لجوليان.»
ترجلت المرأتان، واستندت جوليان إلى ميريام، وشقتا طريقهما بحرص فوق النقر والحجارة المنتشرة في الدرب. ظهر في أنوار السيارة الجانبية أرنب مجفل تسمر للحظة، ثم وثب أمامهم بذيله الأبيض. فجأة حدثت جلبة صاخبة واندفع شبح أبيض تبعه آخر خلال الشجيرات، وكادا يصطدمان بغطاء المحرك. كانت غزالة وصغيرها. جنحا إلى جانب الدرب، يشقان طريقهما عبر الشجيرات، ثم اختفيا وراء الجدار، وحوافرهما تقعقع فوق الحجارة.
من آن لآخر، كانت المرأتان تتوقفان وكانت جوليان تنحني بينما تسندها ميريام بذراعها. بعد أن تكرر ذلك للمرة الثالثة، أشارت ميريام لثيو أن يتوقف. وقالت: «أظن أن من الأفضل لها أن تركب في السيارة الآن. كم تبقى أمامنا؟» «ما زلنا على أطراف الريف المفتوح. قريبا جدا سننعطف يمينا. بعد ذلك سيكون أمامنا حوالي ميل.»
تابعت السيارة سيرها مرتجة. تبين أن المنعطف الذي يذكره كان مفترق طرق ولوهلة حار أي اتجاه يسلك. ثم قرر أن يسلك الاتجاه الأيمن؛ حيث كان الدرب، الذي كان لا يزال أضيق، ينحدر باتجاه الأسفل. فذلك حتما سيكون الطريق المؤدي للبحيرة، وسيليها سقيفة الحطب التي يذكرها.
صاحت ميريام: «هناك منزل على اليمين.» التفت فلاحظه في الوقت المناسب. كان كشبح بعيد يطل عبر فرجة ضيقة في كتلة الأشجار والشجيرات المتشابكة. كان يقف وحيدا في حقل واسع منحدر. قالت ميريام: «لا يصلح. فهو مكشوف للغاية. وليس ثمة مكان يمكن الاختباء فيه في الحقل. من الأفضل أن نتابع المسير.»
كانوا يدخلون إلى قلب الغابة. بدا كأن الدرب بلا نهاية. مع كل ياردة يقطعونها، كان الدرب يضيق أكثر وكان يسمع صوت احتكاك الأغصان بالسيارة. فوقهم، كانت الشمس الآخذة في السطوع تبدو مثل قرص من الضوء الأبيض المشتت لا يكاد يرى فوق الأغصان المتشابكة لأشجار البيلسان والزعرور. بينما كان يحاول باستماتة أن يتحكم في المقود، خيل إليه أنهم ينزلقون رغما عنهم في نفق من الظلمة الخضراء سينتهي بهم إلى سياج شجري لا يمكن اختراقه. كان يتساءل إذا كانت الذاكرة قد خانته، وإذا كان من المفترض أن يسلكوا الاتجاه الأيسر حين اتسع الدرب فجأة وظهرت أمامهم فرجة معشبة. ورأوا أمامهم الالتماعة الخافتة لصفحة مياه البحيرة.
أوقف السيارة على بعد بضع ياردات من ضفتها وترجل منها، ثم استدار لمساعدة ميريام على رفع جوليان من مقعدها. للحظة تشبثت به، وهي تتنفس بصعوبة، ثم تركته وابتسمت ومشت إلى حافة الماء وهي تستند بيدها إلى كتف ميريام. كان سطح البركة - فقد كانت أصغر من أن تكون بحيرة - مغطى بالأوراق الساقطة الخضراء والنباتات المائية فبدت كأنها امتداد للفرجة. تحت ذلك الغطاء الأخضر المتراقص كان سطح البركة لزجا كالدبس، ومحببا بالفقاعات الدقيقة التي كانت تتحرك ببطء وتلتحم أو تنقسم ثم تنفجر وتختفي. في الرقع التي لا تغطيها النباتات كان يرى انعكاس السماء بينما كانت الشبورة الصباحية تتبدد لينكشف ضوء الفجر المعتم. تحت تلك الصفحة اللامعة، في أعماق البحيرة الصفراء الباهتة، كانت فروع النباتات المائية والغصينات المتشابكة والأغصان المكسورة ترقد تحت طبقة من الطمي كأنها هياكل سفن غرقت منذ زمن طويل. على حافة البركة تجمعت كتل من القش الرطب على سطح الماء، وعلى مسافة كان هناك طائر غراء أسود صغير يعدو مسرعا في عجالة واضطراب وبجعة وحيدة تشق طريقها بجلال بين الحشائش. كانت البركة محاطة بأشجار الزان والدردار والقيقب التي نمت حتى كادت تبلغ حافة الماء، فبدت كخلفية براقة امتزج فيها الأخضر والأصفر والذهبي والبني الشاحب، لكنها مع ألوانها الخريفية عكست في ضوء الفجر شيئا من إشراق ونضارة الربيع. على الضفة المقابلة، كان هناك شجيرة تزينها الأوراق الصفراء، وكانت أفرعها وغصيناتها الدقيقة غير مرئية في ضوء الفجر فبدت كأنها حبيبات ذهبية صغيرة معلقة في الهواء.
تجولت جوليان بمحاذاة حافة البحيرة. ثم نادت قائلة : «الماء يبدو أصفى هنا والضفة متماسكة. المكان مناسب للاغتسال.»
انضما لها وجثا ثلاثتهم على ركبهم ووضعوا أذرعهم في البحيرة ونضحوا الماء البارد على وجوههم وشعورهم. بعث ذلك على السرور فجعلهم يضحكون. رأى ثيو أن يديه حركتا الماء فجعلتاه وحلا مخضرا. كان هذا الماء حتما غير آمن للشرب حتى إن غلي.
في طريقهم إلى السيارة، قال ثيو: «السؤال هو هل نتخلص من السيارة الآن أم لا. قد تكون هي أفضل مأوى يتسنى لنا الحصول عليه، لكنها ستلفت الأنظار، كما أن وقودها يوشك أن ينفد. على الأرجح لن تسير لأكثر من ميلين آخرين.»
كانت ميريام هي من أجابت. «تخلص منها.»
نظر إلى ساعة يده. كانت تشير إلى التاسعة إلا قليلا. خطر له أنه يمكنهم أن يستمعوا إلى نشرة الأخبار. على الأغلب ستكون تافهة ومتوقعة وغير مثيرة للاهتمام، لكن الاستماع إليها سيكون بمثابة لفتة توديعية قبل أن ينقطعوا تماما عن أخبار من سواهم. فاجأه أنه لم يفكر في المذياع من قبل، ولم يهتم بتشغيله خلال رحلتهم. فقد كان يقود السيارة بتوتر شديد كان من شأنه أن يجعل أي صوت غير مألوف لا يحتمل، حتى صوت الموسيقى. مد يده عبر النافذة المفتوحة وشغل المذياع. استمعوا بضجر إلى تفاصيل حالة الطقس، ومعلومات حول الطرق التي أغلقت رسميا أو التي لم تعد تخضع للصيانة، وإلى المشاكل المحلية البسيطة لعالم آخذ في التقلص.
كان يهم بإطفائه عندما تغيرت نبرة صوت مذيع النشرة لتصير أبطأ وأكثر تحذيرا. «تحذير. تستقل مجموعة صغيرة من المنشقين مكونة من رجل وامرأتين سيارة سيتزن زرقاء مسروقة بالقرب من حدود ويلز. ليلة أمس، أقدم الرجل الذي يعتقد أنه ثيودور فارون الأستاذ بجامعة أكسفورد، على الدخول عنوة إلى منزل خارج بلدة كينجتون، وقيد مالكيه وسرق سيارتهما. هذا وقد عثر على السيدة ديزي كوكس زوجة المالك هذا الصباح مقيدة في سريرها ومتوفاة. هذا الرجل مطلوب حاليا بتهمة ارتكاب جريمة قتل. وهو مسلح بمسدس. على كل من يرى السيارة أو الأشخاص الثلاثة عدم الاقتراب منهم والاتصال على الفور بشرطة الأمن الوطني. رقم لوحة ترخيص السيارة هي
MOA 694 . مرة أخرى الرقم هو
MOA 694 . طلب مني أن أكرر التحذير. الرجل مسلح وخطير. لا تقتربوا منه.» لم يدرك ثيو أنه أطفأ الجهاز. لم يشعر إلا بتسارع نبضات قلبه والبؤس المريع الذي انصب عليه وغلفه، بؤس يكاد يكون ملموسا كمرض مميت، وبهلع واشمئزاز من نفسه أثقلاه حتى كاد يخر على ركبتيه. قال في نفسه: إن كان ذلك هو الشعور بالذنب فأنا لا أقوى على تحمله. لن أتحمله.
سمع صوت ميريام. «إذن فقد وصل رولف إلى الحاكم. فهم يعرفون بأمر مهاجمة الأوميجيين لنا وأنه تبقى منا ثلاثة فقط. لكن ثمة أمر مطمئن على كل حال. فهم ما زالوا لا يعرفون أن الولادة وشيكة. لا يستطيع رولف إخبارهم بالتاريخ المتوقع للولادة. فهو لا يعرف. ويظن أن جوليان لا يزال أمامها شهر. ما كان الحاكم سيطلب قط من الناس أن يحذروا السيارة إن كان يعتقد أن ثمة فرصة لأن يجدوا بها رضيعا.»
قال بتبلد: «لا يوجد ما يطمئن. لقد قتلتها.»
جاءه صوت ميريام حاسما ومرتفعا على نحو غير طبيعي، يكاد يكون له وقع الصراخ على أذنيه. «لم تقتلها! لو كانت الصدمة ستقتلها لكانت ماتت عندما أشهرت المسدس لأول مرة. أنت لا تعلم سبب وفاتها. حتما ماتت ميتة طبيعية. كان ذلك سيحدث في كل الأحوال. فقد كانت امرأة عجوزا وقلبها عليلا. أنت أخبرتنا بذلك. هذا لم يكن خطأك يا ثيو، فأنت لم تتعمد ذلك.»
كاد يئن قائلا لا لم أتعمد ذلك. لم أتعمد أن أكون ابنا أنانيا، أو والدا غير محب، أو زوجا سيئا. متى تعمدت أي شيء؟ بحق المسيح، ما الضرر الذي لم يكن بوسعي فعله لو أني بدأت أتعمد ذلك!
قال: «أسوأ ما في الأمر هو أني تلذذت به. تلذذت به فعليا!»
كانت ميريام تفرغ السيارة من حمولتها، وتحمل الأغطية على كتفها، عندما قالت: «تلذذت بتقييد رجل عجوز وزوجته؟ أنت حتما لم تتلذذ بذلك. لقد فعلت ما أملاه عليك الموقف.» «ليس تقييدهما، ليس ذلك ما أعنيه. بل أعني أني تلذذت بشعور الإثارة والسلطة، ومعرفتي أني بوسعي فعل ذلك. لم يكن الأمر مريعا تماما. بالطبع كان مريعا لهم، لكن ليس لي.» لم تتكلم جوليان، بل دنت منه وأمسكت بيده. رفض لفتتها والتفت إليها بحدة. «كم حياة أخرى سيكلفنا طفلك حتى يولد؟ ولأي غاية؟ أنت هادئة جدا ومطمئنة جدا، وواثقة من نفسك للغاية. تتحدثين عن طفلة. فكيف ستكون حياة تلك الطفلة؟ تؤمنين أنها ستكون أول طفلة تولد، وأن أطفالا آخرين سيولدون من بعدها، وأنه في تلك اللحظة حتى قد يكون ثمة سيدات حوامل لا يدركن بعد أنهن يحملن بداخلهن حياة جديدة للعالم. لكن ماذا إن كنت مخطئة. ماذا إن كانت تلك الطفلة هي الوحيدة التي ستولد. أي جحيم ذلك الذي ستلقينها فيه؟ هل بإمكانك حتى أن تتخيلي الوحدة التي ستشعر بها في سنواتها الأخيرة؛ بعد أن تقضي عشرين عاما مريعة ستمر عليها دون أي أمل في أن تسمع أذناها صوتا بشريا قط؟ قط! يا إلهي، ألا تملك أي منكما مخيلة؟»
قالت جوليان بهدوء: «أتظن أني لم أفكر في ذلك، بل في أكثر منه؟ ثيو، ليس بوسعي أن أتمنى لو أني لم أحمل بها. لا يسعني إلا أن أشعر بالبهجة عندما أفكر فيها.» دون إضاعة أي لحظة، كانت ميريام قد أخرجت حقيبة السفر والمعطفين من حقيبة السيارة وأنزلت الغلاية والإناء المملوءين بالماء.
كان صوتها يحمل انزعاجا لا غضبا: «بربك يا ثيو، تمالك نفسك. كنا بحاجة إلى سيارة فأتيت لنا بواحدة. ربما كان من الممكن أن تختار واحدة أفضل وأن تحصل عليها بخسائر أقل. لكنك فعلت ما فعلت. إن كنت تريد أن تستسلم للشعور بالذنب، فذلك شأنك، لكن لتؤجل ذلك لوقت لاحق. حسنا، لقد ماتت المرأة وأنت تشعر بالذنب، وهو ليس بالشعور الممتع. يا للأسف! اعتده. لم عليك الهروب من الإحساس بالذنب؟ إنه أحد تبعات كونك بشرا. أولم تلحظ ذلك؟»
أراد ثيو أن يقول: «في الأربعين سنة الأخيرة فاتني أن ألحظ العديد من الأمور.» لكنه شعر أن تلك الكلمات التي كان لها وقع الاستغراق في الندم كانت غير صادقة ومبتذلة. بدلا من ذلك، قال: «من الأفضل أن نتخلص من السيارة، وبسرعة. لقد أجاب البث عن سؤالنا بخصوصها.»
حل مكابح السيارة وأسند كتفه إلى صندوقها وهو يحاول أن يثبت قدميه في العشب الذي يتخلله الحصى، ممتنا لأن الأرض كانت جافة ومنحدرة قليلا. تولت ميريام الجانب الأيمن ودفعاها معا. لبضع ثوان، لم تنجح جهودهما لسبب غير معلوم. ثم ما لبثت السيارة أن تحركت للأمام برفق.
قال: «ادفعيها دفعة قوية عندما أقول لك. لا نريد أن تعلق مقدمتها في الوحل.»
كانت العجلتان الأماميتان قد قاربتا حافة الماء عندما صاح: «الآن!» فدفعاها معا بأقصى ما بوسعهما من قوة. سقطت السيارة عن حافة البحيرة وارتطمت بالماء محدثة صوتا بدا كأنه أيقظ جميع طيور الغابة. فقد عج الهواء بالنداءات والصيحات واهتزت الأغصان الخفيفة للأشجار المرتفعة وكأن الحياة دبت بها. تطاير الرذاذ لأعلى فتناثر على وجهه. تمزق غطاء الأوراق الطافية على سطح الماء وتراقص. راقبا، وهما يلهثان، السيارة بينما استقرت في الماء وبدأت ببطء وهدوء تغرق ويدخل الماء خلال نوافذها المفتوحة. قبل أن تختفي، ودون تفكير، أخرج ثيو دفتر يومياته من جيبه وألقاه في البحيرة.
وبعد ذلك، ألمت به لحظة مريعة من الهلع، كانت تفاصيلها في خياله واضحة كالكابوس، لكنه كان كابوسا لا يمكن أن يأمل أن ينتهي بمجرد استيقاظه. تخيل أن ثلاثتهم محاصرون في السيارة الغارقة، والماء يتدفق إلى داخلها، وكان يبحث باستماتة عن مقبض الباب، بينما يحاول أن يحبس أنفاسه رغم الألم المبرح الذي كان يتأجج في صدره، يريد أن ينادي جوليان لكنه يعلم أنه لا يجرؤ على الكلام وإلا امتلأ فمه بالوحل. كانت هي وميريام في المقعد الخلفي تغرقان، ولم يكن بيده أن يفعل أي شيء لمساعدتهما. سال العرق من جبينه، وأطبق راحتيه المتعرقتين، وأبعد عينيه عن البحيرة وهول ما تخيل ونظر لأعلى إلى السماء، منتشلا عقله من هول خياله إلى هول الواقع. كان قرص الشمس باهتا ومستديرا كبدر يتوهج نوره وسط هالة من الضباب، وبدت أغصان الأشجار العالية سوداء في ضيائها المبهر. أغمض عينيه وانتظر ريثما ذهب عنه الخوف واستطاع أن يعود بناظريه إلى صفحة البحيرة.
نظر إلى جوليان وميريام متوقعا أن يرى على وجهيهما الهلع البين نفسه الذي لا بد أنه ارتسم على وجهه للحظة. لكنهما كانتا تنظران إلى السيارة الغارقة، وتراقبان بهدوء وباهتمام، يكاد يكون لا مباليا، تجمعات أوراق الشجر وهي تعلو وتهبط في تجعيدات الماء التي تنتشر، وكأنما تتدافع لتفسح مكانا. تعجب من هدوئهما، وقدرتهما الواضحة على تجاهل جميع الذكريات، وجميع الأهوال في خضم استغراقهما في اللحظة الحالية.
قال بصوت غليظ: «لوك. لم تتحدثا عنه مطلقا في السيارة. لم يرد اسمه على لسان أي منكما منذ أن واريناه الثرى. هل تفكران فيه؟» كان للسؤال وقع الاتهام.
رفعت ميريام عينيها عن البحيرة ونظرت إليه نظرة ثابتة. «نفكر فيه بقدر ما نجرؤ على ذلك. ما يهمنا الآن هو أن يولد طفله بأمان.»
دنت منه جوليان ولامست ذراعه. قالت، كأنما كان هو أكثر من يحتاج إلى الطمأنة: «سيحين وقت للحزن على لوك وجاسكوين. سيحين الوقت يا ثيو.»
غمر الماء السيارة وأخفاها عن الأنظار. كان يخشى أن يكون الماء عند حافة البركة ضحلا فيظهر سطح السيارة ولو من تحت القش، لكن عندما نظر للظلام القاتم بالأسفل، لم ير سوى دوامات الوحل.
قالت ميريام: «هل معك أدوات المائدة؟» «لا، أليست معك؟» «سحقا، لقد تركناها في مقدمة السيارة. لكن هذا لا يهم الآن. فلم يتبق معنا أي طعام لنأكله.»
قال: «من الأفضل أن نأخذ ما معنا إلى سقيفة الحطب. هي تبعد حوالي مائة ياردة على الجانب الأيمن من ذلك الطريق.»
صلى للرب في سره أن تكون لا تزال موجودة. كانت تلك هي المرة الأولى التي يصلي فيها منذ أربعين سنة، لكن كلماته لم تكن توسلا بقدر ما كانت أملا غيبيا بأن يستطيع، بطريقة ما، عن طريق شدة احتياجه، أن يوجد السقيفة. حمل على كتفه إحدى الوسائد ومعطفي المطر ثم التقط الغلاية المملوءة بالماء في يد وحقيبة السفر في اليد الأخرى. لفت جوليان بطانية ثانية على كتفيها وانحنت لتلتقط الإناء المملوء بالماء لكن ميريام أخذته من يدها وقالت: «احملي الوسادة. وأنا سأتولى حمل باقي الأغراض.»
وهكذا ساروا في الدرب ببطء مثقلين بحمولتهم. حينئذ سمعوا صوت الأزيز المعدني لمروحية. لم يكونوا بحاجة إلى الاختباء فقد كانوا شبه محصورين بين الأغصان المتشابكة لكن دفعتهم الغريزة لأن يخرجوا عن الدرب ويختبئوا بين شجيرات البيلسان الخضراء المتشابكة ويقفوا دون حراك وهم يكادون يكتمون أنفاسهم، وكأن صوت كل نفس يلتقطونه قد يبلغ ذلك الوحش المتلألئ المخيف، وتلك العيون الراصدة والآذان المصغية. علت الضوضاء حتى صارت قعقعة تصم الآذان. لا بد أنها فوق رءوسهم مباشرة. خيل لثيو أن الحياة قد تدب فجأة في الشجيرات التي يحتمون بها. ثم بدأت المروحية تدور في دائرة، فيهدأ أزيزها ثم تعود مرة أخرى لتجدد خوفهم. بعد خمس دقائق تقريبا، هدأ أخيرا ضجيج المحرك حتى صار مجرد همهمة بعيدة.
قالت جوليان بصوت خافت: «ربما لا يبحثون عنا.» كان صوتها ضعيفا، لكن فجأة انكمشت ألما وأمسكت بميريام.
كان صوت ميريام صارما. «لا أظنهم خرجوا في نزهة. على كل حال، لم يعثروا علينا.» التفتت إلى ثيو. «كم تبعد سقيفة الحطب تلك؟» «حوالي خمسين ياردة إن لم تخني الذاكرة.» «لنأمل أنها لم تخنك.»
اتسع الدرب فصار مرورهم أسهل، لكن ثيو الذي كان متخلفا قليلا عن المرأتين، شعر أن كاهله مثقل بأكثر من وزن المتاع الذي يحمله. بدا حينئذ تقييمه السابق لتقدم رولف المحتمل في طريقه متفائلا للغاية. لم سيشق طريقه ببطء وخلسة إلى لندن؟ ولم سيحتاج لأن يذهب بشخصه إلى الحاكم؟ كل ما يحتاج إليه هو هاتف عمومي. رقم المجلس معروف لكل مواطن. تلك السهولة الظاهرية في الوصول إليه هي جزء من سياسة الانفتاح التي يتبناها زان. لن تتمكن دوما من التحدث إلى الحاكم بنفسه، لكن بإمكانك دوما أن تحاول. بل إن بعض المتصلين كانوا ينجحون في ذلك. وهذا المتصل، فور أن يفصح عن هويته ويتحقق منها، سيكون له الأولوية . سيطلبون منه أن يختبئ، وألا يتحدث إلى أحد حتى يأتوا ليقلوه، بطائرة مروحية بالتأكيد. وعلى الأرجح هو في قبضتهم منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة.
ولن يواجهوا صعوبة في العثور على الهاربين. لا بد أن زان عرف بأمر السيارة المسروقة في الصباح الباكر، وبكمية الوقود التي كانت في خزانها، وعرف بدقة كم ميلا بإمكانهم أن يأملوا أن يقطعوه. ما عليه سوى أن يحدد نقطة على الخريطة ويرسم حولها دائرة. لم يكن لدى ثيو أي شك بشأن دلالة تلك المروحية. لقد بدءوا بالفعل في البحث عن طريق الجو، وتحديد المنازل المعزولة، والبحث عن التماعة سطح سيارة. وسيكون زان حتما قد نسق بالفعل البحث على الأرض. لكن بقي أمامهم أمل وحيد. قد لا يزال ثمة وقت كي يولد الطفل كما تريد أمه، في سلام، وفي خصوصية، دون أن يشهد ولادته سوى الشخصين اللذين تحبهما. لا يمكن أن يكون البحث سريعا؛ لقد كان بالتأكيد محقا بشأن ذلك. لن يريد زان أن يتدخل بالقوة أو أن يلفت أنظار العامة، ليس بعد، ليس قبل أن يتسنى له التحقق بنفسه من صحة رواية رولف. وسيوظف فقط رجالا مختارين بعناية لتلك المهمة. لا يسعه حتى التأكد من أنهم سيختبئون في غابة. لا بد أن رولف أخبره أن تلك كانت خطتهم الأصلية؛ لكن رولف لم يعد قائدهم.
كان يتشبث بذلك الأمل، ويحمل نفسه على التحلي بالثقة التي كان يعلم أن جوليان ستحتاجها منه، حينما أتاه صوتها. «ثيو، انظر. أليس ذلك بديعا؟»
استدار وتحرك إلى جوارها. كانت تقف بجانب شجرة زعرور طويلة مفرطة النمو محملة بحبات الزعرور الحمراء. من أعلى غصن بها تدلت جفلة بيضاء من الظيان، شفافة كالستار الرقيق، من ورائها تتلألأ حبات الزعرور كالجواهر. نظر إلى وجهها المنتشي، وقال في نفسه: أنا أدرك فحسب أنها جميلة، أما هي فبوسعها أن تشعر بجمالها ذاك. نظر وراءها إلى شجيرة بيلسان وبدا كأنه يرى بوضوح لأول مرة حباتها السوداء البراقة وسيقانها الحمراء الرقيقة. لوهلة شعر كأن الغابة قد تحولت من مكان مظلم ومخيف، كان يشعر في قرارة نفسه أن أحدهم سيلقى حتفه فيه، إلى ملاذ غامض وجميل، لا يعبأ بأولئك المتطفلين الثلاثة، لكنه مكان لا يشعر بأن أي شيء يسكنه غريب عنه تماما.
ثم سمع صوت ميريام فرحا ومبتهجا. «سقيفة الحطب لا تزال موجودة!»
الفصل الثاني والثلاثون
كانت السقيفة أكبر مما توقع. عكس المعتاد، صورتها له ذاكرته أصغر لا أكبر. ولوهلة تساءل إن كان ذلك المبنى ذو الجدران الثلاثة المصنوع من الخشب المسود، والذي يمتد لثلاثين قدما، هو سقيفة الحطب التي يذكرها. ثم رأى شجرة البتولا الفضية بجوار المدخل. آخر مرة رآها كانت مجرد شتلة، أما الآن فكانت أفرعها تعلو السقف. اطمأن إذ رأى أن السقف كان يبدو سليما، مع أن بعض ألواحه قد انزلقت. كان الكثير من الألواح في جانب السقيفة مفقودا أو مشروخا، وبدا أن السقيفة المائلة المنعزلة المتداعية لن تتحمل أكثر من بضعة فصول شتاء أخرى. غاصت ناقلة أخشاب ضخمة اعتراها الصدأ مائلة في منتصف الفرجة، وقد تشققت أطرها وتعفنت وبجوارها رقد إطار ضخم منفرد. لم يكن الحطب قد نقل بالكامل عندما انتهى قطع الأشجار، فكانت توجد كومة حطب لا تزال ترقد مرتبة بجوار شجرتين كبيرتين ساقطتين. كان جذعاهما العاريان يلمعان كالعظام المصقولة وكانت كتل وشظايا لحائها مبعثرة على الأرض.
بخطى بطيئة، تكاد تكون رسمية، دخلوا السقيفة، يتلفتون حولهم بعيون قلقة، كمستأجرين يضعون يدهم على مسكن مرغوب فيه لكن لا يعرفه أحد.
قالت ميريام: «هي على الأقل مكان يئوينا، وعلى ما يبدو يوجد ما يكفي من الحطب الجاف لإشعال نار.»
حتى بوجود سياج الشجيرات والشتلات المتشابكة وحافة الأشجار، كان المكان مكشوفا أكثر مما يذكر ثيو. كان أمانهم لا يعتمد على ألا ترى السقيفة بقدر ما كان يعتمد على احتمالية عدم مرور عابر سبيل بعمق الغابة. لكن ما كان يخشاه لم يكن مرور عابر سبيل. إن قرر زان بدء البحث على الأرض في ويتشوود، فلن يستغرق العثور عليهم سوى سويعات، مهما كان مخبؤهم مستترا.
قال: «لا أظن أننا يجب أن نخاطر بإشعال نار. ما مدى أهميتها لنا؟»
أجابت ميريام: «النار؟ ليست مهمة جدا الآن، لكنها ستكون كذلك عندما يولد الطفل ويذهب ضوء النهار. فالليالي لا تنفك تزداد برودة. ويجب أن يظل الطفل وأمه دافئين.» «إذن فسنخاطر بإشعالها، لكن ليس قبل أن تصبح ضرورية. فسيبحثون حتما عن الدخان.»
كان يبدو أن السقيفة تركت في عجالة، أو ربما كان العاملون بها يتوقعون العودة إليها لكنهم منعوا من ذلك أو قيل لهم إن المنشأة قد أغلقت أبوابها. فقد كان يوجد حزمتان من الألواح الخشبية القصيرة في الجانب الخلفي من السقيفة، وكومة من الحطب الصغير الحجم، وجزء من جذع شجرة يقف مستويا، من الواضح أنه كان يستخدم طاولة، فقد كان فوقه غلاية مهترئة من القصدير وفنجانان مطليان بالميناء تقشر طلاؤهما. كان السقف في ذلك الجزء سليما وكانت الأرض ناعمة هشة تغطيها النشارة والبرادة.
قالت ميريام: «المكان مناسب هنا.»
دفعت بقدمها النشارة وجرفتها حتى صنعت منها سريرا خشنا، وفرشته بمعطفي المطر، ثم ساعدت جوليان على الاستلقاء فوقه، ووضعت تحت رأسها وسادة. همهمت جوليان باغتباط، ثم استلقت على جانبها وضمت ساقيها إلى جسدها. فردت ميريام إحدى الملاءات وغطتها بها، ثم وضعت فوقها بطانية ومعطف لوك. ثم انشغلت هي وثيو بتوضيب ما معهم من مؤن؛ الغلاية والإناء المملوء بالماء المتبقي، والمناشف المطوية، والمقص، وقنينة المطهر. شعر ثيو أن مخزونهم الصغير ذلك غير كاف لدرجة تثير الشفقة.
جثت ميريام على ركبتيها بجوار جوليان وأشارت إليها برفق أن تستلقي على ظهرها. قالت لثيو: «لا مانع من أن تتمشى قليلا إن كنت تريد ذلك. سأحتاج إلى مساعدتك فيما بعد، لكن ليس الآن.»
خرج شاعرا للحظة بأنه مطرود دون مبرر، وجلس على جذع الشجرة الساقط. غمرته السكينة التي كانت تعم الفرجة. أغمض عينيه وأصغى. بعد وهلة شعر أن بوسعه أن يسمع ما لا حصر له من الأصوات الخافتة، التي لا تلتقطها في العادة الأذن البشرية، كصوت احتكاك ورقة شجر بغصنها، وطقطقة غصين يجف؛ أصوات عالم الغابة النابض بالحياة، عالم سري كدود، غافل عن الدخلاء الثلاثة أو غير عابئ بهم. لكنه لم يسمع أي أصوات بشرية، لا وقع أقدام، ولا صوت سيارة بعيدة تقترب، ولا أزيز المروحية عائدة. جرؤ على أن يأمل أن يكون زان قد استبعد أن يكونوا مختبئين في غابة ويتشوود، وعلى أن يأمل في أن يكونوا آمنين، على الأقل لبضع ساعات، لوقت كاف لأن يولد الطفل. وللمرة الأولى، فهم ثيو رغبة جوليان في أن تضع طفلها في السر، وتقبلها. فتلك الغابة التي كانوا يلوذون بها، وإن كانت لا تفي بالغرض، ستكون بلا شك أفضل من الخيار البديل. مرة أخرى، تخيل الخيار البديل؛ السرير المرتفع المعقم، الذي تحفه مجموعات الآلات التي وضعت تحسبا لأي طارئ طبي محتمل، وأطباء التوليد البارزين، الذين استدعوا من تقاعدهم، يقفون معا مرتدين الكمامات والأردية الطبية، لأنه بعد مرور خمسة وعشرين عاما كان الأمل أكبر في اجتماع ذاكرتهم وخبرتهم، وكل منهم متلهف لأن ينال شرف توليد ذلك الطفل المعجزة، ومع ذلك يخشى نوعا ما تلك المسئولية الرهيبة. تصور المساعدين، والممرضات والقابلات اللواتي يرتدين أرديتهن المهنية، وأطباء التخدير، ووراءهم تبرز كاميرات التلفاز وطواقمه، والحاكم يجلس وراء شاشته ينتظر أن يذيع النبأ للعالم المترقب.
لكن جوليان لم تكن تخشى فحسب انتهاك خصوصيتها، وامتهان كرامتها. كانت تعتبر زان شريرا. كان للكلمة وزن لديها. لقد رأت بعين بصيرتها ما يكمن وراء قوته وجاذبيته وذكائه وحس فكاهته النابع لا من خواء روحه بل من ظلمتها. أيا ما كان يخبئه المستقبل لطفلها، كانت لا تريد أن يحضر ولادته أي شخص شرير. كان الآن يفهم تمسكها باختيارها الذي بدا له وهو يجلس وسط تلك السكينة والهدوء صائبا ومنطقيا. لكن تصلب رأيها ذلك كلف شخصين حياتهما، أحدهما والد طفلها. قد تزعم أن الخير يمكن أن يولد من رحم الشر؛ فأن تزعم أن الشر يمكن أن يأتي من رحم الخير كان بلا شك أصعب. كانت تثق في رحمة وعدالة إلهها الواسعتين، لكن هل كانت تملك خيارا آخر؟ فهي لم يعد لديها القدرة على التحكم في حياتها مثلما لم تكن تملك القدرة على إيقاف أو التحكم في قوى الطبيعة التي كانت، في تلك اللحظة، تمدد جسدها وتعتصره ألما. إن كان إلهها موجودا، فكيف له أن يكون إله محبة؟ كان ذلك السؤال قد أصبح مبتذلا وشائعا، لكنه لم يسمع إجابة مرضية عنه قط.
أصغى مجددا للغابة، لأصوات حياتها السرية. كانت الأصوات، التي يبدو أنها كانت تزداد كلما أصغى، مخيفة ومرعبة؛ صوت حيوان جارح يعدو وينقض على فريسته، والقسوة والرضا في الاقتناص، والصراع الغريزي على الطعام، وعلى البقاء. كان الألم هو النسيج الذي يربط جميع أجزاء العالم المحسوس، صرخة الحلق وصرخة القلب. إن كان لإلهها يد في ذلك العذاب، إن كان هو خالقه وحافظه، إذن فهو إله الأقوياء لا الضعفاء. تأمل الفجوة التي تفصل بينه وبين جوليان، فجوة صنعها إيمانها، لكن دون ارتياع. لم يكن يملك أن يسدها، لكنه كان يملك أن يعبرها. وربما في النهاية، سيكون الحب هو الجسر الذي سيمكنه من عبورها. كم كانت معرفته بها ضئيلة وكذلك معرفتها به. كانت مشاعره تجاهها غامضة وغير منطقية. كان يحتاج لأن يفهمها، لأن يحدد طبيعتها، لأن يحلل ما لا يقبل التحليل. لكن بعض الأمور كانت جلية له الآن، وربما كانت تلك الأمور هي كل ما كان يحتاج إلى معرفته. لم يكن يتمنى لها إلا الخير. ويقدم مصلحتها على مصلحته. لم يعد قادرا على فراقها. وكان مستعدا للموت من أجلها.
اخترق السكون صوت أنين تبعه صرخة حادة. في السابق كان يمكن أن تثير خجله، وخوفه المهين من أن يعتبر غير كاف. أما الآن، فلم يشعر إلا بحاجته لأن يكون إلى جوارها، فهرع إلى السقيفة. كانت مستلقية مجددا على جانبها بهدوء، وابتسمت ومدت يدها إليه. كانت ميريام جاثية بجوارها.
قال: «ماذا بإمكاني أن أفعل؟ دعيني أبقى معك. هل تريدين أن أبقى؟»
قالت جوليان بصوت متزن كأنما لم يصدر عنه للتو تلك الصرخة الحادة: «بالطبع يجب أن تبقى. نريدك أن تبقى. لكن ربما كان من الأفضل أن تبدأ في جمع الحطب للنار الآن. كي يكون جاهزا لإشعاله عندما نحتاج إليه.»
رأى أن وجهها كان متورما، وحاجبيها كانا متعرقين. لكنه كان مندهشا من سكونها وهدوئها. الآن صار لديه ما يفعله، لديه مهمة يثق في قدرته على أدائها. إن استطاع أن يجد نشارة أخشاب جافة تماما فسيكون ثمة أمل في أن يستطيع إشعال نار دون دخان كثيف. كان الهواء ساكن تماما في ذلك اليوم، ومع ذلك يجب أن يحرص وهو يصنعها على ألا يتطاير أي دخان على وجه جوليان أو وجه طفلها. الجانب الأمامي من السقيفة سيكون أفضل مكان؛ حيث السقف مكسور لكنه يظل قريبا كفاية لتدفئة الأم وطفلها. وسيحتاج لأن يحتويها وإلا فقد تتأجج وتحرق كل شيء. ستصلح بعض الحجارة من الجدار المتهدم لصنع مستوقد جيد. خرج ليجمعها، مختارا إياها بعناية حسب أحجامها وأشكالها. خطر له أن بإمكانه استخدام بعض الحجارة المسطحة لصنع مدخنة. عاد، ورص الحجارة في حلقة، وملأها بأجف نشارة وجدها، ثم وضع فيها بضعة غصينات. وأخيرا وضع الحجارة المسطحة فوق الحلقة، موجها الدخان إلى خارج السقيفة. عندما انتهى من مهمته، شعر برضا طفل صغير. وعندما رفعت جوليان رأسها وضحكت مبتهجة شاركها الضحك.
قالت ميريام: «سيكون من الأفضل إن جثوت بجوارها وأمسكت بيدها.»
خلال نوبة الألم التالية قبضت على يده بشدة جعلت براجمه تطقطق.
عندما رأت ميريام وجهه، وحاجته الملحة إلى الطمأنة، قالت: «هي بخير. هي على ما يرام. لا يمكنني إجراء فحص داخلي. لن يكون ذلك آمنا في الوقت الحالي. فليس معي قفازات معقمة وقد نزل ماء الولادة. لكني في تقديري أن عنق الرحم قد تمدد تماما. وستكون نوبة الانقباضات القادمة أسهل.»
قال لجوليان: «عزيزتي، ماذا أستطيع أن أفعل لك؟ أخبريني ماذا بإمكاني أن أفعل.» «فقط ابق ممسكا بيدي.»
بينما هو جاث على ركبتيه بجوارهما، تأمل بإعجاب ميريام، والثقة الهادئة التي تمارس بها فنها القديم حتى بعد مرور خمس وعشرين سنة، ويديها البنيتين الرفيقتين وهما تستقران على بطن جوليان، وصوتها الذي يتمتم بعبارات مطمئنة: «استريحي الآن، ثم سايري نوبة الانقباضات التالية. لا تقاوميها. وتذكري تنفسك. لا بأس يا جوليان، لا بأس.»
عندما بدأت النوبة الثانية من المخاض، طلبت من ثيو أن يجثو خلف ظهر جوليان ويسند جسدها، ثم أمسكت بقطعتي خشب صغيرتين ووضعتهما عند قدميها. جثا ثيو وأسند إليه جسد جوليان ولف ذراعيه من تحت نهديها. استندت إلى صدره، وقدماها تقبضان بشدة على قطعتي الخشب. نظر إلى وجهها، الذي بدا لوهلة غريبا عنه، فقد كان محتقنا ومتورما، بينما كانت تهمهم وتلهث بين ذراعيه، في نوبة السكينة التالية، التي جاءت فأزاحت بطريقة غامضة عنها الألم والجهد، فكانت تلتقط أنفاسها بهدوء وعيناها مثبتتان على ميريام، تنتظر نوبة الانقباضات التالية. في تلك اللحظات، بدت ساكنة للغاية حتى كاد يظن أنها نامت. كان وجهاهما قريبين للغاية فكان من آن لآخر يمسح عرقها الذي اختلط بعرقه. عزلهما ذلك الحدث البدائي، الذي كان متفرجا ومشاركا فيه في آن واحد، في برزخ زمني، لم يكن يهم فيه شيء، لم يكن يهم سوى الأم ورحلة طفلها المؤلمة المظلمة من حياته السرية في رحم أمه حتى يخرج إلى النور. كان يسمع تمتمات ميريام المتواصلة الهادئة المصرة، تمتدح وتشجع وتعطي الإرشادات، بسرور تستحث الطفل على الخروج إلى العالم، وخيل له أن القابلة ومريضتها قد صارتا امرأة واحدة، وأنه هو أيضا، قد صار جزءا من تلك العملية المؤلمة المجهدة، جزء غير ضروري لكنه مقبول عن طيب خاطر، ومع ذلك أخفي عنه جوهر السر الغامض. وتمنى في لحظة من الضيق والحسد، لو أن ذلك الطفل، الذي يبذلون كل ذلك الجهد المضني ليخرج إلى العالم، كان طفله.
ثم ما لبث أن رأى مذهولا رأس الطفل وقد بدأ يخرج، رأس مدور زلق تلتصق به خصلات شعر داكنة.
سمع صوت ميريام خافتا منتصرا. «لقد بدأ الرأس يظهر. توقفي عن الدفع يا جوليان. التقطي أنفاسك فحسب الآن.»
كانت جوليان تلهث كرياضي أنهى لتوه سباقا صعبا. أطلقت صرخة واحدة، وبصوت تعجز الكلمات عن وصفه دفع الرأس في يدي ميريام المتأهبتين. أمسكت به وأدارته برفق ، وعلى الفور، بدفعة أخيرة، خرج الطفل إلى العالم بين ساقي والدته وسط دفقة من الدماء، فحملته ميريام ووضعته على بطن أمه. كانت جوليان مخطئة بشأن جنسه. فقد كان الطفل ذكرا. كان جنسه واضحا في غير تكافؤ مع جسده الصغير الغض، وكأنه إثبات.
بسرعة، غطته ميريام بالملاءة والبطانية اللتين كانتا تغطيان جوليان، فجمعتهما معا. وقالت: «أرأيت، لقد وضعت ابنا ذكرا.» وضحكت.
خيل لثيو أن صوتها المبتهج بالنصر كان يجلجل داخل السقيفة البالية. نظر إلى ذراعي جوليان الممدودتين ووجهها الذي شوه قسماته الألم، ثم أشاح بنظره. كانت السعادة التي يشعر بها أكثر مما يطيق.
سمع صوت ميريام تقول: «يجب أن أقطع الحبل السري، ثم لاحقا سأتخلص من المشيمة. من الأفضل أن تشعل النار الآن يا ثيو، ولتر إن كنت تستطيع أن تسخن الغلاية. فستحتاج جوليان إلى مشروب ساخن.»
عاد إلى المستوقد المؤقت الذي صنعه. كانت يداه ترتعشان فانطفأ أول عود ثقاب أشعله. لكن عندما أشعل العود الثاني، أمسكت النار بالنشارة فاشتعلت وعلا لهيبها وكأنما يحتفي بالطفل، فامتلأت السقيفة برائحة دخان الخشب. ألقمها بعناية بغصينات وقطع لحاء، ثم استدار ليمسك بالغلاية. لكن تلك اللحظة وقعت كارثة. كان قد وضع الغلاية بالقرب من النار، فعندما خطا للخلف، ركلها. سقط غطاؤها عنها ورأى مرتاعا مخزونهم الثمين من الماء ينسكب على برادة الخشب ويلطخ التراب. كانوا بالفعل قد استنفدوا الماء في الإناءين. والآن لم يعد معهم أي ماء.
انتبهت ميريام لصوت ارتطام حذائه بالمعدن. كانت لا تزال مشغولة بالطفل، فقالت دون أن تدير رأسها: «ماذا حدث؟ هل كانت تلك الغلاية؟»
قال ثيو بأسى: «أنا آسف. لقد وقع أمر مريع. لقد سكبت الماء.»
نهضت ميريام واقتربت منه. قالت بهدوء: «كنا سنحتاج إلى المزيد من الماء على أي حال، المزيد من الماء والطعام. يجب أن أظل مع جوليان إلى أن أتأكد من أنه صار من الآمن أن أتركها، ثم سأعود إلى المنزل الذي مررنا به في طريقنا. إن حالفنا الحظ فسيكون الماء ما زال واصلا إليه، أو ربما يكون به بئر.» «لكنك ستضطرين لعبور الحقل المكشوف. سيرونك.»
قالت: «يجب أن أذهب يا ثيو. نحن بحاجة لعدة أغراض. أنا مضطرة لأن أخوض تلك المخاطرة.»
لكنها كانت تحاول أن تتصرف بلطف. فقد كان الماء هو أكثر ما يحتاجون إليه، وكان ذلك خطأه.
قال: «دعيني أذهب أنا. ابقي أنت معها.»
قالت ميريام: «هي تريدك أنت معها. بعد أن ولد الطفل، صارت تحتاجك أكثر مما تحتاجني. يجب أن أتأكد أن قاع الرحم قد التأم جيدا وأن المشيمة خرجت بالكامل. بعد أن أنتهي من ذلك، سيكون من الآمن أن أتركها. حاول أن تقرب الطفل من ثديها. فكلما بدأ الرضاعة مبكرا كان أفضل.»
رأى ثيو أنها تستمتع بشرح أسرار مهنتها، وباستخدام كلمات لم ترد على لسانها لسنوات عديدة إلا أنها لم تنسها.
بعد عشرين دقيقة كانت مستعدة للانطلاق. دفنت المشيمة وحاولت أن تنظف الدم من يديها بحكهما بالعشب. ثم وضعتهما، تلك اليدين الرفيقتين الخبيرتين، لمرة أخيرة على بطن جوليان.
قالت: «يمكنني أن أغتسل في البحيرة في طريقي. يمكنني أن أتقبل وصول ابن خالتك بهدوء إن كنت متأكدة أنه سيوفر لي حماما بماء دافئ ووجبة من أربعة أصناف قبل أن يرديني. من الأفضل أن آخذ الغلاية. سأسرع قدر الإمكان.»
دون تفكير، لفها بذراعيه وضمها لبرهة وقال: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم أفلتها وراقبها تركض بخطواتها الواسعة الرشيقة عبر الفسحة وغابت عن نظره تحت الأغصان المتدلية فوق الدرب.
الفصل الثالث والثلاثون
لم يكن الطفل بحاجة إلى أي تشجيع على الرضاعة. كان طفلا مفعما بالحيوية، نظر إلى ثيو بعينيه اللامعتين غير المركزتين، ملوحا بكفيه اللذين بدوا كنجمتي بحر، بينما أسند رأسه إلى ثدي أمه، وفمه الصغير يبحث بنهم عن حلمتها. كان من المدهش أن يتمتع مخلوق حديث عهد بالحياة مثله بذلك القدر من النشاط. رضع ثم نام. استلقى ثيو بجوار جوليان ولفهما بذراعه. شعر بملمس شعرها الناعم المتعرق على وجنته. واستلقيا على الملاءة المتسخة المكرمشة وسط رائحة الدم والعرق والفضلات، إلا أنه لم يشعر في حياته قط بسلام كالذي شعر به، ولم يدرك من قبل أن البهجة يمكن أن تمتزج بعذوبة بالألم. استلقيا شبه نائمين في سكون تام، وبدا لثيو أن جسد الطفل الدافئ يفوح برائحة الرضع الغريبة المحببة، جافة ونفاذة كرائحة الكلأ، كانت غير دائمة لكنها طغت حتى على رائحة الدم.
ثم تململت جوليان وقالت: «كم مر من الوقت منذ أن غادرت ميريام؟»
رفع رسغه الأيسر مقربا إياه من وجهه. «أكثر من ساعة بقليل.» «لا يفترض أن تستغرق كل ذلك الوقت. اعثر عليها رجاء يا ثيو.» «لا نحتاج إلى الماء فحسب. إن كان المنزل لا يزال مفروشا فسيكون به أغراض أخرى تريد أن تجمعها.» «لكنها لن تحضر سوى القليل منها في المرة الأولى. بإمكانها أن تعود إلى هناك في أي وقت؛ فهي تعلم أننا سنكون قلقين. اذهب إليها رجاء. أنا متيقنة من أن شيئا وقع لها.» رأت تردده، فقالت: «سنكون كلانا بخير.»
استخدامها لصيغة المثنى، وما رأى في عينيها عندما نظرت إلى طفلها، كادا يوهنان عزمه. قال: «من الممكن أن يكونوا قريبين جدا الآن. وأنا لا أريد أن أتركك. أريد أن نكون معا عندما يأتي زان.» «سنكون معا يا عزيزي. لكن ربما تكون ميريام واقعة في مأزق، ربما تكون محاصرة أو مجروحة، تنتظر المساعدة بفارغ الصبر. يجب أن أتأكد يا ثيو.»
لم يبد مزيدا من الاعتراض، بل نهض قائلا: «سأعود بسرعة قدر الإمكان.»
وقف صامتا لبضع لحظات خارج الكوخ وأصغى. أغمض عينيه عن ألوان الخريف التي كست الغابة، وعن شعاع ضوء الشمس المنعكس على اللحاء والعشب، كي يتمكن من تركيز جميع حواسه في حاسة السمع. إلا أنه لم يسمع أي شيء، ولا حتى تغريد طائر. ثم مثل عداء سريع، انطلق يعدو متجاوزا البحيرة، وعبر النفق الشجري الضيق متجها إلى مفترق الطرق، وهو يثب فوق الأخاديد والحفر، ويشعر بحوافها الجافة تتزعزع تحت قدميه، مخفضا رأسه ومائلا بجسده ليعبر من تحت الأغصان المنخفضة المتشابكة. وفي ذهنه امتزج الخوف والأمل. كان من الجنون ترك جوليان. إن كان رجال شرطة الأمن الوطني قريبين وإن كانت ميريام قد وقعت في قبضتهم، فلن يكون بوسعه مساعدتها الآن. وإن كانوا قريبين لتلك الدرجة، فسيكون عثورهم على جوليان وطفلها مسألة وقت فحسب. كان من الأفضل أن يظل معها وينتظرا، ينتظرا من الصباح المشرق حتى العصر ويتأكدا أنه لا أمل في رؤية ميريام مجددا، ينتظرا حتى يسمعا وقع الأقدام على العشب.
لكنه قال لنفسه، في محاولة مستميتة لطمأنتها، إن ثمة احتمالات أخرى. كانت جوليان محقة. ربما تعرضت ميريام إلى حادث، ربما سقطت وهي الآن مستلقية على الأرض تتساءل كم أمامه من الوقت حتى يأتي. انشغل ذهنه بتصور كارثة وقعت لها، ربما صك باب خزانة مؤن وراءها، أو سقطت في فتحة بئر متهدم لم تره، أو انهار تحتها أحد ألواح سقف متعفن. حاول أن يحمل نفسه على اليقين، أن يقنع نفسه أن ساعة واحدة هي زمن ضئيل، وأن ميريام مشغولة بجمع جميع الأغراض التي قد يحتاجون إليها، وحساب ما الذي تستطيع حمله من تلك المؤن الثمينة، وما الذي يمكن تركه حتى وقت لاحق، ناسية في خضم انشغالها بجمع المؤن كم تبدو تلك الدقائق الستون طويلة في نظر من في انتظارها.
كان قد وصل إلى مفترق الطرق ولاح أمامه، من خلال الفرجة الضيقة والسياج الواسع من الشجيرات غير الكثيفة، الحقل المنحدر وسقف المنزل. وقف لوهلة يلتقط أنفاسه، مائلا بجسده للأمام كي يخفف الألم المبرح الذي شعر به في جانبه، ثم انطلق بين نباتات القراص، والأشواك، والغصينات المتكسرة حتى خرج إلى ضوء النهار الساطع للريف المفتوح. لم يجد أي أثر لميريام. عبر الحقل، مبطئا من سرعته، مدركا أنه مكشوف وشاعرا بقلق عميق، حتى وصل إلى المنزل. كان عبارة عن مبنى قديم له سقف غير مستو من القرميد المكسو بالعفن ومداخن طويلة على الطراز الإليزابيثي، ربما كان بيت مزرعة فيما مضى. كان يفصله عن الحقل حائط منخفض مبني من الحجارة دون ملاط. كان يمر بمنتصف القفر، الذي كان يوما حديقته الخلفية، جدول ضيق يتدفق ماؤه من مصرف أعلى إلى ضفته التي يمر فوقها جسر خشبي بسيط يؤدي إلى الباب الخلفي. كانت نوافذ المنزل صغيرة وبلا ستائر، والسكون يعم الأرجاء. كان المنزل كالسراب - رمز الأمان والرتابة والسكينة التي كان يرنو إليها - الذي سيتلاشى أمام عينيه بمجرد أن يمسه. في ذلك السكون، كان صوت خرير ماء الجدول عاليا كصوت سيل جارف.
كان الباب الخلفي مصنوعا من خشب البلوط الأسود المحاطة أطرافه بالحديد. وكان مواربا. دفعه لينفتح أكثر فغمر ضياء شمس الخريف الناعم الأجحار التي رصف بها الممر المؤدي إلى الجانب الأمامي للمنزل بلون ذهبي. مرة أخرى، وقف لوهلة وأصغى. فلم يسمع أي شيء، ولا حتى تكات عقارب ساعة. على يساره كان يوجد باب من خشب البلوط، خمن أنه يؤدي إلى المطبخ. لم يكن موصدا فدفعه برفق ليفتحه. بعد سطوع النهار في الخارج، كانت الغرفة معتمة ولوهلة لم تبصر عيناه شيئا حتى تأقلمتا على العتمة التي زادت من حدتها الدعائم الخشبية المصنوعة من البلوط الداكن، والنوافذ الصغيرة التي كان يغطيها الغبار. شعر ببرودة رطبة، وبصلابة الأرضية الحجرية وبلسعة في الهواء، وشم أثر رائحة في الهواء، أدرك على الفور أنها رائحة بشرية مريعة، كرائحة خوف مستديم. تحسس الحائط بحثا عن مفتاح الإضاءة، وعندما وجده لم يكن يتوقع أن تكون الكهرباء لا تزال موجودة. لكن الأنوار أضيئت، وحينئذ رآها.
كانت مخنوقة وجثتها ملقاة على كرسي كبير من الخوص على يمين المدفأة. كانت راقدة هناك ممددة، وساقاها غير مستقيمتين، وذراعاها تتدليان من طرفي الكرسي، ورأسها مائلا للخلف والحبل مغروسا في جلدها حتى كاد يختفي فيه. فور أن لمحتها عيناه، انتابه هلع شديد فترنح حتى الحوض الحجري تحت النافذة وتقيأ بشدة لكن دون جدوى. كان يريد أن يقترب منها، ويغلق عينيها، ويلمس يدها، أن يقوم بأي لفتة تجاهها؛ فقد كان مدينا لها بأكثر من أن يشيح بوجهه عن مشهد موتها المريع ويتقيأ اشمئزازا. لكنه كان يعلم أنه لن يقوى على لمسها أو حتى النظر إليها مرة أخرى. مستندا بجبهته على الحوض الحجري البارد، مد يده ليفتح الصنبور فتدفق الماء البارد على رأسه. تركه يتدفق وكأنما سيغسل عنه الهلع والأسف والخزي. أراد أن يرجع رأسه للوراء ويصرخ منفسا عن غضبه. وقف عاجزا لبضع ثوان، أسيرا لمشاعر جعلته غير قادر على الحركة. ثم أغلق الصنبور، ومسح الماء عن عينيه وعاد إلى أرض الواقع. كان عليه أن يعود إلى جوليان بأسرع ما يمكن. رأى على الطاولة ثمرة بحث ميريام الهزيلة. كانت قد وجدت سلة كبيرة من الخوص ووضعت بها ثلاث علب طعام، وفتاحة علب وزجاجة مياه.
لكنه لم يستطع ترك ميريام على حالها. يجب ألا يراها لآخر مرة على تلك الحال. مهما كانت الحاجة للعودة إلى جوليان والطفل، كان مدينا لها بمراسم بسيطة. نهض محاربا خوفه واشمئزازه وحمل نفسه على النظر إليها. ثم انحنى وحل الحبل من حول رقبتها، وأراح خطوط وجهها وأغلق عينيها. شعر بالحاجة لأن يخرجها من ذلك المكان المريع، فحملها بين ذراعيه وأخرجها من المنزل إلى ضوء النهار، ثم وضعها بحرص على الأرض تحت شجرة دردار. ألقت أوراقها، التي بدت كألسنة من اللهب، بوهج على بشرتها السمراء الشاحبة فجعلت عروقها تبدو كأنها لا تزال تنبض بالحياة. كان وجهها يبدو ساكنا. عقد ذراعيها أمام صدرها، وخيل إليه أن جسدها الجامد ما زال قادرا على التواصل معه، على إخباره أن الموت ليس هو أسوأ مصير للإنسان، وأنها باقية على عهدها مع أخيها، وأنها فعلت ما عزمت على فعله. لقد ماتت هي لكن حياة جديدة ولدت. تخيل ميتتها المريعة القاسية، فقال في نفسه إن جوليان بلا شك ستقول إنه حتى ذلك الفعل الهمجي يمكن أن يغتفر. لكن ذلك لم يكن معتقده. وقف متسمرا لبرهة ينظر للجثة، وأقسم على نفسه أن يأخذ بثأر ميريام. ثم التقط السلة المصنوعة من الخوص ودون أن يلتفت للخلف، انطلق يعدو من الحديقة عابرا الجسر، ثم دخل إلى الغابة.
كانوا بلا شك قريبين. وكانوا حتما يراقبونه. كان متأكدا من ذلك. لكنه الآن كان يفكر بوضوح، وكأنما نشط الهلع عقله. ماذا ينتظرون؟ لم تركوه يذهب؟ لم يكونوا بحاجة لأن يتبعوه. إذ لا بد أنهم كانوا يدركون أنهم أوشكوا على الوصول إلى نهاية رحلة بحثهم. كان متيقنا من أمرين؛ أن فرقة البحث ستكون صغيرة، وأن زان سيكون ضمنها. لم يكن قتلة ميريام ضمن فرقة بحث استطلاعية منفصلة لديها تعليمات بالعثور على الهاربين، مع عدم التعرض لهم، وإبلاغ الفرقة الرئيسية بمكانهم. لن يخاطر زان قط بأن يعثر أحد سواه، أو شخص يثق فيه ثقة عمياء، على امرأة حبلى. لن يطلق حملة بحث عامة لتقفي أثر ذلك الصيد الثمين. كان متيقنا من أن زان لم يحصل على أي معلومات من ميريام. فقد كان يتوقع أن يجد امرأة في مراحل الحمل الأخيرة لا يزال أمامها بضعة أسابيع حتى تضع مولودها وليس أما وطفلها. وحتما لم يكن يريد أن يثير خوفها، أو أن يتسبب في بدء المخاض مبكرا. ألهذا السبب خنقت ميريام ولم ترد بالرصاص؟ حتى من تلك المسافة لم يرد أن يخاطر بسماع صوت إطلاق الرصاص.
لكن ذلك الاستدلال لم يكن منطقيا. إن كان ما يريده زان هو حماية جوليان، وضمان احتفاظها بهدوئها من أجل الولادة التي يظن أنها وشيكة، فلم يقتل القابلة التي تثق فيها بتلك الطريقة المريعة؟ لا بد أنه كان يعلم أن أحدهما، وربما كليهما، سيأتي للبحث عنها. كان محض صدفة أنه هو، ثيو، وليس جوليان، هو من واجه مشهد لسانها المنتفخ المتدلي من فمها، وعينيها الجاحظتين الخاويتين، وباقي المشهد المرعب داخل ذلك المطبخ المريع. أكان زان مقتنعا أن الطفل قد أوشك أن يولد فلن يؤذيه أي شيء الآن مهما كان صادما؟ أم كانت لديه حاجة ملحة لأن يتخلص من ميريام، أيا كانت تبعات ذلك؟ لم يأخذها أسيرة ويكلف نفسه عناء التعقيدات التي ستنجم عن ذلك إن كان بإمكانه التخلص من تلك المشكلة بخنقها سريعا بحبل؟ بل ربما كانت تلك الفعلة الشنيعة متعمدة. هل أراد بها أن يعلن لهما أن «هذا ما أنا قادر على فعله، هذا ما فعلته. لم يبق سواكما في مؤامرة جماعة «السمكات الخمس »، ولا أحد سواكما يعرف حقيقة والدي الطفل. وقد صرتما تحت سلطتي وستظلان خاضعين لها إلى الأبد»؟
أم أن خطته كانت أكثر جرأة من ذلك؟ بمجرد أن يولد الطفل، لم يكن عليه سوى أن يقتل ثيو وجوليان ويصير بإمكانه أن يدعي أن الطفل من صلبه. أمن الممكن حقا أن تصور له أنانيته المتعجرفة أن ذلك ممكن؟ وحينئذ تذكر كلمات زان: «سأفعل ما يلزم، أيا كان.»
في السقيفة كانت جوليان مستلقية دون حراك حتى ظن لأول وهلة أنها نائمة. لكن عينيها كانتا مفتوحتين وكانتا لا تزال مثبتتين على طفلها. كان الهواء معبقا برائحة دخان الخشب النفاذة الشجية، لكن النار كانت قد خبت. وضع ثيو السلة على الأرض وأخرج منها زجاجة المياه وفتح غطاءها. ثم جثا بجوارها.
نظرت في عينيه وقالت: «لقد ماتت ميريام، أليس كذلك؟» عندما لم يجبها ثيو، قالت: «ماتت وهي تحضر لي تلك.»
قرب الزجاجة إلى شفتيها. «إذن، كوني شاكرة لها واشربي منها.»
لكنها أشاحت بوجهها، وتركت طفلها فكاد يسقط عن جسدها لولا أن ثيو أمسك به. ظلت مستلقية دون حراك وكأنما أنهكت فلم تستطع تحمل نوبات الحزن، لكنه رأى دموعها تنهمر على وجهها وسمع أنينها المنخفض، الذي كاد يكون له وقع موسيقي، فكان كنواح العالم المفجوع. كانت تبكي فقد ميريام ولم تكن قد بكت بعد على فقد والد طفلها.
انحنى وضمها إليه بصعوبة بسبب وجود الطفل بينهما، محاولا أن يكتنف كليهما بذراعيه. وقال: «تذكري الطفل. الطفل بحاجة إليك. تذكري ما كانت ميريام ستريده.»
لم تنطق بكلمة لكنها أومأت برأسها ثم أخذت الطفل منه مرة أخرى. قرب الزجاجة إلى شفتيها.
أخرج العلب الثلاث من السلة. كان الملصق الموضوع على أحدها قد سقط؛ وكانت العلبة ثقيلة لكنه لم يستطع معرفة ما بداخلها. كان مكتوبا على العلبة الثانية «خوخ في شراب مركز محلى.» أما العلبة الثالثة فكان بها فاصوليا مطبوخة في صلصة طماطم. من أجل هذه العلب الثلاثة وزجاجة المياه ماتت ميريام. لكنه كان يعلم أن ذلك تبسيط مخل للأمور. فقد ماتت ميريام لأنها كانت واحدة من أفراد الجماعة الصغيرة التي كانت تعرف حقيقة الطفل.
كانت فتاحة العلب من طراز قديم، اعترى الصدأ جزءا منها، وكانت حافتها القاطعة ثلمة. لكنها كانت تؤدي الغرض. فتح العلبة وثنى غطاءها للخلف، واحتضن رأس جوليان بيده اليمنى وبدأ يطعمها الفاصوليا بواسطة اليسرى. التهمتها بنهم. كان إطعامه لها لفتة حب. لم ينطق أي منهما بكلمة خلالها.
بعد خمس دقائق، وعندما فرغت العلبة حتى نصفها، قالت: «والآن دورك.» «أنا لست جائعا.» «بالطبع أنت جائع.»
كانت براجمه أكبر من أن تصل أصابعه إلى قاع العلبة، فحان دورها لإطعامه. جلست واضعة الطفل في حجرها وأدخلت يدها اليمنى الصغيرة في العلبة وأطعمته.
قال: «طعمها شهي.»
عندما فرغت العلبة، تنهدت تنهيدة صغيرة، ثم استلقت على ظهرها، وضمت الطفل إلى صدرها. واستلقى هو بجوارها.
قالت: «كيف ماتت ميريام.»
كان يعلم أنها ستسأل هذا السؤال. ولم يستطع أن يخفي عنها الحقيقة. «ماتت مخنوقة. لا بد أنها كانت ميتة سريعة للغاية. ربما حتى لم يتسن لها رؤية قاتليها. لا أعتقد أنه كان لديها متسع من الوقت لتشعر بالهلع أو بالألم.»
قالت جوليان: «ربما استغرق ثانية أو ثانيتين أو أكثر. لكن لا يسعنا أن نختبر تلك الثواني. لا يسعنا أن نعرف ما شعرت به من رعب وألم. فقد يختبر المرء رعب دهر كامل في ثانيتين.»
قال: «لقد انقضى الأمر بالنسبة لها الآن يا عزيزتي. لقد أفلتت من قبضتهم إلى الأبد. ميريام وجاسكوين ولوك، أفلتوا جميعا من قبضة المجلس. كلما ماتت ضحية، تكبد الطغاة خسارة صغيرة.»
قالت: «ذلك عزاء مطمئن للغاية.» وصمتت لبرهة ثم أردفت: «لن يحاولوا تفريق شملنا، أليس كذلك؟» «لا يوجد أي شيء أو أي شخص يمكن أن يفرق شملنا، لا الحياة ولا الموت، ولا الممالك ولا السلطان، ولا أي شيء دنيوي أو سماوي.»
أسندت رأسها إلى وجنته. «يا عزيزي، ليس بوسعك أن تقطع ذلك الوعد. لكني أحببت سماعه منك.» بعد برهة سألت: «لم لا يأتون؟» لكن سؤالها لم يكن يحمل أي التياع بل حمل القليل من الحيرة.
مد يده وأمسك بيدها، ولف أصابعه حول كفها المشوه الدافئ الذي كان يراه فيما سبق منفرا للغاية، وربت عليه، دون أن يجيبها. ظلا مستلقيين جنبا إلى جنب في سكون. كان ثيو يشم الرائحة النفاذة لألواح الخشب المنشورة والنار الخامدة، والستار المستطيل الأخضر من أشعة الشمس، ويصغي إلى السكون الذي لم يكن يتخلله صوت رياح ولا طيور، وإلى نبضات قلبها وقلبه. كان يلفهما صمت شديد كان بأعجوبة خاليا من أي قلق. أذلك هو شعور ضحايا التعذيب عندما يصلون من غاية الألم إلى السلام؟ قال في نفسه: «لقد أتممت غايتي. ها قد ولد الطفل كما أرادت. هذا هو مكاننا الخاص، وتلك هي لحظتنا الخاصة، وأيا ما سيفعلون بنا، فلن يستطيعوا قط أن يسلبونا إياها.»
كانت جوليان هي من كسرت الصمت: «ثيو، أظن أنهم هنا. لقد أتوا.»
لم يسمع شيئا لكنه نهض وقال: «انتظري هنا بهدوء شديد. لا تتحركي.»
ثم أدار ظهره كي لا ترى ما يفعل، وأخرج المسدس من جيبه ووضع فيه الرصاصة. وخرج لملاقاتهم.
كان زان وحده. كان يبدو كحطاب ببنطاله المخملي المضلع القديم، وقميص بياقة مفتوحة وسترة ثقيلة. لكن الحطابين لا يأتون حاملين سلاحا؛ فقد كان جراب مسدسه ناتئا تحت السترة. كما أن الحطابين لا تشع منهم تلك الثقة، وذلك التغطرس السلطوي. كان خاتم الزواج الملكي لإنجلترا يلمع في يده اليسرى.
قال: «الأمر حقيقي إذن.» «أجل، حقيقي.» «أين هي؟»
لم يجب ثيو. قال زان: «لست بحاجة لأن أسأل؛ فأنا أعلم أين هي. لكن أهي بخير؟» «أجل هي بخير. هي نائمة الآن. أمامنا بضع دقائق قبل أن تستيقظ.»
أراح زان كتفيه للوراء وتنفس الصعداء كسباح منهك يخرج رأسه لينفض الماء عن عينيه.
لبرهة تنفس بصعوبة، ثم قال بهدوء: «أنا متشوق لرؤيتها. لا أريد أن أخيفها. لقد أتيت ومعي سيارة إسعاف، ومروحية، وأطباء وقابلات. أحضرت كل شيء تحتاج إليه. سيولد الطفل في راحة وأمان، وستعامل الأم على أنها معجزة كما تستحق؛ يجب أن تعرف ذلك. إن كانت تثق فيك ، فبإمكانك أن تخبرها أنت بذلك. طمئنها وهدئ من روعها، وأخبرها أنه لا يوجد ما يدعوها لأن تخافني.» «بل يوجد أسباب كافية تدعوها لأن تخافك. أين رولف؟» «لقد مات.» «وجاسكوين؟» «مات هو الآخر.» «وقد رأيت جثة ميريام. إذن لم يبق على قيد الحياة أحد ممن يعرفون حقيقة ذلك الطفل. تخلصت منهم جميعا.»
قال زان بهدوء: «لم يبق سواك أنت.» عندما لم يرد ثيو تابع قائلا: «أنا لا أنوي قتلك، ولا أريد ذلك. فأنا بحاجة إليك. لكن يجب أن نتحدث الآن قبل أن أراها. يجب أن أعرف لأي مدى يمكنني الاعتماد عليك. بإمكانك أن تساعدني فيما سأفعل معها، فيما يجب علي أن أفعله.»
قال ثيو: «أخبرني بما عليك فعله.» «أليس الأمر واضحا؟ إن كان الطفل ذكرا ولم يكن عقيما، فسيكون أبا للجيل الجديد. إن كان قادرا على إنتاج المني، المني الخصيب، في سن الثالثة عشرة - أو ربما في الثانية عشرة - فستكون الإناث من الأوميجيات في الثامنة والثلاثين فحسب من أعمارهن. وبإمكاننا أن نأتي منهن بنسل، ومن نساء أخريات مختارات. وقد نتمكن من أن نأتي بنسل مجددا من المرأة نفسها.» «لقد مات والد طفلها.» «أعرف ذلك؛ فقد أخبرنا رولف بالحقيقة. لكن إن كان يوجد رجل واحد غير عقيم، فقد يوجد آخرون. سوف نضاعف برنامج الاختبار؛ فقد صرنا مهملين مؤخرا. سنفحص الجميع، من يعانون من الصرع، ومن التشوهات؛ كل ذكر في البلاد. وقد يكون الطفل ذكرا ويكون غير عقيم. سيكون أملنا الأكبر. أمل العالم.» «وجوليان؟»
ضحك زان. «على الأرجح سأتزوجها. على أي حال، سنعتني بها. عد إليها الآن. أيقظها. أخبرها أني أتيت بمفردي. وطمئنها. قل لها إنك ستساعدني على الاعتناء بها. بربك يا ثيو، هل تدرك حجم السلطة التي بين يدينا؟ عد إلى المجلس، وكن نائبي. بإمكانك أن تحصل على أي شيء تريده.» «كلا!»
عم الصمت لبرهة. ثم سأل زان: «أتذكر الجسر في وولكوم؟» لم يحمل السؤال استجداء عاطفيا لولاء قديم أو لصلة الدم، ولا تذكرة بلفتة ود بدرت من أي منهما. كل ما في الأمر أن زان تذكر ذلك الموقف وابتسم مبتهجا به.
قال ثيو: «أتذكر كل ما حدث في وولكوم.» «لا أريد قتلك.» «ستضطر إلى ذلك يا زان. وقد تضطر إلى قتلها هي أيضا.»
أشهر مسدسه. فضحك زان عندما رآه. «أعلم أنه ليس ملقما. قلت ذلك للعجوزين، أتذكر؟ ما كنت ستترك رولف يهرب لو كان معك مسدس ملقم.» «وكيف كنت تتوقع أن أوقفه؟ أكنت تتوقع أن أردي زوجها أمام عينيها؟» «زوجها؟ لم أكن أعرف أنها تهتم كثيرا لأمر زوجها؛ فليست تلك الصورة التي رسمها لها طواعية قبل أن يلقى حتفه. أنت تتصور أنك واقع في حبها، أليس كذلك؟ لا تضفي عليها صبغة رومانسية. فقد تكون أهم امرأة في العالم، لكنها ليست مريم العذراء. والطفل الذي تحمله يظل طفل بغاء.»
التقت عيناهما. قال ثيو في نفسه: «ماذا ينتظر؟ هل يجد أنه لا يستطيع قتلي بدم بارد، مثلما أجد أني لا أستطيع قتله؟» مر الوقت، ثانية طويلة تلو أخرى. ثم مد زان ذراعه وصوب مسدسه. وفي ذلك الجزء من الثانية بكى الطفل، مطلقا نحيبا حادا، كصرخة احتجاج. سمع ثيو هسيس رصاصة زان وهي تمر خلال كم سترته دون أن تحدث ضررا. أدرك في ذلك الجزء من الثانية أنه لم يتسن له رؤية ما تذكره بوضوح شديد فيما بعد؛ وجه زان وقد ارتسمت عليه تعابير الفرحة والنصر، ولم يتسن له سماع صيحة الاستحسان العالية التي أطلقها، صيحة كتلك التي أطلقها على الجسر في وولكوم. لكن تلك الصيحة التي تذكرها ودوت في أذنيه هي التي أطلقها زان عندما أطلق ثيو الرصاصة لتخترق قلبه.
بعد دوي الرصاصتين، لم يسمع سوى الصمت المهيب. بعدما دفع هو وميريام بالسيارة إلى البحيرة، تحولت الغابة المسالمة في نظره إلى دغل صاخب، يعج بأصوات متنافرة من صرخات وحشية، وأغصان تتكسر، ونداءات طيور ملتاعة، لم تخفت إلا مع تبدد آخر موجة ترقرقت في صفحة النهر. لكن الآن لم يسمع أي شيء. خيل إليه أنه كان يقترب من جثة زان كممثل في فيلم بالحركة البطيئة، فكان كأنما يلطم الهواء بكفيه ويخطو بقدميه خطى عالية، تكاد لا تطأ الأرض؛ وتمدد الزمن فصار بلا نهاية فبدت جثة زان كهدف بعيد يشق طريقه نحوه بمشقة في زمن متوقف. ثم، كأنما أفاق عقله، عاد إلى الواقع مرة أخرى وأحس على التو بحركات جسده السريعة، وبكل كائن صغير يتحرك بين الأشجار، وبكل ورقة عشب تنثني تحت نعل حذائه، وبحركة الهواء وهو يصطدم بوجهه، والأهم من كل ذلك بجسد زان الراقد عند قدميه. كان مستلقيا على ظهره، فاتحا ذراعيه، وكأنما يستريح بجوار نهر ويندرش. كان وجهه مستكينا، غير مندهش، وكأنما كان يتصنع الموت، لكن عندما جثا ثيو على ركبتيه رأى أن عينيه قد صارتا مجرد دائرتين خاويتين، عينيه اللتين كان البحر يموج فيهما من قبل لكن الآن انحسرت عنهما أمواجه وتركهما خاويتين. نزع الخاتم من إصبع زان، ثم وقف منتصبا وانتظر.
أتوا بسرعة من الغابة، يتقدمهم كارل إنجلباتش، يتبعه مارتن ولفينجتون، ثم المرأتان. وكان وراءهم، على مسافة محسوبة بعناية، ستة جنود من حرس الجرينادير. تحركوا حتى صاروا على بعد أربع أقدام من الجثة، ثم توقفوا. رفع ثيو الخاتم، ثم وضعه متعمدا في إصبعه وأظهر لهم ظهر يده.
قال: «لقد مات حاكم إنجلترا، وولد الطفل. أصغوا.»
دوت مرة أخرى، صرخة الرضيع الملحة المثيرة للشفقة. شرعوا في الاقتراب من السقيفة لكنه أعاق طريقهم قائلا: «تمهلوا. لا بد أن أستأذن الأم أولا.»
داخل السقيفة كانت جوليان تجلس متسمرة، تضم الطفل بقوة إلى صدرها، وكان فمه فاغرا يرضع، ويتحرك على بشرتها. بينما كان ثيو يقترب منها، رأى الخوف اليائس في عينيها يتحول إلى ارتياح مبتهج. وضعت الطفل في حجرها ومدت ذراعيها نحوه.
قالت وهي تنتحب: «لقد دوت رصاصتان. لم أعرف أيا منكما سأرى، أنت أم هو.»
ضم جسدها المرتعد إليه لبرهة ثم قال: «لقد مات حاكم إنجلترا. أعضاء المجلس هنا. هلا قابلتهم، وأريتهم الطفل؟»
قالت: «سأقابلهم لمدة قصيرة. ثيو، ماذا سيحدث الآن؟»
استنفد خوفها عليه لوهلة شجاعتها وقوتها فرآها لأول مرة منذ ولادة الطفل ضعيفة وخائفة. همس لها، وشفتاه تلامس شعرها. «سنأخذك إلى المستشفى، إلى مكان هادئ. وستتلقين الرعاية. لن أسمح لأحد بإزعاجك. لن تضطري للبقاء فيها لوقت طويل، وسنكون معا. لن أتركك قط. مهما حدث، سنظل معا.»
تركها وتوجه للخارج. كانوا يقفون في نصف دائرة في انتظاره، وكانت أعينهم مثبتة على وجهه. «يمكنكم الدخول الآن. لكن دون حرس الجرينادير، أعضاء المجلس فقط. إنها منهكة وتحتاج إلى الراحة.»
قال ولفينجتون: «معنا سيارة إسعاف تقف عند أول الدرب. بإمكاننا أن نستدعي المسعفين ليحملوها إليها. المروحية تبعد حوالي ميل، خارج القرية.»
قال ثيو: «لن نخاطر بركوب المروحية. استدع حاملي النقالة الطبية. وانقل جثة الحاكم. لا أريدها أن تراها.»
بينما تقدم جنديان من الحرس الملكي وبدآ يجران الجثة، قال ثيو: «أظهرا بعض الاحترام. تذكرا من كان قبل بضع دقائق. لم تكونا لتجرؤا على لمسه حينها.»
التفت وقاد أعضاء المجلس إلى داخل السقيفة. بدا له أنهم دخلوا مترددين على مضض، المرأتان أولا ثم ولفينجتون وكارل. لم يقترب ولفينجتون من جوليان بل وقف عند رأسها وكأنه حارس متأهب. جثت المرأتان على ركبتيهما، لا بدافع احتياجهما لأن تدنوا من الطفل بقدر ما كان إجلالا له، على حد ظن ثيو. ونظرتا إلى جوليان وكأنما تستجديان موافقتها. ابتسمت ومدت يدها إليهما بالطفل. مدتا يديهما وهما تتمتمان وتنتحبان، ويهتز جسداهما من البكاء والضحك، ولمستا رأسه ووجنتيه وذراعيه الملوحتين. رفعت هارييت إصبعا فقبض الطفل عليه فجأة. فضحكت، ونظرت جوليان إلى ثيو وقالت: «أخبرتني ميريام أن الرضع يقبضون على الأشياء بتلك الطريقة. لكن ذلك لا يدوم طويلا.»
لم ترد المرأتان. كانتا تبكيان وتبتسمان وتصدران أصواتا سخيفة مبتهجة تنم عن الترحاب والاكتشاف. بدوتا لثيو كرفقة إناث مبتهجة. نظر إلى كارل، مندهشا من أنه استطاع أن يتحمل تلك الرحلة، وأنه لا يزال واقفا على قدميه. نظر كارل إلى الطفل بعينيه المحتضرتين وتلا نشيد سمعان. «إذن سيبدأ الأمر من جديد.»
قال ثيو في نفسه: «سيبدأ الأمر من جديد، بالغيرة والخيانة والعنف والقتل، بذلك الخاتم في إصبعي.» نظر إلى الياقوتة الزرقاء الضخمة التي يطوقها الألماس اللامع، وإلى الصليب المصنوع من الياقوت الأحمر الذي يعلوها، ولفلف الخاتم في إصبعه شاعرا بثقله. كان وضعه في إصبعه حركة غريزية لكنها كانت متعمدة، كانت لفتة لتأكيد سلطته وضمان الحماية. كان يعلم أن حرس الجرينادير سيأتي مدججا بالسلاح. وكان من شأن مرأى ذلك الرمز اللامع في إصبعه أن يجعلهم على الأقل يتمهلون، ويمنحونه الفرصة لأن يتكلم. لكن هل يحتاج لأن يظل مرتديا إياه الآن؟ كان يملك في يده الآن كامل سلطة زان، بل أكثر منها. كان كارل في أيامه الأخيرة، مما يعني أن المجلس بلا قائد. لبعض الوقت على الأقل سيضطر لأن يتولى منصب زان. كان ثمة مشكلات تحتاج إلى معالجتها؛ لكن كل شيء في أوانه. لن يستطيع أن يصلح كل شيء في آن واحد، يجب أن يكون لديه أولويات. أهذا ما أدركه زان؟ هل كان زان يشعر كل يوم من أيام حياته بنشوة السلطة التي اجتاحته فجأة؟ ذلك الشعور بأن كل شيء أصبح بمقدوره، أن ما يطلبه سيلبى، أن من يكره سيدمر، وأن العالم سيسير حسب رغبته. شرع في نزع الخاتم من إصبعه، لكنه توقف وأعاده مرة أخرى. سيقرر فيما بعد ما إن كان يحتاج لارتدائه، ولكم من الوقت.
قال: «اتركونا الآن.» وانحنى لمساعدة المرأتين على النهوض. خرجوا صامتين كما دخلوا.
نظرت جوليان إليه؛ فلاحظت الخاتم للمرة الأولى. قالت: «ذلك لم يصنع لإصبعك.»
وللحظة لا أكثر، شعر بشيء أشبه بالحنق. لا بد أن يكون هو من يحدد متي يخلعه. قال: «هو مفيد في الوقت الحالي. سأخلعه في الوقت المناسب.»
بدا أنها اقتنعت بإجابته في الوقت الحالي، وربما كانت مخيلته هي التي صورت له ذلك الشك الذي رآه في عينيها.
ثم ابتسمت وقالت له: «هلا عمدت الطفل لأجلي؟ أرجوك افعل ذلك الآن، ونحن وحدنا. كان لوك سيرغب في ذلك. وأنا أرغب في ذلك.» «ماذا ستسمينه؟» «سمه تيمنا بوالده وتيمنا بك.» «سأجعلك مرتاحة أولا.»
كانت المنشفة الموضوعة بين ساقيها ملوثة للغاية. نزعها دون نفور، ودون أي تفكير، وطوى منشفة أخرى ووضعها مكانها. لم يكن باقيا في الزجاجة سوى القليل من الماء، لكنه لم يكن بحاجة إليه. انهمرت دموعه على جبهة الطفل. كان يذكر ذلك الطقس من إحدى ذكريات طفولته البعيدة. يجب أن يسيل الماء، وأن تتلى كلمات معينة. وبإصبعه المبلل بدموعه والملطخ بدمها، رشم الصليب على جبهة الطفل.
نامعلوم صفحہ