استغرق بلونفيل في العمل نحو ساعة ونصف الساعة، عندما سمع امرأة تغني، وكان الغناء عذبا للغاية. كانت تغني بحرية واستمتاع من لا يشك في أن هناك من يسمعه. راح صوت الغناء يقترب أكثر فأكثر. وقف بلونفيل مذهولا، وأسقط الأدوات من يده، وانسل نحو النافذة الصغيرة المحجوبة بعض الشيء. رأى جمالا فاتنا يرتدي ثوبا لم ير له مثيلا من قبل. كانت تسير على الضفة بخطوات خفيفة وسريعة حتى وصلت إلى الكوخ المجاور، وأخذت مفتاحا كان معلقا في حزام ترتديه، وفتحت به الباب. وللحظة، انخفض صوت الغناء لكنه لم يتوقف، ثم خرج من باب الكوخ نصف قارب جعل بلونفيل يشهق حين رآه. لم ير بلونفيل مثيلا لهذا القارب من قبل، كما هو الحال مع زي الفتاة. كان شكل القارب هو نفسه الشكل الذي صممه بلونفيل لاختراعه، وكان مصنوعا من مواد خفيفة للغاية؛ ذلك أن الفتاة الرشيقة الرقيقة في زيها غير المألوف استطاعت أن تدفع بالقارب من دون حتى أن تتوقف عن غنائها. وفي اللحظة التالية، خرجت هي بنفسها وراحت تعدل غطاء رأسها الأحمر. سحبت الفتاة القارب نحو الماء، وأخرجت منه مجدافا خفيفا لونه فضي ثم صعدت في رشاقة على متن القارب، واستقرت في مكانها فيه بمظهر يدل على خفتها. لاحظ بلونفيل في ذهول أن القارب لم يكن يحتوي على مقعد. وكان البحر في غاية الهدوء، وبضربات قليلة من المجداف غابت الفتاة وقاربها عن الأنظار. تنهد بلونفيل بعمق من فرط دهشته. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الزي الخاص بركوب القوارب في نهر التيمز والقارب المخصص لذلك.
إذن كان هذا هو السبب وراء غمزة عين الرجل حين كان يعطيه المفتاح. كان بلونفيل في حيرة من أمره. هل يكشف عن نفسه حين تعود الفتاة؟ لم يبد له من الصواب أن يعلم الفتاة أنها لم تكن وحيدة على الشاطئ في الوقت الذي كانت تعتقد فيه ذلك. لكن كان عليه أن يفكر في أمر اختراعه. كان قد أقسم يمينا بالولاء لاختراعه والإخلاص له. جلس يفكر ويتأمل الفتاة في ذهنه. كان من الواضح أنها فتاة إنجليزية. ولم تكن لديه أدنى فكرة أن الفتيات الإنجليزيات فاتنات إلى هذا الحد، ثم تراءى إلى مخيلته ذلك الزي! كان الزي أخاذا. لقد علق في ذاكرته ذلك البنطال الأبيض بطياته الأنيقة الناعمة الذي كان غاية في الكمال رغم بساطته الفائقة. لكن، ما سبب وجوده هنا؟ إنه اختراعه بكل تأكيد. ثم تذكر فجأة سخرية الملازم منه واستهزاءه به. لم تكن تلك الفتاة التي استأجرت الكوخ المجاور له - أيا كان اسمها - تعني له شيئا؛ بالطبع لم تكن كذلك. أزاح بلونفيل الفتاة عن ذهنه، وعاد إلى مباشرة عمله. لقد أضاع الكثير من الوقت بالفعل؛ ولن يضيع المزيد.
وعلى الرغم من أنه كان مسلحا بهذا القرار البطولي، فإن مهمته الآن وبطريقة ما لم تعد تبدو مثيرة للاهتمام كما كانت من قبل، ووجد نفسه يستمع بين الحين والآخر إلى أغنية الفتاة التي ظهرت أمامه فجأة وكأنها جنية ماء. وتخيل في نفسه مواقف خيالية، وهو أمر دائما ما يكون ذا أثر سيئ على أداء المرء لمهامه العملية. تراءى له أن القارب الهش يتحطم أو ينقلب في الماء، وتخيل نفسه وهو يصارع الأمواج بكل شجاعة لينقذ الفتاة الحسناء ذات الملابس البيضاء. ثم تذكر مع تنهيدة أطلقها أنه ليس بسباح ماهر. وربما هي أكثر مهارة منه في التعامل وسط تلك الأمواج. يبدو أن أولئك الإنجليز على هذه الدرجة من الألفة والمهارة في ركوب البحر.
وفي النهاية، أخبره حدسه وليس سمعه أن الفتاة قد عادت. فسار على أطراف أصابعه نحو النافذة الصغيرة. وكانت الفتاة تسحب القارب الخفيف من الماء. وكبح رغبته في عرض المساعدة. وعندما قفزت الفتاة بخفة ورشاقة على الضفة، تنهد بلونفيل وخلص إلى أنه قد عمل بما يكفي لهذا اليوم. وحين وصل إلى الطريق، لاحظ من بعيد أن صاحبة الزي الأبيض لم تسلك طريق الفندق، بل اتجهت نحو أحد الأكواخ المجاورة.
وفي فترة الظهيرة، عمل بلونفيل على اختراعه مطولا، وأحرز تقدما. ثم عاد سيرا إلى فندقه وهو يشعر بالرضا عن نفسه، وهو ما يشعر به الكسالى في تلك المرات النادرة حين يعملون بكد ودأب. عمل بلونفيل بلا انقطاع، واتخذ قرارات عنترية مرة أخرى. فما حدث في ظهيرة ذلك اليوم يمكن أن يتكرر في ظهيرة كل يوم. ولن يفكر مرة أخرى فيما يتراءى له في مخيلته ولن يزاول العمل على اختراعه إلا بعد الغداء؛ ومن ثم لن يضطر إلى الكشف عن نفسه أو إلى مراقبة ما تقوم به الفتاة من دون أن تراه. وبالطبع، كانت الفتاة دائما ما تأتي في الصباح؛ ذلك أن الإنجليز أناس منظمون ويحبون السير وفق منهج، وكان بلونفيل عليما بأساليبهم حتى إنه كان واثقا من أن ما يفعلونه في أحد الأيام هو ما سيفعلونه في اليوم التالي. قال بلونفيل في نفسه وهو يهز كتفيه بأن الإنجليز شعب استثنائي، لكن بالطبع، لا يمكن لنا جميعا أن نكون فرنسيين.
من المؤسف أن يتدخل الإغواء حين يكون المرء قد عقد العزم على ألا ينحرف عن مسار سلوكي مستقيم بعينه. كان من المقرر أن يقام حفل راقص في تلك الليلة في الفندق الكبير. وقد استنكف بلونفيل أن تكون له أي صلة بهذا الحفل؛ فقد هجر توافه الأمور في الحياة. فقد كان هناك بغرض الراحة والهدوء والدراسة. وكان متمسكا بهدفه إلى حد التعنت. وفي ذلك المساء، عرضت عليه الدعوة مرة أخرى، والواقع أنه كان هناك نقص في أعداد الشباب، كما هو الحال دوما في مثل تلك المناسبات. وكان بلونفيل على وشك أن يبدي اعتراضاته من جديد على حضور مثل تلك المناسبات التافهة حين لمح عبر الباب المفتوح اثنين من الضيوف الذين وصلوا وهم يصعدون السلم. كانت الفتاة ترتدي معطفا أوبراليا طويلا مزغبا من حول رقبتها ويتدلى على مقدمة جسدها. ويستقر على شعرها الأشقر الجميل شريط رقيق للزينة. كانت تلك هي الفتاة صاحبة القارب، وكانت في أبهى صورة لها. اضطرب بلونفيل كثيرا وشعر بالحيرة، ثم هرع إلى غرفته وارتدى ملابس الحرب. وقل ما يحلو لك، لكن ملابس السهرة تجعل المرء يبدو في مظهر أحسن. وبالإضافة إلى ذلك، عاد بلونفيل إلى استخدام اسمه كاملا مع كلمة «دي»، وأصبح ظهره أكثر استقامة بكل تأكيد. لقد بدا دي بلونفيل في أحسن هيئة له.
وسرعان ما تعرفا بالطبع. لقد تولى دي بلونفيل أمر ذلك، وكان المسئول عن الحفل الراقص ممتنا له كثيرا لحضوره ولظهوره بأفضل صورة. وفي الواقع كان مظهر دي بلونفيل يوحي بالتميز. وقد علم دي بلونفيل أن الفتاة هي صاحبة الشرف والمقام مارجريت ستانسبي. وسيكون من المستحيل، بل ومن غير المنصف أيضا، أن نسرد محادثتهما؛ إذ كان هذا يبدو كقراءة جزء من تمارين أولندورف الفرنسية الإنجليزية. وكما قلنا، كان دي بلونفيل فخورا للغاية بلهجته الإنجليزية، ولسوء الحظ، كانت صاحبة المقام مارجريت تتحلى بحس الدعابة. وقد أطرى عليها دي بلونفيل بأن قال بأنها تتحدث الفرنسية أفضل مما يتحدث هو الإنجليزية، الأمر الذي لم يكن أفضل تعليق لبق ليقوله دي بلونفيل، وإن كان صحيحا بلا أدنى شك في ذلك. كان من الصعب أن يستمع المرء إلى جملته تلك وهو يقولها بالإنجليزية ويكبح الضحك. ولكن مارجريت أحرزت نصرا كبيرا ولم تضحك. مرت الأمسية على نحو لطيف من وجهة نظر مارجريت، أما بالنسبة إلى بلونفيل، فقد مرت الأمسية على نحو غاية في البهجة.
كان من الصعب بعد هذا أن يعود دي بلونفيل إلى العمل غير الممتع الخاص بإتمام القارب الخيمة المصنوع من القماش، لكنه ظل مثابرا وهذا يحسب له. وقد قابل السيدة الشابة في عدة مناسبات، لكنه لم يقابلها قط على الشاطئ. وكلما توثقت معرفتهما وتوطدت، زادت رغبته في أن يحظى بامتياز إنقاذها من خطر مميت، لكن تلك الفرصة لم تأت قط. إنه أمر من النادر أن يحدث، اللهم إلا في الكتب، وكان هذا هو الرأي الذي أبداه إلى نفسه بمرارة. كان البحر هادئا على نحو مثير للغضب، وكانت الآنسة مارجريت ماهرة فيما تقوم به، وهكذا هن الكثير من النساء الفاتنات. فكر دي بلونفيل في شراء منظار ومراقبتها؛ ذلك أنها كانت قد أخبرته أن أحد الأمور التي تبهجها هو مراقبة تقدم السفن المدرعة بالمنظار من الشرفة في مقدمة الكوخ.
في النهاية، وعلى الرغم من المشتتات الكثيرة التي صرفت انتباهه، أضاف دي بلونفيل اللمسات النهائية إلى اختراعه المهم، ولم يبق سوى أن يضعه موضع الاختبار العملي. واختار لذلك يوما لم تكن فيه البحرية الفرنسية التي ترسو في هييريس على مرمى البصر؛ ذلك أنه لم يرد أن يصبح على مرأى من المنظار في شرفة الكوخ. فقد شعر بأنه لن يكون في أفضل صورة له وهو يجدف بقاربه الجديد غير المألوف. وبالإضافة إلى ذلك، قد يغرق به القارب.
لم يكن هناك ولو شراعا واحدا على مرمى البصر حين انطلق في اختبار قاربه. فحتى قوارب الصيد في كاركيران كانت قابعة في مرساها. وكان البحر في غاية الهدوء، والشمس ساطعة في كبد السماء. وقد وجد دي بلونفيل شيئا من الصعوبة في الجلوس في القارب، لكنه ابتهج حين وجد أن اختراعه قد لبى كل التوقعات. وبينما كان يتقدم في البحر، لاحظ عوامة كبيرة تطفو على مسافة بعيدة منه. فأغوته عبقريته الشريرة أنه سيكون من الأفضل لو جدف باتجاه العوامة ثم عاد. فيمكن للكثيرين أن يعاقروا الشمبانيا ولا يدخلون في حالة السكر، لكن قلة من الرجال فقط من يستطيعون أن يذوقوا طعم النجاح ويحتفظون بحصافتهم واتزانهم. والأطوار الغريبة التي قد تعتري الكتاب البارزين تثبت صدق هذا. كان دي بلونفيل مخمورا، ولكنه لم يظن ذلك قط. وقد ساعده المد، الذي قلما تجده في البحر المتوسط، وكذلك النسيم اللطيف الذي يهب من اتجاه الشاطئ. وقد راودت دي بلونفيل بعض الشكوك فيما يخص حصافة ما أقدم على فعله، وذلك قبل أن يصل إلى العوامة الحمراء الكبيرة، لكنه ارتعد حين تلفت حوله ورأى المسافة المرعبة بينه وبين الشاطئ.
Bilinmeyen sayfa