هناك شيء في الموسيقى يسحر ألباب الإنسان والحيوان، وسائر الكائنات الحية، يرقص الحصان والحمار على الإيقاع، تغرد الطيور في الصباح، تصفر الصراصير في الليل مع نقيق الضفادع، يسترخي جسد الثعبان ويكف عن اللدغ حين يسمع المزمار، يستخدم الطب النفسي الموسيقى لعلاج المجانين، تروض الموسيقى النمور والضباع في الغابات.
ليس كل الموسيقى، وليس كل الغناء، وليس كل إيقاع الرقص. كانت زينة بنت زينات تعيش الموسيقى، تسمع اللحن في النوم، تدونه حين تشرق الشمس، تغنيه مع البلبل والكروان، ترقص على إيقاعه وهي تجري نحو أمها زينات. لم تكن زينة تنقل من الكتب أو تقلد الشعراء أو الشاعرات، تكتب كلماتها من وحي تجاربها في الحياة، عرفت في طفولتها ما لا يعرفه الكبار، هتكت السر المخفي عن عيون البنات، رأت عري الرجال وهي طفلة، تجاوزت الألم والاغتصاب. لم يدمرها رجل، ولا أب ولا أخ كبير، ولا عم ولا جد، ولا حبيب ولا زوج. كانت الموسيقي حبها، من يحب الموسيقى تحبه، ومن يكره الموسيقى تكرهه، وإن كان الملك أو الأمير.
واقفة شامخة فوق خشبة المسرح تحت الأضواء تشبه الإلهة فينوس أو إيزيس أو نفرتيتي أو مريم العذراء أم الإله، أو لا تشبه أية واحدة فيهن. زينة هي نسيج وحدها، لا أحد يشبهها، جلبابها الممزق البالي، لرأسها هذه الشمخة، هذه الخطوة الثابتة فوق الأرض. هاتان المقلتان المشعتان، هذا الإشعاع النادر، يجذب إليها العيون، يجعل القلوب تخفق، والعقول تتساءل: من تكون؟ من خلقها بهاتين العينين المرفوعتين؟ أهو الإله ذاته الذي خلق عيون النساء المنكسرات؟
كان سحرها يكمن في هاتين المقلتين، الجسورتين المقتحمتين للحجب. في هذه النظرة الثانية، هذه الحلقة الواسعة الثابتة لا يطرف لها جفن، هذا البريق المدهش لطفلة تغلبها الدهشة الدائمة ولا يدهشها شيء. تخرجت من مدرسة الشارع، عرفت قاع الحزن وقمة الفرح، لم تعد تخاف القاع ولا القمة، لم يملكها رجل، ولا يمكن أن تكون مملوكة لأحد، حتى الموسيقى لم تملكها، هي التي ملكت الموسيقى وتحررت بها من الفقر والخوف والعبودية.
أصبحت زينة بنت زينات ظاهرة في مجال الموسيقى والشعر والغناء. حين يسألها الصحفيون في نهاية الحفل، ما حلم حياتك؟ يشرق وجهها كالأطفال، تضحك وتملأ صدرها بالهواء، تنشد بصوت كالغناء أول قصيدة كتبتها في طفولتها:
حلم حياتي أن أبني لأمي بيتا
من الطوب الأحمر،
ليس من طين معجون.
هي تملكه.
لا يطردها منه مخلوق،
Bilinmeyen sayfa