فرغ الشيخ من درسه وكان خفيف النفس متدفق الخاطر، فبينما هو يتحدث عن يوم من أيام الحروب إذا هو يورد ما قال الشعراء فيه يصورون هزات نفوسهم، ثم إذا هو يسبح في معاني الخير والشر ومقاييس الفضل والنقص.
وقام سيف وخيلاء يشيعانه وهو يسير بخطواته الهادئة يتكئ على عصاه الطويلة، حتى خرج من البهو وأخفته الأروقة عنهما. والتفت سيف إلى خيلاء آخذا بيدها قائلا: كنت كمن صدمته صخرة فزلزلته حينا، ولكني أعود إلى نفسي، وما كنت أحسب أن جناني يعود في مثل هذه الساعة القصيرة. أرى الغشاوات تزول عن عيني، وأبصر الأشياء كما ينبغي لي أن أراها. ليست الأشياء كما خيل إلي منذ ساعة، صورا مجردة يخلقها لنا الوهم، فتبدو لنا في هباء تخدعنا وتضللنا. هذه أنت يا خيلاء إلى جنبي تستمعين إلي، وهذه يدك في يدي، وهذه هي السعادة ترف علينا حقيقة لا خيالا. أكاد الآن أومن بنفسي.
فقالت خيلاء باسمة: وعرفت الإيمان؟
فضغط سيف على يدها قائلا: ما أسرع العقول في تبدلها، وما أسرع تبدل الرؤى في أعيننا، أليست هذه الحواس تخدعنا؟ إنها تخيل إلينا أن الشمس تجري بين السحاب إذا هبت عاصفة، وأن القمر يسير معنا في الليلة الصافية.
فقالت خيلاء: وتملأ قلوبنا بذلك شعرا. أليس كذلك يا سيف؟
فقال سيف: ولكنك تسألينني عن الإيمان.
فقالت خيلاء: وهل نؤمن بعقولنا؟ الإيمان لا يدخل إلينا من العقل؛ لأنه أسمى من عقولنا، وأنى لنا أن ندرك بعقولنا المحدودة ما يتعدى الحدود المباحة للحواس؟ نحن نلمس المادة الكثيفة، ونرى ما يستطيع بصرنا الكليل أن يبلغه، ونسمع ما يقرع آذاننا، ولكننا لا نستطيع أن نكابر الحق ونقول إن هذا كل شيء، فإن وراء ما نلمس عالم لا يدركه اللمس، ووراء ما نرى عالم لا يبلغه البصر، ووراء ما نسمع عالم لا يكشفه السمع. ولو قنعنا في الإيمان بما تدركه الحواس، لما زدنا شيئا على النملة التي لا تستطيع أن تطير في الجو، أو السمكة التي لا تعيش إلا في الماء، أو الحية الصماء التي لا تدرك إلا ما في الرمال التي تدب عليها. لا نستطيع يا سيف أن نبلغ الإيمان عن طريق عقولنا؛ لأنها لا تعرف إلا ما تمليه عليها الحواس التي تستعبدنا. لسنا ملائكة.
فقال سيف هامسا: ألا يكون البشر ملائكة؟
فقالت: لا بأس علينا إذا لم نكن ملائكة، إذا كنا نتواضع ولا يحملنا الغرور إلى أبعد مما ينبغي لنا، فالبشرية ضعيفة محدودة، ولكنها لم تخل من جمالها. وهذا الضعف الذي فينا قد يكون مبعث سعادة لنا إذا نحن آمنا. بل إن هذا الضعف يحملنا على التعلق بالإيمان؛ لأنه وسيلتنا إلى السلام وإلى الرحمة وإلى المحبة.
فقال سيف في حماسة: لو تكلم الملائكة لما قالوا خيرا من هذا يا خيلاء. فإن كلماتك تبعث في قلبي من الإيمان أكثر مما يستطيع عقلي؛ السلام والرحمة والمحبة. سأومن يا خيلاء، وسبيلي إلى الإيمان هو أنت. أنت السلام والرحمة والمحبة، فأنت هو.
Bilinmeyen sayfa