وكانت اللجنة القومية في روما ترقص على عزف تورينو وفلورنسة وتأخذ المساعدات المالية من الحكومة الإيطالية، وكان بعض رؤسائها يتصلون بأنتونللي، وكانت هناك لجنة أخرى هي لجنة العمل المنبثقة عن اللجنة التي ألفها مازيني بعد سقوط الجمهورية، والتي حال نفوذ مازيني دون اندماجها في أي تنظيم غير جمهوري، وكانت هذه اللجنة - حسبما يظهر - على استعداد للتخلي عن آرائها الجمهورية والتعاون مع أي تنظيم لا يكون كثير الولاء للمعتدلين كاللجنة القومية، وقد حث ذهاب الإفرنسيين اللجنتين على مضاعفة نشاطهما، غير أنه بينما كانت سياسة اللجنة القومية ترمي الآن إلى ترك روما للأقدار وتخليص الحدود؛ كانت لجنة العمل تعد العدة للثورة في المدينة نفسها، وتنوي طلب مساعدة أوروبا؛ لتكون الحكم بعد أن تنال روما حريتها ثم يجري الاستفتاء العام لمصلحة الوحدة، وقد ألغيت هذه اللجنة قبل تعيين رتازي بمدة قصيرة لبلوغ غايتها جميع الفروع القومية الرومانية باستثناء اللجنة القومية، وتطوع غاريبالدي لقيادة هذه الحركة الجديدة، وكان ينوي إرسال عصابات المتطوعين ليعيثوا في الحدود وليشغلوا جنود البابوية، ولما وردت رسالة من روما تفيد بأن القوميين أصبحوا على أهبة العصيان؛ سارع غاريبالدي إلى إيفاد قوة إلى جوار تيرني، والواقع أنه لم تتم أية استعدادات لا في تيرني ولا في روما؛ فلذلك استطاع الجنود الإيطاليون - بسهولة - أن يطوقوا المائة شخص الذين لبوا نداء غاريبالدي قبل أن يجتازوا الحدود، وأن يقبضوا عليهم في 18 حزيران.
أما غاريبالدي فلم يثن عزمه شيء وأسلم نفسه إلى تهور خاطئ ولربما بالغ في تقديره جزع الشعب وظن أنه يستطيع أن يجر البلاد وراءه فيتحدى الحكومة، وجهر بعزمه على الذهاب إلى روما وأرسل السلاح إلى الحدود؛ ليجس نبض رتازي ولعله أراد بأن يتعاون مع الجمهوريين، وأخذ في أوائل شهر آب يجند المتطوعين من جميع الإيالات المتاخمة بالحدود، وحين تجول في جنوب طوسكانه لم يتردد في الجهر بنياته قائلا: «نريد أن نذهب إلى روما على الرغم من بونابرت، فينبغي لنا أن نحرق الميثاق فوق الكابيتول.»
ولقد نجح في تهييج البلاد، وحدث أن قامت في عيد القديس بطرس السنوي مظاهرة بابوية صاخبة أثارت الشتائم التي وجهت فيها للقوميين سخطا شديدا في إيطالية، وأثبتت تصريحات الجنرال الإفرنسي «دومون» صحة ما كان الطليان يظنون منذ مدة طويلة، وهو أن بعض القوة البابوية في آنيتب تتألف من جند المشاة الإفرنسيين المتنكرين بلباس المتطوعين، وأحدث ذلك سخطا شديدا على أسلوب الختل الذي استعمله الإمبراطور ليتجنب الميثاق، وقد عقدت اجتماعات عامة في المدن الكبيرة طالبت باحتلال روما والاستيلاء على الأملاك الكنيسية، حتى إن عددا كبيرا من المعتدلين انضموا إلى القائلين بضرورة إحداث ثورة في روما، وأخذ بعض الجنود والضباط والموظفين يحيون غاريبالدي وحسب الناس جميعهم أنه على تفاهم مع رتازي بواسطة كريسبي، وأن الحكومة لن تعارضه.
أما رتازي فصرح بأنه سيعارض - بكل قوته - أية حركة نحو الأمام إذا أدرك بأن سياسته المبهمة المتوسطة عادت لا تصلح، وأن عليه أن يتخذ مع غاريبالدي سياسة صريحة، فإما معه وإما عليه، فإذا اختار أن يؤيد غاريبالدي فإن روما ستقع في قبضة يده وإليه سيرجع فضل الاستيلاء على العاصمة الإيطالية، بيد أن الأخطار التي قد تنجم عن هذا وقد يؤدي ذلك العمل إلى قطع الصلات مع فرنسة وربما إلى حرب هائلة تنتهي باحتلال الإفرنسيين لبيمونته، أما إذا هو ألغى المتطوعين بالقوة فقد تتكرر بذلك حادثة إسبرمونتة فضلا عن احتمال نشوب الحرب الأهلية ونشاط الحركة الجمهورية التي قد تجر إلى قلب العرش، وقد كان شغف غاريبالدي بإثارة الثورة ينذر بمضاعفة الصعوبات المالية أكثر من قبل، بينما كان معظم الناس - باستثناء المتحمسين - المندفعين يرون بأن مهمة الاستيلاء على روما تأتي بعد واجب تخفيف الأعباء التي ترزح تحتها البلاد في الأهمية، وكان رتازي قد أصدر في 28 تموز قانونا عن أراضي الكنيسة استهدف به تخفيف أعباء الخزينة على الرغم من أن الحصة التي خصصها للدولة كانت أقل مما جاء في مشروع ريكاسولي.
وأخذت الأسابيع تمر والصلات مع فرنسة تتوتر حتى أصبح اجتناب قطع الصلات صعبا جدا، ولو كان الإمبراطور لا يزال قويا يستطيع بها أن يسلك السياسة التي يريدها؛ لما كان ثمة محذور من موقف فرنسة، إلا أن الكاثوليك كانوا أقوياء في البلاط وكانت الحكومة لا تجرؤ على إغضابهم، وكان الإفرنسيون يكرهون إيطالية لأنها عدوة للبابا وحليفة لبروسية، وكانوا يحسون في قرارة نفوسهم بالألم لأن البلاد التي حاربت فرنسة من أجلها قد تخلت عن فرنسة، وقد نسوا أن فرنسة حين أعطت لمبارديه لإيطالية قد أخذت منها لقاءها صافويه ونيس، وأن إيطالية قد سفكت دماء أولادها سنة بعد أخرى في سبيل نابليون الأول، وكان وزير خارجية فرنسة قبل سقوط ريكاسولي قد أنذر بتدخل جديد إذا اضطر البابا إلى الهروب وبالقيام بهجوم من الداخل أو من الخارج، ومع أن رئيس وزراء فرنسة كان من الأحرار وكان يعارض سياسة التدخل إلا أنه كان يخشى فيما إذا وقعت ثورة أن يحول ضغط الرأي العام دون وقوف فرنسة موقف المتفرج وعلى الحياد، وقد دل إنذار وزير الخارجية الإفرنسية على أن الحكومة الإفرنسية قد أطلقت مواد الميثاق الخفية واعترضت بتواطؤها في قضية قوة انتب.
وبلغ السخط في إيطالية من جراء ذلك أشده، ولعل رتازي حاول أن يشهر بأحكام الميثاق، إلا أن سياسته كانت تقضي بأن لا يعطي فرنسة أية فرصة للتدخل.
وكان قد تعهد مرات عديدة بالاهتمام على محافظة الحدود بقدر ما تساعده على ذلك منابع الحكومة بالمحافظة على الحدود باهتمام تساعده عليه قدرة الحكومة، حتى إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بقبوله استشارة السلطات البابوية بشأن التدابير التي يجب اتخاذها للمحافظة على الحدود، بيد أن وعده باستخدام القوة عند الحاجة كان يناقض الأوامر التي أوعز بها لسلطات الحدود في السعي لاجتناب سفك الدماء، فضلا عن أنه رفض أن يمنع تجنيد المتطوعين وتدريبهم.
ولعل رتازي وافق على أن يخاطر حزب العمل في حركة ترمي إلى إنقاذ روما ما دامت فرنسة منهمكة في قضية لوكمسمبورج، إلا أنه اشترط بألا تتحمل الحكومة تبعة المباشرة بالعمل، ولما انقشعت الغيوم عن الرين وظهر أن فرنسة حشدت أربعين ألفا في طولون كانوا على أهبة الإبحار نحو جيفيتافيكيا؛ تراجع رتازي على أعقابه أمام هذا الخطر، ومع ذلك فإنه لم يجرؤ على الجهر بمعارضته حزب العمل رغم إنذاره لغاريبالدي بالقبض عليه إذا ما اجتاز الحدود، وقد كان كريسبي وأنصاره مستعدين للتعاون معه؛ لأنهم كانوا لا يعتمدون كثيرا على بصيرة غاريبالدي، حتى إن بعض المتهوسين من أعضاء الحزب حملوا على غاريبالدي على تأجيل الحركة إلى وقت آخر؛ فوافق مكرها على تأجيلها شهرا واحدا على الأقل، وكان مؤتمر السلم على وشك الانعقاد في جنيف، وكان أصدقاء غاريبالدي البرلمانيون قد وعدوه بالمساعدة؛ آملين أن تفتر حماسة المتطوعين حين غيابه، وكانت اتهاماته الشديدة ضد البابا قد وقعت كالصاعقة حين المذاكرات في المؤتمر، ولعله استاء من الاستقبال الذي استقبل به في جنوة فقفل راجعا إلى فلورنسة في 17 آب.
ولم يكن الرومانيون - وقد كانوا مشلولين بسبب انشقاقهم - على استعداد لأن يأخذوا على عاتقهم تبعة الحركة، وكان السبيل الوحيد لتشجعيهم على العصيان اجتياز الحدود فعاد كريسبي وأصدقاؤه مجددا يضغطون على غاريبالدي لتأجيل الحركة، بيد أنه رفض تأجيل حركته إلى أكثر من نهاية أيلول، زاعما في اغترار بأن وراءه مائة ألف طلياني، وبعد أن أصدر أوامره للعصابات لتجتمع على الحدود سافر في 23 أيلول ليلتحق بها، وبعد عودة غاريبالدي من جنوة تجددت المفاوضات بين رتازي وحزب اليسار فوعد الحزب على ما يظهر بأن يساعده على أن يعود غاريبالدي إلى كاربيره ويبقى فيها مدة من الزمن، فأدرك غاريبالدي أنها مصيدة له، وكان قد نشط كثيرا في إكمال استعداداته، وعلم رتازي بأن قطعات من القوات الإفرنسية في طولون كانت على أهبة الحركة، وحثه الملك على الأخذ بسياسة الحزم فصرف النظر بغتة عن سعيه للتفاهم وأصدر بيانا في 21 أيلول ينذر فيه ويتوعد كما أنه لم يكف عن دسائسه، فحاول شل حركة المتطوعين ببذر بذور الشقاق بينهم.
وكان جليا أنه إذا كان لا بد من الحركة فيجب أن تجرى حالا، وعزم الرؤساء الغاريبالديون على الحركة بعد تردد كبير ولكن بعد فوات الأوان؛ لأن الحكومة أوقفت غاريبالدي في طريقه إلى الحدود وساقته إلى قلعة ألكسندرية، ولكنه كان قد وجه نداء حارا إلى الرومانيين والطليان؛ داعيا الأولين للعصيان وطالبا إلى الآخرين بذل المعونة لهم، وقد قبض على عدد كبير من المتطوعين كما قبضت الحكومة على بعض اللاجئين وسلمتهم إلى السلطات البابوية، الأمر الذي ينافي الكرامة والمروءة، وسيق غاريبالدي بعد مرور ثلاثة أيام إلى كاربيره، فانتشر خبر توقيف غاريبالدي غير القانوني في البلاد انتشار الكهرباء، ولولا احتلال الجنود لجنوة لحدث فيها اصطدام دام، أما في فلورنسة فلقي رتازي الأمرين في خروجه منها سالما معافى، وكان الجنود أنفسهم يهتفون تحت نوافذ سجن غاريبالدي: «إلى روما.»
Bilinmeyen sayfa