حرص النبي ﵊ على هداية قومه
انظر إلى النبي ﷺ في أحرج الأوقات، وفي أشد الأزمات، عن عائشة رضوان الله عليها- والحديث رواه البخاري ومسلم أنها قالت: (يارسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟!)، ويوم أحد كان يومًا عظيمًا، نزف فيه دم النبي ﷺ من جسده، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، وتعرض النبي ﷺ للموت الحقيقي، بل لقد انتشر بالفعل في الميدان خبر قتل النبي ﷺ، حتى ألقى بعض الصحابة السلاح وقالوا: وماذا نصنع بالحياة بعد موت رسول الله ﷺ؟ فقام أنس بن النضر ﵁ -وحديثه في الصحيحين- فقال لهم: (قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ، ونزل في هذه المعركة قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤٤] .
فالسيدة عائشة قالت له: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة، وكان أشد ما لقيت يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال)، وهو رجل من أشراف أهل الطائف، فحينما خرج الحبيب ﷺ من مكة إلى الطائف، ولم يخرج ليطلب مالًا، ولا ليطلب دنيا ولا جاهًا، ولا وجاهة، ولا شهرةً، ولا منصبًا، وإنما ليخرجهم من ظلام الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.
تصور معي أنه ﷺ مشى من مكة إلى الطائف على قدميه أكثر من سبعين كيلو، لا توجد سيارة، ولا دابة، بل مشى على قدميه المتعبتين الداميتين، وتحت حرارة شمسٍ محرقة يعلمها كل من سافر إلى مكة للحج والعمرة، شمس انعكست أشعتها على الرمال؛ فكادت الأشعة المنعكسة أن تحرق الأبصار.
طريق غير ممهدة، لم يركب حمارًا، ولا بغلًا، ولا جوادًا، ولا ناقة، ومع ذلك لما وصل إلى الطائف سلط الأشرافُ السفهاءَ والصبيان على رسول الله ﷺ، ففعلوا به ما لا يتصور البتة أن يفعله إنسان صاحب مروءة بإنسان غريب؛ رموه بالحجارة، سبوه، شتموه، وعاد النبي ﷺ حزينًا كئيبًا، قال النبي ﷺ: (فلما لم يجبني إلى ما أردت -أي: ابن عبد ياليل بن عبد كلال، وهو شريف الطائف- عدت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وقرن الثعالب مكان يبعد عن الطائف حوالي خمسة كيلو.
أريد منك أخي أن تتصور، فكان من الهم الذي يحطم فؤاده، ومن الألم الذي يفتت كبده؛ لا يعرف أين هو، عاد وهو مهموم على وجهه دعوة مطاردة أصحابٌ مشردون في الحبشة، وصاحب الدعوة ﷺ يُضرب، ويُسب، ويُشتم، ويُرمى بالحجارة.
أريد منك أن تتصور الحالة النفسية التي كان يعيشها النبي ﵊ في هذه اللحظات، يقول: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فإذ بسحابة قد أظلتني) -هذه هي التي شدت انتباهه، وهي التي أخرجته من الهموم والآلام والأحزان-: (فنظرت فرأيت جبريل ﵇ -والحديث في الصحيحين- فنادى جبريل على النبي الجليل ﷺ وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت -بالله عليك افترض أي بشر في هذا الموقف؛ دماؤه تنزف مطرود مهان سبوه شتموه تصور كيف يكون الرد! - وإذ بملك الجبال ينادي عليّ: السلام عليك يا رسول الله! لقد أرسلني الله ﷿ إليك لتأمرني بما شئت فيهم، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) .
ما هما الأخشبان؟ الأخشبان: جبلان عظيمان، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للجبل للثاني: الأحمر، ووالله الذي لا إله غيره لو كان الحبيب ﷺ ممن ينتقمون لأنفسهم وذواتهم وأشخاصهم، ولو كان الحبيب ممن خرج لذاته أو لمجد شخصي أو لانتفاع دنيوي حقيرٍ زائل؛ لأمر النبي ملك الجبال أن يحطم هذه الرءوس الصلدة، والجماجم العنيدة، ولسالت دماء من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، لكن اسمع ماذا قال صاحب الخلق الرفيع؟ اسمع ماذا قال الرحمة المهداة لملك الجبال؟ قال النبي ﷺ: (بل أرجو الله ﷿ أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا) لم يبعث لعانًا ولا فحاشًا، وإنما كما قال هو عن نفسه ﷺ: (إنما بعثت رحمة)، وكما قال ربه ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]، وكما قال ابن عباس: هو رحمة للفاجر والبار؛ فمن آمن به فقد تمت له النعمة، ومن كفر به أمن من العذاب في الدنيا: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال:٣٣] .
1 / 7