تقديم
إهداء
أقوال مأثورة
ملاحظات على هذا الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مؤسسة زيتون
Bilinmeyen sayfa
شكر وتقدير
تقديم
إهداء
أقوال مأثورة
ملاحظات على هذا الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Bilinmeyen sayfa
مؤسسة زيتون
شكر وتقدير
زيتون
زيتون
تأليف
دايف إيجرز
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
Bilinmeyen sayfa
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
Bilinmeyen sayfa
القاهرة، 2021م
إهداء
إلى عبد الرحمن، وكاثي، وزخاري ، ونديمة ، وعائشة، وصفية، وأحمد، في نيو أورلينز.
إلى أحمد، وأنطونيا، ولطفي، وليلي، في مالقة.
إلى قصي، وندى، ومحمود، وزكية، ولؤي، وإيمان، وفايزة، وفاطمة، وعائشة، ومنى، ونصيبة.
وجميع أفراد أسرة زيتون في جبلة، واللاذقية، وجزيرة أروض.
إلى سكان «نيو أورلينز».
أقوال مأثورة
... قد يوجد في تاريخ العالم ما يمكن أن تزيد عقوبته حتى عن الجريمة ... «كورماك ما كارثي»، الطريق
في عيني من يمسك مطرقة، يبدو كل شيء مسمارا. «مارك توين»
Bilinmeyen sayfa
ملاحظات على هذا الكتاب
هذا عمل غير خيالي، بني أساسا على ما رواه عبد الرحمن زيتون، وزوجته كاثي زيتون، وتأكدت من صحة التواريخ، والأوقات، والأماكن استنادا إلى مصادر أخرى مستقلة، وإلى السجلات التاريخية. كما أوردت المحادثات وفق أفضل ما وعته ذاكرة المشاركين في الأحداث، ولكني غيرت بعض الأسماء.
ولا يحاول هذا الكتاب أن يصبح كتابا شاملا لكل ما يتعلق بمدينة نيو أورلينز أو إعصار كاترينا، إنه رواية وحسب لما مرت به أسرة واحدة من الأحداث قبل العاصفة وبعدها، وقد كتب بمشاركة كاملة من أفراد أسرة زيتون، وتتجلى فيه نظرتهم إلى الأحداث.
الفصل الأول
الجمعة، 26 من أغسطس 2005
في الليالي التي يغيب فيها القمر، يخرج الرجال والصبيان في جبلة؛ تلك القرية الصغيرة ذات الشوارع الترابية التي تعيش على صيد السمك على ساحل سوريا، فيجمعون مصابيحهم وينطلقون إلى البحر في أهدأ قواربهم، وهكذا تبحر خمسة قوارب أو ستة، وفي كل منها صيادان أو ثلاثة، وعلى مبعدة ميل من الشاطئ تنتظم قواربهم على شكل دائرة في البحر الغارق في الظلام، ثم يلقون بشباكهم في الماء، رافعين مصابيحهم فوق صفحة الماء كأنما يسطع القمر عليها.
وسرعان ما تبدأ أسراب السردين في التجمع، فتبدو كتلة فضية اللون صاعدة من الأعماق؛ طلبا لغذائها من العوالق الحية الصغيرة التي اجتذبتها الأضواء، فتبدأ الالتفاف والدوران في سلسلة ذات حلقات غير مترابطة، وتزداد أعداد أفرادها في الساعة التالية، فتغلق الفجوات السوداء بين الحلقات الفضية، بحيث يبصر الصيادون من تحتهم كتلة مصمتة من الفضة تدور حول نفسها.
لم يكن عبد الرحمن زيتون قد جاوز الثالثة عشرة من عمره حين بدأ يمارس صيد السردين بهذا الأسلوب الذي يسمى «لامبارا» المستعار من الإيطاليين، وكان قد انتظر سنوات طويلة للحاق بالرجال والشبان في قواربهم الليلية، وقضى تلك الفترة في طرح الأسئلة. لماذا لا يخرجون إلا في الليالي غير المقمرة؟! وأجابه أحمد قائلا: «لأن العوالق تبرز بوضوح في الليالي المقمرة في كل مكان، وتنتشر في أرجاء البحر كله، فيستطيع السردين أن يرى تلك الكائنات الدقيقة البراقة بسهولة ويأكلها، وأما في الليالي غير المقمرة فيستطيع الرجال أن يأتوا بقمر من عندهم، أي مصباح، فيجتذبوا السردين إلى السطح في تجمعات مذهلة.» وقال أحمد لأخيه الصغير: «عليك أن ترى ذلك، فلم تشاهد من قبل شيئا يشبهه!»
وعندما أبصر عبد الرحمن أول مرة ذلك السردين وهو يدور في الماء الحالك، لم يصدق ما يشاهد؛ جمال الحلقة الفضية المتماوجة تحت الضوء الأبيض والذهبي للمصابيح، ولم ينطق بكلمة واحدة، كما حرص الصيادون على التزام الصمت، فجعلوا يجدفون من دون تشغيل المحركات؛ خشية إخافة الأسماك النافرة فتهرب. كان من عادتهم أن يتهامسوا فوق البحر فيطلقوا الفكاهات، ويتحدثوا عن النساء والفتيات وهم يرقبون الأسماك ترتفع من تحتهم وتدور. وبعد بضع ساعات عندما يجتمع السردين - عشرات الآلاف اللألاءة في الأضواء المتكسرة - يحكم الصيادون طرح الشبكة ويأتون بالأسماك إلى القوارب.
وفي طريق العودة إلى الشاطئ يديرون المحركات ويحملون الأسماك إلى تاجر الجملة في السوق قبل بزوغ الفجر، حيث يدفع النقود للرجال والصبيان، ثم يبيع الأسماك في شتى أنحاء غرب سوريا؛ في اللاذقية، وبانياس، ودمشق. ويتقاسم الصيادون النقود، ويعود عبد الرحمن وأحمد بنصيبيهما إلى المنزل. كان والدهما قد توفي قبل عام واحد، وأمهما واهنة، ومن ثم كان كل ما كسباه من صيد السمك ينفق على المنزل الذي كانا يعيشان فيه مع عشرة أشقاء.
Bilinmeyen sayfa
ولكن عبد الرحمن وأحمد لم يكونا يوليان المال اهتماما كبيرا، بل كانا على استعداد للقيام بهذا العمل من دون مقابل. •••
وبعد أربع وثلاثين سنة، وعلى مبعدة آلاف الأميال غربا، كان عبد الرحمن زيتون في فراشه صباح يوم جمعة، وقد أخذ يفيق ببطء من حلم أتاه قرب الصباح يحمل شتات ذكرى تلك الليلة غير المقمرة في جبلة. إنه الآن في نيو أورلينز يسمع صوت أنفاس زوجته كاثي الراقدة إلى جواره، ولم تكن زفراتها تختلف عن هسهسة الماء على جوانب القارب الخشبي، وفيما عدا ذلك كان الصمت يسود المنزل، كان يعرف أن الساعة تقترب من السادسة، وأن الهدوء لن يستمر؛ إذ كان ضوء الصباح عادة ما يوقظ الأطفال عندما يصل إلى نوافذهم في الطابق الثاني، كان أحد الأربعة يفتح عينيه، فتبدأ الحركة السريعة، وسرعان ما تعلو الأصوات في المنزل، فما إن يستيقظ أحدهم حتى يستحيل إبقاء الثلاثة الآخرين في الفراش.
وصحت كاثي على صوت رطمة مكتومة في الطابق العلوي، وكان مصدرها غرفة من غرف الأطفال، فأصاخت السمع وهي تدعو الله في نفسها أن يعود الهدوء. كان كل صباح يتسم بفترة دقيقة، ما بين السادسة والسادسة والنصف، تلوح فيها الفرصة، وإن كانت بعيدة الاحتمال، لاستراق بعض النوم ولو عشر دقائق أو خمس عشرة، ولكن صوت الرطمة تلاه صوت رطمة أخرى، ونبحت الكلبة، وتلا ذلك رطمة أخرى. ماذا كان يحدث في هذا المنزل؟ وتطلعت كاثي إلى زوجها فوجدته يحدق في السقف. كان هدير الحياة قد عاد إلى المنزل.
وبدأ رنين التليفون قبل أن يضعا أقدامهما على أرضية الغرفة، وهو ما يحدث في كل يوم، كان زيتون وكاثي يديران شركة للمقاولات المعمارية والطلاء، وكان معظم الناس ينادونه باسم الأسرة «زيتون» لأنهم لا يستطيعون نطق اسمه الأول، وفي كل يوم كان العاملون في الشركة وعملاؤها وجميع من لديهم تليفون ورقم تليفونهما، يتصورون، فيما يبدو، أنه من المناسب أن يتصلوا بهما بمجرد أن تحين السادسة والنصف صباحا، وكانوا يتصلون، وعادة ما كانت المكالمات تكثر في السادسة والنصف تماما إلى الحد الذي يجعل نصفها يتحول إلى جهاز التسجيل الصوتي.
وتولت كاثي الرد على المكالمة الأولى من عميل يقيم في الجانب الآخر من المدينة، بينما انطلق زيتون ليغتسل في الحمام، كان يوم الجمعة دائما يوم ازدحام العمل، ولكن هذا اليوم كان ينذر بالجنون خصوصا بسبب سوء الأحوال الجوية المتوقع؛ إذ كانت الأحاديث المقلقة تتردد طوال الأسبوع عن العاصفة المدارية التي تعبر جزائر فلوريدا الغربية واحتمال اتجاهها شمالا، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال كان يتكرر في شهر أغسطس من كل عام ولم يكن يثير دهشة معظم الناس، فإن عملاء كاثي وزيتون وأصدقاءهما كانوا الأشد حرصا؛ كثيرا ما يتخذون أهبتهم له، وكان المتصلون بالتليفون على امتداد الصباح كله يريدون أن يعرفوا إن كان زيتون سوف يسد الشبابيك والأبواب بألواح خشبية، وإن كان سوف ينتهي من العمل في مبانيهم قبل هبوب الرياح العاصفة، وكان العمال يريدون أن يعرفوا إن كان عليهم القدوم للعمل في ذلك اليوم أو في اليوم التالي.
وأجابت كاثي عن إحدى المكالمات، فبدأت بذكر اسم الشركة «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء» - محاولة أن تبدو يقظة منتبهة. كانت المتحدثة عجوزا تقيم وحدها في منزل فاخر في حي الحدائق، وكانت تسأل إن كان عمال زيتون سوف يأتون لسد نوافذها بألواح خشبية.
وأجابت كاثي: «قطعا، طبعا.» وقدماها تقعان بقوة على أرضية الغرفة، كانت قد استيقظت تماما، كانت كاثي تتولى مهام السكرتارية في الشركة، وإمساك الدفاتر، والمحاسبة، وإدارة العلاقات العامة، باختصار جميع المهام في المكتب، ويتولى زوجها مهام البناء والطلاء، كان التوازن بينهما كاملا، فلما كانت إجادة زيتون للإنجليزية محدودة، وكان لا بد من التفاوض عند عقد الصفقات، كان العملاء يطمئنون عندما يستمعون إلى نبرات كاثي ذات الحروف الممطوطة التي يتميز بها سكان ولاية لويزيانا.
كان ذلك يمثل جانبا من جوانب عمل الشركة، أي مساعدة العملاء على إعداد منازلهم لاتقاء العواصف المتوقعة. ولم تكن كاثي قد شغلت بالها بالعاصفة التي كانت تلك العميلة تتحدث عنها، ولم يكن سقوط بضع الأشجار في جنوب فلوريدا كافيا لشد انتباهها.
وقالت كاثي للمرأة: «سنرسل إليكم بعض العمال عصر اليوم.» •••
كان قد مضى على زواج كاثي وزيتون أحد عشر عاما، وكان زيتون قد أتى إلى المدينة قبل سبعة عشر عاما في عام 1994م، من مدينة هيوستن، ثم باتون روج، وبضع مدن أمريكية أخرى كان قد استطلعها في شبابه، وكانت كاثي قد نشأت وترعرعت في باتون روج وغدت تألف السلوك المعتاد في مواجهة العاصفة؛ تكرر الاستعدادات والانتظار والترقب، وحالات انقطاع الكهرباء، والشموع وكشافات الجيب، والدلاء التي تتجمع فيها مياه الأمطار، وكان للعواصف التي تهب في أغسطس عشرة أسماء أخرى أو أكثر، ونادرا ما كانت أيها جديرة بكل هذه الاستعدادات، وقالت كاثي في نفسها: إن هذه العاصفة التي تسمى «كاترينا» لن تكون مختلفة.
Bilinmeyen sayfa
وفي الطابق السفلي كانت نديمة التي تبلغ العاشرة، وهي الثانية من حيث السن بين الأطفال، تساعد في إعداد طعام الإفطار لأختيها الصغريين عائشة وصفية، وكانتا في الخامسة والسابعة من عمريهما على الترتيب، أما زخاري، ابن كاثي من زوجها السابق، وكان في الخامسة عشرة، فكان قد غادر المنزل لمقابلة أصدقائه قبل الذهاب إلى المدرسة. وأخذت كاثي في إعداد وجبات الغداء أثناء جلوس الفتيات الثلاث إلى مائدة المطبخ، وكن يأكلن ويرددن حوارا من مشاهد من فيلم «الكبرياء والهوى» بنبرات بريطانية. كن قد أولعن ولعا شديدا بذلك الفيلم، وكانت نديمة ذات العينين السوداوين قد سمعت به من صديقاتها وأقنعت كاثي بشراء أسطوانة ال «دي في دي» التي تحمله، ومنذ وصوله والفتيات الثلاث يشاهدنه كثيرا، بل كل ليلة على مدى أسبوعين. وعرفن كل شخصية وحفظن كل كلمة وتعلمن كيفية التظاهر بالإغماء مثل العذارى الأرستوقراطيات. كان ذلك أسوأ ما حدث لهن منذ أن شاهدن مسرحية «شبح الأوبرا»؛ إذ شعرن آنذاك بالحاجة إلى غناء كل أغنية، في المنزل، أو في المدرسة، أو على السلم الكهربائي في المركز التجاري بأعلى صوت.
لم يكن زيتون واثقا بأي الحالتين كانت أسوأ. وعندما دخل المطبخ وشاهد بناته ينحنين ويؤدين تحيات المجاملات ويحركن مراوح وهمية في أيديهن، قال في نفسه: «إنهن على الأقل لا يغنين»، وأخذ وهو يصب لنفسه كوبا من عصير البرتقال يرقب هؤلاء الفتيات في حيرة، كان قد نشأ في سوريا وكانت له سبع أخوات، لم تكن أيهن تعشق الدراما هذا العشق، كانت بناته يحببن اللعب والتظاهر بالشجن، دائمات الرقص في أرجاء المنزل، يتواثبن من فراش لفراش، وينشدن الأغاني بأصوات تتكلف التهدج، ويتظاهرن بالإغماء. كان ذلك ولا شك بتأثير من كاثي. كانت في الواقع تنتمي بروحها إليهن، فهي مرحة ذات طبع طفولي في سلوكها وأذواقها، مثل الولع بألعاب الفيديو، وروايات هاري بوتر، وموسيقى البوب المحيرة التي يستمعون إليها. وكان واثقا بأنها مصممة على أن تهيئ لهن فترة طفولة هانئة تختلف عما مرت به هي. •••
قالت كاثي لزوجها: «أهذا كل ما تفطر به؟!» إذ شاهدته يلبس حذاءه استعدادا للخروج، كان متوسط الطول، قوي البنية في السابعة والأربعين. أما كيف احتفظ بوزنه فكان لغزا؛ إذ يمكن ألا يتناول إفطارا، ويكتفي بلقيمات في الغداء، ولا يكاد يلمس طعام العشاء، وهو يعمل اثنتي عشرة ساعة كل يوم بنشاط لا يتوقف، ومع ذلك لم يتذبذب وزن جسمه قط. وكانت كاثي تعرف على مدى العقد الماضي أن زوجها ينتمي إلى نوع من الرجال الذين يتميزون بصلابة لا تفسير لها، والاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة إلى شيء أبدا، والعيش على الماء والهواء، من دون أن يصيبه ضرر أو مرض، ومع ذلك كانت تعجب له كيف يقيم أوده! كان يمر في المطبخ ويقبل الفتيات في رءوسهن.
وقالت كاثي: «لا تنس تليفونك.» حين لمحته فوق فرن الميكروويف.
ورد قائلا، وهو يضعه في جيبه: «ولماذا أنساه؟!» - «وإذن أنت لا تنسى شيئا؟» - «مطلقا!» - «هل تزعم حقا أنك لا تنسى شيئا؟» - «بل أزعم ذلك. هذا ما أقوله.»
لكنه ما إن نطق الكلمات حتى أدرك أنه أخطأ.
وقالت كاثي ضاحكة: «نسيت بنتنا البكر!» كان يدرك أنه وقع في الفخ بقدميه، وابتسمت الصغيرات لوالدهن، كن يعرفن القصة خير المعرفة.
وقال زيتون في نفسه: «إنه من الظلم أن تؤدي هفوة واحدة في أحد عشر عاما إلى توفير الذخيرة لزوجته حتى تغيظه بها طوال حياته.» لم يكن النسيان من طبع زيتون، ولكنه إذا حدث ونسي شيئا، أو إذا حاولت كاثي أن تثبت أنه نسي شيئا، لم يكن عليها إلا أن تذكره بالوقت الذي نسي فيه نديمة؛ إذ كان قد نسيها. لم ينسها فترة طويلة، ولكنه نسيها يوما ما.
كانت نديمة قد ولدت يوم 4 من أغسطس، في الذكرى السنوية الأولى لزفافهما، وكان المخاض شديد الوطأة، وفي اليوم التالي، وبعد أن عادا إلى المنزل، قام زيتون بمساعدة كاثي على الخروج من السيارة وأغلق الباب المجاور للراكب، ثم حمل نديمة وكانت لا تزال في كرسي الرضع بالسيارة، وبدأ عند ذلك في حمل الطفلة في إحدى يديه قابضا على ذراع زوجته باليد الأخرى. وكان الدرج الموصل إلى الطابق الثاني قريبا من باب الدخول، وكانت كاثي تحتاج إلى المساعدة على الصعود، فساعدها زيتون في صعود الدرجات العالية، وكاثي تئن وتتأوه أثناء ذلك، حتى وصلا إلى غرفة النوم، حيث انهارت كاثي على الفراش والتحفت بالأغطية. كان إحساسها بالراحة يصعب التعبير عنه لفظا أو معنى لعودتها إلى المنزل حيث تستطيع الاسترخاء مع رضيعتها.
ورفعت كاثي ذراعيها إليه قائلة: «أعطها لي!»
Bilinmeyen sayfa
وألقى زيتون نظرة على عروسه، دهشا من فتنة جمالها الأثيري؛ إذ كانت بشرتها مشرقة وضاءة، وعيناها يلوح فيهما الإرهاق. ثم سمع ما قالته: «الطفلة!» كانت بطبيعة الحال تريد الطفلة، فاستدار ليعطيها الطفلة، لكنه لم يجدها، لم تكن الطفلة تحت قدميه ولم تكن في الغرفة. لم تكن الطفلة بالغرفة!
وقالت كاثي: «أين هي؟!»
وشهق زيتون شهقة سريعة قائلا: «لا أدري!»
وصرخت بصوت عال: «أين الطفلة يا عبده؟!»
وأصدر زيتون صوتا، ما بين الشهقة والصرخة، وانطلق يجري خارجا من الغرفة، وأسرع نازلا الدرج فخرج من الباب الأمامي ورأى كرسي السيارة فوق الكلأ، كان قد نسي الطفلة في الفناء. نسي الطفلة في الفناء! كان كرسي السيارة يواجه الشارع. لم يلمح أولا وجه نديمة، فأمسك بالمقبض وأدار الكرسي الصغير تجاهه وعندما شاهد الوجه الضئيل للصغيرة التي لا تدري شيئا، مكورة ونائمة، ومسها بأصابعه لقياس حرارتها، ولكنها كانت على ما يرام.
وحمل كرسي السيارة إلى الطابق العلوي، وسلم نديمة إلى كاثي، وقبل أن يتيح لها الفرصة لتوبيخه، أو للتفكه مما حدث، أو طلب الطلاق، انطلق هابطا الدرج بسرعة وخرج يمشي وحده. كان يحتاج إلى السير وحيدا ذلك اليوم، بل احتاج إليه في أيام كثيرة تالية؛ حتى يفهم ما فعل ولماذا فعله، أي كيف نسي طفلته وهو يساعد زوجته؟! ما أصعب أن يقوم المرء بالأمرين، أي أن يكون شريكا لطرف وحاميا للطرف الآخر. ما سبيل الموازنة بينهما؟ وقضى سنوات طويلة يتأمل ذلك اللغز.
وأما اليوم، والجميع في المطبخ، فقد قرر زيتون ألا يتيح الفرصة لكاثي حتى تعيد رواية القصة من جديد أمام أطفالهما، فلوح بيده مودعا.
وتعلقت عائشة بساقه صائحة: «لا تخرج يا بابا!» كانت تحب الحركات المسرحية، وكانت كاثي تسميها «دراما راما»، وأدى فيلم «الكبرياء والهوى» إلى زيادة هذه النزعة سوءا.
كان ذهنه مشغولا بالعمل الذي ينتظره ذلك النهار، وكان يشعر بأنه قد تأخر في الخروج، ولما تتجاوز الساعة السابعة والنصف.
وألقى زيتون بصره على عائشة، وأمسك بوجهها بين كفيه، وابتسم لمرأى كمال الحسن في عينيها الدكناوين الدامعتين، ثم فصلها عن ساقه كأنما يخلع سروالا مبللا، ولم تمض ثوان معدودة حتى كان يقف في مدخل المنزل أمام الشاحنة، ويقوم بتحميلها بلوازمه.
Bilinmeyen sayfa
وخرجت عائشة لمساعدته، وجعلت كاثي ترقبهما وهي تتأمل معاملته للصغيرات. كان من العسير وصف ذلك؛ إذ لم يكن من الآباء الذين يسرفون في إبداء الحب لأطفالهم، ومع ذلك لم يعترض يوما على تواثبهن فوقه ولا على الإمساك به. كان حازما واثقا بنفسه، ولكنه كان يجد في ذلك التسرية الكافية فيتيح لهن «المساحة» التي يطلبنها، ويجد في نفسه من المرونة ما يكفي لقيامهن باستغلاله إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بل إنه حتى إذا تكدر من أمر ما، فإنه يخفي الكدر خلف قناع عينيه بلونهما الأخضر العسلي وأهدابهما الطويلة. وعندما قابل كاثي أول مرة كان يكبرها بثلاثة عشر عاما، ومن ثم لم يكن مرشحا فورا للزواج منها، ولكن هاتين العينين اللتين كانتا تشعان ذلك الضوء الغريب استولتا عليها. كانتا حافلتين بالأحلام، ولكنهما ثاقبتا البصر أيضا، قادرتان على التقدير الصائب ؛ كانتا عيني مقاول ناجح. كان يلقي نظرة على مبنى أخنى عليه الدهر ويستطيع أن يرى بعين خياله فورا ما يمكن أن يتحول إليه، وإلى جانب ذلك يحدد استنادا على معرفته العملية التكاليف المطلوبة والزمن اللازم لإجراء الإصلاحات.
وقامت كاثي بإحكام الحجاب الذي تلبسه، وهي تنظر في زجاج النافذة الأمامية، فأدخلت الشعرات الخارجة منه - وكانت هذه عادة تلقائية - وهي ترقب زيتون أثناء انطلاقه بالسيارة من مدخل المنزل إلى الشارع، ومن خلفه سحابة رمادية تتلوى في الجو، وقالت في نفسها لقد آن الأوان لشراء شاحنة جديدة. كانت الشاحنة التي يملكانها تشبه دابة بيضاء متهالكة، طالت بها المعاناة ولكن يعتمد عليها، وقد غصت بالسلالم والأخشاب، وتصدر قعقعة بسبب ما تناثر هنا وهناك من مسامير لولبية وفراجين، وعلى جانب الشاحنة يعلو رمز الشركة الذي لا يختلف من مكان لمكان، وتحته الاسم الرسمي «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء»، وأما الرمز فكان فرجون طلاء أسطواني الشكل مرتكنا إلى ذيل قوس قزح، كان الرمز مبتذلا ولا شك ولكنه كان يصعب نسيانه، فكان كل من في المدينة يعرفه؛ إذ كان يظهر فوق محطات الأوتوبيس، ولافتات المتنزهات وأرائكها، وكان شائعا في مدينة نيو أورلينز شيوع أشجار البلوط ونبات السرخس، ولكنه في البداية لم يكن بشير خير على الإطلاق.
لم يكن زيتون يدري عندما وضع تصميم ذلك الرمز للمرة الأولى أن لافتة تحمل رسما لقوس قزح عليها يمكن أن تعني أي شيء لأي شخص، باستثناء رمزية الألوان والصبغات المتعددة التي يستطيع العملاء أن يختاروا ما يشاءون منها، ولكن سرعان ما أصبح يدرك هو وكاثي دلالة ذلك الرمز المضمرة.
الواقع أنهما ما إن وضعا ذلك الرمز حتى بدآ يتلقيان مكالمات من أزواج من ذوي الميول الجنسية المثلية، ولم يكن في ذلك بأس على الإطلاق؛ إذ يبشر بازدهار العمل، ولكنهما لاحظا في الوقت نفسه أن بعض من يطلبونهما لأداء العمل كانوا يرفضون التعامل مع شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء بمجرد وصول الشاحنة إلى منازلهم. كما بدأ بعض العمال يتركون العمل بالشركة ظانين أن العمل بها سوف يؤدي إلى تصور أنهم من ذوي الميول المثلية، أو أن الشركة كانت تقتصر بصورة ما على تشغيل ذوي الميول المثلية.
وعندما أدرك زيتون وكاثي أخيرا الصلة بين قوس قزح وقوة دلالة ذلك الرمز، ناقشا الأمر مناقشة جادة، وتساءلت كاثي إن كان زوجها يريد أن يغير تصميم الرمز حتى يتحاشى إساءة تفسيره؛ إذ لم يكن لديه أصدقاء أو أقارب مثليون.
ولكن زيتون لم يبد أدنى اهتمام بالتغيير، قائلا إن ذلك يتكلف أموالا طائلة، بعد أن أعد ما يقرب من عشرين لافتة، ناهيك عن البطاقات التجارية والأدوات الكتابية التي تحمل ذلك الرمز نفسه، أضف إلى ذلك أن جميع عملائهما الجدد كانوا يدفعون فواتيرهم. لم تكن المسألة تزيد في بساطتها على ذلك.
وقال زيتون ضاحكا: «تأملي الأمر جيدا؛ نحن زوجان مسلمان ندير شركة للطلاء في لويزيانا، وليس من المستحسن تنفير العملاء.» فإذا كان البعض سوف يصعب عليه قبول قوس قزح، فلا بد أن يصعب عليه قبول الإسلام.
وهكذا استمر قوس قزح يشغل مكانه في رمز الشركة.
توقفت شاحنة زيتون في شارع إيرهارت، وإن كان جانب من ذهن الرجل ما زال في جبلة. كان كلما اعتادته هذه الخواطر الصباحية فتذكر طفولته، قضى فترة ما في التساؤل عن أحوال أهله جميعا في سوريا، عن كل إخوته وأخواته وأقاربه المنتشرين في كل مكان على الساحل، وعن غيرهم الذين رحلوا من هذا العالم من وقت طويل. كانت والدته قد توفيت بعد سنوات قليلة من رحيل والده، كما فقد أخا يعتز كثيرا به واسمه محمد في مقتبل عمره، ولكن باقي أشقائه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، وإسبانيا، والمملكة العربية السعودية كانوا بخير حال، بل كانت أحوالهم مزدهرة بصورة فذة.
كانت عشيرة زيتون ذات منجزات رفيعة؛ إذ تحفل بالأطباء، ومديري المدارس، وكبار ضباط الجيش، ورجال الأعمال، ولكل منهم غرام مشبوب بالبحر؛ إذ نشأ الجميع وترعرعوا في منزل حجري ضخم على ساحل البحر المتوسط، ولم يبتعد أحد منهم كثيرا عن البحر. وكتب زيتون في مفكرته إشارة إلى ضرورة الاتصال بأهله في ذلك اليوم. كان يولد في كل يوم أطفال جدد، بحيث لم تنقطع الأخبار قط. لم يكن عليه إلا أن يتصل بأحد إخوته أو أخواته - وكان سبعة منهم لا يزالون في سوريا - حتى يحيط بكل ما يريد أن يعرفه.
Bilinmeyen sayfa
وأدار زيتون مفتاح الراديو ليسمع الأنباء، كانت العاصفة التي يتحدث الناس عنها لا تزال بعيدة في فلوريدا، وتنتقل ببطء إلى الغرب، ولم يكن من المتوقع لها أن تعبر الخليج إلا بعد بضعة أيام أخرى، هذا إذا قدر لها أن تعبره، وعندما مضى بالشاحنة إلى أول عمل من أعمال اليوم، ألا وهو ترميم قصر رائع عتيق في حي الحدائق، حرك مؤشر الراديو بحثا عن شيء آخر، أي شيء. •••
تطلعت كاثي وهي واقفة في المطبخ إلى الساعة، وشهقت. كان من النادر أن تصحب الأطفال إلى المدرسة في الموعد المحدد، وكانت تعمل على حل تلك المشكلة، أو تنتوي العمل على حل تلك المشكلة عندما يهدأ العمل في ذلك الفصل من العام. كان الصيف أكثر فصول العام انشغالا للشركة، فكثير من الناس يرحلون هاربين من الحرارة والرطوبة، طالبين من الشركة طلاء بعض الغرف أو مدخل المنزل في أثناء غيابهم.
وأخذت كاثي تحث الأطفال على الإسراع بكلامها وحركات يديها حتى اصطحبتهم حاملين معداتهم المدرسية إلى الشاحنة الصغرى، وانطلق الجميع عبر نهر المسيسيبي إلى الضفة الغربية.
كانت لمشاركة زيتون وكاثي العمل في الشركة مزايا كثيرة، بل فوائد جمة لا تعد ولا تحصى، ولكن المثالب كانت واضحة وتزداد باطراد، كانا يقدران أرفع تقدير أن ذلك العمل يتيح لهما تحديد ساعات العمل، واختيار عملائهما وأشغالهما، والقدرة على الوجود في المنزل كلما دعت الحاجة على ذلك؛ إذ إن قدرتهما على الحضور والاستجابة لأي شيء يتعلق بأطفالهما في أي وقت كانت دائما مصدرا للارتياح العميق، ولكن عندما كان الأصدقاء يسألون كاثي إن كان من المستحب أن يبدءوا هم أيضا أعمالهم الخاصة، كانت تنصحهم بألا يفعلوا ذلك قائلة لهم: «إن صاحب العمل لا يدير عمله، بل إن العمل هو الذي يديره ويتحكم فيه.»
كان زيتون وكاثي يجدان في عملهما جدا يزيد على جد أي شخص يعرفانه، ولم يكن تبدو للعمل وللقلق نهاية. ليلا، وفي عطلة نهاية الأسبوع، والعطلات، لم يكن للراحة أي مجال، وكانا في العادة يقومان في الوقت نفسه بثمانية أعمال أو عشرة، ويتوليان الإشراف على ذلك من مكتب منزلي ومساحة للتخزين في شارع دبلن، المتفرع من طريق كارولتون، ناهيك بجانب العمل المتمثل في إدارة عقاراتهما، فقد حدث في وقت ما أن بدآ يشتريان المباني، والشقق والمنازل، وأصبح الآن لديهما ستة عقارات يقيم فيها ثمانية عشر مستأجرا. وكان كل مستأجر يعتبر من زاوية أخرى شخصا يعتمد عليهما، شخصا آخر يسهران عليه، ويوفران له المأوى، والسقف الذي يحميه، وأجهزة تكييف الهواء، والماء النظيف، كان الواقع يقول إن النجاح أتى معه بضرورة التعامل مع عدد مذهل من الأفراد بعضهم يتقاضى أجرا وبعضهم يدفع الإيجار، ومنازل تحتاج إلى التحسين والصيانة، وفواتير تتطلب السداد، وفواتير مطالبة بالدفع، ومعدات تشترى وتوضع في المخزن.
ولكنها كانت تعتز بما آلت إليه حياتها، وبالأسرة التي شاركت زيتون في تكوينها، كانت تسير بالسيارة الآن مع بناتها الثلاث في الطريق إلى المدرسة، وكان إدخالهن مدرسة خاصة، والاطمئنان إلى التحاقهن بالجامعة، وتوافر كل ما يحتاجون إليه وزيادة، يدفعها إلى أن تلهج بالشكر في كل لحظة وكل يوم.
كانت كاثي بنتا من تسعة أطفال، وكانت قد نشأت وترعرعت بأقل القليل، وكان زيتون الأخ الثامن بين ثلاثة عشر طفلا، كما نشأ وترعرع على ما يقترب من العدم، ولكن انظر إليهما الآن، انظر إلى ما استطاعا بناءه! لقد استطاعا بناء أسرة مديدة، وعمل بارز النجاح، واستطاعا الاندماج التام في مجتمع المدينة التي اتخذاها وطنا حتى أصبح لهما أصدقاء في كل حي، وعملاء في كل عمارة تقريبا يمران بها، وكانت هذه جميعا من نعم الله عليهما.
كيف يمكنها مثلا أن تتجاهل نديمة؟ كيف تأتى لهما أن ينجبا مثل هذه الطفلة البالغة الذكاء، الواثقة بنفسها، المؤمنة بالواجب، الحريصة على مد يد العون ، والمتقدمة ذهنيا على عمرها بمراحل؟ كانت فيما يبدو الآن في عداد الكبار، وكان حديثها قطعا ينم عن النضج؛ إذ كثيرا ما تبدي فيه من الدقة والحذر ما يزيد على ما يفعل والداها. وألقت كاثي نظرة إليها وهي تجلس الآن في مقعد الراكب بجوارها تلعب بالراديو، كانت تمتاز دائما بسرعة البديهة، فعندما كانت في الخامسة من عمرها وحسب، لا أكبر من خمسة أعوام، عاد زيتون ذات يوم إلى المنزل لتناول الغداء فوجد نديمة تلعب على أرضية الغرفة، ورفعت بصرها إليه وقالت: «أريد أن أصبح راقصة يا أبي!» وخلع زيتون حذاءه وجلس على الأريكة، ثم قال وهو يدلك قدميه: «في المدينة عدد أكبر مما ينبغي من الراقصات، ولكننا نحتاج إلى أطباء، وإلى محامين، وإلى معلمين. أريدك أن تصبحي طبيبة حتى تعتني بصحتي.» وفكرت نديمة فيما قاله لحظة ثم رددت قائلة: «لا بأس! إذن أكون طبيبة!» وعادت إلى كراس الرسم وتلوين الصور. وبعد دقيقة واحدة هبطت كاثي من الطابق العلوي بعد أن شاهدت الفوضى في غرفة نوم نديمة، فقالت لها: «نظفي غرفتك يا نديمة.» لم تجفل نديمة، ولم ترفع بصرها عن كراس الرسم، بل قالت: «لن أنظفها يا ماما، سوف أصبح طبيبة، والأطباء لا يقومون بالتنظيف!»
بينما كانت السيارة تقترب من المدرسة رفعت نديمة صوت الراديو؛ إذ التقطت أذناها خبرا عن العاصفة المقبلة. لم تكن كاثي تصغي باهتمام كبير؛ إذ بدا لها أن نبرات التحذير المبكر المزعجة تتكرر ثلاث مرات أو أربعا في كل موسم، منذرة بهبوب الأعاصير المتجهة مباشرة نحو المدينة، ودائما ما كان اتجاهها يتغير، أو تهبط سرعة الريح في فلوريدا أو فوق الخليج، فإذا قدر للعاصفة أن تصيب مدينة نيو أورلينز على الإطلاق فسوف تكون شدتها قد تناقصت كثيرا، فلا تلبث إلا يوما يسوده الغيوم وتهب فيه الرياح المتربة وتسقط فيه الأمطار.
ولكن المذيع كان يتحدث في الراديو الآن عن العاصفة المتجهة إلى داخل خليج المكسيك بقوة من الدرجة الأولى، وفي موقع يبعد نحو 45 ميلا إلى الشمال الغربي من جزيرة «كي ويست »، وهي في أقصى غرب جزر فلوريدا. وكان المذيع يقول إن العاصفة تتجه غربا. وأغلقت كاثي الراديو، فلم تكن تريد للأطفال أن يقلقوا.
Bilinmeyen sayfa
وسألت نديمة: «تظنين أنها سوف تصيبنا؟»
وردت كاثي قائلة إنها لا ترى للأمر أهمية، فمن ذا الذي عساه أن يقلق إزاء عاصفة من الدرجة الأولى أو الثانية؟ وأخبرت نديمة أنها ليست بشيء على الإطلاق، ثم ودعت الأطفال بالقبلات عند المدرسة.
وعندما سمعت كاثي انصفاق أبواب السيارة الثلاثة انتابها شعور مباغت وقاطع بالوحدة. وفي أثناء عودتها بالسيارة من المدرسة فتحت الراديو من جديد. كان مسئولو المدينة يقدمون التوصيات المعهودة بتخزين المؤن الكافية لاستهلاك ثلاثة أيام، وكان زيتون دائما ما يعمل حسابا لذلك. ثم إذا بالمذيع يتحدث عن رياح سرعتها 110 أميال في الساعة، إلى جانب الأمواج العالية التي أثارتها العاصفة في الخليج.
وأغلقت الراديو ثانية، وطلبت زيتون على تليفونه الخلوي.
وسألته: «هل سمعت عن هذه العاصفة؟»
فقال: «أسمع أشياء مختلفة».
وعادت تسأل: «هل تظن أنها خطيرة؟»
ورد قائلا: «حقا؟ لا أعرف.»
كان زيتون قد أعاد ابتكار تعبير «حقا» فجعله يسبق عددا كبيرا من عباراته، كأنما كان التعبير عوضا عن النحنحة. فإذا سألته كاثي أي سؤال أجابها: «حقا، إنها مسألة عجيبة.» كان قد اشتهر بحكاياته المسلية، والأمثال المألوفة في سوريا، والمقتطفات من القرآن، والقصص المستقاة من أسفاره حول العالم. وكانت كاثي قد اعتادت ذلك كله، فيما عدا تعبير «حقا»، وإن كانت قد كفت عن معارضتها. كانت بالنسبة إليه مثل استهلال عبارة بالحشو كتعبير «أتعرف؟» أو «فلأقل لك شيئا». كان قائلها زيتون، وكان لا بد أن تجد فيها سببا للإعزاز.
وأردف قائلا: «لا تقلقي. هل الأطفال في المدرسة؟»
Bilinmeyen sayfa
وردت قائلة: «لا، بل في البحيرة! يا ربي!»
كان الرجل مهووسا بالمدرسة، وكانت كاثي تحب أن تغيظه بذلك وبعدة أشياء أخرى. كان زيتون وكاثي يتحادثان تليفونيا عدة مرات في أثناء النهار، حول كل شيء؛ عن الطلاء، عن العقارات المؤجرة، وعما ينبغي إصلاحه، وعمله، والإتيان به، وكثيرا ما لا يزيد موضوع المكالمة على تبادل التحية والسلام. كان الهزل الذي ابتدعاه تشيع فيه نبرات ضيق صدره وأحاديثها المقتضبة، وكان مصدر تسلية لكل من يستمع إليه خلسة. وكان ذلك أيضا محتوما نظرا إلى تعدد محادثاتهما معا كل يوم، ونظرا إلى ضرورة توصيل المعلومات الزاخرة بأقصى سرعة. لم يكن أحدهما يستطيع من دون الآخر إدارة منزلهما، أو شركتهما، أو حياتهما، أو أيامهما.
وكانت كاثي دائما ما تندهش لقدرتهما على تحقيق مثل هذا التكامل؛ إذ كانت قد نشأت باعتبارها من أتباع طائفة المعمدانية الجنوبية في ضاحية من ضواحي مدينة باتون روج، ودأبت على أن تحلم بالرحيل (والواقع أنها رحلت بمجرد الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية) وبإدارة مركز للرعاية النهارية للأطفال. وها هي ذي قد اعتنقت الإسلام، وتزوجت من أمريكي سوري، وتدير شركة لا تفتأ تتضخم للطلاء والمقاولات المعمارية، وعندما قابلت كاثي زوجها، كانت في الحادية والعشرين وكان في الرابعة والثلاثين، وينتمي إلى بلد لا تكاد تعرف عنه شيئا. كانت تتعافى من آثار زواج غير ناجح، وكانت قد اعتنقت الإسلام مؤخرا، ولم تكن تهتم أدنى اهتمام بالزواج من جديد، ولكنها اكتشفت أن زيتون كان يمثل كل ما لم تصدق وجوده في البشر؛ كان رجلا أمينا، أمينا إلى النخاع، جادا مجتهدا، صادقا، يعتمد عليه، مخلصا لأسرته. وكان أفضل ما فيه أنه كان يريد لكاثي أن تكون من كانت تريد أن تكونه، وعلى الحال التي أرادتها تماما، لا أكثر ولا أقل.
ولكن ذلك لم يكن يعني عدم نشوب بعض نوبات القلق، وهو التعبير الذي كانت كاثي تطلقه عليها، وتعني به مجادلاتهما العنيفة حول كل شيء؛ من الطعام الذي سيتناوله الأطفال في الغداء، إلى إذا ما كان عليهما تكليف وكالة لتحصيل الديون المتراكمة على أحد العملاء.
وكانت تقول لأطفالها: «نحن قلقون وحسب.» عندما كانوا يستمعون لتلك المجادلات بينهما. ولم تكن كاثي تملك أن تتحاشى ذلك؛ فهي تهوى الكلام ولا تستطيع كتمان شيء في نفسها. وقالت لعبده في الأيام الأولى لعلاقتهما إنها سوف تفصح عن رأيها دائما، ولم يفعل سوى أن هز كتفيه إذ كان يقبل ذلك، كان يعرف أنها كانت تحتاج أحيانا إلى التنفيس عن نفسها، وكان يسمح لها بذلك، وكان في هذه الأثناء يومئ صابرا، وأحيانا يشعر بالامتنان لأن لغته الإنجليزية لن تسعفه بسرعة استخدامها للغة، فبينما يبحث عن الكلمات المناسبة للرد عليها تستمر هي في الكلام، وكثيرا ما يحدث أن يكتشف أنها عندما تنتهي تكون قد شعرت بالإرهاق فسكتت، ولم يعد لديها أو لديه شيء يقال.
وعلى أي حال، فكلما شعرت كاثي بأنها سوف تجد أذنا صاغية، بل صاغية إلى النهاية، كان ذلك يخفف من حدة المجادلات، وهكذا، أصبحت مناقشاتهما أقل حماسة، وكثيرا ما كانت أقرب إلى إثارة الضحك، ولكن الأطفال، خصوصا في سنيهم الأولى، لم يكونوا يدركون الفرق.
وقبل سنوات، أثناء وجودهم في السيارة، نشبت مجادلة عنيفة حول أمر ما، فاعترضت نديمة وهي جالسة في مقعد السيارة الخلفي وحزام الأمان مربوط حولها؛ إذ شعرت بأنها لم تعد تطيق ما تسمع. هتفت قائلة: «تلطف في الحديث مع أمي يا أبي.» ثم خاطبت كاثي قائلة: «تلطفي في الحديث مع أبي يا أمي.» وتوقف زيتون وكاثي فورا، وتبادلا النظرات، ثم نظرا معا وفي الوقت نفسه إلى نديمة الصغيرة، كانا يعرفان سلفا أنها ذكية، ولكن الأمر الآن مختلف، لم تكن إلا في الثانية من عمرها!
بعد أن انتهت مكالمتها مع زيتون، فعلت كاثي ما كانت تعرف أنه خطأ؛ لأن العملاء يريدون ولا شك أن يتصلوا بها وينتظرون أن يستطيعوا مكالمتها ذلك الصباح، لكنها فعلت ما كانت تقدم كثيرا على فعله؛ أغلقت تليفونها المحمول، بعد أن غادر الأطفال السيارة وبدأت العودة إلى المنزل، لم يكن لها دافع سوى أن تهنأ بالعزلة ثلاثين دقيقة أثناء رحلة العودة - كان ذلك ترفا باهظا، ولكنه كان ضروريا. كانت تحدق في الطريق، وفي صمت تام، دون أن يخطر لها خاطر على الإطلاق. كانت تعرف أن اليوم سيكون طويلا، إذ لن تتوقف عن العمل حتى يأوي الأطفال إلى الفراش، ولذلك أباحت لنفسها هذا السرف. ألا وهو فسحة لمدة ثلاثين دقيقة من الصفاء والسكينة، لا يقطعها مقاطع.
وفي الطرف الآخر من المدينة، كان زيتون يتابع أولى مهام ذلك النهار، كان مولعا بذلك المكان، ذلك المنزل الجليل العتيق في حي الحدائق، وكان قد أرسل عاملين من شركته للقيام بالعمل فأراد التوقف للاطمئنان على وجودهما وانهماكهما في العمل وعدم احتياجهما لأي شيء، فصعد الدرج وثبا وخطا مسرعا داخل المنزل الذي كان قد بني منذ 120 عاما على الأقل.
وشاهد إميل، وهو دهان ونجار من نيكاراجوا، منحنيا يلصق شريطا على بعض أخشاب الأرضية، فتسلل خلفه وقبض على كتفيه فجأة، فانتفض إميل واقفا وضحك زيتون.
Bilinmeyen sayfa
لم يكن واثقا بشأن ما الذي يدفعه إلى أن يفعل مثل هذه الأشياء، ولم يكن من اليسير تفسير ذلك، كان أحيانا يجد نفسه يميل إلى اللهو، ولم يكن العمال الذين يعرفونه خير المعرفة يدهشون لذلك، ولكن العمال الجدد كانوا ينزعجون ظانين أن سلوكه لون غريب من أساليب دفعهم إلى العمل.
وتمكن إميل من رسم بسمة على شفتيه.
وفي غرفة الطعام، كان ماركو منهمكا في طلاء الجدار بطبقة ثانية، وكان أصلا من السلفادور، وكان الاثنان، ماركو وإميل، قد تقابلا في الكنيسة، وانطلقا يبحثان عن العمل باعتبارهما فريقا من عمال طلاء المنازل. وذات يوم مرا بموقع من المواقع التي يعمل فيها زيتون، ولما كانت لديه في كل الأوقات تقريبا أعمال أكبر من طاقته، قرر استخدامهما. كان ذلك منذ ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين وماركو وإميل يعملان لديه.
وإلى جانب استخدام عدد من أبناء مدينة نيو أورلينز، كان زيتون قد استأجر عمالا من كل مكان؛ من بيرو، والمكسيك، وبلغاريا، وبولندا، والبرازيل، وهندوراس، والجزائر. وكانت له خبرات عميقة مع معظمهم، وإن كان معدل ترك العمال وتعيين عمال جدد في شركته أعلى من المتوسط. كان كثيرون من عماله مؤقتين؛ إذ لا يعتزمون إلا قضاء أشهر معدودة في البلد قبل العودة إلى أسرهم. وكان يسعده استئجار هؤلاء الرجال، كما تعلم قدرا معقولا من اللغة الإسبانية في خلال ذلك، ولكن كان عليه الاستعداد لرحيلهم دون إخطار بموعد الرحيل بمدة كافية. وكان بعض العمال الآخرين مجرد صبية لا يتحملون المسئولية ويعيشون للحاضر فقط، ولم يكن يلومهم؛ فلقد كان يوما ما شابا لا يرتبط بشيء هو الآخر، ولكنه حاول، كلما أتيحت له الفرصة، أن يغرس فيهم إدراكه بأن التعقل وادخار عدة دولارات كل أسبوع كفيل بتوفير معيشة طيبة لهم، وتمكينهم من تكوين أسرة اعتمادا على هذا اللون من العمل. ولكنه نادرا ما كان يقابل شابا يقوم بهذا العمل ويعمل حسابا للمستقبل، كان مجرد توفير الطعام والملبس لهم، ومطاردتهم حين يتأخرون أو يتغيبون جهدا مرهقا، وأحيانا ما يثبط الهمة، كان أحيانا ما يشعر بأنه لا يعول أربعة أطفال فقط بل عشرات، معظمهم ذوو أيد ملطخة، وشوارب تحمل آثار الطلاء. •••
ورن جرس التليفون، ونظر إلى اسم المتحدث في الشاشة ورد عليه.
وقال زيتون بالعربية: «أحمد، كيف حالك؟»
كان أحمد الأخ الأكبر لزيتون وأقرب أصدقائه، وكان يحادثه من إسبانيا، حيث يقيم مع زوجته وطفليه اللذين كانا في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان الوقت قد تأخر عند أحمد، الأمر الذي جعل زيتون يخشى أن تكون لدى أخيه أخبار خطيرة.
وسأله زيتون: «ماذا حدث؟!»
فقال أحمد: «إنني أتابع أنباء العاصفة.»
فقال زيتون: «لقد أفزعتني!»
Bilinmeyen sayfa
ورد أحمد: «لا بد أن تفزع! فالعاصفة هذه المرة خطر حقيقي!»
وعلى الرغم من تشكك زيتون فقد أصغى بانتباه. كان أحمد ربان سفينة، وظل يقوم بهذا العمل على امتداد السنوات الثلاثين الماضية؛ إذ يتولى قيادة ناقلات البترول وسفن الركاب في كل بحر أو محيط، وكانت لديه معرفة وثيقة بالعواصف، وباتجاهاتها وقوتها. وكان زيتون في صباه قد صحبه في عدد من هذه الرحلات؛ إذ إن أحمد الذي يكبر زيتون بتسع سنوات قد ألحقه بالعمل في طاقم البحارة، فصحبه إلى اليونان ولبنان وجنوب أفريقيا، كما كان زيتون قد مارس العمل بالسفن من دون اصطحاب أحمد أيضا، فشاهد معظم بلدان العالم، مولعا بالتجوال، على مدى سنوات عشر، انتهت به إلى مدينة نيو أورلينز آخر الأمر وحياته مع كاثي.
وطقطق أحمد لسانه قائلا: «إنها تبدو حقا غير عادية، فهي ضخمة وتتحرك ببطء، وأنا أراقبها الآن على القمر الصناعي.»
وكان لأحمد غرام مشبوب بالتكنولوجيا، وكان يولي أحوال الجو اهتماما وثيقا، وخصوصا العواصف الناشئة، سواء في وقت فراغه أو في أثناء عمله. وكان آنذاك في منزله بمدينة مالقة، تلك المدينة الساحلية على الشاطئ الإسباني للبحر المتوسط، جالسا في مكتبه الغاص بالمعدات، يتابع مسير العاصفة عبر ولاية فلوريدا.
وتساءل أحمد: «هل بدءوا إجلاء السكان؟»
وقال زيتون: «لم يبدأ ذلك رسميا، ولكن البعض يرحلون.» «وكاثي والأطفال؟»
وأخبره زيتون بأنهم لم يفكروا في الأمر بعد.
وتأوه أحمد قائلا: «لم لا ترحلون ولو طلبا للسلامة وحسب؟»
وأصدر زيتون صوتا في التليفون لا يفصح عن القطع بشيء.
فقال أحمد: «سأطلبك في وقت لاحق.»
Bilinmeyen sayfa
وغادر زيتون المنزل وسار على قدميه إلى حيث يجرى العمل في منزل آخر قريب. كانت الأمور تسير كثيرا على هذا المنوال؛ عدة أعمال قريبة بعضها من بعض، وكان العملاء يدهشون كثيرا للتعاقد مع متعهد طلاء أو مقاول يستطيعون الوثوق به وتزكيته لغيرهم، ويدهشون كيف يتسنى لزيتون أن ينجز نصف دستة أعمال في أي حي من الأحياء، من خلال تزكية العملاء له وبتتابع سريع.
وكان هذا المنزل الذي لم يتوقف عن العمل فيه سنوات طويلة، يثير الدهشة، كان يقع عبر الشارع في مواجهة منزل الكاتبة آن رايس، ولم يكن قد قرأ ما تكتبه ولكن كاثي قرأته، كانت كاثي تقرأ كل شيء، كان منزلا فخما فاخرا يضارع أمثاله في نيو أورلينز، كانت له سقوف عالية، وبه درج رائع يتلوى هابطا إلى البهو، وكل ما فيه نحته النحاتون بأيديهم، بحيث تتميز كل غرفة بطابع خاص بها. وكان زيتون قد قام بطلاء معظم الغرف أكثر من مرة، ولم يكن يبدو أن أصحابه يريدون التوقف، كان يحب التواجد في هذا المنزل، حيث يتأمل فن الصنعة بإعجاب، والعناية الفائقة بأدق التفاصيل والزخارف وأغربها؛ إذ رسمت لوحة جدارية فوق المدفأة، وركبت زخارف حديدية يختلف بعضها عن بعض في كل شرفة. كان هذا اللون من الاهتمام الرومانسي المتعمد والطليق بالجمال - وهو جمال سرعان ما يتأثر ويتغير ويتطلب الرعاية الدائمة - هو الذي جعل هذه المدينة تختلف اختلافا شاسعا عن غيرها، وجعلها فرصة إبداع لا نظير له أمام المهندس المعماري.
ودخل المنزل فصحح وضع الستار الهابط في البهو الأمامي، واتجه إلى مؤخرة المنزل، وأطل بنظره على جورجي، النجار البلغاري، الذي كان يقوم بتثبيت بعض معدات السباكة الجديدة بالقرب من المطبخ، كان جورجي عاملا ممتازا، في نحو الستين من عمره، واسع الصدر، لا يكل ولا يتعب، ولكن زيتون كان يعرف كيف يتحاشى دفعه إلى الحديث؛ إذ إنك إن جعلته يتحدث فسوف تصغي لحديث لا يتوقف على مدى عشرين دقيقة عن الاتحاد السوفييتي السابق، والمنازل المقامة على ساحل البحر في بلغاريا، وشتى رحلاته الطويلة في البلاد وهو يقود السيارة التي يعيش فيها - وتشبه الحافلة المزودة بكل ما يحتاج إليه المنزل المتنقل - مع زوجته ألبينا التي رحلت عن هذا العالم منذ عدة سنوات وغدا يفتقدها بشدة.
وركب زيتون شاحنته وأدار الراديو «فهاجمه» المزيد من إنذاراته بشأن هذه العاصفة التي تسمى كاترينا. وكانت قد تشكلت بالقرب من جزر البهاما منذ يومين، وبعثرت القوارب الراسية كأنها لعب أطفال. وانتبه زيتون لما يقال ولكنه لم يجده ذا بال، ما دامت الرياح لن تكون لها علاقة به قبل عدة أيام.
واتجه إلى متحف برسبتير في ميدان جاكسون، حيث بعض عماله يقومون بإجراء ترميمات دقيقة في ذلك المبنى الذي بلغ عمره مائتي عام، وكان منذ زمن بعيد مبنى محكمة، ولكنه أصبح الآن يضم مجموعة تحف وآثار فذة للاحتفال بثلاثاء المرفع، كانت المهمة تحظى بالاهتمام الجماهيري، وأراد زيتون إنجازها على خير وجه.
واتصلت كاثي به من المنزل، كان أحد العملاء قد اتصل بها لتوه من حي برودمور، وتتلخص الرسالة في أن عماله كانوا قد أغلقوا أحد الشبابيك بالطلاء ولا بد من إرسال عامل آخر لفتحه بعد أن التصق.
وقال لها: «سأذهب بنفسي.» كان ذلك فيما يتصور أيسر، فليذهب ليقوم بالعمل، من دون إجراء مكالمات أخرى، أو انتظار وصول أحد.
وقالت كاثي: «هل سمعت بالرياح؟ قتلت ثلاثة في فلوريدا حتى الآن.»
وأبدى زيتون استهانته بما سمع قائلا: «لن تضيرنا هذه العاصفة!» •••
كثيرا ما كانت كاثي تتفكه بعناد زيتون، وبرفضه الانصياع لأي قوة طبيعية كانت أم سواها، ولكن زيتون لم يكن يملك تغيير طبعه؛ إذ نشأ في ظل أبيه، البحار الأسطوري الذي واجه سلسلة من الشدائد الملحمية، وكان يتمكن من النجاة دائما بما يشبه المعجزة.
Bilinmeyen sayfa
كان محمود والد زيتون قد ولد في جزيرة أروض التي لا تبعد كثيرا عن جبلة، وهي الجزيرة الوحيدة بالقرب من الساحل السوري، وهي صغيرة إلى الحد الذي لم تكن تظهر معه في بعض الخرائط، وكان معظم الصبيان يتأهلون للعمل ببناء السفن أو صيد الأسماك، وبدأ محمود في يفوعه يعمل في السفن على الطرق البحرية بين لبنان وسوريا، وخصوصا سفن البضائع الشراعية الضخمة التي تحمل الأخشاب إلى دمشق والمدن الأخرى الساحلية، وكان محمود إبان الحرب العالمية الثانية على متن إحدى هذه السفن المتجهة من قبرص إلى مصر، وكان هو ورفاقه يدركون دون أن تتضح لهم الصورة تماما وجود قوات المحور التي تستهدفهم ما داموا يمكن أن ينقلوا المؤن إلى الحلفاء، ولكنهم ذهلوا عندما ظهر سرب من الطائرات الألمانية في الأفق واتجه إليهم، وسارع محمود ورفاقه بالغطس في البحر قبل أن تبدأ الطائرات إطلاق وابل من الرصاص، وتمكنوا من استخراج قارب نجاة مطاطي نفخوه قبل أن تغرق سفينتهم، وكانوا قد بدءوا يزحفون إلى القارب عندما عاد الألمان الذين كانوا فيما يبدو قد قرروا قتل جميع من نجا من أفراد طاقم السفينة، واضطر محمود ورفاقه إلى الغطس تاركين القارب، والانتظار حتى يقتنع الألمان أن البحارة قد قتلوا أو غرقوا جميعا، وعندما عاد البحارة إلى قاربهم، بعد أن لاح لهم أن الأمان قد عاد إلى سطح الماء، وجدوا القارب مليئا بالثقوب ... وهكذا، خلعوا قمصانهم وسدوا بها تلك الثقوب، وجعلوا يجدفون بأياديهم لأميال حتى وصولوا إلى الساحل المصري.
وأما القصة التي كان محمود يكثر من روايتها عندما كان زيتون في بواكير صباه ، وكان محمود يريد بها منع أطفاله من الحياة في البحر، فكانت القصة التالية:
كان محمود في طريق عودته من اليونان على متن سفينة شراعية ذات صاريتين، ويبلغ طولها ستا وثلاثين قدما، عندما فاجأت السفينة عاصفة سوداء متعرجة المسار، وظل البحارة يقودون السفينة وسط العاصفة ساعات متوالية حتى أصيبت الصارية الرئيسة بشرخ أدى إلى وقوع الشراع في الماء، وهو ما كان ينذر بإلقاء السفينة كلها في البحر! ومن فوره، ومن دون تفكير، تسلق محمود الصارية، منتويا تخليص الشراع منها وتصحيح وضع جسم السفينة، ولكنه عندما وصل إلى الشرخ في الصارية إذا بها تنهار تماما، فسقط محمود في البحر، كانت السفينة تبحر بسرعة ثماني عقد (أي ثلاثة عشر كيلومترا في الساعة)، وهو ما جعل عودتها لإنقاذ محمود مستحيلة، فأخذ البحارة يلقون كل ما استطاعوا إلقاءه إلى محمود - بعض الألواح الخشبية وبرميل - ولم تمض دقائق حتى اختفت السفينة في الظلام، وظل وحيدا في البحر يومين كاملين، وأسماك القرش تسبح تحته والعواصف تهب من فوقه، متعلقا بما بقي من البرميل، حتى ألقته الأمواج آخر الأمر على الساحل بالقرب من اللاذقية، على مبعدة خمسين ميلا شمال جزيرة أروض.
ولم يستطع أحد، ولا محمود نفسه، أن يصدق أنه نجا، ولكنه حلف بعدها ألا يعرض نفسه لتلك المخاطرة مرة أخرى، فأقلع عن الإبحار، وانتقل مع أسرته من أروض إلى أرض سوريا الداخلية، ومنع أطفاله من العمل بالبحر، وقرر توفير تعليم جديد لهم جميعا، وإتاحة فرص أخرى للعمل بعيدا عن صيد السمك وبناء السفن.
وانطلق محمود وزوجته يبحثان عن منزل جديد بعيد عن الماء، وذلك في جميع أنحاء سوريا؛ فقضيا شهورا طويلة في السفر مع أطفالهما الصغار، ينظران في هذه البلدة وذلك المسكن، دون أن يلوح لهما ما يصلح، ولم يجدا شيئا يناسبهما حتى عثرا على هذا المنزل الذي يتكون من طابقين، وبه متسع لجميع أطفالهما الآن ومن سينجبانه في المستقبل، وعندما أعلن محمود أن هذا المنزل مناسب لهم، ضحكت زوجته؛ إذ كان المنزل يواجه البحر ، ولا يكاد يبتعد خمسين قدما عن الساحل.
وفي بلدة جبلة، افتتح محمود حانوتا للخردوات المعدنية، وألحق أبناءه وبناته بأفضل المدارس، وعلم أبناءه كل حرفة يعرفها، وعرف الناس جميعا أسرة زيتون؛ إذ كان أفرادها كلهم مجدين مجتهدين أذكياء، كما عرف الناس جميعا عبد الرحمن، الطفل الثامن، الذي أصبح الآن يافعا يريد أن يعرف كل شيء، ولا يخشى أي لون من ألوان العمل، وقد وجد نفسه في يفوعه يراقب الصناع وأصحاب الحرف في البلدة، كلما استطاع ذلك، ويدرس أسرار حرفهم، وعندما كانوا يدركون أنه جاد وسريع التعلم، كانوا يعلمونه كل ما يعرفونه، وعلى مر السنين اكتسب معرفة بكل صنعة استطاع الاقتراب منها، من صيد السمك، إلى تجهيزات السفن، والطلاء، وإعداد الأطر، وحرفة البناء، والسباكة، وإعداد الأسقف، وأعمال البلاط، بل وإصلاح السيارات.
ومن المحتمل أن والد زيتون كان سيشعر بالفخر والدهشة لمسار حياة ابنه، لم يكن يريد لأطفاله أن يعملوا بالبحر، ولكن عددا كبيرا منهم عمل في البحر، ومنهم زيتون. كان محمود يريد لأطفاله أن يصبحوا أطباء ومعلمين، ولكن زيتون كان يشبه والده شبها كبيرا، فعمل بحارا أول الأمر، ثم عمل كعامل بناء لتوفير الرزق لأسرته، وليضمن أن يعيش حتى يشهد أطفاله يكبرون.
واتصل زيتون تليفونيا بكاثي في الحادية عشرة، وهو في مستودع المعدات واللوازم المنزلية بعد أن أصلح النافذة في المنزل الكائن بشارع برودمور.
وسألها: «هل سمعت أي أنباء؟»
وأجابت: «التوقعات سيئة!»
Bilinmeyen sayfa
كانت تطلع على الإنترنت، فوجدت أن المركز القومي للأعاصير عدل من تصنيف كاترينا معتبرا أنها إعصار من الدرجة الثانية، كما قال المركز إن المسار المحتمل لكاترينا قد انتقل من اللسان الممتد في البحر في فلوريدا إلى ساحل ولايتي المسيسيبي ولويزيانا، كانت العاصفة الآن تعبر جنوب فلوريدا برياح تبلغ سرعتها نحو تسعين ميلا في الساعة، وأدت إلى قتل ثلاثة أشخاص على الأقل، وانقطعت الكهرباء عن 1,3 مليون منزل.
وقال زيتون: «الناس هنا في قلق.» وأدار بصره في المخزن ثم قال: «كثير منهم يشترون ألواح الخشب الرقائقي.» كانت صفوف الزبائن طويلة، وبدأ مخزون المستودع من الألواح البلاستيكية يتناقص، وكذلك مخزونه من شرائط العزل والحبال، وكل ما من شأنه حماية النوافذ من الرياح.
وقالت كاثي: «سأستمر في المراقبة.»
وفي موقف السيارات نظر زيتون إلى السماء مستطلعا ما يدل على العاصفة المقبلة، لكنه لم يلحظ شيئا غير عادي، وعندما أخذ يدفع عربته اليدوية إلى الشاحنة، لا حظ شابا يدفع عربة مماثلة حافلة بالمؤن يقترب منه.
وسأله الشاب: «ما حال العمل؟»
وقال زيتون في نفسه إنه كهربائي على الأرجح.
وقال زيتون: «لا بأس، وكيف حال عملك أنت؟»
وأجاب الشاب: «ليس أفضل الأحوال.» ثم عرف زيتون بنفسه وبصنعته قائلا إنه كهربائي، كما حدس زيتون. وكانت شاحنة الشاب واقفة بجوار شاحنة زيتون، فبدأ يساعد زيتون في نقل ما في عربته إلى شاحنته ثم قال: «إن احتجت يوما ما إلى كهربائي فسوف أكون جاهزا، ومواعيدي دقيقة وأتم كل عمل أبدؤه.» وأعطى بطاقته لزيتون، وتصافحا ثم ركب الكهربائي شاحنته، وكانت في نظر زيتون أفضل حالا من شاحنته هو.
وسأله زيتون: «لم تحتاج إلي؟» ثم أردف قائلا: «شاحنتك أحدث من شاحنتي!»
وضحك الاثنان، ووضع زيتون بطاقة الشاب على لوحة مفاتيح السيارة وبدأ يغادر الموقف، وقال في نفسه إنه سوف يتصل تليفونيا بالشاب إن عاجلا أو آجلا، فهو دائما يحتاج إلى كهربائي، وراق له نشاط الشاب. •••
Bilinmeyen sayfa
كان زيتون عندما بدأ العمل في نيو أورلينز منذ أحد عشر عاما يقوم بالأعمال اليدوية عند جميع مقاولي المدينة تقريبا، من الطلاء إلى تعليق الألواح البلاستيكية إلى تركيب بلاط الأرضية - أي شيء يطلبه المقاول - حتى استأجره رجل يدعى تشارلي سوسيار، وكانت لدى تشارلي شركته الخاصة، وكان قد بناها من الصفر، وأصبح ثريا، وكان يأمل أن يتقاعد قبل أن تعجز ساقاه عن حمله.
وكان لدى تشارلي ولد تقترب سنه من العشرين، ولم يكن لديه شيء أحب إليه من أن يترك الشركة لابنه. كان يحب ابنه، ولكن ابنه لم يكن يؤمن بالعمل، بل كان مخادعا وناكرا للجميل. وكان يتغيب عن العمل، فإذا حضر أبدى القلق والتبرم بالعمل، وأظهر الترفع على موظفي والده.
ولم يكن زيتون يملك سيارة في ذلك الوقت، فكان يركب دراجته إلى مواقع العمل عند تشارلي، وكانت دراجة لها عشر سرعات اشتراها بأربعين دولارا. وذات يوم كان زيتون يواجه خطر التأخر في الوصول إلى العمل، حين فوجئ أيضا بانفجار إطار إحدى العجلتين، وبعد سيره بالدراجة بالإطار المنفجر نصف ميل توقف في يأس، كان عليه قطع مسافة أربعة أميال عبر المدينة في عشرين دقيقة، وبدا له أنه سوف يتأخر عن العمل لأول مرة في حياته، لم يكن يستطيع أن يترك الدراجة ويجري؛ إذ كان يحتاج إليها، كما كان من المحال السير بالإطار المنفجر، وهكذا حمل الدراجة على كتفيه وابتدأ يهرول. كان في ذعر وفزع، فلو تأخر عن موعد العمل فما عسى أن يصيب سمعته؟ لسوف يخيب أمل تشارلي فيه، وربما كف عن استخدامه مرة أخرى. وما عسى أن يحدث لو تحدث تشارلي إلى غيره من المقاولين، ورأى أنه لا يستطيع تزكية زيتون؟ قد تكون العواقب واسعة النطاق. كان يدرك أن العمل هرم يبنى بالعمل الشاق يوما بعد يوم.
وزاد من سرعة عدوه. كان يدرك أنه سوف يصل متأخرا، لكنه إن زاد من سرعته فربما لم يزد التأخير على خمس عشرة دقيقة. كان ذلك في شهر أغسطس ورطوبة الجو خانقة، وبعد ميل أو نحو ذلك من الجري، وقد غمر جسده العرق المتصبب، توقفت شاحنة بجواره.
وجاءه صوت يسأل: «ماذا تفعل؟» والتفت زيتون لينظر من السائل، دون أن يبطئ من معدل عدوه، كان يتصور أنه أحد المازحين يريد أن يسخر من رجل يجري حاملا دراجته فوق كتفيه في الطريق العام، ولكنه وجد المتحدث رئيسه في العمل، تشارلي سوسيار.
وقال زيتون: «ذاهب إلى العمل.» كان لا يزال يجري، وحين يذكر الحادثة يرى أنه كان عليه أن يتوقف في هذه اللحظة، ولكنه كان يتبع إيقاعا منتظما فاستمر، والشاحنة تتسكع إلى جواره.
وضحك تشارلي وقال: «ضع دراجتك في حقيبة السيارة.»
وأثناء انطلاقهما بالسيارة، التفت تشارلي إلى زيتون وقال له: «تعرف؟ لقد قضيت ثلاثين عاما في هذا العمل، وأعتقد أنك أفضل من عمل عندي.»
كانا متجهين بالشاحنة الآن إلى موقع العمل، واستطاع أن ينعم بهدوء البال أخيرا، بعد أن عرف أنه لن يطرد من العمل في ذلك اليوم.
وواصل تشارلي حديثه قائلا: «لدي عامل يقول إنه لن يستطيع الحضور لأن سيارته لم تستطع القيام، وعندي عامل آخر يقول إنه لن يستطيع الحضور لأنه أوى إلى الفراش متأخرا، تخيل! تأخر في النوم! وعامل آخر طردته زوجته من المنزل أو شيء من هذا القبيل، ولذلك لم يحضر. عندي عشرون أو ثلاثون موظفا ولا يحضر منهم للعمل في أي يوم سوى عشرة!»
Bilinmeyen sayfa
كانت الشاحنة قد توقفت في إحدى إشارات المرور، فألقى تشارلي نظرة فاحصة على زيتون وقال: «ثم أنت! لديك العذر القهري، فكل ما لديك دراجة وإطار إحدى العجلتين انفجر، ولكنك تحمل دراجتك على ظهرك. لم أعرف من قبلك قط شخصا يفعل شيئا كهذا!»
وبعد ذلك اليوم، تحركت الأمور بسرعة إلى الأمام وإلى الأعلى بالنسبة إلى زيتون، ولم يمض عام واحد حتى كان زيتون قد ادخر ما يكفي من المال لشراء شاحنته الخاصة، وبعد عامين اثنين، كان قد بدأ يعمل لحساب نفسه، ويعمل لديه اثنا عشر رجلا.
وعند الظهيرة اتجه زيتون إلى المركز الإسلامي في منطقة سانت كلود، وكان مسجدا متواضع المنظر ومكانا لاجتماع الناس في وسط البلد. وعلى الرغم من أن أشقاءه كانوا يتفاوتون في أداء صلواتهم، فإن زيتون كان شديد المحافظة عليها، ولم تكن تفوته أي صلاة كل يوم، والقرآن يأمر المسلمين بأداء خمس صلوات في اليوم؛ الأولى ما بين الفجر وطلوع الشمس، والثانية في الظهيرة، ثم في العصر والمغرب والعشاء أي بعد المغرب بساعة ونصف الساعة، فإذا وجد نفسه بالقرب من منزله ساعة صلاة العصر، توقف وأداها فيه، وفيما عدا ذلك كان يقيم الصلاة في أي مكان يكون فيه، مهما يكن العمل الذي يؤديه. وقد أدى صلواته في كل مكان بالمدينة، في مواقع العمل، وفي الحدائق، وفي منازل الأصدقاء، أما في يوم الجمعة فكان دائما يرتاد هذا المسجد، ليقابل أصدقاءه لأداء صلاة الجمعة، التي تعتبر شعيرة التلاقي بين كل الرجال المسلمين في المجتمع المحلي.
وبعد أن دخل المسجد وبدأ بالوضوء، وهو الاغتسال المنصوص عليه في الشعائر، والمطلوب من جميع المصلين، ثم بدأ صلاته فقرأ الفاتحة.
وبعد ذلك اتصل تليفونيا بكاثي.
قالت: «سرعان ما تصبح من الدرجة الثالثة!»
كانت كاثي في المنزل، تتأكد من حالة الجو على الإنترنت.
وسألها: «هل تتجه إلينا؟» - «هذا ما يقولونه.» - «متى؟» - «لست متأكدة. ربما يوم الإثنين.»
وتجاهل زيتون الأمر؛ فيوم الإثنين كان يعني بالنسبة إليه أنها لن تصل أبدا، كان يذكر أن ذلك حدث من قبل عدة مرات. كانت العواصف دائما تهب عبر فلوريدا مدمدمة مدمرة، ثم تخبو حدتها في مكان ما فوق الأرض أو فوق الخليج.
وعاد تليفون كاثي للرنين بالمكالمة التي كانت «محجوزة» فودعت زيتون، وبدأت الرد عليها. كان المتحدث روب ستانسلو، وهو عميل وصديق قديم.
Bilinmeyen sayfa