عيناه تتابعان حركة زينة بنت زينات، كانت تعزف على البيانو، ظهرها مشدود فوق مقعد بدون ظهر، يري وجهها من الجانب، شعرها الغزير مرفوع فوق رأسها كالتاج ، بشرتها سمراء ملوحة بالشمس، أنفها مستقيم مرفوع في شموع، تهز كتفيها على اللحن، أصابعها الطويلة الرشيقة تجري على البيانو كأصابع من الضوء. العيون في الصالة الواسعة ترمقها، تطغى الموسيقى على الحوار الدائر: - زينة كانت صاحبتك من زمان يا مجيدة؟ - من أيام المدرسة يا أونكل. - حاولي تنصحيها يا مجيدة عشان تعرف ربنا. - صاحبتي زينة أخلاقها كويسة أوي يا أونكل، ما فيش في حياتها غير الفن والموسيقى والغنا. - الحاجات دي كلها حرام يا مجيدة. - حرام ليه يا أونكل؟
تلتفت إليهما صفاء الظبي، تتدخل في الحوار، صوتها يهمس في غضب: حرام ليه يا أستاذ أحمد؟ الفن الجميل نعمة من عند ربنا. ربنا جميل يحب الجمال، مش كده واللا إيه يا أستاذ؟ - أرجوكم بلاش كلام عاوزين نسمع زينة.
إنه صوت بدور، جالسة في المقعد خلف صديقتها صافي، تخشى أن ينقلب الفرح إلى حزن، لا تريد لابن عمها أحمد الدامهيري أن يعكر الجو. تعرفه منذ الطفولة، لا يهدأ حتى يلفت الأنظار إليه، كان يتوقع أن تقدمه بدور للضيوف، أن ترمقه عيونهم برهبة، أن يحسوا وجوده، لكنه يجلس في الصف مثل الآخرين من المدعوين، كأنما هو نكرة، وهو الأمير، نجم مرموق في كل مكان، إله أو نصف إله في نظر الأتباع والأعوان.
تململ في مقعده مترددا بين البقاء ومغادرة المكان، لولا أن زينة بنت زينات بدأت تغني، صوتها يسري في جسده محدثا كهربة غير معروفة المصدر. ترتج أعماقه ارتجاجة تنفض عنه حزن السنين، عيناء المطفأتان يطفو عليهما البريق. زينة واقفة أمام البيانو تواجه الجمهور في الصالة الواسعة، جالسين صفوفا عيونهم شاخصة إليها، ترى وجه أمها زينات في الصف الأخير، جالسة وسط الخدم والطباخين، عيناها من تحت الدموع تكسوهما لمعة. تترك زينة مكانها فوق خشبة المسرح وتذهب إليها، تمر بين الصفوف شامخة الرأس طويلة القوام، كما كانت تمشي بين صفوف البنات في المدرسة، منذ عشرين سنة أو ثلاثين أو مائة. يبدو الماضي بعيدا قريبا كأنه الأمس، تحوط أمها بذراعها، تسير بها بين الصفوف، تصعد بها السلالم القليلة إلى المنصة، تنحني للجمهور بكبرياء طبيعية وتقول: هذه الأغنية الجديدة أهديها لأمي زينات، أمي الغالية أغلى عندي من الدنيا والآخرة.
تطرق بدور الخرتيتي برأسها تبتلع دموعها في صمت. يتململ أحمد الدامهيري في مقعده: هذه الفتاة فاجرة، يعني إيه أغلى من الدنيا والآخرة؟ ما فيش حاجه أغلى من الآخرة يا كافرة.
تدور الكلمات في رأسه دون أن ينطق. يدب الصمت في القاعة، تبدأ الفرقة بالعزف، أطفال أصبحوا شبابا وشابات، صعدوا مع زينة بنت زينات إلى عالم الموسيقى والفن. دربتهم أبلة مريم، يوما بعد اليوم، الشهر بعد الشهر السنة بعد السنة، أطلقوا اسمها على الفرقة، اشتهرت فرقة مريم مع مرور الأيام في كل أنحاء البلد. كانت أبلة مريم جالسة إلى جوار مجيدة الخرتيتي، أشرق وجهها حين أشارت إليها زينة بنت زينات، صعدت معها إلى المنصة، قدمتها زينة إلى الجمهور وهي واقفة بينها وبين أمها زينات. - أبلة مريم هي أمي الثانية، هي التي جعلتني أحب الموسيقى والغناء، هي التي دربتنا واحتضنتنا من الشارع إلى عالم الفن. أطلقنا على فرقتنا اسم فرقة مريم، ليس لنا مقر إلا الشارع بترابه ونسائه ورجاله وأطفاله بمظاهراته وهتافاته، يسقط الظلم تحيا الحرية، الشارع يوحي إلينا الألحان والكلمات والإيقاع، نستمد الموسيقي من الشارع، من الرصيف والتراب، من أنفاس الناس الدافئة فوق الأرض، ليس من برودة السماء.
صوتها وهي تتكلم يشبه الغناء، المقلتان الكبيرتان في عينيها الواسعتين يكسوهما ضوء يشبه الشمس. صوتها يسري دافئا إلى قلوبهم بحرارة الدم، ينفذ إلى أعماقهم مشحونا بالحزن وفرحة الأطفال، كلمات بسيطة تخرج من صدرها مع أنفاسها، طبيعية سهلة بسيطة، كل شيء حولها يبدو طبيعيا وإن كان غير مألوف.
ينتفض أحمد الدامهيري في مقعده: هذه المرأة خطيرة ليست بسيطة، تتلاعب بالكلمات، يعني إيه برودة السماء؟ ده كلام كفر.
كان يكلم نفسه بلا صوت.
الأيادي في الصالة ارتفعت بالتصفيق، طغى صوت التصفيق على الأصوات الأخرى. كان بعض أعوان أحمد الدامهيري جالسين في الصفوف الخلفية، أو واقفين في الممرات. لا يخرج الأمير دون حراس مسلحين يرتدون ملابس مدنية عادية، جلاليب بيضاء أو بدلات صفراء من القماش الكاكي أو الجبردين، داخل جيب كل منهم مسدس مكتوم الصوت، رءوسهم تتحرك هنا وهناك، لكن عيونهم ثابتة شاخصة نحو الأمير، لا يرون غيره وإن امتلأت القاعة، لا يسمعون إلا صوته وإن ارتفعت الأصوات، أو عزفت الموسيقى وتصاعد الغناء. رأوه ينتفض في مقعده، يزمجر بصوت خافت، ربما لم يكن للزمجرة صوت مسموع وسط التصفيق، لكن آذانهم المشرئبة نحو حركة شفتيه التقطت الصوت ربما لم تكن إلا انقباضة عضلات الفم حين مط شفتيه المزمومتين، تحركت عضلاتهم مع حركته، خرجت من بعض الشفاه زمجرات، ابتلعها صوت التصفيق المتواصل، ثم دب الصمت. وعادت زينة بنت زينات إلى العزف والغناء.
Bilinmeyen sayfa