فراحت مرجانة وعادت تقف أمام سيدتها خجلة مضطربة. - ما بالك؟ - هو في الباب يقول: إما أن تعيدي الخواتم وإما أن تدفعي ثمنها الآن.
فنهضت غصن البان تحتدم غيظا ودخلت إلى غرفتها وعادت بعلبتين صغيرتين دفعتهما إلى الخادمة لتسلمهما إلى الصائغ . - قولي له ... وسكتت تحارب غيظها ثم قالت: معلمتي تسلم عليك وتعتذر إليك.
وما كادت تنتهي من فطورها حتى قرع الجرس ثانية ففتحت مرجانة الباب، وإذا براهب يسأل عن غصن البان. - وما اسم سيادتكم؟ - قولي لها: إن راهبا من بلادها يروم مقابلتها.
فجاءت مرجانة تخبر سيدتها فقالت غصن البان كأنها تخاطب نفسها: راهب؟ راهب من بلادي؟ قد هربت من الرهبان، ولا شك أن ذاك الراهب الذي يندد بي وبرقصي، لا، لا، ثم خاطبت الخادمة: قولي له: إنني لم أزل نائمة.
فعاد الراهب في اليوم الثاني فقالت له الخادمة بعد أن قابلت سيدتها: الست مشغولة الآن ولا يمكنها أن تقابلكم.
فلم يحفل بذا التمنع والاستكبار وراح ثالثة يطرق باب غصن البان في شارع قصر النيل، فكان الجواب فصل الخطاب. - لا رغبة للست بمقابلة سيادتكم. - لا بأس، لا بأس.
وانثنى القس بولس عمون راجعا إلى مدرسته كاظما غيظه لائما نفسه على ذا الاهتمام لراقصة غرة ضالة.
وفي ذاك الصباح بين كانت غصن البان تفض تحاريرها وتمزقها كان عاطف بك والحاج محيي الدين في إدارة الكازينو يتحدثان بشأنها. - أوأنت آذنتها أن تبتاع ما تريد باسم الكازينو، تفضل، ودفع عطف بك إلى شريكه ثلاث قوائم من بعض التجار في الموسكي. - لا بأس، لا بأس، ولا بد من وضع حد لذلك، ادفع هذا المبلغ من أجرتها واكتب إلى هؤلاء التجار أننا غير مسئولين من الآن فصاعدا عما تبتاعه غصن البان. - بل أرى من الواجب أن نعلن ذلك في الجرائد، وإلا فتصبح غدا شريكتنا، وقد قلت لك: إن الإقبال على الكازينو هذه السنة لا يكون كالسنة الماضية، فقد أخطأنا في اتكالنا عليها وحدها، أخطأنا، فالناس يملون كل شيء. - لا بأس، لا بأس، في الشهر القادم نغير اللائحة. - من رأيي أن نبتدئ منذ الغد، في البلد جوقة من الرواقص الإفرنسيات. - ولكن وثيقتنا وغصن البان لا ينقضي أجلها حتى آخر الشهر القادم، دعها الآن، ولا تفاتحها بالأمر.
وركب الحاج محيي الدين عربة يقصد إدارة إحدى الجرائد، فأبصر وهو مار بالأزبكية الشاعر مصباحا جالسا في السبلندد بار وحده يشرب الوسكي والسودا، فأوقف العربة وصرف الحوذي وجاء يسلم عليه: يا مصباح أفندي. - والسلام عليكم، تفضل. - ما لي أراك على شيء من الكدر؟ - وهل يصفى الزمان لابن أنثى يا محيي الدين؟ - وهل يرضى الشاعر بالشمس والقمر لو سخرا له يا ترى؟ سبحانك اللهم! أنت الوحيد يا رجل المقرب من غصن البان الممتع بجمالها وحبها، المقيم بنعيم ... - حسبك، حسبك، ونادى مصباح أفندي الخادم، فطلب الحاج محيي الدين فنجان قهوة. - وماذا دهاك قل لي، كنت أظن أن الشاعر حليف النصر دائما في الهوى. - الشاعر يا محيي الدين يحب حبا وثيق العرى قصير المدى، يحب مرة كالفارض ويعشق دائما كالبهاء زهير، يفرغ نفسه في يوم واحد ويعيش مداعيا مموها حزينا بقية أيام حياته. - وهل نبذت غصن البان يا ترى؟ - بل نبذتني، لقد ذاقت قبلي السم في الثمالة فكسرت الكأس. - وكسرت قلبها انتقاما، اتقوا الله أيها الشعراء! - والله لقد كسرت الكأس وكسرت نفسي، حبها نار يا محيي الدين وحب الشاعر نور. - ولكن في غصن البان غير جمالها الظاهر ما يحبب مثلك إليها. إن مواهب نفسها لمما يعجب به أولو الألباب والنهى، ولو أطلعتك على شيء من أمر نشأتها لازداد إعجابك بها وحبك لها، هي نابغة مثلك والله، آية من آيات الدهر.
وجعل يقص عليه ما قصه على القس بولس عمون، فرفع مصباح رأسه مصغيا وأبرقت أسارير وجهه، فاستمر الحاج في الإغراء طي التلبيس والإعجاب. - وقد اتهمت المسكينة بجريمة ارتكبت بسببها في بيت أسيادها في الناصرة، وسجنت خمسة أشهر، قصتها والله عجيبة! وفرت هاربة إلى طبريا مع راهب يقال: إنه أبوها، ووضعت هناك ولدا.
Bilinmeyen sayfa