سلسلة إيمانية - أخلاق النبي ﷺ
نبينا محمد ﷺ آية من آيات الله، وعجيبة من عجائب الكون، فهو نبي الرحمة، والنعمة المهداة إلى الأمة، صاحب الخلق الفاضل الرفيع، وقد شهد الله تعالى له بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فحري بنا أن نتعرف على أخلاقه ﷺ لنقتدي بها في جميع شئون حياتنا.
1 / 1
بيان حسن خلق النبي ﷺ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد فحياكم الله جميعًا أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! قد يكون من اليسير جدًا أن تنجذب إلى زهرة وحيدة فريدة وسط صحراء مقفرة، لكن ماذا أنت صانع لو وقفت في بستان ماتعٍ مليءٍ بالزهور والرياحين التي تعددت ألوانها، وتنوعت أشكالها، وشدك عبيرها، فأنت تنتقل من زهرة إلى زهرة؛ لتقف في غاية المتعة واللذة والسعادة والسرور؟! ذلكم البستان الماتع هو بستان أخلاق الحبيب ﷺ، فها نحن ننتقل من خلق إلى خلق، وتتصور وأنت تتحدث عن خلق واحدٍ من أخلاق الحبيب ﷺ أن هذا الخلق هو الأبرز.
فإذا ما أنهيت الحديث على قدر ما منّ الله به عليك من علم وفضل، وانتقلت من هذا الخلق للحديث عن خلق آخر؛ وجدت نفسك في بستان ماتع آخر، وهكذا.
1 / 2
هدي النبي ﷺ في الرفق بالحيوان
الرسول ﷺ آية من آيات الله جل وعلا، وعجيبة من عجائب الكون، ولا ينبغي على الإطلاق أن نجهل أو نتجاهل هذا التاريخ المشرق المضيء؛ لأننا نعيش الآن زمانًا قد انحرفت فيه الموازين، وتغيرت فيه الحقائق وتبدلت.
فنسمع الآن من يزعم أن الغرب هو أول من أصَّل وأسس جمعيات الرفق بالحيوان، ونحن لا ننكر أن الغرب يفعل ذلك الآن، لكن لا يجوز البتة أن يدعي أحد أن الغرب أسبق منا في هذا الأمر، فإن أول من أصَّل وأسس الرفق بالحيوان هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد ﷺ.
تدبروا جميعًا هذه الكلمات النبوية الرقراقة، روى مسلم من حديث شداد بن أوس ﵁ أن النبي ﷺ قال: (إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) .
إلى هذا الحد! (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ليس من الرحمة أبدًا أن تأتي بشاةٍ لتذبحها على مرأى ومسمع من مجموعةٍ أخرى من الأغنام، فهذا ليس من الرحمة، ونرى هذا المشهد في كل عيد من أعياد الأضحى في الشوارع والطرقات.
ترى الرجل من إخواننا يقدم الشاة ليذبحها على مرأى ومسمعٍ من بقية الأغنام، والرسول ﷺ يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وأود أن أنبه بأنكم إذا وجدتم مخالفةً؛ فلا ينبغي أن ننسب المخالفة لمنهج النبي ﷺ، ولا لدينه، وإنما المخالفة تنسب لنا؛ لأننا نحن الذين انحرفنا عن منهج رسول الله وعن خلق رسول الله ﷺ.
1 / 3
بغي تدخل الجنة في كلب سقته
الحبيب ﷺ أخبرنا أن بغيًا -زانية من زواني بني إسرائيل- دخلت الجنة في كلب، وأن امرأة دخلت النار في هرة والحديثان في الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ أنه ﷺ قال: (بينما بغي من بغايا بني إسرائيل تمشي، فمرت على بئر ماء فشربت، وبينما هي كذلك مر بها كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر الماء؛ فملأت موقها، -أي: خفها- ماءً، فسقت الكلب فغفر الله لها) كلب عطشان، وهي امرأة زانية، لكنها رحمته فغفر الله لها.
يقول المصطفى الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صاحب الخلق العظيم: (فغفر الله لها) الله أكبر! ديننا هو دين الرحمة، والرحمة في ديننا ليست بالإنسان فحسب، بل حتى بالحيوان بالكلاب بالقطط بالعصافير؛ قارن هذه بالقسوة، والغلظة، والفظاظة التي نراها الآن في زماننا، وفي عالمنا المادي الوحشي القاسي، قارن بين هذه المعاني الرقراقة؛ تشعر أننا نعيش في زمانٍ آخر، وفي عالم آخر.
أنت ترى الآن عالمًا دمغ بالقسوة، عالم قاسٍ، عالم منّ الله ﷿ عليه بهذه التكنولوجيا، وبهذا العلم، وبهذه المخترعات؛ ليحولها هذا العالم إلى وسائل إبادة للجنس البشري، فما من يوم يمر علينا إلا وترى الدماء تسفك، وترى الأشلاء تمزق في كل مكان على وجه الأرض، عالم مجنونٌ بالفعل؛ يصنع القنبلة، والصاروخ، والطائرة؛ ليدمر المصانع ليحرق المزارع ليهلك الحرث والنسل.
يبيد الجنس البشري، ثم بعد ذلك تراه يدعو أهل الفضل وأهل الخير هنا وهنالك لجمع التبرعات؛ لإعادة التشييد والتعمير، عالم غريب عجيب!! النبي ﷺ يخبرنا أن زانية من زواني بني إسرائيل دخلت الجنة لأنها رحمت كلبًا؛ فغفر الله ﷿ لها بذلك.
أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ أعيدها مرة ثانية وثالثة: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ كيف يكون فضل الله عليك أيها الطبيب إن رحمت مريضًا؟ كيف يكون فضل الله عليكِ أيتها الطبيبة والممرضة إن رحمت مريضًا أو مريضة؟ كيف يكون فضل الله عليك إن رحمت فقيرًا، أو أرملةً، أو يتيمًا، أو مسكينًا، أو طفلًا؟ هذه رحمة الله بالبغي التي رحمت كلبًا، فكيف تكون رحمةُ الله جل وعلا لمن رحم مسلمًا، مؤمنًا، موحدًا، فقيرًا، مستضعفًا، يتيمًا؟ انظر إلى فضل الله، حبذا لو أطلنا النفَس مع هذه المعاني الرقراقة؛ لتفيء أمتنا والعالم إلى هذه اللمحات واللمسات الرقيقة المحمدية النبوية.
1 / 4
امرأة دخلت النار في هرة
في الصحيحين من حديث ابن عمر ﵄ أن النبي ﷺ قال: (دخلت امرأة النار في هرة)، أي: في قطة.
انظر! بغي تدخل الجنة في كلب، وامرأة تدخل النار في قطة، لماذا؟ قال ﷺ: (حبستها -أي: حبست القطة- فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)، حبستها، فلم تقدم لها الطعام والشراب، ولم تطلقها لتأكل من رزق الله في أرض الله جل وعلا؛ فدخلت النار.
فالأمر في غاية الخطورة.
فو الله ما صلى المصلون، وما وحد الموحدون، وما زكى المزكون، وما حج الحاجُّون، وما خاف الخائفون، وما قام القائمون، وما ابتعد عن الحرام المبتعدون؛ إلا من أجل أن يفوزوا بالجنة، ومن أجل أن ينجيهم الله من النار، فتختزل هذه القضية العظيمة بهذه البساطة والسهولة في الرحمة.
بغيٌ ترحم كلبًا؛ فيدخلها الله الجنة، ويغفر لها الذنب، وامرأة تقسو على قطة وتعذبها حتى الموت، وتحرمها من الطعام والشراب، فتدخل النار، ثم بعد ذلك يدعي من يدعي أنه أول من أصَّل وأسس قضية الرفق بالحيوان! كلا، كلا، نحن لا ننكر أنهم يفعلون ذلك، لكن ينبغي أن تعلم أمتنا، وينبغي أن يعلم العالم كله أن محمدًا ﷺ أخبرنا أن بغيًا دخلت الجنة في كلبٍ، وأن امرأةً دخلت النار في هرة.
1 / 5
هدي النبي ﷺ في معاملة مخالفيه
مداخلة: ذكرت أن هذا العالم عالم مجنون، تسفك فيه الدماء، وغرور القوة مسيطر تمامًا على العالم كله، والأعداء يحاربون بكل ما هو محرم في كل مجال، يقتلون الأطفال، والنساء، والشيوخ، ويهدمون البيوت، ويحرقون الأشجار، فنريد أن نعرف خلق الرسول ﷺ في هذا؟! الشيخ: ما شاء الله، هذه لمحةٌ جميلة، وأتمنى أن العالم كله يقرأ التاريخ من جديد؛ فما زالت صفحات التاريخ مفتوحة، واسمح لي أن أستهل الجواب على سؤالك الجميل بقولةٍ لهذا المفكر الشهير بستاف لفن حينما قال: ما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث دينًا سمحًا كالإسلام، وما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث فاتحين متسامحين كالمسلمين، هذه حقيقة.
مع أن رؤية الدم تثير الدم، وتحرك الشهوة للانتقام، لكن مع كل ذلك انظر إلى أخلاق النبي ﷺ، وإلى أخلاق الدين حتى مع الأعداء.
وأنا أود أن أقول: حينما نتحدث الآن عن خلق الحبيب ﷺ مع أعدائه؛ فنحن لا نريد بذلك أن نتحدث حديثًا ذهنيًا باردًا باهتًا، وإنما نود أن نذكر العالم بصفةٍ عامة، وأمتنا المسلمة بصفةٍ خاصة، بأنه لا قيمة لهذه الأخلاق إلا إذا تحولت في حياتنا من جديد إلى واقع عملي، ومنهج حياة، وإلا فسيظل هذا المنهج المشرق حبرًا على الورق.
النبي ﷺ استطاع أن يقيم للإسلام دولة، واستطاع أن يربي جيلًا قرآنيًا فريدًا لم ولن تعرف البشرية له مثيلًا، وذلك يوم أن نجح بطبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي الخلقي، لكنه ﷺ لم يطبعها بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من التقى والهدى والنور؛ فحولوا هذه الأخلاق النبوية العظيمة في حياتهم إلى واقع عملي ومنهج حياة.
1 / 6
حرص النبي ﵊ على هداية قومه
انظر إلى النبي ﷺ في أحرج الأوقات، وفي أشد الأزمات، عن عائشة رضوان الله عليها- والحديث رواه البخاري ومسلم أنها قالت: (يارسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟!)، ويوم أحد كان يومًا عظيمًا، نزف فيه دم النبي ﷺ من جسده، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، وتعرض النبي ﷺ للموت الحقيقي، بل لقد انتشر بالفعل في الميدان خبر قتل النبي ﷺ، حتى ألقى بعض الصحابة السلاح وقالوا: وماذا نصنع بالحياة بعد موت رسول الله ﷺ؟ فقام أنس بن النضر ﵁ -وحديثه في الصحيحين- فقال لهم: (قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ، ونزل في هذه المعركة قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤٤] .
فالسيدة عائشة قالت له: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة، وكان أشد ما لقيت يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال)، وهو رجل من أشراف أهل الطائف، فحينما خرج الحبيب ﷺ من مكة إلى الطائف، ولم يخرج ليطلب مالًا، ولا ليطلب دنيا ولا جاهًا، ولا وجاهة، ولا شهرةً، ولا منصبًا، وإنما ليخرجهم من ظلام الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.
تصور معي أنه ﷺ مشى من مكة إلى الطائف على قدميه أكثر من سبعين كيلو، لا توجد سيارة، ولا دابة، بل مشى على قدميه المتعبتين الداميتين، وتحت حرارة شمسٍ محرقة يعلمها كل من سافر إلى مكة للحج والعمرة، شمس انعكست أشعتها على الرمال؛ فكادت الأشعة المنعكسة أن تحرق الأبصار.
طريق غير ممهدة، لم يركب حمارًا، ولا بغلًا، ولا جوادًا، ولا ناقة، ومع ذلك لما وصل إلى الطائف سلط الأشرافُ السفهاءَ والصبيان على رسول الله ﷺ، ففعلوا به ما لا يتصور البتة أن يفعله إنسان صاحب مروءة بإنسان غريب؛ رموه بالحجارة، سبوه، شتموه، وعاد النبي ﷺ حزينًا كئيبًا، قال النبي ﷺ: (فلما لم يجبني إلى ما أردت -أي: ابن عبد ياليل بن عبد كلال، وهو شريف الطائف- عدت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وقرن الثعالب مكان يبعد عن الطائف حوالي خمسة كيلو.
أريد منك أخي أن تتصور، فكان من الهم الذي يحطم فؤاده، ومن الألم الذي يفتت كبده؛ لا يعرف أين هو، عاد وهو مهموم على وجهه دعوة مطاردة أصحابٌ مشردون في الحبشة، وصاحب الدعوة ﷺ يُضرب، ويُسب، ويُشتم، ويُرمى بالحجارة.
أريد منك أن تتصور الحالة النفسية التي كان يعيشها النبي ﵊ في هذه اللحظات، يقول: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فإذ بسحابة قد أظلتني) -هذه هي التي شدت انتباهه، وهي التي أخرجته من الهموم والآلام والأحزان-: (فنظرت فرأيت جبريل ﵇ -والحديث في الصحيحين- فنادى جبريل على النبي الجليل ﷺ وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت -بالله عليك افترض أي بشر في هذا الموقف؛ دماؤه تنزف مطرود مهان سبوه شتموه تصور كيف يكون الرد! - وإذ بملك الجبال ينادي عليّ: السلام عليك يا رسول الله! لقد أرسلني الله ﷿ إليك لتأمرني بما شئت فيهم، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) .
ما هما الأخشبان؟ الأخشبان: جبلان عظيمان، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للجبل للثاني: الأحمر، ووالله الذي لا إله غيره لو كان الحبيب ﷺ ممن ينتقمون لأنفسهم وذواتهم وأشخاصهم، ولو كان الحبيب ممن خرج لذاته أو لمجد شخصي أو لانتفاع دنيوي حقيرٍ زائل؛ لأمر النبي ملك الجبال أن يحطم هذه الرءوس الصلدة، والجماجم العنيدة، ولسالت دماء من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، لكن اسمع ماذا قال صاحب الخلق الرفيع؟ اسمع ماذا قال الرحمة المهداة لملك الجبال؟ قال النبي ﷺ: (بل أرجو الله ﷿ أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا) لم يبعث لعانًا ولا فحاشًا، وإنما كما قال هو عن نفسه ﷺ: (إنما بعثت رحمة)، وكما قال ربه ﷻ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]، وكما قال ابن عباس: هو رحمة للفاجر والبار؛ فمن آمن به فقد تمت له النعمة، ومن كفر به أمن من العذاب في الدنيا: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال:٣٣] .
1 / 7
نبي الرحمة يطلق ثمامة
من أجمل ما ثبت في هذا الباب: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ: (بعث خيلًا قبل نجد -بعث سرية من أصحابه- فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وكان من أعدى أعداء النبي ﷺ، وكان يتفنن في إيذائه، ويتفنن في تأليب القوم على النبي وعلى الإسلام، فلما أسره أصحاب النبي ﵊ انطلقوا به إلى المسجد النبوي، فربطوه في سارية من سواري المسجد حتى يخرج رسول الله ﷺ، فدخل النبي ﵊ المسجد، فوجد ثمامة بن أثال مربوطًا في عمود من أعمدة المسجد النبوي؛ فاقترب الحبيب المصطفى من عدوه برحمة وود، وقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت)، وهذا رد فيه قوة.
الرسول ﵊ قال له: (ماذا عندك يا ثمامة؟) قال: عندي خير: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني اعلم بأنك ستقتل رجلًا له قوة وقبيلة وعشيرة، ولن تدع دمه يضيع هدرًا على الإطلاق، (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: إن أحسنت إليّ وأنعمت علي، وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل أبدًا ما حييت.
(سل تعطَ من المال ما شئت) أي: إن كنت تريد مالًا فسل تعط، فتركه الحبيب ﷺ، ولم يأمر بقتله، وهو عدوه!.
وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي الصحابة أن يحسنوا إليه)؛ لكن لحكمة نبوية أبقى النبي ثمامة في المسجد؛ ليطلع بنفسه على حال النبي مع أصحابه، وليسمع القرآن غضًا طريًا من فم رسول الله ﷺ، ويعايش الإسلام؛ لأن المسجد كان بيئةً حيةً للدين كله: (فدخل عليه في اليوم الثاني فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالًا؛ فسل تعطَ من المال ما شئت.
فتركه النبي ﷺ، ثم دخل عليه في اليوم الثالث وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت؛ فقال صاحب الخلق الكريم: أطلقوا ثمامة) .
أطلقوه، لا نريد مالًا ولا شكورًا ولا ثناءً.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا ثمامة سيد أهل اليمامة، سيد قومه، رجل عربي أصيل، لما أطلق النبي سراحه؛ انطلق إلى بستان نخل قريب من المسجد النبوي فيه بئر، فاغتسل ثم عاد مرة أخرى إلى المسجد النبوي، فوقف بين يدي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
اسمع وأصغ للحوار الجميل الذي دار بين ثمامة وبين النبي ﵊، نظر ثمامة إلى النبي فقال له: (والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك -مصارحة شديدة- فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي ﷺ، والله ما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك الآن أحب الدين كله إلي، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إليّ.
يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة) .
ذهب يعتمر على شركه، وكانوا يلبون، ويحجون، ويعتمرون، ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك)، سبحان الله قال له: (لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فبماذا تأمرني؟) فبشره رسول الله ﷺ.
قال الحافظ ابن حجر: (فبشره) أي: بالجنة، أو بمحو السيئات؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ولأن التوبة تجب ما قبلها؛ فبشره رسول الله ﷺ، وأمره أن يعتمر.
وفي رواية مسلم: (أنه أول ما وصل إلى مكة لبى، وجهر بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) .
ففزع القوم! من هذا الذي يتحدانا ويعلن التوحيد بهذه الصورة؟! أول من جهر بالتلبية في مكة هو ثمامة بن أثال.
فتساءلوا: من الذي لبى بمكة معلنًا للتوحيد برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم؟ اقترب منه المشركون وقالوا: أصبأت -يعني: أكفرت؟ - قال: لا، بل تبعت محمدًا ﷺ على دينه، ثم قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة -يعني: حبة قمح- إلا أن يأذن فيها رسول الله.
وانظر إلى هذا الرجل حين أسلم؛ بدأ يُسخِّر كل طاقاته، وقدراته، وإمكاناته لدين ربه جل وعلا، يوم أن خلع على عتبة الإيمان رداء الشرك والكفر؛ وظَّف كل ما يملك لدين الله ﷾، ففرض حصارًا اقتصاديًا -على سبيل التحقيق لا على سبيل المجاز- على مكة وأهلها.
وفي رواية ابن إسحاق: (حتى اشتدت المجاعة بهم بالفعل)؛ لأن القمح كان يصل إليهم من اليمامة، وهو سيد أهل اليمامة؛ فمنع كل حبة قمح تصل إلى مكة وأهلها، إلا بعد أن يأذن رسول الله.
يقول ابن هشام في روايته: (حتى أكل أهل مكة العلهز) ما هو العلهز؟ العلهز صوف يشوى، ويضاف إليه بعض الأشياء، يؤكل في وقت المجاعات حين لا يوجد شيء، فذهبوا إلى النبي ﷺ وقالوا: إنك تدعو إلى صلة الرحم، وتأمر بصلة الرحم، وأنت قد قطعت أرحامنا حينما أمرت ثمامة بن أثال؛ فاؤمر ثمامة بن أثال ألا يحول بيننا وبين الميرة؛ فأرسل النبي ﷺ إلى ثمامة بن أثال وقال: خلِّ بينهم وبين الميرة.
انظر كيف حول إحسان النبي ﷺ البغض الكامن الدفين في قلب ثمامة إلى حب مشرق، فبالإحسان تأسر القلوب، وبالرفق وباللين تحول البغض إلى حب، وتحول الكراهية إلى قرب.
فالعنف يهدم ولا يبني، والشدة إذا استخدمت في غير موضعها تفسد ولا تصلح، والنبي ﷺ يقول: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) .
انظر إلى إحسانه وأخلاقه الكريمة مع ثمامة، ما قال: اذبحوه، اقتلوه، اصلبوه، عذبوه، فهو هو، وإنما أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يحسنوا إليه؛ وتأثر هذا الرجل بالإحسان، وهذا هو شأن أهل الكرم في كل زمان.
1 / 8
نبي الرحمة مع وهب بن عمير
روى ابن إسحاق بسند جيد -وإن كان بعض أهل العلم قد ضعف السند من باب الأمانة العلمية- (أن عمير بن وهب جلس مع صفوان بن أمية بعد غزوة بدر في حجر إسماعيل في بيت الله الحرام، فتذاكرا ما كان في بدر، وتذكرا هزيمتهم المنكرة في بدر، فقال عمير لـ صفوان: والله لولا دين علي، وعيال عندي أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله؛ وكان ابن وهب بن عمير أسيرًا في المدينة بعد غزوة بدر، فالتقطها صفوان وقال: دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئًا عنهم، واركب إلى محمد فاقتله، فقال له: فاكتم هذا الخبر، ولا تخبر به أحدًا، وتعاهدا على ذلك، وعاد عمير بن وهب إلى بيته؛ فشحذ سيفه، وأغرقه في السم، وانطلق إلى المدينة ليقتل رسول الله ﷺ، ولما وصل إلى باب المسجد النبوي أناخ راحلته، وشد سيفه، وانطلق، فرآه عمر بن الخطاب ﵁، وهو صاحب الفراسة وصاحب الفطنة والذكاء، فقال عمر ﵁: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر؛ فلببه عمر بثيابه -خنقه-، وجره بثيابه حتى أوقفه بين يدي النبي ﷺ، وظل عمر ممسكًا بمجامع ثوبه حتى قال النبي لـ عمر: أرسله يا عمر -اتركه- فوقف عمير بن وهب بين يدي الحبيب ﷺ؛ فقال له النبي: ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: ولدي أسير عندكم، وجئت إليكم لتحسنوا إلي في فدائه، فقال له النبي: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف؛ وهل أغنت عنا شيئًا يوم بدر؟ فقال له النبي ﷺ: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لهذا، فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: بل جلست مع صفوان في حجر إسماعيل، وذكرتما بدرًا، وقلت لـ صفوان: لولا دين علي، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله.
فقال لك صفوان: دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئًا عنهم، واركب إلى محمدٍ فاقتله، وتعاهدتما على الكتمان، فشحذت سيفك، وأغرقته في السم، وأتيت إلى هنا لتقتلني، لكن الله حائل بينك وبين ذلك، فقال: أشهد أنك رسول الله، والله لا يعلم بهذا الخبر أحد إلا أنا وصفوان؛ فأحمد الله الذي ساقني هذا المساق، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي ﷺ: خذوا أخاكم وعلموه القرآن ...) .
1 / 9
ضرورة جعل أخلاقه ﷺ منهج حياة
مشاهد السيرة مشاهد رقراقة، وأنا لا أسوقها لمجرد الاستمتاع السلبي؛ لأنه يؤلمني جدًا أن كثيرًا من أحبابنا وإخواننا حينما يستمعون إلى مثل هذه النماذج الفريدة من أخلاق الحبيب يقول: يا سلام، كان يا مكان، على عهد النبي ﵊.
قد استمعنا إلى قصة عنترة بن شداد أو إلى قصة الزير سالم أو إلى قصة أبي زيد الهلالي، وكأننا لسنا ملزمين بأن نحول هذه الأخلاق الراقية الرائعة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة.
حبر من أحبار اليهود، أي: عالم من علمائهم اسمه زيد بن سعنة، روى قوله الطبراني بسند رجاله ثقات، ذكر هذا الرجل أنهم يعرفون أخلاق النبي ﷺ في التوراة، ويعرفون صفته؛ لأن التوراة بشرت برسول الله وذكرت صفة رسول الله ﷺ، كما قال الله جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:١٤٦]، وكذا ذكر عبد الله بن سلام، حبر اليهود الأعظم، الذي أسلم حينما وصل النبي من مكة إلى المدينة مهاجرًا، يقول عبد الله بن سلام: (فلما نظرت إلى وجه النبي عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب)، وسأل النبي ﵊ أسئلة غيبية -والحديث في الصحيحين- قال: (إن أجبتني عنها؛ عرفت أنك نبي؛ لأنه لا يعرف الجواب عنها إلا نبي، قال: سل! قال: ما هو أول طعام لأهل الجنة؟ وما هي أول علامات الساعة؟ ومتى ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ -يعني: متى يكون المولود ذكرًا، ومتى يكون المولود أنثى؟ - فقال النبي ﷺ لـ عبد الله بن سلام: لقد أخبرني بالجواب جبريل آنفًا، أما أول طعام لأهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما أول علامات الساعة فنار تخرج من المشرق؛ لتطرد الناس إلى محشرهم، ثم ذكر متى ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه)؛ وهذه المعلومة الأخيرة لم يعرفها العلم الحديث إلا في السنوات الماضية، وقد أخبر بها النبي ﷺ قبل مئات السنين ﵊، وصدق ربي إذ يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:٣-٥]، قال في الحديث: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرًا بإذن الله، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بإذن الله)، وفي لفظٍ: (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة؛ أذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل؛ آنثا بإذن الله) .
قال عبد الله بن سلام: (والله إني لأقر لمحمدٍ بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة)، عبارة عالية جدًا: (والله إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة)؛ لأن الذي شهد بنبوة محمد ﷺ هو الله جل وعلا، وهو أصدق القائلين: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:١٢٢] ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:٨٧]، لا أحد.
1 / 10
النبي ﵊ يسبق حلمه غضبه
زيد بن سعنة كان حبرًا مثل عبد الله بن سلام، عرف أوصاف النبي ﵊ فقال: (والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد رأيته في محمد ﷺ، إلا أنني لم أعرف من العلامات علامتين: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا) يعني: حلمه أسبق، ولو جهل عليه ازداد بهذه الجهالة حلمًا.
قال: (فخرج رسول الله ﷺ يومًا من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فاستوقفه رجل، فقال: يا رسول الله! إن قومي من بني فلان في قرية كذا قد دخلوا الإسلام، وقد وقع بهم شدة، وكنت قد وعدتهم إن دخلوا في الإسلام أن يأتيهم رزقهم رغدًا، وأخشى اليوم أن يخرجوا من الإسلام طمعًا كما دخلوا في الإسلام طمعًا، فإن رأيت أن تغيثهم بشيء من المال فعلت، وجزاك الله خيرًا، فالتفت النبي ﵊ إلى علي وكأنه يريد أن يسأله عن مال، فقال علي: والله ما بقي منه شيء يا رسول الله.
قال زيد بن سعنة: فانطلقت إلى النبي ﷺ فقلت: يا محمد! بعني تمرًا معلومًا في حائط بني فلان إلى أجلٍ معلوم، فقال له النبي ﷺ: لا تسم حائط بني فلان، قال: قبلت، قال: فأعطيت النبي ثمانين مثقالًا من ذهب، فدفعها كلها إلى هذا الرجل، وقال: أغث به قومك، وانطلق.
قال: فخرج النبي ﷺ يومًا يصلي على جنازة، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فجلس إلى جوار جدار في المدينة من شدة الحر، قال زيد بن سعنة: فانطلقت إليه وأنا مغضب، وأخذت النبي من مجامع ثوبه، وقلت له: أدِ ما عليك من حق يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مطلًا يعني: في سداد الحق، تصور هذا المشهد وسط الصحابة! فانقض عمر رضوان الله عليه، وقال: يا عدو الله! تقول هذا لرسول الله، وتفعل به ما أرى؟! والله لولا أني أخشى غضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، فماذا قال النبي ﵊؟ قال: يا عمر! والله لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بأداء الحق، وأن تأمره بحسن الطلب، خذه يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعًا من تمرٍ جزاء ما روعته، فأخذه عمر رضوان الله عليه فأعطاه حقه وزاده عشرين صاعًا من تمر؛ فقال له زيد بن سعنة: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أدفعها لك جزاء ما روعتك، قال له: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا زيد بن سعنة، قال: حبر اليهود؟ قال: نعم، قال: وما الذي حملك أن تفعل برسول الله ما فعلت، وأن تقول له ما قلت؟ قال: يا عمر لقد نظرت في علامات النبوة؛ فوجدت كل العلامات فيه، لكنني أردت أن أختبر فيه هاتين العلامتين: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهالة عليه إلا حلمًا، وهأنذا قد جربتهما اليوم فيه؛ فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله ﷺ، وتصدق بشطر ماله للفقراء والمساكين، وجاهد مع النبي ﷺ، وشهد معه معظم الغزوات، وقتل شهيدًا مقبلًا غير مدبر في غزوة تبوك) .
1 / 11
أعظم خدمة للإسلام هي العمل بأخلاق النبي ﵊
مداخلة: في هذا الوقت نرى صراع الإسلام والغرب، وعرفنا أخلاق الرسول ﷺ، ولكن ما أكثر الذين هجروا خلق الرسول ﷺ، وهجروا الغاية التي من أجلها بعث، فيجب علينا إذا كنا نريد أن نقول للعالم شيئًا، وننشر الإسلام، ونظهر صورة الإسلام على حقيقتها؛ أن نتمثل أخلاق الرسول ﷺ قبل أن ننشرها.
الشيخ: أنا دائمًا أقول لإخواني: إن أعظم خدمةٍ نقدمها اليوم للإسلام؛ هي أن نشهد للإسلام على أرض الواقع شهادة عمليةً بأخلاقنا وسلوكنا، بعدما شهدنا له جميعًا بألسنتنا شهادة قولية، فيجب علينا -أيها الأفاضل- أن نرجع إلى خلق الحبيب ﷺ؛ لنحوله في حياتنا إلى واقع عملي، ومنهج حياة.
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا والحمد لله رب العالمين.
1 / 12
سلسلة إيمانية - أسلوب النبي في الدعوة
لقد اجتمع في النبي ﷺ أعظم الصفات الخَلقية والخُلقية التي لم يؤتها الله ﷿ عبدًا من عباده غيره، وجماع أخلاق النبي ﷺ هو القرآن الذي أنزله الله عليه، وجميع الناس وخاصة العلماء والدعاة إلى الله بحاجة إلى أن يستقوا من رحيق خلقه ﷺ في تعامله مع الناس وحكمته في الدعوة إلى الله، فإن منهجه في الدعوة هو المنهج الذي يجب اتباعه وعدم مخالفته.
2 / 1
صفة النبي الخَلقية والخُلقية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته أيها الإخوة الكرام، وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله ﷿ الذي جمعني بكم جميعًا في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين، وسيد المرسلين، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لقد أحسن الله ﷿ لنبينا ﷺ الخَلْق والخُلُق، بل وأكمل له المحاسن خَلْقًا وخُلُقًا.
فلقد كان النبي ﷺ -كما ذكرت قبل ذلك- عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله ﵎، كان أحسن الناس وجهًا، وكان إذا سر وسعد استنار وجهه كأنه فلقة قمر! بل كان ﷺ إذا غضب يحمر وجهه، حتى تشعر وكأنك قد فقأت في وجهه حب الرمان، ﷺ.
كان أبيض مليحًا كأنما صيغ من فضه، كانت لحية الحبيب ﷺ تملأ صدره، كان كث اللحية، وكان واسع الصدر عظيم المنكبين، وكان ﷺ إذا تكلم كأن النور يخرج من بين ثناياه ﷺ.
يقول علي رضوان الله عليه، وهو الذي تربى في حجره: (والله لم أر قبله ولا بعده أحسن منه)، ﵊، وانظر إلى ما يقول سيدنا البراء بن عازب، والحديث في الصحيحين: (ما رأيت من ذي لمة -اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم، هو الشعر الذي يجاوز شحمة الأذنين- في حُلة حمراء أحسن من رسول الله ﷺ، ويقول أبو هريرة رضوان الله عليه -والحديث في مسند أحمد وسنن الترمذي بسند صحيح -: (والله ما رأيت أحسن من رسول الله ﷺ كأن الشمس تجري في وجهه) أتمنى أن نعيش في هذه اللحظات مع النبي ﵊، وفي لفظ: (إذا نظرت إلى رسول الله ﷺ قلت: إن الشمس طالعة)، الله! وانظر إلى التعبير الجميل، والوصف البديع الذي يصف به سيدنا أنس خادم سيدنا رسول الله ﷺ، يصفه وصف محب لحبيبه، والحديث في الصحيحين، ماذا قال؟ قال: (خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين -أي: أنه كان مع النبي ﵊ ليلًا ونهار، إلا في الأوقات الخاصة به ﵊ فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله، وما شممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب من ريح رسول الله)، بأبي هو وأمي وروحي!
2 / 2
كان عرق النبي ﷺ أطيب من المسك
نعم كان عرق الحبيب ﷺ أطيب من المسك، روى مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده وغيرهم: (عن أم سليم رضوان الله عليها أن النبي ﵊ كان عندها في وقت الظهيرة يومًا، وكان الجو شديد الحر، فعرق رسول الله ﵊؛ فجاءت أم سليم ﵂ بقارورة (زجاجة)، لتسلت العرق في هذه الزجاجة، فاستيقظ النبي ﵊، وقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! قالت: عرقك أطيب طيبنا يا رسول الله!) .
وتعال انظر إلى أم معبد رضوان الله عليها، التي شرفت وكرمت بأن دخل الحبيب ﷺ خيمتها يوم الهجرة، وهي لا تعرف رسول الله ﵊، ودخل الخيمة، وكانت لا تملك شيئًا إلا الشاة التي كانت لا تحمل لبنًا؛ لأنه لم ينز عليها الفحل بعد، ولما سألها الصديق رضوان الله عليه هل من طعام أو شراب؟ قالت: والله! لا أملك إلا هذه الشاة التي لم يسر اللبن في ضرعها بعد، ومسح النبي ﷺ على ظهر هذه الشاة، وسال اللبن، وتحرك الضرع بهذا اللبن الغزير الوفير؛ فتعجبت هذه المرأة من هذه البركات التي حلت عليها وعلى خيمتها!! من هذه الإشراقات والأنوار الربانية التي حلت بدخول سيد البشرية في خيمتها!! فلما انصرف النبي ﵊ ورجع زوجها؛ وجد أن الأمر فيه شيء، وأن الوضع متغير.
يا أخي! لو دخل مصعب بن عمير رضوان الله عليه شارعًا من الشوارع وطريقًا من الطرقات، كان أهل الطريق يعرفون أن مصعبا قد دخله لطيبه وريحه، فما ظنك بطيب الطيب ﷺ!! ونحن قد قلنا: إن عرقه أطيب من الطيب ﵊، فلما عاد زوج أم معبد سألها، فقصت عليه، قال: لعله الرجل الذي خرج في مكة -وهو لا يعرفه- صفيه لي يا أم معبد! وانظر إلى المرأة العربية البدوية، تصف الحبيب ﷺ وصفًا عجيبًا، فتقول ببساطة: (رجل ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم علاه البهاء ﵊ أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا) تعبير عجيب؛ غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا! قال الشاعر: أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهدُ وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمدُ ﷺ.
لا أريد أن أطيل النفس في وصف رسول الله ﷺ؛ فنحتاج إلى لقاءات ولقاءات.
2 / 3
رحمة النبي ﷺ
مداخلة: نحن مشتاقون في الحقيقة إلى الكلام عن النبي ﷺ، وهذا الزمان قد أصبح العالم فيه ماديًا وقاسيًا وظالمًا، ونحن محتاجون إلى الرحمة، فكلنا محتاجون إليها، فليتك تكلمنا عن رحمة الرسول ﷺ!! الشيخ: صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
لقد كان النبي ﵊ رحمة لكل العالمين، وليس كما يفهم البعض من أنه ﷺ كان رحمة للمسلمين فحسب، كلّا، هو رحمة للمسلمين ولغير المسلمين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]؛ قال ابن عباس ﵄: (رسول الله ﷺ رحمة للفاجر والبار)، ما هذا؟ رحمة للبار؟ نعم.
مقبول، لكن النبي ﵊ رحمة للفجار للكفار؟! لماذا؟ لأنه بمجرد أن بعثه ربه ﵎، وعده بألا يعذب القوم ما دام رسول الله فيهم، قال الله ﷿: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال:٣٣] .
فمن آمن به ﵎ فقد اكتملت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به رحم في الدنيا، ونجا من عذاب الدنيا، وبعد ذلك يعاقبه أو يحاسبه ربه بما شاء وكيف شاء في الآخرة.
ومن ثم كان الحبيب ﷺ رحمة للعالمين: للفجار للكفار للأبرار الموحدين والمؤمنين المصدقين به ﷺ.
فرسول الله ﷺ بعثه ربه ﷿ رحمة، ولذلك قال سيدنا النبي ﷺ: (إنما أنا رحمة مهداة ...) الحديث، وإن كان قد روي مرسلًا، إلا أن الحاكم قد رواه موصولًا بسند صحيح، وأقر الحاكم الذهبي وغيره.
وفي صحيح مسلم: (قالوا للنبي ﵊: ادع الله على المشركين! فقال: إني لم أبعث لعانًا، إنما بعثت رحمة مهداة)، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انظر إلى رحمته بالأمة ﵊: النبي ﵊ جلس يومًا فقرأ قول الله ﵎ في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم:٣٦]، انظر إلى كلام سيدنا الخليل، هذا كلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يقول: (رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس)، يعني: الأصنام والآلهة المكذوبة المدعاة، (فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني) لم يقل: فانتقم منه فأهلكه، بل قال: (فإنك غفور رحيم) .
(فلما قرأ النبي ﷺ هذه الآية في حق خليل الله إبراهيم، وقرأ قول الله في عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة:١١٨]، بكى، فقال الله ﷿ لجبريل ﵇: يا جبريل! انزل إلى محمد ﷺ فسله: ما الذي يبكيك؟ فنزل جبريل ﵇ إلى النبي ﷺ وسأله: ما الذي يبكيك؟! فقال الحبيب ﷺ: أمتي! أمتي! يا جبريل، أمتي! أمتي! يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل، فقال: يبكي على أمته -وهو أعلم ﷻ فقال الله ﵎ لجبريل: انزل وقل لمحمد ﷺ: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) .
فوالله ما كرمت هذه الأمة إلَّا لكرامة الله للمصطفى.
قال الشاعر: ومما زادني فخرًا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا (انزل إلى محمد ﷺ فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) ولذلك روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (لكل نبي دعوة مستجابة)، أي: كل نبي له دعوة، وعده الله ﵎ أن يستجيبها، (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته إلا أنا، فإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئًا) .
2 / 4
صفة النبي ﷺ في الكتب السماوية السابقة
لقي عطاء بن يسار -كما في صحيح مسلم- عبد الله بن عمرو ﵄ فقال له: (أخبرني بصفة رسول الله ﷺ في التوراة)؛ لأن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام بشر بنبينا محمدًا ﷺ، وكذلك نبي الله موسى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف:٦] .
فـ عبد الله بن عمرو رضوان الله عليه يصف رسول الله ﷺ بنفس صفته التي وردت في التوراة: كتاب موسى، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فقال عطاء بن يسار: (صف لي رسول الله بصفته التي وصف بها في التوراة، فقال عبد الله بن عمرو: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، فيقول: لا إله إلا الله، حتى يفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا) .
2 / 5
كان خلقه القرآن
كان النبي ﷺ قرآنًا متحركًا في دنيا الناس كما قالت الفقيهة الحَصان الرزان الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها وهي تصف الحبيب ﷺ هذا الوصف البليغ العجيب حين قالت: (كان خلقه القرآن) .
نعم، لقد كان الحبيب قرآنًا متحركًا بين الناس، وهذا هو السر الحقيقي الذي جعل القلوب تتعلق به، وتشتاق إليه، وتهفو إليه، وتحن إليه، بل وتحترمه مع أنها قلوب أعدائه، فقلوب الأعداء أجلته وأحبته وأكرمته، لماذا؟ لأنه كان قرآنًا متحركًا بين الناس، كان إذا أمر فهو أول من يأتمر، وكان إذا نهى فهو أول من ينتهي، وكان إذا حد فهو أول من يقف عند حدود الله ﵎.
لما أمر بالعبادة قام متعبدًا خاشعًا خاضعًا بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!) .
ولما أمر بالبذل؛ أنفق كل ما يملك، حتى جاءه رجل ليسأله الصدقة؛ فأعطاه الحبيب غنمًا بين جبلين، فعاد هذا الرجل إلى قومه ليقول: (يا قوم! أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) .
أمرهم بالجهاد وبذل النفس؛ فكان في مقدمة الصفوف، لا يجبن ولا يتأخر، بل كان إذا اشتد الوطيس وحميت المعارك، وفر الشجعان، وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب؛ قام الحبيب ينادي بأعلى صوته ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ﷺ.
من هنا تعلقت به القلوب؛ لأنه كان قرآنًا متحركًا في دنيا الناس.
2 / 6
أسلوب النبي ﷺ في الدعوة
مداخلة: طيب، كلنا نرى الناس هذا الوقت فيهم بعض القسوة، والدعوة لهذا فن وخلق وأسلوب، فليتك تكلمنا عن الرسول ﷺ وخلقه في الدعوة.
الشيخ: ما شاء الله، جميل، أود في البداية أن أقول: ليس كل من ينشغل بالدعوة إلى الله ﷿ يتصف بمثل ما تفضلت به، ولكنني أتفق مع حضرتك تمامًا في أن بعض إخواننا ممن يتحركون لدين الله ولدعوة الله لا يعرفون شيئًا عن خلق صاحب الدعوة ﷺ، في كيفية وفن الدعوة إلى الله ﵎.
نعم أخي الحبيب، وجزاك الله خيرًا؛ لأننا في أمس الحاجة الآن إلى أن يتربى شبابنا، وإلى أن يتعلم دعاتنا من سيد الدعاة، وإمام التقاة، وسيد النبيين والمرسلين ﷺ.
أيها الأفاضل! إننا لا نتعامل في دنيا البشر مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلدة، إنما نتعامل مع بشر، وفيهم الخير والشر فيهم الحلال والحرام فيهم الحق والباطل فيهم الإقدام والإحجام فيهم الطاعة والمعصية.
فيجب علينا أن نعلم يقينًا أن لهذه النفوس البشرية مفاتيح محددة، يجب علينا أن نمسك بها؛ حتى نستطيع أن نسبر أعماق هذه النفوس البشرية؛ لنصل إليها من أقصر طريق، وأفضل وأقصر طريق لنصل من خلاله إلى قلوب الناس هو طريق محمد ﷺ؛ لأنه ينطلق من منطلقات ثابتة حددها له ربه ﵎، إن المنهج الدعوي منهج توقيفي، ليس برغبتك ولا برغبتي، منهج الدعوة إلى الله ﷿ منهج توقيفي له ضوابط، وله أصول.
صحيح قد تختلف وسيلة الدعوة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان؛ قد تختلف من دعوة إلى الله بالأشرطة بالكتيبات بأي وسيلة من الوسائل، لكن المنهج توقيفي، لا يجوز لأي داعية -أيًا كان- أن يختار لنفسه المنهج الذي يريد.
2 / 7
قصة: صلِّ يا حمار!
والله الذي لا إله غيره، لقد رأيت -وأنا في طريقي إلى مسجد من المساجد- رجلين التقى كل منهما بالآخر، ويبدو أن أحدهما كان على سفر، فتعانقا وتصافحا في ساحة المسجد، في المكان الذي يتوضأ فيه الناس.
فقد دخل الرجلان بيت الله للصلاة، وبعد ذلك وقفا وتكلما: كيف الحال؟ وأنت فعلت ماذا وطال الوقوف، وإذ بأحد الإخوة أراد أن يذكر الرجلين بالدخول إلى المسجد حينما سمع المؤذن يقيم الصلاة، فوجدت هذا الرجل، ودخلت بقدر الله في هذا التوقيت، وإذ بهذا الأخ يقول للرجلين: صلّ يا حمار أنت وهو؛ فاقتربت منه، وأسكته آخذًا بكتفه وقلت له: لن يصليا، قال: كيف يا شيخ؟ قلت: لن يصليا يا أخي، قال: كيف لن يصليا؟ قلت له: هل فرض ربنا الصلاة على الحمير؟! الحمير لا تصلي؛ فاستحيا، قال: معذرة، قلت: اعتذر لهما يا أخي، لا تعتذر لي!! هذه ليست طريقة دعوة إطلاقًا، نحن بذلك نخسر! أهل الباطل يتفننون في جذب القلوب إلى باطلهم، فيجب على أهل الحق أن يوصلوا الحق الذي معهم إلى القلوب بالحق بالحكمة بالرحمة بالتواضع بالأدب؛ هذه أخلاق سيد الدعاة ﷺ.
الزم هذا المفتاح تدخل به إلى البشرية! مداخلة: معناه أن النفس البشرية مختلفة.
الشيخ: نعم، مختلفة، وهل تعرف ما المفتاح؟ حكمة، رحمة، تواضع، أدب، لا ينبغي على الإطلاق أن أخاطبك ولسان حالي يقول: أنا التقي وأنت الشقي، أنا الطائع وأنت المذنب، أنا المطيع وأنت العاصي، أنا العالم وأنت الجاهل! لا، ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء:٩٤]، تذكر: إن كنت عالمًا فمن الذي علمك؟ ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:١٧] .
2 / 8