ولما غرّبت أعْراف سَلْمى ... لهنّ وشرّقت قُنَن القِنان
تصوبت البلادُ بنا إليكم ... وغنّى بالإيابِ الحادِيان
فقال: أحسن والله! مَن هذا البدوي المطبوع؟ فقيل: إنها للوليد بن عُبيد، فقال: أعِد، فأعيدت، فرجع عن رأيه فيه، وحض الناس على رواية شعره.
ولو أُنصف أصحابُنا هؤلاء لوُجِد يسيرُهم أحقّ بالاستكثار وصغيرهم أولى بالإكبار؛ لأن أحدهم يقفُ محصورًا بين لفظ قد ضُيِّق مجاله، وحُذِف أكثره، وقلّ عدده، وحُظِر مُعظمه. ومعان قد أُخذ عفوها، وسُبِق الى جيّدها؛ فأفكاره تنبثّ في كل وجه، وخواطره تستفتح كل باب؛ فإن وافق بعضَ ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان. ولعل ذلك البيت لم يقرَع قطّ سمعه، ولا مرّ بخلَده؛ كأن التوارد عندهم ممتنع، واتفاقَ الهواجس غيرُ ممكن! وإن افترع معنى بكْرًا، أو افتتح طريقًا مُبهمًا لم يرض منه إلا بأعذب لفظ وأقربه من القلب، وألذِّه في السمع؛ فإن دعاه حبُّ الإغراب وشهوة التنوّق الى تزيين شعره وتحسين كلامه، فوشّحه بشيء من البديع، وحلاّه ببعض الاستعارة قيل: هذا ظاهرُ التكلف، بيّن التعسف، ناشف الماء، قليل الرونق. وإن قال ما سمحتْ به النفس ورضي به الهاجس قيل: لفظ فارغ وكلام غسيل؛ فإحسانه يُتأوّل، وعيوبه تُتمحّل، وزلته تتضاعف، وعذره يكذَّب؛ فلا تشتغلنّ بهذه الطائفة مادمت تنظر بين المتنبي وأهل عصره، وأخّر المنازعة في هذا الرأي، وإن كان الخلاف الأكبر، فإن لكل مقام مقالًا. وإنما خصمك الألَدّ، ومخالفُك
1 / 52