فحملق مصباح عينيه مدهوشا، أصحيح ما تقول؟ - لقد ساقتني التقادير إلى الناصرة في سياحتي الصيف الماضي، والناس هنالك صغيرهم وكبيرهم يعرفون قصتها، والله أحزنني أمرها.
ونظر إذ ذاك إلى مصباح أفندي يستطلع ما كمن وظهر فيه من مفعول ذا الخبر، ثم قال وهو راض بما كان: وأظن أن أباها في القاهرة، أي والله ، قد يكون ذاك القسيس الذي يندد بها وبرقصها. - هذا من أعجب ما سمعت حياتي، وهل أخبرت غصن البان؟ - لم أخبر أحدا غيرك، الأماجد يا مصباح أفندي يسترون العيوب، ولولا ثقتي بك ما أطلعتك على ما أظنك تسره ولا تذيعه، ولكن غصن البان أصبحت الآن سيدة نفسها وسيدة الفن، وقد لا يهمها من ماضيها شيء، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء.
فنهض مصباح أفندي على الفور كأن جاءه الوحي وودع محيي الدين معتذرا، وراح مسرعا إلى غرفته يدون الآيات.
والحاج يضحك في نفسه ويقول: ما أغرب أطوار هؤلاء الشعراء، قد يذبح الشاعر مصباح الراقصة غصن البان هذه الليلة، ويرثيها غدا، سبحان الله، سبحان الله.
وفي اليوم التالي نشرت إدارة الكازينو إعلاما في الجرائد مؤداه أنها غير مسئولة عن ديون غصن البان السابقة والحاضرة والمستقبلة، فازداد قلق التجار وحاموا حول الراقصة ملحين ملجين مصرين متوعدين، غدا وبعد غد وبعد بعد غد كلمات لا تسحر التجار، فأصدرت الدعاوى، وأصدرت المحاكم أحكامها، وبوشر كل في برهة شهر واحد تغيب فيه الحاج محيي الدين عن مصر عمدا. ووقف الدلال في البيت الذي أدبت فيه المآدب الفخيمة، وتاهت فيه غصن البان بضعة أشهر عزا ومجدا، يبيع بالمزاد ما فيه من الرياش والتحف والأعلاق والآثار، وكانت الجرائد أثناء ذلك تنشر المقالة تلو المقالة في إفلاس غصن البان وسقوطها، معددة دائنيها وعشاقها، واصفة تلك المآدب الفخمة التي كانت تأدبها لأصحابها ومريديها، مرددة أقوال الحكماء في القصف والإفراط مذكرة، منذرة.
فطالعت غصن البان بعضها ولم تبالي، ولكن مقالة واحدة أثارت كل ما في نفسها من كوامن الغيظ والأسى؛ مقالة عنوانها: «مريم الناصرية» علمت من لهجتها وأسلوبها أنها من قلم الشاعر مصباح أفندي، قص فيها الكاتب قصة غصن البان من حين دخولها بيت مبارك خادمة حتى دخولها الكازينو راقصة، فجاء على ذكر هربها من الدير، وهربها وأحد الرهبان من الناصرة، وهربها من طبريا، ولم يكتف الكاتب بذلك بل قال: إنها هي التي ارتكبت الجريمة في الناصرة وسجنت هناك وخلصها معلمها أحد أعضاء المحكمة، وإنها ابنة راهب من رهبان دير النجاة، وإنها ولدت في طبريا ولدا رماه أبوها في البحيرة، وغير ذلك من الحوادث التي تفسد حقيقتها الإشاعات وتجسمها الغايات والأحقاد.
أحدثت المقالة هذه ضجة في القاهرة وتناقلتها بعض الجرائد في مصر وسوريا وفلسطين، وأمست غصن البان في عارها وبلائها كما كانت في عزها ومجدها حديث المجالس والقهاوي والحانات، وما كاد ينقضي ذاك الشهر الأسود حتى جاءها كتاب من الحاج محيي الدين، كلل به مساعيه الحسنة ومكارمه فكان الضربة القاضية عليها، والكتاب فريد في بابه فلا نضن به على القارئ الكريم:
إلى العزيز المحترمة السيدة غصن البان أطال الله بقاءها
نهديك أطيب التحية والسلام، ونأسف جدا لما دهاك من الدواهي، ووالله وددنا لو أنها حلت بنا لا بك، ونسأله تعالى أن يحسن سلواك ويزيل همومك، ولقد غمنا جدا تغيبنا الشهر الماضي عن القاهرة، فقد كنا بذلنا في سبيلك النفس والنفيس والله! ولكنا لا نظن أن أمر التجار يهمك، ولا يهمنا، المال يفدى بالمال، ونحن لم نزل كما كنا من محبيك وأنصارك ومريديك وما تحتاجينه من المال موقوف لك، ولكن ما نشرته الجرائد غمنا جدا جدا، ونظن أن الجريدة التي نشرت تلك المقالة وفيها من المطاعن بعرضك ما يزعزع الجبال هي مسئولة تجاه القانون، فإذا أحببت أن ترفعي الدعوى عليها فمحامي الكازينو تحت أمرك، يشهد الله والنبي على ما نقول، لقد غمتنا تلك المطاعن جدا جدا، سودت يومنا أدمت فؤادنا.
أما الوثيقة بيننا وبينك فبما أننا متعاهدون سابقا وجوقة من الرواقص الإفرنسيات يرقصن هذا الشهر عندنا، ووجودك معهن يضر بهن بل يكسفهن تماما، فلا نرى الآن إلى تجديدها سبيلا.
Bilinmeyen sayfa