ومن أهم أسباب ضعف المسلمين بخلهم عن التضحية، وهم يريدون النصر من غير إنفاق، ويعز عليهم الإنفاق؛ لأنهم يئسوا من النصر أمام العدو القاهر، وشحوا بالمال في أن يبذل في هذا السبيل. وإذا كانوا أشحاء بالمال فهم بنفوسهم أشح. وفي الحديث: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.» قال قائل: «ومن قلة نحن يومئذ؟» قال
صلى الله عليه وسلم : «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم. وليقذفن في قلوبكم الوهن» قال: «يا رسول الله وما الوهن؟» قال
صلى الله عليه وسلم : «حب الدنيا وكراهية الموت.»
وقد منع المسلمين من التضحية حب الدنيا وكراهية الموت. وقد رأينا في الحرب العالمية الأولى والثانية أن كل أمة نصرانية حافظت على نفسها، وبذلت من التضحيات ما بذلت للمحافظة على كيانها. حتى أن الأمة ولو كانت صغيرة أبت أن تنضم حتى إلى من كان من جنسها، فقد لبثت روسيا من مائة سنة إلى ثلاثمائة سنة تحاول إدخال بولونيا في الجنس الروسي، وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة بحجة أن الجنس السلافي يجمع بين البولونيين والروس ففشلت جميع مساعيها، واحتفظوا بشخصيتهم وقاتلوا عنها قتال الأبطال ولم يعجزوا عن المحافظة على استغلالهم. كما خاب الروس في إدماج أهل لتوانيا، وعجزوا هم والألمان عن إدخالهم مع أنهم لا يبلغون أكثر من أربعة ملايين، وكذلك فعل الصربيون والبلغاريون مع الأتراك.
وكانت الدماء في الحرب العالمية الأولى والثانية تجري أنهارا؛ حبا في الغلبة أو محافظة على الاستقلال، فلا يكون نصر أو استقلال من غير تضحية، فطمع المسلمين في النصر أو الاستقلال من غير تضحية بالأموال والأنفس طمع إبليس في الجنة، ولا يهولنك ما يقول المتشائمون الملحدون الجامدون من أن المسلمين لا طاقة لهم بحرب الأوروبيين؛ لأنهم يعجزون عن دفع ما عند الأوروبيين من مخترعات حديثة وآلات فتاكة ونحو ذلك. وليس عندهم من العلماء من يبتكر ويخترع كما عند الأوروبيين، فهذا قول مردود بأن عدد المسلمين الذي لا يقل عن أربعمائة مليون لو اتحدوا لأمكنهم أن يوجدوا علماء إذا صمموا، فلا ينقصهم ذكاء وعقل ولكن ينقصهم إرادة وعزم. وأنهم إذا وجد العلماء ووجد المال؛ وجدت آلات القتال لا محالة فدفعوا القوة بالقوة، ولهذا قال الله - تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، وقال:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليس عمل الصالحات مقصورا على الصلاة والصيام والحج، ولكن منها أيضا بذل الأنفس في القتال ومقابلة القوة بالقوة، والاستعداد للعدو ما أمكن ونحو ذلك.
وقد بدأ العرب يدب فيهم الوعي القومي بعد أن جاءهم القرن التاسع عشر وهم في منتهى الخمول، فربما لو قارنا حالهم اليوم بحالهم الأمس لم نستطع أن نرى الفرق كبيرا، ولكن لو قارناهم بحالهم منذ مائة عام لبان الفرق واضحا. فلما زار الرحالة الفرنسي فولنيه مصر في أواخر القرن الثامن عشر قال في وصفها: «إن الجهل فيها عام مثل سائر تركيا، وهو يتناول كل الطبقات. ويتجلى في كل العوامل الأدبية والطبيعية والفنية حتى الصنائع اليدوية في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة وإذا وجد فهو إفرنجى.» ويقول عن سوريا: «إن الجهل سائد فيها كسائر تركيا، وليس في العرب أو الأتراك الآن علماء في الرياضيات أو الفلك أو الموسيقى، ويندر فيهم من يحسن الفصد، وإذا احتاجوا إلى الكي استخدموا له النار، وإذا عثروا على متطبب إفرنجي عدوه من آلهة الطب. وأما علم النجوم فقد صار عندهم للنجامة واستطلاع الطوالع.»
ويقول بوركهارت في الملحق الثاني من كتاب رحلته في سوريا وفلسطين عما أصاب مدينة حلب، فيصف الويلات التي فيها للتنازع الشديد بين العائلات صاحبة الحول والطول في الإقطاعات المختلفة، وانقسام زعمائمهم بعضهم على بعض، وعدم طاعتهم للحاكم، وهتك الإنكشارية لحرمة البلاد، وهم جنود لا يرعون الأنظمة ولا يعرفون من السلطة إلا جباية الأموال وقطع الطريق وسلب الناس أشياءهم. أما الباشوات فكانوا لا يحافظون على راحة الأهلين إلا ما كان فيه الصفقة الرابحة والتجارة غير الخاسرة لشخصياتهم. وولايتهم سنة فحسب، وفيها يكسبون ما يستطيعون من الأموال؛ خيفة أن يصبحوا فقراء معدمين، ويسترضون عملاء السلطان في الآستانة، كما يتنعمون في بلاد يصيرون فيها حكامها المطلقين لبعدها عن مركز الخلافة وصعوبة المواصلات.
ولذلك كان نوم الشعب عميقا لم يستطع أن يصحو إلا على صوت المدافع، فلم ينتبه إلا بصوت المدافع في تركيا حين غزتهم الجيوش الأوروبية، وفي مصر حين غزاهم نابليون فهذا الغزو أفاقهم ونبههم. وكان في حملة نابليون كثيرون من خيرة العلماء الفرنسيين المختص كل منهم بفرع من العلم من عاديات ودينيات واقتصاد وجغرافية ... إلخ. وكانت مقسمة إلى أربع فرق: فرقة للرياضة، وفرقة للطبيعة، وثالثة للآداب، ورابعة للاقتصاد. ففقرقة الرياضيات خططت القاهرة، وهيأت الرسوم لمشروع قنال السويس، وأحصت الضرائب التي جباها المماليك من أهل البلاد. وفرقة الطبيعيات اهتمت بوضع إحصاء طبي لأمراض مصر، وجوها، وتربتها، وطعامها، وإحصاء المواليد والوفيات، وشددت بوجوب الإخبار عن أي مرض في نواحي كل بلدة. واشتغل العلماء الكيماويون في تصفية مياه النيل وتقطيرها، وتخليص الأملاح المستخرجة من الأعشاب والنباتات، واهتمت فرقة الآداب بإنشاء مكتبة يؤمها رجال العلم، ومن يريد المطالعة في ساعات معينة. ومما عنيت به من المسائل الاقتصادية جواز السفر، ووجوب استخراجه، وإثبات ورثة الميت بأحقيتهم في الوراثة ... إلى آخر ذلك.
Bilinmeyen sayfa