ثم سقط نابليون فانهار بسقوطه كل ما قام به في إيطالية من أعمال، على أنه رغم ما أسدى إلى إيطالية من خدمات جليلة فإنه - في كثير من أعماله - قد مس كرامة الطليان القومية وأثار حنقهم، فقد مات منهم ستون ألفا ونيف في إسبانية وفي روسية؛ في سبيل قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فكانت الضرائب فادحة، ودلت أعمال الشرطة والرقابة السياسية في ذلك العهد على أن الحرية والإمبراطور على طرفي نقيض، أضف إلى ذلك أن المدن كانت حانقة بسبب ما نهب من متاحفها من آثار، أما الإهانة التي ألحقها بالبابا فكانت بمثابة تحرش بالدين واستهانة بوطنية الدهماء، ومع ذلك كله فالشعور بالوطنية الذي بثه نابليون ظل راسخا في النفوس، وراح الطليان يعتزون بمفاخر مملكة إيطالية ويتحدثون عن أمجادها، فطالما سعى الحلفاء لتأليب البلاد على نابليون ملوحين لها بالاستقلال، وحين أخذ نجمه يأفل أبى أوجين بوهارته أن يلبي نداء قائده، أما المارشال مورات فإنه أخذ يسعى للاحتفاظ لنفسه بمملكة نابولي.
أما في ميلانو عاصمة المملكة فقد انشقت الآراء إلى شيع: ففريق يميل إلى النمسة ويدعى بالحزب الإيطالي، وهو يرى في فرنسة خطرا على السلم ويسعى في سبيل عودة الحكم النمسوي ذاكرا الحكم الذاتي الصالح في عهد ماريا تريزا ويوسف الثاني، وكان ساسة فينا يغدقون على الطليان الوعود الخلابة في الحرية والاستقلال.
أما أشراف ميلانو فقد كان أكثرهم ضد النمسة، وضد نائب الملك أوجين، وقد ألفوا الحزب الإيطالي الحر، وكانت غايته ضمان استقلال مملكة إيطالية دون الاكتراث بجنسية الأمير سواء أكان نمسويا أم إنجليزيا أم إيطاليا، بيد أن بعض الأشراف كانوا يميلون إلى وحدة إيطالية بزعامة أسرة آل صافويه الإيطالية، واتفقت الأكثرية على الاحتفاظ بميلانو عاصمة للمملكة، وبذلك كله يستعيد الأشراف ما فقدوه من امتيازات في عهد نابليون، ولم يلق أحد من هؤلاء بالا إلى فكرة الالتفاف حول الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحقق استقلال إيطالية ألا وهو أوجين بوهارنه نائب الملك.
ولما رأى هذا الرجل أن الأشراف تخلوا عنه لم يجرؤ على دعوة المجلس التمثيلي ليستشير بواسطته الشعب؛ خشية أن يتهمه نابليون بالخيانة، فلم يسعه حينئذ إلا أن يتخذ نصف التدبير فطلب إلى مجلس الأعيان أن يمارس صلاحياته، وطالب الحلفاء في الوقت ذاته بالتاج نفسه.
ولم يكن لدى مجلس الأعيان الإرادة الكافية ليتحمل عبء تلك المهمة، فاستفادت الأحزاب المعارضة في الداخل والخارج من عجز مجلس الأعيان، واتفقت فيما بينها على إسقاط نائب الملك ومجلس الأعيان معا، وما كاد يشيع خبر تخلي نابليون عن الملك حتى لجأ الحزب الإيطالي إلى السلاح، وطلب إلى مجلس الأعيان دعوة المجالس التمثيلية، وهب الشعب يظاهر هذه الحركة ويضغط على مجلس الأعيان ليحمله على الإذعان، فما كان منه إلا أن قدم وزير المالية ضحية لتردده وإهماله، وكان في استطاعة قائد الحامية أن ينقذ الموقف بإرسال الجند لإنقاذ حياة وزير المال، وكان في وسع جيش أوجين أن يقبض على ناصية الحال لو لم يخش من نشوب الحرب الأهلية.
فكان من أمر ذلك أن انسحب مجلس الأعيان من الميدان، فتولى المجلس البلدي مجلس الوصاية لمدة مؤقتة، وأصبح هم هذا المجلس السعي لفصل لمبارديه من إيطالية وإدخالها في الحكم النمسوي، فدعيت المجالس التمثيلية في لمبارديه فقط؛ حيث يتكلم الناس اللهجة اللمباردية، وأوفد مجلس الوصاية مندوبا عنه إلى باريس؛ لمطالبة الحلفاء بالاستقلال والدستور، ولكنه وجد أن مصير لمبارديه قد بت فيه قبل وصوله؛ ذلك لأن أوجين استسلم بلا مقاومة إلى القائد النمسوي الجنرال بلجارد وتخلى عن الملك؛ فدخل هذا القائد ميلانو عاصمة لمبارديه وأعلن انضمامها إلى النمسة.
ومع أن الجيش كان قادرا على مؤازرة أوجين إلا أن خيانة القادة وخور عزيمتهم مكنتا بلجارد من اكتساب الوقت اللازم لإنزال الضربة القاضية، وبعد أن قبض على القادة ألقاهم في السجن.
ومع كل هذا فإن الوطنيين لم ييأسوا ما دام نابليون في جزيرة ألبة، وظلوا يعلقون آمالا على عودته للحكم، وسعيه لإعادة استقلال إيطالية، وأخذوا يتصلون به سرا ويعدون العدة لمساعدته عند الحاجة، وكان ثم قائد آخر من قادة نابليون يسعى لطلب ود الطليان، ألا وهو المارشال مورات أحد مارشالية نابليون الذين أنجبتهم الحرب الناشبة بعد الثورة الإفرنسية وقد نصبه نابليون ملكا على نابولي، كما نصب أوجين بوهارنه نائبا للملك في إيطالية.
ولما رأى نابليون أن مورات يدبر الدسائس ليستقل بمملكته فكر في أن ينبذه وأن يتفق مع آل بوربون ملوك نابولي القدماء إذا رضوا بأن يسيروا تحت رايته، وكان مورات يعلم أنه إذا ما قضى على نابليون فلن يوافق الحلفاء على بقائه؛ فلذلك رأى أن أحسن خطة يسلكها هي أن يجعل نفسه بطلا إيطاليا؛ ليظفر برضاء الإيطاليين، فراح يدبر الدسائس مع الحلفاء فعقد معاهدة سرية مع النمسة، وعدته فيها بأن تعطيه نابولي وجزءا من دويلات الكنيسة على أن يعترف بحقوق النمسة في لمباردية.
وبينما كانت النمسة تسعى سرا لقلبه كان مورات قد اتصل بأوجين وحثه على رسم خطة مشتركة للدفاع ضد الحلفاء، بيد أن أوجين لم يوافق على خيانة البابا في روما، ولما سقط نابليون واحتل النمسويون لمبارديه أصبح مورات في موقف حرج، ورغم أن الإنجليز كانوا يريدون التمسك بنصوص المعاهدة لضمان حقوق مورات فإن النمسة أرادت إعادة حقوق الملوك والأمراء المنفيين، فاستفاد مورات من اختلاف الرأي، وتقرب من الأحرار الطليان، ووافق على عدة قوانين إصلاحية كان قد أجلها سابقا، واتصل بنابليون، ولما فر هذا من جزيرة ألبه رأى مورات أن الفرصة قد حانت فأعلن الحرب على النمسة، وتقدم بجيشه نحو الشمال، وأعلن استقلال إيطالية، وضم حوله الطليان، وقد سارع فاحتل إيالتي الروماني والمارك، وبعد أن انتصر على النمسويين في «ستيزينه» تقدم في إيالتي «بولونيه ومودينه»، مع أنه لو توجه نحو ميلانو لكان من وسعه أن يحطم قوات النمسويين، لو لم يصغ لنصائح الإنجليز الذين خانوه، فأخذ بعد ذلك يخسر المعارك، وحاول عبثا استفزاز حمية النابوليين والصقليين ليلتفوا حوله، ولما رأى أنه قد فقد كل رجاء سلم سيفه للإنجليز وأضاع الطليان بذلك أملهم الأخير في الاستقلال.
Bilinmeyen sayfa