ومرت عدة سنوات، وبعد بضعة أخطاء في التقدير وجراح في القلب، أمست كاثي مطلقة، تعيش وحدها مع زخاري الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في هذه الدنيا. كانت تؤجر الشقة نفسها الواقعة في شارع متفرع من طريق إير لاين الرئيس في باتون روج، وتقوم بعملين في الوقت نفسه، كانت في الصباح تعمل في صيدلية تابعة لسلسلة صيدليات شركة «كيه آند بي»، وينحصر عملها في محاسبة العملاء على مشترياتهم وتقاضي ثمنها قبل خروجهم، وكانت الصيدلية تقع في الطريق الرئيس. وذات يوم زار الصيدلية مدير متجر «وبستر» للملابس الذي يقع على الجانب الآخر من الطريق، وهو حانوت متخصص في ملابس الرجال، وشاهد كاثي وأبدي إعجابه بشخصيتها المتقدة حماسة، وسألها إن كانت على استعداد لترك الصيدلية والعمل لديه، أو الجمع - إذا شاءت - بين العملين. وكانت كاثي تحتاج إلى النقود فوافقت على العرض الأخير، وأصبحت تغادر الصيدلية مبكرا في عصر كل يوم وتعبر الطريق إلى متجر وبستر للملابس وتظل تعمل حتى وقت إغلاقه. وسرعان ما باتت تعمل خمسين ساعة في الأسبوع، وتكسب ما يكفي لتغطية نفقات التأمين الصحي لها ولزخاري.
ولكن حياتها كانت تمثل مجالدة عسيرة، وكانت تبحث عن بعض النظام وبعض الإجابات. وعلى عكسها، كانت يوكو تبدو هادئة واثقة، وكانت دائما تتميز بالقدرة على التركيز حتى غدت كاثي تحسدها، ولكن يوكو أصبحت الآن حقا، فيما يبدو، كمن استطاع أن يفهم كل شيء.
وبدأت كاثي تستعير كتبا عن الإسلام، ولم يكن يدفعها سوى حب الاستطلاع، دون أدنى نية لترك الدين المسيحي. كانت في البداية حائرة مفتونة وحسب بالأمور الأساسية التي لم تكن تعرفها، والأشياء الكثيرة التي افترضتها خطأ. لم تكن تعرف مثلا أن القرآن يزخر بالأشخاص الذين يتحدث عنهم الكتاب المقدس - مثل موسى، ومريم، وإبراهيم، وفرعون، بل وعيسى أيضا - ولم تكن تعرف أن المسلمين يعتبرون القرآن رابع كتاب من عند الله إلى رسله، بعد العهد القديم (الذي يشار إليه باسم التوراة أو شرع موسى) والمزامير (الزبور)، والعهد الجديد (الإنجيل). وكان اعتراف الإسلام بهذه الكتب السماوية مذهلا لها. وكان إدراكها أن القرآن يمتد نطاقه ليشمل الأديان الأخرى المتصلة به مفاجأة حاسمة:
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة: 136).
وشعرت بالضيق الشديد لأنها لم تكن تعرف ذلك من قبل، ولأنها عميت عن دين يدين به ألف مليون شخص أو نحو ذلك، كيف يمكن أن تجهل هذه الأمور؟
ومحمد، لقد كانت لديها معلومات بالغة الخطأ عنه، كانت تظن أنه الرب الفعلي الذي يعبده المسلمون، ولكنه كان الرسول وحسب الذي نقل كلام الله، كان محمد رجلا أميا زاره الملك جبريل وأنزل عليه كلمات الله، وأصبح محمد قناة توصيل هذه الرسائل، وإذن فإن القرآن ببساطة هو الصورة المكتوبة لكلمات الله، وهكذا فإن كلمة القرآن تعني «القراءة».
واكتشفت أشياء أساسية بالغة الكثرة حطمت ما كانت تفترضه سلفا؛ إذ كانت تظن أن المسلمين مجموعة متجانسة كالصخرة الواحدة، وأن جميع المسلمين يمتازون بصلابة الورع والاستقامة، ولكنها تعلمت أنه توجد تفاسير شيعية وسنية للقرآن، وأنك يمكن أن تجد في مسجد واحد التنوع نفسه في العقيدة والالتزام الذي تجده في أي كنيسة ، وأن بعض المسلمين يتهاونون في التعامل مع دينهم، والبعض يعرف كل كلمة في القرآن وفي السنة على نحو ما جاء في الحديث النبوي الذي يعتبر مرشدا للسلوك مرافقا للقرآن، وأن بعض المسلمين لا يكادون يعرفون شيئا عن دينهم، ولم يكونوا يصلون إلا عدة مرات في السنة، والبعض الآخر ممن يطبقون أشد تفسيرات عقيدتهم صرامة. وعرفت أن بعض المسلمات يرتدين ال «تي شيرت» والجينز، ومسلمات يغطين أنفسهن من الرأس إلى القدم. وأن بعض المسلمين من الرجال يتبعون في حياتهم السنة النبوية، وآخرين يضلون ولا يهتدون. عرفت بوجود مسلمين سلبيين، ومسلمين مزعزعي الدين، ومسلمين «لا أدريين» يعبدون الله «على حرف»، ومسلمين أتقياء، ومسلمين يحرفون الكلم عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا. كان ذلك الحال مألوفا إلى أقصى حد، بل من الظواهر الثابتة في كل عقيدة.
في ذلك الوقت كانت كاثي ترتاد كنيسة إنجيلية كبيرة لا تبتعد كثيرا عن وظيفتيها، وعلى الرغم من أنها لم تكن تمتلئ دائما، فإن مقاعدها كانت تكفي ألفا من رعايا الكنيسة. كانت تشعر بالحاجة إلى التواصل مع دينها؛ إذ كانت تحتاج إلى كل ذرة من القوة يمكن أن تجدها.
لكنها شهدت في هذه الكنيسة أمورا أقلقتها. كانت قد اعتادت أسلوب الوعظ المتقد في الكنيسة، وأقصى المظاهر الاستعراضية والدراما، ولكنها لاحظت ذات يوم أن أولئك قد تخطوا الحدود الفاصلة. كانوا قد انتهوا للتو من المرور بأطباق جمع التبرعات، وبعد أن جمعوا النقود المتبرع بها وعدوها، إذا بالواعظ - وكان رجلا قصيرا له وجه وردي وشارب - تبدو عليه خيبة الأمل. كان التعبير على وجهه صورة للألم، وبعدها لم يستطع كتمان ألمه، فانطلق يوبخ جماعة المصلين بهدوء أول الأمر، ثم بنبرات الضيق المتزايدة حدة، وتساءل: ألم يكونوا يحبون هذه الكنيسة؟ ألم يكونوا يقدرون العلاقة التي تخلقها هذه الكنيسة مع سيدهم المسيح؟ واستمر يهدر مؤنبا الحاضرين على الشح والبخل، واستغرقت محاضرته عشرين دقيقة.
وبهتت كاثي. لم تكن قد شهدت من قبل عد النقود أثناء صلاة الأحد، ثم طلب المزيد! كانت تعرف أن المصلين لم يكونوا أغنياء، فلقد كانت تلك كنيسة لطبقة العمال، كنيسة للطبقة الوسطى، ولقد تبرع كل بما يستطيع.
Bilinmeyen sayfa