فجأة حدثت جلبة. أطلقت إحدى السيدات، اللواتي كن يسندن للصعود على متن السفينة الأقرب إليه، صرخة وبدأت تضرب بذراعيها بعنف. فاجأ فعلها الممرضة التي كانت تصاحبها، وقبل حتى أن تتحرك، قفزت المرأة من المرسى إلى البحر وصارعت الأمواج للوصول إلى الشاطئ. دون تفكير، خلع ثيو معطفه الثقيل وانطلق يعدو نحوها، وقدماه تخشفان فوق الحصى، شاعرا بلسعة برد مياه البحر التي أحاطت بكاحليه. عندما صار على بعد نحو عشرين ياردة فقط منها، رأى بوضوح شعرها الأشعث الأبيض ورداءها الذي التصق على جسدها، ونهديها المتهدلين وذراعيها المترهلين. لطمتها موجة فعرت رداءها عن كتفها اليسرى ورأى أحد نهديها يتمايل كقنديل بحر عملاق. كانت مستمرة في صراخها العالي الحاد الذي كان يشبه صراخ حيوان يعذب. عرفها على الفور. كانت هيلدا بالمر سميث. تلاطمته الأمواج بينما كان يجاهد للوصول إليها مادا يديه إليها.
ثم حدث ما حدث. كانت يداه الممدودتان على وشك أن تمسكا برسغيها عندما قفز أحد الجنود في الماء من المرسى، وضربها بشراسة بكعب سلاحه على جانب رأسها. سقطت في البحر ملوحة بيديها. ولوهلة ظهرت لطخة حمراء حتى أتت الموجة التالية، فغلفتها وحملتها ثم انحسرت وتركتها ممددة على صفحة المياه وقد انفرج ذراعاها ورجلاها وسط الزبد. حاولت أن تنهض لكنه ضربها ضربة أخرى. كان ثيو قد وصل إليها حينها وأمسك بإحدى يديها. لكنه على الفور شعر بيدين تمسكان بكتفيه وتطرحانه جانبا. وسمع صوتا هادئا آمرا، يقول بشيء من الرفق: «دع الأمر يأخذ مجراه يا سيدي. لا تتدخل.»
غمرتها موجة أخرى، أكبر من سابقتها، وطرحته هو أرضا. بعد أن انحسرت، جاهد للنهوض فرآها مرة أخرى ممددة ورداؤها منحسر عن ساقيها النحيلتين، كاشفا عن الجزء السفلي من جسدها بالكامل. تأوه وعاود السير مترنحا نحوها، لكن هذه المرة شعر، هو أيضا، بضربة على جانب رأسه فخر واقعا. أحس بالحصى الخشن يسحن وجهه، وبالرائحة النفاذة لمياه البحر المالحة، وبطنين في أذنيه. خمش بيده الحصى محاولا التشبث بشيء. لكن الرمل والحصى انحسرا من تحته. ثم ضربته موجة أخرى فشعر بها تسحبه إلى المياه الأعمق. وهو شبه واع، حاول أن يرفع رأسه، أن يتنفس، مدركا أنه موشك على الغرق. ثم جاءت الموجة الثالثة فحملت جسده وطرحته وسط أحجار الشاطئ.
لكنهم لم يريدوا له الغرق. فبينما كان يرتعد من البرد ويبصق ويتهوع، أحس بيدين قويتين تندسان تحت إبطيه وتسحبانه من الماء بخفة وكأنه طفل. كان أحدهم يجرجره على الشاطئ ووجهه مواجه للأرض. شعر بمقدمتي حذائه تكشطان الرمال المبللة وبمقاومة الحصى على بنطاله المتشرب بالماء. كان ذراعاه يتدليان بوهن، وبالأحجار الكبيرة على الجزء المرتفع من الشاطئ ترض ظاهر كفيه وتسحجهما. وطوال الوقت كان بوسعه أن يشم رائحة مياه البحر النفاذة المميزة للشاطئ ويسمع إيقاع صوت تكسر الأمواج عليه. ثم توقفت الجرجرة، وألقي بقسوة فوق الرمال الناعمة الجافة. ثم شعر بثقل معطفه وهو يلقى فوق جسده. ورأى على نحو غير واضح كيانا قاتما يمر من فوقه، ثم ترك وحيدا.
حاول أن يرفع رأسه، شاعرا للمرة الأولى بألم نابض، يتمدد وينقبض وكأنه كائن حي ينبض داخل جمجمته. في كل مرة كان يحاول رفع رأسه، كان يتأرجح بوهن يمينا ويسارا، ثم يسقط مرة أخرى في الرمال. لكن في ثالث محاولة استطاع رفعه لبضع بوصات وفتح عينيه. كان يثقل جفنيه طبقة سميكة من الرمال التي غطت وجهه وانحشرت في فمه، بينما تشابكت أعشاب بحرية لزجة بين أصابعه وتدلت من شعره. شعر كأنه رجل أخرج من قبر مغمور بالماء ولا تزال جميع آثار الموت بادية عليه. ولكن قبل أن يغيب عن وعيه بلحظات، كان بوسعه أن يرى أن أحدهم جره إلى الممر الضيق بين كوخين شاطئيين. كان كل منهما يرتفع عن الأرض على ركائز منخفضة فاستطاع أن يرى تحت أرضيتهما فضلات، خلفتها العطلات التي طواها النسيان، شبه مدفونة في الرمال القذرة؛ غلاف فضي لامع، وزجاجة بلاستيكية قديمة، وكرسي شاطئ اهترأ قماشه وتكسرت قوائمه، ومجراف طفل مكسور. تقلب بألم محاولا الاقتراب، ومد يده كأنما سيحظى بالأمان والسكينة إن وضع يده عليه. لكن المجهود كان أكبر من قدرته، فأغمض عينيه اللتين كانتا تؤلمانه بشدة، وتنهد ثم ترك الظلام يبتلعه.
عندما أفاق، ظن للوهلة الأولى أنه يرقد في ظلام تام. ثم تقلب على ظهره ونظر إلى الأعلى فرأى السماء المرصعة بالنجوم الباهتة، ورأى أمامه لمعان مياه البحر الخافت. تذكر أين هو وما حدث. كان رأسه لا يزال يؤلمه، لكن الألم كان حينئذ خفيفا مستقرا. مرر يده على رأسه فشعر بنتوء بحجم البيضة، لكن بدا أن الضرر لم يكن عظيما. لم يدر كم الساعة وكانت رؤية عقارب ساعة يده مستحيلة. دلك أطرافه المتيبسة ليعيد إليها الدماء، ونفض عن معطفه الرمال وارتداه، ثم سار بخطى مترنحة حتى وصل إلى حافة المياه وهناك جثا على ركبتيه ليغسل وجهه. كانت المياه باردة كالثلج. كان البحر أهدأ الآن وكان القمر الذي تغطيه السحب يعكس على صفحته خطا من الضوء المتلألئ. كانت صفحة المياه تعلو وتهبط بهدوء أمامه خاوية تماما، فتخيل الغريقات وهن لا يزلن مصفدات في صفوف، فرقتها ألواح القارب، وشعورهن البيضاء تعلو وتهبط بخفة مع التيار. عاد إلى أكواخ الشاطئ، وجلس على أحد السلالم بضع دقائق يستجمع قواه. ثم فتش جيوب معطفه. كانت محفظته الجلدية متشربة بالماء، لكنه على الأقل لم يفقدها أو يفقد أيا من محتوياتها.
صعد السلالم المؤدية إلى الممشى. لم يكن هناك سوى بضعة أعمدة إنارة لكنها كانت كافية كي يرى عقارب ساعته. كانت الساعة السابعة. لقد ظل غائبا عن الوعي، ثم على الأرجح نائما، لأربع ساعات إلا قليلا. بينما كان يقترب من شارع ترينيتي، شعر بارتياح لرؤية سيارته لا تزال مركونة هناك، لكن لم ير أي أثر آخر للحياة. وقف مكانه مترددا. بدأ جسده يرتعد وشعر بتوق إلى طعام وشراب ساخن. كانت فكرة القيادة حتى أكسفورد في حالته تلك فكرة مروعة، لكن حاجته لأن يغادر ساوثولد كانت لا تقل إلحاحا عن حاجته للطعام والشراب. وبينما كان يقف مترددا، سمع صوت باب يصفد فنظر حوله. خرجت امرأة، تمسك برسن كلب صغير الحجم، من أحد البيوت الفيكتورية ذات الشرفات المواجهة للمرجة الصغيرة. كان المنزل الوحيد الذي رأى أنواره مضاءة، ولاحظ أنه على نافذة الطابق الأول علقت لافتة كبيرة مكتوب عليها «مبيت وإفطار».
بدون سابق تفكير، سار إليها وقال: «أخشى أنني تعرضت لحادث. وملابسي مبتلة جدا. لا أظن أن بوسعي القيادة إلى بيتي الليلة. هل لديك أي غرف شاغرة؟ اسمي فارون، ثيو فارون.»
كانت أكبر سنا مما توقع، لها وجه مستدير لوحه الهواء، به تجاعيد خفيفة كتجاعيد بالون تسرب منه الهواء، وعينان نبيهتان مدورتان وثغر صغير رقيق الشكل، كان جميلا فيما مضى، لكنه رآه الآن، بينما كان ينظر إليها، يلوك شيئا وكأنها لا تزال تتلذذ بما تبقى من مذاق لوجبتها الأخيرة.
لم يبد أن طلبه فاجأها أو أخافها، وعندما تحدثت كان صوتها عذبا. «لدي غرفة شاغرة إن انتظرت حتى آخذ كلوي إلى مهماتها المسائية. لدينا مكان صغير مخصص للكلاب. فنحن نحرص على عدم تلويث الشاطئ. كانت الأمهات يشتكين إن لم يكن الشاطئ نظيفا من أجل أطفالهن، والعادات القديمة تلازم المرء. وجبة العشاء اختيارية هنا. هل تريد أن أحضرها لك؟»
نامعلوم صفحہ