وهبط زيتون وتود على جانب المنزل، وركبا قارب تود ذا المحرك، وأسرعا نحو الحريق حتى شاهدا النار وهي تتوهج باللونين الأبيض والبرتقالي بين المباني وفوق قمم الأشجار. وعندما اقتربا منها، أدركا أن الحريق قد التهم عمارة كاملة، كانت الحرائق مشتعلة في خمسة منازل، وألسنة اللهيب تحاول الإمساك بالسادس، لم تكن معهما أدوات لصد الحريق، ولم يكونا يعرفان على الإطلاق ما يمكنهما أن يفعلا لإطفاء جحيم كيميائي.
لم يكن مكتب زيتون قد أصيب بأي أضرار، ولكنه لم يكن يبعد عن الحرائق بأكثر من عشرين قدما، واختبرا قوة الرياح واتجاهها، كانت ليلة ساكنة، ذات رطوبة عالية. كان من المحال التنبؤ بمسار النار، ولكن المؤكد أنه كان يتعذر إيقاف مسارها ، كانت على مقربة منهما محطة مطافئ لا تبعد إلا بمقدار أربعة مربعات سكنية، ولكنها كانت خالية وتغمرها المياه. ولم يكونا يستطيعان رؤية رجال المطافئ في أي مكان، ولما كانت خطوط التليفون مقطوعة، ورقم الطوارئ 911 لا يعمل، فلم تكن لديهما وسيلة لتنبيه أحد، لم يكن في طوقهما إلا المشاهدة.
وجلس زيتون وتود في قاربهما، وحرارة النار تلفحهما في موجات منتظمة، وكانت للنار رائحة كالمسك لاذعة وألسنة اللهب تزدرد المنازل بسرعة عجيبة، وكان بين هذه المنازل قصر فكتوري طالما أبدى زيتون إعجابه به، وبعده بقليل منزل كان زيتون ينظر في شرائه عندما عرض للبيع منذ سنوات معدودة، وقد ابتلعت الحرائق المنزل في بضع دقائق، واختفت الأطلال في المياه الدكناء، فلم يبق منها شيء.
واشتدت الريح من جديد، ولكنها كانت تهب في عكس اتجاه مكتب زيتون، ولو كانت قد هبت مرة واحدة في الاتجاه الآخر لاستسلم مبنى المكتب أيضا. وحمد الله على رحمته به.
وبينما استغرقا في المشاهدة، لمحا عددا محدودا من الناس يشاهدون معهم. كانت وجوها يكسوها اللون البرتقالي ويلفها الصمت. وباستثناء قعقعة النار والأصوات العارضة لانهيار جدار أو أرضية منزل، كان الليل ساكنا. لم تتردد أصوات سرينات سيارات الإسعاف أو الشرطة، ولم يشعر أحد بوجود أي سلطة من أي نوع؛ لا شيء سوى كتلة من البيوت التي تحترق وتغوص في البحر الأسود الذي ازدرد المدينة.
وعندما عاد زيتون وتود إلى المنزل في شارع دارت، كانا صامتين، وظهرت النجوم في السماء، وكان تود يقود القارب كأنما كان ربانا ليخت عظيم. أوصل زيتون إلى منزله، وتبادلا تحية المساء، وعندما صعد زيتون إلى السطح كان ناصر قد نام في الخيمة.
وقف زيتون على سطح المنزل وشاهد النار وهي تعلو وتهبط. الطوفان، ثم الحريق؛ كان من الصعب عدم ذكر الآيات القرآنية التي تحكي طوفان نوح، دليلا على غضب الله. ولكن، على الرغم من الدمار الذي حل بمدينة نيو أورلينز، فإن لونا من النظام كان لا يزال يسود الليل، كان زيتون سالما فوق سطح منزله، والمدينة صامتة ساكنة، والنجوم في مواقعها. •••
كان ذات يوم على ظهر ناقلة بترول تبحر من خلال جزر الفلبين، ربما منذ عشرين عاما، كان الوقت قد تأخر؛ إذ تجاوز منتصف الليل، وكان زيتون يصاحب الربان في برج القيادة.
وكان الربان يونانيا في منتصف العمر، وكان يحب مناقشة موضوعات مثيرة حتى يظل يقظا منتبها، كان يعرف أن زيتون مسلم، وأنه رجل سديد التفكير، فقرر الربان أن يبدأ مناقشة حول وجود الله مستهلا إياها بالتعبير عن اقتناعه التام بعدم وجود الله، أو بعدم وجود إله في السماء يرقب دنيا البشر.
كان زيتون في تلك اللحظة قد قضى مع الربان ساعة في برج القيادة يتابع إرشاده للسفينة خلال الجزر الكثيرة؛ بحيث يتجنب الرفارف الصخرية والحواجز الرملية العالية تحت سطح الماء، وكذلك السفن الأخرى وغير ذلك من الأخطار الخفية، وكانت الفلبين التي تتكون من أكثر من سبع آلاف جزيرة وليس بها سوى خمسمائة منار بحري، مشهورة بكثرة الحوادث البحرية.
Bilinmeyen sayfa