قالت بنفاد صبر: «بالدراجة. تركتها أمام بوابتك الخلفية. كانت مغلقة لكن لحسن الحظ كان جارك قد أخرج سلة قمامته، فتسلقت فوقها. اسمع، الوقت لا يتسع لأن تأكل. من الأفضل أن تأخذ معك أي طعام جاهز، ولدينا بعض الخبز والجبن وبضع معلبات. أين سيارتك؟» «في مرأب متفرع من زقاق بيوسي. سأحضر معطفي. ستجدين حقيبة معلقة خلف باب الخزانة، وخزانة المؤن هناك. اجلبي ما يمكنك تجميعه من الطعام. ومن الأفضل أن تغلقي زجاجة النبيذ وتأخذيها معك.»
صعد إلى الأعلى كي يحضر معطفه الثقيل، ثم صعد طابقا آخر إلى الحجرة الخلفية الصغيرة، وأخذ دفتر يومياته ودسه في جيب معطفه الداخلي الكبير. فعل ذلك دونما تفكير، وإن سأله أحد عن سبب فعله ذلك كان سيجد صعوبة في شرح السبب حتى لنفسه؛ فلم يكن بدفتر اليوميات ما يجرمه؛ فقد كان حريصا على ذلك. ولم يكن يتوقع أن يغيب لأكثر من بضع ساعات عن تلك الحياة التي يسجل دفتر اليوميات وقائعها وتحتويها جدران ذلك المنزل الخاوي. وحتى إن كانت الرحلة بداية لرحلة طويلة، فقد كان ثمة تمائم أنفع وأقيم وأنسب كان بإمكانه أن يدسها في جيبه.
كان نداء ميريام الأخير له بأن يسرع غير ضروري؛ فقد كان يعلم أن الوقت ضيق جدا. إن كان يريد أن يصل إلى الجماعة كي يناقش معهم أفضل طريقة لاستخدام نفوذه لدى زان، وفوق كل شيء، إن كان يريد أن يرى جوليان قبل أن تعتقل، فعليه أن ينطلق في طريقه دون أدنى تأخير. ففور أن تعرف شرطة الأمن الوطني أن الجماعة لاذت بالهرب، سيوجهون اهتمامهم له. كان رقم لوحة سيارته مسجلا لديهم. وستكون وجبة العشاء المتروكة، حتى إن أهدر وقتا لرميها في سلة القمامة، دليلا دامغا على أنه غادر في عجالة. في خضم تلهفه لأن يصل إلى جوليان، لم تعنه سلامته الشخصية إلا قليلا؛ فقد كان لا يزال مستشارا سابقا للمجلس. ويوجد رجل واحد في بريطانيا يملك القوة المطلقة، والسلطة المطلقة، والحكم المطلق، وهو ابن خالة ذلك الرجل. وفي النهاية حتى شرطة الأمن الوطني لم تكن تستطيع أن تمنعه من مقابلة زان. لكنها تستطيع أن تمنعه من رؤية جوليان؛ على الأقل كان في قدرتها أن تفعل ذلك.
كانت ميريام بانتظاره عند الباب الأمامي ممسكة بحقيبة كبيرة ممتلئة. فتح الباب لكنها أشارت إليه أن يتراجع، وأسندت رأسها إلى قائم الباب ونظرت سريعا للخارج في كلا الاتجاهين، ثم قالت: «المكان يبدو آمنا بالخارج.»
لا بد أن السماء أمطرت؛ فقد كان الهواء عليلا مع أن السماء كانت مظلمة، وكانت مصابيح الشارع تلقي بضوئها الخافت على الأحجار الرمادية، وعلى أسطح السيارات المبقعة بمياه الأمطار. على جانبي الشارع كانت الستائر مسدلة على النوافذ عدا نافذة مرتفعة مربعة يشع منها الضوء، ورأى خيالا داكنا لرءوس تمر وراءها، وسمع صوت موسيقى خافتة يأتي منها. ثم رفع شخص ما بالغرفة صوت الموسيقى وفجأة انساب إلى الشارع الرمادي مزيج شديد العذوبة من أصوات الجهير والتينور والسوبرانو تتغنى برباعية أوبرالية، هي حتما لموزارت، لكنه لم يميز أي واحدة هي. في غمرة من الحنين القوي إلى الماضي والحسرة، أعاده صوت الموسيقى إلى ذكرى ذلك الشارع الذي وطئته قدماه لأول مرة قبل ثلاثين عاما، ولأصدقاء كانوا يسكنون فيه ورحلوا، ولذكرى النوافذ المفتوحة في ليالي الصيف، وأصوات شابة تنادي وصوت الموسيقى والضحكات.
لم يكن يوجد أي أثر لأعين تتجسس عليهما، ولا أثر لأي حياة عدا ذلك الصوت البديع، ومع ذلك قطع هو وميريام بسرعة وبخفة الثلاثين ياردة بشارع بيوسي وقد خفضا رأسيهما وظلا صامتين، كما لو أن مجرد همسة أو وقع أقدام ثقيلة قد يتسببان في إيقاظ الشارع من ثباته لتدب فيه الحياة. انعطفا إلى زقاق بيوسي وانتظرت هي في صمت، ريثما فتح باب المرأب وشغل محرك سيارته الروفر، وفتح لها الباب فركبت بسرعة. قاد السيارة بسرعة عبر طريق وودستوك لكن بحرص وفي نطاق حد السرعة المسموح به. كانا قد وصلا إلى أطراف المدينة عندما تكلم. «متى اعتقلوا جاسكوين؟» «منذ حوالي ساعتين. كان يضع متفجرات لتفجير منصة إرساء في شورهام. كانت ستقام هناك فعالية أخرى من فعاليات راحة الموت. كانت شرطة الأمن الوطني بانتظاره.» «ليس ذلك مستغربا. فأنتم تفجرون منصات الإرساء منذ فترة. لا بد أنهم وضعوها تحت المراقبة. إذن هو لديهم منذ ساعتين. أنا مندهش من أنهم لم يعتقلوكم حتى الآن.» «على الأرجح انتظروا حتى عودتهم إلى لندن كي يستجوبوه. ولا أظن أنهم في عجلة من أمرهم، فنحن لا نمثل أهمية كبيرة. لكنهم سيأتون حتما.» «بالطبع. كيف عرفتم أنهم قبضوا على جاسكوين؟» «لقد اتصل بنا كي يعلمنا بما ينوي فعله. فقد كانت تلك مبادرة شخصية منه لم يصرح بها رولف. وعادة نتصل مرة أخرى بعد إتمام المهمة، لكنه لم يفعل. فذهب رولف إلى مسكنه المؤجر في كاولي. كانت شرطة الأمن الوطني قد أتت لتفتيشه؛ على الأقل، تقول صاحبة العقار إن أحدا ما جاء لتفتيشه. من الواضح أنهم شرطة الأمن الوطني.» «لم يكن من الحكمة أن يذهب رولف لمنزله. كان من الممكن أن يكونوا في انتظاره هناك.» «لم يكن أي مما فعلناه من الحكمة في شيء، لكنه كان ضروريا.»
قال: «لا أعلم ماذا تنتظرون مني، لكن إن كنتم تريدون أن أساعدكم فمن الأفضل أن تخبريني بالقليل عنكم. فأنا لا أعرف إلا أسماءكم الأولى. أين تسكنون؟ فيم تشتغلون؟ كيف التقيتم؟» «سأخبرك، وإن كنت لا أرى أهمية لذلك ولا سببا لرغبتك في معرفه تلك المعلومات. جاسكوين يعمل، أو كان يعمل، سائق شاحنات لمسافات طويلة. لهذا السبب جنده رولف. أعتقد أنهما تقابلا في إحدى الحانات. فبإمكانه أن يوزع منشوراتنا في جميع أنحاء إنجلترا.» «سائق شاحنات لمسافات طويلة وخبير متفجرات. بإمكاني أن أرى نفعه.» «لقد تعلم التعامل مع المتفجرات من جده. كان ضابطا بالجيش وكانا مقربين بعضهما لبعض. لم يكن يحتاج لأن يكون خبيرا. فليس ثمة أي تعقيد في تفجير منصات الإرساء أو غيرها. رولف مهندس. ويعمل في مجال الطاقة الكهربائية.» «وماذا أضاف رولف إلى مؤسستكم بعيدا عن قيادته غير الرشيدة بالمرة؟»
تجاهلت ميريام تهكمه. وتابعت قائلة: «أنت تعرف بشأن لوك. فقد كان قسا. وأفترض أنه لا يزال كذلك. فهو يقول إن القس يظل قسا للأبد. ليس لديه أبرشية لأنه لم يتبق الكثير من الكنائس التي ترغب في اتباع مذهبه من المسيحية.» «أي مذهب ذلك؟» «المذهب الذي تخلصت منه الكنيسة في التسعينيات. الذي يتبع الكتاب المقدس القديم، وكتاب الصلوات القديم. أحيانا يقيم قداسا إن طلب منه الناس ذلك. هو يعمل بوظيفة في الحدائق النباتية ويتعلم تربية الحيوانات.» «ولماذا جنده رولف؟ بالتأكيد ليس لتقديم الدعم الروحي للجماعة.» «جوليان هي من رغبت في وجوده.» «وماذا عنك؟» «أنت تعرف بالفعل. كنت أعمل قابلة. كانت تلك الوظيفة هي أقصى طموحي. وبعد أوميجا عملت بوظيفة عاملة في صناديق الدفع في متجر كبير بمنطقة هيدنجتون. وأنا الآن أدير المتجر.» «وكيف تساعدين «السمكات الخمس»؟ هل تدسين المنشورات داخل علب حبوب الإفطار؟»
قالت: «قلت لك إننا لم نتصرف بحكمة. لكنني لم أقل إننا حمقى. لو لم نكن حريصين، أو كنا غير أكفاء كما تظننا ، ما كنا سنصمد كل ذلك الوقت.»
قال: «لقد صمدتم كل ذلك الوقت لأن هذا ما أراده الحاكم. كان بإمكانه أن يعتقلكم منذ عدة أشهر. لم يفعل ذلك لأنكم أنفع له وأنتم طلقاء مما ستكونون وأنتم مسجونون. فهو لا يريد أن يصنع منكم شهداء. ما يريده هو مزاعم بوجود خطر داخلي يهدد الأمن العام المستتب. فذلك يساعده على توطيد سلطته. جميع الطغاة احتاجوا إلى ذلك من حين لآخر. كل ما عليه فعله هو أن يخبر الناس أن ثمة جماعة تعمل سرا، وقد تبدو بياناتها المنشورة تحررية، لكنها في الحقيقة مخادعة، وهدفها الحقيقي هو إغلاق مستعمرة جزيرة مان، وإطلاق سراح عشرة آلاف مجرم سيكوباتي ليعيثوا فسادا في مجتمعنا الآخذ في الهرم، وإعادة جميع العمال الوافدين إلى بلادهم فلا يجد الناس من يجمع القمامة أو يكنس الشوارع، ثم الإطاحة بالمجلس وبالحاكم نفسه في نهاية المطاف.» «لماذا سيصدق الناس ذلك؟» «ولماذا لا يصدقونه؟ ففيما بينكم أنتم الخمسة، على الأغلب تودون لو فعلتم كل تلك الأمور. ورولف بالتأكيد يود لو فعل ذلك الأمر الأخير. في ظل حكم الحكومات غير الديموقراطية، لا مكان لمعارضة مقبولة ولا لتمرد هادئ. أعرف أنكم تطلقون على أنفسكم اسم «السمكات الخمس». لا أرى مانعا من أن تطلعيني على أسمائكم الحركية.» «الاسم الحركي لرولف هو رنجة، وللوك هو لخ، ولجاسكوين هو جوردن، وأنا منوة.» «وجوليان؟» «واجهتنا مشكلة هنا. لا يوجد إلا سمكة واحدة يبدأ اسمها بحرف الجيم وهي سمكة الجندوري.»
نامعلوم صفحہ