هز الرجل المسن رأسه. وقال: «لا أظن أن التاريخ سيتبنى وجهة نظرك سواء عن دوافع من هم في السلطة أو الطريقة التي أديرت بها الحرب. لقد كانت نضالا نبيلا وعظيما، خاضه بروح بطولية أولئك المغيبون الذين كانوا على خطأ، وتحداهم أولئك من كانوا على صواب بعناد وتضحيات هائلة بأرواحهم.»
قال هوارد الصغير للصحفي بفظاظة أثارت عبوس والده: «كم كان من المؤسف أنك لم تستطع أن تريهم كيفية خوض الحرب.»
قال ييتس بلمعة فكاهية في عينيه: «حسنا، أومن في قرارة نفسي بأنني كنت سأمنحهم بعض النصائح القيمة. ومع ذلك، فات أوان التحسر على إهمالهم.»
فأضاف الشاب القليل الحياء: «أوه، ربما ما زالت لديك فرصة. يقال إن الفينيانيين قادمون هذه المرة لا محالة. يجب أن تتطوع، إما في صفوفنا أو صفوفهم، وتظهر لنا كيفية خوض الحروب.» «أوه، فزاعة الفينيانيين محض هراء! لن يغامروا. فهم يحاربون بأفواههم. هذه هي الطريقة الأكثر أمنا.»
قال الشاب بنبرة ذات مغزى ضمني: «أصدقك.»
ربما لأن الشاب كان من التهور بحيث تفوه بهذه التعليقات، فقد تلقى ييتس دعوة ودية حارة من السيد هوارد وزوجته إلى زيارة مزرعتهما بقدر ما يشاء. وقرر ييتس أن يستفيد من هذا الامتياز، لكنه كان سيصبح أشد تقديرا له لو أضافت الآنسة مارجريت إليه دعوة منها، غير أنها لم تفعل؛ ربما لأنها كانت منشغلة تماما بالاعتناء بالخبز. ومع ذلك، كان ييتس يعرف أن التقدم الظاهري في بناء علاقة ودية مع امرأة نادرا ما يساوي تقدما حقيقيا. وقد خففت هذه المعرفة من خيبة أمله.
وبينما كان عائدا إلى المخيم، تأمل مشاعره بشيء من الدهشة. كانت وتيرة الأحداث سريعة، حتى بالنسبة إليه، وهو ذاك الذي لم يكن بطيئا قط في أي شيء تولى أمره.
قال لنفسه: «هذه نتيجة الفراغ. فهذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بفترة راحة منذ خمسة عشر عاما. لم يكد يمر يومان من إجازتي، وها أنا ذا واقع في حب ميئوس منه!»
الفصل السابع
كان ييتس ينوي المرور بمنزل آل بارتليت ومرافقة رينمارك للعودة إلى الغابة، ولكن حين خرج، نسي وجود البروفيسور، وتجول هائما بعض الشيء عبر الطريق الجانبي، ضاربا بعصاه على الأعشاب التي دائما ما تنمو بغزارة على طول المصارف الواقعة على جانبي أي طريق ريفي كندي. كان النهار مشمسا ودافئا، وبينما كان ييتس يتجول في اتجاه الغابة، راودته أفكار كثيرة. كان قبل مجيئه يخشى أن يجد الحياة شديدة الملل بعيدا عن نيويورك، من دون أن يستطيع تسلية نفسه ولو بجريدة صباحية، التي كانت قراءتها باهتياج وانفعال قد صارت أشبه بعادة سيئة لديه، كالتدخين. كان يتخيل أنه لا يستطيع العيش دون جريدته الصباحية، لكنه أدرك في تلك اللحظة أنها ليست بهذه الأهمية الشديدة في حياته كما كان يظن، غير أنه تنهد حين تذكرها، وتمنى لو كانت لديه واحدة بتاريخ اليوم. فقد كان يستطيع في تلك اللحظة، لأول مرة منذ سنوات عديدة، أن يقرأ جريدة دون ذلك الخوف الغامض الذي دائما ما كان يهيمن عليه حين يهم بأخذ إحدى صحف المعارضة وهي ما زالت رطبة من مكبس الطباعة. فقبل أن يتمكن من الاستمتاع بقراءتها، كان من عادته أن يتفحصها بعينيه سريعا ليعرف ما إذا كانت تحوي أي خبر قد فاته في اليوم السابق. فقد كان شعور الصحفي بأنه على وشك أن يخسر «سبقا صحفيا» دائما ما يؤرق باله ويظل سيفا مسلطا على رأسه كسيف ديموقليس الذي كثيرا ما يستشهد به. فمع أن متعة التفوق على الصحف المعارضة هائلة، فإنها لا تخفف أبدا من حدة ألم أي انهزام أمامها. فلو وقعت كارثة مروعة، ونشرت صحيفة أخرى تفاصيل أكثر استيفاء مما نشرته صحيفة «أرجوس»، يجد ييتس نفسه يكاد يتمنى ألا تكون هذه الحادثة قد وقعت، مع أنه يدرك أن أمنية كهذه غير مهنية تماما.
Bilinmeyen sayfa