الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Bilinmeyen sayfa
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
وسط أجراس الخطر
وسط أجراس الخطر
تأليف
روبرت بار
Bilinmeyen sayfa
ترجمة
أحمد سمير درويش
مراجعة
شيماء طه الريدي
الفصل الأول
في البهو ذي الأرضية الرخامية لفندق متروبوليتان جراند بمدينة بافالو، كان البروفيسور ستيلسون رينمارك واقفا يتلفت حوله بقلق شخص لم يعتد تلك الفخامة الصارخة التي اكتست بها دار الضيافة الأمريكية العصرية. كان البروفيسور قد توقف في منتصف الطريق بين الباب والمنضدة الرخامية؛ لأنه بدأ يخشى أن يكون قد وصل في وقت غير موات، وخالجه خوف من أن شيئا غريبا يحدث. فقد أوقعته العجلة والضجيج من حوله في حيرة من أمره.
كانت تقف عند الباب حافلة عمومية ممتلئة بعض الشيء بالركاب، ذات درج قصير كان مستندا على حجر الرصيف، وتقف بجوارها شاحنة مسطحة عريضة عليها حمالون أقوياء البنية يرفعون عليها صناديق مربعة ضخمة معصوبة بعصابات حديدية تخص التجار المسافرين، وحقائب كبيرة أخف منها، وإن لم تكن أقل منها ضخامة، من المؤكد أنها كانت تخص السيدات اللواتي كن يجلسن بصبر في الحافلة. وفي هذه الأثناء، كانت عربة أخرى قد وصلت للتو تتحرك إلى الخلف نحو الرصيف، وتفوه السائق الحانق بألفاظ ملائمة لهذا الحدث؛ إذ لم يكن حصانا العربة الجامحان يطيعانه.
كان يوجد رجل يصدح بصوت جهوري، وإن كان رتيبا وحزينا، بأن قطارا على وشك المغادرة إلى ألباني وساراجوتا وتروي وبوسطن ونيويورك والشرق. وحين وصل إلى كلمة «الشرق»، انخفض صوته إلى نبرة حزينة أقل حدة، كأن الرجل كان قانطا من مصير أولئك المسافرين نحو تلك الوجهة. وبين الحين والآخر، كان جرس نحاسي يقرع محدثا رنينا حادا، فيهرع أحد الزنوج، الذين كانوا جالسين صفا على دكة ممتدة بطول الجدار المكسو بالرخام إلى المنضدة، ويأخذ حقيبة يد أحد الأشخاص، ويتجه بها إلى المصعد متواريا وسط الزحام ومن ورائه النزيل الجديد. وكان بعض الرجال يقفون في مجموعات هنا وهناك يتبادلون أطراف الحديث، متجاهلين صخب الوصول والمغادرة من حولهم.
وأمام النوافذ العريضة العالية ذات الألواح الزجاجية، جلس رجال آخرون صفا، بعضهم يتحدث وبعضهم يقرأ وبعضهم يحدق إلى الخارج، لكنهم جميعا كانوا يجلسون واضعين أقدامهم على الحاجز النحاسي المنخفض الذي بدا أنه وضع هناك خصوصا لهذا الغرض. كان الجميع تقريبا يدخن السيجار. ثم نزلت سيدة مهيبة الطلة إلى الردهة متجهة إلى مقدمة المنضدة، وتحدثت بهدوء إلى موظف السجلات، الذي أمال رأسه المصفف جيدا إلى جانب واحد مصغيا في تبجيل إلى ما تقول. أفسح الرجال الطريق لها فورا. فمضت إلى الأمام وسطهم بهدوء تام كأنها في غرفة جلوس بيتها، حانية رأسها قليلا لواحد أو أكثر من معارفها، وقوبلت تحيتها بجدية تمثلت في رفع القبعة وإزالة السيجار من بين الشفتين مؤقتا.
كان كل ذلك في غاية الغرابة على البروفيسور، وشعر بأنه في عالم جديد لم يألف عاداته. لم يعره أحد أي اهتمام وهو واقف هناك وسط كل هذا حاملا حقيبته في يده. وفيما كان يتقدم على استحياء نحو المنضدة، ويحاول أن يستجمع شجاعة كافية ليخاطب الموظف، جاء شاب ورمى حقيبة يده على سطح المنضدة المصقول، متجاهلا البروفيسور، وجذب دفتر القيد الكبير ناحيته، وخربش اسمه على الصفحة بسرعة شديدة فظهر مبهما.
Bilinmeyen sayfa
قال للموظف: «مرحبا يا سام! كيف الأحوال؟ هل تلقيت برقيتي؟»
فأجاب الموظف: «نعم، لكني لا أستطيع إعطاءك الغرفة رقم 27. فقد حجزت أسبوعا. لقد حجزت لك الغرفة رقم 85، واضطررت إلى التشبث بها بأسناني كي أتمكن من ذلك.»
اكتفى الشاب في رده بإشارة مقتضبة إلى الجحيم.
فقال الموظف بهدوء: «إنه ساخن. هل أتيت من كليفلاند؟» «نعم. أتوجد أي رسائل لي؟» «برقيتان. ستجدهما في الأعلى في الغرفة رقم 85.» «أوه، يبدو أنك كنت متيقنا تماما أنني سآخذ تلك الغرفة؟» «كنت متيقنا تماما من أنك ستضطر إلى ذلك. فإما تلك أو الطابق الخامس. الفندق مشغول عن آخره. لا أستطيع أن أحجز غرفة أفضل للرئيس نفسه لو أتى.» «أوه، حسنا، فما قد يكون جيدا كفاية للرئيس أستطيع تحمله بضعة أيام.»
نزلت يد الموظف على الجرس. فهرع الزنجي وأخذ حقيبة السفر.
قال الموظف: «خمسة وثمانون.» ثم اختفى الزنجي والتاجر الرحالة.
وأخيرا قال البروفيسور للموظف على استحياء: «أيوجد مكان أستطيع أن أترك حقيبتي فيه بعض الوقت؟». «حقيبتك؟»
رفعها البروفيسور ليريه إياها. «أوه، حقيبة سفرك. بالطبع. ألديك غرفة يا سيدي؟» وفي تلك اللحظة كانت يد الموظف تحوم حول الجرس. «لا. على الأقل، ليس بعد. فكما ترى، أنا ...» «حسنا. ها هو موظف الأمتعة على اليسار سيسجلها لك.»
فجأة قال رجل، دافعا نفسه أمام البروفيسور: «ألديك أي رسائل وصلت إلى بوند؟». فأخرج الموظف حزمة ممتلئة بالرسائل من الحجيرة التي تحمل العلامة «ب»، وناولها كلها للشخص المستفسر، الذي تفقدها سريعا، واختار اثنتين بدا أنهما موجهتان إليه، ثم دفع بقية الرسائل نحو الموظف، الذي وضعها حيث كانت من قبل.
ظل البروفيسور واقفا لحظة، ثم، حين أدرك أن الموظف قد نسيه، بحث عن موظف الأمتعة إلى أن وجده في حجرة مليئة بصناديق الأمتعة وحقائب السفر. كانت هذه الحجرة موصولة بالبهو الكبير عبر فتحة مربعة كانت حافتها السفلية في مستوى ارتفاع الصدر. وقف البروفيسور أمامها، وسلم الحقيبة إلى الرجل الواقف وراء هذه الفتحة، الذي سرعان ما علق قطعة نحاسية بمقبض الحقيبة برباط جلدي، وألقى القطعة النحاسية الأخرى إلى البروفيسور. لم يكن ذلك الأخير متيقنا، ولكن بدا أنه من المفترض أن يدفع شيئا ما للموظف، لكنه افترض صوابا أنه لو كان مطالبا بدفع شيء ما، لما تردد ذلك الرجل الفظ بعض الشيء في ذكر تلك الحقيقة، وقد أثبت حسه المنطقي السليم في ذلك التخمين أنه نبراس موثوق يهتدى به وسط البيئة المحيطة الغريبة. فلم يكن موظف الأمتعة يتسم بأي لطف ولو مصطنعا.
Bilinmeyen sayfa
ومع أن البروفيسور كان متحيرا بعض الشيء من الوضع العام المحيط به، إلا أنه ظل كامنا في طبيعته إصرار عنيد كان قد نفعه للغاية من قبل، وكان يمكنه في نهاية المطاف من التفوق على رجال أذكى بكثير. لم يكن راضيا إطلاقا عن حواره المقتضب مع الموظف. فقرر أن يبادر بالتحدث إلى ذلك الشخص المشغول مجددا، إن استطاع أن يجتذب انتباهه. ومر بعض الوقت قبل أن يلفت انتباه الموظف المتكلم، ولكن حين استطاع ذلك، قال: «كنت على وشك أن أقول لك إنني أنتظر صديقا من نيويورك ربما لم يصل بعد. اسمه السيد ريتشارد ييتس من ...» «أوه، ديك ييتس! بالطبع. إنه هنا.» ثم التفت إلى الزنجي قائلا: «انزل إلى صالة البلياردو وانظر ما إذا كان السيد ييتس هناك. وإذا لم يكن كذلك، فابحث عنه في الحانة.»
كان واضحا أن الموظف يعرف السيد ديك ييتس. قال دون أن يلاحظ نظرة الدهشة التي اعتلت وجه البروفيسور: «إذا انتظرت في قاعة القراءة، فسأرسل ييتس إليك حين يأتي. سيعثر الصبي عليه إذا كان في الفندق، لكنه ربما يكون في الجزء الشمالي من المدينة.»
لم يشأ البروفيسور أن يزعج الموظف الخدوم أكثر من ذلك، فلم يسأله عن مكان قاعة القراءة. وسأل بدلا منه حمالا متعجلا، وتلقى إجابة مقتضبة لكنها وافية: «قاعة الطعام في الطابق التالي. قاعات القراءة والتدخين والكتابة عند البهو. وصالة البلياردو والحانة والمراحيض في الطابق السفلي.»
بعدما دخل البروفيسور صالون الحلاقة ومتجر بيع السيجار، وصل أخيرا إلى قاعة القراءة. كان العديد من الصحف اليومية متناثرا عبر أرجاء الطاولة، وكانت كل منها مثبتة على حامل طويل مشقوق بدائي الشكل من الخشب، فيما كانت توجد مجلات أخرى، مثبتة أيضا، متدلية من أرفف مستندة إلى الحائط. جلس البروفيسور على أحد الكراسي الوثيرة المكسوة بالجلد، لكنه لم يأخذ صحيفة، بل أخرج كتابا رفيعا من جيبه، وسرعان ما انهمك فيه بشدة حتى صار لا يشعر تماما بمحيطه الغريب. ثم وقعت لمسة خفيفة على كتفه أعادته من كتابه إلى العالم مرة أخرى، رأى وجها صارما لشخص غريب ذي شارب كثيف يحدق فيه من الأعلى.
قال الرجل الغريب: «معذرة يا سيدي، ولكن هل لي أن أسألك إن كنت أحد نزلاء هذا الفندق؟»
خيم طيف طفيف من القلق على وجه البروفيسور وهو يدس الكتاب في جيبه. فقد خالجه شعور غامض حالما دخل الفندق في البداية بأنه يتعدى على ممتلكات الغير، وها قد تأكدت شكوكه في هذه اللحظة.
قال متلعثما: «أنا ... أنا لست نزيلا بالضبط.»
تابع الآخر رامقا البروفيسور بنظرة باردة مدققة: «ماذا تقصد بأنك لست نزيلا بالضبط؟ فأنا أفهم أن الرجل إما أن يكون نزيلا أو لا. فأيهما أنت؟» «أظن، وفق المعنى الحرفي للكلمة، أنني لست نزيلا.» «وفق المعنى الحرفي للكلمة! مزيد من المراوغات. دعني أسألك يا سيدي، بصفتك رجلا شريفا حسبما يبدو عليك، هل تتخيل أن كل هذه الرفاهية، وهذه ... هذه الأناقة، تصان مجانا؟ هل تظن يا سيدي أنها متاحة لأي رجل ذي قدر كاف من الوقاحة ليدخل إلى هنا من الشارع ويستمتع بها؟ هل تحفظ وتصان من أجل أناس ليسوا نزلاء، بالمعنى الحرفي للكلمة؟»
تفاقمت أمارات الشعور بالذنب على وجه البروفيسور التعيس الحظ. لم يكن لديه ما يقوله. فقد أدرك أن سلوكه كان شديد الفجاجة إلى حد لا يسمح له بالدفاع عنه؛ لذا لم يحاول فعل ذلك. وفجأة، استنار محيا مستجوبه بابتسامة، وضرب البروفيسور على كتفه. «عجبا، أيها الرجعي الذي عفا عليه الزمن، لم تتغير قيد أنملة طوال خمسة عشر عاما! أنت لا تقصد التظاهر بأنك لا تعرفني، ألست كذلك؟» «لا يمكن ... لا يمكن أن تكون ريتشارد ييتس؟» «يمكن، بل لا يمكن أن أكون أحدا سواه. أعرف ذلك لأنني حاولت مرارا. عجبا، عجبا! لقد اعتدنا أن ندعوك ستيلي، ألا تتذكر ؟ لن أنسى أبدا تلك المرة التي غنينا فيها «أوفت إن ذا ستيلي نايت»، أمام نافذتك حين كنت تذاكر للامتحانات. دائما ما كنت رجلا هادئا يا ستيلي. كنت في انتظارك النهار كله تقريبا! كنت بالأعلى لتوي مع مجموعة من الأصدقاء حين أحضر الصبي بطاقتك إلي، كان تجمعا خيريا صغيرا، أشبه بترتيب لتحقيق منفعة متبادلة، كما تعلم؛ إذ أسهم كل منا بما استطاع ادخاره في صندوق للأموال العامة ذهب ما به إلى شخص يستحقه من عموم الناس.»
قال البروفيسور بنبرة جافة: «نعم. سمعت الموظف يخبر الصبي بأرجح مكان قد يجدك فيه.»
Bilinmeyen sayfa
صاح ييتس ضاحكا: «أوه، حقا؟ نعم، عادة ما يعرف سام من أين يستدعيني، لكنه ما كان يجب أن يفشي ذلك بهذه العلنية الشديدة اللعينة. فبصفتي صحفيا، أعرف ما يجب أن ينشر وما يجب أن يشطب بالقلم الأزرق ويحذف. عادة ما يكون سام كتوما جدا، ولكن لا شك أنه عرف حالما وقعت عيناه عليك أنك أحد أصدقائي القدامى.»
ضحك ييتس مجددا، وكانت ضحكة مشرقة ومبتهجة جدا من رجل بدا خبيثا للغاية.
قال متأبطا ذراع البروفيسور: «تعال معي. يجب أن نسكنك في غرفة مناسبة.»
خرجا من القاعة نحو البهو، وتوقفا عند منضدة موظف الاستقبال.
صاح ييتس قائلا: «أصغ إلي يا سام، ألا يمكنك أن تجد لنا شيئا أفضل من الطابق الخامس؟ فأنا لم آت إلى بافالو للمشاركة في رياضة ركوب المناطيد. لا أحبذ المكوث في غرف في السماء، إن استطعت تجنب ذلك.»
قال الموظف: «أنا آسف يا ديك، لكني أتوقع أن الطابق الخامس لن يبقى متاحا حين يصل القطار السريع القادم من شيكاجو.» «حسنا، ما الذي تستطيع فعله لنا على أي حال؟» «أستطيع أن أمنحكما الغرفة رقم 518. إنها الغرفة المجاورة لغرفتك. وهما حقا الأكثر راحة بين غرف الفندق في هذا الطقس. إن لها إطلالة رائعة على البحيرة. كنت سأود أنا نفسي رؤية البحيرة لو كان بوسعي مغادرة المكتب.» «حسنا. لكني لم آت لأشاهد البحيرة، ولا قضبان السكك الحديدية الواقعة على ذلك الجانب، ولا نهر بافالو أيضا، برغم جماله ومنظره الشاعري، ولا لأستمع إلى صليل عشرات الآلاف من القاطرات التي تمر في نطاق السمع لإمتاع نزلائكم. الحقيقة أن بافالو أشبه ب... سأقول - من أجل البروفيسور - إنها أشبه بعالم هاديس، من أي مكان آخر في أمريكا، باستثناء شيكاجو دائما.»
قال الموظف بذلك الإحساس بالولاء المحلي الموجود لدى كل الأمريكيين: «أوه، إن بافالو جيدة. قل لي، هل أتيت إلى هنا بشأن تلك المهمة السهلة التي تعتزم حركة فينيان تنفيذها؟»
سأله الصحفي: «ما مهمة فينيان السهلة تلك؟» «أوه! ألا تعرف بأمرها؟ لقد ظننت حالما رأيتك أنك أتيت إلى هنا من أجل تلك المسألة. حسنا، لا تقل إنني أخبرتك، لكني أستطيع أن أدلك على أحد أعلى ذوي النفوذ شأنا إن أردت معرفة التفاصيل. يقولون إنهم سيأخذون كندا. قلت لهم إنني لم أكن لآخذ كندا هدية حتى، فضلا عن خوض قتال من أجلها. لقد كنت هناك.»
أثارت غريزة ييتس الصحفية لديه شعورا بالإثارة حين فكر في الضجة التي قد يحدثها ذاك النبأ. ثم تلاشى البريق رويدا من عينيه حين نظر إلى البروفيسور، الذي كان وجهه قد احمر بعض الشيء وضغط شفتيه وهو يستمع إلى التعليقات المهينة عن بلده.
قال الصحفي أخيرا: «حسنا يا سام، لن تجدني أتجاهل خبرا سوى مرة في العمر، لكن الحقيقة أنني في إجازة حاليا. ربما تكون أول إجازة أحصل عليها تقريبا منذ خمسة عشر عاما؛ لذا يجب أن أكون حريصا عليها كما ترى. دع صحيفة «أرجوس» تخسر السبق الصحفي، إن أرادوا. سيصبحون أكثر تقديرا لخدماتي من ذي قبل حين أعود. أظنك قلت الغرفة رقم 518، أليس كذلك؟»
Bilinmeyen sayfa
ناوله الموظف المفتاح، وأعطى البروفيسور الصبي القطعة المعدنية الخاصة بحقيبته بناء على إشارة من ييتس.
قال ييتس لصبي المصعد: «هيا أسرع. سنقطع المسافة كلها معك.»
وهكذا انطلق الصديقان عاليا معا إلى الطابق الخامس.
الفصل الثاني
كانت غرفة السماء، كما وصفها ييتس، تطل على منظر شاسع جدا بلا شك. ويقع تحتها مباشرة عدد هائل من الأسطح. وعلى مسافة أبعد، توجد مسارات السكك الحديدية التي أبدى ييتس استياءه منها، وصف من الصواري ومداخن مراوح السفن ميز تعرجات مسار نهر بافالو الذي ارتفعت على ضفتيه عدة صوامع قمح شاهقة، كل منها مميزة بحرف ضخم من حروف الأبجدية مرسوم بطلاء أبيض على اللون البني الداكن للمبنى الضخم. وعلى مسافة أبعد ناحية الغرب، كان يوجد منظر أكثر إرضاء وراحة للنفس في يوم حار كهذا. فالبحيرة الزرقاء، التي تناثرت عليها أشرعة بيضاء وأثر دخان يظهر من حين إلى آخر، كانت تتلألأ تحت أشعة الشمس الحامية. وعلى الجانب الآخر من المياه، عبر الضباب الصيفي البعيد، كان بالإمكان رؤية الحد الخافت للساحل الكندي.
صاح ييتس واضعا يديه على كتفي الآخر ودافعا إياه على كرسي بالقرب من النافذة: «اقعد.» ثم أضاف واضعا يده على زر الجرس الكهربائي: «ماذا تود أن تشرب؟»
قال رينمارك: «سآخذ كوبا من الماء، إن كان يمكن الحصول عليه دون عناء.»
أسقط ييتس يده من على زر الجرس الكهربائي إلى جانبه يائسا، ورمق البروفيسور بنظرة توبيخ.
صاح قائلا: «يا رب السماوات! فلتشرب مشروبا خفيفا. لا تتسرع وتشرب ماء بافالو قبل أن تعرف مكوناته التي صنع منها. بل تدرج في المشروبات حتى تصل إليه. جرب كوكتيلا مثلجا أو مخفوق الحليب كبداية.» «شكرا لك، لا أريد. سيكفيني كوب من الماء تماما. اطلب ما تشاء لنفسك.» «شكرا، يمكن الاعتماد علي في ذلك.» وضغط على الزر، وحين ظهر الصبي، قال له: «أحضر كوكتيلا مثلجا، وأضفه على حساب البروفيسور رينمارك، غرفة رقم 518. وأحضر كذلك إبريقا من الماء المثلج على حساب ييتس، غرفة رقم 520.» وأضاف في نشوة فرحة: «أرأيت، سأسجل كل المشروبات على حسابك، باستثناء الماء المثلج. سأدفع الفاتورة، لكني سأحتفظ بإيصالها لأعايرك به مرارا في المستقبل. البروفيسور ستيلسون رينمارك المدين لفندق متروبوليتان جراند بثمن كأس من الكوكتيل المثلج وكأس من شراب الجن وكأس من مزيج من الويسكي، وما إلى ذلك. والآن يا ستيلي، لنتحدث عن العمل. أفترض أنك لست متزوجا، وإلا ما كنت لتستجيب لدعوتي بهذه السرعة.» هز البروفيسور رأسه بالإيجاب. فأضاف ييتس: «ولا أنا أيضا. لم تتوفر لديك الشجاعة قط لعرض الزواج على فتاة، ولم يتوفر لدي الوقت لذلك قط.»
قال رينمارك بهدوء: «دائما ما كنت شديد الزهو بنفسك في الأيام الخوالي يا ريتشارد.»
Bilinmeyen sayfa
ضحك ييتس. «حسنا، لم يعقني ذلك إطلاقا، على حد علمي. والآن، سأخبرك كيف سارت حياتي منذ أن كنا معا في أكاديمية سكراجمور العجوز قبل خمسة عشر عاما. ما أسرع الوقت! حين تركت الأكاديمية، جربت التدريس لشهر واحد قصير. كانت لدي بعض النظريات عن تعليم شبابنا يبدو أنها لم تتناغم مع الآراء الاعتباطية السابقة التي كانت مجالس الأمناء في المدارس تتبناها بالفعل بشأن تلك المسألة.»
اعترى البروفيسور اهتمام تام في الحال. فإذا لمست وتر مهنة أحدهم في حديثك معه، عادة ما يستجيب بإبداء اهتمامه.
سأله: «وما تلك النظريات التي كانت لديك؟». «حسنا، كنت أرى أن المعلم يجب أن يعتني بصحة تلاميذه البدنية كما يعتني بصحتهم العقلية. فلم أكن أقتنع بأن واجبه تجاه رعيته من التلاميذ يقتصر على تعليمهم ما في الكتب فحسب.»
قال البروفيسور بحماس: «أتفق معك تماما.» «شكرا. حسنا، لكن الأمناء لم يتفقوا معي. كنت أشارك الأولاد في ألعابهم، على أمل أن أكون قدوة لها تأثير على سلوكهم في الملعب كما في حجرة الدراسة. لقد أعددنا ملعب كريكيت ممتازا. ربما لا تتذكر أن أدائي في الكريكيت حين كنا في الأكاديمية كان أفضل بعض الشيء من أدائي في الرياضيات أو اللغويات. وعن طريق تعويق تقدمي بضم العديد من اللاعبين السيئين إلى فريقي، وضم أفضل اللاعبين بين الصبية إلى الفريق الخصم، شكلنا فريقين متكافئين تماما في قطعة الأرض رقم 12 ذات العوائد المخصصة للمدارس. وفي ظهيرة أحد الأيام، بدأنا مباراة. كانت أرضية الملعب ممتازة، وكان صبية الفريق الخصم في أعلى مستوياته. وكان فريقي في أسوأ حالاته. كنت منهمكا جدا، وحين دقت الساعة الواحدة، رأيت أنه من المؤسف أن آمر الأولاد بالعودة إلى المدرسة وأفسد مباراة رائعة وشائقة جدا. كان الأولاد كلهم مجمعين على الرأي نفسه. وكانت الفتيات سعيدات بالتنزه تحت الأشجار. لذا لعبنا الكريكيت طوال فترة ما بعد الظهر.»
قال البروفيسور بارتياب: «أرى أن ذلك كان مبالغة بعض الشيء في تطبيق نظريتك.» «وهذا بالضبط كان رأي الأمناء حين سمعوا بما فعلته. لذا فصلوني، وأظن أن رحيلي كان الحالة الوحيدة المسجلة التي بكى فيها تلاميذ رحيل مدرسهم بصدق. نفضت غبار كندا عن قدمي، ولم أندم على ذلك قط. وطئت أرض بافالو، وواصلت نفض الغبار عن قدمي في كل خطوة. (مرحى! ها هي مشروباتك قد جاءت أخيرا، يا ستيلي. لقد نسيتها، وهذا ليس من عادتي. حسنا يا فتى، أضفها إلى حساب الغرفة رقم 518. آه! هذا بالضبط ما يريده المرء في يوم حار.) حسنا، أين وصلت في حديثي؟ آه نعم، عند بافالو. شغلت وظيفة في إحدى الصحف هنا، بأجر كان يكفي بالكاد للبقاء حيا، لكني أحببت العمل. ثم انتقلت إلى مدينة روشستر حيث عملت براتب أكبر، ثم إلى ألباني براتب أكبر وأكبر، وبالطبع تقع ألباني على بعد بضع ساعات فقط من نيويورك، حيث يحط كل الصحفيين رحالهم في نهاية المطاف، إذا أثبتوا براعتهم وكفاءتهم. رأيت جزءا صغيرا من الحرب أثناء عملي مراسلا خاصا، وأصبت، وأودعت في المشفى مع العديد من المصابين. ومنذ ذلك الحين، ومع أنني مجرد مراسل، أتربع على مشارف قمة هرم تلك المهنة، وأجني ما يكفي من الأموال لسداد ديوني في لعبة البوكر وشراء المشروبات المثلجة لتهدئة وطأة احتدام اللعبة. وحين تشهد البلاد أي حدث مهم في أي مكان فيها، أكون هناك مع زملاء آخرين لتأدية هذا العمل الشاق؛ إذ أكتب الأوصاف التصويرية الخلابة وأحاور ذوي النفوذ. تنتقل مقالاتي ساخنة وطازجة عبر أسلاك البرق، ولم تعد أظرفي تعرف الطابع البريدي المتواضع. أعرف كل موظف استقبال فندقي، وهذا يضاهي معرفة أي شيء يحدث من نيويورك إلى سان فرانسيسكو. لو كان بإمكاني ادخار المال، لأصبحت غنيا؛ لأنني أجني الكثير، لكن الفتحة الموجودة في أعلى جيب سروالي أفقدتني الكثير من النقود، ولا يبدو أنني قادر على رتقها. والآن، لقد استمعت إلى حديثي بصبرك المعتاد كي تمنح زهوي بنفسي، على حد وصفك، حريته الكاملة. أنا ممتن لك. وسأرد لك الصنيع. ماذا عنك؟»
تحدث البروفيسور ببطء. بدأ حديثه قائلا: «لم أخض مسيرة مهنية مفعمة بالمغامرة والإثارة كهذه. لم أنفض الغبار الكندي عن قدمي، ولم أحقق أي نجاح كبير. بل تهاديت بخطى بطيئة وكدحت، ولست مهددا بأن أصير ثريا، مع أنني أظن أنني أنفق قليلا كأي رجل. بعد طردك ... أقصد رحيلك عن الأكا...» «لا تشوه اللغة الإنجليزية القديمة الفصحى يا ستيلي. كنت محقا في عبارتك الأولى. فأنا لست حساسا. كنت تقول بعد طردي. أكمل.» «ظننت أنه ربما يكون موضوعا مؤلما. فكما تتذكر، كنت ساخطا للغاية آنذاك، و...» «بالطبع كنت ساخطا، وما زلت. فما حدث كان ظلما شنيعا!» «ظننت أنهم أثبتوا أنك ساعدت في وضع المهر في غرفة المدير.» «أوه بالطبع. هذا ما حدث بالتأكيد. لكن ما أثار استيائي هو تعامل المدير مع الأمر. لقد سمح لهذا الوغد سبينك بقلب الأدلة علينا، وقال سبينك بأنني الذي ابتدعت تلك الحيلة، في حين أن ذلك شرف لا أدعيه. لقد كانت تلك فكرة سبينك، وتقبلتها وشاركت فيها، كما كنت أفعل مع أي مقترح شائن وضيع. وبالطبع صدق المدير فورا أنني المجرم الرئيسي. هل تعرف إن كان سبينك قد أعدم أم لم يعدم حتى الآن؟» «أعتقد أنه رجل أعمال ذو سمعة طيبة جدا في مونتريال ويحظى باحترام كبير.» «ربما كان علي أن أخمن ذلك. حسنا، فلتواصل مراقبة أحوال سبينك المحترم. وإذا لم يفشل يوما ما، ولم يجن أموالا طائلة، فأنا لا أفقه شيئا. ولكن أكمل كلامك. فهذا انحراف عن الموضوع. بالمناسبة، اضغط ذاك الزر الكهربائي. فأنت الأقرب إليه، والجو شديد الحرارة إلى حد يجعل المرء لا يطيق التحرك. شكرا. بعد طردي ...» «بعد رحيلك، حصلت على دبلوم. ودرست لأحد الصفوف الدراسية في الأكاديمية عاما أو اثنين. وبعدئذ، بينما كنت أدرس في أوقات فراغي، حصلت على فرصة للعمل مدرسا في إحدى مدارس اللغويات بالقرب من تورنتو، وكان العامل الرئيسي وراء تلك الفرصة هو توصية من سيادة المدير سكراجمور، حسبما أظن. حصلت على شهادتي بحلول ذلك الوقت. بعد ذلك ...»
سمعا طرقة خفيفة على الباب.
صاح ييتس قائلا: «ادخل! أوه، هذا أنت. أحضر كأسا أخرى من الكوكتيل المثلج المنعش، أتستطيع ذلك؟ وأضفها، كالمشروبات السابقة، إلى حساب البروفيسور رينمارك، الغرفة رقم 518. حسنا، بعد ذلك ...» «بعد ذلك جاء افتتاح كلية يونيفرستي كوليدج في تورنتو. وحالفني الحظ بتعييني فيها. ما زلت هناك، وأظن أنني سأبقى هناك. لا أعرف سوى قلة قليلة من الناس، وآلف الكتب أكثر مما آلف البشر. ومعظم أولئك الذين تشرفت بمعرفتهم أشخاص شديدو الولع بالتعلم والدراسة إما تركوا بصمتهم، أو سيتركونها، في عالم التعلم. لم أحظ مثلك بلقاء قادة سياسيين حكوميين يقودون مصائر إمبراطورية عظيمة.» «كلا؛ دائما ما كنت محظوظا يا ستيلي. من واقع خبرتي، فالرجال الذين يقودون دفة الحكم أكثر انشغالا بجيوبهم، أو تقدمهم السياسي، من المصائر. ومع ذلك، يبدو أن الإمبراطورية تأخذ مجراها غربا. إذن، فقد كان سكراجمور العجوز صديقك، أليس كذلك؟» «بلى، بالفعل.» «حسنا، لقد أهانني منذ بضعة أيام فقط.» «يا للعجب! لا أستطيع أن أتخيل رجلا على قدر كبير من التأدب والثقافة الأكاديمية كسيادة المدير سكراجمور قد يهين أي شخص.» «أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا. ما حدث كالآتي: أردت معرفة مكانك لأسباب سأذكرها لاحقا. ظللت أعتصر دماغي، ثم خطر ببالي سكراج العجوز. فكتبت إليه رسالة وأرسلتها في مظروف مدموغ بطابع بريدي ومعنون، كما ينبغي أن يفعل كل من يبادرون بإرسال رسائل من تلقاء أنفسهم. وقد رد علي رسالتي. لكن رده بحوزتي هنا في مكان ما. يجب أن تقرأه بنفسك.»
أخرج ييتس من جيبه الداخلي حزمة من الرسائل، وقلبها بإصبعه سريعا، معلقا عليها بصوت خافت في تلك الأثناء: «أظن أني رددت على تلك. ولكن لا يهم. يا إلهي! ألم أدفع تلك الفاتورة حتى الآن؟ لقد انتهت صلاحية جواز المرور ذلك. يجب أن أحصل على واحد آخر.» ثم ابتسم وتنهد وهو ينظر إلى رسالة مكتوبة بخط يدوي منمق، ولكن بدا واضحا أنه لم يعثر على الورقة التي كان يبحث عنها. «أوه، حسنا، لا بأس. إنها لدي في مكان ما. لقد أعاد إلي المظروف الذي دفعت تكلفة إرساله مقدما، وذكرني بأن طوابع الولايات المتحدة لا تصلح للاستخدام في كندا، وهذا ما كان ينبغي أن أتذكره بالطبع. لكنه لم يدفع ثمن الطوابع الموضوعة على رسالته؛ لذا اضطررت إلى دفع تكلفة مضاعفة. ومع ذلك، فلا أمانع في قبول هذا التصرف إلا باعتباره مؤشرا على خسته. ثم أضاف قائلا إن من بين جميع أفراد دفعتنا، كنت أنت ... أنت! ... الوحيد الذي جعلها مدعاة للفخر. كانت هذه هي الإهانة. فكرة أن يصدر عنه عبارة كتلك بعدما أخبرته بأنني أعمل لدى صحيفة «نيويورك أرجوس»! أظن ذلك مدعاة للفخر للدفعة حقا! أتساءل عما إذا كان قد سمع أي شيء عن براون بعد طرده. من المؤكد أنك تعرف. لا؟ حسنا، لقد صار براون، بمجهوده الشخصي، رئيسا لبنك «ألوم بنك» في نيويورك، ثم خربه وغادر إلى كندا وبحوزته مبلغ صاف قدره نصف مليون. نعم يا سيدي. لقد رأيته في كيبيك منذ أقل من ستة أشهر. لديه أرقى حصانين وعربة في المدينة، ويعيش في قصر. يستطيع أن يشتري ألف رجل مثل سكراجمور العجوز دون أن يؤثر ذلك في أمواله أبدا. إنه أكثر المتبرعين لقضية التعليم سخاء في كندا. يقول إن التعليم هو الذي صنعه، وإنه ليس الرجل الذي يخذل التعليم حين يحتاج إليه. ومع ذلك، يأتي سكراجمور بكل وقاحة ويقول إنك الرجل الوحيد في الدفعة الذي يجعلها مدعاة للفخر!»
ابتسم البروفيسور بهدوء، بينما ارتشف الصحفي المنفعل رشفة مهدئة من الكوكتيل المثلج. «أصغ إلي يا ييتس، آراء الأشخاص تختلف. قد لا يكون رجل مثل براون مثاليا من وجهة نظر سيادة المدير سكراجمور. ربما يتبنى المدير معايير محدودة منغلقة للنموذج المثالي للرجل الناجح، أو الشخص الذي يجعل تدريسه مدعاة للفخر.» «محدودة؟ إنها كذلك بكل تأكيد. أراها محدودة إلى حد لعين يجاوز المدى. سيكون مفيدا لذلك الرجل أن يعيش في نيويورك عاما. لكني سأرد الإهانة له. سأكتب عنه مقالة. سأخصص له عمودا ونصفا، وسترى بنفسك. سأحصل على صورته وأنشر رسمة لوجهه في الصحيفة. ولو لم يجعله ذلك يرتعد خوفا، فهو إذن مخلوق عديم الحس. قل لي، أليس معك صورة لسكراج العجوز تستطيع أن تقرضني إياها؟» «معي، لكني لن أقرضها لك لهذا الغرض. على أي حال، لا تشغل بالك بالمدير. أخبرني بخططك. أنا تحت أمرك لأسبوعين، أو أكثر إذا اقتضت الحاجة.» «ولد مطيع! حسنا، سأخبرك بحقيقة الأمر. أريد الراحة والهدوء والاستجمام في الغابة، أسبوعا أو اثنين. هكذا أخذت الإجازة: كنت أعمل بجد على قدم وساق بلا انقطاع، باستثناء مدة قصيرة قضيتها في المستشفى، وهذه لا تعد إجازة بمعنى الكلمة، كما ستوافقني الرأي في ذلك. فالعمل يثير اهتمامي، ودائما ما أكون في معتركه. هكذا تسير الأمور الآن في مجال العمل الصحفي: رئيسك لن يقترح عليك أبدا أن تأخذ إجازة. فعادة ما يكون لديه نقص في الموظفين وكم هائل من المهام التي يجب إنجازها؛ لذا إن لم تلح عليه ليمنحك إجازة، فلن يكترث بذلك إطلاقا. بل دائما ما يكون قانعا بترك الوضع على حاله. ثم دائما ما يكون معك في العمل شخص يريد إجازة لمسألة ملحة، كجنازة جدته وأشياء من هذا القبيل؛ لذا إن رضي أحد الزملاء بالعمل دائما بلا انقطاع، فسيرضى رئيسه تماما بتركه على هذه الحال. هكذا سارت الأمور معي العمل طوال سنوات. منذ بضعة أسابيع، ذهبت إلى واشنطن لإجراء حوار صحفي مع أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن الآفاق السياسية. بإمكاني أن أخبرك يا ستيلي، دون تفاخر، أن هناك بعض الأشخاص المهمين في الولايات المتحدة لا يستطيع أحد سواي إجراء حوار صحفي معهم. ومع ذلك، يقول سكراج العجوز إنني لست مصدر فخر لدفعته! عجبا، لقد أرسلت توقعاتي السياسية تلغرافيا إلى جميع أنحاء البلاد في العام الماضي، وتظهر في الصحافة الأوروبية منذ ذلك الحين. أليس هذا مدعاة للفخر! برب السماء، لكم أود أن أواجه سكراج العجوز في حلبة ملاكمة مرتديا قفازين رقيقين لنحو عشر دقائق!» «لا أظن أنه سيؤدي أداء رائعا في ظروف كهذه. ولكن دعك منه. لقد تحدث، في تلك المرة فقط، دون ترو، وربما طغت عليه ذكريات مبالغ فيها لتصرفاتك المزعجة أيام الدراسة. ماذا حدث حين ذهبت إلى واشنطن؟» «حدث شيء غريب. حين أذن لي بدخول مكتبة عضو مجلس الشيوخ، رأيت رجلا آخر، ظننت أني أعرفه، جالسا هناك. قلت للسيناتور: «سآتي حين تكون وحدك.» فرفع السيناتور ناظريه نحوي متفاجئا، وقال: «أنا وحدي بالفعل.» لم أقل شيئا، لكني مضيت في حواري معه، وكان الرجل الآخر يدون ملاحظات طوال الوقت. لم يعجبني ذلك، لكني لم أقل شيئا؛ لأن السيناتور ليس بالرجل الذي يمكن إغضابه، كما أن عدم إغضاب هؤلاء الرجال هو ما يمكنني من الحصول على المعلومات التي أحصل عليها. حسنا، خرج الرجل الآخر معي، وحين نظرت إليه، رأيت أنه أنا. لم أر ذلك غريبا آنذاك، لكني ظللت أجادل معه طوال الطريق إلى نيويورك، وحاولت أن أبين له أنه لا يعاملني بإنصاف. كتبت نص الحوار، مع تدخل من ذلك الرجل الآخر طوال الوقت؛ لذا تنازلت وكتبت نصف الموضوع باقتراحاته، والنصف الآخر بما أردته أنا. وحين تفحص المحرر السياسي الموضوع، بدا منزعجا. أخبرته بصراحة بما واجهته من تدخل في كتابته، لكنه مع ذلك ظل منزعجا بعدما أنهيت كلامي. وفي الحال أرسل في استدعاء طبيب. تفحص الطبيب كل جزء مني، ثم قال لرئيسي: «كل ما في الأمر أن هذا الرجل قد أثقل للغاية بالعمل. يجب أن يحصل على إجازة، وإجازة حقيقية، لا ينشغل فيها بأي شيء إطلاقا، وإلا سينهار، وسيحدث ذلك بغتة على نحو سيفاجئ الجميع.» ما أدهشني أن الرئيس قد وافق دون تذمر، بل ووبخني على أنني لم آخذ إجازة قبل ذلك. ثم قال لي الطبيب: «فلتحظ في إجازتك برفيق، وليكن رجلا بلا عقل، إن أمكن، لن يناقش السياسة، وليس له رأي في أي شيء قد يهتم أي رجل عاقل بالحديث عنه، ولا يستطيع أن يقول أي شيء ذكي حتى لو ظل عاما كاملا يحاول فعل ذلك. فلتحظ برجل كهذا وتذهب معه إلى الغابة في مكان ما. شمالا في ولاية مين أو في كندا. بعيدا قدر المستطاع عن مكاتب البريد ومكاتب التلغراف. وبالمناسبة، لا تترك عنوانك في مكتب صحيفة «أرجوس».» وهكذا تصادف أن خطرت ببالي فورا يا ستيلي، حين وصف الطبيب ذاك الرجل بمثل هذا التصوير المفصل.»
Bilinmeyen sayfa
قال البروفيسور بشبح ابتسامة لاحت على وجهه: «لا شك أني في غاية السعادة لأنك تذكرتني فورا من أجل مسألة كهذه، وإذا كان بوسعي خدمتك، فسأسعد بذلك جدا. أفترض إذن أنك لا تعتزم المكوث في بافالو؟» «لا أعتزم ذلك بكل تأكيد. بل سأتوجه إلى الغابة البدائية، حيث أشجار الصنوبر والشوكران ذات الحفيف، الملتحية من أسفلها باللونين الطحلبي والأخضر في ال... نسيت بقية القصيدة. أريد أن أتوقف عن الاستلقاء على ورق الصحف، وأستلقي على ظهري على المروج أو في حضن أرجوحة شبكية. سأتجنب كل الأنزال أو المنتجعات الصيفية المبهجة، وأستمتع بهدوء الغابة.» «لا بد أن ثمة بعض الأماكن الجميلة على شاطئ البحيرة.» «لا يا سيدي. لا أريد شاطئ بحيرة. سيذكرني بقضبان السكك الحديدية في ليك شور حين كان هادئا، وبشاطئ لونج برانش حين كان وعرا. لا يا سيدي، الغابة ثم الغابة ولا شيء سواها. لقد استأجرت خيمة والعديد من أدوات الطهي. سآخذ تلك الخيمة إلى كندا غدا، وبعد ذلك أقترح أن نستأجر رجلا ذا عربة بحصانين لينقلها إلى مكان ما في الغابة، على بعد خمسة عشر أو عشرين ميلا. يجب أن نكون على مقربة من بيت ريفي، كي نستطيع الحصول على منتجات طازجة من زبد وحليب وبيض. صحيح أن هذا سوف يعكر صفو الإجازة بالطبع، لكني سأحاول الاقتراب من شخص لم يسمع قط عن نيويورك.» «قد تواجه بعض الصعوبة في تحقيق ذلك.» «لا أعرف. أعلق آمالا كبيرة على قلة الذكاء لدى الكنديين.»
قال البروفيسور ببطء: «غالبا ما يكون أضيق الناس أفقا وثقافة هم أولئك الذين يظنون أنفسهم الأكثر إلماما بالثقافات المختلفة.»
صاح ييتس، بعدما قلب ذلك التعليق في ذهنه قليلا ورأى أن لا شيء فيه ينطبق عليه، قائلا: «أنت محق. حسنا، لقد خزنت حوالي نصف طن من التبغ، واشتريت جرة فارغة.» «فارغة؟» «نعم. فمن بين الأشياء القليلة التي تستحق الاقتناء لدى الكنديين الويسكي الفاخر. وإلى جانب ذلك، فالجرة الفارغة ستوفر علينا العناء في الجمارك. لا أظن أن ويسكي الجاودار المقطر الكندي سيكون جيدا كنظيره في كنتاكي، لكننا سنضطر، نحن الاثنان، أن نتعايش معه لبعض الوقت. وبمناسبة الحديث عن الويسكي، فلتضغط الزر مرة أخرى.»
ضغط البروفيسور على الزر قائلا: «أعتقد أن الطبيب لم يذكر أي تعليق عن الإقلال من شرب الخمر أو التدخين، أليس كذلك؟» «في حالتي؟ حسنا، تذكرت الآن أننا تحاورنا بشأن هذا الموضوع. لا أتذكر حاليا ما أسفر عنه حوارنا في النهاية، لكن الأطباء كلهم لديهم بدعهم التافهة كما تعرف. ليس من المستحسن أن تجاريهم أكثر مما ينبغي. أيها الصبي، ها أنت ذا مجددا. حسنا، البروفيسور يريد شرابا آخر. فلتحضر شراب جن فوارا هذه المرة، وضع الكثير من الثلج، ولكن لا تغفل عن إضافة الجن إلى الحساب. بكل تأكيد، أضفه إلى حساب الغرفة رقم 518.»
الفصل الثالث
سأل ضابط الجمارك القوي البنيان ذو الوجه المحمر بعض الشيء عند المعبر الحدودي في مدينة فورت إيري: «ما كل هذه المعدات؟»
قال ييتس: «هذه خيمة، مع أعمدة وأوتاد تخص الشيء المذكور سلفا. وهذا عدد من عبوات التبغ، التي سأضطر بالتأكيد إلى دفع رسوم عليها إلى خزانة جلالة الملكة. وتلك جرة لحمل السوائل. وأستأذنك أن ألفت انتباهك إلى حقيقة أنها فارغة حاليا، ما يمنعني مع الأسف من سكب بعض الخمر قربانا للصحبة الكريمة. أما بخصوص ما يحمله صديقي في هذه الحقيبة، فلا أعرف، لكني أشك أنها بعض معدات لعب القمار، وأنصحك بتفتيشه.»
قال البروفيسور فاتحا قبضته: «معظم محتويات حقيبتي كتب وبعض الملابس.»
نظر ضابط الجمارك بارتياب إلى مجموعة المعدات كلها، وكان واضحا أنه لم يستحسن لهجة الأمريكي. فقد بدا أنه يعامل إدارة الجمارك باستخفاف ولا مبالاة، وكان الضابط شديد التقديس لكرامة منصبه إلى حد أعجزه عن كبح استيائه من التهكم عليه. وفوق ذلك، كانت ثمة شائعات عن غزو فينياني وشيك، وقرر الضابط أنه ينبغي ألا يدخل أي فينياني البلاد دون أن يدفع الرسوم الجمركية. «إلى أين أنت ذاهب بهذه الخيمة؟» «أنا واثق من أنني لا أعرف. ربما تستطيع أنت أن تخبرنا. لا أعرف البلد هنا. أصغ إلي يا ستيلي، أنا ذاهب إلى الجزء الشمالي من البلدة لأتدبر أمر فراغ تلك الجرة الحجرية. فأنا نفسي أكون فارغا في كثير من الأحيان إلى حد يجعلني أتعاطف مع حالتها. ولتنخرط أنت في مناقشة مسألة الخيمة. فأنت تعرف طرائق أهل هذا البلد، بينما أنا لا أعرفها.»
وربما أحسن ييتس صنعا بأن ترك زمام التفاوض في يد صديقه. فقد كان سريع البديهة كفاية ليرى أنه لم يحرز تقدما في تفاوضه مع الضابط، بل العكس تماما. فوضع الجرة على كتفه في تباه واستعراض ما تسبب في إزعاج واضح للبروفيسور، وسار إلى أعلى التلة صوب أقرب حانة، مصفرا لحنا حربيا راج مؤخرا.
Bilinmeyen sayfa
قال للنادل وهو يضع الجرة برفق على منضدة الحانة: «أنت، املأ هذه حتى فوهتها بأفخر ما لديك من ويسكي الجاودار. املأها بعصير الحياة كما قال الشاعر الراحل عمر الخيام.»
فعل النادل ما طلبه منه. «هل تستطيع أن تموه القليل من ذاك السائل بأي طريقة، كي يتسنى شربه دون أن يشك شخص في ماهية ما يتجرعه؟»
ابتسم النادل قائلا: «إلى أي مدى قد يلبي مزجه مع مشروبات أخرى ذلك الغرض؟»
أجاب ييتس قائلا: «لا أستطيع اقتراح شيء أفضل من ذلك. إن كنت واثقا من أنك تعرف كيفية صنعه.»
لم يمتعض الرجل من هذا الاتهام بالجهل. واكتفى بالرد بنبرة شخص ينطق بإجابة لا تقبل الجدل، قائلا: «أنا من كنتاكي.»
صاح ييتس باقتضاب بينما يمد يده عبر المنضدة: «فلتصافحني! ماذا جاء بك إلى هنا؟» «حسنا، وقعت في مأزق صغير في لويسفيل، وها أنا هنا، حيث أستطيع على الأقل أن أنظر إلى بلد الرب المختار.»
احتج ييتس قائلا: «مهلا! أنت تعد قدحا واحدا فقط من المزيج .»
أجاب الرجل وقد توقف عن تركيب الشراب: «ألم تقل واحدا؟» «فليباركك الرب، لم أر في حياتي أحدا يعد قدحا واحدا من الكوكتيل. وأظنك تتفق معي في هذا.»
رد الآخر وهو يعد ما يكفي لشخصين: «أتفق معك تماما.»
أسر ييتس إلى الآخر قائلا: «الآن سأخبرك بمأزقي. لدي خيمة وبعض معدات التخييم بالأسفل هنا في كوخ الجمارك، وأريد نقلها إلى الغابة، حيث أستطيع التخييم برفقة صديق. أريد مكانا نستطيع أن نحظى فيه براحة مطلقة وهدوء تام. هل تعرف شعاب البلد هنا؟ ربما تستطيع أن ترشح لنا مكانا مناسبا.» «حسنا، طوال الوقت الذي أمضيته هنا، لم أعرف سوى أقل القليل عن المناطق النائية من البلاد. لقد سرت على الطريق المؤدي إلى شلالات نياجرا، لكني لم أتوغل في أعماق الغابة قط. أظنك تريد مكانا بجوار البحيرة أو النهر؟» «كلا، لا أريد. بل أريد أن أتوغل في أعماق الغابة، إن كانت توجد غابة.» «حسنا، يوجد اليوم رجل هنا أتى من مكان ما بالقرب من ريدجواي، على ما أظن. معه عربة خشبية شبكية لحمل التبن، وتلك بالضبط هي ما تحتاج إليه لحمل خيمتك وأعمدتك. صحيح أنها لن تمنحكما رحلة مريحة للغاية على متنها، لكنها ستكون مناسبة تماما لحمل الخيمة، إذا كانت كبيرة.» «ستناسبنا تماما. لا نكترث إطلاقا بالراحة. بل أتينا من أجل المشقة. أين سأجد ذلك الرجل؟» «سيكون هنا قريبا. ها هما حصاناه مربوطان هناك عند الشارع الجانبي. إذا تصادف أنه في مزاج جيد، فسينقل أغراضك، بل ومن المرجح أن يمنحك مكانا لتخيم فيه في الغابة القريبة من بيته. اسمه هيرام بارتليت. وها هو ذا، كأننا كنا نتحدث عن الشيطان نفسه. أيا سيد بارتليت، كان هذا السيد يتساءل عما إذا كان بوسعك أن تحمل بعض أغراضه. إنه ذاهب في طريقك.»
Bilinmeyen sayfa
كان بارتليت نموذجا فظا نحيلا صلب العضلات بعض الشيء للمزارع الكندي الذي بدا واضحا أنه لم يكن يعير مسألة الملبس اهتماما كبيرا. لم يقل شيئا، لكنه نظر إلى ييتس باكفهرار واستخفاف، ونظرات تحمل قدرا من الازدراء والريبة.
كان ييتس يملك وصفة واحدة لإقامة تعارف مع البشر كلهم. قال بابتهاج: «تعال يا سيد بارتليت وجرب مزيجا من هذين المزيجين الممتازين اللذين أعدهما صديقي.»
صاح بارتليت مزمجرا بفظاظة، مع أنه دخل الحانة بالفعل عبر بابها الذي كان مفتوحا: «أشرب الويسكي صافيا. لا أريد إضافات أمريكية في شرابي. الويسكي العادي جيد كفاية لأي رجل، إن كان رجلا حقا. ولا أشربه ممزوجا بالماء أيضا. لدي ما يكفي من المشكلات.»
غمز النادل بعينه لييتس بينما كان يدفع إناء الويسكي نحو الوافد الجديد.
فصدق ييتس على كلامه بحرارة قائلا: «أنت محق.»
لم يذب جمود المزارع قيد أنملة بذلك التصديق السريع على كلامه، لكنه ارتشف من كأسه متجهما، كأنه يحوي دواء كريها للغاية.
ثم قال أخيرا: «ما الذي أردت مني نقله؟». «صديق وخيمة، وجرة من الويسكي، والكثير من التبغ الفاخر للغاية.» «كم ستدفع؟» «أوه، لا أعرف. أنا مستعد دائما لفعل الصواب. ما رأيك في خمسة دولارات؟»
عبس المزارع وهز رأسه.
قال بينما كان ييتس على وشك أن يعرض المزيد: «هذا أكثر من اللازم. لا يستحق الأمر كل هذا. قد يكون دولاران ونصف هو السعر المناسب. لا أعرف، لكن هذا أكثر من اللازم. سأفكر في ذلك أثناء عودتي إلى المنزل، وسآخذ منك الثمن المستحق. سأكون جاهزا للمغادرة في غضون ساعة تقريبا، إن كان ذلك يناسبك. ها هما حصاناي على الجانب الآخر من الطريق. إذا وجدتهما قد رحلا حين تعود، فهذا يعني أني أيضا قد رحلت، وسيتعين عليك الاستعانة بشخص آخر.»
ثم سحب بارتليت كم معطفه على فمه وغادر.
Bilinmeyen sayfa
قال النادل: «هذا هو بالضبط. إنه أشرس شخص نزق في البلدة. أصغ إلي، دعني أسدي إليك نصيحة بسيطة. إذ طرح موضوع عام 1812 - أي الحرب كما تعلم - فمن الأفضل أن تقر بأننا هزمنا هزيمة نكراء؛ هذا إن كنت تريد الانسجام مع هيرام. فهو يكره الأمريكيين كراهية السم.»
سأله ييتس الذي كان أدرى بالموضوعات الحالية من تاريخ الماضي: «وهل هزمنا هزيمة نكراء في عام 1812؟». «لا أعرف. هيرام يقول ذلك. أخبرته ذات مرة بأننا أخذنا ما أردناه من إنجلترا القديمة، فكاد يجرجرني نحوه من فوق منضدة الحانة. لذا أعطيك هذا التحذير، إن أردت الانسجام معه.» «شكرا لك. سأتذكر ذلك. إلى اللقاء.»
تعطي هذه الملاحظة الودودة التي ذكرها نادل الحانة مفتاحا لحل لغز نجاح ييتس في العمل الصحفي في نيويورك. فقد كان يستطيع معرفة الأخبار حين لا يقدر أي رجل آخر على ذلك. وبقدر ما كان صفيقا وسطحيا بلا شك، لكنه كان يستطيع بطريقة ما أن يدخل أعماق كل صنوف الرجال وينال ثقتهم بطريقة جعلتهم يعطونه معلومات عن أي شيء يحدث لمجرد أنهم يحبونه، وهكذا كثيرا ما نال ييتس مساعدة قيمة من معارفه لم يستطع المراسلون الآخرون نيلها بالمال.
وجد النيويوركي صديقه البروفيسور جالسا على دكة بجوار إدارة الجمارك، يتسامر مع الضابط ويحدق إلى النهر الأزرق العريض السريع الجريان أمامهما.
قال ييتس: «لدي رجل، سيأخذنا إلى البرية في غضون ساعة تقريبا. أعتقد أننا سنستكشف البلدة. لا أظن أن أحدا سيهرب بالخيمة ريثما نعود.»
قال الضابط: «سأتولى ذلك الأمر.» فشكره الصديقان وراحا يتمشيان بخطوات متمهلة في الشارع. تأخرا قليلا في العودة، وحين وصلا إلى الحانة، وجدا بارتليت على وشك العودة بالعربة إلى بيته. وافق بفظاظة على أخذهما في طريقه، شريطة ألا يؤخراه أكثر من خمس دقائق في تحميل العربة بمعداتهما. وضعت الخيمة ومتعلقاتها بسرعة على عربة التبن، ثم قاد بارتليت العربة إلى الحانة وانتظر دون أن يقول شيئا، مع أنه كان متعجلا قبل بضع لحظات. لم يرغب ييتس في سؤاله عن سبب الانتظار؛ لذا جلس الثلاثة هناك في صمت تام. وبعد بعض الوقت، سأله ييتس بكل ما لديه من لطف: «هل تنتظر أحدا يا سيد بارتليت؟»
أجاب السائق بنبرة فظة غليظة: «نعم، أنتظر أن تدخل وتحضر هذه الجرة. فلا أظن أنك ملأتها لتتركها على منضدة الحانة.»
صاح ييتس وهو يهب واقفا: «يا إلهي! لقد نسيتها تماما، ما يبين التأثير الاستثنائي الذي تركه هذا البلد علي بالفعل.» عبس البروفيسور، لكن ييتس خرج من الحانة مبتهجا وهو حاملا الجرة في يده، وانطلق بارتليت بحصانيه. خرجوا من القرية وصعدوا تلة منخفضة، سائرين حوالي ميل أو اثنين عبر طريق مستقيم رملي بعض الشيء. ثم انعطفوا إلى طريق ريدج رود، كما أسماه بارتليت ردا على سؤال من البروفيسور، ولم يكن ثمة داع إلى السؤال عن سبب تسميته بذاك الاسم. فقد كان طريقا رئيسيا جيدا، لكنه كان صخريا بعض الشيء، حتى إن بعض أجزاء سطحه كانت صخرية تماما. لم يكن الطريق يعترف إطلاقا بتعريف إقليدس للخط المستقيم، وكان ذلك تغييرا مستحسنا بعض الشيء عن الطرق الأمريكية العادية. أحيانا كانوا يمرون عبر طرق محاطة بأشجار كثيفة الغصون كان من الواضح أنها آثار باقية من الغابة التي كانت تغطي المنطقة كلها في الماضي. وكان الطريق ممتدا على طول قمة سلسلة التلال الصخرية الناتئة، وكثيرا ما يرون على كلا جانبيه مناظر شاسعة خلابة لمناطق ريفية منخفضة. وعلى طول الطريق، كانت تقع بيوت ريفية مريحة، وبدا جليا أن مجتمعا مزدهرا قد تنامى على طول التلال.
لم يتكلم بارتليت سوى مرة واحدة، وكان حديثه موجها للبروفيسور الذي كان جالسا بجواره. «أأنت كندي؟» «نعم.» «ومن أين هو؟»
أجاب البروفيسور البريء قائلا: «صديقي من نيويورك.»
Bilinmeyen sayfa
نخر بارتليت بعبوس أشد من أي وقت مضى، قائلا: «أف!» ثم عاد إلى صمته مجددا. لم يكن الحصانان يسيران بسرعة كبيرة، مع أن الحمولة لم تكن ثقيلة والطريق لم يكن مزدحما. كان بارتليت يتمتم لنفسه كثيرا، وبين الحين والآخر يهوي بسوطه بوحشية على أحد الحصانين أو الآخر، ولكن حالما كان الحيوانان التعيسان يسرعان من وتيرتيهما، كان يشد لجامهما إلى الوراء بقسوة. ومع ذلك، كانوا يسيرون بسرعة كافية ليتجاوزوا شابة كانت تمشي وحدها. ومع أنها سمعتهم بالتأكيد وهم يقتربون منها على الطريق الصخري، لم تلتفت، بل كانت تسير بخطى طليقة وثابة يخطوها امرؤ ليس معتادا السير فحسب، بل يحبه أيضا. لم يكترث بارتليت بالفتاة، فيما كان البروفيسور يحاول جاهدا أن يقرأ كتابه الرقيق بمشقة كبيرة كتلك التي قد يواجهها أي رجل يحاول القراءة وهو يتعرض لهزات قوية متكررة، لكن ييتس، حالما أدرك أن تلك السائرة كانت شابة صغيرة، رفع ياقته وعدل رابطة عنقه بعناية، وجعل قبعته في وضعية أكثر أناقة وجاذبية بعض الشيء.
قال لبارتليت: «ألن تعرض على الفتاة توصيلها؟» «نعم، لن أعرض.»
فأضاف ييتس ناسيا التحذير الذي تلقاه من النادل: «أظن ذلك تصرفا غير مهذب بعض الشيء.» «أتظن ذلك حقا، هاه؟ حسنا، فلتعرض عليها أنت توصيلها. فأنت قد استأجرت الحصانين.»
قال ييتس، واضعا يده على قفص العربة من الخارج وقافزا على الأرض بخفة: «بحق الرب! سأفعل.»
قال بارتليت للبروفيسور مزمجرا: «من المرجح أنها ستوافق على الركوب مع واحد مثله.»
نظر البروفيسور لحظة إلى ييتس الذي كان يرفع قبعته بتأدب للشابة التي بدت مشدوهة، لكنه لم يقل شيئا.
أضاف بارتليت جامعا أربطة لجام الحصانين في يديه: «مستعد ألا آخذ أي مال نظير أن أضرب الحصانين بالسوط وأتركه يكمل بقية الطريق على قدميه.»
رد البروفيسور ببطء قائلا: «من واقع ما أعرفه عن صديقي، أظنه لن يمانع ذلك إطلاقا.»
تمتم بارتليت بشيء ما لنفسه، وبدا أنه غير رأيه بشأن الركض بحصانيه.
وفي هذه الأثناء، كما قيل سلفا، خلع ييتس قبعته بتأدب كبير للسائرة الشقراء، وبينما كان يفعل ذلك، لاحظ بقشعريرة إعجاب سرت في جسده أنها جميلة جدا. فطالما كان ييتس ذا عين متمرسة في ملاحظة الجمال.
Bilinmeyen sayfa
استهل الكلام معها قائلا: «صحيح أن مركبتنا ربما لا تكون مريحة، لكني سأسعد جدا إذا قبلت ضيافتها.»
نظرت إليه الشابة نظرة خاطفة بعينيها الداكنتين، وخشي ييتس للحظة أن يكون قد استخدم ألفاظا أرقى من استيعابها الريفي البسيط، ولكن قبل أن يعدل عبارته، أجابت بإيجاز: «شكرا لك. أفضل المشي.» «حسنا، لا أستطيع القول إنني ألومك على ذلك. هل لي أن أسألك عما إذا كنت قد قطعت كل هذا الطريق من القرية؟» «نعم.» «تلك مسافة طويلة، ولا شك أنك متعبة جدا.» لم ترد الفتاة؛ لذا واصل ييتس كلامه قائلا: «أو على الأقل ظننتها مسافة طويلة، لكن ذلك ربما لأنني كنت راكبا على متن عربة بارتليت لنقل التبن. لا يوجد «سرير مريح ناعم» في عربته.»
وبينما كان يتحدث عن العربة، نظر إليها ثم مشى بخطوات واسعة إلى جوارها وقال بصوت هامس مبحوح للبروفيسور: «ستيلي، غط هذه الجرة بأحد ستاري الخيمة القماشيين.»
رد الآخر باقتضاب: «غطها بنفسك. إنها ليست جرتي.»
مد ييتس يده عبر العربة، وبحركة عابرة كأنه غير قاصد، ألقى بستار الخيمة القماشي فوق الجرة التي كانت واضحة للغاية. وليبرر حركته، أخذ عصا سيره من على العربة، واستدار نحو الفتاة التي عرفها منذ لحظات. كان سعيدا برؤيتها تسير متلكأة خلف العربة بمسافة ما، وسرعان ما انضم إليها مجددا. أسرعت الفتاة، التي كانت تنظر إلى الأمام مباشرة، وتيرة مشيتها آنذاك وسرعان ما قصرت المسافة بينها وبين العربة. قرر ييتس، بسرعة بديهته المميزة له، أن هذه إحدى حالات استحياء أهل الريف، وأن أفضل وسيلة لمواجهتها هو النزول بحديثه إلى مستوى ذكاء المستمعة.
سألها: «أكنت في السوق؟». «نعم.» «من أجل الزبد والبيض وما شابه؟»
أجابت قائلة: «نحن مزارعون، ونبيع الزبد والبيض» - ثم صمتت - «وما شابه.»
ضحك ييتس ضحكته المرحة المبتهجة. وبينما كان يلف عصاه، نظر إلى رفيقته الحسناء. كانت تحدق بقلق إلى الأمام نحو منعطف في الطريق. وكان وجهها الجميل متوردا قليلا، بسبب مجهود المشي بالتأكيد.
فأضاف النيويوركي: «والآن أصغي إلي، في بلدي، نقدس نساءنا. الفتيات الجميلات لا يقطعن مسافات طويلة شاقة على أقدامهن إلى السوق بالزبد والبيض.» «أليست الفتيات جميلات في بلدك؟»
قال ييتس في قرارة ذهنه إن تلك الفتاة ليست ريفية الطباع إلى الحد الذي ظنه في البداية. كانت المحادثة تتسم بطابع من اللذوعة الممتعة نال استحسانه. لكنه لم يكن متيقنا مما إذا كانت الفتاة تشاطره متعته أم لا؛ إذ لاحظ خطا طفيفا من الاستياء على جبينها الناعم. «إنهن جميلات بالطبع! أظن أن كل الفتيات الأمريكيات جميلات. يبدو أن ذلك حق يكتسبنه منذ الولادة. وحين أقول الأمريكيات، فأنا أقصد فتيات القارة كلها بالطبع. أنا شخصيا من الولايات المتحدة، من نيويورك .» ولف عصاه لفة أخرى وهو يقول ذلك، وتصرف بذلك السلوك المتعالي المتعمد الذي لا يتجزأ من طبيعة مواطني المدن الكبرى. «ولكن في الولايات المتحدة، نؤمن بأن الرجال ينبغي أن يؤدوا العمل كله، وأن النساء ينبغي أن ... حسنا، يستمتعن بإنفاق الأموال. ويجب أن أوفي نساءنا حقهن بالقول إنهن يلتزمن التزاما تاما بنصيبهن من تلك القسمة.» «إذن لا بد أنها بلد ممتع للنساء ليعشن فيه.» «كلهن يقلن ذلك. لقد اعتدنا لدينا قولا مأثورا مفاده أن أمريكا كانت جنة للنساء، ومطهرا من الآثام للرجال، و... حسنا، مكانا مختلفا تماما للثيران.»
Bilinmeyen sayfa
لم يكن ثمة شك في أن ييتس عادة ما كان ينسجم مع الناس. وبينما كان ينظر إلى رفيقته، ابتهج حين لاحظ طيفا طفيفا للغاية من الابتسامة يداعب شفتيها. وقبل أن تستطيع الرد عليه، إن كانت تعتزم الرد أصلا، سمع صوت قعقعة حوافر سريعة على الطريق الوعر أمامهما، وبعدها مباشرة جاءت عربة فخمة ذات حصانين، كانت أسلاك عجلاتها الرفيعة المصقولة السوداء كالفحم تلمع وتتلألأ في ضوء الشمس، مسرعة متخطية عربة بارتليت. وحين رأى سائق تلك العربة المسرعة الاثنين يتمشيان معا، شد اللجام متوقفا وقفة مفاجئة كان من الواضح أنها لم تسر حصانيه الجامحين المرقطين.
صاح قائلا: «مرحبا مارجريت! هل تأخرت عليك؟ هل قطعت الطريق كله سيرا؟»
أجابت الفتاة دون أن تنظر نحو ييتس، الذي وقف يلف عصاه بلا هدف: «بل جئت في الوقت المناسب تماما.» وضعت الفتاة الشابة قدمها على دواسة الارتقاء إلى العربة ووثبت بخفة إلى جوار السائق. كان جليا من النظرة الأولى أن ذلك السائق كان شقيقها، ليس فقط بسبب التشابه الأسري بينهما، بل أيضا لأنه تركها تركب العربة دون أن يعرض عليها أدنى مساعدة، والتي لم يكن ثمة حاجة إليها في الواقع، ولأنه سمح لها بلطف بأن تضع طرف المعطف الواقي من الغبار الذي كان يغطي ركبتيه على حجرها كذلك. هرول الحصانان المتململان خببا على الطريق لبضع قصبات، حتى وصلا إلى مكان واسع من الطريق العام، ثم دارا فجأة في الاتجاه المعاكس، وبدا أنهما كادا يقلبان العربة، لكن الشاب بدا على دراية تامة بعمله، وثبتهما بقبضة متينة. كانت عربة الشاب تسير ببطء حيث كان الطريق ضيقا جدا، فيما توقف بارتليت بحصانيه في بلادة في منتصف الطريق أمامها.
صاح الشاب الذي يقود العربة: «أيا بارتليت! الزم أحد جانبي الطريق، كما تعرف؛ أحد جانبي الطريق.»
صاح بارتليت من فوق كتفه: «اصبر.» «دعك من هذا الهراء يا بارتليت، أفسح الطريق وإلا سأصدمك.» «فلتجرب ذلك إذن.»
إما أن بارتليت لم يكن لديه حس فكاهي، أو أن استياءه من جاره الشاب خنق ذلك الحس داخله، وإلا كان سيدرك أن عربة ثقيلة كعربته لم تكن مهددة تماما بأن تصدمها عربة خفيفة غالية كعربة الشاب. كظم الشاب غضبه على نحو رائع، لكنه كان يعلم تماما أين يلمس الوتر الحساس لدى الرجل العجوز. وضعت أخته يدها على ذراعه بأسلوب استعطافي. فابتسم دون أن يلتفت إليها. «دعك من هذا الهراء، أفسح الطريق وإلا سأبلغ عنك الشرطة.»
صاح بارتليت غاضبا: «الشرطة! فلتجرب ذلك إذن أيها المخادع.» «ظننتك قد اكتفيت من ذلك الآن.»
اعترضت الفتاة بضيق شديد قائلة: «إياك، إياك يا هنري!».
صاح بارتليت: «لا قانون في الدنيا يستطيع أن يجعل رجلا ذا حمولة يفسح الطريق لأي سبب.» «ليس معك أي حمولة، إلا إذا كانت في هذه الجرة.»
وهنا ذعر ييتس عندما رأى أن الجرة قد اهتزت حتى خرجت من تحت غطائها، لكن عزاءه هو أن راكبي العربة كانا يعتقدان أنها تخص بارتليت. ومع ذلك، رأى أن إصرار بارتليت العنيد على منعهما من شيء لا يفيده قد جاوز المدى. فخطا بسرعة إلى الأمام، وقال لبارليت: «من الأفضل أن تتنحى جانبا قليلا، وتتركهما يمران.»
Bilinmeyen sayfa
صاح المزارع الغاضب للغاية: «ابق في حالك، ولا تتدخل.»
قال ييتس باقتضاب وهو يهرول نحو رأسي الحصانين: «سأفعل.» ثم شدهما من لجاميهما، وبالرغم من السباب الذي تفوه به بارليت في تلك الأثناء ومحاولته شد أربطة اللجامين، فقد سحبهما ييتس جانبا حتى مرت العربة.
صاح الشاب قائلا: «شكرا لك!» وانطلقت العربة الخفيفة المتلألئة على طريق ريدج رود وسرعان ما اختفت عن الأنظار.
ظل بارتليت متوقفا هناك للحظة مجسدا الغضب المتحير. ثم رمى زمام اللجامين على ظهري حصانيه الصبورين، وترجل من العربة. «أشددت حصاني من رأسيهما أيها الأمريكي التافه؟ أفعلت ذلك حقا، هاه؟ تعجبني وقاحتك. تلمس حصاني وأنا أمسك بزمامهما! اسمعني الآن! ستنزل متعلقاتك من عربتي حالا هنا على الطريق. أتسمعني؟» «أي شخص في نطاق ميل من هنا يستطيع سماعك.» «حقا؟ حسنا، ستنزل خيمتك المزعجة من على متن عربتي.» «كلا، لن تنزل.» «لن تنزل حقا؟ حسنا، عليك إذن أن تهزمني في نزال أولا، وهذا شيء لم يفعله من قبل أي أمريكي، ولا يقدر عليه أي أمريكي.» «سأفعل ذلك بكل سرور.»
صاح البروفيسور وهو يترجل من العربة على الطريق: «لا، لا، دعكما من هذا، لقد جاوز الأمر المدى. ابق هادئا يا ييتس. أصغ إلي يا سيد بارتليت، لا تكترث بذلك؛ فهو لا يقصد التقليل منك.»
قال بارتليت: «لا تتدخل. فأنت شخص جيد، وليس لدي أي مشكلة معك. لكني سأبرح ذلك الشاب ضربا حتى يوشك على الموت، وسترى بنفسك. لقد واجهناهم في عام 1812، وضربناهم وسحقناهم، ونستطيع فعل ذلك مجددا. سأعلمك عاقبة أن تشد حصاني من رأسيهما.»
قال ييتس مستفزا إياه: «فلتعلمني.»
وقبل أن يستطيع الدفاع عن نفسه كما ينبغي، انقض بارتليت عليه وقبض عليه من حول خصره. صحيح أن ييتس نفسه كان لديه قدر من مهارات المصارعة، لكن مهارته لم تنفعه بشيء في ذلك النزال. فقد التفت ساق بارتليت اليمنى حول ساقه اليمنى بقبضة فولاذية سرعان ما أقنعت الرجل الأصغر سنا بأنه يجب أن يرضخ لها وإلا ستنكسر إحدى عظامه. لذا رضخ لها، فطرح أرضا على ظهره بصوت ارتطام بدا كأنه زلزل الكون.
صاح المزارع المنتصر: «أرأيت أيها اللعين! هذا ما حدث لكم في عام 1812 ومعركة كوينزتاون هايتس. ما رأيك؟»
نهض ييتس على قدميه بشيء من التأني، وخلع معطفه.
Bilinmeyen sayfa
فقال البروفيسور مهدئا إياه: «على رسلك يا ييتس. فلنكتف بهذا القدر.» ثم سأله بلهفة حين لاحظ مدى شحوب الشاب من حول شفتيه: «لم تصب بأذى، أليس كذلك؟» «أصغ إلي يا رينمارك؛ أنت رجل رشيد. يوجد وقت يجوز لك فيه أن تتدخل ووقت لا يجوز فيه ذلك. والآن هو الوقت الذي لا يجوز لك فيه ذلك. يبدو أن هذا الشجار قد اكتسب بعدا دوليا. والآن، فلتقف جانبا كرجل طيب؛ لأنني لا أريد أن أضطر إلى سحقكما معا.»
وقف البروفيسور جانبا؛ لأنه كان يعي أن الوضع يكون جد خطر حين يناديه ييتس باسم عائلته. «والآن، أيها الأحمق العجوز، لعلك ترغب في تجربة ذلك مرة أخرى.» «أستطيع تكرار ذلك عشرات المرات، إذا لم تكن قد اكتفيت. لا يوجد أي أمريكي تربى على فطيرة اليقطين يستطيع الصمود أمام حركة شجرة العنب.» «فلتجرب شجرة العنب مرة أخرى.»
تقدم بارتليت بمزيد من الحذر هذه المرة؛ لأنه لاحظ في عيني الشاب نظرة لم تعجبه تماما. اتخذ وضعية التأهب لإمساك خصمه من أي جزء في جسده، وظل يتحرك بحذر في نصف دائرة حول ييتس، الذي ظل يغير وضعيته ليبقى مواجها لخصمه. وأخيرا، قفز بارتليت إلى الأمام فوجد نفسه في اللحظة التالية مباشرة راقدا على جزء من صخرة أصلية من صخور المنطقة، شاعرا بأن ألف طائر طنان تطن في رأسه، فيما انضمت النجوم إلى المنظر الطبيعي من حوله متراقصة معه. فقد كانت الضربة مباغتة ودقيقة ومباشرة.
قال ييتس وهو يقف فوقه: «هذا ما حدث في عام 1776 - أي الثورة - حين، بحسب عبارتك، واجهناكم وقاتلناكم وسحقناكم. فما رأيك في ذلك؟ والآن، إذا كانت نصيحتي تحمل أي نفع لك، فأنصحك بأن ترى التاريخ من منظور أوسع من ذاك الذي تراه منه. لا تبالغ في حصر نفسك في فترة زمنية واحدة. ادرس قليلا من تاريخ الحرب الثورية.»
لم يرد بارتليت. وبعدما ظل جالسا هناك لبعض الوقت، حتى استعاد المنظر من حوله حالته الطبيعية، نهض على مهل دون أن يتفوه بكلمة واحدة. أخذ الزمام من على ظهري الحصانين، وربت على الحصان الأقرب برفق. ثم ركب في مكانه، وانطلق بالعربة. اتخذ البروفيسور مقعده بجوار السائق، لكن ييتس، بعدما ارتدى معطفه والتقط عصاه، سار أمامهما بخطى واسعة، قاطعا رءوس النباتات الشائكة الكندية بعصاه في أثناء سيره.
الفصل الرابع
ظل بارتليت صامتا لفترة طويلة، ولكن كان من الواضح أنه يفكر في شيء ما؛ إذ كان يناجي نفسه سرا، وظل صوت تمتماته يعلو شيئا فشيئا حتى كسر السكون، ثم ضرب الحصانين بالسوط وشد لجاميهما، وبدأ مناجاة نفسه مرة أخرى. وأخيرا قال فجأة للبروفيسور: «ما تلك الثورة التي تحدث عنها؟» «إنها حرب الاستقلال، التي بدأت في عام 1776.» «لم أسمع بها قط. هل قاتلنا الأمريكيون؟» «قاتلت المستعمرات إنجلترا.» «أي مستعمرات؟» «البلد الذي يسمى الآن الولايات المتحدة.» «قاتلوا إنجلترا حقا، هاه؟ ومن الذي انتصر؟» «نالت المستعمرات استقلالها.» «هذا يعني أنهم هزمونا. لا أصدق أي كلمة مما قاله. كان المفترض أن أسمع بذلك؛ لأنني عشت في هذه المنطقة فترة طويلة.» «كان ذلك قبل زمانك بقليل.» «وكذلك كانت حرب عام 1812، لكن والدي حارب فيها، ولم أسمعه قط يتحدث عن هذه الثورة. أظنه كان من المفترض أن يكون على دراية بها. ثمة حلقة مفقودة أو مبهمة.» «حسنا، كانت إنجلترا مشغولة بعض الشيء بالفرنسيين آنذاك.» «آه، هذا هو الأمر، أليس كذلك؟ أراهن على أن إنجلترا لم تعرف قط أن الثورة كانت جارية إلا حين انتهت. فلم يستطع نابليون الأول أن يهزمهم، وليس من المنطقي أن يكون الأمريكيون قد استطاعوا ذلك. أعتقد أن هذه الحرب شهدت بعض الخيانة والغش. عجبا، لقد احتاج الأمريكيون إلى أربع سنوات كي يهزموا أنفسهم! لدي كتاب في البيت يتحدث بالكامل عن نابليون. لقد كان شخصا عنيدا صعب المراس.»
لم يشعر البروفيسور بأنه مطالب بالدفاع عن شخصية نابليون؛ ومن ثم خيم الصمت عليهما مرة أخرى. بدا بارتليت منزعجا جدا من الخبر الذي سمعه للتو عن الثورة، وكان يزمجر في قرارة نفسه، بينما كان الحصانان يعانيان معاناة أشد من المعتاد من جراء ضربات السوط وشد اللجام الذي دائما ما كان يعقب تلك الضربات. وبينما كان ييتس متقدما عنهما بمسافة ما وكان يمشي مسرعا بتبختر إيقاعي، انعطف الحصانان، من تلقاء نفسيهما كما بدا، ليدخلا من بوابة مفتوحة، وواصلا السير بمشيتهما المتمهلة المعتادة نحو مخزن غلال كبير وراء بيت رحيب ذي هيكل من العوارض الخشبية وشرفة واسعة في مقدمته.
قال بارتليت باقتضاب: «هذا بيتي.»
رد البروفيسور وهو يثب مترجلا من العربة: «ليتك أخبرتني منذ بضع دقائق كي يتسنى لي مناداة صديقي آنذاك.»
Bilinmeyen sayfa