وردت قائلة: «لا، بل في البحيرة! يا ربي!»
كان الرجل مهووسا بالمدرسة، وكانت كاثي تحب أن تغيظه بذلك وبعدة أشياء أخرى. كان زيتون وكاثي يتحادثان تليفونيا عدة مرات في أثناء النهار، حول كل شيء؛ عن الطلاء، عن العقارات المؤجرة، وعما ينبغي إصلاحه، وعمله، والإتيان به، وكثيرا ما لا يزيد موضوع المكالمة على تبادل التحية والسلام. كان الهزل الذي ابتدعاه تشيع فيه نبرات ضيق صدره وأحاديثها المقتضبة، وكان مصدر تسلية لكل من يستمع إليه خلسة. وكان ذلك أيضا محتوما نظرا إلى تعدد محادثاتهما معا كل يوم، ونظرا إلى ضرورة توصيل المعلومات الزاخرة بأقصى سرعة. لم يكن أحدهما يستطيع من دون الآخر إدارة منزلهما، أو شركتهما، أو حياتهما، أو أيامهما.
وكانت كاثي دائما ما تندهش لقدرتهما على تحقيق مثل هذا التكامل؛ إذ كانت قد نشأت باعتبارها من أتباع طائفة المعمدانية الجنوبية في ضاحية من ضواحي مدينة باتون روج، ودأبت على أن تحلم بالرحيل (والواقع أنها رحلت بمجرد الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية) وبإدارة مركز للرعاية النهارية للأطفال. وها هي ذي قد اعتنقت الإسلام، وتزوجت من أمريكي سوري، وتدير شركة لا تفتأ تتضخم للطلاء والمقاولات المعمارية، وعندما قابلت كاثي زوجها، كانت في الحادية والعشرين وكان في الرابعة والثلاثين، وينتمي إلى بلد لا تكاد تعرف عنه شيئا. كانت تتعافى من آثار زواج غير ناجح، وكانت قد اعتنقت الإسلام مؤخرا، ولم تكن تهتم أدنى اهتمام بالزواج من جديد، ولكنها اكتشفت أن زيتون كان يمثل كل ما لم تصدق وجوده في البشر؛ كان رجلا أمينا، أمينا إلى النخاع، جادا مجتهدا، صادقا، يعتمد عليه، مخلصا لأسرته. وكان أفضل ما فيه أنه كان يريد لكاثي أن تكون من كانت تريد أن تكونه، وعلى الحال التي أرادتها تماما، لا أكثر ولا أقل.
ولكن ذلك لم يكن يعني عدم نشوب بعض نوبات القلق، وهو التعبير الذي كانت كاثي تطلقه عليها، وتعني به مجادلاتهما العنيفة حول كل شيء؛ من الطعام الذي سيتناوله الأطفال في الغداء، إلى إذا ما كان عليهما تكليف وكالة لتحصيل الديون المتراكمة على أحد العملاء.
وكانت تقول لأطفالها: «نحن قلقون وحسب.» عندما كانوا يستمعون لتلك المجادلات بينهما. ولم تكن كاثي تملك أن تتحاشى ذلك؛ فهي تهوى الكلام ولا تستطيع كتمان شيء في نفسها. وقالت لعبده في الأيام الأولى لعلاقتهما إنها سوف تفصح عن رأيها دائما، ولم يفعل سوى أن هز كتفيه إذ كان يقبل ذلك، كان يعرف أنها كانت تحتاج أحيانا إلى التنفيس عن نفسها، وكان يسمح لها بذلك، وكان في هذه الأثناء يومئ صابرا، وأحيانا يشعر بالامتنان لأن لغته الإنجليزية لن تسعفه بسرعة استخدامها للغة، فبينما يبحث عن الكلمات المناسبة للرد عليها تستمر هي في الكلام، وكثيرا ما يحدث أن يكتشف أنها عندما تنتهي تكون قد شعرت بالإرهاق فسكتت، ولم يعد لديها أو لديه شيء يقال.
وعلى أي حال، فكلما شعرت كاثي بأنها سوف تجد أذنا صاغية، بل صاغية إلى النهاية، كان ذلك يخفف من حدة المجادلات، وهكذا، أصبحت مناقشاتهما أقل حماسة، وكثيرا ما كانت أقرب إلى إثارة الضحك، ولكن الأطفال، خصوصا في سنيهم الأولى، لم يكونوا يدركون الفرق.
وقبل سنوات، أثناء وجودهم في السيارة، نشبت مجادلة عنيفة حول أمر ما، فاعترضت نديمة وهي جالسة في مقعد السيارة الخلفي وحزام الأمان مربوط حولها؛ إذ شعرت بأنها لم تعد تطيق ما تسمع. هتفت قائلة: «تلطف في الحديث مع أمي يا أبي.» ثم خاطبت كاثي قائلة: «تلطفي في الحديث مع أبي يا أمي.» وتوقف زيتون وكاثي فورا، وتبادلا النظرات، ثم نظرا معا وفي الوقت نفسه إلى نديمة الصغيرة، كانا يعرفان سلفا أنها ذكية، ولكن الأمر الآن مختلف، لم تكن إلا في الثانية من عمرها!
بعد أن انتهت مكالمتها مع زيتون، فعلت كاثي ما كانت تعرف أنه خطأ؛ لأن العملاء يريدون ولا شك أن يتصلوا بها وينتظرون أن يستطيعوا مكالمتها ذلك الصباح، لكنها فعلت ما كانت تقدم كثيرا على فعله؛ أغلقت تليفونها المحمول، بعد أن غادر الأطفال السيارة وبدأت العودة إلى المنزل، لم يكن لها دافع سوى أن تهنأ بالعزلة ثلاثين دقيقة أثناء رحلة العودة - كان ذلك ترفا باهظا، ولكنه كان ضروريا. كانت تحدق في الطريق، وفي صمت تام، دون أن يخطر لها خاطر على الإطلاق. كانت تعرف أن اليوم سيكون طويلا، إذ لن تتوقف عن العمل حتى يأوي الأطفال إلى الفراش، ولذلك أباحت لنفسها هذا السرف. ألا وهو فسحة لمدة ثلاثين دقيقة من الصفاء والسكينة، لا يقطعها مقاطع.
وفي الطرف الآخر من المدينة، كان زيتون يتابع أولى مهام ذلك النهار، كان مولعا بذلك المكان، ذلك المنزل الجليل العتيق في حي الحدائق، وكان قد أرسل عاملين من شركته للقيام بالعمل فأراد التوقف للاطمئنان على وجودهما وانهماكهما في العمل وعدم احتياجهما لأي شيء، فصعد الدرج وثبا وخطا مسرعا داخل المنزل الذي كان قد بني منذ 120 عاما على الأقل.
وشاهد إميل، وهو دهان ونجار من نيكاراجوا، منحنيا يلصق شريطا على بعض أخشاب الأرضية، فتسلل خلفه وقبض على كتفيه فجأة، فانتفض إميل واقفا وضحك زيتون.
Bilinmeyen sayfa