امرأة من الحجر
كيمياء اللاسلطوية
الخوف
هيئات جونسون التنكرية
إصلاح جو هولندز
خطاب الآلة الكاتبة
هلاك لندن
مأزق دي بلونفيل
مادة متفجرة جديدة
لغز بيجرام الكبير
سيأتي الموت عاجلا أو آجلا
رهانات كبيرة «حين يكون الجهل نعمة»
رحيل الفتى ماكلين
القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين
اللعب بورق موسوم
تودد الملاكم
مداهمة ميليش
رد الصاع
قرار كراندال
خذلان برادلي
تحول رينجامي
نزيل غامض
المقعد السادس
امرأة من الحجر
كيمياء اللاسلطوية
الخوف
هيئات جونسون التنكرية
إصلاح جو هولندز
خطاب الآلة الكاتبة
هلاك لندن
مأزق دي بلونفيل
مادة متفجرة جديدة
لغز بيجرام الكبير
سيأتي الموت عاجلا أو آجلا
رهانات كبيرة «حين يكون الجهل نعمة»
رحيل الفتى ماكلين
القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين
اللعب بورق موسوم
تودد الملاكم
مداهمة ميليش
رد الصاع
قرار كراندال
خذلان برادلي
تحول رينجامي
نزيل غامض
المقعد السادس
الوجه والقناع
الوجه والقناع
تأليف
روبرت بار
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
امرأة من الحجر
كانت لورين فتاة جميلة، ورشيقة، في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت تعمل بوظيفة جيدة في صيدلية سيام في شارع سانت أونوريه. ولم يكن هناك من تعوله؛ ولذا كان كل ما تجنيه من أموال ملكا لها وحدها. وربما كان فستانها مصنوعا من قماش زهيد الثمن لكن تصميمه كان قمة في الأناقة والرقة، وهو ما كان هبة طبيعية حبيت بها الفتاة الباريسية؛ ومن ثم لم يكن الناظر إليها ليفكر في رخص ثمن الفستان، وإنما كان سيعجب بتأثيره الساحر. وكانت تعمل في الصيدلية مسئولة عن الحسابات ومساعدة عامة، وتقيم في غرفة صغيرة في الضفة المقابلة لنهر السين في شارع ليل. وكانت تعبر النهر مرتين كل يوم؛ مرة في الصباح حين تكون الشمس مشرقة، وأخرى في المساء حين تتلألأ الأنوار البراقة المنعكسة عن ضفة النهر وكأنها درر في عقد طويل. وفي كل صباح كانت تسير في حديقة تويلري بعد عبورها الجسر الملكي، لكنها لم تكن تمر عبر الحديقة في طريق عودتها مساء؛ ذلك أن الحديقة في الصباح تختلف عنها في المساء. وفي طريق عودتها كانت دائما ما تسير في شارع تويلري حتى تصل إلى الجسر. وكانت نزهتها الصباحية عبر الحديقة مصدر سعادة لها؛ لأن شارع ليل ضيق وغير متألق بالأضواء؛ ولذا كان من الممتع لها أن تسير تحت الأشجار الخضراء وأن تشعر بالحصى المتغضن الهش تحت أقدامها، وأن تشاهد التماثيل البيضاء اللامعة تحت أشعة الشمس ومياه النافورة المستديرة المتلألئة التي كانت تجلس إلى جوارها في بعض الأحيان. وكان تمثالها المفضل تمثالا لامرأة يستند على قاعدة بالقرب من شارع ريفولي. كانت ذراع المرأة تمتد فوق رأسها، وترتسم على الوجه الرخامي ابتسامة غامضة. كانت تلك الابتسامة تسحر الفتاة حين ترفع نظرها إلى التمثال، وبدا الأمر كأنها تحية الصباح ليومها الحافل بالعمل في المدينة. وكانت الفتاة تقبل أطراف أصابعها حين لا تكون على مرأى من أحد - وهو ما كان عليه الحال غالبا في الثامنة صباحا - وتلقي التحية على التمثال بابتهاج، وكانت المرأة الحجرية تبادلها التحية دائما بتلك الابتسامة الغريبة التي كانت تشير فيما يبدو إلى أنها تعرف عن هذا العالم وأساليبه أكثر مما تعرفه تلك الفتاة الباريسية الصغيرة التي كانت تنظر إليها كل يوم.
كانت لورين سعيدة بالطبع، أليست باريس جميلة دوما؟ أليست الشمس تشرق متألقة؟ أليس الجو صافيا دائما؟ ما الذي يمكن لفتاة يافعة أن تأمله أكثر من ذلك؟ ربما كان هناك شيء واحد ينقصها فعلا، لكن في النهاية تحقق لها ما كانت تريد؛ وهكذا لم يكن في باريس كلها فتاة أسعد من لورين. كادت تفصح لتمثالها المفضل في صباح اليوم التالي بما حدث؛ ذلك أن ابتسامة التمثال بدت لها وكأنها ازدادت اتساعا منذ آخر مرة مرت عليه صباح أمس، وشعرت وكأن المرأة المنحوتة من الحجر خمنت سر الفتاة المخلوقة من لحم ودم.
لاحظته لورين لعدة أيام وهو يحوم حول الصيدلية، وكان ينظر إليها بين الحين والآخر، رأت كل شيء، لكنها تظاهرت بأنها لم تر شيئا. كان شابا وسيما يافعا ذا شعر مجعد ويدين طويلتين نحيلتين وبيضاوين وكأنه لم يكن معتادا على العمل اليدوي الشاق. وذات ليلة تبعها حتى الجسر، لكنها تابعت سيرها بسرعة، ولم يستطع اللحاق بها. ولم يدخل الشاب إلى الصيدلية قط، لكنه كان يتسكع في الأرجاء وكأنه يتحين الفرصة ليتحدث إليها. لم يكن لدى لورين أحد تأتمنه على سرها سوى تلك المرأة الحجرية، وبدا من ابتسامتها أنها تفهم ما تريد قوله بالفعل، وأنها ليست في حاجة لأن تخبرها بأن الشاب الذي ساقه إليها القدر قد أتى. وفي المساء التالي تبعها لمسافة فوق الجسر، ولم تسرع لورين في سيرها هذه المرة. إن الفتيات في مثل وضعها لا يفترض لهن أن يتعرفن إلى محبيهن بالطريقة المعتادة، فكن يعتمدن في ذلك بصفة عامة على التعارف العشوائي، رغم أن لورين لم تكن تعلم ذلك. وتحدث إليها الشاب على الجسر، وبينما هو يحدثها رفع قبعته عن رأسه ذي الشعر الأسود.
كان كل ما قاله لها: «طاب مساؤك!»
فأشاحت بنظرها عنه خجلا لكنها لم تجبه، واستمر الشاب في السير إلى جوارها.
وقال: «أنت تسلكين هذا الطريق كل مساء، كنت أراقبك. هل يزعجك ذلك؟»
فأجابته بصوت يكاد يكون همسا: «لا.»
فسألها: «إذن، هل يمكنني أن أسير معك حتى منزلك؟»
فأجابته: «يمكنك أن تسير معي حتى زاوية شارع ليل.»
قال الشاب: «شكرا لك.» وسارا معا تلك المسافة القصيرة، وعند المكان المحدد تمنى لها ليلة طيبة، بعد أن طلب منها أن تأذن له بلقائها عند زاوية شارع سانت أونوريه وأن يسير معها في طريق عودتها إلى المنزل في مساء اليوم التالي.
فقالت له: «لا تأت إلى الصيدلية.»
فأجابها وهو يومئ إيجابا بأنه سيحقق لها ما تريد: «أتفهم ذلك.» وأخبرها أن اسمه جان دوريه، وبمرور الوقت صارت تدعوه جان وصار هو يدعوها لورين. والآن لم يعد الشاب يأتي إلى الصيدلية أبدا، لكنه كان ينتظرها عند زاوية الشارع، وذات يوم أحد أخذها في نزهة صغيرة في النهر، وهو ما استمتعت به كثيرا. وهكذا مضى الوقت، وكانت لورين في غاية السعادة. وكان التمثال يبتسم لها ابتسامته الساحرة ، رغم أنها شعرت بما بدا وكأنه تحذير غامض في ابتسامته حين كانت السماء غائمة. ربما كان ذلك بسبب أنهما تشاجرا الليلة الماضية. بدا جان لها فظا وغير متسامح. كان قد سألها إن كان بإمكانها أن تحضر له بعض الأشياء من الصيدلية، وأعطاها قائمة بثلاث مواد كيميائية، كتب أسماءها في ورقة.
وقال لها: «يمكنك الحصول عليها بسهولة. إنها أشياء موجودة في كل صيدلية، ولن يلاحظ أحد اختفاءها.»
قالت الفتاة في ذعر: «لكن هذا ضرب من السرقة.»
ضحك الشاب.
وسألها: «كم يدفعون لك هناك؟» وحين أخبرته ضحك مرة أخرى وقال: «يا إلهي، لو كنت أحصل على هذا القدر الضئيل من المال لأخذت كل يوم شيئا من الأرفف وبعته.»
نظرت إليه الفتاة في دهشة، فنظر إليها في غضب واستدار عنها وانصرف تاركا إياها. اتكأت بذراعها على حاجز الجسر ونظرت إلى المياه المظلمة بالأسفل. لطالما كان النهر في المساء يثير إعجابها، وكانت في كثير من الأحيان تقف لتلقي نظرة على النهر وهي تعبر الجسر، وفي أثناء ذلك كانت تشعر برجفة تسري في أوصالها. بكت قليلا حين فكرت في رحيله المفاجئ، وتساءلت في نفسها إن كانت فظة معه. ففي النهاية، لم يكن يطلب منها فعل الكثير، وكانوا في الصيدلية يدفعون لها مبلغا ضئيلا بحق. وربما كان عشيقها فقيرا، ويحتاج إلى تلك الأشياء التي طلب منها إحضارها. وربما كان مريضا ولم يخبرها بشيء. ثم شعرت بلمسة على كتفها. فالتفتت على إثرها. كان جان يقف إلى جوارها، لكن عبوس وجهه لم يكن قد تلاشى.
فقال على نحو مفاجئ: «أعطيني تلك الورقة.»
ففتحت يدها وأخذ الورقة منها، واستدار مبتعدا عنها.
فقالت: «انتظر! سأحضر لك ما تريد، لكنني سأضع ثمنه بنفسي في درج النقود.»
وقف الشاب في مكانه، وأخذ ينظر إليها للحظة، ثم قال: «لورين، أعتقد أنك حمقاء بعض الشيء. إنهم يدينون لك بأكثر مما ستدفعين بكثير. ولكن، لا بد لي من الحصول على تلك الأشياء.» ثم أعطاها الورقة محذرا إياها: «احرصي على ألا يرى أحد ذلك، وتأكدي جيدا من إحضار الأشياء الصحيحة.» ثم سار بصحبتها حتى زاوية شارع ليل وسألها قبل أن يفترقا: «لست غاضبة مني، أليس كذلك؟»
فردت عليه هامسة: «سأفعل أي شيء لأجلك!» ثم قبلها وتمنى لها ليلة طيبة.
ثم أخذت هي المواد الكيميائية حين كان صاحب الصيدلية في الخارج، وربطتها بإحكام كعادتها بعد أن دستها في سلتها الصغيرة التي كانت تحمل فيها غداءها. وكان صاحب المكان رجلا يقظا حاد البصر يعتني بمتجره ومساعدته الجميلة الصغيرة اعتناء كبيرا.
وقد سألها وهو يأخذ الإناء ويرمقها بنظرات حادة: «من ذا الذي يريد هذا الكم من كلورات البوتاسيوم؟»
ارتجفت الفتاة وقالت: «كل شيء على ما يرام، هذا هو المال في درج النقود.»
فقال لها: «بالطبع، لم أكن أتوقع منك أن تبيعيه دون مقابل. من الذي اشتراه؟»
أجابته الفتاة وهي ما زالت ترتجف: «رجل عجوز!» لكن صاحب الصيدلية لم يلاحظ ارتجافها؛ إذ كان يعد النقود ووجد أنها مضبوطة. «أتساءل ماذا سيفعل بهذا الكم الهائل. إذا أتى مرة أخرى، فانظري إليه وأمعني النظر وأخبريني بأوصافه. الأمر يبدو مثيرا للريبة.» لم تعلم لورين لم يبدو الأمر مثيرا للريبة، لكنها مرت بوقت عصيب حتى أخذت السلة في يدها وذهبت للقاء عشيقها عند زاوية شارع بيراميد. وكان أول سؤال طرحه عليها هو: «هل أحضرت لي الأشياء؟»
فأجابته: «أجل، هل ستأخذها هنا، الآن؟»
فعاجلها برده قائلا: «ليس هنا، ليس هنا.» ثم سألها في قلق: «هل رآك أحد وأنت تأخذينها؟» «لا، لكن صاحب الصيدلية يعرف أنها كمية كبيرة؛ ذلك لأنه عد النقود.»
سألها جان: «أي نقود؟» «ثمن هذه الأشياء. أتظن أنني كنت سأسرقها؟»
ضحك الشاب وسحبها نحو زاوية هادئة في حديقة تويلري.
وقال لها: «لن يكون أمامي متسع من الوقت لأذهب معك إلى شارع ليل الليلة.»
فسألته في قلق: «لكنك ستأتي غدا كالعادة، أليس كذلك؟»
فأجابها وهو يخفي العبوات بسرعة في جيوبه: «بالتأكيد، بكل تأكيد.»
في مساء اليوم التالي كانت الفتاة واقفة تنتظر عشيقها بصبر عند زاوية الشارع التي اعتادا اللقاء عندها، لكنه لم يأت. كانت تقف تحت أحد أعمدة الإنارة المضيئة حتى يراها في الحال. وأثناء وقوفها هناك تحرش بها الكثير من الناس، لكنها لم تجب أحدا، وكانت تنظر أمامها مباشرة بعينين ثابتتين، وكانوا يتركونها ويغادرون بعد التردد للحظة. وفي النهاية رأت رجلا يجري بسرعة من الجهة الأخرى من الشارع، وحين مر أمام إحدى النوافذ المضاءة بأنوار براقة، أدركت أنه جان. وكان يأتي نحوها مسرعا.
فصاحت وهي تجري نحوه: «ها أنا!» ثم أمسكت به من ذراعه وهي تقول: «أوه، جان، ما الأمر؟»
فتملص منها بوقاحة، وصاح فيها: «دعيني، أيتها الحمقاء!» لكنها تمسكت به، حتى رفع قبضته وصفعها على وجهها. هوت لورين على الحائط، وهرع جان. وكان هناك رجل مقدام قوي البنية قد حاول التقرب إلى لورين قبل بضع دقائق، ولكنه لم يفهم صمتها فوقف عند أحد الأبواب بالجوار يراقبها، وقد هرع الرجل نحوها حين رأى الاعتداء عليها، وألقى بعصاه بين قدمي الرجل الذي يجري، فأرسل الأخير على وجهه إلى الرصيف. وفي اللحظة التالية كان يضع قدمه على رقبة جان مثبتا إياه على الأرض وكأنه ثعبان.
وصاح فيه: «أيها الحقير! كيف تجرؤ على ضرب امرأة؟»
كان جان يرقد على الرصيف مذهولا، وهرع شرطيان نحو المكان.
فقال الرجل: «لقد اعتدى هذا الوغد على امرأة لتوه. لقد رأيته.»
قال أحد الشرطيين في عبوس: «لقد فعل ما هو أكثر من ذلك.» وكأن ضرب امرأة والاعتداء عليها لم يكن خطبا جللا.
وأوثقا رباط الشاب وجراه معهما. فهرعت نحوهم الفتاة وقالت وهي مضطربة: «الأمر كله سوء تفاهم، كانت حادثة. لم يكن يقصد فعل ذلك.»
فسألها أحد الشرطيين: «أوه، حقا، وكيف عرفت ذلك؟»
قال جان للفتاة وهو يجز على أسنانه: «أيتها الغبية، الأمر كله غلطتك.»
وأسرع به الشرطيان.
قال أحدهما: «في رأيي، كان ينبغي لنا أن نلقي القبض على الفتاة؛ فقد سمعت ما قالته.»
قال الآخر: «أجل، لكن تحقق لنا ما يكفي الآن، إذا ما عرف الملأ من هو.»
فكرت لورين أن تتبعهم، لكنها كانت مذهولة من الكلمات التي قالها لها عشيقها أكثر من الصفعة التي وجهها لها، حتى إنها استدارت في حزن نحو الجسر الملكي وذهبت باتجاه غرفتها.
وفي صباح اليوم التالي، لم تذهب إلى عملها عبر الحديقة كعادتها، وحين دخلت صيدلية سيام صاح مالكها: «ها هي، تلك الماكرة! من كان سيعتقد أنها السبب وراء ذلك؟ أيتها الحقيرة، لقد سرقت عقاقير الصيدلية لتعطيها ذلك الوغد!»
قالت لورين بكل شجاعة: «لم أسرقها، لقد وضعت النقود في الدرج ثمنا لها.»
قال صاحب الصيدلية: «اسمعا! إنها تعترف!»
تقدم نحوها الشرطيان المتخفيان وألقيا القبض عليها بتهمة التواطؤ مع جان دوريه الذي كان قد ألقى أمس قنبلة في شارع الأوبرا المزدحم.
وسرعان ما رأى القضاة الفرنسيون المتحيزون أن الفتاة كانت بريئة ولم تكن تضمر أي نية شريرة، وأنها كانت ضحية ذلك الوغد الذي يحمل اسم جان دوريه. وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة، بينما أخلي سبيلها. وقد حاول إلقاء اللائمة عليها كالجبان؛ وذلك ليحمي امرأة أخرى. وكان هذا هو ما أدمى قلب لورين. ربما كانت ستحاول أن تجد عذرا لجريمته، لكنها أدركت أنه لم يهتم لأمرها قط، وأنه كان يستغلها كأداة في يده ليحصل على المواد الكيميائية التي لم يجرؤ على شرائها.
وتحت زخات المطر الخفيف المتساقط خرجت من سجنها معدمة، متعبة الجسد ومحطمة الروح. مرت من أمام صيدلية سيام الصغيرة لكنها لم تجرؤ على دخولها. وأكملت سيرها تحت المطر على طول شارع بيراميد، وعبرت إلى شارع ريفولي، حتى دخلت حديقة تويلري. كانت قد نسيت أمر المرأة الحجرية، لكن خطواتها كانت تقودها إليها من دون وعي منها. ورفعت نظرها إلى التمثال في دهشة، غير مدركة له في البداية. لم يعد التمثال لامرأة مبتسمة. كانت رأس التمثال ملقى للخلف وعيناه مغلقتان، وكانت آخر نزعات الموت مرسومة على وجهه. كان التمثال على درجة كبيرة من البشاعة والفظاعة. وكانت الفتاة متحيرة للغاية من التغير الذي اعترى التمثال، حتى إنها نسيت لبعض الوقت ما حل على حياتها من خراب. ورأت أن الوجه المبتسم لم يكن سوى قناع مثبث في مكانه بفعل انحناء الذراع اليسرى عليه. وقد أدركت الفتاة الآن أن الحياة ما بين مأساة وملهاة، وأن من لا يرى سوى وجهها المبتسم، فإنه لم ير سوى نصف الحقيقة. أسرعت الفتاة في سيرها نحو الجسر وهي تنشج في صمت بينها وبين نفسها، ونظرت إلى الأسفل نحو مياه النهر الكئيبة. لم يعرها المارة أي اهتمام، وتساءلت في نفسها لم كانت تفكر في النهر على أنه بارد وقاس ولا يرحم؟ إنه موطن المشردين الوحيد، والعشيق الذي لا يتغير ولا يتبدل. ثم استدارت نحو أعلى الدرج الذي كان يؤدي إلى الأسفل حيث حافة المياه. ونظرت نحو حديقة تويلري لكنها لم تستطع أن ترى تمثالها بسبب الأشجار التي حالت بينهما، فقالت في نفسها وهي تنزل الدرج بسرعة: «سأصبح أنا أيضا امرأة من حجر.»
كيمياء اللاسلطوية
قيل في الصحف اللندنية إن تفكك منظمة سوهو اللاسلطوية كان سببه نقص الموارد المالية. والحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك؛ فالمنظمة اللاسلطوية ليست في حاجة إلى الموارد المالية، وما دام هناك من الأموال ما يكفي لشراء الجعة فإن وجود المنظمة سوف يستمر لا محالة. وقد أخبرني صحفي شاب بالحقيقة وراء فض منظمة سوهو، وقد كان هو رئيس الجلسة في آخر اجتماعات المنظمة.
لم يكن ذلك الشاب من دعاة اللاسلطوية وأنصارها، رغم أنه كان يتعين عليه أن يدعي أنه كذلك خدمة لمصالح جريدته؛ ومن ثم فقد انضم إلى منظمة سوهو حيث ألقى بعض الخطب الحماسية التي لاقت استحسانا كبيرا. وفي النهاية، أصبحت الأخبار التي تتناول موضوع اللاسلطوية سلعة كاسدة في السوق، وقد تلقى مارشال سيمكنز الشاب أوامر من رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها تفيد بأنه يتعين عليه الآن أن يحول انتباهه إلى العمل البرلماني؛ ذلك أن رئيس التحرير لن ينشر المزيد من أخبار اللاسلطويين في جريدته.
ربما يتراءى للمرء أن سيمكنز الشاب سر بالتخلص أخيرا من عمله مع اللاسلطويين؛ حيث لم يكن لديه أي شغف تجاه هذه القضية. وقد سر الشاب فعلا لذلك، لكنه وجد صعوبة في إرسال استقالته من المنظمة. ففي اللحظة التي تحدث فيها عن الاستقالة، بدأ أعضاء المنظمة ينظرون إليه بعين الريبة. كان دائما ما يرتدي ملابس أفضل من الآخرين، فضلا عن أن احتساءه الجعة كان أقل منهم. وإذا كان هناك من يرغب في أن يحظى بمكانة جيدة في تلك العصبة، فعليه ألا يتأنق في ملبسه وأن يشرب ما لا يقل عن جالون من الجعة في الاجتماع الواحد. ولم يكن سيمكنز يحتسي من الجعة سوى «ربع جالون» فقط، وكان هذا الأمر يشي به طوال الوقت لولا الحماسة الزائدة التي كانت تغلب على خطاباته. وفي الكثير من المناسبات تجمع حوله الكثير من اللاسلطويين المخضرمين والتمسوا منه أن يحيد عن نواياه العدائية والشريرة نحو مباني البرلمان.
ذهب الأعضاء الأقدم إلى أن محو المجالس البرلمانية أمر مرغوب ولكن الوقت غير موات بعد لذلك. وقد أشاروا إلى أن إنجلترا هي المكان الوحيد الذي يمكن للاسلطويين أن يعيشوا فيه ويتحدثوا من دون تدخل في شئونهم؛ ومن ثم على الرغم من أنهم كانوا يتلهفون شوقا أن يذهب سيمكنز ويقوم ببعض التفجيرات في فيينا أو برلين أو باريس، فإنهم لم تكن لديهم الرغبة في أن يبدأ بلندن. وكانت تهدئة سيمكنز في الغالب عملية صعبة للغاية، وفي النهاية وبعد أن همس لنفسه «جبناء!» مرتين أو ثلاثا، اختتم حديثه قائلا: «أوه، حسنا، أنتم أكثر دراية مني؛ فأنا مجرد عضو شاب، لكن اسمحوا لي على الأقل أن أفجر جسر ووترلو، أو أن أزرع قنبلة في شارع فليت، لكي نبرهن فقط أننا موجودون وعلى أهبة الاستعداد للعمل.»
لكن اللاسلطويين ما كانوا ليوافقوا على هذا. إذا كان يريد تفجير الجسور، فيمكنه أن يبدأ بتفجير الجسور التي تمتد على نهر السين. وقد اتخذوا قرارهم بأنهم لن يقوموا بأي تفجير في لندن ما دامت إنجلترا تشكل لهم ملاذا ومأوى.
صاح سيمكنز في غضب: «لكن انظروا إلى ميدان ترافلغار؛ فلا يسمح لنا بالاجتماع هناك.»
فقال رئيس الجلسة: «ومن يريد الاجتماع هناك؟ إن الاجتماع في هذه الغرف يوفر لنا قدرا أكبر من الراحة ، كما أنه لا توجد جعة في ميدان ترافلغار.» وقال بضعة أعضاء آخرين: «أجل، أجل. لم يحن الوقت لذلك بعد.» وهكذا هدءوا من حماسة سيمكنز، وسمح بصب الجعة مرة أخرى في هدوء، في حين أن واحدا من دعاة اللاسلطوية الأجانب، والذي لم يكن مسموحا له بأن تطأ قدمه أرض بلاده، كان يقف متحدثا بإنجليزية ركيكة عن الأشياء الرائعة التي يمكنهم القيام بها باستخدام الديناميت.
لكن عندما أرسل سيمكنز استقالته تغيرت نظرتهم إليه، ورأى في الحال أنه صار مشتبها به. وقد نصحه رئيس الجلسة هامسا بأن يسحب استقالته. ومن ثم، وقف سيمكنز الفطن متفهما حدة طباع الجمع وقال: «لا نية لدي للاستقالة، لكنكم لا تفعلون شيئا سوى الكلام، وأريد أن أنتمي إلى جمعية لا سلطوية تطبق مقولة «أفعال لا أقوال».» ولم يحضر الاجتماع التالي لذلك، وحاول أن يتخلص منهم بهذه الطريقة، لكن زارته إحدى لجان المنظمة في مسكنه، وظنت مالكة المنزل أن سيمكنز الشاب قد تورط في أمور سيئة حين رأت أولئك الرجال ذوي المظهر الخبيث الماكر وهم يزورونه.
وضع سيمكنز في مأزق، ولم يستطع أن يتخذ قرارا بشأن ما يتوجب عليه أن يفعل. وبات واضحا أنه لن يستطيع التخلص من مجموعة اللاسلطويين هؤلاء. فعاد إلى رئيس التحرير طالبا مشورته بشأن الوضع، لكن لم يستطع هذا الرجل أيضا أن يجد أي مخرج من هذا المأزق.
فقال له: «كان عليك أن تكون أذكى من ذلك، بدلا من الانخراط مع أولئك الأشخاص.»
سأله سيمكنز في سخط وغضب: «ولكن أنى لي الحصول على الأخبار؟» فهز رئيس التحرير كتفيه. ولم يكن هذا الأمر يعنيه؛ ولو أن اللاسلطويين اختاروا أن يعكروا صفو حياة الشاب، فليس ثمة ما يسعه فعله.
وكان زميل سيمكنز في السكن طالبا يدرس الكيمياء في لندن، ولاحظ أن الصحفي قد أصبح هزيلا واهنا من الجزع.
قال له سيدليتز ذات صباح: «تبدو منهكا ومهموما يا سيمكنز، ما خطبك؟ هل أصابك سهم العشق، أم أن هناك دينا يثقل كاهلك؟»
فأجابه سيمكنز: «لا هذا ولا ذاك.»
قال سيدليتز: «ابتهج إذن. إن كان لا هذا ولا ذاك، فأي شيء آخر من السهل علاجه.»
أدركه سيمكنز: «لست واثقا من ذلك.» ثم جلس وأخبر صديقه ما كان يزعجه.
قال سيدليتز: «آه، هذا يفسر ما رأيت إذن. كان هناك همجي أشعث يتجول في الأرجاء ويراقب المنزل. إنهم يتتبعونك يا صديقي وحين يكتشفون أنك صحفي ومن ثم خائن، فقد يقبضون عليك في إحدى الليالي المظلمة.»
قال سيمكنز وقد دفن رأسه بين يديه: «كم هذا مشجع.»
سأله سيدليتز: «هل يتسم هؤلاء اللاسلطويون بالشجاعة، وهل هم على استعداد للمخاطرة بحياتهم في سبيل أي شيء؟» «أوه، لا أعلم. إنهم يتحدثون كثيرا، لكنني لا أعلم ما يمكن لهم القيام به. لكن يمكنهم فعلا القبض علي في أحد الأزقة المظلمة.»
قال سيدليتز: «اسمع، لنفترض أنك ستسمح لي بتجربة إحدى الخطط. دعني أحاضرهم عن كيمياء اللاسلطوية. إنه موضوع جذاب.» «وما النفع الذي قد يعود من ذلك؟» «أوه، انتظر حتى تسمع المحاضرة. إذا لم أجعل شعر بعضهم ينتصب رعبا، فإنهم عندئذ أشجع مما نتخيل. لدينا حجرة كبيرة في حانة كليمنت، حيث نتقابل نحن الطلاب لأداء بعض التجارب ولتدخين التبغ. إن نصف المكان ناد، ونصفه قاعة محاضرات. والآن أقترح أن نحضر هؤلاء اللاسلطويين إلى هناك، وأن نوصد الأبواب، وأن نخبرهم شيئا عن الديناميت وغيره من أنواع المتفجرات. وستقول أنت إنني أمريكي من دعاة اللاسلطوية. أخبرهم أن الأبواب ستوصد لمنع دخول الشرطة، وأنه سيكون هناك برميل من الجعة. ويمكنك أن تقدمني بصفتي رجلا من أمريكا حيث يعرفون هناك عن اللاسلطوية في عشر دقائق ما يعرفونه عنها هنا في عشر سنوات. وأخبرهم أنني قضيت حياتي في دراسة المتفجرات، وسيكون علي أن أضع بعض المساحيق على سبيل التنكر، لكنك تعرف أنني ممثل هاو ضليع، ولا أعتقد أنه ستكون هناك مشكلة في هذا الشأن. وفي النهاية عليك أن تخبرهم أن لديك موعدا وأنك ستتركني لأذهلهم لبضع ساعات.»
قال سيمكنز: «لكنني لا أرى نفعا من كل ذلك، وإن كنت قد أصابني اليأس وعلى استعداد لفعل أي شيء. لقد فكرت في تفجير نفسي في أحد اجتماعاتهم.»
وحين حل مساء يوم الجمعة الذي سيعقد فيه الاجتماع، امتلأت القاعة الكبرى في حانة كليمنت عن آخرها. ورأى المجتمعون هناك منصة في أحد أطراف المكان، وبابا يؤدي منها إلى حجرة في مؤخرة القاعة. وكانت هناك طاولة على المنصة، وعليها صناديق وأجهزة كيميائية وأدوات علمية أخرى. وفي تمام الساعة الثامنة، ظهر سيمكنز الشاب واقفا وحده أمام الطاولة وقال: «زملائي اللاسلطويين، أنتم تعرفون جيدا أنني سئمت الأحاديث الكثيرة التي نخوض فيها، وسئمت كذلك قلة ما نأتي به من أفعال بعدها. وكنت محظوظا بما يكفي لأن أحصل على تعاون أحد دعاة اللاسلطوية الأمريكيين، الذي سيحدثكم عن تلك القضية هناك. لقد أوصدنا الأبواب، والأشخاص الذين يحتفظون بالمفاتيح يجلسون الآن بالأسفل أمام مدخل الحانة، حتى يستطيعوا إخراجنا بسرعة إذا ما وقع حريق. لا يوجد خطر كبير من اندلاع حريق، بيد أننا ينبغي أن نحصن أنفسنا جيدا من تدخل الشرطة ومقاطعتها. والنوافذ - كما ترون - مغلقة ومزودة بقضبان، ولا يمكن لشعاع ضوء أن ينفذ من هذه الغرفة إلى الخارج. وحتى تنتهي المحاضرة، لا أحد بوسعه أن يغادر الغرفة، كما أن لا أحد بوسعه الدخول إليها، وهذا إمعانا في تحقيق الغرض.
لقد كرس صديقي البروفيسور جوزايا بي سليفرز حياته لدراسة كيمياء اللاسلطوية، وهذا هو عنوان المحاضرة اليوم. وسيخبركم عن بعض الاكتشافات المهمة، التي سيكشف عنها الآن لأول مرة. ويؤسفني أن أقول إن البروفيسور ليس في حالة صحية جيدة جدا؛ وذلك بسبب السلبيات والعوائق التي تعتري خط الحياة الذي انتهجه. لقد فقد عينه اليسرى في انفجار سابق لموعده أثناء إجرائه بعض التجارب. كما أنه أصيب بإعاقة مستديمة في ساقه اليمنى. وستلاحظون أن ذراعه اليسرى معلقة في حمالة كتف، وذلك جراء إصابته في حادثة صغيرة وقعت في مختبره حين قدم إلى لندن. وكما سترون، فإنه رجل كرس روحه وجسده لخدمة القضية؛ ولذا آمل أن تنصتوا إليه جيدا وتعيروه آذانا مصغية. ويؤسفني أنني لن أتمكن من البقاء معكم الليلة؛ وذلك لأنني مشغول بمهام أخرى ملحة يتوجب علي القيام بها. ومن ثم إذا سمحتم لي، فسأغادر من المدخل الخلفي بعد أن قدمت البروفيسور إليكم.»
في تلك اللحظة سمع صوت وقع قدم خشبية، ورأى الحضور أمامهم رجلا يسير بعكاز، وإحدى ذراعيه معلقة في حمالة كتف ويلف إحدى عينيه بضمادة، وقد نظر إليهم بعينه الأخرى بود.
قال سيمكنز: «زملائي اللاسلطويين، اسمحوا لي أن أقدم لكم البروفيسور جوزايا بي سليفرز من الولايات المتحدة.»
وهنا انحنى البروفيسور وصفق الحضور. وبمجرد أن بدأ التصفيق، رفع البروفيسور ذراعه السليمة وقال: «أيها السادة، أستميحكم عذرا ألا تصفقوا.»
فيما يبدو، جرى العرف في أمريكا على مخاطبة جميع الرجال من كل الفئات والأنواع ب: «أيها السادة.»
وأكمل البروفيسور حديثه: «في حوزتي بعض المتفجرات الشديدة الحساسية للغاية حتى إنها لتنفجر عند أقل اهتزاز؛ ولذا فإنني أطلب منكم أن تستمعوا في صمت إلى ما سأقول. وعلي أيضا أن أطلب منكم تحديدا ألا تضربوا الأرض بأقدامكم.»
وقبل أن يختتم البروفيسور كلامه، كان سيمكنز قد انسل خارجا من المدخل الخلفي، وبطريقة ما خلف فراره هذا تأثيرا مكدرا على الرفاق الذين نظروا إلى البروفيسور المبتلى بعيون يملؤها العجب والتوجس.
سحب البروفيسور نحوه أحد الصناديق وفتح غطاءه. ثم وضع يده السليمة في الصندوق ورفعها وترك شيئا مثل نشارة الخشب المبللة ينسل من بين أصابعه وقال في ازدراء شديد: «هذا أيها السادة هو ما يعرفه العالم باسم الديناميت. ولا شيء لدي أقوله ضده. ففي عصره كان الديناميت وسيلة فعالة للغاية لتوصيل أصواتنا إلى آذان العالم أجمع، إلا أن عصره هذا قد ولى وانقضى. إنه الآن مثل العربة التي تجرها الجياد في مقابل القطار، أو مثل الخطابات في مقابل البرقيات، أو مثل السفينة الشراعية في مقابل السفينة البخارية. وسيكون من دواعي سروري الليلة أن أقدم لكم مادة متفجرة شديدة القوة والفتك، وبعدما ترون ما يمكن أن تفعله تلك المادة لن يسعكم سوى الاستهزاء بالمركبات البسيطة وغير الضارة كالديناميت والنتروجلسرين.»
ثم نظر البروفيسور إلى الحضور أمامه في تعاطف ولطف بينما كان الخليط الأصفر ينسل ببطء من بين أصابعه إلى الصندوق مرة أخرى. ثم راح البروفيسور يكرر تلك الحركة مرات ومرات.
وتبادل أنصار اللاسلطوية الموجودون في الغرفة فيما بينهم نظرات تنم عن القلق والاضطراب.
ثم استطرد البروفيسور قائلا: «لكن، سيكون من المفيد لنا أن ننظر في أمر هذه المادة لبضع دقائق، وذلك بغرض المقارنة ليس إلا.» ثم قال وهو يدس يده في صندوق آخر ويخرج أمام أعينهم حجرا أصفر اللون: «هاك هو الديناميت في صورته المنضغطة. يوجد هنا ما يكفي لتدمير هذا الجزء من مدينة لندن. يمكن لهذا الحجر الصغير أن يحول كاتدرائية القديس بولس إلى خراب؛ ولذا مهما بدا أن الديناميت قد عفا عليه الزمن، فعلينا دوما أن ننظر إليه بإجلال واحترام، تماما كما ننظر إلى المصلحين من القرون السابقة الذين هلكوا في سبيل إعلاء آرائهم، وإن كانت آراؤهم اليوم متأخرة كثيرا عن ركب آرائنا الآن. وسأسمح لنفسي بإجراء بعض التجارب باستخدام حجر الديناميت هذا.» وبقوله هذا، أمسك البروفيسور بحجر الديناميت بيده السليمة وأطاح به على طول الممر حيث سقط على الأرض فأصدر صوتا مكتوما بغيضا. فوثب الحضور كل عن مقعده وتراجعوا للخلف بعضهم فوق بعض. وانطلقت في الهواء صرخات الذعر، لكن البروفيسور نظر في هدوء إلى الجمع المضطرب أسفل منه وعلت وجهه ابتسامة شامخة وقال: «أستميحكم عذرا أن تعودوا إلى مقاعدكم، ولأسباب شرحتها لكم بالفعل، أثق أنكم لن تستحسنوا أيا مما أقول لكم. لقد جسدتم الآن إحدى الخرافات الشهيرة بشأن الديناميت، وقد برهنتم بأفعالكم هذه كيف أن هذه المحاضرة مهمة للغاية للوصول إلى استيعاب أفضل من جانبكم للمادة التي عليكم التعامل معها. إن هذا الحجر غير ضار بالمرة؛ لأنه مجمد. إن الديناميت في حالته المجمدة لا ينفجر، وهي حقيقة يعرفها جيدا من يعملون في المناجم وجميع من يتعاملون معه، والذين يفضلون بصفة عامة تفجير أنفسهم إلى أشلاء في محاولة إذابة الثلج عن هذه المادة أمام اللهب. هلا أحضرتم لي هذا الحجر من فضلكم، قبل أن يذوب الثلج عنه بفعل حرارة الغرفة؟»
تقدم أحد الرجال بحذر شديد وحمل الحجر وهو يمسك به بعيدا عن جسده، وسار على أطراف أصابعه نحو المنصة ووضعه بحذر شديد على المكتب أمام البروفيسور.
قال البروفيسور بنبرة لطيفة: «شكرا لك.»
شهق الرجل شهيقا عميقا ينم عن شعوره بالارتياح بينما كان يعود إلى مقعده.
واستطرد البروفيسور قائلا: «هذا هو الديناميت المجمد، وهو كما قلت غير ضار من الناحية العملية. والآن، سيكون من دواعي سروري أن أجري أمامكم تجربتين مذهلتين على الديناميت وهو غير مجمد.» وحين انتهى من هذه الجملة قبض على حفنة من الغبار المبلل الأشبه بنشارة الخشب ورشه على سندان صغير من الحديد كان موضوعا على الطاولة. وقال: «ستستمتعون بهذه التجارب؛ لأنها ستريكم كم من السهل التعامل مع الديناميت. ومن الأخطاء الشائعة أن الديناميت ينفجر بفعل الصدمات. يوجد ما يكفي من الديناميت هنا لتدمير هذه القاعة وإرسال كل من فيها إلى غياهب النسيان، لكنكم سترون بأنفسكم إن كانت الصدمات تؤدي إلى تفجير الديناميت أم لا.» ثم أمسك البروفيسور بمطرقة وهوى على المادة الموجودة على السندان مرتين أو ثلاثا، في حين وثب من هم أمامه من مقاعدهم واندفعوا بعنف تجاه زملائهم من خلفهم، وقد سرت القشعريرة في أجسادهم. توقف البروفيسور عن طرقه وحدق فيهم بنظرة فيها توبيخ لهم، ثم بدا أن شيئا على السندان قد جذب انتباهه. فانحنى عليه وراح ينظر بدقة إلى سطحه الحديدي. ثم انتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «كنت على وشك أن أوبخكم على ما قد يبدو لأي رجل آخر دليلا على الخوف، لكنني أدركت خطئي. كنت على وشك أن أرتكب خطأ فادحا. لقد عانيت بنفسي بين الحين والآخر من أخطاء مشابهة. لقد لاحظت على السندان بقعة شحم صغيرة، ولو تصادف أن طرقت على تلك البقعة بالمطرقة لكنتم جميعا الآن تتلوون في سكرات الموت تحت أطلال هذه البناية. لكن لن يمر الدرس المستفاد هنا مرور الكرام. إن بقعة الشحم تلك هي من النتروجلسرين الحر الذي نضح به الديناميت. وربما كان هذا هو مصدر الخطر الوحيد في التعامل مع الديناميت. وكما أوضحت لكم، يمكنكم أن تسحقوا الديناميت على سندان دون خطورة، ولكن إذا تصادف أن وقعت المطرقة على بقعة من النتروجلسرين الحر، فسينفجر الديناميت في لحظة. وأستميحكم عذرا أن تغفروا لي إهمالي اللحظي العابر.»
هنا نهض رجل في منتصف القاعة، ومر بعض الوقت قبل أن يستجمع شتات نفسه ليتحدث، ذلك أنه كان ينتفض وكأنه مصاب بالشلل. وفي النهاية، قال بعد أن بلل شفتيه بلسانه عدة مرات: «أيها البروفيسور، إننا نتوق إلى أن نستمع إلى ما لديك حيال تلك المادة المتفجرة. وأعتقد أنني أتحدث باسم زملائي ورفاقي جميعا هنا. إننا ليس لدينا أدنى شك حيال ما تعلمنا إياه، ونود كثيرا أن نستمع إلى ما سوف تقول عن موضوع المحاضرة، ولا نريد منك إهدار المزيد من الوقت الثمين على التجارب. إنني لم أستشر زملائي قبل حديثي هذا، لكنني أعتقد أنني أنطق هنا بصوت المنطق لديهم.» فدوت صيحات «هذا صحيح، حقا.» في جميع أرجاء القاعة. فنظر إليهم البروفيسور مرة أخرى بنظرة ود وامتنان.
وقال لهم: «ثقتكم في مؤثرة بالفعل، لكن إلقاء محاضرة كيميائية من دون إجراء التجارب هي كجسد من دون روح. إن التجارب هي روح البحث العلمي. ويتعين علينا في مجال الكيمياء ألا نسلم بأي شيء جدلا. لقد أريتكم كيف أن الكثير من الأخطاء الشائعة قد ظهرت فيما يتعلق بالمادة التي نتعامل معها. وما كان من الممكن إبراز كل تلك الأخطاء الشائعة لو أن كل شخص قد أدى التجارب بنفسه؛ وعلى الرغم من أنني أشكركم على ثقتكم التي منحتموني إياها، فإنني لا أستطيع أن أحرمكم المتعة التي ستحصلون عليها من إجراء تجاربي. وهناك خطأ شائع آخر مفاده أن النار تؤدي إلى تفجير الديناميت. وهذا ليس بصحيح أيها السادة.»
أشعل البروفيسور عود ثقاب على بنطاله وأشعل المادة الموجودة على السندان. فاحترقت المادة بلهب أزرق شاحب، وراح البروفيسور ينظر إلى الرفاق اللاسلطويين حوله في نظرات تنم عن انتصاره.
وفيما كان الجمهور المرتعد يشاهد اللهب الأزرق الباهت في انفعال شديد، انحنى البروفيسور فجأة ونفخ فيه فأطفأه. فانتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «ينبغي لي أن أعتذر إليكم؛ لأنني نسيت أمر بقعة الشحم الصغيرة. لو أن النار وصلت إلى بقعة النتروجلسرين لانفجرت المادة، كما تعلمون. إن المرء حين يركز تفكيره على أمر بعينه، فإنه يكون عرضة لنسيان أمر آخر. لن أجري مزيدا من التجارب على الديناميت.» ثم قال موجها حديثه إلى مرافقه المرتعش: «هاك يا جون. خذ هذا الصندوق بعيدا، وحركه بحرص شديد؛ لأنني أرى أن النتروجلسرين ينضح منه. وضعه بحرص بالغ في الغرفة المجاورة وكأنك تضع صندوقا من البيض.»
وعندما توارى الصندوق عن أعين الحضور، راح الجميع يتنفسون الصعداء في أنفاس شهيق عميقة تنم عن شعورهم بالارتياح.
ثم قال البروفيسور: «والآن أيها السادة، نأتي إلى المادة التي ستذهل أولي الألباب.» وعدل شعره براحة يده السليمة في حركة تنم عن شعوره بالرضا عن نفسه وراح يبتسم لمن حوله ابتسامات لطيفة. «إن المادة التي أنا على وشك أن أحدثكم عنها هي من اختراعي، وهي للديناميت كشرب حمض البروسيك في مقابل شرب الحليب الطازج.» ثم دس البروفيسور يده في جيب سترته وأخرج ما بدا وكأنه علبة من الحبوب. ثم أخذ حبة منها ووضعها على السندان وبينما تراجع إلى الخلف بضع خطوات على أطراف أصابعه راح يبتسم لها في حنو بالغ. «وقبل أن أبدأ بالحديث عن هذه المادة أريد أن أحذركم مرة أخرى من أنها ستنفجر وستحول لندن من هنا حتى تشارينج كروس إلى خراب وأطلال، وهذا إذا ما ضرب أي امرئ بقدمه على الأرض أو تحرك من مكانه، اللهم إلا إذا كان ذلك على أطراف قدميه. لقد قضيت عشرة أعوام من حياتي في إتمام هذا الاختراع. إن هذه الحبوب التي تساوي العلبة منها الملايين في مقدورها أن تشفي كل الآلام التي يعاني منها الإنسان.»
ثم قال وهو يلتفت نحو مرافقه: «أحضر لي يا جون حوضا من الماء!» ثم وضع حوض الماء أمامه على الطاولة في حذر شديد، وأفرغ البروفيسور كل الحبوب فيه ، ثم أخذ أيضا الحبة التي كانت على السندان ووضعها في الماء مع الأخريات.
ثم قال بعد أن تنهد تنهيدة عميقة: «والآن، يمكننا أن نلتقط أنفاسنا. يمكن أن يضع المرء إحدى هذه الحبوب في قنينة ماء صغيرة، ويضع القنينة في جيب سترته، ويذهب إلى ميدان ترافلغار ويخرج الحبة من القنينة، ويرمي بها في منتصف الميدان وستدمر كل شيء في نطاق دائرة نصف قطرها أربعة أميال، وسيحصل هو بنفسه على شرف الاستشهاد في سبيل القضية. وقد أخبرني الناس أن هذا هو أحد سلبيات اختراعي، لكنني أميل إلى الاختلاف معهم في الرأي. إن من يستخدم هذه الحبة لا بد أن يعقد عزمه على مشاركة من هم حوله في مصائرهم. ويمكنني القول إن هذا هو التتويج العظيم لاختراعي. فهذا الاختراع يضع اهتمامنا بقضيتنا العظيمة موضع اختبار لحظي. أحضر لي يا جون بحذر شديد الآلة ذات الوصلات الكهربائية من الغرفة المجاورة.»
وضعت الآلة على الطاولة، وقال البروفيسور وهو يمسك بشيء خفي بين طرفي إصبعيه السبابة والإبهام: «هذه هي أدق إبرة مصنوعة من خامة الكامبريك، وسأضع على طرفها جزءا ضئيلا من المادة التي تحدثت عنها.» وهنا انتقى بحذر شديد حبة من الحبوب الموجودة في حوض الماء، وبنفس درجة الحذر وضع الحبة على الطاولة حيث أخذ منها ذرة متناهية الصغر ووضعها على طرف الإبرة وقال: «هذا الجزء ضئيل للغاية بحيث لا يمكن رؤيته إلا باستخدام المجهر. والآن سأضع الإبرة وما عليها في الآلة وسأمرر إليها تيارا كهربيا.» وبينما كانت يده تتجه نحو زر التشغيل تعالت صيحات الجمهور قائلين: «توقف! توقف!» لكنه حط بإصبعه على الزر فوقع انفجار هائل في الحال. شعر الحضور أن البناية اهتزت من أساسها، وتكونت سحابة كثيفة من الدخان في سماء القاعة فوق رءوسهم. وحين تمكن البروفيسور من الرؤية مرة أخرى من خلال الدخان المنقشع، نظر حوله باحثا عن جمهوره. كان الجميع تحت المقاعد، وجاءت تأوهاتهم من جميع أرجاء القاعة. فقال البروفيسور بنبرة تنم عن القلق: «آمل أن أحدا لم يتأذ. أخشى أنني أخذت الكثير من المادة على طرف الإبرة، لكن هذا يجعل في مقدوركم تخيل التأثير الذي تحدثه كمية أكبر منها. من فضلكم اجلسوا في مقاعدكم مرة أخرى. هذه هي تجربتي الأخيرة.»
جلس الجمهور كل في مكانه مرة أخرى، فأطلق الجميع تنهيدة ارتياح أخرى. سحب البروفيسور كرسي رئيس المجلس نحوه وجلس فيه وهو يمسح جبهته.
وفي الحال نهض رجل وقال: «أود أن نشكر جميعا البروفيسور سليفرز على تلك التجارب الشيقة.»
رفع البروفيسور يده وقال: «لحظة واحدة، لم أنته بعد. لدي اقتراح أقدمه لكم. أترون سحابة الدخان التي تحلق فوق رءوسنا؟ في غضون عشرين دقيقة سيترشح هذا الدخان ويختلط بجو القاعة. أنا لم أخبركم إلا بنصف مزايا هذا الانفجار الهائل. حين يختلط هذا الدخان بجو القاعة سيصبح سما قاتلا. يمكننا جميعا أن نظل على قيد الحياة في أمان تام على مدى التسع عشرة دقيقة القادمة، ولكننا سنموت جميعا مع أول نفس نستنشقه بعد ذلك. إنها لميتة مريحة. لن يكون هناك ألم، ولن تكون هناك معاناة أثناء الموت، غير أنهم سوف يعثرون علينا في الصباح متصلبين وجامدين في مقاعدنا. إنني أقترح أيها السادة أن نعلم لندن الدرس المهم الذي تحتاج إليه بشدة. لا توجد قضية بلا شهداء يبذلون أرواحهم في سبيلها. لنكن نحن شهداء قضية اللاسلطوية العظيمة. لقد تركت في حجرتي أوراقا توضح كيف متنا وأسباب ذلك. وستوزع هذه الأوراق بحلول منتصف الليل على كل الصحف في لندن، وغدا ستذاع أسماؤنا النبيلة في كل أرجاء العالم. والآن سأطرح هذا الاقتراح إلى التصويت. فليرفع كل من يؤيده يده اليمنى كالمعتاد.»
وكانت يد البروفيسور اليمنى هي اليد الوحيدة المرفوعة.
قال البروفيسور: «والآن كل من لديه رأي معارض ...» وهنا رفع الجميع يده.
قال البروفيسور: «إذن ربح المعارضون.» لكنه لم يكن يبدو عليه أي استياء حيال ذلك. فاستطرد قائلا: «أيها السادة، أرى أنكم خمنتم اقتراحي الثاني - كما تخيلت أنكم ستفعلون - وعلى الرغم من أنه لن تكون هناك صحف في لندن بحلول الغد لكي تسجل ما حدث، فإن صحف العالم أجمع ستقص أنباء تدمير هذه المدينة اللعينة. أرى من النظرة التي تعتلي وجوهكم أنكم تؤيدونني في هذا. إن اقتراحي الثاني - وهو من أكثر الأمور التي خطط لها بطشا - هو أن نفجر كل تلك الحبوب الموجودة في الحوض. ولكي نحرص على ذلك، فقد أرسلت إلى عميل في مدينة مانشستر القصة الكاملة لكل ما دار هنا، وكذلك القرارات التي خرجنا بها من هذا الاجتماع، والتي ستقبلونها بلا أدنى شك.
أيها السادة، فليعبر كل من يؤيد تدمير لندن عن ذلك بالطريقة المعتادة.»
قال الرجل الذي كان قد تحدث سابقا: «أيها البروفيسور، قبل أن تضع هذا القرار موضع تصويت أريد أن أقترح تعديلا. هذا اقتراح في غاية الجدية والخطورة وينبغي عدم التعامل معه باستهانة. ولذا فإنني أقترح كتعديل أن نرجئ هذا الاجتماع ونعقده في مقرنا في سوهو، وأن ننفذ التفجير من هناك. كما أن لدي عملا بسيطا يجب أن أنجزه قبل أن نشرع في تنفيذ هذا المشروع الضخم.»
قال البروفيسور حينها: «أيها السادة، يأخذ هذا التعديل الأولوية. لقد تقرر إرجاء هذا الاجتماع حتى يمكنكم دراسة المشروع في مقركم في سوهو.»
قال خمسة عشر رجلا من الحضور وهم يهبون واقفين على أقدامهم: «وأنا أؤيد هذا التعديل.»
قال البروفيسور: «وفي غياب رئيس المجلس الدائم، من واجبي أن أضع التعديل موضع تصويت. كل من يؤيد هذا التعديل يرفع يده اليمنى.»
فرفع الجميع يده. «أيها السادة، موافقة بتمرير التعديل. يسرني جدا أن ألقاكم غدا مساء في مقركم، وسأحضر معي كمية أكبر من متفجراتي. فضلا يا جون، اذهب وأخبر الرجل أن يفتح الأبواب.»
وحين ذهب سيمكنز وسليفرز في مساء اليوم التالي إلى مقر الاجتماع الدائم لأنصار اللاسلطوية، لم يجدوا أي إشارة على وجود اجتماع من أي نوع، ومنذ تلك المحاضرة لم تعقد منظمة سوهو اللاسلطوية أي اجتماع لها، فقد انحلت على نحو غامض.
الخوف
كان البحر قد اكتفى منه. وكان هو قد كافح بكل ما أوتي من جهد لينقذ نفسه، لكن الإجهاد تمكن منه في النهاية، وبعد أن أدرك عبثية المزيد من النضال، استسلم وتخلى عن المقاومة. فجاءت أعلى موجة في البحر - وهي الموجة الأعتى في ذلك التسلسل الصاخب العنيف الذي ينطلق من الحطام وحتى الشاطئ - وأخذته في قبضتها القاسية ورفعته إلى السماء لحظة وقلبته رأسا على عقب، وقذفت به بعنف على الرمال غائبا عن الوعي، وفي النهاية دحرجته مرات ومرات ككائن عاجز لا حول له ولا قوة حتى ألقت به على الشاطئ الرملي.
تبدو الحياة البشرية غير ذات أهمية حين نفكر في الأشياء البسيطة التي تلعب دورا فارقا في هلاك المرء وفنائه أو نجاته واستمرار حياته. فلو كانت الموجة التي حملت ستانفورد أقل ارتفاعا، لكان قد سحب إلى البحر مرة أخرى بفعل الموجة التي تليها. ولو أن عدد المرات التي انقلبها - ككائن عاجز لا حول له ولا قوة - قد زاد مرة واحدة أو نقص لكان قد ارتطم بوجهه في الرمال ولقي حتفه في الحال. ولكن، ما حدث أنه يرقد الآن على ظهره وذراعاه ممتدتان إلى جانبيه، وفي إحدى قبضتيه حفنة من الرمال تتسلل من بين أصابعه. كانت الأمواج المتلاحقة أحيانا ما تمسه، لكن البحر تركه وشأنه، حيث يرقد ووجهه الأبيض في مقابل السماء.
ليس للإغماء تقويم زمني؛ فهو حالة تستوي فيها اللحظة والأبدية. وحين عاد إليه وعيه شيئا فشيئا، لم يكن يعرف ولا يهتم بمعرفة كيف مر عليه الوقت. لم يكن واثقا إلى حد كبير إن كان على قيد الحياة، لكن الوهن - وليس الخوف - هو ما منعه أن يفتح عينيه ليكتشف ما إذا كان العالم الذي سيبصره بهما هو العالم نفسه الذي كان قد أغمضهما عليه لآخر مرة. لكن ما جذب انتباهه سريعا هو صوت يتحدث الإنجليزية. كان ستانفورد لا يزال في حالة من الدوار الشديد حتى إنه لم يتمكن من التفكير في الأمر، ونذكر أيضا أنه كان قد انجرف إلى جزيرة مجهولة في البحار الجنوبية، لكن مغزى ما سمعه من كلام أذهله. «لنكن شاكرين. لا شك أنه قد مات.» كان هذا هو ما قيل بنبرة تنم عن شعور كبير بالارتياح.
ثم بدا أن هناك غمغمة تنم عن السرور إزاء إعلان هذا، وكانت تلك الغمغمة صادرة عن أناس برفقة المتحدث. فتح ستانفورد عينيه ببطء، متسائلا في نفسه من هؤلاء الهمجيون المسرورون لوفاة غريب انجرف على شواطئهم ولم يمسسهم بسوء. ثم رأى جمعا من الناس يقفون حوله، لكن انتباهه تحول بسرعة وأصبح منصبا على وجه واحد. في رأيه أن صاحبة ذلك الوجه لم تكن تتخطى حاجز التسعة عشر عاما، وكان وجهها هو أجمل وجه وقعت عليه عيناه يوما، أو على الأقل هكذا بدا لستانفورد في تلك اللحظة. كان الوجه يحمل تعبيرات تدل على السرور الفاتن وذلك حتى التقت عيناها بعينيه، هنا تلاشت البهجة على وجهها وحلت مكانها نظرة فزع. بدت الفتاة وكأنها تلتقط أنفاسها في حالة من الهلع، وملأت الدموع مقلتيها.
وقالت وهي تبكي: «أوه، سينجو.»
وغطت وجهها بيديها وراحت تنشج.
أغلق ستانفورد عينيه من شدة الإجهاد وقال في نفسه: «لا بد أنني فقدت صوابي.» ثم بعد أن فقد إيمانه بواقعية ما يحدث حوله، فقد وعيه أيضا، وحين استرد وعيه مجددا وجد نفسه يرقد على سرير في حجرة نظيفة لكنها لا تحتوي على الكثير من الأثاث. ومن النافذة المفتوحة تنامى إلى سمعه صوت زمجرة البحر وأيقظ صوت تلاطم الأمواج العنيفة الصاخبة في ذهنه ذكرى ما مر به. كان يعلم أن تحطم السفينة وصراعه وسط الأمواج هما حدثان حقيقيان قد وقعا له، لكنه كان يعتقد الآن أن ما دار على الشاطئ لم يكن سوى وهم من نسج خياله بسبب الحالة التي كان عليها وقتئذ.
ثم فتح الباب في هدوء، وقبل أن يدرك دخول أحد، كانت هناك ممرضة ذات وجه هادئ تقف إلى جوار سريره وتسأله عن حاله. «لا أدري. على الأقل أنا على قيد الحياة.»
تنهدت الممرضة وأشاحت بعينيها. تحركت شفتاها لكنها لم تنطق بشيء. نظر إليها ستانفورد في فضول، وتسلل إليه شعور بالخوف من أنه سيظل معاقا لبقية حياته، وأنه يفضل الموت على العيش في حالة من الإعاقة التامة . شعر أنه مرهق على الرغم من أنه لم يكن يتألم، لكنه كان يعلم أنه كلما زادت بشاعة الإصابة واستعصاؤها على الشفاء كان شعور المصاب بها أقل في البداية.
فسألها: «هل كسرت أي من عظامي، هلا أخبرتني؟» «لا، أنت مصاب بكدمات، لكن إصابتك ليست بالغة. ستتعافى عما قريب.»
قال ستانفورد وقد أطلق تنهيدة تنم عن الارتياح: «آه!» ثم أضاف في اهتمام مفاجئ: «بالمناسبة، من تلك الفتاة التي كانت تقف إلى جانبي حينما كنت أرقد على الشاطئ؟» «كان هناك عدة فتيات.» «لا، لم يكن هناك سوى واحدة. أقصد تلك الفتاة صاحبة العيون الجميلة وهالة الشعر التي تعلو رأسها وكأنها تاج ذهبي مجيد.»
قالت الممرضة بنبرة حادة: «نحن لا نتحدث عن نسائنا بهذه الطريقة. ربما تقصد روث، صاحبة الشعر الأصفر الكثيف.»
ابتسم ستانفورد وقال: «الكلمات لا تهم كثيرا.»
فأجابته الممرضة: «لا بد أن نكون معتدلين في كلامنا.» «يمكننا أن نكون معتدلين من دون أن نقلع إقلاعا تاما عن الغزل. كان أصفر وكثيفا بالفعل! لقد راودني حلم سيئ بخصوص من وجدوني. اعتقدت أنهم ... لكن ذلك لا يهم. على الأقل، ليست الفتاة من نسج خيالي. هل تعرفين ما إذا كان هناك ناجون آخرون؟» «أشعر بالامتنان لأن أخبرك بأن الجميع قد غرقوا.»
انتفض ستانفورد والذعر في عينيه. فمنعته الممرضة الرزينة بنبرة رقيقة ودية لكيلا يرهق نفسه، فغاص مرة أخرى في وسادته.
ثم صاح بنبرة واهنة: «اخرجي من الغرفة. اتركيني، اتركيني.» ثم أشاح بوجهه تجاه الحائط، فيما غادرت المرأة الغرفة في صمت كما دخلتها.
انسل ستانفورد من السرير حين خرجت المرأة، عازما أن يذهب إلى الباب ليوصده. كان يخشى من أن أولئك الهمجيين الذين يتمنون موته سيتخذون التدابير ليقتلوه حين يرون أنه سيتعافى. وبينما كان يتكئ على السرير، لاحظ أن الباب ليس به قفل. كان هناك مزلاج ضعيف لكن لا يوجد به قفل أو لسان. وكان أثاث الغرفة عثا غير متقن الصنع. فترنح باتجاه النافذة المفتوحة وأطل منها إلى الخارج، فهبت عليه بقايا تلك العاصفة المشئومة وبثت فيه روحا جديدة، كما كانت من قبل تنذره بالموت. ورأى أنه كان في قرية تتكون من أكواخ صغيرة، وكل كوخ مشيد على قطعة من الأرض خاصة به. كان من الواضح أن القرية تتكون من شارع واحد، وعلى أسطح الأكواخ المواجهة له رأى في الأفق أمواج البحر البيضاء. ولكن ما استرعى اهتمامه أنه رأى كنيسة ذات قمة مستدقة في نهاية ذلك الشارع، كنيسة خشبية كالتي رآها في المستوطنات الأمريكية النائية. كان الشارع خاليا من المارة، ولم تكن هناك أي إشارة على وجود حياة في تلك الأكواخ.
قال في نفسه: «لا بد أنني سقطت في مستعمرة من المختلين. ترى إلى أي بلد ينتمي هؤلاء؟ أتصور أنهم ينتمون إلى إنجلترا أو الولايات المتحدة، وإن كنت لم أسمع قط بمثل هذا المجتمع في أسفاري.»
لم تكن هناك مرآة في الحجرة، فكان من المستحيل أن يعرف الهيئة التي يبدو عليها. وكانت ملابسه جافة وبها بعض الملح. فعدل ملابسه قدر ما أمكنه، وانسل من المبنى من دون أن يلحظه أحد. وحين وصل إلى ضواحي القرية وجد أن ساكنيها من الرجال والنساء يعملون في الحقول على مسافة بعيدة. وكانت هناك فتاة آتية باتجاه القرية وتحمل في كل يد وعاء من الماء. وكانت تغرد بمرح وكأنها قبرة حتى رأت ستانفورد، وهنا توقفت عن الغناء والسير. ولأن ستانفورد لم يكن يوما خجولا مترددا، فقد تقدم نحوها، وكان على وشك أن يحييها حين أدركته قائلة: «أنا حقا حزينة أنك استرددت عافيتك.»
تجمدت كلمات الشاب على شفتيه وقطب جبينه. وحين رأت روث أنه منزعج - رغم أنها لم تكن تعرف السبب - أسرعت لتحسين الأمور بأن أضافت: «صدقني، ما أقوله حقيقي. أنا حقا حزينة.» «حزينة أنني على قيد الحياة؟» «حزينة كل الحزن.» «من الصعب تصديق هذه الجملة من شخص في غاية ... أقصد منك.» «لا تقل ذلك. لقد اتهمتني ميريام بالفعل بأنني فرحت لأنك لم تغرق. وسيؤلمني ذلك كثيرا إن كنت تعتقد أيضا كما تعتقد هي.»
نظرت إليه الفتاة بعينين حائرتين، ولم يعرف الشاب بم يجيب. وأخيرا قال: «هناك خطأ فادح. ولا يمكنني أن أستوضح الأمر. ربما كان لكلماتنا معنى مختلف، مع إنها هي الكلمات نفسها على ما يبدو. اجلسي يا روث، أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.»
رمقت روث العمال بنظرة وجلة، وغمغمت بشيء عن عدم توفر الكثير من الوقت أمامها، لكنها وضعت وعاءي الماء على الأرض وجلست فغاصت في العشب. ثم ألقى ستانفورد بنفسه على العشب عند قدميها، لكن حين رأى أنها انكمشت وتراجعت، سحب نفسه للخلف قليلا واستقر في موضع يسمح له بالنظر إلى وجهها.
كانت عينا روث مسبلتين، وكان ذلك حتميا؛ لأنها شغلت نفسها بسحب أوراق العشب الورقة تلو الأخرى، وكانت في بعض الأحيان تجدل الأوراق معا. كان ستانفورد قد أخبرها بأنه يريد أن يطرح عليها بعض الأسئلة، لكن يبدو أنه نسي ما كان ينتويه؛ ذلك أنه بدا وكأنه مرتاح تماما لمجرد النظر إلى وجهها. وبعد أن استمر الصمت برهة بينهما، رفعت عينيها لحظة وطرحت هي السؤال الأول. «من أي أرض أتيت؟» «من إنجلترا.» «آها! تلك جزيرة أيضا. أليس كذلك؟»
ضحك من كلمة «أيضا» وتذكر أن لديه بعض الأسئلة التي يريد طرحها. «أجل، إنها جزيرة ... أيضا. والبحر يقذف بحطام السفن على جوانبها الأربعة، لكن لا توجد على شطآنها قرية وثنية بحيث لا يفرح قاطنوها بنجاة أحدهم إذا ما طرحه البحر وتمكن من الهروب من بين براثن الموت.»
نظرت إليه روث والدهشة تملأ عينيها. «إذن، ألا يوجد أي دين في إنجلترا؟» «دين؟ إنجلترا هي أكثر دولة متدينة على وجه الأرض. هناك من الكاتدرائيات والكنائس ودور العبادة في إنجلترا ما يزيد عنه في أي دولة أخرى. نحن نرسل البعثات التبشيرية إلى كل البلدان الوثنية. والحكومة نفسها تدعم الكنيسة.» «أتخيل إذن أنني أخطأت في فهم ما تقصد. كنت أعتقد من حديثك أن الناس في إنجلترا يخشون الموت، ولا يستقبلونه بالحفاوة والترحاب ولا يفرحون حين يموت أحدهم.» «إنهم لا يخشون الموت، وهم لا يفرحون حين يأتي. الأمر بعيد كل البعد عن هذا. إن الجميع بدءا من الرجل النبيل حتى المتسول يكافحون الموت قدر ما أمكنهم؛ فالرجل الطاعن في السن يتمسك بالحياة بنفس حماسة الصبي في التمسك بها. وما من امرئ إلا وينفق آخر ما يملك من قطع ذهبية من أجل أن يدرأ عن نفسه القدر المحتوم ولو لساعة.» «قطعة ذهبية، ماذا تكون؟»
دس ستانفورد يده في جيبه وقال: «آه! هناك بعض العملات المتبقية. هاك هي قطعة ذهبية.»
أخذتها الفتاة وتفحصتها باهتمام بالغ.
وقالت وهي تقلب العملة الصفراء في راحة يدها الرقيقة: «أليست جميلة؟» ثم رفعت نظرها إليه. «هذا هو الرأي العام حيالها. ولكي يجمع المرء عملات نقدية كهذه، سيكذب ويغش ويسرق، أجل، ويكدح كذلك. وعلى الرغم من أن المرء على استعداد لأن يتخلى عن آخر قطعة ذهبية في حوزته لإنقاذ حياته والعيش لسنوات أطول، فإنه يخاطر بحياته نفسها من أجل جني المزيد من الذهب. إن كل عمل في إنجلترا هدفه الأساسي هو جمع قطع معدنية كتلك التي في يدك، والشركات ذات الأعداد الغفيرة من العاملين تهدف إلى جمع هذه القطع المعدنية بكميات أكبر. ومن يمتلك أكبر قدر من الذهب يحوز القدر الأوفر من السلطة ويحظى عموما بالقدر الأوفر من الاحترام، والشركة التي تجني أكبر قدر من المال هي الشركة التي يتوق الكثيرون إلى العمل لديها.»
استمعت إليه روث وقد ملأت عينيها نظرات الحيرة والعجب. وأثناء حديثه كانت ترتجف، ثم تركت العملة الصفراء تسقط من يدها على الأرض وقالت: «لا عجب أن أمثال هؤلاء يخشون الموت.» «ألا تخافينه؟» «كيف ونحن نؤمن بالجنة؟» «لكن ألن يحزنك أن يموت شخص تحبينه؟» «كيف لنا أن نكون أنانيين إلى هذه الدرجة؟ أكنت لتحزن إن حاز أخوك أو شخص تحبه الشيء الذي تقدره في إنجلترا أيا كان هذا الشيء، وليكن - مثلا - كمية كبيرة من هذا الذهب؟» «بالطبع لا. لكنك ترين إذن ... حسنا، شتان بين الأمرين. إن مات شخص تهتمين لأمره فإنك تنفصلين عنه، و...» «لكن هذا الانفصال لا يدوم إلا لفترة قصيرة، وهذا يعطينا سببا آخر للترحيب بالموت. من المستحيل على ما يبدو أن يخشى المسيحيون دخول الجنة. بدأت أفهم الآن لماذا ترك أجدادنا إنجلترا، ولماذا لا يخبرنا معلمونا بأي شيء عن الناس هناك. وأتساءل لماذا لا ترسل البعثات التبشيرية إلى إنجلترا لتعليمهم الحقيقة، ولمحاولة تهذيب الناس هناك وتنويرهم؟» «سيكون هذا حتما كمن يبيع الماء في حارة السقائين. أحد العمال قادم.»
صاحت الفتاة وهي تهب من مكانها: «إنه أبي. أخشى أنني تأخرت. لم أفعل ذلك من قبل.»
كان الرجل القادم ذا مظهر صارم عابس.
قال الرجل: «روث، العمال عطشى.»
ومن دون أن تجيبه الفتاة، رفعت الوعاءين ورحلت.
قال الشاب وقد تحول لونه بعض الشيء: «كنت أتلقى بعض الدروس فيما يتعلق بمعتقدكم. كنت متحيرا بشأن بعض الأمور التي سمعتها ووددت لو أطرح بعض الأسئلة بشأنها.»
قال الرجل بنبرة باردة: «الأفضل أن تتلقى الدروس مني أو من بعض الراشدين بدلا من أن تتلقاها من واحدة من صغرى الفتيات في هذا المجتمع. وحين تتعافى بالقدر الذي يسمح لك بأن تستمع إلى شرح وتوضيح لأفكارنا وآرائنا، فإنني آمل أن أسوق إليك البراهين التي ستقنعك أنها أفكار صائبة وآراء سديدة. وإن حدث ووجدت أنها غير مقنعة، فإنه يتعين علي حينها أن أطلب منك ألا تتواصل مع من هم دون منا سنا. إذ يتعين عدم إفسادهم بهرطقات العالم الخارجي.»
نظر ستانفورد إلى روث وهي تقف بجوار البئر الخاصة بالقرية.
وقال: «يا سيدي، أنت تقلل من شأن قدرات من هم دون سنكم على المناقشة والإقناع. وهناك كتاب يتعلق بهذا الموضوع، وأنا في غنى عن أن أذكرك به. إنني مقتنع بالفعل.»
هيئات جونسون التنكرية
قضيت بضعة أسابيع في مدينة جميلة في تيرول والتي يمكن أن أسميها شويندلبورج. لا أريد أن أذكر اسمها الحقيقي؛ لأنها تفرض ما يسمى بضريبة زائر، وهي ضريبة باهظة، وقد حصلت مني هذه الضريبة عن طريق فاتورة الفندق. كما أن هذه المدينة جعلتني أدفع مقابل الاستماع إلى الفرقة الرائعة التي كانت تعزف خلال فترتي الصباح والظهيرة في متنزه كوربارك. تغطي الكثير من المنتجعات الصحية الأوروبية نفقاتها من خلال فرض ضريبة على الزائرين، وهي ممارسة لا تلجأ إليها أي مدينة إنجليزية؛ ومن ثم فإنني أرى أن فرض مثل تلك الضريبة هو ضرب من الابتزاز والخداع، وأحجم عن صنع دعاية لأي مكان يطبقها. صحيح أنك إذا مكثت في مدينة شويندلبورج أقل من أسبوع فإنهم لا يفرضون عليك ضريبة، لكنني لم أكن أعلم ذلك، ولم يقدم لي موظف الفندق - كونه حصيفا بين أبناء جيله - الفاتورة إلا بعد انقضاء هذا الأسبوع بيوم؛ ومن ثم وجدت نفسي مضطرا إلى دفع ضريبة الزائر وكذلك رسوم الاستماع إلى الفرقة الموسيقية قبل أن أعرف بالأمر. وهكذا يكتسب الأحمق الحكمة من خلال سفره إلى الخارج. مكثت في ذلك المكان الرائع، أستمع إلى الفرقة الموسيقية كل يوم، محاولا الحصول على قيمة لقاء أموالي. وكنت أنوي الانفراد بنفسي؛ إذ كنت مشغولا ببعض الأعمال، ولا أريد التعرف إلى أحد، لكن استهوتني جاذبية جونسون؛ ومن ثم كسرت القاعدة. فما فائدة أن تضع لنفسك قاعدة إذا لم تحظ بمتعة كسرها؟
وأعتقد أن أول ما جذبني إلى جونسون كان إهماله التام فيما يتعلق بمظهره الشخصي. فحين ترجل من حافلة الفندق، بدا وكأنه متشرد شبه جدير بالاحترام. كان يرتدي قميصا أزرق من الصوف من دون ياقة أو رابطة عنق. وكان يرتدي كذلك قبعة مترهلة دون أن يتكلف وضع ريشة على غرار سكان تيرول. وكان من الواضح أنه لم يهذب لحيته الكثيفة منذ أسابيع، وكان يرتدي بنطالا إحدى رجليه مطوية لأعلى. ولم يكن يمسك بعصا التسلق الألبية، وكان في ذلك أيضا ميزة مستحسنة. ولذا قلت في نفسي: «هذا رجل متحرر من تقاليد المجتمع. وإذا كنت سأتعرف إلى أحدهم، فسأتعرف إليه.»
وجدت أن جونسون كان أمريكيا من مدينة غربية تدعى شيكاغو وكنت قد سمعت بها، ثم «أصبحنا صديقين.» كان جونسون مولعا بالموسيقى وكانت الفرقة في متنزه كوربارك رائعة؛ ولذا كنا نذهب إلى هناك معا مرتين يوميا، وكنا نتجاذب أطراف الحديث في طريق ذهابنا وعودتنا على الممرات المفروشة بالحصى. كان الرجل قد سافر إلى أماكن كثيرة، ويعرف الكثير عنها؛ وكان الحديث معه ممتعا. وفي غضون أسبوع تقريبا كنت قد أحببت جونسون، وأعتقد أنني كنت أروق له.
وذات يوم في طريق عودتنا معا إلى فندق بوست، مد يده إلي.
وقال: «سأغادر غدا. سأذهب إلى مدينة إنسبروك. ولذا فإنني أودعك. وإنني سعيد للغاية أن التقيت بك.»
فأجبته: «يؤسفني سماع ذلك، لكنني لن أودعك الآن، سأذهب معك غدا إلى المحطة.» «لا، لا تفعل ذلك. سأكون قد غادرت قبل أن تستيقظ. سيودع أحدنا الآخر هنا.»
وفعلنا، وحين كنت أتناول الإفطار صباح اليوم التالي، وجدت جونسون قد غادر في قطار الصباح الباكر. ظللت أتجول عبر الحديقة في صدر ذلك النهار وأنا حزين لمغادرة جونسون. بدا المكان موحشا من دونه. وفي فترة الظهيرة رحت أسير في الممرات الجانبية للمتنزه وعزف الفرقة يتهادى إلى مسامعي، وفي أثناء ذلك رأيت صديقي الذي غادر لتوه أمام ناظري فجأة وعلى نحو أدهشني كثيرا.
صحت قائلا: «مرحبا يا جونسون! اعتقدت أنك غادرت صباح اليوم.»
نظر إلي الرجل من دون أن يبدو على وجهه أنه يعرفني.
وقال: «عذرا، اسمي بومجارتن.»
وحين نظرت إليه عن كثب أكثر، رأيت في الحال أنني كنت مخطئا. كنت أفكر في جونسون في تلك اللحظة، وربما كان هذا هو سبب التباس الأمر علي. ومع ذلك، كان وجه الشبه بينه وبين جونسون لافتا للنظر، بيد أن الرجل كان حليقا. كانت له سوالف جانبية وشارب مهذبان بعناية، فيما كان لجونسون لحية كثيفة. وكانت قبعته الدائرية جديدة، وملابسه لا غبار عليها، بل كانت ذات أكمام أيضا. وبالإضافة إلى ذلك كان يمسك في يده بعصا، وكان من الواضح أن لديه الكثير من نقاط الضعف التي كان جونسون متفوقا عليه فيها. اعتذرت عن خطئي وكنت على وشك أن أرحل عنه حين أبدى بومجارتن رغبته في التعرف إلي.
فقال: «لقد وصلت لتوي، ولا أعرف أي شيء عن المكان. هل قدمت إلى هنا منذ فترة طويلة؟»
فأجبته: «أسبوعين تقريبا.» «آها! إذن أنت نزيل هنا. هل توجد مناطق تسلق جيدة هنا في الجوار؟» «لم يخبرني أحد بوجود أماكن للتسلق. وعن نفسي فإنني لا أمارس التسلق، اللهم إلا من خلال القطار المعلق. ويسعدني دائما النظر إلى الآخرين وهم يتسلقون المرتفعات. فأنا أرى أن الفائدة الوحيدة للجبال هي النظر إليها والاستمتاع برؤيتها.»
ثم شرع بومجارتن في سرد شيق عن الأخطار التي تعرض لها في الجبال. وقد وجدت أنه ممتع الحديث، تماما كما كان جونسون. وأخبرني أنه من هانوفر، لكنه تلقى تعليمه في بريطانيا العظمى، وكان هذا سبب طلاقته في الإنجليزية.
فسألني بينما توقفت الفرقة عن العزف: «في أي فندق تمكث؟»
فأجبته: «في فندق بوست، وأنت؟» «في فندق أدلر. ينبغي أن تأتي لتناول العشاء معي ذات مساء، وسأردها لك بأن آتي لتناول العشاء معك. ومن ثم يمكننا أن نقارن قوائم المطعم.»
استطاع بومجارتن تحسين مستوى التعارف بيننا على الرغم من إسرافه في التأنق والاهتمام بمظهره وثيابه. وكدت أنسى أمر جونسون حتى ذكرني به بومجارتن ذات يوم وهو يقول: «سأغادر الليلة إلى إنسبروك.» «إنسبروك؟ إن جونسون هناك. ينبغي لك أن تلتقي به، إنه صاحب شخصية جذابة للغاية. ولا يعيبه سوى أنه لا يعتني كثيرا بثيابه وأناقته.» «حري بي أن أقابله. إنني لا أعرف أحدا في إنسبروك؟ هل تعرف اسم الفندق الذي يمكث فيه؟» «لا. إنني حتى لا أعرف اسمه الأول. لكنني سأكتب لك رسالة تعريف على ظهر البطاقة خاصتي، وإذا التقيت به فأبلغه تحياتي.»
أخذ بومجارتن البطاقة وشكرني عليها، ثم افترقنا.
وفي اليوم التالي، حيث كان الجو دافئا، جلست إلى مقعد في الظلال أستمع إلى الموسيقى. والآن وقد رحل بومجارتن، جلست أفكر في الشبه الغريب بينه وبين جونسون، وأتذكر ما دار من أحداث. جلس شخص بجواري، لكنني لم أعره انتباها. ثم قال أخيرا: «يبدو أن هذه الفرقة الموسيقية رائعة للغاية.»
دهشت حين سمعت صوته، ونظرت إليه فملأني الذهول ولم أستطع أن أرد عليه.
كان له شارب، لكن لم تكن له سوالف، وكان يرتدي قبعة خضراء من اللبد وبها ريشة على غرار ما يشتهر به سكان تيرول. وعلى المقعد بجواره استندت عصا التسلق الألبية، وكان طرفها الحديدي المدبب يلامس الحصى. وكان الرجل يرتدي سروالا قصيرا فضفاضا، وفي الواقع، كان مظهره بالكامل يوحي بأنه سائح تقليدي من هواة تسلق الجبال. ولكن الصوت! وتعبيرات العينين! «ماذا قلت؟» «قلت بأن الفرقة الموسيقية رائعة للغاية.» «أوه، أجل. إلى حد ما. إنها باهظة الثمن؛ ومن ثم ينبغي أن تكون رائعة. إنني أدفع مقابل ذلك. بالمناسبة، أظنك قد وصلت صباح اليوم، أليس كذلك؟» «بل وصلت ليلة البارحة.» «أوه، حقا. وسترحل في غضون عدة أيام إلى إنسبروك؟» «لا، سأذهب إلى سالزبورج حين أغادر من هنا.» «واسمك ليس جونسون ... أو ... أو بومجارتن، بأي حال؟» «لا، ليس كذلك.» «ولم تأت من شيكاغو أو هانوفر؟» «لم أذهب إلى أمريكا قط، ولا أعرف هانوفر. هل من شيء آخر؟» «لا، لا شيء. لا بأس. بالطبع لا دخل لي بذلك.» «لا دخل لك بماذا؟» «لا دخل لي من تكون.» «أوه، ليس هذا بسر. إنني روسي. واسمي كاتزوف. أو على الأقل، هذان هما أول مقطعين من اسمي. إنني لا أستخدم اسمي الكامل أثناء سفري؛ فهو في غاية التعقيد.» «شكرا لذلك. ولكن كيف تفسر إجادتك للغة الإنجليزية؟ أفترض أنك تلقيت تعليمك في إنجلترا، أليس كذلك؟ لقد تلقى بومجارتن تعليمه هناك.» «نعم، لم أتلق تعليمي هناك. نحن الروسيين نجيد اكتساب اللغات حسبما تعلم.» «أجل، لقد نسيت ذلك. لنعد الآن إلى حيث بدأنا. الفرقة الموسيقية ممتازة، وهي على وشك أن تعزف واحدة من أربع معزوفات مفضلة، سيد كاتزبورج.» «اسمي كاتزوف. وأما عن المعزوفات، فأنا لا أعرف الكثير عن الموسيقى لكنني أحب المقطوعات الشهيرة.»
انسجمت أنا وكاتزوف على نحو رائع، وإن كان لم يرق لي فيما يبدو مثلما كان جونسون وبومجارتن. وقد رحل إلى سالبزبورج من دون أن يودعني. وذات يوم شعرت أني أفتقده، فذهبت إلى فندق إنجليتير، وأخبرني الحارس أنه قد غادر.
وفي اليوم التالي بحثت عنه، وكنت أتساءل عن الهيئة التي سأجده عليها. مررت به مرتين بينما كان يجلس على المقعد ، لكنني لم أكن متأكدا بما يكفي لأن أدنو منه وأبادره الحديث. كان اختفاء شاربه قد أحدث اختلافا ملحوظا. وقد بدا أصغر عشر سنوات على الأقل بوجهه الحليق تماما. وكان يرتدي قبعة حريرية طويلة، ومعطفا صباحيا طويلا أسود اللون. ولم يسعني أن أحول ناظري عن الغطاء الذي وضعه على كل كاحل من قدميه والذي كان يغطي حذاءه اللامع على نحو جزئي. كان يقرأ جريدة إنجليزية؛ ومن ثم لم يلحظ تحديقي إليه. فدنوت منه.
وقلت: «اسمع يا جونسون، هذه هيئة رائعة. أظنك إنجليزيا هذه المرة، أليس كذلك؟»
رفع الرجل نظره في اندهاش واضح. ثم راح يتحسس الجزء الأمامي من معطفه لبرهة، فوجد خيطا حريريا أسود اللون، فسحبه وأمسك في يده قرصا زجاجيا صغيرا. فوضع ذلك القرص الزجاجي على إحدى عينيه ولوى قسمات وجهه بعض الشيء لكي يتمكن من تثبيته. وتلاشى يقيني بأنه جونسون للحظة، لكنني تجرأت وواجهته. «وتلك النظارة الأحادية لفتة غير مسبوقة يا جونسون. إنها تدهشني حقا، بالإضافة إلى أغطية الكاحل تلك. وإذا كنت استخدمتها في شخصية بومجارتن، فلا أدري هل كنت سأتعرف عليك وقتها. جونسون، ما قصتك؟»
فقال في النهاية: «يبدو أنك تعاني ضربا من الذهان. اسمي ليس جونسون. أنا اللورد سومرسيت كامبل، إن كان يهمك أن تعرف.» «أحقا؟ أوه، حسنا إذن، لا بأس. أنا دوق أرجيل؛ ولذا لا بد أننا أقارب. الدم لا يصير ماء أبدا يا كامبل. اعترف. من قتلت؟»
قال سعادته بترو: «علمت أن أكبر مصحة للأمراض العقلية في تيرول قريبة من هنا، لكنني لم أكن أعلم أنهم يسمحون للمرضى أن يتجولوا في متنزه كوربارك.» «لا بأس يا جونسون. لكن ...» «كامبل، إذا سمحت.» «لا أسمح. لقد تماديت في لعبة التنكر هذه بما يكفي. ما الجريمة التي ارتكبتها؟ أم أنك مع الفريق الآخر؟ هل تعمل كمحقق؟» «يا عزيزي، أنا لا أعرفك، وفضولك الصلف هذا يثير استيائي. يوما طيبا ولتذهب إذن.» «لن أذهب يا جونسون، لقد زاد الأمر عن حده. لقد تلاعبت بمشاعري، ولن أحتمل المزيد. سأذهب إلى السلطات وأقص عليها ملابسات ما حدث. وهي مفعمة بالشك بما يكفي لأن ...»
سأل جونسون وهو يجلس مرة أخرى: «أيهما؟ السلطات أم الملابسات؟» «كلاهما يا عزيزي، كلاهما وأنت تعلم ذلك. والآن يا جونسون، أرح فضولي ولن أشي بك.»
تنهد جونسون وسقطت النظارة عن عينه. ثم نظر حوله في حذر وقال: «اجلس.»
فصحت في شيء من التهلل والغبطة: «إذن أنت جونسون.»
بدأ جونسون يقول: «ظننت أنك لست موقنا من ذلك. لكن الأمر لا يهم الآن، وينبغي لك أن تربأ بنفسك عن استخدام التهديد. كان هذا أسلوبا وضيعا منك.» «أرى أنك من شيكاغو. أكمل.» «إن الأمر كله بسبب ضريبة الزائر اللعينة. إنني لا أريد دفع هذه الضريبة. ومن ثم، أمكث في أي فندق أقل من أسبوع، ثم أستقل حافلة إلى المحطة، وحافلة أخرى إلى فندق آخر. وبالطبع، كان الخطأ الذي ارتكبته هو التعرف إليك. لكنني لم أعتقد قط أنك ستمكث هنا شهرا.» «لكن لماذا لم تخبرني بذلك؟ إنني أتعاطف كثيرا مع ما ارتكبت من مخالفة. ولم أكن لأبوح بأي شيء.»
هز جونسون رأسه. «لقد وثقت بأحدهم ذات مرة. وقد أسر بما أخبرته به إلى صديق له، وظن صديقه أنها نكتة طريفة، فقصها، وكانت القصة تتناقلها الألسن مشفوعة بهذا القسم في كل مرة. فألقت السلطات القبض علي قبل أن ينتهي الأسبوع، وفرضوا علي غرامة باهظة، بالإضافة إلى تحصيل الضريبة.» «لكن ألا تتساوى أجرة الحافلة وتكلفة تغيير الملابس وكل ذلك من أمور مع قيمة الضريبة المفروضة؟» «أعتقد أنها كذلك. وأنا لا أعترض على دفع المال، إنما أعترض على المبدأ نفسه.»
وكان هذا الحديث هو الأخير الذي دار بيني وبين جونسون. وبعد أسبوع تقريبا قرأت في قائمة الزوار أن اللورد سومرسيت كامبل - الذي كان نزيلا في فندق فيكتوريا (وهو الفندق الأفخم في المكان) - قد غادر من شويندلبورج إلى إنسبروك.
إصلاح جو هولندز
كانت الحانات في طريق بورويل - وهي كثيرة وممتدة على طول الطريق - تفخر بجو هولندز. كان نموذجا مثاليا للأشخاص الذين تفرزهم بيئة الحانات. كان جو على الأرجح هو السكير الأكثر مثابرة على طول هذا الطريق، وكان مشهد الشرطة وهي تلقي القبض عليه هو أحد المشاهد المألوفة في الشارع. كان الكثير من مرتادي تلك الحانات يحتاجون إلى رجل شرطة واحد لاقتيادهم إلى القسم، ويحتاج البعض إلى رجلين، لكن جو كان يحتاج في المتوسط إلى أربعة من رجال الشرطة لاقتياده. وعرف عن جو أنه يتفاخر أن الأمر تطلب ذات مرة سبعة من رجال الشرطة لاقتياده إلى القسم، إلا أن ذلك كان قبل أن تدرس الشرطة حالة جو وتقرر حجم القوة الصحيح المكافئ لقوته. كان رجال الشرطة الآن يطرحونه أرضا؛ حيث يمسك أحد رجال الشرطة بإحدى قدميه العصية ويمسك آخر بالقدم الأخرى، فيما يتولى الشرطيان المتبقيان أمر الجزء العلوي من جسده. وهكذا حملوه، وتبعهم الحشد المتعجب، وأخذ السكارى الآخرون يشاهدونهم وقد تملكتهم الغيرة؛ إذ لم يكن الأمر يتطلب معهم سوى شرطي واحد حين يتعرضون لموقف مماثل. وكان جو يتمكن أحيانا من تسديد ركلة مؤثرة للغاية إلى بطن رجل الشرطة، وحين ينزوي الشرطي على نفسه بعيدا عنه كان القتال يستأنف في غضون بضع لحظات، ويكون القتال صامتا من جانب رجال الشرطة وصاخبا مجلجلا من طرف السكير الذي يتمتع بلسان سليط لا يكف عن السباب. ثم يستمر الموكب مجددا، وكان من غير المجدي تماما أن يوضع جو في عربة الإسعاف التابعة للشرطة؛ ذلك أن الأمر كان يتطلب ركوب شرطيين معه لكبت حركته والسيطرة عليه أثناء نقله، والعربة غير مصنوعة لتتحمل مثل هذا الحمل.
وبالطبع، كانت عربة الإسعاف تقوم بواجبها حين يخرج جو مترنحا من الحانة ويسقط في القذارة، فكان يدفع بمجهود إلى مكان سكنه، لكن المرح الحقيقي حدث عندما ألقي القبض على جو أثناء المرحلة الثالثة من نوبته. اجتاز جو المرحلة الخطابية، ثم المرحلة العاطفية أو الشعورية، ومنها انتقل إلى مرحلة الاشتباك والشجار التي عادة ما يلقى به في الشارع خلالها؛ حيث يبدأ على الفور في إثارة الصخب في أرجاء المدينة وتلوين شوارعها بالدماء. وعندئذ، تدوي صفارة الشرطة وتدرك الشرطة أن جو متحفز للقتال وأن نداء الواجب يدعوهم إلى ساحة الوغى.
كان يعتقد في الحي أن جو خريج جامعي، وكان هذا يعلي شأنه لدى معجبيه. فكانت فصاحته وبلاغته أمرا مفروغا منه، بعد تناوله بضع كئوس من الشراب تختلف في عددها تبعا لقوة تأثير ما تحتويه من شراب، وكان من يستمع إلى كبار المتحدثين السياسيين في تلك الفترة يقر بأن أحدا من هؤلاء لا يضاهي جو حين يتحدث في أمر مظالم العمال وطغيان صاحب رأس المال واستبداده. ومن المفهوم بصفة عامة أن جو كان في مقدوره أن يصبح أي شيء يريده، وأنه لم يكن عدو أحد سوى نفسه. كما ألمح إلى أن في وسعه أن يسدي النصائح إلى كبار الشخصيات إذا ما استشاروه وسألوه رأيه في شئون الدولة.
وذات مساء حين كان جو يتقدم ببطء كالمعتاد نحو قسم الشرطة؛ حيث كان يصطحبه العدد اللازم من رجال الشرطة وقدمه مرفوعة في الهواء وهو يخطب في الحشد أثناء ذلك ملهبا إعجابهم به، وقفت امرأة وظهرها ملاصق للجدار الحجري وكانت مرعوبة من هول ما ترى. كان وجه المرأة شاحبا وصافيا وترتدي ثيابا سوداء. وكانت مهمتها التي فرضتها على نفسها محصورة في هؤلاء الناس، لكنها لم تكن قد رأت جو من قبل وهو يقتاد إلى قسم الشرطة، وكان المشهد الذي تراه صادما بالنسبة إليها، رغم أنه كان مسليا بالنسبة إلى الحي. فتساءلت عن أمر جو وسمعت القصة المعتادة بأنه لم يكن عدوا لأحد إلا لنفسه، وإن كانوا إحقاقا للحق قد أضافوا أنه كان عدوا للشرطة. إلا أنه نادرا ما كان ينظر إلى رجال الشرطة على أنهم آدميون في هذا الحي. أطلعت السيدة جونسون لجنة الرابطة الاجتماعية على القضية، وطلبت مشورة أعضائها. وعندئذ، عقد العزم على إصلاح جو هولندز.
تقبل جو السيدة جونسون في إجلال مكبوت وسلوك دل بكياسة على معرفته بسمو منزلتها عنه وتدني قدره. كان يعلم كيف ينبغي التعامل مع امرأة حتى ولو كان سكيرا، وذلك طبقا لما أخبر به المقربين منه بعد ذلك. وكان جو على استعداد تام لترويضه وإصلاحه. فحتى هذه اللحظة من حياته، لم يكن أحد قد مد إليه يد العون. كان ما يحتاجه جو هو التعاطف الإنساني، ونادرا ما كان يحظى به. كان ما تلقاه ذلك الرجل الفقير في حياته من الركل والرفس يفوق بكثير ما معه من مال. ولم يكن الأثرياء يكترثون بما يحل بالفقراء؛ فلم يلقوا بالا لهؤلاء، وهي مسألة كانت السيدة جونسون ترفضها بشدة.
كان أحد مبادئ اللجنة أن يمد الأغنياء يد العون إلى الفقراء متى كان ذلك ممكنا. ومن ثم، عقد العزم على أن يحصل جو على ملابس لائقة وأن يبحث له عن مكان يعمل فيه ليتمكن من مساعدة نفسه. وكانت السيدة جونسون تجوب الحي وتجمع التبرعات لعملية الإصلاح. وكان معظم الناس يرغبون في مساعدة جو، وإن كان يرى بصفة عامة أن الشارع سيبدو أقل إمتاعا حين يقلع جو عن الشراب. ولكن، في إحدى الغرف في الحي، لم تستطع السيدة جونسون الحصول على المال الذي كانت تسعى في طلبه.
قالت المرأة التي كان ابنها الشاحب الضعيف يتعلق بذيل تنورتها: «لا يمكننا أن ندخر ولو بنسا واحدا. لقد سرح زوجي مؤخرا من العمل مرة أخرى، ولم يكن قد مضى على عمله سوى أربعة أسابيع هذه المرة.»
جالت السيدة جونسون بنظرها في أرجاء الغرفة وعرفت السبب وراء عدم وجود الأموال. كان من الواضح تماما أين ذهبت أموال الزوج.
كانت الغرفة مفروشة على نحو أفضل بكثير من الغرف العادية في الحي؛ فقد كانت هناك مجموعتان من الأطباق حيث كانت مجموعة واحدة فقط ستكفي. وعلى رف الموقد والجدران كان هناك العديد من الأشياء غير الضرورية التي تكلف أموالا.
لاحظت السيدة جونسون كل ذلك لكنها لم تقل شيئا، رغم أنها قررت أن تخبر اللجنة بما رأت. ففي الاتحاد قوة، وتكمن الحصافة في كثرة التشاور. وكانت السيدة جونسون تؤمن إيمانا شديدا بحكمة اللجنة وحنكتها. «كم مر على تسريح زوجك من العمل؟» «بضعة أيام ليس إلا، لكن الظروف عصيبة وهو يخشى ألا يجد وظيفة أخرى قريبا.» «وماذا يعمل؟» «نجار، وهو عامل ماهر ورصين ولا يعاقر الشراب.» «إذا أعطيتني اسمه فسأضعه على قوائمنا. ربما يمكننا مساعدته.» «اسمه جون موريس.»
دونت السيدة جونسون اسمه في دفترها، وحين غادرت، شعرت الزوجة بالكاد بالامتنان لما يمكن أن يأتيهم من مساعدة.
أبلغت وقائع الحالة إلى اللجنة، وجرى تفويض السيدة جونسون لتقديم النصح إلى السيدة موريس بشأن إسرافها وتبذيرها. ووضع اسم جون موريس في الدفاتر بين أسماء أشخاص آخرين عاطلين عن العمل. ثم طرحت قضية جو هولندز وأثارت حماسا كبيرا. فقد اشتريت ملابس لائقة بجزء من المال الذي جمع له، وتقرر الاحتفاظ بما تبقى منه في شكل وديعة بحيث يدفع له منه متى ما اقتضت الحاجة.
وحملت اثنتان من السيدات اللاتي لهن القدرة على الإقناع على عاتقهما مسئولية البحث له عن عمل في أحد المصانع إذا ما أمكن ذلك.
شعر جو بأنه غير مرتاح نوعا ما في ملابسه الجديدة، ويبدو أنه كان يرى أن ما أنفق من أموال ليس إلا تبديدا. كما شعر بخيبة أمل حين عرف أنه لن يأخذ المال الذي جمع له دفعة واحدة. وقد قال بأنه لا يعبأ بأمر المال، إنما كان يعبأ أكثر بانعدام الثقة الواضح. لو كان الناس يثقون به أكثر من ذلك، لربما غدا أفضل حالا. فما كان ما يحتاجه جو هو أن يحظى بالثقة والتعاطف الإنساني.
ناشدت السيدتان - بما لهما من قدرة على الإقناع - السيد ستيلويل وهو صاحب مصنع صغير لصنع الصناديق. وقالوا له إنهما واثقتان أن حال هولندز سيتغير إلى الأفضل لو أنه حظي بالفرصة. وأجابهما ستيلويل بأنه لا يوجد لديه مكان شاغر. فقد كان لديه من العمالة ما يكفي بالفعل. كانت صناعة الصناديق تعاني كسادا، وكان هو يرد كل يوم المتقدمين الذين كانوا عمالا أكفاء ولم يكونوا في حاجة إلى الإصلاح. لكن السيدتين كانتا على درجة كبيرة جدا من الإقناع، وليس بمقدور أي رجل أن يرفض مناشدة امرأة حسناء، ناهيك عن امرأتين. فوعدهما ستيلويل أن يعطي هولندز فرصة، وقال بأنه سيستشير رئيس العمال لديه، وأنه سيعلم السيدتين بما يمكن القيام به.
لم يتلق جو هولندز أخبار فرصته هذه بالحماس المتوقع. كم من رجل كان يجوب أنحاء لندن بحثا عن عمل ولا يجده؛ ولذا فحتى السيدتان اللتان كانتا حريصتين على صلاح أمر جو وسعادته ظنتا أنه ينبغي أن يكون ممتنا لحصوله على العمل من غير سعي منه. وكل ما كان من جانب جو أن قال بأنه سيبذل قصارى جهده، وحين تفكر في ذلك تجد أن هذا ما نستطيع أن نتوقعه من أي امرئ.
وبعد ذلك ببضعة أيام تقدم جاك موريس إلى السيد ستيلويل من أجل الحصول على وظيفة، بيد أنه لم تكن لديه لجنة فرعية من النساء المقنعات لمناشدة السيد ستيلويل باسمه. كان جاك على استعداد للعمل بنصف دوام أو ربعه؛ فقد كانت لديه زوجة وابن يعولهما. واستطاع أن يبرهن على أنه عامل ماهر وأنه لم يكن يعاقر الشراب. وهكذا أخذ موريس يعدد ما لديه من مؤهلات على مسامع ستيلويل - صانع الصناديق - العازف عن سماعه. وحينما غادر المكان مخذولا برفض آخر، صادفه جو هولندز. وكان جو محبا لإخوته في الإنسانية ويأبى أن يرى أي شخص خائب الأمل مخذولا. وكان لديه حل واحد مؤكد لعلاج الحزن ووهن العزيمة. ولما كان جو قد طرد لتوه من العمل، فإنه كان يتمتع بمعنويات مرتفعة؛ وذلك لأن توقعه بأنه شخصية لا تقبل الإصلاح قد تحقق للتو، هذا إذا كان العمل شرطا من شروط الإصلاح.
صاح جو وهو يربت على كتف موريس: «ابتهج يا رجل! ما خطبك؟ تعال وتناول معي شرابا. لدي المال هنا.»
قال موريس الذي لم يكن يعلم ذلك السكير تمام المعرفة ولم يكن يعبأ بتوطيد معرفته به: «لا، أريد العمل، لا أريد الجعة.» «كل حسب ذوقه. لماذا لا تسأل عن عمل في مصنع الصناديق؟ يمكنك أن تحصل على وظيفتي وسأكون مرحبا بذلك. لقد طردني رئيس العمال للتو، قال بأنني لا أعمل وأنني أصرف انتباه بقية العمال عن العمل. ويعتقد أنني أتحدث كثيرا عن رأس المال وشئون العمال.» «أتعتقد أن بإمكاني الحصول على وظيفتك؟» «من الوارد جدا. لن تخسر شيئا بالمحاولة. وإذا لم يوظفوك، تعال إلى حانة ريد لايون - سأكون هناك - واحتس شرابا. سيسري ذلك عنك بعض الشيء.»
توسل موريس إلى رئيس العمال دون جدوى. وقال بأن لديهم الآن فائضا من العمالة في المصنع. ولذا، ذهب موريس إلى حانة ريد لايون، حيث وجد هولندز مستعدا للترحيب به. تناولا بعض الشراب معا، وأخبره هولندز بجهود الرابطة الاجتماعية في خط الإصلاح وعن شكوكه بشأن نجاحهم في نهاية المطاف. كان هولندز فيما يبدو يعتقد أن سيدات الرابطة مدينات له كثيرا؛ لأنه يمدهم بموضوع جيد بشأن عملية الإصلاح. وفي تلك الليلة وصلت مسيرة جو المهنية إلى أوجها؛ ذلك أن رجال الشرطة الأربعة اضطروا إلى مناشدة المارة المتفرجين لمساعدتهم باسم القانون.
ذهب جاك موريس إلى منزله دون أن يساعده أحد. فهو لم يتناول الكثير من الشراب، لكنه كان يعلم أنه كان ينبغي أن يتجنب معاقرة الشراب كلية؛ ذلك أنه عرف تأثيره من خلال تجربة مر بها في شبابه. ومن ثم، كانت حالته المزاجية تميل إلى النزاع والشجار، وكان على استعداد لأن يلقي باللائمة على أي شخص إلا على نفسه.
وجد زوجته تبكي، ورأى السيدة جونسون جالسة هناك، وكان من الواضح أنها بائسة للغاية.
قال موريس متسائلا: «ما الأمر؟»
جففت زوجته عينيها، وقالت لا شيء. كانت السيدة جونسون تعطيها بعض النصائح وكانت هي ممتنة لها. حدق موريس إلى زائرته.
وسألها بفظاظة ووقاحة: «ما بك وشأننا؟» أمسكته زوجته من ذراعه، لكنه أطاح بيدها في غضب، ونهضت السيدة جونسون من مكانها وقد تملكها الخوف. «ليس لك من شأن هنا. لا نريد أيا من نصائحك. دعينا وشئوننا.» ثم أضاف في نبرة تنم عن نفاد صبره موجها حديثه إلى زوجته التي كانت تسعى إلى تهدئته: «اصمتي، هلا صمت؟»
كانت السيدة جونسون تخشى أن يضربها وهي تمر بجواره متجهة نحو الباب، لكن كل ما هنالك أنه وقف في مكانه وراح يتبع خروجها مقطب الجبين.
قصت المرأة المرعوبة على مسامع عضوات اللجنة المتعاطفات معها ما مرت به. كانت قد تحدثت إلى السيدة موريس عن تبذيرها في شراء الكثير من الأشياء غير الضرورية حين كان زوجها يعمل. ونصحتها بأن توفر المال. ودافعت السيدة موريس عن إنفاقها المبذر ظاهريا بأن قالت إنه لم تكن هناك إمكانية لتوفير المال. فقد اشترت أشياء مفيدة، وعندما سرح زوجها من العمل استطاعت دائما أن تحصل على جزء كبير من قيمتها على سبيل القرض مقابل رهنها. وشرحت وهي تبكي إلى السيدة جونسون أن مكتب الرهونات هو بنك الفقراء الوحيد. وبالنسبة إلى السيدة جونسون كانت فكرة مكتب الرهونات بوصفه بنكا وليس بوصفه مكانا يوصم بالخزي والعار هي فكرة جديدة عليها، لكن قبل أن يقال المزيد كان الزوج قد جاء. وقد أكدت لها إحدى عضوات اللجنة التي كانت تعرف بأمر الحي أكثر مما تعرف السيدة جونسون أن ثمة سببا للقول بأن مكتب الرهونات هو بنك الفقراء. واتفقت اللجنة بالإجماع على أن سلوك موريس كان شائنا، ولكن على الرغم من الإساءة التي تعرضت لها إحدى العضوات، فإن اللجنة لم تكن لتشطب اسم رجل من قوائم العاطلين عن العمل لديها، حتى إن كان غير جدير باهتمامها.
انشغلت اللجنة بعد ذلك بانتكاسة جو هولندز المحزنة. كانت الغرامة المقررة عليه قد دفعت، وعبر هو عن بالغ حزنه إزاء زلته. ولو أن رئيس العمال كان أقل صرامة معه وأعطاه فرصة، لاختلفت الأمور. فتقرر إرسال جو إلى شاطئ البحر لكي يحظى بفرصة تحفيز جسمه لمقاومة المغريات. واستمتع جو برحلته إلى البحر. كان يحب دوما مناوشة مجموعة جديدة من رجال الشرطة غير المعتادين على طرائقه. وقد نشط جسمه كثيرا في اليوم الأول له على الشاطئ، حتى إنه أمضى الليلة في السجن.
وشيئا فشيئا، كانت الممتلكات والمنقولات في منزل موريس تختفي وتذهب إلى مكتب الرهونات. وكالعادة، لا تأتي المصائب فرادى. مرض الصبي وبدا موريس نفسه عاجزا عن مقاومة إغراءات حانة ريد لايون. وأخذت المرأة التعيسة ولدها إلى طبيب الأبرشية، الذي كان في غاية الانشغال، لكنه اهتم بحالة الصبي قدر استطاعته. وقال بأن كل ما يحتاجه الصبي هو طعام مغذ والتعرض لهواء الريف العليل. تنفست السيدة موريس الصعداء، وقررت أن تأخذ الصبي الصغير إلى المتنزه مرات أكثر، لكن الطريق كان طويلا، وكان تعب الصبي ووهنه يزداد يوما بعد يوم.
وفي النهاية نجحت في إقناع زوجها بالانتباه إلى حالة الصبي الصغير. ووافق على أخذ الصبي إلى الطبيب بصحبتها.
قالت السيدة موريس متذمرة: «لا يبدو أن الطبيب يلقي بالا إلى ما أقول. ربما سيولي الاهتمام إلى رجل مثله.»
لم يكن موريس بطبيعته عبوسا نكد المزاج، لكن خيبة الأمل سرعان ما كانت تحوله إلى ذلك. لم يقل موريس شيئا، لكنه أخذ الصبي بين ذراعيه وذهب إلى الطبيب وتبعته زوجته.
قال الطبيب محاولا أن يبرهن على أنه أولى حالة الصبي اهتماما أكبر مما يخيل إلى السيدة موريس: «جاء هذا الصبي هنا من قبل. وقد ساءت حالته كثيرا. عليك أن تأخذه إلى الريف وإلا فسيموت.»
سأله موريس متجهما: «كيف يمكنني أن أنقله إلى الريف؟ أنا عاطل عن العمل منذ عدة شهور.» «ألديك أصدقاء في الريف؟» «لا.» «أليس لدى زوجتك أي أصدقاء في الريف يمكنهم أن يستقبلوها والصبي لشهر أو نحوه؟» «لا.» «ألديك أي شيء لترهنه؟» «القليل جدا.» «أنصحك إذن أن ترهن كل ما تملك، أو بعه إذا أمكنك، وخذ الصبي على ظهرك واذهب به إلى الريف ولو سيرا. من المحتمل أن يكون حصولك على وظيفة هناك أسهل منه في المدينة هنا. وإليك عشرة شلنات على سبيل المساعدة.»
قال موريس بنبرة صارمة: «لا أريد مالك، إنما أريد عملا.» «ليس لدي فرصة عمل لك؛ ولذا أعطيك ما معي من مال. وليس لدي الكثير منه. لا تكن أحمق وترفض ما يأتيك من رزق.»
ومن دون أن يجيبه موريس، أخذ ابنه بين ذراعيه ورحل.
قال الطبيب إلى السيدة موريس: «إليك زجاجة دواء مقو من أجل الصغير.»
ووضع قطعة النقود التي تساوي عشرة شلنات على الزجاجة بينما كان يعطيها إياها. شكرته في صمت بعينيها الدامعتين، آملة أن يأتي الوقت الذي تستطيع فيه أن ترد إليه ماله. كان لدى الطبيب ما يكفي من الخبرة لكي يصنفهما ضمن زائريه غير الاعتياديين. ولم يكن من عادته أن يمنح العملات الذهبية جزافا.
كانت رحلة كئيبة وحزينة، وكان الزوجان قد قضيا وقتا طويلا ينفضان عن نفسيهما أغلال المدينة الكبيرة التي كانت تلفهما وكأنها أقدام أخطبوط، والتي كانت في كل عام تمتد أكثر وأكثر وتزحف على الريف، وكأن المدينة كانت تعيش على استهلاك الحقول الخضراء وإبادتها. مضى موريس والصبي على ظهره، وتبعته زوجته. لم يتحدث أي منهما ولم يتذمر الصبي المريض. وبينما كانا يقتربان من إحدى القرى، تدلت رأس الصبي على كتف أبيه. أسرعت الأم في مشيتها حتى اقتربت منهما وراحت تقلب رأس ابنها النائم. وفجأة، أطلقت صرخة مكتومة وأخذت الصبي بين ذراعيها.
سألها موريس وهو يلتفت نحوها: «ما الأمر؟»
لم تجبه، لكنها جلست على جانب الطريق وابنها على حجرها، وراحت تؤرجح جسدها ذهابا وإيابا على الصبي، وكانت في أثناء ذلك تعول وتنوح. لم يكن موريس في حاجة إلى ردها. وقف على الطريق وقد تجمدت ملامحه، ونظر إلى زوجته وابنه من دون أن ينبس ببنت شفة.
تدبر أهالي القرية الكرماء أمر جنازة الصغير، وحين انتهت وقف جاك موريس وزوجته مرة أخرى على الطريق.
فتوسلت إليه قائلة: «جاك، يا عزيزي. لا تعد إلى ذلك المكان المريع. نحن ننتمي إلى الريف، والمدينة قاسية ومتحجرة.» «سأعود أنا، ولك أن تفعلي ما تشائين.» ثم أضاف بعد أن لان قليلا: «لم أجلب لك الكثير من حسن الحظ يا فتاتي.»
كانت تعلم أن زوجها رجل عنيد، وانطلق هو في طريقه؛ ولذا من دون أن تبدي اعتراضا، تبعته عائدة كما كانت قد تبعته خارجة، وتعثرت مرارا؛ ذلك أن عينيها لم تكونا تبصران الطريق في كثير من الأحيان. وهكذا عاد الزوجان إلى منزلهما الخاوي.
ذهب جاك موريس للبحث عن عمل في حانة ريد لايون. وهناك التقى برفيقه الكريم جو هولندز، الذي كان قد صلح حاله، كما كان قد ارتد عن الطريق القويم مرتين منذ تقابل هو وجاك من قبل. ولكن كان من المنصف أن يعترف جو أنه لم يكن متفائلا يوما بشأن صلاح أمره، لكن بما أنه كان رجلا محبا للمساعدة حتى حين كان غير ثمل، فقد كان على استعداد لأن يعطي الرابطة الاجتماعية كل فرصة ممكنة. وكان جاك شديد الحزن على وفاة ولده، رغم أنه لم ينطق بكلمة لزوجته تظهر مدى حزنه. ومن ثم، تطلب الأمر أن يعاقر كمية شراب أكثر من المعتاد ليصل إلى درجة الثمالة التي تسيطر على كل رفقائه في حانة ريد لايون. وحين غادر موريس وجو الحانة في تلك الليلة، كان الأمر يتطلب خبيرا لتحديد أيهما أكثر ثمالة من الآخر. كان الرجلان في حالة متأهبة للشجار، وفي حالة مزاجية دفعتهما إلى الدعابة والعربدة في الشارع. أما رجال الشرطة الذين اعتقدوا أن جو كان وحده، فقد تفاجئوا بوجود عنصر جديد في الشجار، الأمر الذي لم يفسد حساباتهم العددية فحسب، وإنما أصابهم أيضا بالانزعاج. وكان انتصار الثملين مجيدا، وعندما لاذا بالفرار في أحد الشوارع الجانبية، حث موريس هولندز لكي يأتي معه؛ ذلك أن ممثلي القانون والنظام دائما يتلقون تعزيزات من شأنها غالبا أن تحول النصر إلى هزيمة نكراء.
قال هولندز وهو يلهث: «لا يمكنني أن آتي معك. لقد آذاني أولئك الأوغاد.» «تعال معي، أعرف مكانا حيث سنكون آمنين.»
ورغم كونه في غاية الثمالة، استطاع جاك أن يجد فجوة في الجدار جعلته يعبر إلى بقعة شاغرة خلف مصنع الصناديق. ورقد هولندز في مكانه وهو يتأوه، وهناك غط موريس في النوم لما كان عليه من ثمالة. وفي النهاية، ثأرت الشرطة لنفسها أخيرا.
حين استيقظ موريس على ضوء النهار الباهت وإدراكه مشوش لا يعرف أين يكون، وجد رفيقه ميتا بجواره. كان يغشاه خوف من أن يحاكم بتهمة القتل، لكن لم يحدث ذلك. فمنذ اللحظة التي سقط فيها هولندز وضرب رأسه على الرصيف، تخلت عنه العناية الإلهية التي تعتني بالسكارى.
ولكن حدث شيء جيد على إثر هذه الحادثة، وهو أنها جذبت انتباه الرابطة الاجتماعية إلى جاك موريس، وهم يحاولون الآن إصلاحه.
وسواء نجحوا في ذلك أم لا، فإن جاك موريس كان رجلا في حاجة بكل تأكيد إلى الإنقاذ.
خطاب الآلة الكاتبة
حين يكون المرء في صراع مع الفقر طيلة حياته، حين يخشى الفقر وهو يحاربه، حين يشعر أنه يخنق الفقر من رقبته الصغيرة، ويخشى طيلة الوقت أن تأتي اللحظة التي يتغلب فيها الفقر عليه ويخنقه، فقد نتخيل حين يعلم هذا المرء أنه أصبح ثريا أنه سيتلقى الخبر بمرح بالغ. عندما أدرك ريتشارد دينهام أنه أصبح ثريا غدا عقلانيا أكثر من المعتاد، وأخذ شهيقا عميقا وكأنه كان يجري في سباق وقد ربحه أخيرا. ولم تكن لدى الرجل الذي جاءه بتلك الأخبار أدنى فكرة عن أنه أخبر دينهام بشيء جديد.
لم يقل الرجل سوى: «أنت الآن رجل ثري أيها السيد دينهام، ولن يعرف الفقر إليك طريقا بعد الآن.»
لم يكن ينادى دينهام من قبل بالرجل الثري، وحتى تلك اللحظة، لم يكن يرى أنه ثري. حرر دينهام الشيك المطلوب منه، وغادر زائره ممتنا له، تاركا التاجر مع شيء ليتأمله. كان دينهام مندهشا من حدوث الأمر على هذا النحو المفاجئ كما لو أن شخصا قد ترك له إرثا. فحتى الآن كان المال كله من جنيه هو، لكنه كافح بشدة ولم يكن يراوده أدنى أمل في التغلب على فقره يوما، حتى إنه ظل يبذل كل ما أوتي من طاقة كعادته، حتى بعدما هزم عدوه بفترة طويلة، مثلما حدث تماما مع القوات في نيو أورلينز حين خاضت معركة شرسة دون أن تحيط علما بأن الحرب قد وضعت أوزارها. كان دينهام يتحدر من عائلة فقيرة معدمة، تعيش في فقر مدقع لا أمل في الخروج منه. كان الفقر هو إرثهم الذي تناقلته العائلة عبر الأجيال. كان الفقر هو الإرث الثابت الذي يتركه الأب لابنه في عائلة دينهام. وكان جميع أفراد العائلة يتقبلون مصيرهم وقدرهم باستسلام وخنوع، حتى قرر ريتشارد أن يحاول على الأقل أن يكافح في سبيل تغيير ذلك الوضع. والآن، صار النصر حليفه. جلس دينهام في مكتبه يحدق إلى ورق الحائط الرث لفترة طويلة حتى أطل روجرز - وهو مدير المكتب - برأسه إلى داخل مكتبه وقال بنبرة تنم عن الاحترام ومراعاة رغبات الآخرين: «أتريد مني أي شيء آخر الليلة أيها السيد دينهام؟»
اندهش دينهام من السؤال وكأنه لم يكن يطرح على مسامعه وبنفس النبرة مساء كل ليلة لمدة أعوام طويلة.
فصاح به قائلا: «ما هذا، ما الأمر؟»
ذهل روجرز لكنه استطاع أن يخفي ذهوله. «أتريد مني شيئا آخر الليلة أيها السيد دينهام؟» «آها، حسنا. لا يا روجرز، شكرا لك. لا شيء.» «طاب مساؤك أيها السيد دينهام.» «ماذا؟ أوه، أجل. طاب مساؤك يا روجرز، طاب مساؤك.»
وحين غادر السيد دينهام مكتبه وخرج إلى الشارع بدا له كل شيء بمظهر مختلف. راح يقطع الشارع من دون أن يبالي بوجهته. نظر إلى البيوت الفخمة وأدرك أنه ربما يحصل على منزل فخم إذا ما أراد. ورأى عربات جميلة؛ ربما يحصل لنفسه على واحدة أيضا. لكن شعور الارتياح الناجم عن تلك الأفكار كان قصير الأمد. فما فائدة أن يحصل على منزل فخم أو عربة جميلة؟ لم يكن يعرف أي شخص يمكن أن يدعوه إلى المنزل أو يركب معه العربة. بدأ يدرك كم هو وحيد تماما في هذا العالم. لم يكن لديه أصدقاء، أو حتى معارف؛ فالكلب الذي يجري وهو يدس أنفه في الأرض لا يرى أي شيء من حوله. كان بالطبع يعرف بعض الأشخاص فيما يتعلق بشئون العمل، وكل منهم له منزله في أطراف المدينة وضواحيها، لكنه لا يستطيع أن يجر رجل أعمال من كتفيه ويقول له: «ادعني إلى منزلك؛ أنا وحيد، وأريد أن أتعرف إلى أناس آخرين.»
إنه لم يكن يعرف هو نفسه ماذا سيفعل إذا تلقى مثل تلك الدعوة. كانت حجرة العد ولغتها مألوفة له، أما غرفة الصالون فكانت أرضا غير مستكشفة ولغتها مجهولة له. لقد فوت على نفسه شيئا وهو في طريقه إلى الثراء، وكان الأوان قد فات الآن كي يعود لتعويض ما فوته. لقد سمع أمس أحد الموظفين، الذي لم يكن يعلم أنه على مسمع من السيد دينهام، وهو يشير إليه ب «الرجل العجوز». شعر دينهام بأنه لطالما كان في ريعان شبابه، لكن تلك الجملة وعلى الرغم من أنها قيلت على محمل الهزل تماما، جعلته يشهق ألما.
وبينما كان يسير الآن عبر المتنزه، وبعيدا عن الشوارع المزدحمة، خلع عنه قبعته ومرر أصابعه في شعره الأشيب، ونظر إلى يديه بعد أن فعل ذلك، وكأن شيبته ستخرج في يده وكأنها صبغة لم تجف بعد. تذكر فتاة كان يعرفها ذات يوم، والتي كانت ربما ستتزوج به لو أنه طلب منها الزواج؛ حيث كان يشعر بنزعة نحو ذلك. لكن كانت تلك هي غلطة آل دينهام دائما. لقد تزوجوا جميعا وهم في سن صغيرة، عداه هو، وهكذا غاصوا أكثر في مستنقع الفقر الموحل، واستبدت بهم الضغوط بفعل ذريتهم المتزايدة بسرعة. وتذكر أن تلك الفتاة قد تزوجت بخباز. أجل، كان ذلك منذ زمن طويل. ولم يكن الموظف مخطئا حين قال بأنه رجل عجوز. وفجأة ظهرت أمام مخيلته فتاة أخرى، وهي فتاة عصرية، تختلف تماما عن الفتاة التي تزوجت بالخباز. كانت تلك هي المرأة الوحيدة في العالم التي يوجد بينهما مجال للحديث، وكان يعلمها فقط لأن أناملها الرقيقة والرشيقة كانت تعزف مقطوعة العمل الوحيدة ذات الوتيرة الواحدة على الآلة الكاتبة الموجودة في مكتبه. كانت الآنسة جيل جميلة بالطبع، كحال كل الفتيات اللائي يكتبن على الآلة الكاتبة، وكان من المعروف عنها في المكتب أنها تتحدر من عائلة ثرية ساء حالها. وكان مظهرها الذي يوحي بالاستقلالية يعزز من تلك القناعة لدى الجميع، وجعل موظفي المكتب لا يجرءون على الاقتراب منها، فظلوا على مسافة منها. كانت فتاة رشيدة أدركت أن الآلة الكاتبة تدر مالا أكثر من البيانو؛ ومن ثم حولت مهارة أناملها البيضاء إلى الآلة الكاتبة. جلس ريتشارد دينهام على مقعد في المتنزه وسأل نفسه: «لم لا؟» لم يكن من سبب يمنعه من ذلك سوى أنه شعر أنه لم يكن يملك الشجاعة. ومع ذلك، اتخذ قرارا يائسا.
في اليوم التالي، سار يوم العمل كالمعتاد. جرى الرد على الخطابات، وحان الوقت الذي تدخل فيه الآنسة جيل لكي ترى إن كانت هناك أوامر أخرى اليوم. تردد دينهام. وشعر إلى حد ما أن المكتب ليس بالمكان المناسب لعرض زواج، لكنه كان يعلم أنه سيكون في وضع غير مؤات في أي مكان آخر. ففي المقام الأول، لم يكن لديه عذر منطقي يجعله يدعو الشابة إلى منزله، وفي المقام الثاني، كان يعلم أنه حتى لو اصطحبها إلى المنزل فسوف يصيبه صمت مطبق؛ ومن ثم، لا بد أن يحدث هذا في المكتب وإلا فلن يحدث في أي مكان على الإطلاق.
وأخيرا قال: «تفضلي بالجلوس يا آنسة جيل. أردت أن أستشيرك بشأن أمر ما ... أمر يخص العمل.»
جلست الآنسة جيل، وبتلقائية أخرجت الدفتر الصغير ووضعته على ركبتها لتدون تعليماته. ورفعت نظرها إليه في انتظار ذلك. فمرر دينهام أصابعه بين شعره بطريقة تنم عن الارتباك.
بدأ دينهام حديثه قائلا: «أفكر في الحصول على شريك. فالعمل مزدهر الآن. وفي الواقع، كان كذلك منذ فترة طويلة.»
قالت الآنسة جيل بنبرة استفهام: «حقا؟» «أجل، أعتقد أنني يجب أن أحصل على شريك. وهذا هو ما أردت أن أحدثك بشأنه.» «ألا تعتقد أن من الأفضل أن تستشير السيد روجرز؟ إنه على دراية بشئون العمل أكثر مني. لكن ربما تريد أن يكون السيد روجرز شريكا لك؟» «لا، ليس روجرز. هو رجل صالح. لكنه ليس روجرز.» «إذن، أعتقد أن في أمر مهم كهذا كان السيد روجرز، أو شخص يضاهيه في الإلمام التام بشئون العمل، سيتمكن من إسدائك نصائح قيمة.» «إنني لا أنشد النصيحة على وجه التحديد. لقد اتخذت قراري بأن أتخذ لي شريكا، إذا كان الشريك لديه الرغبة في ذلك.»
مسح دينهام جبينه. كان الأمر يزداد صعوبة أكثر مما توقع.
سألته الآنسة جيل وهي تتلهف لمساعدته: «إذن، هل تتعلق المسألة برأس المال الذي سيقدمه شريكك؟» «لا، لا. لا أريد رأس مال. لدي ما يكفي لكلينا . والعمل مزدهر للغاية آنسة جيل، و... ولطالما كان.»
رفعت الشابة حاجبيها تعبيرا عن اندهاشها. «من المؤكد أنك لا تنوي أن تتقاسم أرباحك مع شريك لن يقدم أي رأس مال في العمل، أليس كذلك؟» «بلى، بلى، لا أنوي ذلك. فأنت ترين - كما قلت - أنني لست بحاجة إلى المزيد من رأس المال.» «أوه، إذا كانت المسألة كذلك، فإنني أرى أنك ينبغي أن تستشير السيد روجرز قبل أن تلزم نفسك بشيء.» «لكن روجرز لن يفهم.» «أخشى أنني لا أفهم أيضا. يبدو لي أن من الحماقة أن تفعل ذلك، هذا إذا كنت تريد نصيحتي.» «أوه، أجل، أريدها. لكن الأمر ليس بهذه الدرجة من الحماقة كما تعتقدين. كان ينبغي لي أن أتخذ شريكا منذ وقت طويل. هذا هو الخطأ الذي وقعت فيه. ولقد عقدت العزم على ذلك.» «إذن لا أرى أن في مقدوري أن أفيدك، إذا كنت قد عقدت العزم بالفعل.» «أوه، بل يمكنك أن تفيديني. ولكن أخشى قليلا أن عرضي لن يحوز القبول.» «من المؤكد أنه سيحوز القبول لدى أي رجل رشيد. لا يمكن أن تخشى من رفض عرض كهذا! مثل هذه العروض لا تقدم كل يوم. سيحوز القبول.» «أتعتقدين ذلك حقا آنسة جيل؟ يسعدني أن يكون هذا هو رأيك. والآن، ما أريد أن أستشيرك بشأنه هو صيغة العرض. أريد أن أصوغه بأسلوب رقيق، حسنا، وحس مرهف، كما تعلمين، حتى لا يقابل بالرفض، ولا يمثل أي إساءة.» «فهمت. تريد مني أن أكتب له خطابا؟»
صاح دينهام بشيء من الارتياح: «بالضبط، بالضبط.» لم يكن قد فكر في إرسال خطاب من قبل. والآن، تساءل لم لم يفكر في ذلك من قبل. كان من الواضح أن هذه هي أفضل وسيلة للخروج من هذا الموقف المحرج للغاية. «هل تحدثت إليه في هذا الشأن؟» «تحدثت إليه؟ من؟» «إلى شريكك المستقبلي، بشأن هذا العرض.» «لا، لا. أوه، لا. لم أتحدث إلى أحد سواك.» «وأنت عازم على ألا تتحدث إلى السيد روجرز قبل أن تكتب عرضك؟» «بكل تأكيد. لا شأن لروجرز بذلك.»
قالت الآنسة جيل باقتضاب وهي تنكب على دفترها: «أوه، حسنا إذن.»
كان من الواضح تماما أن رأيها في حكمة دينهام وحصافته يتراجع على نحو مطرد. ثم رفعت نظرها فجأة. «وكم أذكر بشأن الأرباح السنوية؟ أم أنك لا تريد أن تذكر ذلك؟» «لا، لا أعتقد أنني سأذكرها. لا أريد أن يبنى هذا الترتيب على أساس مالي - ليس في مجمله.» «على أي أساس إذن تريد أن يبنى؟» «حسنا، لا أستطيع وصفه على وجه التحديد. ربما على أساس شخصي. إنني أفضل أن تكون لدى الشخص - أي شريكي - الرغبة في مشاركتي.»
سألته الآنسة جيل دون أن ترأف لحاله: «أتقصد بصفة ودية؟» «بالتأكيد. بصفة ودية قطعا، وربما أكثر من ذلك.»
رفعت الآنسة جيل نظرها إليه في يأس أكيد من قدرته على التعبير. «لم لا تكتب رسالة تدعو فيها شريكك المستقبلي لزيارتك هنا، أو في أي مكان آخر ملائم، ثم تناقشان الأمر؟»
بدا دينهام خائفا. «فكرت في ذلك، لكنني لن أفعل. لا، لن أفعل. أفضل أن نتفق على كل شيء بالمراسلة.» «أخشى أنني لن أستطيع صياغة خطاب يلائمك. يبدو أن هناك الكثير من الصعوبات. إنه أمر غير اعتيادي.» «هذا صحيح، ولهذا السبب أعرف أنك الوحيدة التي في إمكانها مساعدتي يا آنسة جيل. وسيسرني هذا كثيرا إذا كان يسرك.»
هزت الآنسة جيل رأسها، لكن بعد لحظات قالت: «كيف سنبدأ؟» «عزيزي السيد ...»
صاح دينهام: «انتظري لحظة، تبدو هذه الافتتاحية في غاية الرسمية، أليس كذلك؟ كيف سيكون وقعها لو قلنا: «صديقي العزيز»؟» «لا بأس إن كانت هذه رغبتك.» ثم شطبت كلمة «السيد» وبدلت بها الكلمة المقترحة. ثم قرأت:
صديقي العزيز، كنت أرغب منذ مدة أن أتخذ لي شريكا، ويسرني إذا فكرت في هذه المسألة ووافقت على الانضمام إلي في هذا العمل. إن العمل مزدهر الآن، ولطالما كان كذلك منذ بضع سنوات، وبما أنني لن أطلب منك تقديم أي رأس مال، أرى أنك ستجد عرضي مؤاتيا كثيرا. وسوف ...
قال دينهام في شيء من التردد: «أنا ... لا أظنني أريد صياغته على هذا النحو. يبدو الأمر وكأنني أقدم كل شيء، وأن شريكي ... أنت تفهمين ما أرمي إليه.»
قالت الآنسة جيل في جرأة: «هذه هي الحقيقة.» «من الأفضل صياغة الخطاب بصفة ودية كما اقترحت قبل قليل.» «لم أقترح أي شيء أيها السيد دينهام. ربما كان من الأفضل أن تملي علي الخطاب كما تريده بالضبط. كنت أعرف أنني لن أستطيع صياغة خطاب يسرك.» «إنه يسرني كثيرا، لكنني أفكر في شريكي المستقبلي. إنك تبلين بلاء ممتازا، أفضل مما يمكنني فعله. لكن كل ما عليك أن تصوغي الأمر بصفة ودية.»
وبعد لحظات قرأت: ... الانضمام إلي في هذا العمل. إنني أقدم لك هذا العرض من منظور ودي بحت، وليس من منظور مالي، آملا أنني أروق لك بما يكفي لتوافق على مشاركتي. «أي شيء آخر سيد دينهام؟» «لا. أعتقد أن هذا يغطي كل شيء. سيبدو الخطاب مقتضبا ومنسوخا بالآلة الكاتبة، أليس كذلك؟ ربما أضفت شيئا يوضح أنني سأصاب بخيبة أمل كبيرة لو أن عرضي قوبل بالرفض.»
قالت الآنسة جيل: «لا داعي للقلق بشأن ذلك، لكنني سأضيف ما تريد على أي حال. «المخلص» أو «المخلص جدا»؟» «يمكنك أن تختمي الخطاب ب «صديقك».»
جاء صوت النقر السريع على الآلة الكاتبة من الغرفة المجاورة لبضع دقائق، ثم خرجت الآنسة جيل وفي يدها نص الخطاب كاملا.
وسألته: «هل أطلب من عامل المكتب أن ينسخه؟»
أجابها السيد دينهام في هلع واضح: «أوه، باركك الرب؛ لا!»
قالت الشابة في نفسها: «إنه لا يريد للسيد روجرز أن يعرف بالأمر، ولا عجب في ذلك. إنه طلب لا علاقة له بالعمل بالمرة.»
ثم قالت بصوت مسموع: «هل ستحتاجني اليوم مجددا؟» «لا آنسة جيل، وشكرا جزيلا لك.»
في صباح اليوم التالي جاءت الآنسة جيل إلى مكتب السيد دينهام وعلى وجهها ابتسامة.
وقالت بينما تخلع عنها دثارها: «لقد ارتكبت خطأ طريفا ليلة أمس أيها السيد دينهام.»
سألها بانتباه شديد: «أحقا؟» «أجل، لقد أرسلت الخطاب على عنواني. واستلمته هذا الصباح. وقد فتحته لأنني اعتقدت أنه لي وأنك ربما لم تكن بحاجة إلي اليوم. لكنني أدركت في الحال أنك وضعت الخطاب في المظروف الخطأ. فهل تريدني اليوم؟»
كاد يقول: «أريدك كل يوم.» لكن كل ما فعله أنه مد يده ليأخذ الخطاب، ونظر إليه وكأنه لا يجد تفسيرا لإرساله إلى الوجهة الخطأ.
جاءت الآنسة جيل في اليوم التالي متأخرة، وبدت مذعورة. وبدا واضحا أن دينهام كان يفقد رباطة جأشه. وضعت الآنسة جيل الخطاب أمامه وقالت: «لقد أرسلته إلي للمرة الثانية أيها السيد دينهام.»
ارتسمت على وجه دينهام أمارات القلق المضني مما زاد شكوكها. وشعر دينهام أن عليه أن يصارحها الآن وإلا فلن يصارحها أبدا.
فقال بصوت أجش: «إذن لم لا تردين عليه يا آنسة جيل؟»
تراجعت إلى الخلف بضع خطوات.
ثم رددت كلمته بصوت خافت: «أرد عليه؟» «بالتأكيد. لو أنني تسلمت خطابا واحدا مرتين، لرددت عليه.»
صاحت قائلة، ويدها على مقبض الباب: «ماذا تقصد؟» «ما يقوله الخطاب تماما. أريدك شريكة لي. أريد أن أتزوجك، و... بالنسبة إلى الاعتبارات المالية ...»
صاحت الآنسة جيل بعد تنهيدة طويلة مرتجفة: «أوه!» لا شك أنها كانت مصدومة من الكلمة التي نطق بها، فهرعت إلى مكتبها وأغلقت الباب خلفها.
جاب ريتشارد دينهام الغرفة ذهابا وإيابا لبضع لحظات، ثم نقر على باب مكتبها نقرا خفيفا، لكن لم يأته رد. فارتدى قبعته وخرج إلى الشارع. وبعد أن سار مسافة طويلة هائما على وجهه بلا هدف، وجد نفسه مرة أخرى عند مقر عمله. وحين دخل قال له روجرز: «لقد غادرت الآنسة جيل يا سيدي.» «أحقا؟» «أجل، وقد تركت إخطارا. وقالت بأنها لن تعود يا سيدي.» «حسنا إذن.»
دلف حجرته ووجد على مكتبه خطابا معنونا ب «شخصي». فمزع المظروف ليفتحه وقرأ في حروف منمقة منسوخة على الآلة الكاتبة:
لقد استقلت من وظيفتي ككاتبة على الآلة الكاتبة، حيث تلقيت عرضا أفضل. لقد تلقيت عرض شراكة في منزل ريتشارد دينهام. وقد قررت أن أقبل العرض، ليس بسبب المغريات المالية الكثيرة بقدر ما هو بسبب أنني يسرني - بصفة ودية - الارتباط بالرجل الذي ذكرت اسمه . لماذا وضعتني تحت هذا الضغط الكبير في كتابة هذا الخطاب الأحمق، في حين أن بضع كلمات قليلة كانت ستوفر الكثير من العناء؟ من الواضح أنك تريد شريكا. وسوف يسعد أمي كثيرا أن تلتقي بك في أي وقت. لديك العنوان، صديقتك.
مارجريت جيل
صاح دينهام مبتهجا: «روجرز!»
أجابه الرجل المحترم وقد أطل برأسه إلى داخل الغرفة: «أجل يا سيدي.» «انشر إعلانا عن حاجتنا إلى موظفة آلة كاتبة أخرى يا روجرز.»
قال روجرز: «أمرك سيدي.»
هلاك لندن
(1) خيلاء القرن العشرين
أثق بأنني ممتن كثيرا أن طال بي العمر حتى أشهد أروع حقبة في تاريخ العالم، وهي حقبة منتصف القرن العشرين. ولا فائدة لأي إنسان في أن ينتقص من قدر الإنجازات الهائلة التي تحققت في الخمسين عاما المنصرمة، وعندما أقدم على لفت الانتباه إلى الحقيقة، التي من الواضح أنها أضحت منسية، وهي أن الناس في القرن التاسع عشر نجحوا في إنجاز الكثير من الأمور البارزة، فلا بد ألا يتصور أنني أعتزم من ذلك الانتقاص بأي درجة من شأن الاختراعات المذهلة للعصر الحالي. ويميل الناس دوما إلى أن ينظروا باستنكار وازدراء إلى أولئك الذين عاشوا خمسين عاما أو مائة عام قبلهم. ويبدو لي أن هذه هي نقطة الضعف البارزة للعصر الحالي؛ إنها إحساس عام بالخيلاء وهو ما ينبغي أن يبقى في الخلفية قدر الإمكان إذا ما وجد. وسيندهش الكثيرون حين يعرفون أن هذا كان أيضا أحد أوجه الخلل لدى من عاشوا في القرن التاسع عشر. لقد تخيلوا أنفسهم يعيشون في عصر التقدم، وعلى الرغم من أنني لست بالقدر الكافي من الغباء لكي أحاول إثبات أنهم قاموا بأشياء تستحق الإشارة إليها وتسجيلها حقا، فعلى أي باحث غير متحيز أن يعترف بأن اختراعاتهم كانت على الأقل هي حجر الأساس لاختراعات هذا العصر ونقطة انطلاقها. ولكن مع أن الهاتف والتلغراف، وكل الأجهزة الكهربائية الأخرى، لا تقبع الآن سوى في المتاحف القومية أو في المجموعات الشخصية لهواة جمع اختراعات القرن الماضي، فإن دراسة علوم الكهرباء التي أصبحت الآن عتيقة الطراز أدت إلى الاكتشاف الحديث للأثير المهتز الذي يساعد اليوم على إنجاز الأعمال كافة في العالم وعلى نحو مرض جدا. لم يكن الناس في القرن العشرين أغبياء، وعلى الرغم من أنني أعي تماما أن هذه الجملة ستقابل بالازدراء حيثما لفتت الانتباه إليها على أي حال، فمن في وسعه أن يقول إن التقدم خلال فترة نصف القرن القادمة لن يكون على القدر نفسه من الروعة الذي كان عليه في الفترة التي انتهت الآن؛ وإن الناس في القرن القادم ربما لا ينظرون إلينا بالازدراء نفسه الذي نشعر به تجاه من عاشوا قبل خمسين عاما؟
ورغم كوني رجلا عجوزا، وربما كنت شخصا متقاعسا يعيش في الماضي بدلا من المستقبل، فما زلت أرى أن مقالا كالذي نشر في مجلة «بلاكوود» بقلم البروفيسور الموهوب موبيري من جامعة أوكسفورد ما هو إلا مقال غير مبرر على الإطلاق. يحمل المقال عنوان: «هل استحق الشعب اللندني مصيره؟» وفيه يحاول البروفيسور توضيح أن المحو المتزامن لملايين البشر كان حدثا مفيدا، وأننا ما زلنا ننعم بنتائجه الجيدة حتى الآن. وهو يرى أن الشعب اللندني كان في غاية التخلف والغباء، وغير قادر على إحراز أي تقدم، ولا يهتم مطلقا إلا بجمع المال؛ ومن ثم فإن فناءه عن بكرة أبيه هو الشيء الوحيد الذي كان سيفي بالغرض، بل إن هلاك لندن سيكون محض نعمة وليس فاجعة مروعة. وعلى الرغم من الاستحسان الكبير الذي حظي به هذا المقال في الصحافة، فإن لدي تحفظاتي وأرى أن مثل هذا المقال لا مبرر له، وأن هناك ما ينبغي أن يقال عن لندن في القرن التاسع عشر. (2) السبب وراء عدم استعداد لندن، رغم تحذيرها
إن الاستياء الذي شعرت به عندما قرأت المقال المشار إليه للمرة الأولى ما زال يلازمني، وقد دفعني إلى أن أكتب هذه الكلمات، موضحا الأمر الذي ما زلت أرى أنه أفظع كارثة حصدت أرواح الكثير من البشر، على الرغم من استخفاف العصر الحالي واستهزائه تجاهها. إنني لن أحاول أن أقدم لمن يقرءون كلماتي هذه أي بيان أو تقرير عن الإنجازات المتعلقة بالفترة الزمنية محل النقاش. لكنني أود أن أقول بضع كلمات حيال الغباء المزعوم للشعب اللندني فيما يتعلق بعدم القيام بأي استعدادات إزاء كارثة كانوا يتلقون تحذيرات مستمرة ومتكررة بشأنها. لقد وضعوا في مقارنة مع سكان بومباي الذين كانوا يمرحون عند سفح بركان. بادئ ذي بدء، كان الضباب أمرا مألوفا للغاية في لندن، لا سيما في فصل الشتاء، حتى إن أحدا لم يكن يوليه اهتماما كبيرا. كان الجميع ينظر إلى الضباب على أنه مصدر إزعاج كبير، يعطل حركة المرور وذو تأثير ضار على الصحة، لكنني أشك إن كان أحد قد فكر أن من الممكن أن تتحول سحابة من الضباب إلى وسادة كبيرة خانقة تضغط على مدينة بأسرها، كاتمة للحياة فيها وكأن المدينة كانت تعاني من داء الكلب العضال. لقد قرأت أن الضحايا الذين عضتهم الكلاب المسعورة كانوا في السابق يجدون حدا لمعاناتهم بتلك الطريقة نفسها، على الرغم من أنني أشك كثيرا إن كانت تلك الأشياء تحدث فعلا، على الرغم من تهم الهمجية والوحشية التي تطلق الآن ضد من عاشوا في القرن التاسع عشر.
ربما كان سكان مدينة بومباي معتادين كثيرا على ثوران بركان فيزوف لدرجة أنهم لم ينتبهوا مطلقا إلى احتمالية أن تدمر مدينتهم بفعل عاصفة من الرماد وفيضان من الحمم البركانية. كان المطر يهطل باستمرار على لندن، وإذا استمر هطول المطر فترة طويلة بما فيه الكفاية، فمن المؤكد أن الأمر كان سيحدث فيضانا يغرق المدينة، لكن لم تتخذ تدابير استباقية إزاء فيضان يأتي من السماء. إذن لماذا نتوقع من الشعب اللندني أن يستعد لكارثة سببها الضباب، خصوصا أننا لم نسمع بمثل هذا في تاريخ العالم كله؟ كان الشعب اللندني أبعد ما يكون عن نماذج الحمقى البطيئي الاستجابة التي يصفهم بها كتاب العصر الحديث ويريدون منا تصديقهم. (3) المصادفة التي وقعت أخيرا
الآن وقد انقشع الضباب عن كل من الأرض والبحر، ولم تر إلا فئة قليلة من الجيل الحالي هذا الضباب، قد يكون الحديث عن الضباب بصفة عامة - وعن ضباب لندن بصفة خاصة - في أسطر قليلة أمرا في محله، حيث يختلف ضباب لندن عن الضباب عموما من خلال بعض السمات الخاصة المحلية. الضباب هو ببساطة بخار ماء يرتفع من سطح الأرض السبخة أو من البحر، أو هو ما يتكثف على هيئة سحابة من الغلاف الجوي المشبع. وفي شبابي، كان الضباب يشكل خطرا كبيرا في البحر، ذلك أن الناس وقتها كانوا يسافرون بالسفن البخارية التي كانت تبحر على سطح ماء المحيط.
كانت لندن في نهاية القرن التاسع عشر تستهلك كميات هائلة من الفحم الحجري الناعم لغرض تدفئة الحجرات وإعداد الطعام. وفي الصباح وأثناء النهار، كانت سحب من الدخان الأسود تتدفق من آلاف المداخن. وعندما كانت كتل البخار الأبيض ترتفع ليلا كانت سحب الدخان تلك تسقط على الضباب، فكانت تضغط عليه للأسفل، وتتسرب ببطء خلاله وتضيف كثافة إلى كثافته. وكانت الشمس ستبدد الضباب لولا طبقة الدخان الكثيفة التي كانت تستقر على البخار مانعة أشعة الشمس من الوصول إليه. وعندما أصبحت تلك الظروف هي الحالة السائدة، لم يكن من شيء ينقي جو لندن سوى نسمة ريح تهب من أي اتجاه. كانت لندن في الغالب تقبع في الضباب لمدة سبعة أيام، وفي بعض الأحيان يكون الجو هادئا لمدة سبعة أيام، لكن هاتين الحالتين لم يتزامنا قط حتى العام الأخير من القرن المنصرم. كان هذا التزامن يعني - كما يعلم الجميع - الموت، وهو موت بالجملة لم تكن حتى أسوأ حرب شهدتها الأرض لتخلف وراءها هذا الكم من القتلى. ولكي نفهم الوضع، علينا فقط أن نتخيل أن الضباب يحل محل الرماد في مدينة بومباي، وأن دخان الفحم هو الحمم البركانية التي كانت تغطيه. وفي كلتا الحالتين كانت النتيجة متشابهة تماما فيما يتعلق بسكان المدينتين. (4) الأمريكي الذي كان يريد البيع
كنت في ذلك الوقت سكرتيرا خاصا في شركة «فولتون آند بريكستون وشركائهما»، وهي شركة في شارع كانون وتعمل بصفة رئيسية في مجال الكيماويات والأجهزة الكيميائية. لم ألتق فولتون قط؛ فقد مات قبل انضمامي إلى العمل في الشركة بوقت طويل. أما السير جون بريكستون فكان رئيسي في العمل، وأعتقد أنه حاز لقب «سير» أو «فارس» نظير خدمات قدمها إلى حزبه، أو لأنه كان مسئولا رسميا في المدينة أثناء فترة شهدت بعض التقدم الملكي فيها؛ ولقد نسيت أي السببين كان صحيحا. كانت غرفتي الصغيرة مجاورة لغرفته الكبيرة، وكانت مهمتي الأساسية هي التأكد دائما من أن أحدا لا يلتقي بالسير جون في مقابلة شخصية إلا إذا كان شخصا مهما أو لديه شأن مهم. كان من الصعب مقابلة السير جون، وكان من الصعب التعامل معه عند مقابلته. فلم يكن يكن الكثير من الاحترام لمشاعر غالبية الناس، ولم يكن يكن أي احترام لمشاعري. وإذا سمحت لأحد بدخول غرفته وكان ينبغي أن يتعامل معه أحد صغار الموظفين بالشركة، لم يكن السير جون ليبذل أي جهد ليخفي رأيه فيما صدر مني. وذات يوم في خريف العام الأخير من القرن، دخل رجل أمريكي إلى غرفتي. وأبدى الرجل إصرارا شديدا على مقابلة السير جون بريكستون. أخبرته أن ذلك مستحيل؛ لأن السير جون كان مشغولا للغاية، وأنه إذا أخبرني بما يريد فإنني سأعرض الأمر على السير جون في أقرب فرصة تسنح لذلك. اعترض الأمريكي على ذلك، لكنه في النهاية رضخ لاقتراحي الذي لا مفر منه. قال إنه اخترع آلة من شأنها أن تغير ملامح الحياة في لندن تغييرا جذريا، وأنه يريد أن تصبح شركة «فولتون آند بريكستون» وكيلا له. كانت الآلة، التي كان يحملها معه في حقيبة يد صغيرة، مصنوعة من معدن أبيض، وكانت مركبة بحيث إذا أدرت مؤشرا فيها فإنها تخرج كميات متفاوتة من غاز الأكسجين. وكان الغاز - حسب ما فهمت - معبأ في داخلها في صورة سائل تحت ضغط هائل، ويدوم لمدة ستة أشهر - إذا كنت أذكر ما قاله لي وقتها جيدا - من دون الحاجة إلى إعادة ملء الآلة وشحنها به. كما كان بها أنبوب مطاطي متصلة به قطعة توضع في الفم، وقال الأمريكي بأن المرء إذا استنشق منها عدة مرات في اليوم، فإنه سيحظى بنتائج ذات نفع له. ومن هنا، أدركت أن عرض الآلة على السير جون لم يكن يجدي نفعا على الإطلاق؛ لأننا كنا نعمل في مجال الأجهزة البريطانية القديمة، وليس في أي من الاختراعات الأمريكية الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك، كان السير جون متحيزا ضد الأمريكيين، وبت متأكدا من أن ذلك الأمريكي سيثير سخطه؛ ذلك أنه كان نموذجا شديد الشحوب من العرق البشري، وكان يصدر من أنفه خنينا عاليا، ومخارج الحروف عنده يرثى لها، وحديثه مليئا باللغة العامية، كما كانت تصدر عنه عادة بعض السلوكيات العصبية تجاه الأشخاص الذين كان هو بالنسبة إليهم شخصا غريبا تماما. ومن ثم، كان من المستحيل بالنسبة إلي أن أسمح لرجل كهذا أن يدخل إلى السير جون بريكستون، وعندما عاد بعدها ببضعة أيام شرحت له - وآمل أنني فعلت ذلك بكياسة ولطف - أن رئيس الشركة آسف للغاية لعدم قدرته على النظر في عرضه بشأن الآلة. ويبدو أن حماسة الأمريكي لم تتأثر مطلقا بهذا الرفض. وقال بأنني لم أستطع أن أشرح إمكانيات الآلة للسير جون بطريقة ملائمة؛ فقد كان يقول بأنها اختراع عظيم، وقال بأنها تمثل ثروة لأي شخص يحوز على حق الوكالة عنها. وألمح إلى أن هناك شركات أخرى مرموقة في لندن متحمسة للحصول على هذا العرض، لكنه - لسبب ما - لم يذكر أنه كان يفضل التعامل مع شركتنا نحن. ثم ترك بضعة كتيبات مطبوعة بخصوص آلته، وقال بأنه سيعرج مرة أخرى. (5) الأمريكي يقابل السير جون
لطالما فكرت في أمر ذلك الأمريكي المثابر، وتساءلت إن كان قد غادر لندن قبل وقوع الكارثة، أم أنه كان ضمن الآلاف الذين دفنوا في مقابر مجهولة دون معرفة هوياتهم. ولم يكن ليتبادر إلى ذهن السير جون حين طرده من مكتبه بشيء من القسوة أنه كان يرفض عرضا يساوي حياته، وأن الكلمات القاسية التي استخدمها كانت في واقع الأمر بمثابة حكم بالإعدام أصدره بحق نفسه. ومن جانبي، فإنني نادم على أنني انفعلت على الأمريكي وقلت له بأن أساليبه في العمل لم تكن تثير إعجابي. ربما لم يشعر هو بقسوة تلك الكلمات؛ فأنا متأكد من أنه لم يتأثر؛ ذلك أنه أنقذ حياتي من دون أن يعلم هو ذلك. لكن، أيا كان الأمر، لم يبد الرجل استياء من جانبه، بل دعاني على الفور إلى تناول شراب معه، وهو عرض كنت مجبرا على رفضه. لكنني أسبق أحداث قصتي الآن. في الواقع، عدم اعتيادي على الكتابة يجعل من الصعب علي أن أسرد الأحداث في تسلسلها الصحيح. زارني الرجل الأمريكي عدة مرات بعد أن أخبرته أن شركتنا لا يمكنها العمل معه. ثم اعتاد الرجل على زيارتي من دون سابق إعلان منه، وهذا أمر لم أكن أحبذه كثيرا، لكنني لم أعطه أي توجيهات بشأن تطفله؛ لأنني لم تكن لدي أدنى فكرة عن مدى السوء الذي يمكن أن يصل إليه تصرفه ورد فعله حيال ذلك. وذات يوم، وبينما كان يجلس بالقرب من مكتبي يقرأ جريدة، استدعاني السير جون لفترة وجيزة إلى غرفته. وعندما عدت اعتقدت أنه رحل وأخذ آلته معه، لكن بعد لحظة صدمت حين سمعت خنينه العالي يأتي من حجرة السير جون ويتناوب مع صوت رئيسي الرخيم، الذي كان من الواضح أنه لم يكن يثير في نفس الأمريكي أي شعور بالجفول أو الوجل مثلما كان يحدث لدى من اعتادوا سماعه. دخلت حجرة السير جون في الحال، وكنت على وشك أن أشرح له أن الأمريكي قد دخل إليه من دون تواطؤ من جانبي، حين طلب مني رئيسي أن ألتزم الصمت، ثم استدار إلى زائره وطلب منه في فظاظة أن يكمل حديثه المثير للاهتمام. لم يكن المخترع بحاجة إلى دعوة ثانية ليفعل، فاستطرد حديثه العفوي، فيما كان عبوس السير جون واحمرار وجهه يزيدان تحت حدود شعره الرمادي. وعندما انتهى الأمريكي من حديثه، أمره السير جون في فظاظة أن يغرب عن وجهه ويأخذ معه آلته اللعينة. وقال بأنه من المهين لرجل طاعن في السن يكاد يقترب من نهايته أن يحضر ما يطلق عليه اختراعا صحيا إلى رجل قوي لم يصبه المرض يوما، ولا أعلم لم استمع مطولا إلى الأمريكي على الرغم من أنه كان قد اتخذ قراره منذ البداية ألا يتعامل معه، اللهم إلا إذا كان الهدف من ذلك هو معاقبتي على أنني سمحت لهذا الأمريكي من دون قصد أن يدخل إليه. ضايقتني كثيرا هذه المقابلة، حيث كنت أقف عاجزا، وأنا أعلم أن السير جون يزداد غضبا مع كل كلمة ينطقها ذلك الأجنبي، ولكن نجحت في النهاية في سحب المخترع وآلته إلى غرفتي وأغلقت الباب. كنت أتمنى بكل صدق ألا أرى ذلك الأمريكي مرة أخرى، وتحققت أمنيتي. فقد أصر على تشغيل آلته ووضعها على رف في حجرتي. وطلب مني أن أدسها في غرفة السير جون ذات يوم يعج بالضباب وأن ألاحظ التأثير. وقال الرجل بأنه سيأتي مرة أخرى، لكنه لم يفعل قط. (6) كيف ضغط الدخان على الضباب
هبط علينا الضباب ذات يوم وكان يوم جمعة. كان الطقس جميلا للغاية حتى منتصف شهر نوفمبر من ذلك الخريف. ولم يبد أي شيء غريب بشأن الضباب. لقد شهدت الكثير من نوبات الضباب التي تفوق ذلك سوءا. ولكن، بمرور الأيام، أصبح الجو أكثر كثافة وقتامة، وأعتقد أن ذلك كان سببه الحجم المتزايد من دخان الفحم الذي كان يستقر على طبقات الضباب. وكان الغريب بشأن تلك الأيام السبعة هو سكون الهواء التام. لقد كنا تحت مظلة تمنع الهواء، وكنا نستهلك الأكسجين واهب الحياة حولنا ببطء وثبات، وكنا نستبدل به غاز حمض الكربونيك السام، ولكننا لم نكن نعلم ذلك حينئذ. ومنذ ذلك الوقت، أوضح العلماء أن عملية حسابية بسيطة كانت تخبرنا متى بالضبط ستستنفد آخر ذرة أكسجين من الجو، لكن من السهل أن تتحلى بالحكمة بعد وقوع الكارثة. عثر على جثة أفضل عالم رياضيات في إنجلترا على الساحل. وكان قد وصل ذلك الصباح قادما من كامبريدج. وأثناء فترة الضباب، كانت هناك دائما زيادة ملحوظة في معدلات الوفاة، وفي هذه المرة، لم تكن الزيادة أكبر من المعتاد حتى اليوم السادس. وفي صباح اليوم السابع كانت الصحف تعج بإحصاءات صادمة، لكن لم يكن هناك من يدرك الدلالة الكاملة لتلك الأرقام المقلقة أثناء نشرها في الصحافة. ولم تكن المقالات الافتتاحية في الجرائد الصباحية خلال اليوم السابع تتضمن أي تحذير بشأن الكارثة التي كانت ستعقب ظهورها بسرعة بالغة. كنت في تلك الفترة أعيش في إيلنج، وهي ضاحية غربي لندن، وكنت آتي كل صباح إلى شارع كانون بالقطار في موعد محدد. ولم يكن الضباب يسبب لي أي إزعاج حتى اليوم السادس، وكنت مقتنعا تماما أن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى عمل الآلة الأمريكية الذي لم يكن يفطن إليه أحد.
وفي اليومين الخامس والسادس لم يأت السير جون إلى المدينة، لكنه كان في مكتبه في اليوم السابع. كان الباب بين حجرته وحجرتي مغلقا. وبعد أن تجاوزت الساعة العاشرة بقليل سمعت صرخة في حجرته وتبعها صوت ارتطام شديد. فتحت الباب ورأيت السير جون ممددا على الأرض ووجهه للأسفل. وبالإسراع نحوه، شعرت للمرة الأولى بالتأثير القاتل للهواء الخالي من الأكسجين، وقبل أن أصل إليه سقطت أولا على ركبتي ثم على وجهي. شعرت أن حواسي كانت تفارقني، فزحفت بدافع غريزي نحو غرفتي حيث انقشع عني ضيق صدري في الحال، ووقفت مرة أخرى على قدمي أشهق. أغلقت باب حجرة السير جون حيث ظننت أنها كانت مليئة بالأبخرة السامة، وقد كانت كذلك بالفعل. صحت طالبا المساعدة، لكن لم ألق ردا. وحين فتحت باب المكتب الرئيسي وجدت مجددا ما اعتقدت أنه أبخرة سامة. وعندما أغلقت الباب بسرعة، ذهلت من الصمت المطبق الذي صار يغلف المكتب الذي لطالما كان يعج بالصخب دائما، ورأيت أن بعض الموظفين كانوا يرقدون بلا حراك على الأرض، وآخرين يجلسون إلى مكاتبهم ورءوسهم منكبة عليها وكأنهم نيام. وحتى في تلك اللحظة المرعبة، لم أدرك أن ما أراه كان يشمل لندن بأسرها، وأنه ليس كارثة محلية كما تخيلت تسبب فيها كسر في بعض الدمجانات في السقف. (كانت تلك الدمجانات مملوءة بأنواع شتى من المواد الكيميائية، التي لم أكن على دراية بخصائصها؛ حيث كنت أعمل مع محاسب الشركة ولم يكن لي دخل بالجانب العلمي فيها.) ثم فتحت النافذة الوحيدة في حجرتي وصحت مرة أخرى طالبا المساعدة. كان الشارع ساكنا ومظلما في ذلك الضباب القابع المشئوم، والشيء الذي تجمدت له أوصالي من الرعب في تلك اللحظة كان أنني وجدت نفس الهواء الخانق والقاتل الذي كان قابعا في الأرجاء. وفي أثناء سقوطي أغلقت النافذة، فحجبت الهواء السام. عدت للحياة مرة أخرى، وبدأت أستعيد كامل وعيي وأدرك حقيقة الأشياء من حولي رويدا رويدا.
كنت في واحة ملأى بالأكسجين، وتكهنت في الحال أن الآلة الموجودة على الرف هي المسئولة عن وجود هذه الواحة وسط صحراء شاسعة من الغاز المميت. أنزلت الآلة الأمريكية عن الرف، وقد تملكني الخوف من أنني قد أوقف عملها إذا ما حركتها. ثم وضعت القطعة المخصصة للفم بين شفتي ودخلت حجرة السير جون، من دون أن أشعر هذه المرة بأي آثار سلبية. كان رئيسي المسكين قد تخطى مرحلة الإنقاذ بكثير، وباتت حالته ميئوسا منها تماما. وكان من الواضح أنه لا يوجد أحد على قيد الحياة في البناية سواي. وفي الشارع كان كل شيء ساكنا وقاتما. كان انبعاث الغاز قد خمد، لكن في المتاجر المنتشرة هنا وهناك كانت المصابيح المضيئة لا تزال تتوهج على نحو غريب، معتمدة في ذلك على المراكم وليس على الطاقة المباشرة للمحركات. توجهت تلقائيا نحو محطة شارع كانون وكنت أعلم طريقي إليها حتى ولو كنت معصوب العينين، وكنت أتعثر في الجثث المنتشرة على الرصيف، وأثناء عبوري الطريق اصطدمت بحافلة متوقفة وكانت تبدو في الضباب وكأنها شبح، والجياد نافقة عند مقدمتها بينما يتدلى لجامها من يد السائق الميت الواهنة. وكان الركاب الشبيهون بالأشباح لا يحركون ساكنا مثلهم، يجلسون معتدلين في جلستهم، أو معلقين على حافة المقاعد بأوضاع جسمانية بشعة ومثيرة للرعب. (7) القطار ذو العربة المليئة بالموتى
لو كانت قوى التفكير والمنطق يقظة ومنتبهة لدى المرء في مثل ذلك الوقت (وأعترف أنها لدي كانت في سبات عميق) لعرف أن من غير الوارد أن يوجد أي قطار في محطة شارع كانون؛ ذلك أنه إذا لم يكن يوجد من الأكسجين في الجو ما يكفي لكي يبقى المرء على قيد الحياة، أو لكي يظل المحرك النفاث الغازي قيد التشغيل، فمن المؤكد أنه ما كان ليوجد ما يكفي من الأكسجين لتظل نار المحرك متقدة، حتى ولو كان العامل لديه من الطاقة ما يكفي لإنجاز مهمته. ولكن في بعض الأحيان تكون السليقة أنفع من العقل، وقد ثبت ذلك في هذه الحالة. كانت القطارات القادمة من إيلنج في تلك الأيام تسير تحت المدينة في نفق عميق. وربما يبدو أن غاز حمض الكربونيك في ذلك الممر النفقي قد يجد له مكانا يستقر فيه وذلك بفعل وزنه، لكن لم يكن هذا هو واقع الحال. أتصور أن تيارا من الهواء جاء عبر النفق من المناطق النائية حاملا معه هواء نقيا نسبيا حافظ على الحياة لبضع دقائق بعد وقوع الكارثة. وأيا كان الأمر، كانت الأرصفة الطويلة في محطة شارع كانون النفقية تمثل مشهدا يبث الرعب في النفوس. كان هناك قطار يقف على الرصيف السفلي. وكانت المصابيح الكهربائية تنير على نحو متقطع. كان الرصيف يعج برجال يحارب بعضهم بعضا كالشياطين، من غير سبب واضح على ما يبدو؛ لأن القطار كان مليئا بالناس بالفعل بقدر ما يمكنه أن يحمل. كان المئات قد لقوا حتفهم تحت الأقدام، وكانت تأتي بين الحين والآخر هبة من الهواء الفاسد عبر النفق وعندئذ يرخي مئات آخرون من الناس قبضتهم ويذعنون للموت. وعلى جثثهم كان الناجون يتصارعون بأعداد تتناقص باطراد. بدا لي أن معظم من كانوا على متن القطار الواقف ميتون. وفي بعض الأحيان كانت مجموعة يائسة من المتناحرين يتدافعون بعنف فوق أكوام الجثث ويفتحون الباب ويلقون بالركاب الموجودين بالداخل فيأخذون أماكنهم وهم يلهثون. ولم يظهر من كانوا في القطار أي مقاومة، فكانوا يرقدون بلا حراك حيث يقعون، أو حيث يتدحرجون بلا حول منهم ولا قوة تحت عجلات القطار. شققت طريقي على طول الجدار قدر ما أمكنني متجها إلى القاطرة حيث يوجد المحرك، وكنت في ذلك أتساءل لم لم يتحرك القطار. كان العامل يرقد على أرضية مقصورته وكانت نار المحرك خامدة.
والاعتياد هذا أمره غريب؛ فقد كان الغوغاء المتصارعون الذين يتناحرون فيما بينهم بصورة متوحشة من أجل الحصول على أماكن لهم في عربات القطار معتادين على وصول القطارات ومغادرتها بحيث بدا من الواضح أن أحدا منهم لم يفكر أن عامل القطار كان بشرا مثلهم وأنه كان يتعرض للأحوال الجوية نفسها التي يتعرضون هم لها. وضعت قطعة الفم بين شفتيه الأرجوانيتين، وبينما كنت أحبس أنفاسي مثل غواص، نجحت في إنعاشه. وقال الرجل بأنني إذا ما أعطيته الآلة فإنه سيأخذ القطار إلى أبعد نقطة يمكن أن يحمله إليها البخار الموجود في المحرك بالفعل. ورفضت فعل ذلك، لكنني دخلت إلى غرفة المحرك معه وقلت بأن الآلة ستحافظ على حياتنا معا حتى نصل إلى مكان يكون الهواء فيه أفضل. وافق على مضض وشغل محرك القطار، لكنه لم يكن نزيها. فقد كان في كل مرة يرفض أن يعطيني الآلة حتى أوشكت على الإغماء من شدة حبسي لأنفاسي، وفي النهاية أوقعني على أرضية العربة. ويتراءى لي أن الآلة تدحرجت وسقطت إلى خارج العربة حين وقعت على الأرض وأنه قفز خلفها. واللافت للنظر هنا أن كلينا لم يكن في حاجة إلى الآلة؛ ذلك أنني أذكر بعد أن بدأنا نتحرك بالقطار أنني رأيت نار المحرك تستعر من جديد من خلال باب حديدي مفتوح، رغم أنني في ذلك الوقت كنت في حالة شديدة من الحيرة والرعب بحيث لم أتمكن من فهم ما يعنيه ذلك. ثم هبت نسمة هواء غربية، وكانت متأخرة في توقيتها بمقدار ساعة من الزمن. وحتى قبل أن نغادر شارع كانون كان الناجون لا يزالون آمنين نسبيا، ذلك أن مائة وسبعة وستين شخصا أنقذوا من بين جثث الموتى المتراكمة على الرصيف، وإن كان الكثير منهم قد ماتوا في غضون يوم أو يومين بعد ذلك، ولم يستعد آخرون رشدهم قط. وحين استعدت وعيي بعد الضربة التي وجهها إلي العامل، وجدت نفسي وحيدا والقطار ينطلق سريعا عبر نهر التيمز بالقرب من كيو. حاولت أن أوقف المحرك لكنني لم أنجح في ذلك. لكن أثناء محاولاتي، تمكنت من تشغيل المكابح الهوائية، الأمر الذي أبطأ من سرعة القطار بدرجة ما، وخفف من حدة التصادم في محطة ريتشموند الأخيرة. قفزت من العربة على الرصيف قبل أن يصل المحرك إلى مخففات الاصطدام بالمحطة النهائية، ورأيت فيما يشبه الكابوس قطارا من الموتى يمر أمامي. كانت معظم الأبواب متأرجحة مفتوحة على مصراعيها، وكانت كل عربة تعج بالبشر، رغم ما عرفته لاحقا عن أن الجثث كانت تتطاير على طول الطريق مع كل منحنى يتخذه القطار أو تمايل يصيبه. ولم يكن التصادم الذي وقع في ريتشموند قد أثر على الركاب. ولم يخرج من ذلك القطار أحد على قيد الحياة إلا أنا واثنان آخران، وكان أحدهما قد تمزقت ملابسه من جهة ظهره أثناء العراك وقد أخذ إلى إحدى المصحات حيث لم يستطع قط أن يعرف من يكون؛ وعلى حد علمي، لم يكن يزعم أحد معرفته به.
مأزق دي بلونفيل
تختلف هذه القصة عن الأخريات في أنها تحوي مجموعة متنوعة من الدروس الأخلاقية. ولمعظم القصص درس أخلاقي واحد، أما هنا فهناك العديد منها. ويظهر الدرس الأخلاقي عادة في نهاية القصة، ولكن في هذه القصة تذكر بضعة دروس في البداية، حتى نوليها اهتماما أكبر بينما نتقدم في قراءة القصة. أولا: حري بالمرء - لا سيما إذا كان شابا - أن يولي اهتماما كبيرا بعمله. ثانيا: عندما يقدم المرء على التخطيط لحياته في المستقبل القريب، فسيكون من الخطأ ألا يخصص نسبة عشرة في المائة على الأقل لذلك الجزء المجهول، وهو المرأة. ثالثا: من المفيد أن نتذكر أن من النادر أن يعرف امرؤ واحد كل شيء. ولا شك أن المزيد من الدروس الأخلاقية ستظهر فيما بعد، وفي نهاية القصة قد يتفكر الشخص الميال نحو التهكم والسخرية في القول المأثور الذي يتحدث عن المطرقة والسندان أو الرمضاء والنار.
كان الشاب الباريسي إم دي بلونفيل يتمتع بوضع يحسد عليه. كان لديه كل ما يحتاج من المال، وشتان بين ذلك وبين القول بأنه كان لديه كل ما يريد من المال. كان على مستوى جيد من التعليم، ويتحدث ثلاث لغات، بمعنى أنه كان يتحدث لغته الأم بطلاقة واللغتان الأخريان يتحدثهما على نحو رديء، ولكن لكونه رجلا يفخر بنفسه لما يستطيع القيام به ولو بأدنى الدرجات، كان دي بلونفيل يتخيل نفسه عالم لغة يتقن لغات عديدة. وكانت شجاعته في التحدث بالإنجليزية أمام الإنجليز وبالألمانية أمام الألمان تظهر على أقل تقدير أنه رجل يتسم بالشجاعة. كان دي بلونفيل يتمتع بالكثير من الخير، بل ومن الموهبة أيضا. وقد ذكرت هذه الجملة في البداية لأن كل من يعرف دي بلونفيل سيعارضها في الحال ومن دون تردد. كان من يعرفونه يرون أنه من أكثر الشخصيات البغيضة والمكروهة في باريس، وكان ضباط البحرية عادة ما يتلفظون بألفاظ نابية لا مبرر لها حين يذكر اسمه. وكان هذا كله بسبب ما يتمتع به دي بلونفيل من مكانة، الأمر الذي كان له مساوئه رغم كونه مدعاة للحسد.
كانت رتبته في البحرية لا يمكن أن تعطيه أي ثقل أو اعتبار أيما كان، لكن لسوء الحظ، كان لدى بلونفيل بحكم شعبيته وشهرته أسلوبه في فرض مقترحاته. كان والده رجلا مهما للغاية في الحكومة الفرنسية. وكان من الأهمية بمكان بحيث يمكن له أن يرسل توبيخا إلى قائد سرب في البحرية ولا يجرؤ القائد على الرد عليه. يتطلب هذا الأمر رجلا يتمتع بأهمية كبيرة حقا، وهذا ما كان يتمتع به دي بلونفيل الأب من قدر ومكانة. لكن كان من المعروف آنذاك أن دي بلونفيل الأب رجل هادئ يحب الراحة، ولم يكن يكترث بأن يزعج نفسه كثيرا بأمر البحرية الموضوعة تحت سلطته وتصرفه؛ ومن ثم عندما كانت تظهر مشكلة، يكون دي بلونفيل الابن هو المتسبب فيها؛ ومن ثم، لم يكن الضباط في البحرية يكنون له الحب.
وغالبا ما كانت تصرفات دي بلونفيل الابن الطائشة والغبية تضفي مصداقية على تلك الشكوك. على سبيل المثال، هناك حادثة تولون الشهيرة . ففي خضم جدال محتدم، زعم دي بلونفيل الابن أن نيران المدرعات الفرنسية كانت رديئة، وأن الأسطول الفرنسي بأكمله لم يكن ليصمد أمام مدفعية عشرة من البحرية الإنجليزية. وبعد ذلك بفترة ما، عرف الضباط البحريون أن الحكومة في باريس غير راضية تماما عن تدريبات البحرية غير الدقيقة على السلاح، كما أعربت الحكومة عن آمالها في أن ينظر قائد البحرية في أمر تحسين ذلك. لم يستطع الضباط بالطبع فعل أي شيء سوى الكز على أسنانهم، ومحاولة إطلاق النار على نحو أفضل، آملين في أن يحين الوقت الذي تخرج فيه الحكومة الحالية من نطاق السلطة، وأن يجدوا حجة ملموسة لكي يشنقوا دي بلونفيل الابن على عارضة الصاري.
كل هذا لا يؤثر كثيرا على هذه القصة، لكننا نأتي الآن على ذكر أمر سيحدد مصير القصة من نجاح أو فشل. كان لدى بلونفيل سر، ولم يكن سرا كتلك الأسرار الشائعة في الحياة الباريسية، وإنما كان سرا جديرا بالتصديق من جانبه. وكان السر يتعلق باختراع يهدف إلى زيادة كفاءة الجيش الفرنسي. تحول اهتمام دي بلونفيل بطبيعة الحال إلى الجيش الذي هو إحدى وسائل الدفاع عن وطنه، والذي لم تكن هناك أي علاقة بين دي بلونفيل وبينه. وقد تحدث عن اختراعه ذلك ذات مرة إلى صديق له، وهو ملازم في الجيش. وكان يتوقع الحصول على بعض المقترحات العملية. لكنه لم يأت على ذكره مرة أخرى لأي أحد.
قال دي بلونفيل لصديقه: «إنه مبني على مبدأ المظلة. بل، في واقع الأمر، المظلة هي ما أوحت إلي بفكرته. وإذا أمكن صناعته ليكون خفيفا بحيث لا يضيف عبئا كبيرا على الجنود الذين يواجهون الكثير من العوائق في الوقت الراهن، فإنني أرى فيما يبدو أنه سيكون مفيدا بدرجة فائقة. وبدلا من أن يكون مستديرا كالمظلة، لا بد أن يكون مستطيلا وذا أطراف حادة مستدقة. ولا بد أن يصمم بحيث يمكن فتحه وغلقه بسهولة، وسيكون القماش المستخدم فيه رقيقا، لكنه سيكون غير نفاذ للماء. وعندما يصل الجيش إلى أحد الأنهار، يمكن لكل جندي أن يفتحه ويضعه في الماء ويدخله ببعض الحذر ثم يجدف بنفسه باستخدام نهاية عقب البندقية أو حتى بمجداف خفيف إن كان حمل المجداف لن يضيف إلى الوزن كثيرا؛ ومن ثم سنوفر عناء بناء الجسور المؤقتة. يبدو لي أن مثل هذا الاختراع سيكون مفيدا للغاية أثناء الزحف المتواصل للجنود. ثم يمكن استخدامه في الليل كخيمة، أو يمكن أن يشكل مأوى مؤقتا أثناء هطول الأمطار الغزيرة. ما رأيك في الفكرة؟» كان صديقه يستمع إليه بعينين شبه مغلقتين، يغالبهما النعاس. فنفث بعض دخان سيجاره من فتحتي أنفه وأجابه: «إنه رائع يا دي بلونفيل.» قالها ببطء وتراخ ثم أضاف: «إمكاناته متعددة، أكثر حتى مما تتخيل. وسيكون مفيدا للغاية أيضا في فيلق جبال الألب.» «يسرني أنك تظن ذلك. لكن لماذا هناك؟» «اسمع، إذا بلغ الجيش قمة عالية تطل على واد سحيق، لا يمكن بلوغه إلا من فوق جرف يتعذر اجتيازه، فكل ما سيكون على الجيش فعله هو نشر اختراعك الرائع واستخدامه كمظلة باراشوت. وسيكون مشهد الجيش الفرنسي وهو يتحرك بسلاسة هابطا نحو الوادي مثيرا للرعب كثيرا في نفوس دول أوروبا، حتى إنني أتصور أن أي عدو لن ينتظر حتى تطلق نيران البندقية. إن اختراعك يا دي بلونفيل سيخلد اسمك واسم الجيش الفرنسي.»
لم ينتظر دي بلونفيل الابن ليسمع المزيد، وإنما استدار وانطلق مبتعدا.
دفعت هذه المحادثة دي بلونفيل الابن إلى اتخاذ قرارين؛ الأول هو ألا يذكر مشروع اختراعه هذا إلى أحد، والثاني أن يدأب على إتمام اختراعه وإتقانه؛ ومن ثم يتسبب في إرباك الساخرين منه وإصابتهم بالحيرة والتخبط. وكان هناك العديد من القرارات الفرعية التي تعتمد على هذين القرارين. لن يدخل إلى ناد أبدا، وسيتجنب التجمعات، ولن يتحدث إلى امرأة، باختصار، سيكون ناسكا حتى يزيح الستار عن اختراعه على مرأى من أنظار العالم المندهش.
كل هذا يوضح أن دي بلونفيل الابن لم يكن ذلك المتأنق الدخيل المتغطرس كما يظن من يعرفونه. لكنه في القرارات الكبيرة والصغيرة لم يقتطع نسبة العشرة في المائة الخاصة بالجزء المجهول.
أين؟ كان هذا هو السؤال. راح دي بلونفيل الابن يذرع أرضية غرفته جيئة وذهابا ويفكر في الأمر. كانت هناك خريطة كبيرة لفرنسا مبسوطة على الطاولة. وبدا واضحا أن من المستحيل أن يلجأ إلى باريس وضواحيها. كان في حاجة إلى مكان للعزلة. كان بحاجة إلى مكان به مساحة ممتدة من الماء. إذن أين ستكون البقعة التي ستأتي الأجيال القادمة وتشير إليها وتقول: «هنا، وفي هذا المكان، أتم دي بلونفيل بإتقان اختراعه الشهير الذي يتخذ شكل الخيمة والقارب والباراشوت.»
لا، ليس الباراشوت. تبا للباراشوت! كانت تلك الكلمة من الكلمات الساخرة للملازم. توقف دي بلونفيل لبرهة ليلعن ائتمانه أي رجل عسكري على أسراره.
كان هناك ما يكفي من الماء حول الساحل الفرنسي، لكن كان الجو في غاية البرودة في ذلك الفصل من العام بحيث لن يتمكن من اختبار اختراعه في الشمال والشرق. ولم يتبق سوى البحر المتوسط. فكر سريعا في العديد من المناطق المبهجة على طول الريفييرا - كان، وسانت رافائيل، ونيس، ومونت كارلو - لكن كل تلك الأماكن كانت عامة للغاية ومزدحمة كثيرا بالزوار. ثم تبادر إلى ذهنه فجأة اسم المكان الذي سيختاره، وبينما توقف عن سيره جيئة وذهابا، تساءل دي بلونفيل لماذا لم يخطر ذلك المكان على باله منذ البداية. هييريس! يبدو أن تلك المنطقة قد صممت في العصور الوسطى من أجل إنجاز مثل هذا الاختراع وإتمامه. كانت المنطقة تقع على بعد ميلين أو ثلاثة أميال من البحر، وطقسها ممتاز، ولا يوجد بها موكب للبحرية، وشاطئها منعزل، والخليج فيها محاط بالجزر. كانت تلك بقعة مثالية.
استطاع دي بلونفيل أن يحصل بسهولة على إذن تغيب؛ فأبناء الآباء الذين يعتلون مناصب عالية في الخدمة في الدول المقرة بالجميل نادرا ما يتكبدون أي عناء في شيء يسير كهذا. اشترى دي بلونفيل تذكرة على متن ذلك القطار المترف المتأني، الذي يطلق عليه الفرنسيون بحسهم الفكاهي السائغ اسم «السريع»، وفي الوقت المحدد وجد نفسه ومعه متعلقاته المختلفة واقفا على رصيف المحطة في هييريس.
قليل منا من يتحلون بالشجاعة كما نعتقد في أنفسنا. وقد جفل دي بلونفيل حين حانت اللحظة الكبرى، وربما كان هذا هو السبب وراء عقاب الآلهة له. قرر أن يذهب إلى أحد الفنادق الريفية الصغيرة في بلدية كاركيران على الساحل، لكن هذا القرار كان نابعا من رغبته في الانتصار لنفسه حين سخر الملازم من مشروعه. أما الآن، وفي لحظة أكثر هدوءا، فكر دي بلونفيل في مأكولات كاركيران فارتعد. هناك تضحيات لا يمكن لأي امرئ أن يتحملها؛ ولذا تردد ضابط البحرية، وفي النهاية وجه تعليماته إلى الحمال بأن يضع أمتعته على متن «حافلة» فندق كوستبيل. سيكون هناك الكثير من الناس في الفندق، هذا صحيح، لكن في وسعه أن يتجنبهم، في حين أنه لو ذهب إلى النزل الريفي فما كان ليتمكن من تجنب الطعام هناك. وهكذا أخمد ضميره المتقد. بدا أن تناول الغداء في فندق كوستبيل يمثل مبررا لاختياره لمكان إقامته. وكانت الأجواء المحيطة بالفندق جذابة وآسرة على نحو خطير بالنسبة إلى شخص نزاع بطبيعته إلى المرح والتراخي. كان المكان يبعث على «الاسترخاء وإيقاظ الروح» كما يقول والت ويتمان. كان بلونفيل هناك متخفيا - حيث أسقط كلمة «دي» من اسمه مؤقتا - وكان يمشي باتجاه البحر في وقت الظهيرة، فكان يبدو كرجل لا يشغل باله شيء. ولم يكن من يراه حينها ليظن بأنه هو إديسون المستقبلي بالنسبة إلى فرنسا. وعندما وصل إلى الشاطئ عند أطلال المحطة البحرية الرومانية البائدة التي تدعى بومبونيانا، راح يضرب على فخذيه من الفرحة. كان قد نسي أن في تلك البقعة ظهر عدد من البيوت الخشبية الصغيرة، التي كان حجمها أكبر من كوخ السباحة وأصغر من الكوخ العادي، وكان سكان هييريس يستخدمون تلك البيوت في الصيف، أما في الشتاء، فإنها تكون خاوية ومهجورة. وكان أكبر هذه البيوت مناسبا له تماما، وكان يعرف أنه لن يواجه صعوبة في استئجاره لمدة شهر أو شهرين. فهنا يمكنه أن يحضر اختراعه غير المكتمل، وهنا يمكنه أن يعمل على إتمام اختراعه طوال اليوم من دون مضايقة أو إزعاج من أحد ، وهنا يمكنه أن يختبر قدراته على الإبحار من دون أن يشاهده أحد.
سار بلونفيل على الطريق، وأشار إلى الحافلة القديمة التي تسير ببطء بين مدينتي تولون وهييريس على طول الطريق الساحلي؛ وركب بجوار السائق، وسرعان ما حصل على معلومات عن مالك تلك الأكواخ في بومبونيانا.
كما توقع بلونفيل، لم يواجه صعوبة في ترتيب الأمر مع المالك لاستئجار أكبر كوخ بين تلك الأكواخ الصغيرة، لكنه اعتقد أنه لاحظ انخفاضا طفيفا في الجفن الأيمن للرجل بينما كان يعطيه المفتاح. فهل شك المالك في غرضه من استئجار ذلك المكان؟ كان يتساءل في نفسه في قلق، بينما كان عائدا يستقل العربة من المدينة إلى فندق كوستبيل. مستحيل. لكنه شعر بأنه لا يستطيع أن يكون كتوما للغاية بشأن نواياه. لقد سمع بمخترعين سبقهم غيرهم إلى اختراعاتهم في اللحظة نفسها التي كانوا فيها قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النجاح.
طلب بلونفيل من السائق أن ينتظر، ووضع في العربة حمولته التي تتكون من اختراعه نصف المكتمل والأدوات اللازمة لإتمامه. ثم انطلق بالعربة نحو الشاطئ، وبعد أن وضع الحمولة على الأرض، دفع للرجل أجرته وصرفه. وحين غابت العربة عن الأنظار، حمل أمتعته إلى الكوخ وأغلق عليها. وفي طريقه إلى الفندق صعد التل، مما ضاعف من لذة مذاق العشاء الفاخر الذي قدم له هناك.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظ مبكرا ليباشر عمله، وسرعان ما بدأ يدرك أنه قد نسي الكثير من الأدوات الضرورية في باريس. كان يأمل أن يستطيع شراء تلك الأدوات من هييريس، لكنه تذكر محدودية الموارد في المدينة فأصابه الشك نوعا ما. وكانت النوافذ الصغيرة على جانبي الكوخ بالكاد ما تمده بما يكفي من الضوء، لكنه لم يفتح الباب؛ خوفا من فضول أي شخص يتصادف مروره. فلا يسع المرء إلا أن يتوخى الحذر الشديد عند العمل على إتمام مشروع عظيم كهذا.
استغرق بلونفيل في العمل نحو ساعة ونصف الساعة، عندما سمع امرأة تغني، وكان الغناء عذبا للغاية. كانت تغني بحرية واستمتاع من لا يشك في أن هناك من يسمعه. راح صوت الغناء يقترب أكثر فأكثر. وقف بلونفيل مذهولا، وأسقط الأدوات من يده، وانسل نحو النافذة الصغيرة المحجوبة بعض الشيء. رأى جمالا فاتنا يرتدي ثوبا لم ير له مثيلا من قبل. كانت تسير على الضفة بخطوات خفيفة وسريعة حتى وصلت إلى الكوخ المجاور، وأخذت مفتاحا كان معلقا في حزام ترتديه، وفتحت به الباب. وللحظة، انخفض صوت الغناء لكنه لم يتوقف، ثم خرج من باب الكوخ نصف قارب جعل بلونفيل يشهق حين رآه. لم ير بلونفيل مثيلا لهذا القارب من قبل، كما هو الحال مع زي الفتاة. كان شكل القارب هو نفسه الشكل الذي صممه بلونفيل لاختراعه، وكان مصنوعا من مواد خفيفة للغاية؛ ذلك أن الفتاة الرشيقة الرقيقة في زيها غير المألوف استطاعت أن تدفع بالقارب من دون حتى أن تتوقف عن غنائها. وفي اللحظة التالية، خرجت هي بنفسها وراحت تعدل غطاء رأسها الأحمر. سحبت الفتاة القارب نحو الماء، وأخرجت منه مجدافا خفيفا لونه فضي ثم صعدت في رشاقة على متن القارب، واستقرت في مكانها فيه بمظهر يدل على خفتها. لاحظ بلونفيل في ذهول أن القارب لم يكن يحتوي على مقعد. وكان البحر في غاية الهدوء، وبضربات قليلة من المجداف غابت الفتاة وقاربها عن الأنظار. تنهد بلونفيل بعمق من فرط دهشته. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الزي الخاص بركوب القوارب في نهر التيمز والقارب المخصص لذلك.
إذن كان هذا هو السبب وراء غمزة عين الرجل حين كان يعطيه المفتاح. كان بلونفيل في حيرة من أمره. هل يكشف عن نفسه حين تعود الفتاة؟ لم يبد له من الصواب أن يعلم الفتاة أنها لم تكن وحيدة على الشاطئ في الوقت الذي كانت تعتقد فيه ذلك. لكن كان عليه أن يفكر في أمر اختراعه. كان قد أقسم يمينا بالولاء لاختراعه والإخلاص له. جلس يفكر ويتأمل الفتاة في ذهنه. كان من الواضح أنها فتاة إنجليزية. ولم تكن لديه أدنى فكرة أن الفتيات الإنجليزيات فاتنات إلى هذا الحد، ثم تراءى إلى مخيلته ذلك الزي! كان الزي أخاذا. لقد علق في ذاكرته ذلك البنطال الأبيض بطياته الأنيقة الناعمة الذي كان غاية في الكمال رغم بساطته الفائقة. لكن، ما سبب وجوده هنا؟ إنه اختراعه بكل تأكيد. ثم تذكر فجأة سخرية الملازم منه واستهزاءه به. لم تكن تلك الفتاة التي استأجرت الكوخ المجاور له - أيا كان اسمها - تعني له شيئا؛ بالطبع لم تكن كذلك. أزاح بلونفيل الفتاة عن ذهنه، وعاد إلى مباشرة عمله. لقد أضاع الكثير من الوقت بالفعل؛ ولن يضيع المزيد.
وعلى الرغم من أنه كان مسلحا بهذا القرار البطولي، فإن مهمته الآن وبطريقة ما لم تعد تبدو مثيرة للاهتمام كما كانت من قبل، ووجد نفسه يستمع بين الحين والآخر إلى أغنية الفتاة التي ظهرت أمامه فجأة وكأنها جنية ماء. وتخيل في نفسه مواقف خيالية، وهو أمر دائما ما يكون ذا أثر سيئ على أداء المرء لمهامه العملية. تراءى له أن القارب الهش يتحطم أو ينقلب في الماء، وتخيل نفسه وهو يصارع الأمواج بكل شجاعة لينقذ الفتاة الحسناء ذات الملابس البيضاء. ثم تذكر مع تنهيدة أطلقها أنه ليس بسباح ماهر. وربما هي أكثر مهارة منه في التعامل وسط تلك الأمواج. يبدو أن أولئك الإنجليز على هذه الدرجة من الألفة والمهارة في ركوب البحر.
وفي النهاية، أخبره حدسه وليس سمعه أن الفتاة قد عادت. فسار على أطراف أصابعه نحو النافذة الصغيرة. وكانت الفتاة تسحب القارب الخفيف من الماء. وكبح رغبته في عرض المساعدة. وعندما قفزت الفتاة بخفة ورشاقة على الضفة، تنهد بلونفيل وخلص إلى أنه قد عمل بما يكفي لهذا اليوم. وحين وصل إلى الطريق، لاحظ من بعيد أن صاحبة الزي الأبيض لم تسلك طريق الفندق، بل اتجهت نحو أحد الأكواخ المجاورة.
وفي فترة الظهيرة، عمل بلونفيل على اختراعه مطولا، وأحرز تقدما. ثم عاد سيرا إلى فندقه وهو يشعر بالرضا عن نفسه، وهو ما يشعر به الكسالى في تلك المرات النادرة حين يعملون بكد ودأب. عمل بلونفيل بلا انقطاع، واتخذ قرارات عنترية مرة أخرى. فما حدث في ظهيرة ذلك اليوم يمكن أن يتكرر في ظهيرة كل يوم. ولن يفكر مرة أخرى فيما يتراءى له في مخيلته ولن يزاول العمل على اختراعه إلا بعد الغداء؛ ومن ثم لن يضطر إلى الكشف عن نفسه أو إلى مراقبة ما تقوم به الفتاة من دون أن تراه. وبالطبع، كانت الفتاة دائما ما تأتي في الصباح؛ ذلك أن الإنجليز أناس منظمون ويحبون السير وفق منهج، وكان بلونفيل عليما بأساليبهم حتى إنه كان واثقا من أن ما يفعلونه في أحد الأيام هو ما سيفعلونه في اليوم التالي. قال بلونفيل في نفسه وهو يهز كتفيه بأن الإنجليز شعب استثنائي، لكن بالطبع، لا يمكن لنا جميعا أن نكون فرنسيين.
من المؤسف أن يتدخل الإغواء حين يكون المرء قد عقد العزم على ألا ينحرف عن مسار سلوكي مستقيم بعينه. كان من المقرر أن يقام حفل راقص في تلك الليلة في الفندق الكبير. وقد استنكف بلونفيل أن تكون له أي صلة بهذا الحفل؛ فقد هجر توافه الأمور في الحياة. فقد كان هناك بغرض الراحة والهدوء والدراسة. وكان متمسكا بهدفه إلى حد التعنت. وفي ذلك المساء، عرضت عليه الدعوة مرة أخرى، والواقع أنه كان هناك نقص في أعداد الشباب، كما هو الحال دوما في مثل تلك المناسبات. وكان بلونفيل على وشك أن يبدي اعتراضاته من جديد على حضور مثل تلك المناسبات التافهة حين لمح عبر الباب المفتوح اثنين من الضيوف الذين وصلوا وهم يصعدون السلم. كانت الفتاة ترتدي معطفا أوبراليا طويلا مزغبا من حول رقبتها ويتدلى على مقدمة جسدها. ويستقر على شعرها الأشقر الجميل شريط رقيق للزينة. كانت تلك هي الفتاة صاحبة القارب، وكانت في أبهى صورة لها. اضطرب بلونفيل كثيرا وشعر بالحيرة، ثم هرع إلى غرفته وارتدى ملابس الحرب. وقل ما يحلو لك، لكن ملابس السهرة تجعل المرء يبدو في مظهر أحسن. وبالإضافة إلى ذلك، عاد بلونفيل إلى استخدام اسمه كاملا مع كلمة «دي»، وأصبح ظهره أكثر استقامة بكل تأكيد. لقد بدا دي بلونفيل في أحسن هيئة له.
وسرعان ما تعرفا بالطبع. لقد تولى دي بلونفيل أمر ذلك، وكان المسئول عن الحفل الراقص ممتنا له كثيرا لحضوره ولظهوره بأفضل صورة. وفي الواقع كان مظهر دي بلونفيل يوحي بالتميز. وقد علم دي بلونفيل أن الفتاة هي صاحبة الشرف والمقام مارجريت ستانسبي. وسيكون من المستحيل، بل ومن غير المنصف أيضا، أن نسرد محادثتهما؛ إذ كان هذا يبدو كقراءة جزء من تمارين أولندورف الفرنسية الإنجليزية. وكما قلنا، كان دي بلونفيل فخورا للغاية بلهجته الإنجليزية، ولسوء الحظ، كانت صاحبة المقام مارجريت تتحلى بحس الدعابة. وقد أطرى عليها دي بلونفيل بأن قال بأنها تتحدث الفرنسية أفضل مما يتحدث هو الإنجليزية، الأمر الذي لم يكن أفضل تعليق لبق ليقوله دي بلونفيل، وإن كان صحيحا بلا أدنى شك في ذلك. كان من الصعب أن يستمع المرء إلى جملته تلك وهو يقولها بالإنجليزية ويكبح الضحك. ولكن مارجريت أحرزت نصرا كبيرا ولم تضحك. مرت الأمسية على نحو لطيف من وجهة نظر مارجريت، أما بالنسبة إلى بلونفيل، فقد مرت الأمسية على نحو غاية في البهجة.
كان من الصعب بعد هذا أن يعود دي بلونفيل إلى العمل غير الممتع الخاص بإتمام القارب الخيمة المصنوع من القماش، لكنه ظل مثابرا وهذا يحسب له. وقد قابل السيدة الشابة في عدة مناسبات، لكنه لم يقابلها قط على الشاطئ. وكلما توثقت معرفتهما وتوطدت، زادت رغبته في أن يحظى بامتياز إنقاذها من خطر مميت، لكن تلك الفرصة لم تأت قط. إنه أمر من النادر أن يحدث، اللهم إلا في الكتب، وكان هذا هو الرأي الذي أبداه إلى نفسه بمرارة. كان البحر هادئا على نحو مثير للغضب، وكانت الآنسة مارجريت ماهرة فيما تقوم به، وهكذا هن الكثير من النساء الفاتنات. فكر دي بلونفيل في شراء منظار ومراقبتها؛ ذلك أنها كانت قد أخبرته أن أحد الأمور التي تبهجها هو مراقبة تقدم السفن المدرعة بالمنظار من الشرفة في مقدمة الكوخ.
في النهاية، وعلى الرغم من المشتتات الكثيرة التي صرفت انتباهه، أضاف دي بلونفيل اللمسات النهائية إلى اختراعه المهم، ولم يبق سوى أن يضعه موضع الاختبار العملي. واختار لذلك يوما لم تكن فيه البحرية الفرنسية التي ترسو في هييريس على مرمى البصر؛ ذلك أنه لم يرد أن يصبح على مرأى من المنظار في شرفة الكوخ. فقد شعر بأنه لن يكون في أفضل صورة له وهو يجدف بقاربه الجديد غير المألوف. وبالإضافة إلى ذلك، قد يغرق به القارب.
لم يكن هناك ولو شراعا واحدا على مرمى البصر حين انطلق في اختبار قاربه. فحتى قوارب الصيد في كاركيران كانت قابعة في مرساها. وكان البحر في غاية الهدوء، والشمس ساطعة في كبد السماء. وقد وجد دي بلونفيل شيئا من الصعوبة في الجلوس في القارب، لكنه ابتهج حين وجد أن اختراعه قد لبى كل التوقعات. وبينما كان يتقدم في البحر، لاحظ عوامة كبيرة تطفو على مسافة بعيدة منه. فأغوته عبقريته الشريرة أنه سيكون من الأفضل لو جدف باتجاه العوامة ثم عاد. فيمكن للكثيرين أن يعاقروا الشمبانيا ولا يدخلون في حالة السكر، لكن قلة من الرجال فقط من يستطيعون أن يذوقوا طعم النجاح ويحتفظون بحصافتهم واتزانهم. والأطوار الغريبة التي قد تعتري الكتاب البارزين تثبت صدق هذا. كان دي بلونفيل مخمورا، ولكنه لم يظن ذلك قط. وقد ساعده المد، الذي قلما تجده في البحر المتوسط، وكذلك النسيم اللطيف الذي يهب من اتجاه الشاطئ. وقد راودت دي بلونفيل بعض الشكوك فيما يخص حصافة ما أقدم على فعله، وذلك قبل أن يصل إلى العوامة الحمراء الكبيرة، لكنه ارتعد حين تلفت حوله ورأى المسافة المرعبة بينه وبين الشاطئ.
كانت العوامة الكبيرة مصنوعة من الحديد، أو على ما يبدو من ألواح الغلايات الفولاذية، وكانت هناك حلقات من الحديد مثبتة إلى جانبها. وكانت العوامة تتخذ شكل ثمرة الكمثرى، رأسها في الماء، ومربوطة إلى سلسلة لا شك أنها تؤدي إلى مرساة. وتساءل دي بلونفيل عن سبب وجود هذه العوامة. وحين رفع نظره كانت العوامة قد تحركت بفعل تيار غير مرئي من الماء وانقلبت وكأنها كانت عازمة على تدمير قاربه. فنسي دي بلونفيل نفسه وقفز ليبعدها عن قاربه، وسرعان ما خطا بإحدى قدميه على القماش المضاد للماء الذي كان يغطي جانبي قاربه والجزء السفلي منه. ووجد دي بلونفيل نفسه يصارع في الماء تقريبا قبل أن يدرك ما حدث. وبعد أن حرر نفسه من العقدة التي كانت تهدد بسحبه إلى الأسفل، نظر من خلال الماء فوجد اختراعه يستقر ببطء تحت المياه الخضراء الصافية. فمد يده وأمسك بإحدى الحلقات المربوطة بالعوامة وتعلق بها برهة لكي يلتقط أنفاسه ويفكر في موقفه. وسرعان ما أدرك أنه لم يكن في موقف محمود، لكن الأكثر من ذلك أنه أدرك أيضا صعوبة خروجه منه. إن محاولة السباحة نحو الشاطئ ستكون بكل بساطة ضربا من الانتحار. وكان من الواضح أن أفضل شيء يقوم به هو الصعود على سطح العوامة، لكنه أدرك أنه إذا حاول رفع نفسه على الحلقات المعدنية فإن العوامة ستتدحرج فوقه. لكنه تفاجأ حين وجد أن هذا لم يكن ما عليه الحال في الحقيقة. فهو لم يلتفت إلى تأثير كل من حجم العوامة ووزنها.
جلس دي بلونفيل على العوامة والتقط أنفاسه بصعوبة بعد ما بذل من جهد، وراح يحدق لبضع لحظات في المساحة الشاسعة للمياه الزرقاء المتلألئة. كان المنظر جميلا، لكنه كان مثبطا. لم يكن هناك على مرمى البصر ولو قارب صيد واحدا، وكان كل ما حوله يبعث على السرور، لكن كان هو وحده في وضع ميئوس منه. وكانت تلك الجزيرة الحديدية الكبيرة تتسم بعادة غير مريحة ما بين الحين والآخر؛ وهي أنها تميل بشكل ما على إحدى جوانبها؛ ومن ثم كان على دي بلونفيل أن يزحف بهذا الاتجاه أو ذاك ليتجنب السقوط عنها. وخيل إليه أن حركاته تلك تفتقر إلى الوقار. بدأت الشمس الحارقة تجفف ملابسه من جهة ظهره، وأحس بأن شعره قد أصبح هشا ومتموجا بفعل ملوحة المياه. وتذكر أن السباحة في هذه المياه ستكون سهلة؛ ذلك أنه كان في أشد البقاع ملوحة في البحر الأكثر ملوحة في العالم. ثم انتقل ببصره نحو الأراضي المنبسطة المحيطة بليه سالينز، حيث تدخل الإنسان بالطرق الاصطناعية بحيث تغطي مياه البحر المتوسط مساحات شاسعة من تلك الأراضي حتى تبخر الشمس تلك المياه تاركة الملح الخشن الذي يستخدمه الصيادون على ذلك الشاطئ. لم يكن دي بلونفيل يشعر حتى الآن بالجوع، لكنه تأسى على ذلك العشاء الطيب الذي سيقدم في الفندق في ذلك المساء، والذي لن يحضره هو على الأرجح.
التفت دي بلونفيل حوله وراح يجول بنظره على جزر الذهب البعيدة، لكن فرص حصوله على المساعدة من ذلك الاتجاه كانت تعادل فرص حصوله على المساعدة من البر الرئيسي. وبعد أن أصبح أكثر اعتيادا على تأرجح الكرة الكبيرة، وقف منتصبا. كم كان أحمق ليقطع كل تلك المسافة، وكز على أسنانه ونطق بكلمات فرنسية بدت مقتضبة ومؤكدة على ذلك. لكن التفكير بتلك الطريقة لم يكن مجديا كثيرا. ها هو في تلك البقعة، وسيظل بها، كما قال رئيس دولته ذات مرة. كانت قسوة الموقف الذي هو فيه وعجزه قد بدآ ينهكان أعصابه، وراح يصيح من أجل أن يحدث شيء - أي شيء - بدلا من أن يجلس هكذا ويقاسي ما يقاسيه.
ثم حدث شيء.
من بين الجزر، ظهرت سفينة حربية فرنسية حديثة وكبيرة شيئا فشيئا، وكانت السفينة صغيرة بفعل المسافة الكبيرة بينها وبينه. أشرق وجه دي بلونفيل أملا. لا بد أن تلك السفينة ستمر على مسافة قريبة منه بما يكفي لكي يرى المراقبون عليها إشاراته. يا رباه! كم كانت تتحرك ببطء! ثم ظهرت سفينة حربية ثانية بعد الأولى، وأخيرا ظهرت سفينة ثالثة. تقدمت السفن الثلاث ببطء في موكب مهيب. خلع دي بلونفيل معطفه وراح يلوح به ليجذب الانتباه إليه. وكان حثيثا في ذلك حتى إنه كاد يفقد توازنه، وحين أدرك أن السفن الحربية كانت لا تزال بعيدة كثيرا عنه، كف عن فعله. جلس دي بلونفيل وجذوة حماسه تخبو، وراح يرقب تقدمها البطيء. ثم بدا له أنها قد توقفت، فمال إلى الأمام وظلل على عينيه بيده، وراح يرقبها في لهفة. لكن السفن كانت لا تزال تتحرك، وهذا هو كل شيء.
وفجأة، ارتفعت سحابة من الدخان الأبيض من أحد جوانب السفينة الأولى فحجبت المداخن والصواري عن الرؤية، وراح الدخان يتلاشى في السماء الزرقاء فوق الصواري العلوية. وبعد أن مرت فترة بدت طويلة، جاءه صوت مدفع كان منخفضا ومكتوما، وتبعه صداه في التلال المرتفعة على الجزيرة، ثم كان صداه الثاني الأضعف الذي تردد في جنبات الجبال على البر الرئيسي. أصاب هذا الأمر دي بلونفيل بالحزن؛ وذلك لأن تلك السفن إذا كانت في الخارج بهدف التدريب فإن الدخان الصادر عنها سيحجب إشارته وسيكون من المستبعد أن تراه، ثم إن هذا الجزء من الأسطول سيعود أدراجه مرة أخرى، تاركا إياه في محنته. ومن السفينة الحربية الثانية خرجت سحابة من الدخان مشابهة للأولى، لكن في هذه المرة، وعلى مسافة كبيرة من ميسرته، اندفع بقوة جزء من ماء البحر على شكل نافورة، فارتفع في الهواء على شكل عمود للحظة، ثم تساقط على سطح العوامة وكأنه أمطار ثقيلة.
كانت العوامة هدفا للتصويب.
وحين أدرك دي بلونفيل فيم كانت تستخدم العوامة، شعر برجفة في فروة رأسه، وهو ما نطلق نحن عليه انتصاب شعر الرأس من شدة الخوف. نفث المدفع الثالث سحابة دخانه، وجحظت عينا دي بلونفيل لما رآه. كانت هناك قذيفة مدفع تتجه نحوه مباشرة، وكانت تطير فوق الماء وكأنها حصاة ألقاها أحدهم. لم يكن يعرف من خلال خبرته في البحرية - في باريس - أن مثل هذا الأمر ممكن. انبطح دي بلونفيل على سطح العوامة، حتى لامست ذقنه الحديد، وانتظر لحظة الارتطام. وعلى بعد مائة ياردة منه، غاصت القذيفة في الماء واختفت. ووجد دي بلونفيل أنه حاول أن يغرز أظافره في اللوح المعدني، حتى التهبت أطراف أصابعه وصارت تؤلمه. وقف دي بلونفيل وراح يلوح بذارعيه، لكن السفينة الأولى أطلقت قذيفتها مرة أخرى، وجاء أزيز القذيفة فوق رأسه تماما حتى إنه انحنى لا إراديا. واتته فكرة، مثل نزغة مفاجئة من الألم الجسدي، أنه هو من حرض على استهجان دقة تصويب تلك السفن الحربية. لا شك أنهم رأوا شخصا على العوامة، لكن بما أن وجود أي شخص في هذه البقعة لا يعد مبررا، فإن قتله باستخدام قذيفة مدفع سيكون دليلا دامغا على دقة تصويبهم. وسيكون التحقيق الذي سيلي مقتله مفخرة للضابط المسئول، أيا كان الحكم الذي ستقرره المحكمة. وتوقع دي بلونفيل - في شيء وكأنه تنهيدة - أن موته السابق لأوانه لن يلقي بظلال الحزن والكآبة على الأسطول.
حسنا، الإنسان لا يموت سوى موتة واحدة؛ ولذا من غير المجدي كثيرا أن يحدث الإنسان جلبة حول وقوع القدر المحتوم. سيلاقي دي بلونفيل قدره بهدوء وكما ينبغي لرجل فرنسي أن يفعل، ووجهه صوب المدافع. شعر بشيء من الندم لعدم وجود أحد ليشهد على بطولته. فمن السار دوما في مثل تلك الأحداث أن يوجد مراسل حربي أو صحفي على الأقل. ومن الأفضل أن يحافظ على هدوئه قدر الإمكان تحت أي ظرف؛ ولذا جلس دي بلونفيل على الكرة العائمة وجعل قدميه تتدليان في الماء. ولسبب ما راحت العوامة الكبيرة تتأرجح حتى أصبحت متاخمة للسفن الحربية بجانبها. ولم تكن أي من القذائف التالية قريبة منها بدرجة القرب نفسها التي كانت عليها القذائف الأولى، وربما كان ذلك بسبب الدخان الكثيف. وظلت ملامح جديدة للموقف تتجلى أمام دي بلونفيل بينما كان جالسا هناك. استمر إطلاق النيران لبعض الوقت قبل أن يفكر دي بلونفيل في أن العوامة ستمتلئ بالماء وتغرق لو أن إحدى القذائف أصابتها فأحدثت فيها ثقبا. ربما كانت الأوامر التي تلقوها هي إطلاق النار على العوامة حتى تختفي. وشعر بشيء من الارتياح في هذا الاقتراح.
كان إطلاق النار قد توقف لبضع دقائق قبل أن يلاحظ دي بلونفيل تلك الحقيقة. واستقرت حفنة من الدخان المتلاشي على سطح الماء بين العوامة والسفن الحربية. ورأى دي بلونفيل السفن وهي تتحرك بتثاقل عبر تلك الحفنة من الدخان وتتحول لتقف عرضا بنفس الترتيب السابق مرة أخرى. راح دي بلونفيل يشاهد تلك التحركات وهو يريح ذقنه على يديه، ولا يدرك أن اللحظة قد حانت لكي يطلق إشاراته . وحين طرقت الفكرة ذهنه الشارد بعض الشيء، هب واقفا على قدميه لكن فرصته كانت قد ضاعت. ارتفع دخان المدفع الأول في الهواء، وكان هناك صوت قعقعة ناتج عن تصادم الحديد ببعضه، ووجد دي بلونفيل نفسه يدور في الهواء، ثم يغوص في الماء. وبعد أن خرج إلى السطح لاهثا، رأى العوامة وهي تدور ببطء، ثم مالت على مقدمتها واختفت في الماء، فظهر المكان الذي أصابته القذيفة. ولم تطلق السفينة الثانية قذيفتها، فأدرك دي بلونفيل أنهم كانوا يفحصون العوامة بمناظيرهم. فسبح إلى الجهة الأخرى، وهو ينوي أن يمسك بحلقة معدنية مما يجعل العوامة تسحبه إلى مكان يمكن لهم رؤيته فيه. وقبل أن يصل إلى ذلك المكان، كانت العوامة قد استقرت مرة أخرى، وحين صعد على سطحها وقد أنهكه التعب إنهاكا شديدا، فتحت السفينة الحربية الثانية نارها. تمدد دي بلونفيل على سطح العوامة وقد خارت قواه تماما، وأمل إن كانت السفن ستصيب العوامة أن يحدث ذلك سريعا. لم تكن الحياة تستحق أن يعيشها في ظل تلك الظروف. شعر بالشمس الحارقة على ظهره، وراح يسمع صوت المدافع وكأنه في حلم. ذهب عنه الأمل، وتساءل في نفسه لم لا يكترث بمصيره بدلا من أن يعيره اهتماما حقيقيا. فكر دي بلونفيل في نفسه بأنه شخص آخر، وشعر بشفقة غامضة وغير واضحة. وراح ينتقد إطلاق النار العشوائي، وظن أن الإصابة التي وقعت قبل قليل لم تكن إلا ضربة حظ ومحض مصادفة. وحين جف ظهره تدحرج في تكاسل على ظهره ورقد ووجهه يحدق في السماء الصافية من السحب. ولكي يحصل على قدر أوفر من الراحة، وضع يديه تحت رأسه. تلاشى مظهر السماء، واعترته لحظة من غياب الوعي.
صاح وهو يهز نفسه: «لن يجدي هذا نفعا. إذا ما غبت عن الوعي فسأسقط في الماء.»
اعتدل دي بلونفيل في جلسته مرة أخرى، وكانت مفاصله متيبسة بفعل الماء الذي يغمره، وراح يشاهد السفن الحربية البعيدة عنه. ورأى باهتمام فاتر قذيفة مدفع وهي تضرب الماء، وتأخذ مسارا جديدا ثم تعود وتغوص في البحر على مسافة كبيرة من ميمنته. وجال في خاطره أن تقلبات قذائف المدفعية في الماء ستكون موضوع دراسة مثيرا للاهتمام.
صاح به صوت واضح من خلفه: «هل أصبت؟»
صاح الشاب في هلع جم وهو يهب على قدميه: «يا إلهي!»
وكما لو كان منقذه في حاجة لأن يعتذر: «أوه، أستميحك عذرا. كنت أعتقد أنك السيد دي بلونفيل.» «أنا دي بلونفيل.»
فقالت السيدة في همس ينم عن الرهبة: «شعرك أشيب.» ثم أضافت: «ولا عجب في ذلك.»
فأجابها الشاب المكروب وهو يضع يده على صدره: «يا آنستي، لا داعي لأن أنكر أنني تملكني الخوف، لا أنكر ذلك. لكنني لا أعتقد أنني نادم، لا أعتقد ذلك فعلا. الأمر غاية في التكلف، إنني في غاية الحزن.» «رجاء لا تتحدث أكثر من ذلك. تعال بسرعة. أيمكنك أن تنزل إلى متن القارب؟ ضع قدميك في منتصف القارب بالضبط. كن حذرا؛ فمن السهل أن يتمايل القارب، واجلس في الحال. لقد فعلت ذلك بإتقان.» «يا آنستي، اسمحي لي على الأقل أن أجدف بالقارب.» «إنه تجديف، وأنت لا تعرف هذا القارب. أما أنا، فأعرفه. رجاء لا تتحدث حتى نخرج عن مرمى إطلاق النار. إنني خائفة حد الرعب.» «أنت في غاية الشجاعة والإقدام.» «هشش.»
أمسكت الآنسة ستانسبي بالمجداف المزدوج الريشة واستخدمتهما ببراعة ربما يحسدها عليها الهنود الحمر. وحدث أن أطلقت صرخة أنثوية صغيرة حين غاصت قذيفة مدفع في الماء خلفهما، لكن ما إن ابتعدا عن العوامة حتى بدا أن من كانوا على متن تلك السفن الحربية قد بدءوا يلحظون وجود قارب في مرمى نيرانهم، فتوقف إطلاق النيران.
ثبتت الآنسة ستانسبي نظرها على الشاب الرصين الجالس أمامها، ووضعت مجدافها بعرض القارب، وانحنت عليه، وراحت تضحك. رأى دي بلونفيل ردة فعلها تلك وقال في تعاطف: «آه، يا آنستي، لا تفعلي ذلك، أرجوك. أعتقد أن الخطر قد زال.»
فصاحت وهي ترمقه بنظرات تنم عن التحدي، وقد نسيت اعترافها بخوفها قبل لحظات: «لست خائفة، لا تظن بي ذلك. كان أبي أدميرالا. إنني أضحك على خطئي . إنه الملح.»
سألها الراكب المذهول: «ما هذا؟» «في شعرك.»
مرر أصابع يده بين شعره، وراح الملح يتساقط على أرضية القارب. وجاءت ضحكته وهي تحمل شيئا من شعوره بالارتياح. •••
كان دي بلونفيل دائما ما يعتقد أن الضباط على متن السفن الحربية كانوا يعرفون بأمره. وعندما عرف في باريس أنه سيتزوج من ابنة أدميرال إنجليزي، والتي تقول الشائعات إنه أنقذها من موت وشيك، علق ملازم الجيش أنها لا يمكن أن تكون قد سمعته وهو يتحدث الإنجليزية، وهو أمر غير صحيح كما نعرف.
مادة متفجرة جديدة
جلس وزير الحربية الفرنسي في كرسيه الوثير في مكتبه الرسمي الخاص، وراح يفكر في أمر خطاب كان قد تسلمه. ولكونه وزير الحربية، كان الرجل بطبيعة الحال الأكثر دماثة وإنسانية والأقل عدوانية بين أعضاء مجلس الوزراء. يتلقى وزير الحربية الكثير من الخطابات التي يكون مصيرها - بالطبع - في سلة المهملات الخاصة به، لكن هذا الخطاب على وجه التحديد نجح بطريقة ما أن يجذب انتباهه. وعندما يصير المرء وزيرا للحربية، فإنه يعرف للمرة الأولى أن السواد الأعظم من البشر ينكبون على صنع أو اختراع البندقيات والبارود والآلات بكل أنواعها المصممة خصيصى لتدمير بقية العالم.
في صباح ذلك اليوم، كان وزير الحربية قد تلقى خطابا نما إلى علمه أن كاتبه قد اخترع مادة متفجرة مروعة حتى إنه يتضاءل أمامها تأثير كل المواد المتفجرة المعروفة أمامها. ولكون كاتب الخطاب فرنسيا؛ فقد قدم عرضه الأول بخصوص اكتشافه إلى الحكومة الفرنسية. وقال كاتب الخطاب أيضا إن الوزير لن يخسر شيئا لكي يجري اختبارا يثبت ادعاءاته المذهلة حول تلك المادة، وإن اللحظة التي سيجري فيها هذا الاختبار هي اللحظة التي سيعرف فيها أي رجل ذكي حقيقة أن الدولة التي تمتلك سر ذلك المركب التفجيري ستكون في موقف حصين وسط عالم متنازع ومتناحر.
وقد عرض كاتب الخطاب أن يحاول بنفسه إثبات صحة ادعاءاته تلك إلى الوزير، شريطة أن يذهبا إلى بقعة بعيدة لا يمكن لتأثير الانفجار أن يحدث أي أذى، وحيث سيكونون في مأمن من التجسس . واستطرد الكاتب بأن قال بصراحة شديدة إن الوزير إذا استشار عملاء الشرطة فإنهم سيرون في تلك الدعوة من فورهم فخا لاحتمال اغتيال الوزير. لكن المخترع تذرع بأن الوزير بحسن إدراكه وتمييزه للأمور سيعلم أن لا أحد يرغب في قتله. ذلك أنه لم يعين في منصبه ذلك إلا حديثا، وأنه لم يمض وقتا كافيا ليصنع له أعداء. وكانت فرنسا في حالة سلم مع العالم كله، وقد حدث هذا قبل مظاهرات دعاة الفوضوية في باريس. واستكمل كاتب الخطاب حديثه بأنه من المنصف أن يحصل الوزير على ضمانات على حسن نية المخترع. ولذا فقد أعطاه اسمه وعنوانه، وقال بأن الوزير إذا ما استفسر عنه لدى الشرطة، فلن يجد في سجلاتهم شيئا ضده. كان المخترع طالبا، ولسنوات طويلة، لم يكن انتباهه منصبا على شيء سوى المتفجرات. ولكي يثبت أكثر أنه لم يكن أنانيا في هذا الأمر، أضاف المخترع بأنه لم تكن لديه أي رغبة في تحقيق ثراء شخصي من وراء اكتشافه. كان للمخترع دخل شخصي يكفي احتياجاته إلى حد كبير، وكان ينوي إعطاء سره هذا إلى فرنسا وليس بيعه لها. وكان الشرط الوحيد الذي وضعه هو أن يقرن اسمه باسم ذلك المركب المروع، الذي قال بأنه سيؤمن السلام الدائم في العالم بأسره؛ ذلك أن أي أمة لن تجرؤ على محاربة أخرى بعد أن تنتشر خصائص تلك المادة ويذيع صيتها. وقال في خاتمة الخطاب إن الطموح الوحيد الذي يرنو إليه المخترع هو أن يتصدر اسمه قائمة أسماء علماء فرنسا البارزين. أما إذا رفض الوزير التعامل معه فإنه سيقدم عرضه إلى الحكومات الأخرى حتى تأخذه إحداها، لكن الحكومة التي ستحصل عليه ستحتل من فورها موقع الصدارة بين بقية الدول. ومن ثم، ناشد الوزير باسم وطنه بأن يجري ولو اختبارا واحدا على الأقل لتلك المادة.
وكما قلت، كان هذا قبل وقوع أحداث انفجارات باريس، ولم يكن الوزراء متشككين حينها كما هم الآن. وقد استفسر الوزير عن ذلك العالم الذي كان يعيش في ضاحية صغيرة من ضواحي باريس ، ووجد أنه لا يوجد شيء ضده في سجلات الشرطة. وأظهر البحث أن كل ما قاله عن ثروته الخاصة كان صحيحا. ولذا، فقد كتب الوزير إلى المخترع وحدد ساعة سيقابله فيها في مكتبه الخاص.
حانت الساعة وجاء الرجل. كان الوزير يشك قليلا في رجاحة عقله، لكن الخطاب كان مكتوبا على نحو صريح للغاية، وكان مظهر الرجل يوحي بأنه طبيعي وذكي وهادف للنفع بحيث تبددت كل الشكوك لدى المسئول الرسمي.
قال الوزير: «تفضل واجلس. نحن بمفردنا تماما، ولن يسمع أحد ما ستقول عداي.»
أجابه المخترع: «أشكرك سيدي الوزير على ثقتك تلك؛ لأنني كنت أخشى أن ما قلته في الخطاب بدا غير عادي تماما بحيث يجعلك تتردد قبل أن تحدد موعدا للقائنا.»
ابتسم الوزير وقال: «أفهم ذلك. إنه الحماس الذي يشعر به المخترع حين يحقق النصر، وعلى هذا فقد كنت متشككا بشأن ما ذكرت في خطابك، رغم أنني لا أشك في أنك توصلت إلى اكتشاف قد يكون ذا فائدة لوزارة الحرب.»
تردد المخترع وهو ينظر نظرات جادة إلى المسئول الكبير الجالس أمامه.
ثم قال أخيرا: «من منطلق ما تقول، أخشى أن خطابي قد ضللك؛ ذلك أنني كنت مضطرا على جعل ادعاءاتي دمثة حتى إنني أخطأت في الانتقاص منها بدلا من المبالغة فيها؛ وذلك كله خشية ألا تصدقها. إن المادة المتفجرة هنا في جيبي.»
صاح الوزير وقد شحب وجهه وانتفض عن كرسيه: «آه! كنت أظن أنني قلت لك في رسالتي ألا تحضرها معك.» «سامحني على عدم إطاعتي الأمر. إنها غير ضارة تماما وهي في حالتها هذه. وهذه هي إحدى الخصائص - المميزة إن جاز لي قول ذلك - لتلك المادة الشديدة الفاعلية. يمكن التعامل معها بأمان تام، لكن تأثيرها محتوم كالموت.» وبقوله ذلك أخرج من جيبه زجاجة صغيرة ورفعها في الضوء وكانت الزجاجة ممتلئة بسائل صاف لا لون له وكأنه ماء.
قال المخترع: «يمكنك أن تصب هذا على النار من دون أن يحدث أي شيء سوى أنها ستطفئها. ويمكنك أن تضعها تحت مطرقة بخارية فتسحق المطرقة الزجاجة سحقا، لكن المادة لن تنفجر أيضا. إنها غير ضارة تماما في حالتها هذه وكأنها مياه.»
قال الوزير: «إذن كيف تتعامل معها؟»
تردد الرجل مرة أخرى.
وقال: «أخشى أن أخبرك ذلك، كما أنني إذا لم أستطع أن أبرهن لك بما يبدد أي شك داخلك على صحة ما أقول، فسيكون ما أقوله ضربا من الحماقة. إنني إذا أخذت هذه الزجاجة وأحدثت شقا في سدادة الفلين، وسرت بها وهي مقلوبة بطول شارع دي إيتالينز، تاركا السائل ليتساقط قطرة بقطرة على الرصيف، فيمكنني أن أسير بهذه الطريقة وأنا في أمان في كل شوارع باريس. وإذا أمطرت السماء في ذلك اليوم فلن يحدث شيء. وإذا ما أمطرت في اليوم الذي يليه أو ظلت تمطر أسبوعا فلن يحدث أي شيء، لكن في اللحظة التي ستشرق فيها الشمس وتجفف الرطوبة، فإن أخف خطوة من قدم قطة على أي رصيف مررت به سوف تتسبب في تدمير باريس كلها وتحولها إلى أطلال.»
صاح الوزير وقد علت وجهه تعابير الذعر: «هذا مستحيل!» «كنت أعرف أنك ستقول ذلك. ولذا أطلب منك أن تأتي معي إلى الريف، حيث سأثبت لك حقيقة ما أدعي. إنني أحمل هذه الزجاجة معي بتلك الطريقة المستهترة على ما يبدو؛ لأنها مسدودة بقطعة من الفلين كما ترى وبإحكام شديد. فلا بد ألا تترك أي قطرة على قطعة الفلين أو على الزجاجة. لقد مسحت الزجاجة وسدادة الفلين بحرص شديد، وحرقت قطعة القماش التي استخدمتها في ذلك. ولا تتسبب النار في انفجار تلك المادة حتى ولو كانت جافة، لكن أقل لمسة لها ستتسبب في تفجيرها. يتحتم علي أن أكون غاية في الحرص وأنا أصنعها، حتى لا تتسرب أي قطرة دون الانتباه إليها في أي مكان يمكن أن تتبخر فيه.»
راح الوزير يتأمل لبضع دقائق في السقف وقد ضم أطراف أصابعه إلى بعضها، وكان يفكر في تلك الجملة المذهلة التي سمعها.
ثم قال في النهاية: «إذا كان ما تقوله صحيحا، ألا تعتقد أن الأكثر إنسانية هو أن تمحو كل أثر لكل التجارب التي اكتشفت هذه المادة من خلالها وألا تبوح بسرها لأحد؟ إن الدمار الذي يمكن أن تخلفه مثل هذه المادة إذا سقطت في أيدي أشخاص عديمي الضمير يفوق حدود الخيال رعبا.»
قال المخترع: «لقد فكرت في ذلك، لكن من المؤكد أن شخصا آخر سيصل إلى ذلك الاكتشاف، وقد يكون ذلك خلال وقت طال أو قصر. وكما قلت في خطابي فإن ما أطمح إليه هو أن يقترن اسمي بهذا الاكتشاف. أريد أن يطلق على هذا الاكتشاف اسم متفجرات لامبيل. وسيكون السر في مأمن مع الحكومة الفرنسية.»
رد عليه الوزير: «لست واثقا تماما من هذا. قد يصبح أحد الرجال العديمي الضمير وزيرا للحربية وقد يستخدم معرفته لتنصيب نفسه ديكتاتورا. إن رجلا عديم الضمير وفي حوزته سر كهذا سيكون شخصا لا يقهر.»
فرد عليه المخترع: «إن ما تقول حقيقي بلا أدنى شك، لكنني عازم على أن يسجل التاريخ اسم لامبيل مقترنا بأكثر الاختراعات التي عرفها أو سيعرفها العالم تدميرا. وإذا ما شيدت لي الحكومة الفرنسية بناء حجريا منيعا كالحصن فسأحتفظ بالسر، لكنني سأملأ ذلك البناء بزجاجات كهذه، وحينها ...»
قال الوزير: «لا أرى أن هذا سيقلل الخطر إذا امتلك ذلك الرجل العديم الضمير الذي أتحدث عنه مفاتيح ذلك المكان؛ وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن سرا كهذا كان موجودا بالفعل من شأنها أن تجعل مخترعين آخرين يسلكون الدرب نفسه، ولا شك أن أحدا ممن هم أقل حبا للخير منك سيتوصل إلى الاكتشاف. لقد اعترفت بنفسك قبل قليل أنه من الوارد جدا أن ينجح أحد العلماء المستقبليين في الوصول إلى التركيبة الصحيحة، حتى من دون أن يعرف أن مثل هذه المادة المدمرة كانت موجودة بالفعل. فانظر كيف سيكون ذلك باعثا ومحفزا إلى المخترعين في كل أرجاء العالم، إذا عرف أن فرنسا تمتلك في حوزتها مادة مدمرة كهذه! إن أي حكومة لم تنجح من قبل حتى الآن في إخفاء سر المسدس أو البارود.»
قال لامبيل: «ما تقول حقيقي وصحيح بكل تأكيد، لكن من الوارد أيضا بكل تأكيد أن يكون كل ما قلت قد قيل إلى مخترع البارود؛ ذلك أن البارود حينها كان رائعا على غرار هذا الآن.»
ضحك الوزير فجأة بصوت مرتفع.
وصاح قائلا: «إنني أتحدث عن هذا الأمر معك بجدية وكأنني أصدق فيه فعلا. يمكنني بالطبع أن أقول إنني لا أصدق ذلك بتاتا. أعتقد أنك قد سيطرت علي بعينيك الهادئتين فصرت كالمنوم مغناطيسيا؛ ومن ثم أقنعتني بتصديق حديثك ولو للحظات قليلة.»
قال المخترع في هدوء: «يمكنك التأكد من صدق كل ما أقول غدا. حدد لي موعدا في الريف، وإذا تصادف أن كان الجو هادئا ومشمسا فلن تشك بعد ذلك فيما ستراه عيناك من أدلة.»
فسأله الوزير: «أين تريد أن تتم التجربة؟» «لا بد أن تجرى في منطقة نائية مقفرة، ويفضل أن تكون على قمة تل. وينبغي أن توجد بها إما أشجار وإما مبان قديمة يمكن تدميرها، وإلا فلن نستطيع تقدير تأثير الدمار كاملا.»
قال الوزير: «لدي مكان في الريف ناء ومقفر وغير ذي جدوى. وهناك بعض المباني الحجرية العديمة النفع، وهو ليس على قمة تل، ولكنه على حافة محجر لا يعمل منذ سنوات طويلة. ولا يوجد عمران أو سكان على مدى بضعة أميال حوله. فهل ستكون مثل هذه البقعة ملائمة؟» «ستكون ملائمة تماما. ما الوقت المناسب للذهاب إلى هناك؟»
قال الوزير: «سنرحل معا الليلة، ويمكننا أن نمضي اليوم كله غدا في إجراء التجارب.»
أجابه لامبيل وهو ينهض: «جيد جدا.» وذلك بعد أن حدد الوزير محطة القطار التي سيلتقيان فيها وساعة ذلك.
وفي مساء ذلك اليوم، وبينما كان الوزير يقود عربته باتجاه المحطة في موعد القطار، وجد لامبيل ينتظره ويمسك بسلسلة مقيد بها كلبان يبدو عليهما الحزن.
فسأله الوزير: «أتسافر بهذين الكلبين؟»
قال لامبيل والندم باد في صوته: «وجود الكلبين البائسين ضروري لتجاربنا. وسيكونان قد تحولا إلى ذرات بحلول هذا الوقت غدا.»
وضع الكلبان في شاحنة القطار، وأحضر المخترع معه حقيبة سفره إلى العربة الخاصة المحجوزة للوزير.
كان المكان - كما قال وزير الحربية - مقفرا ونائيا بما يكفي. وكانت المباني الحجرية الموجودة بالقرب من حافة المحجر المهجور سميكة وقوية، رغم أنها كانت خربة بصورة جزئية.
قال لامبيل: «لدي هنا في حقيبتي سلك كهربائي طوله بضع مئات من الأمتار. سأربط أحد الكلبين بهذا الطوق وسنحرره منه من بعيد عن طريق الضغط على هذا الزر الكهربائي. وفي اللحظة التي سيهرب فيها الكلب سيفجر المادة بلا أدنى شك.»
مد السلك المعزول على الأرض على ارتفاع بعيد. وربط الكلب بالطوق الكهربائي، وسلسل إلى عمود باب أحد البنايات. ثم أزال لامبيل وبكل حذر سدادة الزجاجة، وأمسك بها على طول ذراعه. ونظر الوزير باهتمام بالغ بينما كان لامبيل يقطر السائل من الزجاجة في شكل خط شبه دائري حول الكلب المربوط. ثم أعاد المخترع السدادة بحذر إلى الزجاجة ومسحها بعناية بقطعة قماش كانت معه ثم ألقى بتلك القطعة في أحد المنازل المهجورة.
وانتظرا بالقرب من المكان حتى جفت البقع التي تسبب بها السائل على الرصيف أمام المنزل واختفت.
قال لامبيل: «بحلول الوقت الذي سنصل فيه إلى التل، سيكون السائل قد جف تماما تحت هذه الشمس الملتهبة.»
وحيث كانا يغادران باتجاه التل، عوى الكلب البائس حزنا، وكأنه كان يشعر بمصيره.
قال المخترع حين وصلا إلى الجهاز الكهربائي: «أعتقد أن علينا الانتظار لمدة نصف ساعة حتى نتأكد تماما من جفاف السائل.»
أشعل الوزير سيجاره وراح يدخن في صمت، وكانت تدور في عقله رحى معركة غريبة. وجد الوزير نفسه يصدق المزاعم الغريبة التي يقولها المخترع، وراح يفكر في الاحتمالات المرعبة التي يمكن أن تتسبب بها تلك المادة المتفجرة.
سأله لامبيل بنبرة هادئة: «هلا ضغطت على الذراع الكهربائية؟ تذكر أنك بهذا تفتح أبواب حقبة جديدة.»
ضغط الوزير على المفتاح، ثم وضع نظارته الميدانية على عينيه ورأى أن الكلب قد تحرر، لكن الكلب جلس في مكانه يحك أذنيه بيده. ثم بعد أن أدرك الكلب أنه قد تحرر، راح يشم السلسلة قليلا. وفي النهاية، رفع الكلب رأسه وجعل ينبح، رغم أن المسافة بينه وبينهما كانت بعيدة بحيث لا يستطيعان سماع صوت نباحه. ثم جرى الكلب في الاتجاه نفسه الذي سلكه الرجلان، لكن قبل أن يخطو ثلاث خطوات، ارتاع الوزير لرؤية المباني وهي تتفتت إلى تراب، ثم بعد لحظات قليلة، جاءهم هدير الأحجار المتساقطة في المحجر المهجور. لقد سقطت الحافة كلها وطرحت أرضا في الصدع. ولم يكن هناك دخان، لكن كانت هناك غيمة من الغبار تعلو البقعة.
صاح الوزير: «يا إلهي! هذا فظيع!»
قال لامبيل بنبرة هادئة: «أجل، لقد وضعت على الرصيف أكثر مما كان ينبغي. كانت بضع قطرات قليلة ستكفي، لكنني كنت أريد أن أتأكد تماما، وأنت كنت متشككا للغاية.»
نظر الوزير إليه وقال: «أتوسل إليك أيها السيد لامبيل، لا تبح بالسر إلى الحكومة الفرنسية أو إلى أي حكومة أخرى. لنجازف بفكرة أن يكتشف السر في المستقبل. ألتمس منك أن تعيد التفكير في مقصدك من هذا. إذا كنت تريد المال، فسأحرص على أن تحصل على ما تريد من الصناديق السرية.»
هز لامبيل كتفيه.
وقال: «ليس لدي رغبة في المال، لكن ما رأيت يبرهن لك أنني سأكون أشهر عالم في هذا القرن من الزمان. سيخلد اسم لامبيل حتى نهاية العالم.»
قال الوزير: «لكن، يا إلهي يا رجل! ستحل نهاية العالم في اللحظة التي سيعرف فيها أحد غيري وغيرك بأمر سرك هذا. سيكون هذا السر بمأمن معك ومعي، لكن من يعرف فيم سيفكر من يخلفوننا؟ أنت تضع قوى القدير بين أيدي البشر.»
احمر وجه لامبيل فخرا حين قال الوزير الشاحب الوجه كلامه هذا.
وصاح قائلا: «أنت تقول الحقيقة! هذه هي القدرة المطلقة.»
توسل إليه الوزير قائلا: «إذن، أعد التفكير في قرارك.»
قال لامبيل: «لقد عملت بجهد ولفترة طويلة ولن يمكنني أن أضيع فرصة انتصاري ونجاحي. أرى أنك اقتنعت في النهاية. والآن إذن أخبرني: بصفتك وزيرا في الحكومة الفرنسية، هل ستؤمن لبلدك هذا الاختراع الأعظم؟»
أجاب الوزير: «أجل، يجب ألا تحصل أي قوة أخرى على هذا السر. هل دونت أسماء مكونات هذه المادة؟»
فأجابه لامبيل: «أبدا.» «أليس من الممكن لأي أحد أن يشك في حقيقة الاختبارات التي كنت تجريها؟ إذا دخل إلى معملك أحد - عالم ما - ألا يمكن أن يحصل على السر مما قد يراه؟»
قال لامبيل: «سيكون هذا مستحيلا. كنت حريصا للغاية أن أحافظ على هذا الشرف لنفسي، فلم أترك أي أثر يمكن أن يشير ولو من بعيد إلى ما كنت أعكف عليه.»
قال الوزير وهو يتنهد تنهيدة عميقة: «كنت حصيفا في فعلك هذا، والآن لنذهب وننظر في الحطام.»
وبينما كانا يقتربان من البقعة المدمرة، كان اندهاش المسئول الرسمي وذهوله يتضاعفان أكثر وأكثر. كانت الصخور متصدعة ومتشققة وكأنه من فعل زلزال؛ وذلك على امتداد مئات الياردات.
قال الوزير: «أنت تقول إن هذا السائل آمن تماما حتى يتبخر.»
أجابه لامبيل: «تماما، وكما قلت لك، ينبغي على المرء بالطبع أن يكون حريصا في التعامل معه. لا بد وألا تسقط أي قطرة على ملابسك، أو تتركها في أي مكان خارج الزجاجة لكيلا تتبخر.» «دعني أر هذه المادة.»
أعطاه لامبيل الزجاجة. «هل لديك المزيد من هذا في معملك؟» «ولا قطرة واحدة حتى.» «إذا أردت أن تتخلص من هذه الزجاجة، فكيف ستفعل ذلك؟» «سأفرغ محتوياتها في نهر السين. وسيتدفق ماء النهر في البحر، ولن يتسبب ذلك في أي ضرر.»
قال الوزير: «انظر إن كان هناك أي أثر للكلب. وسأنزل أنا عن الحافة إلى المحجر وسأنظر هناك.»
قال لامبيل في ثقة: «لن تجد شيئا.»
ولم يكن هناك سوى ممر واحد يمكن النزول منه إلى أسفل المحجر. ونزل عليه الوزير حتى غاب عن أنظار الرجل في الأعلى، ثم سرعان ما أزال سدادة الزجاجة، وترك السائل يتقطر على أكثر المناطق ضيقا في الممر والتي كانت في مواجهة الشمس المستعرة. ثم أعاد السدادة إلى الزجاجة، ومسحها بحرص بالغ بمنديله ثم كوره وألقى به في المحجر. ثم عاد إلى السطح مرة أخرى وقال إلى العالم الدمث المحب للخير: «لا يمكنني أن أجد أي أثر للكلب.»
قال لامبيل: «ولا أنا أيضا، بالطبع حين لا تجد أي علامة على وجود المبنى فلا يمكن أن تتوقع أن تجد أي أثر للكلب.»
قال الوزير: «لنذهب إذن إلى التل ونتناول الغداء.» «هل ترغب في إجراء تجربة أخرى؟» «أود أن أجري تجربة أخرى ولكن بعد أن نتناول شيئا من الطعام. كيف سيكون الأثر حين تفرغ الزجاجة كلها في المحجر وتفجرها؟»
صاح لامبيل: «أوه، سيتعذر تخيل ذلك! سيتحول هذا الجزء من الريف بأكمله إلى فتات. وفي الواقع، لست واثقا من أن الهزة الأرضية الناتجة عن ذلك لن تصل إلى باريس. يمكنني أن أدمر المحجر كاملا باستخدام قطرات قليلة فقط.» «حسن إذن، سنجرب ذلك بعد تناول الغداء. لدينا كلب آخر لا يزال هنا.»
وحين مرت ساعة، كان لامبيل يتوق إلى تجربة تدمير المحجر.
وقال: «بعد حين لن تكون الشمس ساطعة على المحجر، وسنكون حينها قد تأخرنا كثيرا.» «يمكننا أن ننتظر حتى يوم غد، إلا إذا كنت في عجلة من أمرك.»
فرد عليه المخترع: «لست في عجلة من أمري. كنت أعتقد أنك كذلك، فهناك الكثير لتفعله.»
قال المسئول الرسمي: «كلا، لا شيء أقوم به خلال فترة وزارتي أكثر أهمية من هذا.»
فأجابه لامبيل: «يسرني سماع ذلك منك، وإذا ما أعدت الزجاجة إلي فسأسقط بضع قطرات على الجزء المشمس من المحجر.»
فأعطاه الوزير الزجاجة، وكان مترددا في ذلك على ما يبدو.
وقال: «لا زلت أعتقد أنه سيكون من الأفضل كثيرا أن تترك هذا السر يموت. لا أحد يعرفه حتى الآن سواك. وسيكون هذا السر في مأمن معك أو معي كما قلت، لكن فكر في الاحتمالات المريعة التي يمكن أن تحدث إذا ما أفشي أمره.»
قال لامبيل بنبرة صارمة: «لكل اختراع عظيم مخاطره. ولن يثنيني شيء عن التمتع بثمرة عمل حياتي. لا يمكن لأي إنسان أن يتحمل ذلك.»
قال الوزير: «حسن، لنتأكد إذن من الحقائق. أريد أن أرى أثر هذه المادة المدمرة على المحجر.»
قال لامبيل وهو يرحل عنه: «ستفعل.»
قال الوزير: «سأنتظرك هنا وسأشعل سيجارة لأدخنها.»
وحين وصل المخترع إلى المحجر والكلب أمامه، ارتعشت يد الوزير بحيث لم يعد قادرا على الإمساك بنظارته الميدانية. واختفى لامبيل أسفل الممر. وفي اللحظة التالية اهتزت الأرض حتى في البقعة التي كان الوزير يجلس فيها، وارتفعت كومة من الغبار فوق المحجر المدمر.
مرت لحظات كان الوزير الشاحب الوجه يراقب فيها أثر الدمار على المحجر، لكن لم يكن هناك أثر لأي بشر في تلك البقعة عداه.
فغمغم في نفسه قائلا: «لم يسعني أن أفعل سوى ذلك. كان التهديد بالغ الخطورة ولا يمكن المجازفة بالتنفيذ.»
لغز بيجرام الكبير
(مع الاعتذار إلى الدكتور كونان دويل وصديقنا المشترك الراحل شيرلوك هولمز.)
مررت بصديقي شيرلو كومبس لأسمع منه رأيه حول لغز بيجرام، كما أطلق عليه في الصحف. وقد وجدته يعزف على آلة الكمان وقد علت وجهه أمارات الهدوء والسكينة، وهذا شيء لم ألحظه من قبل على محيا من كانوا على مسمع مني. وكنت أعرف أن تعابير الهدوء الشديد هذه تشير إلى أن كومبس كان غاضبا بشدة من شيء ما. وقد ثبت أن الأمر كذلك بالفعل؛ ذلك أن إحدى الصحف الصباحية كانت تحتوي على مقال يمدح ويمجد تأهب سكوتلاند يارد وجدارتها بصفة عامة. وكان غضب شيرلو كومبس من سكوتلاند يارد شديدا حتى إنه لم يكن قط ليزورها أثناء إجازاته، ولم يكن ليعترف أبدا بأن الرجل الأسكتلندي يصلح لأي شيء سوى الخروج من البلاد.
وقد وضع آلة الكمان من يده في حركة لطيفة منه؛ ذلك أنه كان يحبني كثيرا، وحياني بطريقته اللطيفة المعتادة.
وبدأت حديثي بأن تطرقت في الحال إلى الأمر الذي كان يشغل ذهني فقلت: «لقد أتيت لأسمع رأيك حول لغز بيجرام الكبير.»
رد في هدوء قائلا: «لم أسمع عن ذلك.» كما لو أن لندن كلها لا تتحدث عن هذا الشأن. كان كومبس يجهل بعض الأشياء إلى حد يثير الفضول، وكان عليما بأشياء أخرى على نحو غير طبيعي. فقد وجدت، على سبيل المثال، أن من المستحيل أن أجري معه نقاشا سياسيا؛ لأنه لم يكن يعرف من هما ساليزبري وجلادستون. وقد جعل هذا صداقته هبة ونعمة كبيرة. «لقد حير لغز بيجرام حتى جريجوري نفسه في سكوتلاند يارد.»
قال صديقي في هدوء: «أصدق ذلك فعلا. إن الحركة الدائبة، أو تربيع الدائرة، يمكن أن يصيب جريجوري بالحيرة. إنه لا يزال مبتدئا حقا.»
كان هذا هو أحد الأمور التي أحببتها دوما بشأن كومبس. لم يكن يشعر بالغيرة المهنية، كما يفعل الكثيرون غيره.
ملأ صديقي غليونه، وألقى بنفسه في كرسيه العميق، ووضع قدميه على إطار المدفأة، وشبك يديه خلف رأسه.
وقال في بساطة: «أخبرني عنه.»
فبدأت حديثي قائلا: «كان باري كيبسون يعمل مضاربا في المدينة. وكان يعيش في بيجرام، وكان من عادته أن ...»
صاح كومبس من دون أن يغير من وضعيته: «ادخل!» لكنه قال ذلك بطريقة مفاجئة أصابتني بالذهول. فلم أكن قد سمعت أي طرق على الباب.
قال صديقي وهو يضحك: «عذرا. دعوتي الرجل للدخول كانت سابقة لأوانها بعض الشيء. كنت مهتما بسردك للأحداث حقا، حتى إنني تحدثت من دون أن أفكر أولا، وهو أمر ينبغي للمحقق ألا يفعله أبدا. الحقيقة أن هناك رجلا سيدخل في غضون لحظات وسيخبرني عن هذه الجريمة؛ ومن ثم فلن تبذل أنت المزيد من الجهد في ذلك الصدد.»
فقلت وأنا أقف من جلوسي: «آه، لديك موعد إذن. لن أتطفل عليك في هذه الحالة.» «اجلس، ليس لدي موعد. لم أكن أعرف أنه آت حتى تحدثت.»
حدقت إليه في دهشة. وعلى الرغم من أنني كنت معتادا على موهبته الاستثنائية، كان الرجل يفاجئني دوما. وأكمل صديقي تدخينه في هدوء، لكنه كان بلا شك مستمتعا بشعوري بالذهول. «أرى أنك مندهش. الأمر بسيط للغاية حقا، لكن من موضعي هذا في مقابل المرآة، يمكنني أن أرى انعكاس الأشياء في الشارع. لقد وقف رجل ونظر في بطاقة لي كانت في حوزته، ثم مرق عبر الشارع. وقد عرفت أن البطاقة تخصني؛ لأنها - كما تعرف - ذات لون قرمزي. وإذا كانت لندن كلها تتحدث عن هذا اللغز كما تقول، فمن الطبيعي أن أستنتج أن هذا الرجل سيحدثني عنه، ومن المحتمل أنه يريد أن يستشيرني بشأنه. يمكن لأي شخص أن يرى ذلك ، بالإضافة إلى أن هناك دوما ... ادخل!»
كان هناك طرق على الباب هذه المرة.
دخل شخص غريب. ولم يغير شيرلو كومبس من وضعيته المسترخية.
قال الغريب وقد دخل إلى نطاق رؤية المدخن: «أريد أن أرى السيد شيرلو كومبس، المحقق.»
فقلت، في النهاية، حيث كان صديقي يدخن غليونه في هدوء وبدا وكأنه ناعس: «هذا هو السيد كومبس.»
فأكمل الغريب وهو يبحث عن بطاقة له: «اسمح لي أن أقدم نفسي.»
قال كومبس: «لا داعي لذلك. أنت صحفي.»
قال الغريب وقد بدا مذهولا بعض الشيء: «أنت تعرفني إذن.» «لم أرك أو أسمع عنك من قبل في حياتي.» «إذن كيف بحق السماء ...؟» «هذا أمر في غاية البساطة. أنت تكتب لإحدى الصحف المسائية. وقد كتبت مقالا تنتقد فيه كتاب صديق لك. سيشعر هو بالسوء حيال ذلك، وستواسيه أنت. ولن يعرف هو من طعنه في ظهره ما لم أخبره أنا بذلك.»
صاح الصحفي: «يا إلهي!» وهو يغوص في كرسي، ويمسح جبهته وقد شحب وجهه.
قال كومبس متشدقا في حديثه: «أجل، من المخزي فعل هذه الأشياء. لكن ماذا عساك أن تفعل؟ كما نقول في فرنسا.»
وحين استفاق الصحفي من نوبة الذهول الثانية، حاول أن يستجمع نفسه بعض الشيء وقال: «هلا أخبرتني كيف تعرف هذه التفاصيل عن رجل تقول بأنك لم تلتقه من قبل قط؟»
قال كومبس في رزانة وهدوء شديدين: «إنني نادرا ما أتحدث عن هذه الأشياء. لكن بما أن قوة الملاحظة عندما تكون عادة قد يساعدك ذلك في مهنتك؛ ومن ثم فإنه سيفيدني بدرجة محدودة في جعل صحيفتك أقل مللا، فإنني سأخبرك. إن إصبعيك الأول والثاني ملطخان بالحبر، مما يعني أنك تكتب كثيرا. وهذه الفئة من الأصابع الملطخة بالحبر تتضمن فئتين فرعيتين: كاتبي الحسابات أو المحاسبين، والصحفيين. وينبغي لكاتبي الحسابات أن يكونوا منمقين في عملهم. وفي حالتهم تكون لطخات الحبر طفيفة. أما أصابعك فهي ملطخة كثيرا وبطريقة تنم عن الإهمال؛ ومن ثم فإنك صحفي. ولديك صحيفة مسائية في جيبك. وقد يحمل أي شخص أي صحيفة مسائية، لكن الصحيفة التي تحملها هي طبعة خاصة، والتي لن توزع وتنتشر في الشارع إلا بعد نصف ساعة من الآن. ولذا، لا بد أنك قد حصلت عليها قبل أن تغادر مكتبك، ولكي يتم ذلك لا بد أن تكون أحد أفراد طاقم العمل. وهناك إشعار كتاب يحمل علامة مصنوعة بقلم رصاص أزرق اللون. ودائما ما يستخف الصحفي بكل مقال في صحيفته لم يكتبه بنفسه؛ ومن ثم فإنك كتبت المقال الذي ميزته بوضع تلك العلامة، ولا شك أنك تنوي إرساله إلى مؤلف الكتاب المشار إليه. وصحيفتك متخصصة في الإساءة إلى كل الكتب التي لم يكتبها أحد أفراد طاقم عملها. أما عن كون مؤلف الكتاب صديقا لك، فهذا محض تخمين مني. وليس هذا سوى مثال بسيط على الملاحظة العادية.» «إنك حقا أيها السيد كومبس أروع الرجال وأكثرهم خرقا للعادة على وجه الأرض. أنت تضاهي جريجوري، حقا أنت كذلك.»
تقطب وجه صديقي عبوسا بينما وضع غليونه على النضد بجواره وسحب مسدسه الدوار ذا الطلقات الست. «أتقصد إهانتي يا سيدي؟» «لا ... أنا ... أنا لا أقصد ذلك بكل تأكيد. أنت تستحق أن تتولى شئون سكوتلاند يارد من الغد ... أنا جاد في ذلك، بالفعل، أنا جاد يا سيدي.»
صاح كومبس وهو يرفع يده اليمنى ببطء: «ليرحمك الرب إذن.»
فهببت واقفا بينهما.
وصحت قائلا: «لا تطلق النار! ستفسد السجادة. وعلاوة على ذلك يا شيرلو، ألا ترى أن نية الرجل سليمة. إنه يظن حقا أن هذا ضرب من الإطراء!»
علق المحقق قائلا: «ربما أنت على حق.» ووضع مسدسه باستهتار بجوار غليونه مما أشعر الطرف الثالث بالارتياح كثيرا. ثم التفت نحو الصحفي وقال بدماثته المعهودة: «أردت مقابلتي، أعتقد أنك قلت ذلك. كيف يمكنني مساعدتك سيد ويلبر سكريبنجز؟»
أصيب الصحفي بالدهشة.
ولفظ لاهثا: «كيف عرفت اسمي؟»
لوح كومبس بيده في إشارة عن نفاد صبره. «انظر إلى داخل قبعتك إذا كنت تشك في اسمك؟»
ثم لاحظت للمرة الأولى أن اسم سكريبنجز واضح داخل الجزء العلوي للقبعة، والتي كان الرجل يمسكها مقلوبة في يديه. «لا شك أنك قد سمعت بلغز بيجرام ...»
صاح المحقق: «صه! أرجوك، لا تصف ما حدث بأنه لغز. لا وجود للألغاز. ستكون الحياة أكثر قبولا لو أن هناك بها ما يسمى باللغز. لا شيء يحدث للمرة الأولى. كل شيء حدث من قبل. ماذا عن أمر بيجرام؟» «فلنسمها قضية إذن. لقد حيرت قضية بيجرام الجميع. إن صحيفة إيفننج بليد تريد منك أن تحقق في القضية، حتى يتسنى لها نشر نتائج تحقيقك. وستدفع لك الصحيفة مبلغا كبيرا. فهل تقبل بهذه المهمة؟» «ربما أفعل. أخبرني عن تلك القضية.» «كنت أعتقد أن الجميع يعرف بأمر تفاصيلها. كان السيد باري كيبسون يعيش في بيجرام، وكان يحمل معه تذكرة موسمية درجة أولى بين محطة بيجرام والمحطة الأخيرة في الخط. وكان من عادته أن يغادر إلى بيجرام في قطار الخامسة والنصف كل مساء. وقبل عدة أسابيع، أصيب السيد كيبسون بالإنفلونزا. وفي زيارته الأولى للمدينة بعد شفائه منها، سحب ما يقرب من 300 جنيه إسترليني وغادر المكتب في الوقت المعتاد ليلحق بقطار الخامسة والنصف. وعلى حد علم العامة، فإنه لم ير على قيد الحياة مرة أخرى. لقد عثر عليه في محطة بروستر في عربة الدرجة الأولى على متن قطار سكوتش إكسبريس، الذي لا يتوقف بين لندن وبروستر. كانت هناك رصاصة في رأسه وقد اختفى ماله، مما يشير بكل وضوح إلى وقوع جريمة قتل وسرقة.» «وهل لي أن أسأل، أين وجه الغموض في ذلك؟» «هناك العديد من الأمور المستعصية على التفسير بشأن هذه القضية. أولا: كيف صعد على متن القطار سكوتش إكسبريس، الذي يغادر في تمام الساعة السادسة ولا يتوقف في محطة بيجرام؟ ثانيا: كان مفتشو التذاكر في المحطة الأخيرة من الخط سيحولونه عن وجهته لو أنه أظهر لهم تذكرته الموسمية؛ وكل تذاكر قطار سكوتش إكسبريس التي بيعت يوم الحادي والعشرين قد أحصيت وقدم بيان بها. ثالثا: كيف تمكن القاتل من الهروب؟ رابعا: لم يسمع الركاب في كلتا العربتين اللتين تقع بينهما العربة التي عثر فيها على الجثة أي شجار أو أي صوت لإطلاق النار.» «هل أنت واثق أن قطار سكوتش إكسبريس في يوم الحادي والعشرين لم يتوقف بين لندن وبروستر؟» «الآن وقد سألت عن ذلك، فقد توقف بينهما فعلا. لقد توقف عند إحدى الإشارات خارج مدينة بيجرام تماما. وكان زمن وقوفه بضع لحظات حتى أبلغ بأن الخط أمامه خال، وقد أكمل القطار رحلته مرة أخرى. وهذا يحدث كثيرا؛ حيث إن هناك خطا فرعيا بعد مدينة بيجرام.»
راح السيد شيرلو كومبس يفكر بضع لحظات وهو يدخن غليونه في صمت. «أعتقد أنك تريد حل هذه القضية من أجل جريدة الغد، أليس كذلك؟» «لا، ليس كذلك بالطبع. يعتقد محرر الجريدة أنك إذا طورت نظرية في غضون شهر فلا بأس بذلك.» «سيدي العزيز، إنني لا أتعامل مع النظريات، وإنما مع الحقائق. إنك إذا عرجت علي في تمام الثامنة من صباح الغد، فسأمدك بكل التفاصيل في وقت مبكر بما يكفي لإدراك الطبعة الأولى. فلا معنى في إهدار وقت طويل على أمر بسيط كقضية بيجرام تلك. طاب مساؤك سيدي.»
كان السيد سكريبنجز مذهولا للغاية بحيث لم يستطع أن يرد التحية. وقد غادر واجما صامتا غير قادر على الحديث، ورأيته يتحرك في الشارع وقبعته لا تزال في يده.
عاد شيرلو كومبس إلى حالة استرخائه ويداه مشبكتان خلف رأسه. وراح الدخان يخرج من بين شفتيه في نفحات سريعة في البداية، ثم بعد ذلك على فترات أطول. أدركت أنه كان يتوصل في تلك اللحظة إلى استنتاج ما؛ ولذا فلم أقل شيئا.
ثم تحدث أخيرا بطريقته الشديدة الغموض: «لا أريد مطلقا أن أبدو وكأنني أستعجل الأمور يا واتسون، لكنني سأذهب الليلة على متن القطار سكوتش إكسبريس. فهل تريد مرافقتي؟»
صحت قائلا وأنا أنظر إلى الساعة: «يا إلهي! ليس أمامك وقت، لقد تخطت الساعة الخامسة الآن بالفعل.»
فغمغم من دون أن يغير من وضعيته: «متسع من الوقت يا واتسون، متسع! سأعطي نفسي دقيقة ونصفا لأغير نعلي وثوب النوم وأرتدي حذاء طويلا ومعطفا، وثلاث ثوان لأرتدي القبعة، وخمسا وعشرين ثانية لأخرج إلى الشارع ، واثنتين وأربعين ثانية في انتظار العربة، ثم سبع دقائق في المحطة قبل أن ينطلق القطار. سأكون مسرورا كثيرا لو رافقتني.»
كنت سعيدا للغاية لحصولي على شرف مرافقته. كان من المثير للاهتمام كثيرا رؤية عقل فذ كهذا وهو يعمل. وبينما كنا نسير بالعربة تحت السقف الحديدي المرتفع للمحطة، لاحظت تعابير الانزعاج على وجهه.
علق قائلا وهو ينظر إلى الساعة الكبيرة: «جئنا قبل موعدنا بخمس عشرة ثانية. لا أحب أن أقع في خطأ حسابي كهذا.»
كان القطار سكوتش إكسبريس الكبير يقف على الرصيف مستعدا لرحلته الطويلة. وربت المحقق على كتف أحد الحراس. «أعتقد أنك سمعت بما يسمى بلغز بيجرام، أليس كذلك؟» «بكل تأكيد يا سيدي. لقد وقعت الحادثة على متن هذا القطار نفسه.» «أحقا؟ وهل لا تزال العربة التي وقعت بها الحادثة موصولة بالقطار؟»
فأجابه الحارس وهو يخفض صوته: «أجل يا سيدي لا تزال. لكن، يا سيدي، علينا بالطبع أن نتكتم على ذلك. وإلا فلن يسافر الناس فيها يا سيدي.» «لا شك في ذلك. هل تعرف إن كان هناك من يشغل العربة التي عثر فيها على الجثة؟» «رجل وسيدة يا سيدي، لقد أوصلتهم إليها بنفسي يا سيدي.»
قال المحقق وهو يدس نصف جنيه ذهبي في يد الحارس: «هلا صنعت لي معروفا آخر بأن تذهب إلى نافذة تلك العربة وتخبر الرجل والمرأة بطريقة عفوية عابرة أن الحادثة وقعت في تلك العربة؟» «بكل تأكيد يا سيدي.»
تبعنا الحارس، وفي اللحظة التي نقل إليهما الأخبار أتت صرخة مكتومة من العربة. وفي الحال خرجت سيدة منها، وتبعها رجل متورد الوجه وقد عبس هذا في وجه الحارس. ثم دخلنا العربة التي أصبحت الآن شاغرة، وقال كومبس: «نود أن نكون بمفردنا حتى نصل إلى بروستر.»
فأجابه الحارس: «سأتولى أمر هذا يا سيدي.» ثم أوصد الباب خلفه.
وحين غادر الحارس، سألت صديقي عما يتوقع أن يجده في العربة وقد يكشف بأي حال عن ملابسات القضية.
فرد باقتضاب: «لا شيء.» «إذن لماذا أتيت؟» «لكي أتأكد فقط من الاستنتاجات التي توصلت إليها بالفعل.» «وهل لي أن أسألك عن تلك الاستنتاجات؟»
فأجاب المحقق وفي صوته شيء من فتور وتراخ: «بكل تأكيد، أعرني انتباهك. أولا: فيما يخص حقيقة أن هذا القطار يقف بين رصيفين، ويمكن أن يدخله المرء من أي من جانبيه. وأي رجل يعرف هذه المحطة على مدى سنوات سيكون مدركا لهذا الأمر. وهذا يوضح كيف دخل السيد كيبسون القطار قبل أن يغادر المحطة مباشرة.»
فحاولت إبداء اعتراضي قائلا: «لكن الباب موصد من هذا الجانب.» «بالطبع، لكن كل من يحمل تذكرة موسمية يحمل معه مفتاحا. وهذا يفسر عدم رؤية الحارس له، ويفسر كذلك عدم وجود التذكرة. والآن سأذكر لك بعض المعلومات عن الإنفلونزا. ترتفع درجة حرارة المريض بضع درجات عن معدلها الطبيعي؛ ومن ثم يصاب بحمى. وحين يشتد المرض عليه، تنخفض درجة الحرارة عن معدلها الطبيعي بمقدار ثلاثة أرباع الدرجة. أتصور أن هذه الحقائق لا تخفى عليك لأنك طبيب.»
فأقررت بذلك. «حسنا، وهذا الانخفاض في درجة حرارة الجسم يجعل عقل المريض يتجه إلى التفكير في الانتحار. وهذا هو الوقت الذي ينبغي لأصدقاء المرء أن يتولوا رعايته فيه. ولكن أصدقاء السيد كيبسون لم يقوموا على رعايته عندما حان الوقت لذلك. أنت تذكر يوم الحادي والعشرين من الشهر بالطبع، أليس كذلك؟ كان اليوم مثيرا للاكتئاب بدرجة كبيرة. كان الضباب يلف كل الأرجاء وكان الطين يملأ الشوارع. جيد جدا. وهنا يقرر الرجل الانتحار. وتتملكه الرغبة في ألا يتمكن أحد من الاستدلال على هويته، إن أمكن، لكنه ينسى تذكرته الموسمية. وبحكم خبرتي فإن المرء حين يكون على وشك ارتكاب جريمة ما فإنه دائما ما ينسى شيئا.» «لكن كيف تفسر اختفاء المال؟» «ليس للمال أي علاقة بهذا الأمر. إذا كان الرجل حصيفا وعلى دراية جيدة بغباء سكوتلاند يارد، فمن المرجح أنه أرسل المال إلى عدو له. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فربما يكون قد أعطى المال إلى صديق له. ولا شيء أبلغ دليلا على أن الرجل كان يعتزم تهيئة العقل لعملية تدمير ذاتي من مشهد رحلة ليلية على متن القطار سكوتش إكسبريس، كما أن المنظر من نافذة القطار وهو يعبر الأجزاء الشمالية للندن يبعث بوضوح على الأفكار الانتحارية.» «وماذا عن السلاح المستخدم؟» «تلك هي النقطة التي أريد أن أحسم الشك حيالها. أستميحك عذرا للحظة.»
سحب السيد شيرلو كومبس النافذة الموجودة على الجانب الأيمن من القطار ففتحها، ثم راح يفحص الجزء العلوي من إطار النافذة بدقة باستخدام عدسته المكبرة. ثم سرعان ما تنفس الصعداء، وسحب مصراع النافذة لإغلاقها.
ثم علق قائلا وقد بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما بدا أنه يحدثني: «تماما كما توقعت. هناك انبعاج بسيط على الجزء العلوي من إطار النافذة. ويشبه هذا الانبعاج في هيئته ما يتسبب فيه زناد المسدس الذي يسقط من يد واهنة مرتخية الأعصاب لشخص منتحر. كان ينوي أن يلقي بالمسدس خارج النافذة، لكنه لم يكن يقوى على ذلك. ومن الممكن أن يسقط المسدس داخل العربة. ولكنه، في الواقع، ارتد مبتعدا عن السكة الحديدية واستقر وسط العشب على مسافة ما يقرب من عشر أقدام وستة إنشات خارج الخط الحديدي. ولا يبقى الآن سوى سؤال وحيد، وهو أين ارتكب الرجل فعلته، مع أن الموضع الحالي الدقيق للمسدس يقدر على بعد أميال من لندن؟ ولكن لحسن الحظ أن هذا الأمر أبسط من أن يكون في حاجة إلى تفسير.»
فصحت قائلا: «يا إلهي يا شيرلو! كيف تدعي أن ذلك أمر بسيط؟ يبدو لي من المستحيل حساب ذلك.»
كنا في تلك اللحظة نمر سريعا عبر الجزء الشمالي من لندن، فأرجع المحقق الشهير ظهره إلى الخلف في إشارة عن شعوره بالملل والسأم، ثم أغلق عينيه. ثم تحدث في النهاية بضجر قائلا: «الأمر بسيط حقا يا واتسون، لكنني على استعداد دائما لأتفضل على صديقي بالتفسير. ومع ذلك، سأشعر براحة كبيرة لو تمكنت من حل ألغاز التحقيق بنفسك، رغم أنني لا أمانع أبدا أن أساعدك بكلمات من أكثر من ثلاثة مقاطع صوتية. بعد أن قرر كيبسون الانتحار، كان من الطبيعي أن يعتزم فعل ذلك قبل أن يصل إلى بروستر؛ وذلك لأن التذاكر يجري فحصها مرة أخرى عند تلك المحطة. وحين بدأ القطار يتوقف عند الإشارة بالقرب من بيجرام، ظن خطأ أنه يتوقف عند محطة بروستر. وحقيقة أن طلقة الرصاص لم يسمع صوتها تفسيرها أن صوت صرير الفرامل الهوائية قد حال دون سماعها، بالإضافة إلى صوت الضوضاء الذي يحدثه القطار. وربما كانت الصافرة قد انطلقت في تلك اللحظة نفسها. وكونه قطارا سريعا، فإنه كان سيتوقف عند أقرب نقطة من الإشارة. والفرامل الهوائية توقف القطار في مسافة مقدارها ضعف طولها، ولنقل في هذه الحالة إنها أوقفته في مسافة قدرها ثلاثة أضعاف طوله. حسنا. من عمود الإشارة باتجاه لندن وعند مسافة قدرها ثلاثة أضعاف طول هذا القطار مطروحا منها نصف طوله - حيث إن هذه العربة تقع في منتصف القطار - ستجد المسدس.»
صحت قائلا: «مذهل!»
فغمغم قائلا: «ملاحظة مبتذلة.»
وفي تلك اللحظة، دوت الصافرة في الأرجاء، وشعرنا بصرير الفرامل الهوائية.
صاح كومبس بنبرة تكاد تصل إلى الحماسة: «إشارة بيجرام مرة أخرى. هذا من حسن الحظ بالتأكيد. سنغادر القطار الآن يا واتسون ونختبر الأمر.»
وحين توقف القطار، خرجنا من الناحية اليمنى لخط السكة الحديدية. وقف القطار يلهث بفارغ الصبر تحت الإشارة الحمراء، والتي تغيرت إلى اللون الأخضر حين رفعت نظري إليها. وعندما انطلق القطار بسرعة متزايدة، أحصى المحقق عدد العربات، ودون عددها. كان الظلام قد حل، وكان القمر هلالا رفيعا يتدلى في السماء ويلقي بضوء سحري خافت على الحديد اللامع. اختفت الأضواء الخلفية للقطار عند أحد المنحنيات، وعادت الإشارة إلى اللون الأحمر المميز مرة أخرى. وكان سحر الليلة الليلاء في ذلك المكان الغريب يثير إعجابي كثيرا، لكن المحقق كان عمليا أكثر مني. فقد وقف وظهره إلى عمود الإشارة وراح يسير على طول الشريط الحديدي بخطوات متساوية، وكان في أثناء ذلك يحسب خطواته. سرت إلى جانبه صامتا وبخطوتي المعهودة. ثم توقف في النهاية وأخرج من جيبه شريط قياس وراح يلفه حتى علامة عشر أقدام وستة إنشات، وأخذ يتأكد من الأرقام تحت ضوء الهلال الخافت . وبعد أن أعطاني طرف الشريط، وضع ركبتيه على شريط السكة الحديد، وأشار إلي أن أتحرك نحو ضفة السكة. رحت أمد الشريط، ثم وضعت يدي على العشب لكي أضع علامة على تلك البقعة من الأرض.
وصحت مذهولا: «يا إلهي! ما هذا؟»
قال كومبس في هدوء: «إنه المسدس.»
وقد كان! •••
لن تنسى صحف لندن سريعا الضجة التي تسببت فيها تحقيقات شيرلو كومبس، والتي نشرت مفصلة في صحيفة إيفينيج بليد المسائية في اليوم التالي. كنت آمل أن تنتهي قصتي هنا. ولكن، للأسف! سلم كومبس المسدس بازدراء إلى سكوتلاند يارد. وجد المسئولون المتطفلون - مدفوعين في ذلك بشعورهم بالغيرة حسب ما أعتقد دوما - اسم بائع المسدس مدونا عليه. فتحروا الأمر. وشهد البائع بأن المسدس لم يكن قط في حوزة السيد كيبسون على حد علمه. بل بيع إلى رجل تطابق أوصافه مجرما كانت الشرطة تراقبه لفترة طويلة. وألقي القبض عليه، فتحول إلى شاهد ملك وشهد ضد شريكه في الجريمة على أمل أن يشنق الشريك. ومن ثم، بدا الأمر وكأن السيد كيبسون، الذي كان رجلا متجهما قليل الكلام، وعادة ما يعود بمفرده إلى حجرة صغيرة يقيم فيها - وهكذا يهرب من المراقبة - قد قتل في الزقاق الذي يؤدي إلى مسكنه. وبعد أن سرقه الجانيان، فكرا في التخلص من الجثة، وهو أمر دائما ما يشغل بال المجرمين المحترفين قبل ارتكابهم الجريمة. وقد اتفقا على وضع الجثة على السكة الحديدية، فيدهسها قطار سكوتش إكسبريس، وكانا على وشك فعل ذلك حينها. لكن قبل أن يصلا بالجثة إلى ضفة السكة كان القطار قد وصل وتوقف عند الإشارة. وقد خرج الحارس وسار على طول الجهة الأخرى ليتحدث مع السائق. وعلى الفور، جاءتهما فكرة وضع الجثة في عربة فارغة من عربات الدرجة الأولى. ففتحا الباب بمفتاح القتيل. ومن المفترض أن المسدس قد سقط منهما وهما يرفعان الجثة إلى العربة.
لم تجد مراوغة الشاهد نفعا، وأهانت سكوتلاند يارد صديقي شيرلو كومبس بكل خسة وبعثت إليه بتصريح ليشاهد شنق الجاني وشريكه.
سيأتي الموت عاجلا أو آجلا
كان آليك روبينز هو من أطلق على العاجز لقب الهيكل العظمي الحي، وربما كان تأنيب ضميره على إعطائه مثل هذا اللقب الوصفي الدقيق هو ما تسبب في أن يكون صداقة مع الهيكل العظمي الحي، الذي كان رجلا ليس لديه أي أصدقاء فيما يبدو.
لم ينس روبينز محادثتهما الأولى قط، وقد حدثت كالآتي. كان من عادة الهيكل العظمي الحي أن يغادر فندقه في كل صباح في تمام العاشرة - إذا كانت الشمس مشرقة - وأن يمشي متثاقلا بدلا من السير بصورة طبيعية على طول الشارع المفروش بالحصى وحتى شارع النخيل. وهناك، كان ينتقي مقعدا تفترشه أشعة الشمس، فيجلس عليه، ويبدو وكأنه ينتظر أحدا لا يأتي أبدا. وفي ذلك، كان يرتدي وشاحا حول رقبته وقلنسوة من القماش الناعم على رأسه. كانت كل عظام وجهه بارزة بحيث يبدو وكأن وجهه خال من اللحم، وكانت ملابسه تنسدل فضفاضة على جسده وكأنها تنسدل على هيكل عظمي. ولم يكن الأمر يتطلب نظرة ثانية إلى الهيكل العظمي الحي لكي يدرك المرء أن ما تبقى من عمره هو أيام أو ساعات معدودة، وليس أسابيع أو شهورا. بدا الرجل وكأنه لا يمتلك من الطاقة ما يكفي حتى لكي يقرأ، وهكذا جلس روبينز إلى جواره ذات يوم على المقعد وقال في نبرة تنم عن التعاطف: «آمل أن تشعر اليوم أنك أفضل حالا.»
التفت نحوه الهيكل العظمي وضحك ضحكة خفيضة وخافتة لا روح فيها، ثم قال بصوت أجوف ذاهل وكأن رئتيه لم تكونا مصدره: «لقد اكتفيت من الشعور بأنني أفضل أو أسوأ.»
قال روبينز: «أوه، أثق أن الأمر ليس بهذا السوء. إن الطقس هنا سيجعلك جيدا، أليس كذلك؟»
ضحك الهيكل العظمي مرة أخرى ضحكة صامتة، وبدأ روبينز يشعر بالارتباك. كانت عينا الهيكل العظمي واسعتين وبراقتين، وكانتا مثبتتين على روبينز على نحو زاد من شعوره بالارتباك، وجعلتاه يفكر بأن الهيكل العظمي كان يعرف أنه قد أطلق عليه هذا الاسم.
قال الهيكل العظمي: «لم أعد مهتما بالطقس، إنما أعيش لأنني اعتدت على العيش لسنوات؛ أعتقد أن هذا هو التفسير؛ لأن رئتي قد هلكتا تماما. إن سبب مقدرتي على الكلام أو التنفس يعد لغزا بالنسبة إلي. هل أنت واثق تماما من أنك تستطيع سماعي؟»
قال روبينز: «أوه، إنني أسمعك بوضوح إلى حد ما.» «حسنا، لو أن الناس لا يخبرونني بأنهم يستطيعون سماعي، لما أيقنت أنني أتحدث فعلا؛ لأنني - كما ترى - ليس لدي ما يمكنني التحدث به. أليس شكسبير هو القائل بأن الإنسان يموت حين يغيب عقله؟ لقد رأيت بعض الأشخاص الذين يجعلونني أعتقد أن شكسبير كان مخطئا في تشخيصه، لكن من المفترض عموما أن الإنسان يموت حين تهلك الرئتان. ولأصدقك القول، أنا ميت من الناحية العملية. أتعرف القصة الأمريكية القديمة عن الرجل الذي كان يتجول ليوفر نفقات الجنازة، حسنا، لا أرى الأمر كذلك، بيد أنني أستطيع أن أشعر بما كان يشعر به الرجل. إنني ما زلت شديد الاهتمام بالحياة، وإن كنت ربما لا تعتقد ذلك. كما ترى، ليس أمامي الكثير من الوقت؛ سوف أموت بحلول الساعة الثامنة في اليوم الثلاثين من شهر أبريل. الثامنة مساء، وليس في الصباح، بعد العشاء تماما.»
صاح روبينز في ذهول: «سوف ماذا!» «سوف أموت في ذلك اليوم. إن الأمور معي على خير ما يرام كما ترى حتى إنني أستطيع أن أموت في أي وقت أريد. يمكنني أن أموت هنا والآن، إذا أردت ذلك. ولو كانت ستعود عليك أي فائدة من موتي لفعلت الآن، وسأبرهن لك أن ما أقول حقيقي. أنا لا أكترث كثيرا - كما ترى - رغم أنني قد حددت الثلاثين من أبريل موعدا للنهاية. ومن ثم، لا يهم كثيرا أن أموت الآن، إن كان هذا سيكون في صالحك بأي حال.»
قال روبينز بانزعاج كبير: «أرجوك، لا تحاول أن تجري أي تجربة من أجلي. إنني على استعداد تام لأن أصدق أي شيء تقوله حيال هذا الأمر، وينبغي أن تعرف ذلك بالطبع.»
أجابه الهيكل العظمي الحي بنبرة حزينة: «أجل، أعرف ذلك. لقد عانيت بما يكفي مع الأمل والخوف، لكن كل هذا الآن جزء من الماضي، كما تفهم جيدا. والسبب في أنني قد حددت الثلاثين من أبريل موعدا لي هو الآتي: أنني ليس لدي من المال سوى مقدار محدود، ولا أدري لم ينبغي أن أخفي الأمر. لدي اليوم 240 فرنكا بالضبط، بالإضافة إلى 100 فرنك أخرى نحيتها جانبا وخصصتها لغرض آخر. وأنا أدفع ثمانية فرنكات في اليوم في فندق جولدن دراجون؛ وهذا سيبقيني هناك لثلاثين يوما بالضبط؛ ومن ثم أنوي أن أموت بعدها.»
ضحك الهيكل العظمي مرة أخرى، فتململ روبينز على المقعد من الاضطراب.
وقال في النهاية: «لا أعرف ما الذي يضحكك في ظل هذه الظروف.» «لا أعتقد أن هناك الكثير ليضحكني، لكن هناك شيئا آخر أعتقد أنه مثير جدا للضحك، وسأخبرك به إذا احتفظت به سرا. إن جولدن دراجون نفسه ... إنني دائما ما أطلق على صاحب الفندق اسم جولدن دراجون، كما تطلق أنت علي اسم الهيكل العظمي الحي.»
تلعثم روبينز قائلا: «أوه، أنا ... أنا ... أستميحك عذرا. أنا ...» «لا يهم ذلك على الإطلاق. أنت محق تماما، وأعتقد أنه اسم مناسب وملائم للغاية. حسنا، إن جولدن دراجون نفسه يجني مبلغا كبيرا من المال عن طريق سرقة الموتى. لم تكن على علم بهذا، أليس كذلك؟ كنت تعتقد أن الأحياء هم من يدرون عليه المال، والرب يعلم أيضا أنه يسرقهم حين تسنح له الفرصة لذلك. وأنت مخطئ كثيرا في هذا. عندما يموت المرء في جولدن دراجون، فإنه يتعين عليه أن يدفع لقاء ذلك بسخاء، أو على الأرجح أصدقاؤه هم من يتعين عليهم ذلك. إن دراجون يحاسبهم على إعادة تأثيث الحجرة. إنه يأخذ منهم المال لقاء كل قطعة أثاث، وورق الحائط، وما إلى ذلك. وفي ظني أنه من اللائق تماما أن يطلب الرجل شيئا من المال نظير ذلك، لكن دراجون لا يقنع بما هو لائق. إنه يعلم بأنه خسر نزيلا للأبد؛ ولذا فإنه يحاول أن يحقق منه أقصى استفادة ممكنة. وهكذا، فإن دراجون لا يعيد تأثيث الحجرة التي دفع المال من أجلها، ولا يجدد ورق الحائط، ورغم ذلك لا يخفض من فاتورته بناء على هذا. حسنا، لقد استفسرت من تاجر الأثاث الكائن في الشارع خلف الفندق عن ثمن ذلك، وقد كتب لي على ظهر بطاقته تكاليف المرتبة والملاءات والوسائد وما إلى ذلك، وتكلفة ذلك كله تكاد تصل إلى 50 فرنكا. وقد وضعت في مظروف ورقة مالية بخمسين فرنكا، ومعها بطاقة تاجر الأثاث. ثم كتبت رسالة إلى حارس الفندق أخبره فيها بما ستتكلفه عملية إعادة التأثيث بالضبط، وأشرت بأن يعطي دراجون بطاقة تاجر الأثاث الذي أخبرني بالتكلفة. وقد كتبت على هذا المظروف عنوان دراجون، وسيصله حين أموت. وتلك هي الخدعة التي حكتها أنا والموت على مضيفنا، وأسفي الوحيد أنني لن أكون موجودا لأستمتع بالنظر إلى ملامح وجهه وهو يقرأ خطابي الأخير إليه. وقد نحيت مبلغا آخر من المال جانبا - وهو في أيد أمينة لن تستطيع يد دراجون أن تمتد إليه - وخصصته لتكاليف جنازتي، وهكذا أكون قد طويت صفحتي مع هذا العالم. ولست بتارك أحدا خلفي لأخشى عليه بعد رحيلي، كما أن ليس هناك من يكترث لأمري أو يأسف علي حين أكون في حاجة إلى الاهتمام أو الشفقة، ولست في حاجة إلى هذا أو ذاك. ولهذا السبب أضحك، وآتي إلى هنا وأجلس على هذا المقعد في أشعة الشمس، وأستمتع بالخدعة التي ستنفذ بعد موتي.»
لم يكن روبينز فيما يبدو يرى مجالا للدعابة في هذا الموقف بالقدر نفسه الذي يراه بها الهيكل العظمي الحي. وفي لقاءات أخرى بعد هذا اللقاء، عرض روبينز على الهيكل العظمي أن يعطيه المزيد من المال إذا ما أراد، حتى يتسنى له أن يطيل أمد حياته قليلا، لكن الهيكل العظمي كان دائم الرفض.
ونشأت صداقة من نوع ما بين روبينز والهيكل العظمي الحي، أو على الأقل صداقة من النوع الذي يمكن أن يكون بين الأحياء والموتى؛ ذلك أن روبينز كان شابا فتيا لا يحتاج لأن يعيش في الريفيرا من أجل صحته، وإنما كان يعيش هناك فقط بسبب كرهه للشتاء الإنجليزي. وبالإضافة إلى ذلك - ورغم أنه أمر لا دخل لأحد به في الحقيقة - يمكن أن نقول إن فتاة لطيفة ووالديها كانوا يعيشون في هذه المنطقة على وجه التحديد من الجنوب الفرنسي.
خرج روبينز ذات يوم في نزهة صغيرة بالعربة إلى تولون. وقد دعا تلك الفتاة اللطيفة إلى صحبته، لكن في ذلك اليوم تحديدا لم تكن تستطيع الذهاب معه؛ فقد كان هناك حدث خيري كبير، وكانت إحدى الفقرات الأساسية فيه تملق الناس من أجل الحصول على المال؛ ولذا فقد أخذت الفتاة اللطيفة على عاتقها القيام ببعض ذلك.
كانت الفتاة ماهرة في هذا الأمر، بل إنها كانت تفتخر وتتباهى بذلك؛ فهي فتاة لطيفة جدا وجميلة أيضا، وكان من الصعب على الناس أن يقابلوا طلبها بالرفض. وفي مساء ذلك اليوم، كان من المقرر أن يقام حفل راقص في الفندق الرئيسي للمكان، وهذا أيضا في إطار ذلك الحدث الخيري المحبب جدا. وقد ذهب روبينز إلى تولون وحيدا وعلى مضض منه، لكنه عاد في الوقت المناسب لحضور الحفل الراقص.
وقال للفتاة: «حسنا، كيف كان حظك في جمع المال اليوم؟»
فردت عليه في حماسة: «أوه، يا له من حظ رائع. أتعرف من الشخص الذي جمعت منه أكبر مبلغ من المال؟» «ليس لدي أدنى فكرة بكل تأكيد، ذلك الدوق الإنجليزي العجوز، لا شك في أنه يمتلك الكثير من المال.» «لا، ليس هو مطلقا؛ إنه آخر شخص يمكن أن تتوقعه، إنه صديقك، الهيكل العظمي الحي.»
صاح روبينز منزعجا: «ماذا!» «أوه، لقد وجدته على المقعد حيث يجلس كعادته، في شارع النخيل. وقد أخبرته عن الحدث الخيري وعن مدى نفعه وضرورة إقامته، وأخبرته أننا حري بنا جميعا أن نتبرع بالمال قدر استطاعتنا، فراح يبتسم لي بطريقته الغريبة وقال هامسا: «أجل، أعتقد أننا حري بنا جميعا أن ندعم هذا الحدث الخيري؛ سأعطيك ثمانين فرنكا.» أليس هذا بكرم زائد منه؟ ثمانون فرنكا، كان ذلك عشرة أضعاف ما تبرع به الدوق، وبينما كان يعطيني المال نظر إلي وقال بنبرته الهامسة المريعة: «عدي هذا المال بحرص حين تعودين إلى المنزل، وانظري إذا ما كان بإمكانك أن تعرفي ما أعطيتك إياه أيضا بخلاف المال. إن هذا أكثر من ثمانين فرنكا.» ثم بعد أن عدت إلى المنزل، وجدت ...»
لكن، توقفت الفتاة اللطيفة هنا عن الحديث حين نظرت إلى وجه روبينز الذي كانت تتحدث إليه. كان وجهه شاحبا بصورة مروعة، وكانت عيناه تحدق إليها لكنه لم يكن يراها.
كان يهمس في نفسه وقد بدا وكأنه يقوم بعملية حسابية في عقله: «ثمانون فرنكا.» ثم قال حين لاحظ نظرات الفتاة المليئة بالدهشة إليه: «وهل أخذت المال؟»
فقالت: «بالطبع فعلت. لم لا أفعل؟»
صاح روبينز لاهثا: «يا إلهي!» ومن دون أن ينطق بكلمة أخرى التفت وهرع بعيدا، تاركا الفتاة اللطيفة وقد تسمرت في مكانها من الدهشة وحدقت إليه أثناء رحيله وقد حمل وجهها الجميل أمارات العبوس.
سألت الفتاة نفسها: «ماذا يقصد من فعل ذلك؟» لكن روبينز كان قد اختفى من بين الحشد المجتمع في حجرة الفندق الكبيرة، وهرع على السلم وانطلق على الأرصفة الضيقة نحو فندق جولدن دراجون. كان مالك الفندق يقف في الردهة ويداه خلف ظهره، وكان هذا مألوفا من قبل دراجون.
سأله روبينز لاهثا: «أين السيد؟ السيد ...» ثم تذكر أنه لم يكن يعرف اسم الرجل «أين الهيكل العظمي الحي؟»
فأجابه دراجون: «لقد ذهب إلى غرفته، لقد عاد مبكرا هذه الليلة، أعتقد أنه لم يكن على ما يرام.» «ما رقم غرفته؟»
قال مالك الفندق: «رقم 40.» ثم رن جرس ذو صوت مرتفع، فجاءت على إثر ذلك إحدى الخادمات. فقال: «اصطحبي السيد إلى الغرفة رقم 40.»
سبقت الفتاة روبينز على السلم. ثم نظرت خلفها وقالت هامسة: «هل هو في حال سيئة؟»
فأجابها روبينز: «لا أعلم. هذا هو ما أتيت لأعرفه.»
عند الحجرة رقم 40، توقفت الفتاة، وطرقت الباب برفق. لم يكن هناك رد. فطرقت مرة أخرى بصوت أعلى، لكن لم يكن هناك رد أيضا.
قال روبينز: «افتحي الباب.»
قالت الفتاة: «أخشى فعل ذلك.» «لماذا؟» «لأنه قال إذا كان نائما فإن الباب سيكون موصدا، وإذا كان قد مات فسيكون الباب مفتوحا.» «متى قال ذلك؟» «قال ذلك عدة مرات يا سيدي؛ وكانت آخر مرة قبل أسبوع تقريبا.»
أدار روبينز مقبض الباب، ولم يكن موصدا. كانت الغرفة مضاءة إضاءة خافتة، لكن كان هناك ستار خلف الباب يمنع رؤية الحجرة. وعندما عبر الستار، رأى شمعة مشتعلة على الجزء المربع المصنوع من الرخام والموضوع عند رأس السرير، وكان ضوء الشمعة ساقطا على وجه الهيكل العظمي الذي غابت عنه علامات الحياة، والذي كان يحمل ابتسامة باهتة على شفتيه، وفي يده المقبوضة كان يمسك برسالة موجهة إلى مالك الفندق.
لقد تبرع الهيكل العظمي الحي بأكثر من ثمانين فرنكا إلى ذلك الحدث الخيري الجدير بذلك.
رهانات كبيرة
كان الثلج يتساقط رويدا تحت النور الأبيض الساطع للمصباح الكهربائي عندما كان بوني رويل يزرر معطفه ويغادر فندق ميتروبوليتان، وكان ذلك الفندق هو منزله. كان بوني رويل شابا لا يتخطى عمره الثلاثين عاما، وكان وجهه ملفتا للنظر. كان حليقا مستدق الملامح. وقد يتراءى للناظر أنه يشبه وجه ممثل أو رجل من رجال الدولة. فوجه الممثل له قدرة معينة على إظهار التعابير والانفعالات نتيجة الشخصيات التي يؤديها الممثل عادة وتكون مختلفة اختلافا شاسعا. إنك حين تنظر إلى وجه رويل عن كثب، تجد أنه قد اعتاد على كبت التعابير والانفعالات لا على إظهار مشاعر أو انفعالات من أي نوع. وقد تجعلك نظرة عابرة على وجه بوني رويل تعتقد أن وجهه سيخبرك بشيء، ولكن إذا تفحصته بعناية فستجد أنه لن يخبرك بأي شيء. وكانت عيناه رماديتي اللون ذواتي نظرة حادة ثاقبة حتى إنهما تبدوان وكأن بمقدورهما قراءة أفكار الغير، فيما تخفيان أفكاره بفعالية. وكان من المعروف عن بوني رويل أنه رجل لا يخل بوعده. وكان مقامرا محترفا.
في ذلك المساء تحديدا، كان بوني رويل يسير في الشارع في أريحية رجل يحظى بوقت فراغ طويل وليس لديه ما يشغله. وقد تردد للحظة أمام ممر مضاء بإضاءة خافتة يقع في منتصف بناية كبيرة في شارع جانبي، ثم دخل الممر وصعد الدرج. وطرق طرقا خفيفا على أحد الأبواب. أزيح مزلاج بالباب ونظر إليه للحظة رجل من الداخل. ثم فتح الباب في الحال؛ ذلك أن وجه بوني كان معروفا لدى كل أندية المقامرة في المدينة. وكان لا يزال أمامه باب آخر يمر به وعليه حارس؛ ذلك أن أي مالك أصيل لأحد أندية القمار لا يمكن أن يعرف أبدا اللحظة التي قد تستعر فيها الأخلاق فجأة لدى الشرطة فتجعلها تجتاح المكان وتداهمه، ومن الأفضل أن يكون أمامه بعض الوقت ليخفي أدوات القمار وتجهيزاته. وكان نادي ميليش للقمار معروفا لدى الشرطة بقدر ما هو معروف لدى بوني رويل، لكن ميليش كان يعرف أنه لن يتعرض لإزعاج من قبل الشرطة ما لم يحدث العامة جلبة بشأنه.
كان ميليش رجلا حريصا، وكان لا بد من التحقق جيدا من هوية مرتادي نادي القمار الخاص به قبل أن يسمح لهم بالدخول. ولم تقع قط أي مشكلات في نادي ميليش للقمار. وكان من المعروف عنه أنه دائما ما ينصح المقامر الصغير بالتوقف عن اللعب حين يدرك أنه لن يتحمل الخسارة، ورويت بعض الأحداث التي كان فيها ميليش نفسه مقرضا لرجل تملكه اليأس. كان الجميع يحب ميليش؛ ذلك أن سخاءه لم يكن له حدود، وحديثه مقنع للغاية.
وداخل الغرفة التي دلف إليها بوني رويل، كانت هناك طاولة روليت تدور، ولعبة فارو تلعب في موضع آخر من الغرفة. وعلى طاولات صغيرة كان هناك عدد كبير من مرتادي المكان يستمتعون بلعب البوكر.
صاح بيرت راجستوك: «أهلا يا بوني. هل ستمنحني فرصة الثأر منك الليلة؟»
أجاب بوني في هدوء ورباطة جأش وهو يشعل سيجارة جديدة: «أنا على استعداد دوما لأن أعطي أي شخص فرصته في الثأر.» «حسن إذن، تعال واجلس هنا.» «لن ألعب الآن. أريد أن أنتظر بعض الوقت.» «دعك من ذلك. إنني أنتظرك منذ فترة طويلة بالفعل. اجلس.» «ينبغي أن تكون قد عرفت الآن يا بيرت أنني حين أقول شيئا فإنني أعنيه حقا. لن أمس أي ورقة حتى تدق الساعة الثانية عشرة. حينها سأكون معك.» «أف يا بوني، ينبغي أن تكون أسمى من هذا. تلك خرافات يا رويل. وأنت رجل على قدر كبير من الذكاء يجعلك لا تلقي بالا إلى ساعة حظ بعينها تلمس فيها ورق اللعب. هيا.» «لا بأس بكل هذا، لقد حدثت نفسي بذلك، وسألعب عند منتصف الليل وإلا فلن ألعب.»
أومأ المقامرون القدامى في المكان بالموافقة على هذا القرار. كان من الطبيعي لبيرت راجستوك أن يسخر من الخرافات؛ لأنه لم يكن مقامرا حقيقيا. وإنما كان يأتي إلى نادي ميليش للقمار في المساء لأن البورصة لم تكن تفتح أبوابها ليلا. ومن الغريب القول بأن راجستوك كان رجل أعمال جيدا ومقامرا ذكيا. وكان يتحسر على القدر الذي جعله ثريا بحيث لا يكون للمقامرة عليه تأثير مبهج كان من الممكن أن يشعر به لو كان يلعب وهو فقير.
حين دقت الساعة معلنة عن منتصف الليل أخذ بوني رويل مجموعة ورق اللعب وبدأ يخلطها.
وقال: «والآن أيها الرجل، إنني ألعب من أجل الفوز. أريد الفوز بمبلغ كبير الليلة.»
صاح بيرت في حماسة قائلا: «صحيح. وسأقف إلى جوارك طالما بقيت الأشكال على الورق.»
ومع خيوط الصباح الأولى، عندما كان الجميع قد غادر وكان ميليش نفسه يتثاءب، كان الرجلان لا يزالان يلعبان. كان المقامر المحترف قد فاز بمبلغ كبير من المال، وهو أكبر مبلغ يفوز به على الإطلاق. ومع ذلك، لم يكن تبدو في عينيه المتحمستين أي علامة من علامات النصر. أما بيرت، فقد بدا وكأنه هو الفائز من الانفعال البادي على وجهه. كان الرجلان متكافئين، وكانا يستمتعان باللعب معا.
صاح بوني في النهاية: «ألم تكتف بعد؟ الحظ ليس في صالحك. لو كنت مكانك لما ظللت أضرب برأسي في جدار طوب.» «عزيزي بوني، كم مرة أخبرتك أنه لا يوجد شيء اسمه الحظ. لكن لأصدقك القول، إنني أشعر بالتعب وسأذهب إلى المنزل. تأجل موعد الثأر. متى سألتقي بعدوي مجددا؟»
راح بوني رويل يخلط ورق اللعب في تراخ وفتور لبضع لحظات من دون أن يجيب أو يرفع نظره إليه. ثم قال في النهاية: «في المرة القادمة التي ألاعبك فيها، ستكون على رهانات كبيرة.» «يا إلهي، ألم تكتف بالرهانات التي لعبنا عليها الليلة؟» «لا. أريد أن ألعب معك على رهان سيقف له شعر رأسك. فهل ستخوض ذلك؟» «بكل تأكيد. متى؟» «لا أستطيع أن أخبرك بذلك الآن. أنا مشغول الآن بأمر كبير. سأقابل رجلا الليلة بهذا الشأن، وكل ما أريد أن أعرفه هو أن تعدني بأنك ستلعب.» «هذا أمر يكتنفه الغموض يا بوني. أعتقد أنك تخشى أن أتهرب منك. ولكنني على استعداد لأن ألعب معك تحت أي شرط وعلى أي رهان.» «هذا يكفي. سأطلعك على بعض التفاصيل بمجرد أن أعرف كل ما أريد. طابت ليلتك.»
قال بيرت بينما كان ميليش يساعده في ارتداء معطفه الطويل: «بل طابت ليلتك أنت. لقد فزت بالمال كله: لقد سرقت رجلا فقيرا وجردته من ماله الذي كد في كسبه!» «أوه، الرجل الفقير ليس في حاجة إلى المال بقدر حاجتي أنا إليه. وعلاوة على ذلك، سأعطيك فرصة لاسترداد كل شيء وزيادة.»
عندما غادر راجستوك، كان بوني لا يزال جالسا على الطاولة يخلط الورق وهو شارد الذهن.
قال ميليش وهو يضع يده على كتفه: «لو كنت مكانك لأخذت ذلك المال ووضعته في البنك ولتوقفت.»
سأله بوني بعد أن رفع نظره إليه مبتسما: «بنك الفارو؟» «لا، كنت لأقلع عن القمار تماما لو كنت مكانك. سأفعل ذلك يوما ما.» «أوه، كلنا يعرف ذلك. طوال العشرين عاما المنصرمة، كنت على وشك الإقلاع عن القمار تماما. وسأفعل أنا ذلك أيضا، لكن ليس الآن. وبالطبع هذا هو ما يقوله الجميع، لكنني أعني ذلك حقا.»
سار بوني رويل في هذا الشتاء الباكر والقارس باتجاه فندق ميتروبوليتان ثم خلد إلى النوم. وفي الثالثة من عصر ذلك اليوم أتى الرجل الذي كان على موعد معه للقائه.
بدأ الزائر حديثه قائلا: «كنت تريد لقائي بشأن وثيقة تأمين.» فوكلاء التأمين دائما ما يكونون على استعداد لأحاديث العمل. «هل كنت تفكر في نظام الوقف، أم فكرت في نظام سندات التأمين الجديد لدينا؟ يبدو أسلوب الدفع على عشرين دفعة رائجا للغاية.»
قال بوني: «أريد أن أسألك بضعة أسئلة. إذا أمنت على حياتي لدى شركتك ثم انتحرت، فهل سيلغي هذا صلاحية وثيقة التأمين؟» «ليس بعد عامين؛ ففي شركتنا، تكون وثيقة التأمين لا نزاع فيها بعد عامين.» «عامين؟ لن ينفعني هذا. ألا تستطيع أن تجعلها عاما واحدا؟»
قال وكيل التأمين وهو يخفض صوته: «سأخبرك بما سأفعل. يمكنني أن أكتب الوثيقة بتاريخ سابق، وبذلك سوف تنتهي مدة العامين في الوقت الذي تريده، ولنقل بعد عام من الآن.» «رائع جدا. إذا استطعت أن تفعل هذا بطريقة قانونية بحيث تنتهي مدة العامين خلال عام واحد من الآن، فسأؤمن لدى شركتك بمبلغ مائة ألف دولار.»
اتسعت عينا وكيل التأمين حين ذكر المبلغ. «لا أريد وقفا أو سندات، لكن أرخص أنواع التأمين على الحياة لديكم، و...» «إذن، تأمين مدى الحياة هو ما تريد.» «فليكن هذا إذن، وسأدفع لك مقدما مقدار عامين، أو لنقل مقدار عامين ونصف؛ وذلك حين تحضر الوثائق إلي.»
وهكذا، أمن بوني رويل على حياته بمائة ألف دولار كجزء من المال الذي ربحه في المقامرة، وبجزء آخر من ذلك المال دفع مقابل إقامته الكاملة في فندق ميتروبوليتان لعام قادم.
أما الجزء المتبقي من المال، فقد احتفظ به للمقامرة.
وفي أثناء العام التالي لذلك، ظل يرفض أن يلعب مع بيرت راجستوك، وكادا يتشاجران مرة أو مرتين، وتلك كانت هي المرة الأقرب التي كاد بوني يقع فيها في شجار مع أي شخص؛ ذلك أن التشاجر لم يكن أسلوبه قط. ولو كان بوني يعيش في مجتمع أقل تحضرا من هذا المكان فلربما اتخذ من التشاجر أسلوبا له، لكن بما أن الشجار لا يسفر عن شيء، فإنه لم يكن ينخرط في أي من ذلك.
قال بيرت متذمرا: «أمر عام منذ آخر لقاء بيننا؟ يا له من هراء أن أنتظر كل هذه المدة. أنت تلعب مع الآخرين، لم لا تلعب معي؟ فكر في الفرص التي نخسرها.»
فأجابه رويل: «إذن سنحظى بفرصة لعب ستعوض عن كل هذا الانتظار.»
وأخيرا جاء الموعد السنوي، وحين دقت الساعة معلنة عن ذلك، جلس بوني رويل وبيرت راجستوك في مواجهة أحدهما الآخر، مستعدين لاستكمال ما بدآه كالمعتاد.
قال بيرت وهو يفرك يده: «آه، الجلوس أمامك مجددا يشعرني بشعور جيد. أنت مغرور يا بوني. كنا سنحظى بمائة فرصة كهذه للعب طوال العام الماضي، لو لم تكن ممن يؤمنون كثيرا بالخرافات.» «ليس بمثل هذه المرة. هذه هي المرة الأخيرة التي سألعب فيها، وإما الفوز أو الخسارة. وأنا أخبرك بذلك الآن لأنه لن يكون هناك أي حديث عن الثأر إذا ما فزت أنا.» «أنت لا تعني ذلك حقا! لقد سمعت مثل هذا الحديث من قبل.» «لا بأس. لقد حذرتك. والآن أعتقد أن هذه لعبة تعتمد تماما على الحظ. لدينا مجموعة جديدة من الورق، اخلطها، واقسمها، ثم تسحب أنت ورقة وأسحب أنا أخرى. ورقة الآس هي العليا. وصاحب الورقة العليا هو من يربح المال كله. والأفضل هو من يسحب أعلى ورقتين من بين ثلاث. أتوافق على ذلك؟» «بالطبع. كم سيكون مقدار المال؟» «مائة ألف دولار.» «أوه، أنت تحلم.» «أليس بكاف؟» «تبا لذلك! أنت لم تر هذا المبلغ من قبل.» «ستحصل على المال إذا ما خسرت.» «هذا مبلغ كبير حقا يا بوني. مائة ألف دولار! يا إلهي! كم عدد رجال الأعمال الذين يتوقعون أن تؤخذ كلمتهم بأنهم سيدفعون مائة ألف دولار على محمل الجد لمجرد أنهم قالوا ذلك؟» «أنا لست برجل أعمال. أنا مقامر.» «صحيح، صحيح. هل المال معك الآن؟» «لا، لكنه سيدفع لك. إن مالك ليس هنا في المكان. ولكنني أثق بك، ألا تستطيع أن تثق بي؟» «الأمر ليس سيان يا بوني. سأثق بك ثلاثة أضعاف ما تحمل الآن من مال، لكن عندما تتحدث عن مائة ألف دولار فأنت تتحدث عن مال كثير.» «إذا استطعت أن أقنع ميليش بأنك ستحصل على مالك، فهل ستلعب؟» «يمكنك أن تقنعني بنفس السهولة التي ستقنع بها ميليش. فما فائدة جره في هذا الأمر؟» «يمكنني أن أقنعك في غضون دقيقة، لكنك قد تستمر في رفض اللعب. والآن، لا بد أن ألعب هذه المرة، ولا يمكنني أن أتحمل أي مخاطر. وإذا لم تكن كلمتي وكلمة ميليش كافيتين كإثبات لك على الدفع، فقل ذلك.»
صاح بيرت: «حسنا، إذا استطعت أن تقنع ميليش بأنك ستدفع المال إذا خسرت، فسألعب معك.»
انسحب رويل وميليش إلى حجرة داخلية ثم خرجا بعد عدة دقائق.
وكان وجه ميليش أحمر حين دخل، أما الآن فقد أصبح وجهه شاحبا قليلا.
قال ميليش: «لا يعجبني هذا الأمر يا بيرت، وأعتقد أن من الأفضل أن يتوقف الأمر عند هذه النقطة.» «إذن، فأنت لست مقتنعا بأنني واثق من وجود أموالي؟» «بلى، أنا مقتنع بذلك ولكن ...» «وهذا كاف بالنسبة إلي. أحضر مجموعة الأوراق الجديدة.»
قال بوني عندما رأى أن مالك المنزل كان على وشك أن يتحدث: «لقد أعطيتني كلمتك يا ميليش. لا تنطق بأكثر من ذلك.»
فأضاف بيرت: «إن ورقتين من بين ثلاث سيكون سريعا جدا بالنسبة إلى هذا المبلغ. فلنجعلها خمسا من بين تسع ورقات.» «لا بأس بذلك.»
ثم أحضرت مجموعة الورق الجديدة ومزق غلافها.
قال رويل: «اخلط أنت الأوراق أولا، وسأقسم أنا.» وقد بدت شفتاه جافتين فراح يرطبهما بين الحين والآخر، وكان هذا الأمر غير عادي بالنسبة إلى مقامر هادئ مثله. وراح ميليش يتململ في أرجاء المكان مقطب الجبين. خلط بيرت الأوراق دون اكتراث وكأنه يلعب على ورقة من فئة خمسة دولارات. وعندما سحب كل منهما ورقة، كان في يد بيرت ورقة آس، وفي يد بوني ورقة الشايب. ثم خلط بوني الأوراق وسحب ورقة مرقمة، بينما سحب خصمه ورقة البنت. ابتسم بيرت وراحت قطرات العرق تظهر على جبين بوني رغم محاولاته الجاهدة للسيطرة على نفسه. ولم ينبس اللاعبان ولا المتفرجون ببنت شفة. وبعد التوزيعة التالية للورق، خسر بوني مرة أخرى. وبدا أن رباطة جأشه قد غابت عنه. فلملم الأوراق من فوق الطاولة وهو يتلفظ وقال بصوت أجش: «أحضروا مجموعة ورق أخرى.»
ابتسم بيرت إليه على الجانب الآخر من الطاولة. لا شك أنه كان يفكر أنهم يقامرون على مبالغ متساوية.
لم يكن باستطاعة ميليش أن يتحمل أكثر من ذلك. فدلف إلى إحدى الغرف الداخلية. أما التوزيعة الأولى لمجموعة الورق الجديدة، فقد كانت في صالح بوني وبدا كأنه يشعر بأن حظه قد تغير، لكن التوزيعة التي تلتها كانت في غير صالحه وكذلك المجموعة التي تلتها.
قال رويل وهو يدفع بالورق باتجاه خصمه: «إنه دورك في خلط الأوراق.» لم يمس بيرت الورق، لكنه راح يبتسم في وجه المقامر الآخر. «ما خطبك؟ لم لا تخلط الأوراق؟»
قال بيرت في هدوء: «لست مضطرا لفعل ذلك. لقد فزت في خمس توزيعات.»
وضع رويل يده على جبينه المتعرق وحدق إلى الرجل الجالس قبالته على الطاولة. ثم بدا كأنه قد استجمع شتات نفسه.
وقال: «إذن فقد فزت، لم ألحظ ذلك. عذرا. أعتقد بأنني سأذهب الآن.» «اجلس حيث أنت ولنلعب على شيء أبسط من ذلك. أنا لا آبه بشأن ذلك البذخ وأعتقد أنك لا تأبه به كذلك ... والآن.» «شكرا، لا. لقد أخبرتك أن تلك هي آخر مرة لي. أما بالنسبة إلى البذخ، فلو كنت أمتلك المال لحاولت اللعب مرة أخرى عن طيب خاطر. وللعبت مرارا وتكرارا.»
وعندما أتى ميليش ورأى أن اللعبة قد انتهت سأل عن بوني.
فأجابه بيرت: «أعتقد أنه عرف بأنه قد اكتفى بهذا الحد. لقد ذهب إلى منزله.»
قال ميليش: «ادخل هنا يا بيرت. أريد أن أتحدث إليك.»
وعندما كانا وحدهما التفت ميليش نحوه. «أعتقد أن بوني لم يخبرك من أين سيأتي المال، أليس كذلك؟» «لا، لقد أخبرك أنت وكان هذا كافيا بالنسبة إلي.» «إذن، لا سبب يحول دون أن تعرف ذلك الآن. لقد وعدته أن ألتزم الصمت حتى تنتهي اللعبة. لقد أمن على حياته بمبلغ مائة ألف دولار وسينتحر من أجل أن تحصل أنت على المال.»
صاح بيرت: «يا إلهي! لم تركتنا نواصل اللعبة؟» «لقد حاولت إيقافها، لكنني كنت قد أعطيت كلمتي، وأنت ...» «حسنا، لن نقف هنا ونثرثر. إنه في فندق ميتروبوليتان، أليس كذلك؟ إذن هيا بنا. ارتد معطفك بسرعة.»
كان ميليش يعرف رقم غرفة رويل ومن ثم لم يضيعوا وقتا في الاستعلام عند مكتب الاستقبال. وحاول ميليش فتح الباب، لكنه كان موصدا كما توقع.
جاء صوت يصيح من الداخل: «من بالباب؟» «إنه أنا ... ميليش. أريد أن أتحدث إليك للحظة.» «لا أريد أن أقابلك.» «يريد بيرت أن يقول لك شيئا. إنه أمر مهم. دعنا ندخل.» «لن أدخلكما. اذهبا من هنا ولا تحدثا جلبة. لن يجدي الأمر. يمكنكما أن تدخلا بعد عشر دقائق من الآن.»
قال بيرت بنبرة حادة: «اسمع يا بوني افتح هذا الباب فورا، وإلا فسأحطمه. أتسمعني؟ أريد أن أراك للحظة، ثم يمكنك بعدها أن تفعل ما تريد.»
وبعد أن تردد للحظة، فتح رويل الباب ودخل الرجلان. كان نصف السجادة مرفوعا من مكانه وكانت أرضية الغرفة مفروشة بجرائد قديمة. وعلى الطاولة كان هناك مسدس دوار وأدوات كتابة وخطاب لم يكتمل بعد. أما بوني فكان يرتدي قميصا ولم يبد عليه السرور بتلك المقاطعة.
فسأل باقتضاب: «ماذا تريدان؟»
قال بيرت: «اسمع يا بوني. لقد اعترفت إلى ميليش وقد أتيت لأعترف إليك. أريدك أن تتساهل معي وتتكتم على الأمر. لقد غششت. كان الورق جاهزا معي.»
قال رويل وهو ينظر في عينيه مباشرة: «أنت كاذب.»
صاح راجستوك وقد شد على قبضته: «لا تكرر قول ذلك. قليل من الرجال من أتقبل منهم تلك الكلمة.» «كنت تجهز الورق لي؟ لا يستطيع أحد فعل ذلك معي!» «كنت متحمسا ولم تلحظ الأمر.» «أنت لست بكاذب فقط، بل إنك غير بارع في الكذب. لقد خسرت المال وسأدفع لك. كان المال سيكون جاهزا الآن، إلا أن هناك خطابا يتحتم علي أن أكتبه. لقد أخبرك ميليش عن وثيقة التأمين ووصيتي المرفقة بها. هاك هما. إنهما لك. لست بغشاش، كما أنني أميز جيدا متى يكون اللعب منصفا.»
أخذ بيرت الوثيقة ولا شك أنه كان ينوي أن يمزقها، في حين أومأ إليه ميليش بعينيه وراح يتسلل شيئا فشيئا ليحصل على المسدس. قرأ راجستوك الاسم المكتوب بأحرف كبيرة في رأس الصفحة وكان منقوشا بخط جميل. وهنا اتسعت عيناه ثم غاص في كرسي وراح يضحك بصوت مرتفع. فنظر إليه الرجلان الآخران في ذهول.
سأله ميليش: «ما الأمر؟» «الأمر؟ كان هذا الأمر سيكون خدعة لبوني. من الجيد لكل منكما أن تعرفا شيئا عن الموضوع كما تعرفان عن المقامرة. لقد أفلست شركة هاردفاست للتأمين على الحياة قبل ستة أشهر. هذه هي الحقيقة يا بوني، حتى لو لم أكن قد جهزت الورق بنية الغش في اللعب. من الأفضل أن تجري بعض الاستعلامات في دوائر الأعمال والأوساط التجارية قبل أن تحاول الحصول على أي أموال من تلك الشركة. والآن يا بوني، اطلب لنا بعض المشروبات، إذا كان هناك ما يمكن أن تطلبه في مثل تلك الساعة المتأخرة. نحن ضيوفك؛ ومن ثم يتوقع منك أن تكون مضيفا كريما. لقد حصلت على ما يكفي من الإثارة لليلة واحدة. سنعتبر أننا متعادلان وسنبدأ من جديد.»
«حين يكون الجهل نعمة»
غادرت السفينة البخارية المهيبة «أدامنت» من نيويورك في رحلتها لشهر فبراير في ظل ظروف مواتية. وكانت هناك عاصفة تجتاح المحيط لكنها انتهت توا؛ ولذا كانت كل الفرص سانحة أمامها للوصول إلى ليفربول قبل حلول العاصفة التالية.
وقد واجه الكابتن رايس مشكلة اجتماعية بسيطة كان عليه حسمها في بداية الرحلة، لكنه لطف الأمور وهدأها بلباقته المعهودة. كان على متن السفينة سيدتان - وهما زوجتان لمسئولين رسميين - من واشنطن، وكان الكابتن - وهو رجل إنجليزي عجوز وبحار ماهر ومتمرس - دائما ما يواجه مشكلة فيما يتعلق بحق الأولوية للسيدات من واشنطن. ولم يكن الكابتن رايس ينزعج مطلقا من الأرستقراطية البريطانية؛ لأن حق الأولوية كله مسجل في «مجلد بيرك للنبلاء»، الذي كان يحتفظ به في مقصورته؛ ومن ثم لم تكن هناك أي صعوبة في التعامل مع الأمر. لكن، من المفترض في أي دولة ذات نظام جمهوري ألا تتدخل في حق الأولوية. ولم تكن الدولة لتفعل ذلك أيضا لولا النساء.
حدث أن السيدة براونريج، زوجة مساعد المدعي العام بمجلس الشيوخ، أتت إلى مضيف السفينة وقالت بأنها لا بد أن تجلس على ميمنة الكابتن، وذلك حسب الترتيب الطبقي للجميع على متن السفينة. وبعد ذلك جاءت السيدة ديجبي، زوجة المساعد الثاني لرئيس الأركان في وزارة الحربية، إلى الموظف الحائر وقالت بأنها لا بد أن تجلس إلى ميمنة الكابتن لأنها في واشنطن تحظى بالأولوية على جميع من هم على متن السفينة. فأسر المضيف الحائر بمحيرته إلى الكابتن الذي قال بأنه سيهتم بالأمر. ومن ثم، أجلس السيدة زوجة مساعد رئيس الأركان في وزارة الحربية إلى يمينه وسار على سطح السفينة مع السيدة زوجة مساعد المدعي العام وقال لها: «أريدك أن تسدي إلي معروفا أيتها السيدة براونريج. لسوء الحظ، أنا أعاني من صمم طفيف في أذني اليمنى وأعتقد أن سببه هو الاستماع الدائم إلى بوق الضباب عاما بعد الآخر؛ ومن ثم، فإنني دائما ما أجلس أكثر السيدات اللائي أريد محادثتهن إلى يساري على الطاولة. فهلا تفضلت علي وجلست في ذلك المقعد هذه الرحلة؟ لقد سمعت عنك أيتها السيدة براونريج، رغم أنك لم تسمعي بي من قبل قط.»
أجابته السيدة بروانريج: «بكل تأكيد أيها الكابتن. إنني أشعر بإطراء بالغ.»
قال الكابتن المحترم: «وأؤكد لك سيدتي أنني لن أفوت على نفسي سماع كلمة واحدة منك» إلى آخر ذلك.
وهكذا نسق الأمر سلميا بين السيدتين. وهذا كله ليس له أي علاقة بالقصة. إنما هي مجرد حادثة أذكرها لأوضح ما كانت تتسم به شخصية الكابتن رايس من دبلوماسية فطرية استمرت معه حتى اللحظة. ولا أعرف أي قبطان حاز ألفة وقبولا أكثر منه بين النساء، كما أنه من أفضل البحارة الذين عبروا المحيط.
يوما تلو الآخر، كانت السفينة الرائعة تشق طريقها نحو الشرق، وقد أجمع الركاب أنهم لم يكونوا على متن رحلة بحرية أفضل من هذه في مثل هذا الوقت من العام. كان الطقس دافئا على سطح السفينة حتى إن الكثير منهم قد جلسوا على الكراسي للاستمتاع بأشعة الشمس، وفي الأسفل كان الطقس معتدلا لدرجة أن المرء قد يخيل له أنه يبحر في المناطق الاستوائية. ورغم ذلك كانوا قد غادروا نيويورك في عاصفة ثلجية وكانت درجة الحرارة تحت الصفر بعدة درجات.
قال سبينر الشاب الخبير بكل شيء: «هذا هو تأثير تيار الخليج الدافئ.»
ومع ذلك، عندما نزل الكابتن رايس لتناول الغداء في اليوم الرابع كان وجهه شاحبا ونظرته تنم عن القلق.
قالت السيدة زوجة مساعد المدعي العام: «تبدو كأنك لم تغف ليلة أمس أيها الكابتن.»
فرد عليها الكابتن: «بل نمت نوما هانئا. شكرا لك سيدتي. إنني دائما ما أحصل على قسط وافر من النوم.» «إذن، آمل أن حجرتك كانت مريحة أكثر من حجرتي. يبدو لي أن الجو في حجرتي حار للغاية حتى إنني لا أستطيع فعل أي شيء فيها. ألا تعتقدين ذلك أيتها السيدة ديجبي؟»
أجابت السيدة الجالسة على ميمنة الكابتن التي كانت تعتقد في العموم أنها ينبغي أن تتبنى موقفا معاكسا للسيدة على ميسرته: «أعتقد أنها لطيفة كثيرا.»
قال الكابتن: «إننا، كما تعرفين، لدينا الكثير من النساء الرقيقات والأطفال الصغار على متن السفينة ومن الضروري أن نحافظ على درجة الحرارة. ومع ذلك، ربما أفرط في رفعها العامل المسئول عن الحفاظ على درجات الحرارة. سأتحدث إليه.»
ثم دفع الكابتن عنه الطعام الذي لم يكن يشعر بمذاقه وصعد إلى برج القيادة، ورفع نظره عاليا إلى الإشارة التي ترفرف على قمة الصاري طالبة المساعدة في صمت من الأفق الفارغ حولها.
قال الكابتن: «أليس هناك شيء على مرمى البصر يا جونسون؟» «لا شيء على الإطلاق يا سيدي.»
مسح الكابتن خط البحر والأفق بنظارته، ثم وضعها عن عينيه وهو يتنهد.
قال جونسون: «ينبغي لنا أن نتوصل إلى شيء عصر اليوم يا سيدي، نحن في إثرهم تماما يا سيدي. لا بد أن السفينة فلودا موجودة في مكان ما في الأرجاء.»
أجابه الكابتن: «أخشى أننا بعيدون كثيرا في الشمال عن السفينة فلودا.» «إذن يا سيدي، ينبغي أن نرى السفينة فولكان قبل حلول الليل يا سيدي. كان الطقس جيدا وفي صالحها منذ غادرت كوينزتاون.» «أجل. واصلوا الرصد الثاقب يا جونسون.» «أمرك يا سيدي.»
راح الكابتن يذرع برج القيادة نكدا مطأطئ الرأس.
وحدث نفسه قائلا: «كان ينبغي لي أن أعود أدراجي إلى نيويورك.»
ثم نزل إلى غرفته وحاول تجنب الركاب قدر استطاعته، وطلب من الخادم أن يحضر له مرق لحم البقر. فحتى الكابتن لا يمكنه أن يتابع حياته وهو يشعر بالقلق.
صدح صوت المراقب عند مقدمة السفينة قائلا: «أرى سفينة عند مقدمة سفينتنا يا سيدي.» وكان للمراقب بصر حاد؛ ذلك أن بحارا غرا لم يكن ليرى شيئا.
صاح جونسون محدثا البحار الواقف خلفه: «أسرع وأخبر الكابتن.» لكن عندما استدار البحار تنفيذا للأمر ظهر رأس الكابتن أعلى السلم. أمسك الكابتن بنظارته ونظر مطولا إلى نقطة محددة في الأفق.
ثم قال في النهاية: «لا بد أنها السفينة فولكان.» «أعتقد ذلك يا سيدي.» «أدر الدفة عدة درجات إلى اليسار وابذل كل ما في وسعك للحاق بها.»
أعطى جونسون الأوامر اللازمة وبدأت السفينة الكبيرة تنحرف.
صاح سبينر الذي كان على سطح السفينة: «هاي! هناك سفينة بخارية. لقد وجدتها. إنها لي.»
ثم حدث تهافت من الركاب عند جانب السفينة. كان الصوت يصدح قائلا: «هناك سفينة على مرمى البصر!» وعندئذ فقدت كل الكتب والمجلات أهميتها وتشويقها على الفور. وحتى ذلك الرجل الإنجليزي الهادئ المبجل الذي كان صموتا ومتحفظا نهض عن كرسيه وأرسل خادمه ليرى له ما الأمر. وحملت الأمهات أطفالهن وأخبروهم أن يكونوا حذرين بينما كانوا يحاولون مشاهدة خيط الدخان الواهن الظاهر على مسافة بعيدة منهم.
صاح سبينر الشاب العارف بكل شيء: «الحديث عن المسارات البحرية محض هراء. أترون؟! إننا نتجه نحوها مباشرة. فكروا كيف كنا لننجح في تتبعها وسط الضباب! المسارات البحرية! بل هذا ما أسميه محض حظ.»
سألته السيدة الشابة من بوسطن بلطف: «هل سنرسل إليها إشارة سيد سبينر؟»
أجابها سبينر الشاب: «أوه، بكل تأكيد. أترين، تلك هي إشارتنا ترفرف الآن على قمة الصاري. تلك الإشارة توضح لهم المسار الذي نتبعه.»
قالت السيدة الشابة: «يا إلهي! كم هو مثير هذا الأمر. لا بد أنك عبرت المحيط كثيرا أيها السيد سبينر .»
أجابها سبينر المتواضع: «أوه، إنني أعرف الطريق تماما.»
ظل الكابتن ينظر في نظارته وكأنها قد التصقت بعينيه. وفجأة، كادت النظارة تسقط منه.
وصاح قائلا: «يا إلهي! جونسون!» «ما الخطب يا سيدي؟» «إنها ترفع إشارة استغاثة أيضا!»
اقتربت السفينتان البخاريتان من بعضهما ببطء، وعندما أصبحتا متحاذيتين يفصلهما ميل واحد تقريبا، دق جرس السفينة «أدامنت» معلنة أنها ستتوقف.
قال سبينر الشاب إلى الفتاة من بوسطن: «هاك، أترين، إنها ترفع الإشارة نفسها التي نرفعها نحن على صارينا.» «إذن، فهي تتبع نفس مسار سفينتنا؟»
أجابها سبينر الواثق بنفسه أكثر مما ينبغي: «أوه، بكل تأكيد.»
صاحت الفتاة المتحمسة من إنديانابولس التي كانت تعتزم دراسة الموسيقى في ألمانيا: «أوه، انظروا! انظروا! انظروا!»
رفع الجميع نظرهم إلى قمة الصاري ووجدوا خطا طويلا من الرايات المتعددة الألوان المتصلة ببعضها وهي ترفرف. وظلت تلك الرايات في مكانها لعدة دقائق، ثم أنزلت مرة أخرى ليرفع مكانها خط مختلف من الرايات. وكان الأمر نفسه يحدث على متن السفينة البخارية الأخرى.
قالت زوجة مساعد رئيس الأركان: «أوه، هذا الأمر مثير للاهتمام كثيرا. إنني أتوق إلى معرفة ما يعنيه كل هذا. لقد قرأت كثيرا عن هذا الأمر لكنني لم أره مطلقا من قبل. أتساءل متى سينزل الكابتن.» ثم سألت الخادم على سطح السفينة: «ما معنى كل هذا؟» «إنهم يتبادلون إرسال الإشارات إلى بعضهم يا سيدتي.» «أوه، أعرف هذا. لكن ما معنى تلك الإشارات؟» «لا أعرف يا سيدتي.»
صاحت الفتاة من إنديانابولس وهي تصفق بيدها من البهجة: «أوه، انظروا! انظروا! السفينة الأخرى تستدير.»
كان هذا صحيحا حقا. كانت السفينة الكبيرة تضرب الماء بمروحتها، وأصبحت الصواري شيئا فشيئا بمحاذاة أحدها الآخر، ثم توجهت مقدمتها نحو الشرق مرة أخرى. وعندما تم هذا ببطء، دق الجرس على متن السفينة «أدامنت» معلنا أنها ستتقدم بأقصى سرعة، ثم نزل الكابتن بخطوات وئيدة على السلم الخشبي الخارج من برج القيادة. «أوه، أيها الكابتن، ماذا يعني كل هذا؟» «هل ستعود السفينة أدراجها أيها الكابتن؟ آمل ألا يكون هناك خطب ما.» «ما هذه السفينة أيها الكابتن؟» «إنها تسلك نفس مسارنا، أليس كذلك؟» «لم تعود السفينة أدراجها؟»
قال الكابتن في هدوء: «إنها السفينة فولكان، وهي تنتمي إلى بلاك بولينج لاين، وقد غادرت كوينزتاون بعد وقت قصير من مغادرتنا نيويورك. وقد وقع لها حادث. يعتقد أنها اصطدمت بحطام سفينة ما جراء العاصفة الأخيرة. على أي حال، هناك ثقب في جسم السفينة، ويعتمد نجاحها في التقدم نحو كوينزتاون، في جزء كبير منه، على الطقس حولنا وكذلك على مدى صمود حواجزها. وسنكون إلى جوارها حتى نصل إلى كوينزتاون.» «أتعتقد أنها تقل الكثير من الركاب على متنها؟»
أجاب الكابتن: «هناك سبعة وثلاثون في المقصورة، وأكثر من ثمانمائة من ركاب الدرجة الثالثة.» «لم لا تأخذهم على متن سفينتنا أيها الكابتن وتبعدهم عن الخطر؟» «آه، يا سيدتي، لا داعي لأن نفعل ذلك. سيؤخرنا هذا، والوقت هو العامل الأهم في مثل هذه الحالات. وبالإضافة إلى ذلك، سيتلقون إنذارا مبكرا إن كانت ستغرق، وسيكون لديهم متسع من الوقت لإنزال الجميع في قوارب النجاة. كما أننا سنكون إلى جوارهم كما تعرفين.»
قالت زوجة مساعد المدعي العام المتعاطفة معهم: «أوه، أولئك المساكين. فكر في موقفهم المرعب. قد يغرقون في أي لحظة. أتصور أنهم الآن جاثون جميعا في مقصوراتهم. ولا بد أنهم ممتنون كثيرا لرؤية السفينة أدامنت.»
كان التعاطف عميقا من جميع الأطراف مع الركاب أصحاب الحظ العسر على السفينة فولكان. فقد شحبت الوجوه لمجرد تخيل الكارثة التي قد تحدث في أي لحظة على متن السفينة الأخت. وكان ذلك درسا عمليا حقيقيا على الخطر المحدق دوما في البحر. وبينما كان الركاب على سطح السفينة ينظرون باهتمام بالغ إلى السفينة الأخرى التي تندفع في البحر بمحاذاتهم وعلى بعد ميل منهم، انسل الكابتن بعيدا عنهم وذهب إلى غرفته. وبينما كان جالسا هناك سمع طرقا على بابه.
صاح الكابتن: «ادخل.»
دخل الرجل الإنجليزي الصموت في هدوء.
وسأله قائلا: «ما الخطب أيها الكابتن؟» «أوه، السفينة فولكان بها ثقب كبير وقد بعثت إشارة ...» «أجل، أعرف ذلك بالطبع، لكن ما الخطب بنا؟»
ردد الكابتن كلمته مشدوها: «بنا؟» «أجل، ما الخطب في سفينتنا أدامنت؟ ما الذي حدث في اليومين أو الثلاثة المنصرمة؟ أنا لا أتحدث كثيرا، ولست بخائف أكثر منك، لكنني أريد أن أعرف.»
قال الكابتن: «بكل تأكيد، من فضلك أغلق الباب يا سيد جون.» •••
في تلك الأثناء كان هناك صخب ونشاط بالغ على متن السفينة فولكان. وفي الصالة الكبيرة كان الكابتن فلينت يقف واضعا يديه على الطاولة.
صاح آدام كيه فينسنت، عضو الكونجرس، قائلا: «والآن ما معنى هذا كله بحق السماء؟»
كان هناك حشد من النساء الخائفات يقفن في الأرجاء، وكان الكثير من الركاب على شفا الإصابة بنوبة هستيرية. وكان الأطفال بوجوههم الشاحبة يتعلقون في ملابس أمهاتهم من شدة الخوف، ولا يعرفون مم يخافون. واحتشد الرجال وقد بدا القلق على وجوههم، وفي مواجهتهم جميعا وقف كابتن السفينة العجوز الصريح الحازم. «معنى ماذا يا سيدي؟» «أنت تعرف جيدا. ما معنى استدارتنا؟» «معناه يا سيدي أن السفينة أدامنت بها خمسة وثمانون من ركاب الدرجة الأولى وما يقرب من خمسمائة من ركاب الدرجتين الثانية والثالثة، وجميعهم يواجهون خطرا كبيرا. لقد اشتعلت النيران في القطن الموجود في مخزن السفينة، وهم يكافحون النار ليل نهار. وقد يندلع حريق هائل في أي لحظة. وهذا يعني يا سيدي أن السفينة فولكان ستقف إلى جوار السفينة أدامنت وتساعدها.»
علا نحيب النساء الخائفات بسبب المصير المرعب الذي قد ينتظر الكثير من البشر الموجودين على مقربة منهم، فاحتضنوا أطفالهم أكثر وشكروا الرب أن مثل هذا الخطر لا يتهددهم ومن يحبون.
صاح عضو الكونجرس: «تبا يا سيدي. أتعني أن تخبرنا أنك ستعود بنا عكس رغبتنا إلى كوينزتاون، من دون حتى أن تستشيرنا؟» «هذا هو ما أقصد قوله يا سيدي.» «حسنا، أقسم أن هذه إساءة لنا، ولن أسكت عليها يا سيدي. لا بد أن أكون في نيويورك بحلول السابع والعشرين من الشهر الحالي. لن أسكت على ذلك يا سيدي.» «أنا في غاية الأسف يا سيدي إن كان هناك من سيتأخر على مواعيده .» «يتأخر؟ تبا لذلك، لم لا تأخذ الآخرين على متن سفينتنا وتذهب بهم إلى نيويورك؟ إنني أحتج على هذا. سأرفع دعوى قضائية ضد الشركة يا سيدي.»
قال الكابتن بنبرة حازمة: «أيها السيد فينسنت، اسمح لي أن أذكرك أنني قبطان هذه السفينة. طاب مساؤك يا سيدي.»
غادر عضو الكونجرس الصالة الكبيرة وهو يستشيط غضبا ويتلفظ بالتهديد والوعيد باتخاذ الإجراءات القانونية ضد الشركة وضد الكابتن بصفة شخصية، لكن وافق معظم الركاب على أن التخلي عن السفينة أدامنت وتركها وحدها وسط المحيط في مثل تلك الظروف المريعة سيكون عملا غير إنساني.
سألت زوجة الجنرال ويلر: «لم لم يعودوا أدراجهم أيها الكابتن فلينت؟» «لأن لكل لحظة قيمتها في مثل تلك الحالة يا سيدتي، ونحن أقرب إلى كوينزتاون منا إلى نيويورك.»
وهكذا راحت السفينتان تشقان طريقهما نحو الشرق في قلق وجنبا إلى جنب، فكانتا دوما على مرمى البصر من بعضهما أثناء النهار، وكانت أضواء المصابيح في كل منهما ظاهرة للأرواح المتعاطفة في السفينة الأخرى أثناء الليل. وفي إحداهما كان الرجال يصبون الماء في المخزن، وفي الأخرى كانت المضخات تدفع بالماء خارج المخزن، حتى وصلوا إلى كوينزتاون. •••
وعلى متن سفينة الخدمات التي أخذت الركاب إلى الشاطئ في كوينزتاون من كلتا السفينتين، التقت سيدتان مذهولتان. «يا إلهي! زوجة الجنرال ويلر؟! هل كنت على متن السفينة فولكان المشئومة!» «بحق الرب! زوجة المساعد بروانريج! أهذا أنت فعلا؟ يا للمفاجأة! هل قلت مشئومة؟ أعتقد أنك كنت محظوظة جدا. ألم تكوني خائفة حد الموت؟» «أجل، لكن لم تكن لدي أدنى فكرة عن وجود أحد أعرفه على متن السفينة.» «لقد كنت على متن السفينة بنفسك. كان هذا كافيا لأموت رعبا.» «على متن السفينة بنفسي؟ ماذا تقصدين؟ لم أكن على متن السفينة فولكان. هل غفت عيناك قط بعد أن عرفت أنكم قد تغرقون في أي لحظة؟» «يا إلهي، يا جين، عم تتحدثين؟ نغرق في أي لحظة؟ أنتم من كنتم على وشك الغرق في أي لحظة، أو الأسوأ من ذلك، ربما كنتم ستحترقون حتى الموت إن اشتدت حدة النيران. أتقصدين أنك لم تكوني على علم بأن النيران كانت مضطرمة في السفينة أدامنت طوال الرحلة؟» «السيدة ويلر! هناك خطأ فادح. قال الكابتن إن السفينة فولكان كانت في خطر كبير، وإن كل شيء يعتمد على صمود حواجزها. كان هناك ثقب كبير يشبه باب الحظيرة في السفينة فولكان. وكانت المضخات تعمل ليل نهار.»
نظرت زوجة الجنرال إلى زوجة المساعد بينما بدأت كل منهما تدرك حقيقة الموقف.
قالت: «لم تكن تلك إذن هي المحركات، بل كانت المضخات.»
صاحت زوجة المساعد: «ولم يكن ذلك دخان المحرك، بل كان دخان النيران. أوه، يا له من قبطان كاذب، كنت أعتقد أنه رجل لطيف أيضا. أوه، أكاد أصاب بنوبة هستيرية، أكاد أصاب بها حقا.»
قالت زوجة الجنرال المتعقلة بما كانت تتحلى به من سعة الأفق: «لم أكن لأفعل لو كنت مكانك. كما أن الأوان قد فات كثيرا على ذلك. نحن جميعا بمأمن الآن. أعتقد أن كلا القبطانين كانا حصيفين للغاية وتعاملا مع الموقف بعقلانية شديدة. ولا شك أن كليهما متزوج.»
وكان هذا صحيحا تماما.
رحيل الفتى ماكلين
لن يصدقني أحد بالطبع حين أقول إن ميليش كان مواطنا مثاليا ورجلا طيب القلب؛ وذلك على كل الأصعدة باستثناء صعيد واحد. كان الرجل سخيا حد الإسراف، وكم من رفيق شاب أعطاه ميليش مبلغا كي يبدأ به حياته حين يكون في حاجة إلى بعض المال أو بعض الكلمات المشجعة. وكان يعاقر الشراب بالطبع، لكنه كان خبيرا فيما يتعلق بأمور الشراب، والخبراء لا يسرفون أبدا في تناول الشراب. وقليل هم من يمكنهم أن يقصوا قصة ظريفة بطريقة شيقة كما يفعل ميليش، وكان نادرا ما يقع في المآزق. وأي رجل يتحف أصدقاءه بقصة قديمة، ويقول لأحد معارفه إنها حدثت، ويدعي أنها حدثت في اليوم السابق؛ لا يمكن لمثله أن يكون سيئا بكليته.
وإذا أردت أن أكتب مقالا يفطر القلب عن مساوئ القمار والمقامرة، فإن ميليش هو الرجل الذي سأذهب إليه من أجل الحصول على الحقائق وعلى الدرس الأخلاقي لقصتي . لقد قضى الرجل حياته في إقناع أصدقائه بألا يقامروا. وحسبما قال، فإنه لم يقامر هو نفسه قط. لكن إذا لم يكن أحد يولي اهتماما إلى نصيحته، فلم إذن كان يزود المقامرين بأندية القمار الأكثر عزلة وفخامة في المدينة؟ كان من المفترض أن ميليش يقف في صف الشرطة، وهو ما كان بالطبع محض كذب وافتراء. فكرة أن حماة المدينة يقفون في صف مقامر أو ناد للقمار! إن هذه الجملة عبثية وسخيفة في ظاهرها. وإذا سألت أي شرطي في المدينة عن مكان نادي ميليش للقمار، فسرعان ما ستدرك أن أحدا منهم لم يسمع حتى باسم هذا المكان من قبل. وهذا كله الغرض منه هو توضيح كيف أن الناس سيتحدثون دائما بكلام شائن، وإذا كان نادي ميليش للقمار بعيدا عن مداهمات الشرطة، فهذا لحسن حظ ميليش ليس إلا. وعلى أي حال، في نادي ميليش للقمار، يمكنك أن تلعب القمار في هدوء وعلى مستوى رفيع وعلى رهانات كبيرة بقدر ما يمكنك، وأنت واثق تماما أن أحدا لن يحدث جلبة حول الأمر وأن اسمك لن يظهر في الصحف صباح اليوم التالي.
ذات ليلة بينما كان ميليش يجول بنظره في الغرفة الرئيسية الممتلئة عن آخرها لاحظ فتى غريبا يجلس إلى طاولة الروليت. كان ميليش يتمتع بنظر حاد وثاقب فيما يتعلق بالتعرف على الغرباء، وكان عادة ما يتمكن من معرفة شيء عنهم بأسلوب غير متطفل. فالغرباء في أندية القمار يجلبون معهم إحساسا معينا بالخطر إلى رواد المكان.
همس ميليش إلى ساقي الحانة قائلا: «من ذلك الفتى؟» وكان ساقي الحانة هذا ملاكما محترفا سابقا، ويعرف عموما باسم سوتي، وهو رجل من الخطر التعامل معه إذا وصل الأمر إلى حد المشاكل والأزمات. وكان من النادر أن تحدث مشكلة أو أزمة في ذلك المكان، لكن سوتي كان إلى حد ما هو الرمز الصامت للقوة الجسدية، فكان ظهيرا لمعايير ميليش الأخلاقية الدمثة المعروفة.
أجابه سوتي: «لا أعرفه.» «مع من دخل إلى هنا؟» «لم أره وهو يدخل. لم ألحظه حتى الآن.»
نظر ميليش إلى الفتى بضع لحظات. كان للفتى وجه نضر صحي رقيق، وكأنه وجه صبي ريفي، وخلافا للعادة بدا أنه غير متكيف مع المكان في ظل الأجواء الساخنة في تلك الغرفة، تحت وهج المصابيح الغازية. تنهد ميليش وهو ينظر إليه، ثم التفت إلى سوتي وقال: «أبعده عن هنا في هدوء واذهب به إلى حجرة البوكر الصغيرة. أريد أن أتحدث إليه قليلا.»
أما سوتي، الذي كان يشعر بازدراء كبير لمشاعر رب عمله الإنسانية، فلم ينبس ببنت شفة لكن كانت هناك نظرة ازدراء تعتلي ملامحه المتوردة بينما كان ذاهبا لتأدية مهمته. ولو كان الأمر بيده، لما أفلت أحدا من الشباك مهما كان. لقد عرف أن ميليش حاول كثيرا إقناع بعض الشباب الصغار بمغادرة المكان والعودة إلى منازلهم، وذلك بإعطائهم الكثير من المال، كما أعطى الأوامر على الأبواب المزدوجة للمكان بعدم إدخالهم مرة أخرى.
نهض الفتى من مكانه وقد بدا على وجهه شيء من الخوف وتبع سوتي. حدث ذلك في هدوء، وكان كل من حولهم منهمكين في اللعب حتى إنهم لم يولوا الأمر اهتماما كثيرا.
قال ميليش حين كانوا وحدهم: «اسمع يا فتى، من جاء بك إلى هذا المكان؟»
قال الفتى وقد بدت على وجهه أمارات الامتعاض: «أعتقد أنني في سن تسمح لي أن أذهب إلى أي مكان أريده من دون أن يصحبني أحد.»
قال ميليش في دبلوماسية وهو يعرف أن الكثير من الفتيان لا يحبون أن يتهموا بأنهم حديثو السن: «أوه، بكل تأكيد، بكل تأكيد. لكنني أحب أن أعرف كل زوار هذا المكان. ولا يمكنك أن تدخل إلى هنا إلا إذا كنت مع شخص معروف لدى حارس الباب. من يضمنك هنا؟»
قال الفتى في غضب: «اسمع أيها السيد ميليش، ما الذي ترمي إليه؟ إذا كان حراس بابك لا يعرفون كيف يؤدون أعمالهم، فلم لا تذهب وتتحدث إليهم بهذا الشأن؟ هل ستأمر بطردي خارج المكان؟»
قال ميليش محاولا تلطيف الأجواء، وهو يضع يده بطريقة أبوية على كتف الفتى: «لا شيء من هذا القبيل. لا تخطئ فهم مقصدي. حقيقة وجودك هنا تثبت أن لديك كل الحق لتكون هنا. لن نتحدث في هذه النقطة أكثر من هذا. لكن خذ نصيحتي وأقلع عن المقامرة هنا والآن. كنت أقامر من قبل أن تولد أنت، لكنني لم أعد أقامر الآن. خذ بنصيحة رجل خبير بالأمور. لا طائل من ذلك ولا جدوى ترتجى.» «يبدو أن الأمر حقق جدواه تماما معك.» «أوه، أنا لا أنفي ذلك. إن للقمار مميزاته وعيوبه كأي عمل آخر. ومع ذلك، فإن الأمر لم يحقق جدواه كثيرا كما يهيأ لك، ويمكنك أن تثق في كلامي حين أقول لك إن الأمر لن يجديك نفعا إطلاقا على المدى الطويل. كم معك من مال؟»
قال الفتى في فظاظة: «ما يكفي لأسدد إن خسرت.» ثم أضاف في نبرة أكثر تهذيبا حين رأى نظرة الألم التي ارتسمت في مرور عابر على وجه ميليش: «معي ثلاثمائة أو أربعمائة دولار.» «إذن، خذ نصيحتي وعد إلى منزلك. ستكون في حال أفضل إن ظل المال معك في الصباح.» «ماذا! ألا تلعبون هنا بإنصاف؟»
رد ميليش في سخط قائلا: «بالطبع نلعب بإنصاف هنا، أتظن أنني أتبع سبل الغش؟» «بل إنك تبدو واثقا تماما من خسارتي، فكنت أتساءل ليس إلا. والآن، يمكنني أن أتحمل خسارة كل ما لدي من مال ولا أشعر بالندم. فهل ستسمح لي بأن ألعب، أو أنك ستأمر بإخراجي من هنا؟» «أوه، يمكنك أن تعلب إذا أردت. لكن لا تأت إلي شاكيا باكيا حين تخسر. لقد حذرتك.»
قال الفتى: «لست بشكاء بكاء. إنما أتجرع هزيمتي كالرجال.»
قال ميليش متنهدا: «صحيح.» وقد أدرك أن الفتى ربما واقع في الرذيلة أكثر مما يبدو عليه لحداثة سنه، وكان يعلم أنه لا جدوى من النصيحة في مثل هذه الحالة. دخل ميليش والفتى إلى الغرفة الرئيسية معا، فترك الفتى طاولة الروليت وبدأ يلعب عند إحدى طاولات ورق اللعب برهانات آخذة في التزايد. وظل ميليش يتابعه بعض الوقت. وكان الصبي يتمتع بحظ المبتدئين. فقد لعب لعبا متهورا، لكنه فاز بسرعة كبيرة . وبينما كان أحدهم يكتفي من اللعب وينهض من مكانه، كان يجلس آخر مكانه في حماس بالغ، لكن انتصارات الفتى لم تعرف فترة توقف أو استراحة.
كان بوني رويل دائما ما يصل متأخرا إلى أندية القمار. وفي تلك الليلة دخل المكان بأسلوبه الهادئ الرفيع المعهود، وكان يرتدي ملابس نزيهة. وكان من المعروف عن هذا المقامر المحترف أنه لا يفقد رباطة جأشه أبدا. وكان يصير أكثر هدوءا عن ذي قبل حين يغضب، هذا لو أمكن لأحد أن يغضبه. وكانت الإشارة الوحيدة على غضبه الداخلي هي علامة تشبه جرحا قديما، تمتد من صدغه الأيمن، حيث تبدأ من فوق العين وتختفي بين شعره القصير خلف أذنه. وعندما كانت الأمور تئول إلى ما لا يرضيه، تتحول تلك العلامة إلى اللون الأحمر من الغضب، فتبرز من شحوب وجهه العام. وتحدث رويل بصوت خفيض إلى ميليش قائلا: «ما الشيء المثير عند الطرف الآخر من الغرفة؟ يبدو أن الجميع يحتشدون هناك.»
فأجابه ميليش: «أوه، إنه فتى ... غريب ... وهو يتمتع بحظ المبتدئين الوافر. وسيكون دماره في هذا الأمر.» «أيقامر على مبالغ كبيرة؟» «كبيرة؟ يمكنني القول بأنها كبيرة. إنه يلعب بطريقة متهورة تماما. ولكن ستأخذ الأمور معه منعطفا عنيفا وسيأتي إلي ليقترض المال كي يرحل عن المدينة. لقد رأيت تذبذب حال كهذا من قبل.»
قال بوني في هدوء: «في تلك الحالة، لا بد أن أذهب إليه. أحب أن ألاعب الشباب في أولى فورات النجاح والمكسب لهم، لا سيما إذا كانوا شبابا مندفعين ومتهورين.»
أجابه ميليش: «ستحظى بفرصتك سريعا؛ فحتى راجستوك يعرف متى يكون قد نال كفايته. وسيهب واقفا في غضون دقيقة. أنا أعرف أمارات ذلك.»
وبمظهر رجل نبيل يتمتع بوقت فراغ كبير ويبدو عليه أنه سئم نوعا ما من تفاهات هذا العالم، سار رويل في بطء باتجاه الحشد المجتمع. وبينما كان ينظر من خلفهم إلى الفتى، لمعت عيناه الثاقبتان بطريقة غريبة، وضغط على شفتيه، رغم أنه في الغالب يسيطر عليهما سيطرة تامة. بدأت العلامة الحمراء تبرز بينما شحب وجهه. وكان من الواضح تماما أنه لا ينوي أن يتحدث وأنه كان على وشك أن يبتعد مجددا، لكن يبدو أن جاذبية نظرته الثاقبة قد أزعجت اللاعب الذي رفع بصره فجأة ونظر من فوق كتف خصمه فالتقت عيناه بنظرة رويل العابسة.
فعل الفتى ثلاثة أشياء. وضع ورق اللعب على الطاولة ووجهه للأسفل، ووضع يده اليمنى على كومة المال، وحرك كرسيه إلى الوراء.
صاح راجستوك: «ماذا تعني بفعل ذلك؟»
تجاهل الفتى سؤاله، وكان لا يزال يثبت عينيه على رويل.
وسأله: «هل تحتج؟»
قال بوني: «أحتج.» مهما كان معنى السؤال وإجابته. ثم صاح رويل، رافعا صوته قليلا حتى يستطيع الجميع سماعه: «هذا الرجل هو الفتى ماكلين، وهو أشهر غشاش محترف ولص وقاتل في الغرب. ولا يمكنه اللعب بإنصاف، حتى لو حاول ذلك.»
ضحك ماكلين. وقال: «أجل، وإن أردتم أن تشاهدوا علامتي المسجلة، فانظروا إلى وجه جريجز.»
نظر الجميع إلى بوني، وقد علموا للمرة الأولى أنه كان يعيش باسم آخر لفترة من حياته.
وأثناء ما حدث من إلهاء مؤقت، أخذ ماكلين كل المال الموجود على الطاولة ووضعه في جيوبه.
صاح راجستوك، وقد بدا عليه أنه لم يفهم الموقف بعد: «انتظر، أنت لم تفز هذه المرة بعد.»
ضحك ماكلين مرة أخرى. «كنت سأحرز النتيجة نفسها في غضون عشر دقائق.»
ثم هب واقفا، وقد تناثر الحشد من خلفه.
صاح بوني: «أغلقوا الأبواب. لا تدعوا هذا الرجل يخرج.»
واجه ماكلين الحائط بظهره. ومن تحت معطفه سحب مسدسين دوارين وأمسك بكل منهما في يد.
وقال: «ينبغي أن تكون قد عرفتني أفضل من ذلك يا جريجز. أتريد مني أن أطلق النار عليك مرة أخرى؟ لن يخيب تصويبي هذه المرة. ألق بهذا.»
وقد أعطى أمره الأخير هذا بصوت رنان جذب انتباه الجميع نحو سوتي. كان قد أمسك بمسدس دوار من مكان ما خلف المشرب، وخرج به في يده. بدت عينا ماكلين وكأنهما تلتقطان كل حركة تحدث في أرجاء الغرفة، وسرعان ما وجه أحد مسدسيه إلى ساقي الحانة بينما كان يصدر أمره.
قال ميليش: «ألق به. لا مجال لإطلاق النار هنا على الإطلاق. يمكنك الذهاب في هدوء. لن يعترضك أحد.»
قال ماكلين ضاحكا: «من الأفضل لك بكل تأكيد ألا يفعلوا ذلك.»
وأضاف ميليش: «أيها السادة، سيتحمل المكان الخسارة. إنني وإن سمحت لمحتال أن يدخل إلى هنا فمن الصائب تماما أن أتحمل أنا وحدي عاقبة ذلك. والآن أبعد مسدسيك وارحل.»
زمجر ماكلين قائلا: «يا لك من عجوز طيب يا ميليش. ينبغي لك أن تدير مدرسة دينية.»
وعلى الرغم من حصول ماكلين على الإذن بالانصراف ومغادرة المكان، فإنه لم يخفف من احتياطاته ولو للحظة واحدة. فراح يكشط الجدار بكتفه وهو يتحرك شيئا فشيئا نحو الباب. وظل موجها المسدس في يده اليسرى نحو بوني، في حين كان المسدس اللامع في يمينه يجول باستمرار في كل أرجاء الحجرة، مما أثار الذعر في نفوس الكثير من الأشخاص المحترمين الذين راحوا يرتعدون وهم في مرمى مسدسه. وعندما وصل ماكلين إلى الباب قال موجها حديثه إلى بوني: «آمل أنك ستعذرني يا جريجز، لكن هذه فرصة سانحة للغاية ولا يمكنني أن أفوتها. سأقتلك وأنت واقف في مكانك.»
قال بوني وهو يضع يده خلف ظهره ولا يزال واقفا في مكانه فيما كان من حوله يحاولون الابتعاد: «هذا هو حجمك الطبيعي. أنا لا أحمل سلاحا؛ ولذا سيكون قتلي آمنا تماما. وستضمن ألا يقبض عليك سريعا.» «اذهب تحت الطاولة إذن، وسأخلي سبيلك.»
عرض عليه بوني أن يتخذ السماء مسكنا مستقبليا له.
ضحك الفتى كثيرا مرة أخرى، ثم أنزل فوهة مسدسه. وبينما كان يرتدي قبعته الناعمة، رأى ميليش - الذي كان الأقرب إليه - أن شعر صدغيه كان رماديا. ويبدو أن خطوط القلق قد ارتسمت على وجهه الفتي بينما كان يكشط الجدار بكتفيه نحو الباب.
وصاح بهم وهو على الدرج: «طابت ليلتكم جميعا.»
القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين
وقف جون ساجرت في زاوية مظلمة من المحطة، بعيدا عن أشعة المصابيح القوسية اللامعة، وراح يرقب القاطرة رقم ستة وثمانين. كان السائق يزودها بالزيت، وفي العربة كان الوقاد - وهو يفتح باب بيت النار ويضع الفحم فيه - يقف في مقابل الظلام خلفه وكأنه لوحة حمراء رسمها رامبرانت. وبينما كان السائق يجول بحرص حول محرك القاطرة وعلبة الزيت في يده، مسح جون ساجرت عينيه بكمه وشعر بغصة في حلقه. كان يعرف كل قطعة ومسمار في ذلك المحرك العتيق العنيد؛ فهو أعتى الوحوش الحديدية وأكثرها مشاكسة على الطريق، ومع ذلك إذا جرى التعامل معه بأسلوب صحيح، فإنه سيكون أحد أسرع الآلات وأقواها في الشركة؛ وذلك بصرف النظر عن التحسينات الكثيرة التي أجريت على القاطرات منذ أن غادرت القاطرة رقم ستة وثمانين مصنعها.
وبينما كان ساجرت يقف في مكانه هذا، راح يفكر في السنوات السبع التي قضاها على مدوسة القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين، وفي الخدع الكثيرة التي لعبتها عليه أثناء تلك الفترة. وكما يقول الشاعر، إذا أصبح السجين والسلاسل التي يكبل بها صديقين من خلال ارتباطهما معا لفترة طويلة، فلك أن تتصور مقدار ما يكنه الرجل من مشاعر تجاه آلة يفهمها تماما ويحبها، آلة هي رفيقه اليومي طوال سنوات، في حالات الخطر وفي غيرها. لقد مر جون مع هذه القاطرة بالكثير من المواقف العصيبة معا، ويبدو في هذه اللحظة أن الرجل قد نسي أن الكثير من تلك المواقف كان سببها مشاكسة القاطرة نفسها، وتذكر فقط أنها كانت تقوم بما عليها بكل شجاعة في مرات عديدة حين يكون الموقف بالغ الخطورة.
دوت الصيحة «ليصعد الجميع على متن القطار» في أرجاء المحطة وكان مصدرها سقف المحطة المقوس المرتفع، فتنهد جون وانسحب من أفكاره حول القاطرة وذهب ليأخذ مقعده في العربة. كان القطار طويلا وبه عربات نوم كثيرة في نهايته. كان السائق قد وضع من يده علبة الزيت، واتخذ موضعه في القاطرة، ووقف مستعدا ليبدأ رحلته الطويلة في اللحظة التي سيحصل فيها على إشارة ذلك.
صعد جون ساجرت إلى عربة التدخين في الجزء الأمامي من القطار. ووجد مكانا في أحد المقاعد الأمامية، فغاص فيه وقد انتابه إحساس غامض بعدم الارتياح لكونه داخل القطار وليس على متن القاطرة. راح يحدق خارج النافذة ورأى الأضواء الكهربائية البراقة وهي تنساب ببطء خلفه، ثم بسرعة أكبر، رأى الأضواء الحمراء والخضراء والبيضاء الخاصة بمصابيح الإشارة، ثم في النهاية راحت نوافذ المدينة المضيئة تمر بسرعة كبيرة من جانبه، مما يدل على أن المدينة لم تخلد إلى النوم بعد. وفي النهاية دلف القطار السريع إلى الريف، فوضع ساجرت وجهه على زجاج النافذة البارد، وكان في ذلك غير قادر على أن ينفض عن نفسه إحساسه بالمسئولية، رغم معرفته بوجود رجل آخر يتولى أمر دواسة الوقود.
وانتبه من لحظة استغراقه هذه على لمسة خفيفة على كتفه وطلب مقتضب يقول: «التذكرة من فضلك.»
أخرج من جيبه تذكرة، والتفت ليعطيها إلى المحصل الذي كان يقف إلى جانبه ويحمل على ذراعه مصباحا مطليا براقا من الزجاج البلوري.
صاح المحصل بمجرد أن رأى وجهه: «مرحبا يا جون، أهذا أنت؟ يا إلهي، لم تكن بحاجة إلى تذكرة لتسافر معي يا رجل.»
قال ساجرت بنبرة حزينة: «لقد أعطوني إياها لتوصلني إلى المنزل، وربما لا تفيدني تلك التذكرة. ولكنني لا أريد أن أسبب لك المشاكل.»
قال المحصل وهو يضع مصباحه على الأرض ويجلس بجوار السائق: «أوه، كنت لأخاطر بوضع نفسي في المشاكل إن آلت الأمور إلى ذلك. لقد سمعت بما حدث لك اليوم. الأمر في غاية السوء. إن ثمل رجل أثناء تأدية عمله - كما نعرف أنا وأنت أن هناك من يفعلون ذلك - فلم يكن الأمر ليبدو بهذا السوء، أما ما حدث بأسوأ أبعاده فكان سوء تقدير وفهم ليس إلا، كما أنه لم يحدث شيء حقا. والقاطرة رقم ستة وثمانين العتيقة تستطيع عادة تحمل الكثير والخروج بنفسها من الخطر. أعتقد بأنك مررت بها بمواقف أسوأ من ذلك، ولم يتحدث أحد ولو بكلمة عن الأمر.»
قال جون: «أجل، لقد مررنا بالكثير من المواقف السيئة معا، لكن لن يكون هناك المزيد من ذلك. الأمر صعب كما تقول. لقد عملت لدى الشركة على مدى خمسة عشر عاما، وعملت سبع سنين على القاطرة رقم ستة وثمانين العتيقة، والأمر في بدايته جلل. لكن أعتقد أنني سأعتاده.»
قال المحصل وهو يخفض صوته ليأتمنه على ما سيقول: «اسمع يا جون. إن رئيس السكة الحديد يسافر معنا الليلة؛ وعربته الخاصة هي العربة قبل الأخيرة على متن القطار. ما رأيك أن تتحدث إليه؟ إذا كنت تخشى أن تفاتحه بالحديث، فسأحدثه بشأنك وسأخبره بجانبك أنت من القصة.»
هز جون ساجرت رأسه.
وقال: «لن يجدي الأمر نفعا. لن يلغي ما فعله أحد مرءوسيه، ما لم يكن هناك ظلم بين في الأمر. إنه المدير الجديد كما تعلم. ودائما ما تأتي المتاعب مع قدوم مدير جديد. إنه يجري تغييرات جذرية. وأعتقد أنه يظن أنه سيخيف بقية السائقين بطرده واحدا من أقدم السائقين على الخط.»
قال المحصل: «حسنا، نحن لا نكن له الكثير من التقدير فيما بيننا. أتعلم ماذا فعل الليلة؟ لقد عين سائقا جديدا على القاطرة رقم ستة وثمانين. إنه سائق من أحد الخطوط الفرعية ولا يعرف الطريق. أشك بأنه قد قاد قطارا على السكة الرئيسية من قبل. والآن، أنا قلق بما يكفي على أي حال بشأن هذا القطار السريع وهذه الرحلة، فمؤشر الحرارة عند صفر درجة مئوية، والسكة زلقة كالزجاج، وأود أن يكون هناك سائق يمكنني الاعتماد عليه.»
قال جون وهو متجهم الوجه: «من السيئ بما يكفي أن يكون السائق جاهلا بالطريق، لكن الأسوأ من ذلك أن يكون جاهلا بالقاطرة رقم ستة وثمانين العتيقة. ستتحول القاطرة إلى وحش كاسر لو عرفت بذلك.»
قال المحصل: «لا أعتقد أن هناك قاطرة غيرها يمكنها أن تجر هذا القطار وتصل إلى وجهتها في الموعد المحدد.»
أقر ساجرت الذي لم يستطع أن يخفي حبه للقاطرة حتى وهو يلقي عليها باللوم: «لا! إنها ستقوم بعملها على خير وجه فقط إذا لاطفتها.»
قال المحصل وهو ينهض من مكانه ويرفع مصباحه: «إذن، ربما لا بأس بهذا السائق، لكنني سأشعر بأمان أكبر إذا تركت عربة التدخين وجلست في مقدمة القطار. آسف يا جون لأنني لا أستطيع أن أعرض عليك مضجعا الليلة، لكن العربات كلها ممتلئة عن آخرها حتى مؤخرة القطار. ولا يوجد حتى كرسي واحد فارغ في الجزء الأمامي من القطار.»
قال ساجرت: «أوه، لا يهم ذلك، لا أستطيع النوم على أي حال. إنني أفضل الجلوس هنا والنظر عبر النافذة.»
قال المحصل: «حسنا، الرحلة طويلة. سأذهب الآن وأعرج عليك مرة أخرى في الليل.»
أشعل ساجرت سيجاره وحدق في الظلام. كان يعرف كل بوصة من الطريق، كل الأجزاء العلوية والسفلية من الطريق وكل تفاوتات الارتفاع والمناسيب. بل كانت معرفته بالطريق في الليل الحالك أفضل بكثير منها في وضح النهار الساطع. وبين الحين والآخر كانت تمر أمام ناظريه للحظة كتلة سوداء ضخمة لحظيرة ما أو مجموعة من الأشجار، فيقول ساجرت في نفسه: «عليه الآن أن يغلق بوابة البخار بمقدار بوصة واحدة.» أو «ينبغي أن يفتح بوابة البخار الآن على مصراعيها.» توقف القطار بضع مرات، لكنه رأى أنهم كانوا يهدرون الوقت. من الوارد جدا أن القاطرة رقم ستة وثمانين كانت مستاءة. وبسبب تفكيره في القاطرة تحول ذهنه إلى التفكير في مصيره هو. لا يوجد إنسان في هذا العالم مهم لدرجة أنه لا يمكن الاستغناء عنه، ففي النهاية، في اللحظة التي يتنحى فيها، يكون هناك دوما إنسان آخر على استعداد لأن يحل مكانه. كان الرجال الحصيفون في المدينة الذين استمعوا إلى دفاعه يعرفون تماما أن القاطرة ما هي إلا مزيج من الحديد والصلب والنحاس، وأن عددا معينا من أرطال البخار سيجعلها تسير عددا معينا من الأميال في عدد معين من الساعات، وقد ابتسموا إليه تعبيرا عن عدم تصديقهم حين قال لهم إن لكل قاطرة نوبات غضبها، وأخبرهم بأنها في بعض الأحيان تكون بحاجة إلى التدليل كأي امرأة أخرى. وحتى عندما يبذل الرجل قصارى جهده، فهناك بعض الأحيان التي لا يسعه فيها أن يفعل شيئا ليهدئ من ثورتها؛ ومن ثم كان لا بد من وقوع مشاكل، ولكن لكي يكون منصفا، فقد أضاف بأن القاطرة دائما ما كانت تندم على فعلتها في النهاية. وبسبب هذه الملاحظة الأخيرة، تحولت ابتسامتهم إلى نوبة ضحك، مما أصابه بالحيرة والارتباك.
تساءل عما تظنه الآن القاطرة رقم ستة وثمانين بشأن السائق الجديد. ليس الكثير، على ما يبدو؛ ذلك أنها كانت تهدر الوقت، وهو أمر لا دخل لها به في هذا القطاع من الطريق. ومع ذلك، ربما يكون خطأ السائق الجديد أنه لا يعرف متى يضغط عليها ليزيد سرعتها إلى أقصى درجة ومتى يتمهل. كل هذه العوامل تدخل في مسألة الوقت. لكن كان من المرجح كثيرا أن القاطرة رقم ستة وثمانين العتيقة كانت تتعجب كثيرا - مثلما فعل حصان جيلبين - مما يفعله هذا الشخص الذي يمتطي صهوتها. تمتم جون في نفسه: «سيكون في مأزق، حين تدرك القاطرة ما يحدث.»
أتى المحصل مرة أخرى وجلس إلى جوار السائق. لم يقل شيئا، لكنه جلس في مكانه وراح يفرز التذاكر بينما راح ساجرت يحدق خارج النافذة. وفجأة، هب السائق واقفا وقد اتسعت عيناه من الدهشة. كان القطار يتمايل من جانب إلى آخر وينطلق بسرعة هائلة.
رفع المحصل نظره إليه مبتسما.
وقال: «من الواضح أن القاطرة رقم ستة وثمانين ستعوض ما فاتنا من وقت.»
أجابه السائق: «لا بد أن تبطئ من سرعتها لعبور تقاطع جي آند إم.» ثم صاح بعد لحظة: «يا إلهي! لقد انتقلنا إلى سكة جي آند إم بسبب تلك القفزة القوية.»
انتفض المحصل واقفا. كان يدرك خطورة هذا الأمر. فحتى أكثر القطارات سرعة ينبغي أن يتوقف تماما قبل العبور إلى سكة حديدية أخرى. هذا هو القانون. «ألا يعرف ذلك الأحمق في مقدمة القطار أن عليه التوقف عند التقاطع؟»
قال ساجرت: «ليست المشكلة في هذا. إنه يعرف ذلك تماما. فحتى عمال القطار يعرفون ذلك. لقد جمحت القاطرة رقم ستة وثمانين. إنه لا يستطيع أن يكبح جماحها. أين ستمر بالقاطرة رقم ستة الليلة؟» «في بوينتسفيل.»
قال السائق: «إنها على مسافة ستة أميال فقط، وبناء على هذه السرعة سنكون معها على السكة نفسها بعد خمس دقائق. إن القاطرة رقم ستة تتأخر دائما، ولن تكون على السكة الجانبية. ينبغي أن أصل إلى مقصورة القيادة بالقاطرة رقم ستة وثمانين.»
وبسرعة تقدم ساجرت عبر عربة الأمتعة، وقفز على الفحم في عربة الوقود. ثم نظر على السكة الحديدية ورأى الأضواء الأمامية للقاطرة رقم ستة وهي تومض من بعيد وكأنها نجم خافت. وبالنظر إلى القاطرة، أدرك جون الموقف في الحال. كان السائق يلقي بحمولة جسمه كله على مقبض الفرامل، وكان الخوف يبدو على وجهه وقطرات العرق تتصبب على جبينه، وكان الوقاد يساعده. قفز ساجرت على أرضية القاطرة.
وصاح قائلا: «تنحيا جانبا.» وكان في صوته نبرة آمرة واثقة جعلت كلا الرجلين يطيعانه في الحال.
أمسك ساجرت بمقبض الفرامل وبدلا من أن يحاول أن يغلق بوابة البخار فتحها على مصراعيها. اهتزت القاطرة رقم ستة وثمانين وقفزت إلى الأمام. وغمغم جون من بين أسنانه قائلا: «أيتها المشاكسة العتيقة!» ثم دفع المقبض فأعاده إلى مكانه، وقد انزلق المقبض في ذلك بكل سهولة وكأن شيئا لم يكن يعوقه. أغلقت بوابة البخار، لكن أضواء بوينتسفيل كانت تلمع بجوارهم وكانت السكة الجانبية الخالية على يسارهم، وكانوا ينطلقون الآن بسرعة كبيرة على نفس السكة الفردية وأضواء القاطرة رقم ستة تزداد سطوعا أمامهم.
صاح السائق الآخر وقد بدا الخوف في صوته: «اعكس حركتها، اعكس حركتها!»
قال ساجرت: «لن أعكس شيئا. ستنزلق لعشرة أميال إذا ما فعلت. اقفز من القاطرة إذا كنت خائفا.»
فقفز السائق الآتي من السكة الفرعية على الفور.
قال ساجرت إلى الوقاد: «انج بنفسك. سيقع تصادم حتما.»
قال الوقاد الذي كان يعرفه: «سأبقى بجانبك سيد ساجرت.» لكن يده كانت ترتعش.
كانت مكابح الهواء تحدث صريرا في عجلات القطار الطويل على السكة وارتجافة خوف عبر الأشجار المحيطة، لكن السكة كانت زلقة بفعل الصقيع وكانت سرعة القطار لا تزال كبيرة. وفي اللحظة المناسبة، عكس ساجرت اتجاه القاطرة فتطاير الشرر من ناقلات الحركة فيها، فبدت وكأنها عجلة دوارة من الألعاب النارية.
صاح ساجرت قائلا: «على رسلك. القاطرة رقم ستة تتراجع، حمدا لله.»
وفي اللحظة التالية وقع التصادم. تهشم مصباحان من المصابيح الأمامية، وكذلك عربتان من المقدمة، ووقف القطاران بمواجهة أحدهما الآخر، لكن لم تقع أي خسائر فادحة، باستثناء الهرج البالغ الذي حدث جراء فزع الكثير من الركاب وذعرهم.
أما السائق الضخم للقاطرة رقم ستة، فقد قفز عنها وتقدم إلى الأمام، وهو يتلفظ بكل أنواع السباب. «بحق الجحيم، ماذا تعني بسيرك على السكة في موعدنا بهذا الشكل؟ أهذا أنت يا ساجرت؟ كنت أظن أن هناك سائقا جديدا الليلة. لم أكن أتوقع ذلك منك.» «لا بأس يا بيلي. لم يكن هذا خطأ السائق الجديد. لقد وقع في الخلف وأعتقد أن ساقه قد كسرت بسبب الطريقة التي قفز بها من القطار. إن اللوم يقع على القاطرة رقم ستة وثمانين العتيقة. لقد كانت في حالة هياج. واستغلت وجود سائق جديد لا يعرف كيف يشد لجامها.»
أتى محصل التذاكر مسرعا.
وصاح قائلا: «كيف الحال؟» «كل شيء على ما يرام. لقد كسرت القاطرة رقم ستة وثمانين أنفها، ونالت جزاءها، هذا كل ما في الأمر. أخبر الركاب أنه ما من خطر هناك، واطلب منهم أن يصعدوا على متن القطار. سنعود أدراجنا إلى بوينتسفيل. ومن الأفضل أن نرسل عمال المكابح ليأتوا بالسائق الآخر. الأرض صلبة الليلة بفعل الصقيع، ومن المحتمل أنه قد أصيب.»
قال محصل التذاكر بنبرة حادة: «سأذهب لأتحدث إلى رئيس السكة. إنه في حالة ذهنية تسمح له بأن يستمع إلى صوت العقل، كما استشففت من النظرة العابرة التي ألقيتها على وجهه عند باب عربته قبل لحظات. إنه إن لم يعدك إلى وظيفتك مرة أخرى، فسأذهب لتحصيل التذاكر في إحدى عربات النقل العام. أنه أمر يثير أعصابي كثيرا وفائق عن الحد.»
وكانت مقابلة محصل التذاكر مع رئيس السكة مرضية على ما يبدو، ذلك أن القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين تحاول أن تؤدي عملها على نحو أفضل تحت توجيهات جون ساجرت.
اللعب بورق موسوم
قال ميليش في الصباح الباكر لأحد الأيام محدثا المقامر المحترف بوني رويل: «يزعجني أمر ذلك الشاب اليافع.» «لماذا؟» «إنه يأتي إلى هنا الليلة تلو الأخرى، وأرى أنه يخسر من المال أكثر مما يمكنه أن يتحمل. ولا دخل لديه - حسبما استطعت أن أجمع من معلومات عنه - إلا ما يتقاضاه كراتب له، والأمر يتطلب راتبا أكبر بكثير مما يتقاضاه لكي يتمكن من تحمل وطأة الضغط المادي الذي يضعه على نفسه.» «وماذا يعمل؟» «إنه صراف في بنك ناينث الوطني. ولا أعلم مقدار ما يتحصل عليه من المال، لكن لا يمكن أن يكون كافيا ليسمح له بالمضي قدما على هذا النحو.»
هز بوني رويل كتفيه. «إن كنت مكانك يا ميليش، فلا أعتقد أنني كنت سأدع أمره يزعجني.» «لكنه يزعجني على أي حال. لقد نصحته بأن يتوقف عن المقامرة، لكن لا فائدة من ذلك. وإذا أمرت حارس الباب ألا يدخله، فإن كل ما هنالك أنه سيذهب إلى مكان آخر لا يكون صاحبه مدققا مثلي.» «ينبغي أن أعترف بأنني لا أفهمك يا ميليش، وذلك بقدر معرفتي الطويلة بك. لو كنت مكانك الآن، لهجرت أمرا من اثنين: إما امتلاك صالة قمار وإما الاتجاه نحو الإصلاح الأخلاقي. لم أكن لأحاول امتطاء صهوة جوادين مختلفي الطباع في آن واحد.»
قال ميليش بنبرة توبيخ في صوته: «لم أحاول قط إصلاحك أخلاقيا يا بوني.» «لا، أقر لك بالفضل في حصافة ما فعلت.» «لا بأس مع أشخاص محنكين مثلي ومثلك يا بوني، لكن بالنسبة إلى شاب في مقتبل حياته، فالأمر مختلف. والآن خطر لي أنك ربما تستطيع أن تساعدني في هذا الأمر.»
قال رويل وهو يدس يديه عميقا في جيبي بنطاله: «أجل، هذا هو ما اعتقدت أنك ترمي إليه. تذكر أنني لست بمبشر. ماذا تريدني أن أفعل؟» «أريدك أن تلقنه درسا قاسيا. ألا تستطيع أن تعلم مجموعة من الأوراق وتجعله يقامر بمبالغ كبيرة؟ وبعدها، عندما تأخذ كل ما لديه من مال ويصبح مدينا بدين ثقيل، ترد إليه ماله إذا قطع على نفسه عهدا بألا يعود إلى المقامرة مجددا.»
أشاح رويل بنظره نحو الشخص موضوع محادثتهما. وقال: «لا أظنه ماهرا للدرجة التي تجعلني في حاجة إلى تمييز أوراق اللعب. سأكتسحه إذا ما أردت. لكن، لن يجدي الأمر نفعا يا ميليش. انظر إلى عينيه. إن الولع بالمقامرة واضح فيهما. كنت أعتقد أنني إذا حصلت يوما على مائة ألف دولار فسوف أتوقف عن المقامرة. والآن أنا ناضج بما يكفي لأعلم بأنني لن أتوقف أبدا. سأظل أقامر حتى ولو كنت أملك مليون دولار.» «لقد توقفت عن القمار بعد أن أصبحت في عمرك.» «أوه، أجل يا ميليش، أنت الاستثناء الفاضل الذي يثبت القاعدة. لقد توقفت عن القمار بنفس الطريقة التي تدير بها النساء المتقدمات في العمر إحدى الحانات.» ثم جال رويل بنظره في الغرفة التي تعج بالرجال.
ابتسم ميليش ابتسامة متجهمة نوعا ما ثم أطلق تنهيدة وقال: «أتمنى لو أنني كنت بعيدا عن هذا الأمر تماما. لكن، فكر فيما كنت أحدثك بشأنه على أي حال، وفيما إذا كنت تستطيع أن تلقنه الدرس القاسي الذي أريد.» «حسنا، سأفعل، لكنني سأفعل ذلك لكي أريح ضميرك المرهف يا ميليش، ليس إلا. وصدقني أن الأمر لن يجدي نفعا. فحين تلدغ الأفعى لدغتها، يكون ضحيتها هالكا لا محالة. والقمار ليس بشيء بسيط كإدمان الأفيون.» •••
نهض صراف البنك ريجي فورم أخيرا من مقعده على طاولة الروليت. وكان يغمره إحساس الفوز، ذلك أن المبلغ الذي أتى به قد زاد زيادة كبيرة الآن. وقد أطرى على نفسه بأن ذلك الفوز كان نتيجة النهج الذي درسه جيدا.
ولا شيء يستدرج المرء أسرع إلى الهلاك من نهج يمكن إثباته رياضيا. فهذا النهج يضفي على المقامرة طابعا مهنيا، وهو أمر مريح لضمير شخص نشأ على دراسة الإحصاء. ومثل هذا النهج عادة ما يعمل على نحو جيد في البداية، ثم ينزلق أحد التروس فتجد نفسك عالقا في الآلة قبل أن تعرف أين موضعك. ندما غادر فورم الشاب طاولة الروليت، شعر بيد على كتفه، فالتفت ليجد بوني رويل ينظر إليه نظرة هادئة.
وعلق المقامر المحترف بنبرة هادئة قائلا: «أرى أنك حديث العهد بالأمر.»
فسأله الشاب: «لماذا تعتقد ذلك؟» وقد تغير لونه؛ ذلك أن المرء يحب أن ينظر إليه الآخرون على أنه مخضرم، لا سيما حين يكون غير محترف. «لأنك تهدر وقتك على طاولة الروليت. تلك لعبة للصبيان والنساء. هل لديك الشجاعة والثقة الكافيتان لكي تخوض لعبة حقيقية؟» «وما هي تلك اللعبة الحقيقية؟» «لعبة ورق في حجرة خاصة على مبالغ أكبر من نصف دولار.» «أكبر من كم؟» «هذا حسب ما تملك من مال. كم تملك من المال؟»
تردد الصراف لحظة وأشاح بنظره بعيدا عن عين رويل الحازمة الهادئة، التي بدت وكأن لديها عادة مزعجة وهي النظر في أعماق المرء وبواطنه. «يمكنني أن أحضر ألف دولار مساء يوم السبت.» «حسنا. سيكون هذا كافيا كبداية. أهذا موعد إذن؟» «أجل، إذا أردت ذلك. في أي وقت إذن؟» «إنني آتي في الغالب متأخرا، لكن يمكنني أن أقوم باستثناء من أجلك. ما رأيك في العاشرة مساء؟» «سيناسبني هذا.» «حسنا، إذن. لا تبدد أموالك أو رباطة جأشك حتى آتيك. ستكون في حاجة إلى كليهما.» •••
بدأ المقامر المحترف والشاب الهاوي سلسلة جولات من اللعب بعد بضع دقائق من تمام العاشرة في حجرة خاصة صغيرة. وزاد شعور الشاب بالإثارة مع استمرار لعبهما معا. أما بالنسبة إلى بوني، فقد كان هادئا في ظل أي ظروف. وقبل أن تنقضي ساعة على ذلك، تحول مبلغ الألف دولار من ملكية فورم إلى جيب المقامر المحترف، وبحلول منتصف الليل كان الشاب يدين لرويل بألف دولار أخرى.
قال رويل بنبرة هادئة: «ليس من عادتي أن ألعب مع رجل إلا إذا كنت أرى المال في حوزته. وقد منحتك استثناء في ذلك؛ إذ لم يكن الحظ في صالحك الليلة، لكن أعتقد أن هذا يكفي. يمكنك أن تحضر لي مبلغ الألف دولار الذي تدين لي به في أي يوم خلال الأسبوع القادم. لست في عجلة من أمري، كما تعلم.»
بدا الشاب اليافع مذهولا. مسح بيده على جبهته وقال بنبرة آلية وكأنه استمع إلى تعليق خصمه للتو: «لست في عجلة من أمرك؟ حسنا. الأسبوع القادم. بكل تأكيد. أظن أنني سأذهب إلى المنزل الآن.»
غادر فورم المكان، تاركا رويل جالسا إلى الطاولة الصغيرة يخلط الورق بفتور وعدم اكتراث. وفي اللحظة التي اختفى الشاب فيها اختفى فتور رويل وتلاشى. هب رويل من مكانه وارتدى معطفه ثم انسل من المخرج الخلفي إلى الشارع. كان قد تخيل ما سيقوم به فورم تماما. وقد تتبعه ذهنيا من غرفة المقامرة إلى النهر، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك فتخيل أنه سيسلك شوارع بعينها في طريقه إلى هناك. ولا يكون المقامر مقامرا إذا لم يكن يؤمن بالخرافات؛ ولذا لم يفاجأ رويل على الإطلاق عندما رأى الشاب وهو يخرج من السلم المظلم، ويقف مترددا للحظة بين الاتجاهين السانحين أمامه، وفي النهاية يختار الاتجاه الذي توقع المقامر أنه سيسلكه. كانت الشوارع الباردة خالية من المارة؛ ومن ثم واجه رويل صعوبة أكبر في تعقبه عما لو كان يتعقبه في وقت سابق من المساء. وظن الرجل لمرات عديدة أن الشاب قد أدرك أن هناك من يتعقبه؛ ذلك أن فورم توقف ونظر حوله؛ بل إنه في مرة من ذات المرات عاد أدراجه ليسلك شارعا آخر وكأنه يحاول أن يضلل الرجل الذي يتعقبه. •••
بدأ رويل يدرك صعوبة المهمة التي أوكلها إلى نفسه، ونظرا لأنه لم يكن يؤمن بها على أي حال، بدأ يشعر بالانزعاج وبدأ يلعن رقة قلب ميليش. وإذا تبادر إلى ذهن الشاب أن هناك من يتعقبه، فقد يفلح في الفرار من متعقبه وتضليله، وحينها سيجد رويل نفسه غبيا، والأسوأ من ذلك كثيرا بالنسبة إليه أنه سيجد في حوزته ألف دولار فاز بها بأسلوب غير عادل. وقد جعلته تلك الفكرة يلعن ميليش من جديد. كان اللعب بورق موسوم أمرا على غير رغبته تماما، لكن ميليش كان قد أصر على ألا يخاطرا بأي شيء، وكان المقامر المخضرم يعلم تماما احتمالات خوض لعبة عادلة حيث ينبغي إعطاء درس موضوعي. وكما قال ميليش، فإنهما كانا سيظهران كما لو كانا مغفلين، إذا فاز فورم بالمال. وقد رد عليه رويل بأنهما مغفلان على أي حال، لكنه في النهاية استسلم لرغبة ميليش، ذلك أن الأمر برمته كان من تدبير ميليش من البداية. وفيما كان رويل يفكر في كل تلك الأشياء في مرارة وأسى، انصرف انتباهه عن الأمر الذي يقوم به. فقليل هم من يستطيعون تتبع مسار معين من الأفكار وشخص بعينه في آن واحد. أدرك رويل فجأة أن فورم الشاب قد هرب منه. وقف رويل وحيدا في الشارع الساكن ذي الإضاءة الخافتة وراح يسب غباءه ويلعنه في صمت. ثم فجأة، صدح صوت رجل من أحد المداخل المظلمة. «لماذا تتعقبني بحق السماء؟»
قال بوني في هدوء: «أوه، هذا أنت، أليس كذلك؟» «هذا أنا. والآن ماذا تريد مني؟ ألم تقنع بما فعلت الليلة؟» «بالطبع لا، وإلا فما كنت ذلك الأحمق الذي يتعقبك في مثل هذه الساعة.» «إذن أنت تقر بأنك كنت تتعقبني؟» «لم أنكر ذلك قط.» «ماذا تريد مني؟ هل أنا حر نفسي أم أنك تظن أنك تملكني؛ لأنني أدين لك بالمال؟»
تشدق رويل بكلامه قائلا: «أنا واثق من أنني لا أعرف إجابة ذلك. ولكنني أشك بأن رجال شرطة المدينة، الذين يندرون في مثل هذه الساعة، هم من سوف يريدونك أولا. ماذا أريد منك؟ أريد أن أطرح عليك سؤالا. من أين حصلت على المال الذي لعبت به الليلة؟» «هذا ليس من شأنك.» «أعتقد أن لا شأن لي بذلك. ولكن، بما أنه لا يوجد شهود على هذه المحادثة المثيرة للاهتمام، سأتجرأ وأقول بأنك سرقت البنك.»
تقدم الشاب خطوة إلى الأمام، لكن بوني ظل في مكانه وأشعل سيجارة أخرى. «سأتجرأ أنا أيضا يا سيد رويل وأقول بأن المال دخل جيبي بكل إنصاف كما دخل إلى جيبك.» «ليست هذه هي الإجابة الكاملة. غير أنني لدي أفضلية عليك؛ لأن النقاط التسع في صالحي. وأنا من أملك المال.» «إذن لماذا تتعقبني؟ لكي تشي بي؟» «إذن، أنت تعترف بالسرقة.» «أنا لا أعترف بأي شيء.» «لن يستخدم الأمر ضدك. وكما قلت لك، ليس هناك شهود. سيكون من الأفضل لك أن تصارحني. من أين حصلت على المال؟» «من حيث يحصل عليه الكثيرون. من البنك.» «هذا ما كنت أعتقد. والآن يا فورم، أنت لست غبيا كما يبدو عليك من هيئتك، أو تصرفك. أنت تعرف إلى أين سيؤدي بك هذا الأمر. ليس لديك أي فرصة. كل قواعد اللعبة تقف ضدك. وليس لديك فرصة أكبر من تلك التي حصلت عليها الليلة. لم لا تعيد المال إلى البنك قبل فوات الأوان؟» «من السهل عليك أن تتحدث على هذا النحو ومالي في جيبك.» «لكن هذه قاعدة أخرى من قواعد اللعبة. إن أموال اللص لا بد أن تذهب حتما إلى جيب شخص آخر. وأيا كان من ينعم بالمال في النهاية، فإن اللص لا ينعم به أبدا. والآن، إذا أصبح المال في حوزتك مرة أخرى، فماذا ستفعل؟» «سأعود إلى نادي ميليش للقمار، وأجرب حظي مجددا.»
قال رويل بنبرة ود للمرة الأولى: «أصدقك.» أدرك رويل وجود تشابه بين روح ذلك الشاب وروحه. ثم قال: «لكن سيكون من الغباء فعل هذا. أمامك خياران. يمكنك أن تصبح مقامرا مثلي وتقضي حياتك في أندية القمار. أو يمكنك أن تصبح ما يطلق عليه رجل أعمال محترم. لكن لا يمكنك أن تصبح الاثنين معا في آن واحد. وخلال وقت قصير للغاية، لن يكون الخياران متاحين أمامك. سيكتشف أمرك وحينها لن يسعك سوى أن تكون مثلي، وربما لن تكون ناجحا مثلي. وإذا أضفت سرقة البنك إلى إنجازاتك الأخرى، فسيكون مصيرك إذن إلى السجن، أو ربما الأسوأ من ذلك، إلى كندا. والآن، أي النجدين تختار؟» «فلنتحدث بصراحة ووضوح. إلام ترمي بكل حديثك هذا؟ إذا قلت إنني سأتوقف عن المقامرة، فهل تعني أنك ستعيد إلي الألف دولار ولن تطالبني بالألف الأخرى؟» «إذا أعطيتني كلمة شرف بأنك ستتوقف عن المقامرة.» «وإذا لم أفعل، فماذا ستفعل إذن؟» «إذن، سأذهب يوم الإثنين إلى البنك وأعطيهم المال وأبلغهم أن يبحثوا في حساباتك.» «ولنفترض بأن حساباتي صحيحة، ماذا إذن؟»
هز رويل كتفيه. وقال: «لو حدث هذا الاحتمال، وهو احتمال بعيد، فسأعطيك الألف دولار وسألعب معك عليها مرة أخرى.» «فهمت. وهذا يعني أنك غششت الليلة.» «صحيح، إذا كنت ترغب في تسمية الأمر هكذا.» «وماذا إذا اتهمتك بأنك غشاش معترف على نفسه؟» «لن يعنيني ذلك كثيرا. ولن أزعج نفسي حتى بمحاولة إنكار ذلك. لن يصدقك أحد.» «أنت تتمتع بثقة نفس كبيرة يا بوني، وأنا معجب بوقاحتك. ولكن، هناك بعض الصفات السخيفة التي تتحلى بها.» «أوه، أتقصد محاولتي إصلاحك؟ لا تخطئ الظن في ذلك. إنها فكرة ميليش. أنا لا أومن بك قيد أنملة.»
ضحك الشاب. وراح يفكر للحظات، ثم قال: «سأقبل عرضك. أعد إلي المال وسأعدك ألا أقامر مرة أخرى بأي حال من الأحوال.» «وهل ستعيد المال إلى البنك إذا أعدته إليك؟» «بكل تأكيد. سيكون أول شيء أفعله صباح يوم الإثنين هو إعادة المال.»
قال رويل وهو يسلمه لفافة المال: «إذن، هاك مالك.»
أخذ فورم المال في حماسة ووقف تحت الضوء يعده، في حين نظر إليه رويل في صمت وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة.
قال الشاب: «شكرا لك. أنت رجل صالح يا رويل.» «أنا ممنون لرأيك هذا. آمل أنك وجدت المال مضبوطا؟»
قال فورم خجلا بعض الشيء: «مضبوط تماما. آمل أنك لم تمانع فعلي ذلك. إنما هي عادة لدي بحكم عملي، كما تعلم.» «إذن، ثابر في عملك يا سيد فورم. طابت ليلتك.»
سار رويل في نشاط وحيوية إلى منزل ميليش. وتوجه فورم نحو محطة السكة الحديد ووجد قطارا متجها إلى شيكاغو في الرابعة صباحا. كان أمامه يوم واحد بطوله وجزء من اليوم التالي قبل أن يلحظ أحد غيابه، وقد ضاع كل أثر له فيما بعد في تلك المدينة الكبيرة. وجد البنك أن مبلغا من المال مفقود وقدره ستة آلاف دولار. وبعد مرور عامين، وصلت أخبار تفيد بأن فورم أردي قتيلا بالرصاص في إحدى صالات القمار جنوبي تكساس.
قال رويل إلى ميليش: «نحن أحمقان من الدرجة الأولى، ومن جانبي لست فخورا بما حدث؛ ومن ثم فلن نتحدث مرة أخرى عن هذا الشأن. كان هوس القمار يجري في دمائه. والقمار ليس ذنبا أو رذيلة؛ إنما هو مرض يكمن فينا جميعا .»
تودد الملاكم
فيما كان الملاكم الشمالي يجلس في كرسيه في الزاوية وهناك من يهوي عليه، قرر أنه سينهي القتال في الجولة التالية. كانت مهارة خصمه الفائقة تكاد تغلبه، وعلى الرغم من أنه كان شابا يتمتع بقوة كبيرة، فإن يقظة يوركشير تشيكن وبراعته حتى تلك اللحظة أصابتاه بالحيرة، ومنعتاه من تنفيذ إحدى ضربات كتفه القوية. لكن، على الرغم من أن المهارة تغلبت على القوة حتى هذه اللحظة، فإن تشيكن لم ينجح تماما في الدفاع عن نفسه، وكان في حالة وصفه فيها الحشد الصارخ بأنه «مترنح».
وحين دق الجرس نهض الملاكم من مقعده بسرعة. لم يكن يرتسم على وجهه المظهر البغيض الواضح على وجه خصمه، لكنه كان يعلم جيدا بحكم خبرته أن الضربات التي تلقاها على جسده قد أثرت على وعيه وقدرته على التحمل، وأن تشيكن على الرغم من مظهره المروع بفعل تورم شفتيه وخديه وعينيه شبه المغلقتين كان في حالة أفضل لاستكمال القتال من حالته هو نفسه.
تقدم تشيكن نحو العلامة بسرعة أقل من غريمه الضخم، لكن سواء أكان هذا بسبب الوهن أم عدم وضوح الرؤية لديه، فقد بدا متذبذبا في حركاته، فانقبضت قلوب مشجعيه حين رأوه يترنح إلى مكانه بدلا من أن يسير إليه في اعتدال.
وقبل أن يستفيق ذهن تشيكن ويدرك الموقف إدراكا تاما، اندفع الملاكم إلى الأمام وسدد إليه ضربة على صدغه كافية لأن تذهب بوعي رجل في حال أفضل من حال تشيكن. سقط الرجل من يوكشير في مكانه وكأنه قطعة من الخشب بلا حراك. ثم علم الملاكم درسا دب الرعب في نفسه. واكتسا الوجه الأرجواني للرجل الذي سقط على الأرض بالشحوب الشديد. لقد توقع الملاكم أن يدافع تشيكن عن نفسه، كما أن الضربة الفظيعة كانت أشد مما كان يريد. تهامس الجمهور فيما بينهم: «لقد قتله»، وسرعان ما تفرق الحشد الصامت في هدوء. في هذا الموقف، كان كل شخص مسئولا عن نفسه قبل أن تأتي السلطات وتتدخل في الأمر.
وقف الملاكم يترنح يمنة ويسرة وكانت نظراته مثبتة على الرجل المتمدد. رأى نفسه متهما بجريمة قتل وينتظر الإعدام نظير ذلك، فأقسم أنه لن يدخل الحلبة مرة أخرى إذا ما تعافى تشيكن من هذا. كانت تلك هي إحدى مراحل الملاكمة التكسبية التي لم تكن لديه أي خبرة بها على الإطلاق. صحيح أنه أردى بعض خصومه بالضربة القاضية في مواقف عدة، وقد أردي هو نفسه بالضربة القاضية مرة أو مرتين، لكن تشيكن كان يقاتل ببسالة حتى الجولة الأخيرة لدرجة جعلت الملاكم يضع في ضربته قوة أكبر من التي كان يعتزم أن يسددها إليه، والآن أصبحت حياة الرجل معلقة بخيط واه في وضع خطر.
حمل الملاكم الفاقد الوعي إلى غرفة مجاورة. كان هناك طبيبان يعتنيان به، كانت تقاريرهما متشائمة كثيرا في البداية، لكن مع بزوغ فجر اليوم التالي علم الملاكم أن احتمالات النجاة كانت في صالح خصمه، فشعر بالارتياح.
وقد استحث البعض الملاكم على الهروب، لكنه كان رجلا عاقلا وحصيفا للغاية، وكان يفهم تماما عدم جدوى هروبه. كان وجهه وهيئته مشهورين كثيرا في كل أرجاء البلاد. وربما كان من المستحيل له أن يتمكن من الهرب، حتى لو حاول ذلك.
عندما استفاق يوركشير تشيكن، سخر أصدقاء الملاكم من قراره بالتوقف عن القتال، لكنهم لم يستطيعوا أن يزعزعوا عزيمته. كان المال الذي ربحه في قتاله الأخير بالإضافة إلى المال الذي جمعه من قبل - ذلك أنه كان مقتصدا - كافيا ليعول به نفسه لبقية حياته، وقد قرر أن يعود إلى بلدة بوردر حيث مسقط رأسه، والتي لا شك أن سمعته قد سبقته إليها.
وضع الملاكم المال في حزام حول خصره، وأمسك بعصا قوية في يده وغادر لندن متوجها نحو الشمال. كان الملاكم شابا فتيا، ولم يسمح لنفسه بأن ينغمس في الملذات، كما فعل الكثير من الملاكمين المرتزقة من قبله وكما سيفعلون مجددا. كان الملاكم يكره أن يكون محصورا في كرسي ضيق لعربة تجرها الخيول. وكان يحب هواء المرتفعات العليل وهدوء الوديان وسكونها.
كان ذلك في أيام قطاع الطرق، ولم يكن السفر بالعربة التي تجرها الخيول آمنا إلى حد كبير. ولم يكن الملاكم يخشى أحدا على وجه الأرض إذا واجهه في العراء وفي يده عصا أو معه أسلحة الطبيعة، لكنه كان يخشى فوهة المسدس حين تكون موجهة إلى رأسه في الظلام ويمسك بها رجل مقنع. ولذا فقد شد حزاما إلى خصره يحوي كل ما يملك من ذهب، وحمل معه اسمه الذي كاد ينساه - وكان اسمه آيبل ترينشن - ثم وجه ظهره إلى الشمس ووجهه إلى رياح الشمال، ثم سافر سيرا على الأقدام على طول الطريق الملكي السريع. وكان يتوقف أثناء الليل في الحانات الموجودة على جانب الطريق ويتخذ منها مأوى له قبل أن تغرب الشمس ثم يغادر في وضح النهار في صباح اليوم التالي. وكان يجادل بشأن حسابه في الحانة وكأنه رجل لا يملك الكثير من المال، ولم يشك أحد أن ذلك المسافر القوي يحمل ثروة حول جسده.
وبينما كان وجهه متجها ناحية الشمال راح يفكر في بلدة بوردر التي قضى فيها طفولته. كان والداه قد توفيا، وكان يشك الآن في أن أحدا يتذكره هناك أو أن أحدا سيكون بانتظاره للترحيب به. ومع ذلك، لم تكن هناك على وجه الأرض بقعة أحب إليه من تلك البلدة، وكان يعتزم دوما أن يعود إلى تلك البلدة الصغيرة الهادئة حين يستقر به الحال ويتزوج.
رحب به الطقس على الأقل ترحيبا حارا. ففي اليوم الأخير من الرحلة عصفت الريح وهطلت الأمطار، لكنه كان رجلا لا يكترث كثيرا بأمر العواصف، فحنى جسده في وجه العاصفة وراح يتقدم في قوة وثبات. وكان المساء قد حل حين بدأ يتعرف على بعض الأشياء المألوفة له والموجودة على جانب الطريق، وقد تفاجأ حين رأى أن التغيير الذي شهده المكان لم يكن كبيرا بعد مرور كل تلك السنوات على غيابه. توقف الملاكم عند إحدى الحانات لتناول وجبة العشاء، وبعد أن استعاد نشاطه، قرر أن يكسر القاعدة التي وضعها لنفسه طوال الرحلة. قرر أنه سيستمر في مسيره أثناء الليل، وأنه سيبيت ليلته في قريته الأم.
أصبحت العاصفة أكثر قسوة بينما تقدم هو، ووجد نفسه يتعاطف مع تلك المخلوقات البائسة التي كانت مجبرة على الوجود في الخارج في ظل تلك العاصفة، لكنه لم يكن يشعر بذلك تجاه نفسه.
كانت الساعة قد قاربت على منتصف الليل حين رأى برج الكنيسة الراسخ وهو يقف معتما مقابل السماء المظلمة، وعندما بدأ ينزل الوادي الذي كانت البلدة تقع على الجانب الآخر منه، استحوذ عليه الخوف وسرت قشعريرة في جسده حيث تذكر ما كان قد نسيه لفترة طويلة، وهو أن هذا الوادي مسكون، وأنه مكان خطر ولا سيما في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل. ولكي يحول أفكاره عن هذا الأمر بدأ يفكر في المرأة التي سيتزوج بها. لا شك أنها الآن نائمة في هدوء في القرية أعلى التل، ولا تعلم بقرب وصول حبيبها وزوجها. ولم يستطع أن يخفي عن نفسه حقيقة أن من شأنه أن يتخذ لنفسه زوجة مناسبة كثيرا إذا عرف الناس بأمر ثروته؛ ذلك أنه سيكون أثرى رجل في القرية على الأرجح، باستثناء الإقطاعي هناك. لكنه قرر أن يكتم أمر ثروته هذه، حتى لا تنشغل الفتاة التي سيتزوجها بالسعة ورغد العيش اللذين ينتظرانها. وراح يضحك بصوت مرتفع وهو يفكر في السعادة التي سيشعر بها وهو يخبر زوجته عن حسن حظها، لكن توقفت تلك الضحكة فجأة حين رأى - أو خيل إليه أنه يرى - شيئا يتحرك خلسة على طول السياج النباتي.
كان الملاكم الآن في أعماق الوادي وفي أكثر بقاعه وحشة ورهبة. كانت الأشجار العملاقة على كلا الجانبين تشكل ما يشبه قوسا يغطي الطريق ويحميه جزئيا من المطر.
تسمر الملاكم في مكانه وتمسك بعصاه وصاح في شجاعة: «من هناك؟»
لم يكن هناك أي رد، لكن في الصمت الذي تبع ذلك ظن الملاكم أنه سمع صوت امرأة تنشج.
فصاح قائلا: «اخرجي إلى الطريق، وإلا فسأطلق النار.»
كان خوفه من المسدسات كبيرا حتى إنه توقع أن الجميع سيشعرون بالرعب من التهديد باستخدامها، لكنه لم يسبق له في حياته أن امتلك مسدسا أو حمله معه.
ومن قلب الظلام جاء صوت مرتعش يبكي قائلا: «أرجوك، أرجوك لا تطلق النار. سأفعل ما تمليه علي.» وهنا تحرك الجسم نحو الطريق.
حدق إليه ترينشن وسط الظلام، لكنه لم يستطع أن يتبين ما إذا كان امرأة متقدمة في السن أم امرأة شابة. لكن صوتها كان يدل على أنها شابة.
قال ترينشن بنبرة عطوفة: «أيتها الفتاة، ما الذي تفعلينه هنا في مثل هذه الساعة من الليل؟»
فقالت وهي تبكي وتنشج: «واحسرتاه! لقد طردني أبي من المنزل، وقد فعل ذلك من قبل كثيرا، لكن الليلة كان الأمر سيئا للغاية، ولم يكن هناك مكان أذهب إليه؛ ولذا أتيت إلى هنا لكي أحتمي من المطر. سينام بعد قليل، ونومه ثقيل. ربما يمكنني التسلل عبر نافذة ما، وإن كان في بعض الأحيان يوصد النوافذ.»
صاح ترينشن غاضبا: «يا إلهي! من عساه أن يكون هذا الأب المتوحش؟»
ترددت الفتاة ثم تحدثت وكأنها تبرر له فعله، لكن ترينشن سألها عن اسمه مجددا. «إنه حداد القرية، واسمه كاميرون.»
قال ترينشن: «إني أذكره. هل أمك متوفاة؟»
فأجابته الفتاة وهي تبكي مجددا: «أجل. لقد ماتت قبل خمس سنوات.»
قال ترينشن: «كنت أعرفها حين كنت صبيا. وكنت أعرف أباك أيضا، وأكن له الضغينة، رغم أنني نسيت ما فعله بي. لكنني أشك أنني كنت مخطئا بحقه حين كنت صغيرا كما أخطأ هو بحقي، رغم أنه كان قاسيا معنا جميعا، والآن يبدو أنه قاس في معاملته لك. اسمي ترينشن. وأشك أن أحدا في القرية يتذكرني الآن، لكنهم ربما سمعوا بي من لندن.» قال تلك الجملة في فخر وكان يأمل أن تؤكد الفتاة ظنه. لكنها هزت رأسها.
وقالت: «لم أسمع باسمك من قبل.»
تنهد ترينشن. كانت تلك إذن هي الشهرة!
قال ترينشن: «آه، حسنا. هذا ليس مهما؛ سوف يسمعون عني كثيرا فيما بعد. سأذهب معك إلى منزل أبيك وسأطلب منه أن يدخلك ويعاملك معاملة حسنة.»
لكن الفتاة تقهقرت إلى الخلف وقالت باكية: «أوه، لا، لا! لن يجدي هذا نفعا. إن والدي رجل قاس ومن الصعب أن تعارضه. ولا يوجد في القرية كلها من يجرؤ على مجادلته.»
قال ترينشن بنبرة واثقة: «ربما، لكنني لا أخشاه. هيا أيتها الفتاة، وانظري ما إذا كنت أستطيع أن أتذكر منزل والدك بعد مرور كل تلك السنوات. هيا، يجب ألا تظلي هنا طويلا؛ المطر يهطل مجددا، وعلى الرغم من كثافة تلك الأشجار، فإنها ليست سوى مأوى ضعيف. من الشائن أن تهيمي على وجهك في تلك العاصفة، بينما يرقد والدك المتوحش محتميا في منزله. لا، لا تخافي من والدك ولا مني؛ أما عنه فلن أعاقبه إلا إذا أردت أنت ذلك.» ثم سحب يد الفتاة في يده وسار بها رغما عنها ومن دون توجيه منها، وسرعان ما أصبحا أمام منزل الحداد.
فقال بنبرة المنتصر: «أترين؟! عرفت المكان، رغم أني لم أر القرية منذ سنوات طوال.»
طرق ترينشن على الباب طرقا عاليا بعصاه الثقيلة، فراح صدى الطرقات يتردد في أرجاء المنزل الساكن. انكمشت الفتاة خلفه من الخوف، وكانت ستهرب، لولا أنه أمسك بها من معصمها بقبضة قوية.
وقال: «لا، لا. صدقيني لا داعي للخوف. سأحرص على ألا يمسك بسوء.»
وبينما كان يتحدث، فتحت النافذة فوقهما على مصراعيها، فانصب عليهما سيل من السباب، وهنا حاولت الفتاة أن تخلص معصمها من قبضة الملاكم، إلا أن ترينشن كان يمسك به برفق، لكن بقبضة كالحديد.
أطل الرجل العجوز الضخم برأسه من النافذة المفتوحة.
وصاح قائلا: «لعنة الرب عليكما! يا زوج الأغبياء، أنتما تريدان أن تتزوجا بشدة حتى إنكما خرجتما في مثل هذه الليلة. حسنا، اغربا عني ودعاني لأنام. باسم قانون اسكتلندا، أعلنكما الآن زوجا وزوجة. هاكما، من شأن هذا أن يربط غبيين مثلكما كلا منهما بالآخر وكأن رئيس الأساقفة نفسه هو من نطق بهذه الكلمات. ضعا المال على الدرج. لا أحد يستطيع أن يمس المال طالما أنه ملك لي.» وبهذه الكلمات أغلق النافذة.
قال ترينشن: «أهو مجنون أم مخمور؟»
بكت الفتاة وانتحبت وقالت: «لا! لا! إنه ليس بمجنون أو مخمور. إنما هو معتاد على تزويج من يأتون من إنجلترا ويمرون بقرية بوردر حتى إنه لم يعرف أن ابنته هي من معك، بل ظن أننا اثنان نرغب في الزواج، وقد زوجنا. أنا زوجتك.»
أطلق الرجل المذهول معصمها من قبضته، فوضعت هي يدها على وجهها وراحت تبكي.
صاح ترينشن: «متزوجان! نحن زوجان!»
نظر إلى الفتاة في اهتمام، لكنه لم يستطع أن يرى منها شيئا في هذا الظلام. وكان المطر المنهمر يضرب عليهما بغير انقطاع.
ثم تردد وهو يقول: «هل من ... هل من عشيق آخر، حيث إنك تبكين؟»
هزت الفتاة رأسها وقالت: «لا أحد يقترب منا. إنهم يخشون والدي.» «إذن، إذا كان هذا صحيحا، فلم تبكين؟ أنا لست برجل سيئ إلى هذا الحد.» «أنا لا أبكي على نفسي، إنما أبكي عليك؛ لأنك وقعت في هذا الفخ بسبب طيبة قلبك. صدقني، لم أكن أقصد أن يحدث ذلك.» «يا فتاتي، من صوتك الذي أسمعه، وإن كانت أمك هي السيدة التي كنت أعرفها، والتي أذكرها جيدا وأعتقد أنك تشبهينها كثيرا، فإن هذا فخ لا أريد الخروج منه. لكن ها أنت تبكين مرة أخرى وأنا أقف وأثرثر. سأوقظ حماي من جديد.»
وبقوله هذا، طرق على الباب مرة أخرى بعصاه.
فانفتحت النافذة مجددا، وأطل منها رأس العجوز الغاضب.
صاح الحداد الحانق قائلا: «اغربا من هنا!» لكن قبل أن يقول أي شيء آخر صاح فيه ترينشن قائلا: «ابنتك هنا تنتظر. افتح الباب أيها العجوز اللعين، وإلا فسأحطمه وأطردك من المنزل كما فعلت في ابنتك.»
وقف الحداد، الذي لم يكن أحد قد تحدث إليه بهذه النبرة أو بتلك الكلمات من قبل، مذهولا حتى إنه لم يستطع أن يتحدث أو يفعل شيئا، لكن الباب اهتز بعنف بفعل ركلة قوية من الملاكم عليه، فرأى أن ركلة أخرى كفيلة بأن تهشمه وأن الرجل سيقتحم منزله، فترك الحداد النافذة مفتوحة حتى يستطيع الملاكم وابنته أن يسمعا سبابهما، ونزل وسحب مزلاج الباب وفتحه ووقف على عتبته ليمنع دخولهما.
صاح به ترينشن وهو يضع يده على صدر الرجل الآخر برفق: «ابتعد عن طريقنا.» لكنه دفعه دفعة واحدة جعلت الرجل يترنح إلى داخل المنزل.
سحب الشاب الفتاة إلى داخل المنزل بعد أن دخل هو وأغلق الباب.
وهمس لها: «أنت تعرفين الطريق. أشعلي لنا شمعة.»
أشعلت الفتاة شمعة، وبينما كان الضوء يشرق على وجهها، تنهد ترينشن تنهيدة عميقة على إثر ما شعر به من سعادة وارتياح. فلم يكن في القرية بأسرها فتاة يمكن أن تكون أجمل منها.
وقف الحداد قابضا على يده جراء ما شعر به من غضب وحنق، لكنه نظر في تردد واحترام إلى جسد الملاكم القوي، ومع ذلك لم يجفل العجوز.
صاح الحداد: «ألق بعصاك، وإلا فانتظر حتى أحضر واحدة لي.»
ألقى ترينشن بعصاه إلى إحدى الزوايا.
صاحت الفتاة وقد شبكت يديها معا تعبيرا عن استجدائها: «أوه! أوه! ينبغي ألا تتقاتلا.» لكنها كانت تستجدي زوجها وليس والدها، الأمر الذي تسبب في شعور الشاب بشيء من الرضا في أعماقه.
التفت الأب إليها وصاح بقوة قائلا: «اخرجي من هذا المنزل.»
قال ترينشن وهو يتقدم نحوه: «لا تتحدث إلى زوجتي بهذه الطريقة.»
صاح الحداد في دهشة قائلا: «زوجتك؟»
فرددها الشاب للتأكيد عليها قائلا: «زوجتي. إنهم يقولون أيها الحداد إنك رجل قوي، وأنا أعرف أنك رجل صارم، لكنني أشك في قوتك. تعال واختبر قوتك.»
اندفع الرجل العجوز نحوه، فأمسك به الملاكم من مرفقيه فأصبح الرجل عاجزا في يده وكأنه طفل. ودفع الملاكم الرجل إلى الحائط وضم مرفقيه معا وأمسك بهما بإحدى يديه العملاقتين. ثم وضع يده الأخرى على كتف الحداد وحمل عليه بوزنه كله فجثا الحداد على ركبتيه عاجزا لا يملك سوى السباب.
صاح الملاكم به وهو ينحني عليه: «والآن، أيها الآثم القاسي، استجد ابنتك وأنت على ركبتيك من أجل أن تحظى بملاذ لهذه الليلة في المنزل. استجدها وإلا فسأسحق وجهك الجبان في الأرض.»
تعلقت الفتاة بذراع زوجها الجذاب وتوسلت إليه ألا يؤذي والدها. «لن أوذيه إذا ما تحدث. وإذا نطقت شفتاه بشيء من السباب، فسأجعل شفتيه تقبلان الأرض من تحته. تحدث أيها الحداد: ماذا لديك لتقول؟»
قال الرجل المهزوم: «أرجو أن تؤويني في المنزل الليلة.»
فأطلق الملاكم سراحه في الحال.
وقال: «اخلد إلى النوم.» فانسل العجوز مبتعدا.
قال آيبل ترينشن فاتحا ذراعيه: «يا زوجتي، لقد قطعت الطريق كله من لندن إليك. لم أكن أعرف حينها لم توجهت إلى الشمال، لكنني أعرف الآن أن هناك من هو أكثر حكمة مني وأنه قاد خطواتي إلى هنا. وبقدر ما يعد الرجل الضال، فإني أعدك أنك لن تندمي أبدا على خروجك الليلة في هذه العاصفة.»
مداهمة ميليش
تختلف بعض الجرائد عن غيرها. وإحدى الخصال الغريبة بشأن جريدة آرجوس هو وتيرة تغير الرجال فيها. كان رئيسو التحرير يأتون من أجل إحداث ثورة في العالم وبالتبعية في جريدة آرجوس، لكنهم كانوا يختفون ويفسحون المجال لغيرهم الذين اختفوا أيضا بدورهم. ولم يكن الصحفيون في ذلك الجزء من البلاد ليظنوا في أنفسهم أنهم أصبحوا كاملي الأهلية إلا حين يحصلون على منصب رئيس تحرير في جريدة آرجوس. وإذا سألت عن رئيس تحرير جريدة آرجوس، فالإجابة تكون على الأرجح: «في الواقع، كان فلان هو رئيس التحرير صباح اليوم. لكنني لا أعرف من أصبح رئيس التحرير في الظهيرة.»
ربما كانت أكثر الفترات غرابة في تاريخ جريدة آرجوس حين استقدم ملاك الجريدة رجلا غريب الأطوار من بيتسبرج وعينوه رئيس تحرير محليا، ليترأس بذلك فريق الصحفيين العاملين في المدينة. كان الرجل في تلك الفترة يدعى ماكراسكي، وكان اسمه عند التعميد أنجوس أو آرشي؛ لقد نسيت أيهما كان اسمه. في الواقع، لطالما كان اسمه عند التعميد هو ما يشكل نقطة خلاف؛ فكان بعض الصحفيين يقولون بأنه أنجوس، بينما كان البعض الآخر يقولون بأنه آرشي، ولم يكن أحد بالشجاعة الكافية ليسأله. على أي حال، كان الرجل يوقع باسم إيه ماكراسكي. كان رجلا صالحا وقد وجد الصحفيون هذا الأمر غريبا وحيرهم كثيرا. فقد كان معظم من سبقوه في هذا المنصب يختلفون كثيرا عن بعضهم، إلا أنهم كانوا يتشابهون جميعا في شيء واحد؛ وهو التلفظ بالألفاظ النابية. فكانوا يعبرون عن رفضهم بلغة تنكمش من وقعها المنشفة في يد عامل الطباعة داخل غرف التنضيد، فما بالك بوقع تلك اللغة على العامل نفسه.
كانت وجهة نظر ماكراسكي الرائعة تقتضي أن الإصدار المحلي من الجريدة ينبغي أن يكون له تأثير أخلاقي قوي في المجتمع. فقد أذهل المحرر الرياضي حتى إنه وقف معقود اللسان حين قال له بأن الجريدة لن تنشر تقارير عن الملاكمة التكسبية بعد الآن. فعاد مورين المسكين إلى حجرته وجلس إلى طاولته ودفن رأسه بين يديه. كان كل فرد في فريق الصحفيين المحليين يعتقد بطبيعة الحال أن الجريدة تنشر في الأساس من أجل أن يحظى قسمه بفرصة للظهور، وكان مورين يرى أن القتال حتى النهاية هو أمر يهتم به العالم أكثر من اهتمامه بالانتخابات الرئاسية. وقد حاول بقية زملائه أن يروحوا عنه. فقال مورين في مرارة: «الوضع حساس ودقيق. فكروا في مباراة الأسبوع القادم بين كاليفورنيا دافر وبيجون بيلي ولا تقرير ينشر عنها في الآرجوس! تخيلوا الانتصار السهل للصحف الأخرى. بحق السماء، ما الذي يريد الناس في رأيه أن يقرءوه؟»
لكن كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظر الصحفيين. جمعهم ماكراسكي جميعا في حجرته وأطال الحديث معهم. ثم طرح سؤالا فجأة على الصحفي الجنائي، وكان السؤال مباغتا حتى إن تومبسون كاد يدلي بالحقيقة وهو مأخوذ على حين غرة. «أتعرف عن وجود أي أندية قمار في المدينة؟»
التقط تومبسون أنفاسه ورمق مورين بنظرة سريعة.
ثم قال في النهاية: «لا، لا أعرف أيا منها، لكن ربما يعرف المحرر الديني. من الأفضل أن تسأله.»
ابتسم المحرر الديني ونزع غليون الذرة من فمه.
وقال: «ليس هناك أندية للقمار. ألا تعلم أن إدارة ناد للقمار أمر مخالف للقانون في هذه الولاية؟ أجل يا سيدي!» ثم أعاد غليون الذرة إلى مكانه.
كان ماكراسكي مسرورا حين رأى أن الشبان الذين يعملون تحت رئاسته لا يعرفون الكثير عن بشاعة مدينة كبيرة كهذه، بيد أنه كان هناك ليعطيهم بعض المعلومات؛ ولذا قال في هدوء: «من المؤكد أن هذا الأمر مخالف للقانون، لكن هناك الكثير من الأشياء المخالفة للقانون تزدهر في مدينة كهذه. والآن أريد أن تعرفوا قبل انقضاء الأسبوع عدد أندية القمار وأماكنها. وحين تتحققون من صحة ما تجدون، سننظم حملة لمداهمة تلك الأماكن وستكون الأخبار حصرية على الأرجح، ذلك أن المداهمة ستكون في ساعة متأخرة من الليل وقد لا تسمع بها الصحف الأخرى.»
قال المحرر الديني وقد تلألأت عينه بينما كان ينزع غليون الذرة من فمه مرة أخرى: «لنفترض - بزعم أن مثل هذه الأماكن موجودة - أنك وجدت ممثلين عن الصحف الأخرى هناك؟ إنهم أناس سيئون، أولئك الذين يعملون في الصحف الأخرى.»
قال المحرر المحلي: «إذا وجدوا هناك، فسيزج بهم في السجن.»
قال مورين في تجهم: «لن يمانعوا ذلك، إذا كان في مقدورهم أن يكتبوا شيئا عن الأمر.» وكان في رأيه أن صحيفة آرجوس كانت في طريقها نحو الهلاك والفشل.
قال ماكراسكي: «والآن يا تومبسون، ينبغي لك كصحفي جنائي أن تكون على معرفة بالكثير من الرجال الذين يمكنهم أن يزودوك بتفاصيل لكتابة مقال ممتاز عن مساوئ القمار وشروره. جهز مقالا عن هذا الموضوع لطبعة يوم السبت، سوف تخصص لك مساحة عمود ونصف، وأريد عناوين ترويعية. ينبغي أن نؤسس للرأي العام.»
وحين عاد الصحفيون إلى حجرتهم من جديد، جلس مورين وقد دفن رأسه بين يديه، فيما اتكأ تومبسون للخلف في كرسيه وراح يضحك.
وقال: «نؤسس للرأي العام. من الأفضل لماك أن يؤسس لمعرفته بشوارع المدينة، وألا يلبس ثوب الشجاعة والجرأة كما فعل صباح اليوم.»
كان المحرر الديني يحضر التبغ من الدرج الخاص بمورين حين سأل تومبسون: «هل ستخبر ميليش بالأمر ليأخذ حذره؟»
قال تومبسون: «لا أعرف بعد ماذا سأفعل على وجه التحديد. هل تعرف أنت؟»
أجابه المحرر الديني قائلا: «سأفكر في الأمر. يا له من تبغ سيئ ذلك الخاص بك يا مورين. لم لا تشتري قطع التبغ؟»
قال المحرر الرياضي من دون أن يرفع رأسه: «لست مضطرا لأن تدخن منه.» «بل أنا مضطر حين ينفد مني التبغ، والزملاء الآخرون يوصدون أدراجهم.»
ذهب تومبسون إلى ميليش صاحب نادي القمار الضخم ليستشيره بشأن المقال الذي سينشر في طبعة يوم السبت. وقد أبدى ميليش اهتماما كبيرا بالأمر، ورأى أنه سيكون ذا تأثير جيد. وذكر ميليش إلى تومبسون طواعية عدة حالات أدت فيها هذه الآفة إلى دمار شبان واعدين.
قال ميليش متأملا: «كل الناس يقامرون بشكل أو بآخر، فهناك من يقامر على هذا النحو وهناك من يقامر على نحو آخر. المقامرة متأصلة في الطبيعة البشرية، مثل الخطيئة الأولى. وبداية كل عمل تجاري هو ضرب من المقامرة. فإذا كنت أملك ثلاثين ألف دولار فسأفضل أن أجازف بمضاعفة هذا المبلغ على هذه الطاولة بدلا من أن أفتتح جريدة جديدة أو أن أضع المال في أسهم السكك الحديدية على سبيل المثال. خذ مثالا على ذلك ازدهار الأراضي، كما حدث في كاليفورنيا أو وينيبيج ... إن الفارق بين وضع مالك في شيء كهذا والتوجه الصريح إلى القمار هو أنك في الحالة الأولى تكون واثقا من أنك ستخسر أموالك، بينما في الحالة الثانية لديك فرصة للفوز. وأنا أومن بأن كل أشكال القمار سيئة، إلا إذا كان في إمكان المرء أن يتحمل بسهولة خسارة ما يقامر عليه. المشكلة تكمن في أن القمار يؤثر في بعض الناس كتأثير الشراب عليهم. كنت أعرف رجلا ذات مرة ...» لكن يمكنك أن تقرأ المقال كاملا إذا راجعت الأعداد القديمة من جريدة آرجوس.
أخبر تومبسون ميليش بشأن ماكراسكي. كان ميليش مهتما كثيرا بهذا الشأن وأعرب عن رغبته في مقابلة رئيس التحرير المحلي. كان ميليش يعتقد بأن الصحف يجب أن تولي اهتماما أكبر مما توليه في الواقع إلى حظر أوكار القمار، وقال بأنه يريد أن يرى كل أوكار القمار تتوقف عن مزاولة نشاطها بما في ذلك ناديه الخاص. وأضاف قائلا: «يمكنني أن أغلق نادي القمار الخاص بي، لكن هذا يعني بكل بساطة أن هناك شخصا آخر سيفتح ناديا آخر، ولا أظن أن هناك من أدار مكانا مثل هذا بنفس الأسلوب العادل الذي أدير به مكاني.»
ذهب ماكراسكي إلى رئيس الشرطة وقدم نفسه بصفته رئيس التحرير المحلي لجريدة آرجوس.
قال رئيس الشرطة: «أوه، هل رحل جورمان إذن؟»
قال ماكراسكي: «لا أعلم بشأن جورمان، كان الرجل الذي خلفته يدعى فينيجان، وأعتقد أنه في سينسيناتي الآن.»
عندما علم رئيس الشرطة بمغزى زيارة رئيس التحرير المحلي أصبح أكثر رسمية ومتحفظا في كلامه نوعا ما. كان رئيس الشرطة يظن بأن هناك أندية للقمار في المدينة، وإن صح ظنه، فإنها هادئة جدا ولا تتناهى إلى سمعه أي شكاوى. وقال بأن هناك الكثير من الأشياء التي من المستحيل حظرها، وأن محاولة فعل ذلك ستجعل الشر يمعن في العمل خفية. وبدا أن رئيس الشرطة يفضل أن ينظم الأمر أكثر من تفضيله محاولة تحقيق المستحيل، ومع ذلك إذا أتاه ماكراسكي بأدلة دامغة على أن هناك ناديا للقمار يزاول نشاطا، فسيرى أن من واجبه مداهمته. وقد نصح ماكراسكي بأن يتكتم كثيرا في سعيه هذا، ذلك أن للمقامرين بلا شك أصدقاء كثرا سيشون لهم بما سيحدث ومن ثم يحبطون المداهمة، وربما يزجون بكبش فداء ليتحمل عنهم تبعات ما حدث. وقال ماكراسكي بأنه سيتوخى الحذر.
لعب الحظ دوره مع ماكراسكي حين «أتاه» رجل لم يكن يبالي كثيرا بما يفعل عندما دخل إلى حجرة رئيس التحرير المحلي. دخل جوس هامرلي - وهو فتى مترف ومن مشاهير المجتمع - إلى مكتب جريدة آرجوس في ساعة متأخرة ذات ليلة ليبلغ المحرر الرياضي أخبارا عن «حدث» ما. كان خبيرا بمكتب الجريدة، وعندما وجد أن مورين لم يكن موجودا، ترك المعلومات على مكتبه. ثم تجول إلى غرفة رئيس التحرير المحلي. كان كل الصحفيين العاملين في الجريدة يحبون هامرلي، وقد حصلوا منه من قبل على العديد من المقالات الجيدة. ولم يشوا به قط، ورأى أنهم لم يخب أملهم ولم يتخل عنهم، كما هو الحال الدارج بينهم. «مساء الخير، أعتقد بأنك رئيس التحرير المحلي الجديد. لقد تركت بعض المعلومات على مكتب مورين، أعتقد بأنه لم يأت من مباراة المصارعة بعد. اسمي هامرلي. الجميع هنا يعرفونني وقد عرفت أربعة عشر رجلا من سابقيك؛ ولذا أريد أن أتعرف عليك أيضا. سمعت أنك من بيتسبرج.» «أجل، اجلس يا سيد هامرلي. أتعرف بيتسبرج؟» «أوه، أجل. إن بوردن العجوز، الذي يدير وكر القمار في شارع كذا، صديق قديم لي. أتعرف كيف هي أحواله؟» «أجل، لقد داهمت الشرطة وكره وأغلقته.» «يا لحظه العسر! الأمر نفسه حدث في مدينة كنساس.» «بالمناسبة، سيد هامرلي، أتعرف أي أندية للقمار في هذه المدينة؟» «يا إلهي، ألم يأخذك الشباب في جولة بعد؟ حسنا، هذا ليس من حسن الضيافة. إن نادي ميليش للقمار هو المكان الأفضل في المدينة. إني ذاهب إلى هناك الآن. وإذا ما أتيت معي، فسأعطيك جواز الدخول عند الباب ولن تواجه مشكلة بعد ذلك.»
قال ماكراسكي وهو يمد يده إلى قبعته «سأذهب معك.» وهكذا قاد هامرلي الساذج الحمل إلى عرين الأسد.
كان ماكراسكي غير معتاد على المشهد؛ ولذا فقد كان مذهولا من سرعة اللعب. كانت هناك طاولة شبه دائرية، وعلى الإطار الخارجي لها يجلس عدد من الرجال في أريحية تامة. وأما في الجزء الداخلي من الطاولة، فكان هناك رجل يوزع أوراق اللعب. كان يعطي كل لاعب ورقة لعب بحركة سريعة، وكان وجه الورقة للأسفل، كان يفعل ذلك بسرعة ومهارة أذهلت ماكراسكي. ثم أعطى لكل لاعب ورقة لعب أخرى وجهها للأعلى، وكان الرجال يضعون مبالغ من المال بجوار أوراقهم بعد النظر فيها. ثم تجري عملية توزيع أخرى وهكذا، لكن الرجل الغريب وجد أن من المستحيل له فهم هذه اللعبة أو تتبعها. لقد رأى المال يغترف غرفا ويدفع بسرعة، ورأى لياقة رسمية في التعامل لم يكن مستعدا لرؤيتها. فقد توقع أن يسمع السباب من اللاعبين وأن يسحبوا مسدسات بعضهم في وجوه بعض.
قال هامرلي الساذج: «هاك يا ميليش، اسمح لي أن أقدمك إلى رئيس التحرير المحلي الجديد لجريدة آرجوس.» ثم قال هامسا: «لم أعرف اسمك.» «اسمي ماكراسكي.» «السيد ماكراسكي؛ هذا هو السيد ميليش. إنه مالك هذا المكان، وستجد أنه رجل من الطراز الأول.»
قال ميليش بنبرة هادئة: «يسرني لقاؤك. إن أي صديق من جهة هامرلي مرحب به هنا . تصرف وكأنك في بيتك.»
وبعد أن ابتعد عن الرجلين، همس ميليش سريعا إلى سوتي النادل: «اذهب وأخبر حارس الباب أن يحذر تومبسون أو أيا من بقية من يعملون في جريدة آرجوس أن رئيسهم في العمل موجود هنا.»
وفي الساعة الثانية عشرة صباحا في تلك الليلة كان رئيس التحرير المحلي يجلس في غرفته، وقد صاح حين سمع صوت وقع أقدام: «أهذا أنت، يا تومبسون؟»
أجابه تومبسون وهو يدخل عليه: «أجل يا سيدي.» «أغلق الباب يا تومبسون. لدي مهمة كبيرة لك الليلة، لكن ينبغي للأمر أن يتم في هدوء. لقد اكتشفت وكرا للقمار يعج بالنشاط. وستداهمه الشرطة الليلة في تمام الثانية صباحا. وأريدك أنت ومورين أن تكونا في مسرح الحدث؛ فهل ستحتاج إلى أي شخص آخر؟» «يتوقف هذا على مدى رغبتك في نشر هذا الأمر.» «أريد أن أجعله المقال الرئيسي لعدد الغد من الجريدة. أعتقد بأن ثلاثتنا كاف لهذا الأمر، لكن يمكنك أن تحضر المزيد من الزملاء إذا أردت. يدير المكان رجل يدعى ميليش. والآن، لو كنتم يقظين أيها الشباب لأصبحتم على دراية أكبر بما يجري في مدينتكم.»
قال تومبسون في تواضع: «لا يحظى معظمنا بميزة التدرب على ذلك في العاصمة.» «سأذهب إلى هناك برفقة الشرطة. ومن الأفضل أن تكون أنت ومورين هناك، لكن لا تذهبا إلى هناك في وقت مبكر، ولا تثيرا الشكوك حولكما حتى لا يأخذوا حذرهم. هاك هو العنوان. من الأفضل أن تدونه.» «أوه، سأجد المكان ...» ثم فكر تومبسون للحظة وتمالك نفسه وقال وهو يدون اسم الشارع ورقم المنزل بعناية: «شكرا لك.»
توقفت قوة من الشرطة أمام المكان قبل أن تحل الثانية ببضع دقائق. كانت الشوارع خالية من المارة، وكانت قوة الشرطة هادئة للغاية حتى إن صوت وقع أقدام أحد المارة المتأخرين على الرصيف الحجري في شارع بعيد ليدوي عاليا في سكون الليل.
قال ماكراسكي محدثا الرجل المسئول عن قوة الشرطة: «هل أنت واثق أنه لا يوجد مدخل خاص في مكان ما؟»
فجاءه الرد بنفاد صبر من الرجل: «بكل تأكيد هناك مدخل خاص. والرقيب ماكولم وأربعة من الرجال برفقته يتمركزون في الشارع الخلفي. نحن نعرف عملنا تمام المعرفة يا سيد.»
ظن ماكراسكي أن هذا ازدراء من قبل مسئول الشرطة، وقد كان محقا في ذلك. وراح ينظر حوله في الظلام بحثا عن رجاله الصحفيين. فوجدهم يقفون معا أمام أحد الأبواب في الجهة المقابلة من الشارع.
فهمس لهم: «أتقفون هنا منذ وقت طويل؟»
كان مورين متجهما ولم يجب. ونزع المحرر الديني غليون الذرة من فمه وقال في اقتضاب: «منذ عشر دقائق تقريبا يا سيدي.» كان تومبسون يحدق باهتمام بالغ في المبنى المظلم على الجهة المقابلة من الشارع. «هل رأيتم أحدا يخرج؟» «لا أحد. على العكس، لقد دخل ستة أشخاص وصعدوا هذا الدرج.»
سأل تومبسون بسذاجة الحملان التي كان عليها الصحفي الجنائي: «أهذا هو المكان يا سيدي؟» «أجل، في الطابق العلوي منه.»
قال المحرر الديني: «ألم أخبرك؟ كان تومبسون يصر على أنه المبنى المجاور.»
قال ماكراسكي: «هيا، الشرطة تتحرك أخيرا.»
دق جرس كبير في الحي دقتين بطيئتين، وراحت الساعة تدق في كل أرجاء المدينة بدرجات مختلفة من النغمة والسرعة. ثم دوت صافرة في الأرجاء، وجاء الرد عليها بصافرة مثلها من بعيد. تحركت الشرطة بسرعة وهدوء على الدرج.
سأل الرجل على الباب في أدب: «أتحملون التذاكر أيها السادة. هذا ملأ خاص.»
قال رقيب الشرطة في اقتضاب: «إنها الشرطة، تنح جانبا.»
لم تكن وجوه رجال الشرطة لتوضح أي اندهاش حتى لو أذهلهم المشهد الذي رأوه أمام أعينهم. أما ماكراسكي، فلم يكن يسيطر على ملامح وجهه، فبدا مصعوقا. كانت الحجرة هي نفسها بلا أدنى شك، لكن لم ير أي أثر ولو لورقة لعب واحدة. لم تكن هناك طاولات، وحتى المشرب اختفى. وكانت الكراسي مرتبة جيدا ومعظمها مشغولا. وفي الجهة المقابلة من الغرفة وقف بوني رويل على منصة أو على صندوق أو شيء مرتفع، وكان وجهه الشاحب الجاد يشع بحماسة المتحدث العام. كان يقول: «أيها السادة، تتوقف حياة الحزب على نزاهة الاقتراع. وفي رأيي أن كل من يسمع كلماتي الآن يرغب في أن يحصل كل امرئ على حق الاقتراع من دون تدخل أو مضايقة من أحد، ويرغب كذلك في احتساب كل صوت في نزاهة تامة.» (ثم جاء تصفيق حاد تمكن بوني خلاله أن يرتشف رشفة من كوب أمامه ربما كان يحتوي على ماء.)
وقد دخلت الشرطة المكان في هدوء تام بحيث بدا أن أحدا لم يلحظ دخولهم، عدا ميليش، الذي هرع نحوهم ليرحب بالمقتحمين.
سألهم ميليش قائلا: «هلا جلستم؟ إننا نستمع إلى خطاب سياسي صغير من السيد رويل أيها الرقيب.»
قال الرقيب في تجهم: «إنها ساعة متأخرة بعض الشيء يا سيد ميليش.»
أقر ميليش بذلك وكأنه لم يكن يعرف ذلك بحق: «إنها حقا متأخرة بعض الشيء!»
انتشر رجال الشرطة الذين دخلوا من المدخل الخلفي عند الجهة الأخرى من الغرفة، وبات واضحا أن خطاب رويل قد أنهي في غير أوانه. وقد بدا على بوني أنه حزين ومستاء، لكنه لم يقل شيئا.
قال الرقيب: «نريد أن نفتش المقر يا سيد ميليش.»
قدم لهم ميليش في ذلك كل مساعدة ممكنة، لكن الشرطة لم تجد شيئا.
وبينما كان الرجال الأربعة يسيرون معا عائدين إلى مكتب جريدة آرجوس، كان ماكراسكي في غاية السخط والغضب.
قال ماكراسكي: «سنفضح أمر الشرطة غدا. لا شك أنهم سربوا معلومة إلى ميليش.»
قال تومبسون: «لا أعتقد ذلك. لن نذكر شيئا عن الأمر.» «لقد نسيت نفسك يا سيد تومبسون. أنا من أملك الاختصاص لكي أقول ما سيحدث في العدد المحلي من الجريدة، وليس أنت.»
قال تومبسون بحزن واغتمام: «أنا لا أنسى نفسي، إنما تذكرت للتو. لقد عينني أمس أعضاء مجلس إدارة جريدة آرجوس في منصب رئيس التحرير المحلي. ألم يخبروك بالأمر؟ هذا من شيمهم. لقد نسوا أن يذكروا إلى كوربن أن هناك من خلفه في المنصب، وقد ذهب المدير في رحلة صيد بعد أن عين جونسي في المنصب نفسه؛ ولذا أصبح لدينا رجلان في منصب رئيس التحرير المحلي لمدة أسبوع، وكان هذا الأسبوع فظيعا. أتذكره يا مورين ؟» وبدا من غمغمة مورين أن ذكريات تلك الفترة لم تكن سارة على الإطلاق.
وتمتم المحرر الديني لكن من دون أن يخرج غليون الذرة من فمه هذه المرة: «وإذا كنت تشك في الأمر، فأطع أوامر الرجل الجديد فيما يتعلق بأمر جريدة آرجوس. إنني معك أيها الزميل تومبسون. متى حدث ذلك؟»
قال تومبسون بنبرة تكاد تكون مختنقة: «بعد ظهر أمس. سيصرفونني عن منصبي في غضون شهر؛ ولذا فإنني أشعر بالأسف. كنت أحب العمل في جريدة آرجوس ... كصحفي. ولم أبحث قط عن مثل هذا الحظ العاثر في الترقي. لكن جميعنا لديه مشاكله، أليس كذلك يا ماك؟»
لم يجب ماكراسكي. وهو الآن يعمل في جريدة ما في مدينة تكساس.
رد الصاع
كان جورج ستريتر في باريس لكونه كان يأمل أن يلتقي بألفريد ديفيسون هناك وينتظر أن يحدث ذلك. كان يعلم أن ديفيسون سيمكث في باريس لمدة أسبوعين على الأقل، وكان يرغب في لقائه في شوارع تلك المدينة وليس في شوارع لندن لسبب معين.
كان ستريتر مؤلفا شابا نشرت له عدة كتب، وكان يمضي في ذلك بأفضل ما يمكن أن يتوقع منه، حتى تعثر فجأة. ولم تكن تلك العثرة بعثرة حقيقية إلا فيما يتعلق باعتداده بنفسه؛ ذلك أن تلك العثرة لم تعق مبيعات آخر كتبه، بل بدا أنها تزيدها. وكانت تلك العثرة غير متوقعة، ذلك أنه تلقى صفعة حيث كان يتوقع تربيتا. وكانت الصفعة قوية للغاية وفي محلها حتى إنها أذهلته في البداية. وبعدها أصبح غاضبا دون سبب معقول. ثم قرر أن يرد الصاع.
كان المقال النقدي الذي نشر عن كتابه في جريدة آرجوس لاذعا للغاية، وربما ما جعله يستشيط غضبا أكثر من أي شيء آخر هو أنه فطن إلى حقيقة النقد الموجه إلى كتابه رغم اعتداده بنفسه. فلو أن كتبه أقل نجاحا، أو لو أنه وافد جديد في معترك الكتاب والمؤلفين، فلربما أعطى نفسه فرصة الاستفادة من الضربات الشديدة الموجهة إليه من قبل جريدة آرجوس. ولربما تذكر أن الشاعر تينيسون أزال من إصداراته اللاحقة كل أوجه الخلل والقصور التي أشار إليها كريستوفر نورث المبتذل، رغم أن تينيسون قد رد الصاع إلى كريستوفر حين نعته بأنه قديم الطراز وفظ ومبتذل.
قرر ستريتر أن يرد الصاع بشيء ملموس أكثر من مجرد بيت شعر ساخر. وقد أقر - حتى أمام نفسه - أن للناقد كل الحق أن ينتقد الأعمال الأدبية؛ فتلك هي مهمته، لكنه تذرع بأن الرجل الذي يتظاهر بأنه صديق المؤلف ويمدح كتبه أمامه ليس له أدنى حق في أن يجيء من وراء ظهره ويكتب عنه مقالا نقديا لاذعا كالذي ظهر في جريدة آرجوس؛ ذلك أن ستريتر علم أن ألفريد ديفيسون قد كتب النقد المنشور في جريدة آرجوس وأنه يدعي بأنه صديقه، كما ادعى أنه يكن إعجابا شديدا لما يؤلف ستريتر من كتب.
وبينما كان ستريتر يسير في شارع دي إيتاليانز، رأى الرجل الذي كان يأمل أن يلتقيه جالسا أمام أحد المقاهي؛ وبالإضافة إلى ذلك، كان مسرورا حين وجد أن الرجل جالس مع أحد أصدقائه. التقت أعينهما، فكان التعارف بين المؤلف والكاتب متبادلا.
قال ديفيسون: «مرحبا يا ستريتر. متى وصلت إلى هنا؟»
أجابه ستريتر: «غادرت لندن البارحة.»
قال ديفيسون بنبرة ودية: «اجلس إذن وتناول شيئا معنا.» ثم تابع حديثه قائلا: «هذا صديقي هارمون يا ستريتر. إنه منفي ويقيم في باريس؛ ومن ثم فإنه يحب أن يلتقي ببني جلدته.»
قال ستريتر: «في هذه الحالة، فإنه على الأرجح يعرف عادات المكان؟»
أجابه ديفيسون: «حق المعرفة! لقد أصبح فرنسيا بدرجة كبيرة، لقد تسممت أفكاره وفسدت أخلاقه كثيرا، إن كان بإمكاني تعريف الأمر على هذا النحو، حتى إنه أصبح مؤخرا إما مسئولا عن إحدى المبارزات أو شاهدا عليها. بالمناسبة يا هارمون، أيهما كان دورك؟»
أجابه الآخر: «شاهدا ليس إلا.»
أضاف ديفيسون: «أنا لا أحبذ المبارزة، إنها تبدو لي عادة حمقاء وغير ذات جدوى على الإطلاق.»
أجابه ستريتر باقتضاب: «لا أوافقك الرأي. ليس هناك سبب يجعل التبارز غير ذي جدوى، ويبدو أن هناك الكثير من الأسباب التي تحتم خوض المبارزات. فهناك الكثير من الأشياء التي توجد في البلدان المختلفة والتي تكون أسوأ من الجرائم، لكن ليس لها حل أو علاج سوى الدعوة إلى التبارز؛ إنها مخالفات - إن جاز لي التعبير - لا يدركها القانون، كالخيانة - على سبيل المثال - حين يدعي المرء أنه صديق لآخر، ثم يطعنه في ظهره في أول فرصة تسنح له.»
أومأ هارمون بالإيجاب على هذا الرأي، فيما قال ديفيسون بنبرة مرحة: «أوه، لست عليما بذلك! في رأيي أن مثل هذه الأشياء، التي لا أشك أبدا في وجودها، لا تستحق أن نضفي عليها أهمية كبيرة بالالتفات كثيرا إليها والاكتراث بها. ماذا ستشرب يا ستريتر؟»
قال ستريتر محدثا النادل الذي كان واقفا ليأخذ طلبه: «أحضر لي مشروب البراندي.»
وحين عاد النادل بكوب صغير سكب فيه مشروب البراندي ببراعة رجل فرنسي بحيث ملأ الكوب إلى درجة أنه لا يمكن إضافة قطرة أخرى إليه، ولكن من دون أن يسمح للمشروب أن يفيض من الكوب، وهنا أخرج ستريتر محفظة نقوده.
صاح ديفيسون قائلا: «لا، لا! لن تدفع مقابل هذا المشروب؛ أنت تشرب بصحبتي.»
قال ستريتر بأسلوب فظ: «أنا أدفع ثمن مشروباتي.»
احتج الناقد قائلا: «ليس عندما أدعوك لتناول المشروب معي. سأدفع حساب هذا البراندي.»
قال ستريتر وهو يرفع الكوب الصغير ويلقي بمحتوياته في وجه ديفيسون: «حسن، خذه إذن.»
فأخرج ديفيسون منديله.
سأله ديفيسون وقد احمر وجهه: «ماذا تعني بتصرفك هذا بحق الجحيم؟»
أخرج ستريتر بطاقته المصنوعة من الورق المقوى وكتب عليها كلمة أو اثنتين.
وقال: «هاك، هذا هو عنواني في باريس. إذا لم تكن تعلم ماذا أعني بتصرفي هذا، فسل صديقك، يخبرك هو بذلك.»
وبهذا نهض المؤلف، وانحنى أمام الرجلين ثم رحل.
وعندما عاد إلى فندقه، بعد أن تجول في الشوارع ذات الإضاءة البراقة، وجد السيد هارمون ينتظره ومعه رجل فرنسي.
قال ستريتر: «لم تكن لدي أدنى فكرة أنك ستأتي بهذه السرعة، وإلا فما جعلتك تنتظر كثيرا.»
أجابه هارمون: «لا بأس؛ لم ننتظر طويلا. مثل هذه الأمور تستدعي تصرفا فوريا. والإهانة لا تدوم إلا لأربع وعشرين ساعة، وصديقي هنا - وهو المسئول أيضا عن المبارزة - لا يرغب في أن يحمل عليك بمشقة تكرار تصرفك هذا المساء. نحن متأكدون أن لديك صديقا على استعداد للتصرف بالنيابة عنك؛ ذلك أن تصرفك بدا متعمدا.»
فأجابه ستريتر: «أنت محق بعض الشيء؛ لدي صديقان سيسرني أن أقدمك إليهما. لتأت معي من هذا الاتجاه، إذا سمحت.»
وسرعان ما جرى الترتيب للإجراءات التمهيدية، وحدد موعد اللقاء في صباح اليوم التالي للتبارز بالمسدسات.
الآن وقد جرى تدبير كل شيء، لم يبد الأمر سارا كثيرا بالنسبة إلى ستريتر كما بدا له حين غادر لندن. لم يطلب ديفيسون أي تبرير أو تفسير، لكن بالطبع يمكن تبرير هذا بأن ذلك الناقد الغادر يعرف تماما سبب إهانته. ومع ذلك، كان ستريتر يتوقع أنه سيتظاهر بأنه يجهل سبب الإهانة، وأنه سيتجنب لقاءه للاعتذار له حين يعرف السبب.
على أي حال، قرر ستريتر أن يمضي ليلته على أكمل وجه. فترك أصدقاءه ليدبروا أمر العربة وكل ما هو ضروري، فيما ارتدى هو زيه الرسمي وذهب إلى جمع كان قد دعي إليه وسيلتقي فيه بالكثير من الرجال والنساء من أبناء وطنه في أحد الأحياء الراقية في باريس.
وبدت مضيفته مبتهجة للغاية حين رأته.
فقالت: «لقد تأخرت كثيرا، كنت أخشى أن يكون قد وقع لك خطب ما يمنعك من الحضور كلية.»
قال ستريتر: «لا شيء يمكن أن يمنعني من الحضور حين تكون السيدة وودفورد هي مضيفتي!»
أجابته السيدة: «أوه، هذا لطف كبير منك يا سيد ستريتر! لكنني لن أقف هنا وأتحدث إليك هكذا؛ فقد وعدت الآنسة نيفيل بأنني سأقدمك إليها، وهي تتطلع كثيرا إلى لقائك. إنها معجبة كثيرا بك، وقد قرأت كل كتبك.»
قال ستريتر ضاحكا: «كتبي ليست كثيرة إلى هذا الحد، لكنني آمل أن يكون رأيها فيها أفضل من رأيي.»
فردت عليه مضيفته وهي ترشده إلى من ستقدمه إليها: «أوه، جميعنا يعرف تواضع المؤلفين!»
كانت الآنسة نيفيل شابة بارعة الجمال، ولا شك أنها كانت مسرورة جدا للقاء المؤلف الشاب الصاعد.
قالت الآنسة: «كنت أريد لقاءك منذ فترة طويلة، لأتحدث معك بشأن كتبك.»
قال ستريتر: «هذا لطف كبير منك، لكن ربما ينبغي لنا أن نختار موضوعا أكثر نفعا كي نتحدث بشأنه؟» «لست واثقة من هذا. لا شك أنك اعتدت على سماع الأشياء اللطيفة التي يقولها الناس عنك. هذا هو الحظ العاثر الذي يواجه الكثير من المؤلفين.»
أجابها ستريتر: «إنه حظ عاثر.»
ثم أضاف قائلا: «إن ما يحتاجه المؤلف هو شخص يصدقه القول ويخبره برأيه بصراحة.»
قالت الآنسة نيفيل: «آه! هذا شيء آخر لست واثقة جدا بشأنه. أعتقد أن السيدة وودفورد أخبرتك بأنني قرأت كل كتبك، أليس كذلك؟ فهل أضافت إلى قولها ذلك بأنني أمقتها؟»
لم يستطع ستريتر نفسه أن يخفي ما تسبب به ذلك التعليق من شعور بالدهشة. فضحك باضطراب، وقال: «على العكس، لقد جعلتني السيدة وودفورد أعتقد بأنك أحببتها.»
اتكأت الفتاة للخلف في كرسيها، ونظرت إليه بعينين شبه مغلقتين.
وقالت: «السيدة وودفورد لا تعرف ذلك بالطبع. ليس من الوارد أن أخبرها بأنني أمقت كتبك وقد طلبت منها أن تقدمني إليك. لقد سلمت جدلا بأنني أعتزم أن ألقي على مسامعك إطراءات وتعليقات سارة، في حين أنني اعتزمت أن أقول عكس ذلك تماما. لا أحد سيكون في مثل صدمة السيدة وودفورد إذا عرفت أنني سأتحدث معك بكل صراحة، إلا لو كان هذا الشخص أنت.»
قال الشاب بنبرة جادة: «لست مصدوما. فأنا أعرف أن هناك الكثير من أوجه القصور في كتبي.»
قالت الآنسة الشابة الصريحة: «أنت لا تعني ذلك بالطبع؛ لأنك لو كنت تعنيه لما كررت الأخطاء نفسها في كتاب تلو الآخر.»
قال ستريتر: «لا يسع المرء سوى أن يبذل قصارى جهده.» وقد زاد شعوره بالانزعاج رغما عنه؛ ذلك أن المرء لا يستطيع أن يتحدث بلطف مع صديقه الصريح. ثم أردف قائلا: «لا يسع المرء سوى أن يبذل قصارى جهده، كما قال هوبرت الذي شن جده حربا على هاستينجز.»
أجابته الآنسة نيفيل: «بلى، لا يسع المرء سوى أن يبذل قصارى جهده، وإن كان ينبغي لنا أن نتذكر أن الرجل الذي قال هذه الجملة قد قالها قبل أن يهزم مباشرة. يراودني الشعور بأنك لا تبذل قصارى جهدك، وأنك لن تبذل قصارى جهدك حتى يأتي شخص بغيض مثلي ويتحدث معك حديثا صريحا مفيدا.»
قال ستريتر: «ابدئي الحديث الصريح؛ فأنا مستعد وأتوق إلى سماعه.» «هل قرأت المقال النقدي الذي نشر في جريدة آرجوس عن كتابك الأخير؟»
قال ستريتر وهو مذهول بعض الشيء: «هل قرأته؟» وقد جالت بخاطره فكرة اللقاء المرتقب الذي كان قد نسي أمره للحظة. ثم أضاف: «أجل، لقد قرأته؛ وحظيت بشرف لقاء الشخص الذي كتبه هذا المساء.»
انتفضت الآنسة نيفيل في كرسيها حتى إنها كادت تقفز عنه.
وقالت: «لم أكن أريد أن تعرف بذلك! من أخبرك؟ كيف عرفت أنني أكتب مقالات نقدية لجريدة آرجوس؟»
صاح ستريتر وهو مشدوه: «أنت! أتعنين أنك أنت من كتبت ذلك المقال النقدي؟»
غاصت الآنسة نيفيل في كرسيها وهي تتنهد.
وقالت: «هاك، وكما يقول الأمريكيون، لقد كشفني اندفاعي. في النهاية، لم تكن تعلم أنني الكاتبة؟!» «كنت أعتقد أن ديفيسون هو كاتب المقال. لقد عرفت ذلك من أرفع المسئولين.»
قالت الآنسة نيفيل ضاحكة: «مسكين ديفيسون! إنه أحد أفضل أصدقائك وأكثرهم إخلاصا، وأنا كذلك، ولهذا السبب أرى في الحقيقة أنني صديقتك أكثر من السيد ديفيسون؛ ذلك أنني أومن أن باستطاعتك أن تبلي بلاء حسنا، في حين أن السيد ديفيسون غبي بما يكفي ليعتقد بأنك تبلي بلاء حسنا بالفعل.»
وعندما بلغ الحديث بينهما هذا المبلغ، نظر ستريتر في ساعته على عجل.
قالت الآنسة نيفيل: «آه! أرى أن المحادثة لا تروقك. ستتذرع بأن لديك موعدا، وكأن الوقت مناسب لأي موعد في هذه الساعة المبكرة من الصباح.»
قال ستريتر: «لكنني لدي موعد بالفعل؛ ولا بد أن أودعك الآن. لكنني أؤكد لك أنني قد أبصرت حقائق الأمور الآن، وأنني تعلمت الليلة درسا لن أنساه. وآمل أن تمنحيني شرف لقائك مرة أخرى واستكمال هذا الحديث. ربما حينها أخبرك بسبب رحيلي الآن.»
وجد ستريتر أصدقاءه في انتظاره. كان يعلم أن محاولة الالتقاء بديفيسون قبل هذا اللقاء لم تكن بمجدية. فقد كان أمامهم طريق طويل ليقطعوه، وحين وصلوا إلى نقطة اللقاء كانت خيوط النهار الأولى قد لاحت في الأفق، وقد وجدوا الفريق الآخر في انتظارهم.
أخذ كل رجل مكانه والمسدس الذي أعطي إياه. وحين صدحت كلمة «أطلق!» أنزل ستريتر يده إلى جانبه. ووقف ديفيسون ومسدسه لا يزال مشهرا في وجه ستريتر، لكنه لم يطلق النار.
قال ديفيسون: «لماذا لم تطلق النار يا جورج؟»
عنف هارمون صديقه في تلك اللحظة، وقال بأنه يجب ألا يتكلم مع الخصم الآخر إلا من خلال شاهد المبارزة.
قال ديفيسون في نفاد صبر: «أوه! أنا لا أفهم قواعد هذه اللعبة السخيفة!»
تقدم ستريتر خطوة نحو الأمام.
وقال: «إنما أردت أن أمنحك فرصة إطلاق النار علي إذا كنت تريد أن تفعل ذلك، والآن أريد أن أعتذر منك لما بدر مني من تصرف في المقهى. أتصور أنه يمكنني القول بأنني فعلت ما فعلت نتيجة سوء فهم من جانبي، وأنا على استعداد لفعل أي شيء لتعويضك عن ذلك.»
قال ديفيسون: «أوه، لا بأس! لست في حاجة لقول المزيد. أنا راض تماما الآن. لنعد إلى المدينة؛ فالجو بارد نوعا ما هنا.»
قال هارمون وهو يتنهد: «ولا يزال الإنجليز لديهم من الجرأة والوقاحة ما يجعلهم يتحدثون عن المبارزات الفرنسية!»
قرار كراندال
جلس جون كراندال إلى مكتبه وفكر في الموقف. كان الجميع قد غادروا وبقي هو في المكتب وحيدا. كان كراندال يشعر بالتعب والنعاس؛ ولذا فقد كان ميالا لأن يرى الأمور بنظرة متشائمة وكئيبة. ولم يكن ذلك لوجود مشكلة ما في عمله؛ إذ كانت أعماله في الواقع في حالة جيدة حتى هذه اللحظة، لكنها لم تمض قدما بالقدر الكافي، كان هذا هو ما يفكر فيه جون وهو يمعن التفكير في شئونه. كان يجني المال بالطبع، لكن كانت المشكلة أنه لا يجنيه بالسرعة الكافية.
وبينما كان جون يفكر في هذه الأمور، خلد إلى النوم تدريجيا وعلى نحو غير محسوس، وفي أثناء نومه راوده حلم ما . سيكون من السهل كثيرا أن نتظاهر بأن السيدتين اللتين أتيتاه في حلمه دخلتا مكتبه فعلا وأنه ظن أنهما من زبائنه المعتادين أو شيء من هذا القبيل، في حين أن في نهاية القصة - حين أصاب الذهول الجميع - يمكن توضيح الأمر كله بالإفصاح عن حقيقة أن الأمر برمته كان مجرد حلم، لكن بما أن هذه الرواية صادقة وحقيقية، فلن نستخدم أي خدعة، وسنعترف منذ البداية أن جون كان ضحية حلم رآه.
في هذا الحلم، تقدمت منه سيدتان في غاية الجمال. كانت إحداهما ترتدي ثيابا فاخرة وتتزين بمجوهرات براقة. وكانت الأخرى ترتدي ملابس عادية. في البداية، ظن السيد كراندال في حلمه - أو حلم بأنه ظن - أن السيدة التي ترتدي ملابس فاخرة كانت هي الأجمل بينهما. لا شك أنها كانت تتمتع بجاذبية كبيرة، لكن حين اقتربت منه أكثر، تصور جون أن الجزء الأكبر من جمالها كان اصطناعيا. وقال في نفسه إنها ربما كانت تتزين بالمساحيق بطريقة بديعة، لكنها وعلى أي حال كانت تفرط في الزينة.
أما عن الأخرى، فلم يكن من خلاف بشأنها. كانت جميلة حقا، وما حازته من حسن وبهاء كان عطية إلهية وليس بمساعدة صانع المساحيق. وكانت هي من تحدثت أولا.
قالت المرأة في أعذب صوت سمعه: «سيد كراندال، لقد أتينا هنا معا لكي تختار من بيننا. فأيا منا ستختار؟»
قال كراندال وهو مندهش من هذا العرض المتبجح حتى إنه كاد يستيقظ من نومه: «يا إلهي، يا إلهي، ألا تعرفان بأنني متزوج؟»
فأجابته السيدة الشابة الجميلة بأبهى ابتسامة رآها يوما: «أوه، لا يهم ذلك.»
قال السيد كراندال: «لا يهم ذلك؟ لو حظيت بشرف لقاء السيدة كراندال لعرفت بأن هذا مهم كثيرا ... كثيرا جدا في الحقيقة.» «لكننا لسنا ببشر، نحن أرواح.»
فأجاب السيد كراندال: «أوه، أحقا؟ جيد جدا، هذا يحدث فارقا بالتأكيد.» وقد شعر بارتياح كبير؛ ذلك أنه من منطلق المنعطف الذي اتخذته تلك المحادثة بدأ يخشى أن يكون في حضرة اثنتين من كتاب الروايات المعاصرة.
واصلت المتحدثة الأولى حديثها قائلة: «هذه السيدة هي روح الثروة. وإذا اخترتها فستصبح رجلا ثريا قبل أن تموت.»
صاح كراندال: «أوه، حقا! هل أنت واثقة من ذلك؟» «واثقة تماما.» «حسنا، إذن لن أطيل في اتخاذ قراري. سأختارها هي بالطبع.» «لكنك لا تعرف من أنا. ربما حين تعرف، قد ترغب في عكس قرارك.» «أعتقد بأنك روح القوة أو الشهرة أو شيء من هذا القبيل. أنا لست بشخص طموح؛ تحقيق الثروة يكفيني.» «لا، أنا روح الصحة. فكر جيدا قبل أن تتخذ قرارك. لقد رفضني الكثيرون، وبعد ذلك، عرضوا أن يتخلوا عن كل ما يملكون دون جدوى، وذلك في سبيل أن يجتذبوني إليهم.»
قال السيد كراندال في شيء من التردد: «آها، إنك شخص من المبهج جدا أن يكون موجودا في أرجاء المنزل. لكن لم لا يسعني الحصول على كلتيكما؟ كيف تجدين ذلك؟» «أنا آسفة للغاية، لكنني غير مسموح لي أن أعطيك حرية اختيار كلتينا.» «ولم ذلك؟ يسمح للكثيرين أن يختاروا كلتيكما.» «أعلم ذلك، لكن لا يزال علينا أن نتبع التعليمات.» «إذن، إذا كان الأمر كذلك، أعتقد بأنني سأستقر على خياري الأول، ولا أرغب بذلك أن أسيء إليك على الإطلاق. إنني أختار الثروة.»
وحين قال ذلك، تقدمت نحوه السيدة الأخرى وابتسمت ابتسامة تعبر عن الانتصار بينما مدت يدها إليه. أمسك كراندال بيدها فتنهدت الروح الأولى. وحين كانت روح الثروة على وشك أن تتحدث بشيء، اهتز باب المكتب، ورأى السيد جون كراندال الروحين وهما يتلاشيان. فرك عينيه وقال في نفسه: «يا إلهي! كنت نائما. يا له من حلم أشبه بالحقيقة.»
وبينما كان يتثاءب ويمط ذراعيه فوق رأسه، جاءه صوت ارتجاج الباب مخبرا إياه أن هذا الصوت على الأقل لم يكن جزءا من الحلم.
فنهض الرجل من مكانه وفتح الباب.
وقال بينما دخل ذلك الرجل القوي البنية: «مرحبا سيد بوليون. لقد تأخرت عن موعدك.» «وأنت أيضا. لا بد أنك كنت منهمكا في حساباتك، وإلا سمعتني قبل ذلك. ظننت أنني لا بد أن أهشم الباب كي تفتح لي.» «أنت تعلم أن رجل الشرطة يحاول أحيانا أن يفتح الباب وظننت في البداية أنه هو. هلا جلست.» «أشكرك! لكن لا بأس. هل أنت مشغول الليلة؟» «لقد انتهيت لتوي من العمل.» «حسنا، كيف تسير الأمور؟» «أوه، ببطء كالمعتاد. الأمور تسير ببطء؛ لأننا ليس لدينا ما يكفي من المرافق، لكننا نؤدي كل العمل بقدر ما نستطيع.» «وهل تجني ثمار ما تؤدي من عمل؟» «بكل تأكيد. إنني لست بفاعل خير كما تعرف.» «لا، لم أفترض أنك كذلك. والآن، انظر يا كراندال، أعتقد بأن عملك واعد وأنه سينمو ويزدهر ليصبح شركة كبيرة إذا ما جرى توسيعه.» «أعلم ذلك. لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ من الناحية العملية، ليس لدي رأس مال يمكنني من توسيع عملي، ولا أريد أن أرهن ما لدي وأدفع نسبة فائدة كبيرة مع احتمالية أن نواجه أزمة تجارية في لحظة حاسمة فأخسر حينها كل شيء.» «صحيح تماما؛ صحيح، وهو مبدأ آمن وسليم. وفي الواقع، هذا هو ما أتيتك بشأنه. كنت أراقبك أنت وهذا المصنع عن كثب منذ فترة. والآن، إذا كنت تريد رأس مال فسأمدك به شريطة أن يأتي محاسب من جهتي ويفحص سجلاتك ويجد أن كل شيء يبشر بعائد مجز لتوسيع عملك. إنني أثق بالطبع فيما قلته عن أن الأمور تسير على ما يرام، لكن العمل يبقى عملا كما تعلم، وبالإضافة إلى ذلك، فإنني أريد أن أحصل على رأي خبير بشأن مدى التوسع الذي يمكن أن نقوم به. أعتقد أن بإمكانك بكل سهولة أن تتدبر أمر مصنع أكبر من هذا بعشرة أو عشرين ضعفا.»
قال السيد كراندال: «إلى حد كبير.» «إذن ما رأيك في أن أعرج عليك غدا في التاسعة ومعي المحاسب الذي حدثتك عنه؟» «لا بأس بذلك.»
وسار السيد جون كراندال إلى منزله في تلك الليلة وهو في غاية الابتهاج. •••
قال المريض بصوت واهن كثيرا: «حسنا أيها الطبيب، ماذا ترى!» «كما قلت من قبل. سيتحتم عليك أن تأخذ قسطا من الراحة. وكما تعلم، فقد تنبأت بهذا التداعي.» «ألا يمكنك أن تعطيني شيئا يحسن من حالتي مؤقتا ؟ من الضروري بدرجة كبيرة أن أظل في العمل هذه الفترة.» «ذلك ضروري بالطبع. لقد ظلت الحال على هذا المنوال طوال السنوات الخمس المنصرمة. أنسيت أنك في تلك الفترة كنت تحسن من حالتك عدة مرات لفترات مؤقتة. والآن، سأضعك قيد الملاحظة حتى يمكنك السفر في غضون عدة أيام، وأصر على أن تكون رحلتك بحرية أو أن تقضي وقتا هادئا في مكان ما على هذه القارة. سيتحتم عليك أن تتوقف كلية عن التفكير في شئون العمل. لا مجال لأي حجج أو استثناءات هذه المرة.» «اسمعني أيها الطبيب. لا أعرف كيف سأغادر في الوقت الحالي. لقد ساءت حالتي على هذا النحو لمرات كثيرة من قبل. أنت تعلم هذا. وأنا أكدح كثيرا وحين أعود إلى مكتبي يمكنني أن أتعامل مع الأمور بسهولة أكبر. وكما تعلم، نحن على وشك إبرام صفقة كبيرة مع أمريكا الجنوبية وأشعر بقلق شديد حيال الأمر. إنه مشروع جديد، كما تعلم.» «أعتقد بأنك تستطيع أن تحرر شيكا بمبلغ كبير من المال يا سيد كراندال.» «أجل، أستطيع. إذا كانت الأموال ستساعد في رأب الصدع، فسأتدبر ما يلزم.» «في الواقع، لا يستطيع المال فعل ذلك. ما أردت قوله هو أنك إذا بالغت في السحب من حسابك بقدر ما يستطيع البند أن يقدم لك - بدلا من زيادة حجم إيداعاتك - فهل ستستغرب لو رفض شيك لك؟» «لا، لن أستغرب ذلك.» «إذن، هذه هي حالتك الجسدية. لقد أفرطت في السحب من حساب صحتك. ينبغي لك أن تجري إيداعا. لا بد أن تأخذ إجازة.» «في أي وقت آخر أيها الطبيب. سآخذ إجازة بالتأكيد، لكن بمجرد أن ننتهي من إبرام تلك الصفقة. أعدك بشرفي أنني سأفعل. لست في حاجة لأن تهز رأسك رافضا. إن أخذ إجازة الآن لن يساعد إلا في تفاقم الأمر. لن أنعم بدقيقة واحدة من السكينة وراحة البال وأنا أعرف أن مشروع أمريكا الجنوبية قد يكون عرضة للفشل. سيستبد بي القلق حد الموت.» •••
كانت جنازة السيد كراندال بلا شك هي أحد أكثر المشاهد المهيبة التي شهدتها المدينة حتى اليوم. وقد تحدثت الصحف كلها عن صفات رجل الصناعة الراحل، الذي كان ازدهار عمله مؤشرا يقاس به ازدهار المدينة نفسها. كما تحدث الوزير المفوه عن الأقدار الإلهية الغامضة في اقتطاف رجل في أوج عزه وذروة نفعه وغنائه.
خذلان برادلي
يضحك المتزلج بخفة وينزلق،
غير مدرك أن تحت الجليد،
الذي ينحت فيه بزلاجته،
جثة متجمدة ترقد في صمت وتنزلق. •••
تحدق الجثة إليه وهو يتزلج فوقها،
وأصابعها الزرقاء الباردة المتيبسة
تتحرك في إثره وتتبعه.
تهيم بقربه وتهيم بعيدا.
قصيدة مجهولة
قال برادلي: «لو أني أمتلك الشجاعة.» بينما كان ينظر من فوق الحاجز الحجري لضفة نهر التيمز إلى المياه المظلمة وهي تتلألأ لوهلة تحت بريق مصباح الغاز ثم تختفي في ظلام الليل وتعود لتتلألأ من جديد في أسفل النهر.
واستطرد يتمتم لنفسه: «إنني على الأرجح سأكافح من أجل الخروج مرة أخرى في اللحظة نفسها التي سأقفز فيها.» ثم استدرك قائلا: «لكن إذا لم تأت المساعدة، فسينتهي كل شيء في غضون دقيقة. أو ربما دقيقتين. أقسم أن تلكما الدقيقتين ستبدوان وكأنهما دهر. وخلالهما سأرى مئات الطرق لكسب القوت، لو تمكنت فقط من الخروج من المياه مرة أخرى. فلم لا أستطيع الآن أن أجد طريقة لكسب قوتي بينما لا أزال خارج المياه. لقد انتحر والدي، فلم لا أقدم أنا على فعل ذلك؟ أعتقد أن الأمر متوارث في العائلة. يبدو أن هناك لحظة يكون فيها الانتحار هو المخرج الوحيد. ترى هل تردد قبل انتحاره؟ إنني جبان، وتلك هي المشكلة.»
وبعد لحظة من التردد تسلق الرجل إلى قمة الجدار الحجري ثم توقف مرة أخرى. ثم نظر إلى مياه النهر المظلمة وهو يرتعد.
وصاح بصوت عال: «سأفعلها.» وكان على وشك أن يقفز حين أمسكت به يد من ذراعه وجاءه صوت يقول: «ماذا ستفعل؟»
وفي ضوء مصباح الغاز رأى برادلي وجه رجل بدا مألوفا له، ورغم أنه تساءل في نفسه سريعا: «أين رأيت هذا الرجل من قبل؟» فإنه لم يستطع أن يتذكر.
فأجاب برادلي متجهما: «لا شيء.»
فرد الرجل: «هذا صحيح. لم أكن لأفعل شيئا من هذا القبيل لو كنت مكانك.» «بالطبع لم تكن لتفعل ذلك. أنت تملك كل ما ينقصني؛ المأكل، والملبس، والمأوى. لم تكن لتفعل ذلك بكل تأكيد. ما الذي قد يدفعك إلى فعل ذلك؟» «ما الذي قد يدفعك أنت إلى فعل ذلك، ما دمنا تطرقنا إلى هذا الأمر؟» «لأن عشرة شلنات تقف بيني وبين حصولي على وظيفة. هذا هو السبب إذا كنت تريد أن تعرف. إن أجرة السكة الحديد ثمانية شلنات، وشلن لأشتري شيئا آكله الليلة، وشلن آخر أشتري به شيئا آكله في الصباح. لكنني ليس معي عشرة شلنات. هذا هو السبب.» «إذا أعطيتك عشرة شلنات، فما الذي يضمن لي أنك لن تذهب وتشتري بها شرابا تثمل به؟» «ليس كذلك على الإطلاق. إنني لم أطلب منك عشرة شلنات، ولم أطلب منك شلنا واحدا حتى. كل ما هنالك أنني أجبتك عن سؤالك.» «هذا صحيح. سأعطيك جنيها إذا قبلت به، وبذلك إذا أنفقت نصفه في الترويح عن نفسك، فسيتبقى لك ما يكفي لتحصل على الوظيفة. ما هي تلك الوظيفة؟» «إنني أعمل نجارا.» «إذن لك الجنيه.» «سآخذه بكل سرور. لكن، دعني أذكرك، أنا لست بمتسول. سأقبل بالجنيه إذا أعطيتني عنوانك، حتى أتمكن من رده إليك حين أجنيه من عملي.»
وعند هذا كان برادلي قد نزل إلى الرصيف. وضحك الرجل الآخر ضحكة هادئة. «لا يمكنني أن أوافق على ذلك. يسرني أن تأخذ المال. ويمكنني أن أزيدك إذا أردت. إنما عرضت عليك ضعف المبلغ من أجل تغطية تكاليف أي شيء لم تذكره.» «لن آخذ المال، إلا إذا سمحت لي أن أعيده إليك.» «أنا واثق تمام الثقة من صدقك. ولو لم أكن واثقا فيك، لما عرضت عليك المال. لا يمكنني أن أعطيك عنواني، أو بالأحرى، لن أعطيك عنواني. أما إذا دفعت الجنيه في عمل خيري أو أعطيته إلى شخص محتاج، فسأكون راضيا تماما. إنك إذا أعطيته إلى الشخص المناسب وطلبت منه أن يعطيه هو أيضا إلى الشخص المناسب، فإن هذا الجنيه سيكون ذا نفع أكبر مما لو كان في جيبي أو لو أنفقته أنا بطرقي المعتادة.» «لكن كيف تعرف أنني سأفعل ذلك؟» «إنني شخص يجيد الحكم على الناس. وأنا واثق من أنك ستفعل ما أقول.» «سآخذ المال إذن. وأشك إن كان في لندن كلها من يحتاج هذا المال الليلة أكثر من حاجتي إليه.»
ثم راح برادلي ينظر إلى الرجل الذي أصبح صديقه وهو يتوارى عن نظره بعيدا.
وقال في نفسه: «لقد رأيت هذا الرجل في مكان ما من قبل.» لكنه كان مخطئا في ذلك. إنه لم يره من قبل. •••
إن الثروة موزعة على نحو متفاوت وغير منصف للغاية. كلنا يقر بهذا، لكن قلة منا فقط من يتفقون على سبل إصلاح ذلك. لقد ناضل أفضل المفكرين في هذا القرن من أجل فهم هذه المسألة، لكن دون جدوى. تبدو آية «لأن الفقراء معكم في كل حين.» حقيقية وصحيحة الآن كما كانت قبل 1800 عام. وحين يستبد الشك بالكثير من الناس، فربما يكون من الراحة والسلوى أن تقابل رجالا يتمتعون بيقين كبير فيما يتعلق بالقضية وسبل علاجها. وتقابل هذا الجمع من الرجال في غرفة خلفية على مسافة من ميدان سوهو.
قال رئيس الجلسة بينما كان النجار يأخذ مكانه بعد أن أغلقت الأبواب: «نحن في انتظارك يا برادلي.» وكان برادلي يبدو بمظهر أفضل مما كان عليه قبل عام على ضفة نهر التيمز. «أعلم أنني تأخرت، لكن لا حيلة لي في ذلك. إنهم يستعجلون الكثير من الأمور في أرض المعارض. والوقت ضيق الآن، وقد بدءوا يشعرون بالقلق خشية ألا يكون كل شيء جاهزا في موعده.»
قال رجل من الجمع الصغير: «هذا صحيح. إننا عبيد وينبغي أن نصل مبكرا أو نغادر متأخرا حسب ما يراه أسيادنا المزعومون.»
قال برادلي مبتسما وهو يجلس: «أوه، هناك أجر إضافي.»
قال رئيس الجلسة وهو يقرع على المكتب: «أيها الرفاق، سنتطرق الآن إلى أمر الأعمال. لقد انعقدت اللجنة السرية واتخذت قرارا. بعد سحب القرعة ستكون مهمتي هي إبلاغ الرجل المختار بتفاصيل المهمة. ومن المستحسن أن يعرف قلة فقط - حتى من بيننا - من هو هذا الرجل الذي سحب الورقة الموسومة. وربما يكون من حسن حظي أن أكون الرجل المختار. إن أحد تلك الأوراق يحمل علامة خطين متصالبين. وأيا كان الرجل الذي سيسحب تلك الورقة، فإنه سيأتي إلي في غرفتي في غضون يومين. وينبغي أن يأتي وحده. لقد أصدرت أوامري إلى اللجنة بألا ينظر أحد في ورقته إلا بعد أن يغادر هذه الغرفة، وأن النظر في الورقة لا بد أن يتم سرا. وكل رجل ملتزم بقسمه ألا يخبر أحدا في أي وقت سواء كان هو الرجل المختار أو لا.»
وضعت الأوراق في قبعة وسحب كل رجل في الغرفة ورقة. وضع رئيس الجلسة ورقته في جيبه، وهكذا فعل الآخرون. ثم فتحت الأبواب وذهب كل رجل إلى منزله، إن كان لديه منزل.
وفي مساء اليوم التالي، عرج برادلي على غرفة رئيس الجلسة وقال له: «ها هي الورقة الموسومة قد سحبتها ليلة أمس.» •••
كان مبنى المعرض يزهو بالكثير من الرايات ويصدح بأصوات إحدى الفرق الموسيقية. وكانت الآلة التي لن تكف عن العمل لمدة ستة أشهر لا تزال ساكنة؛ ذلك أن صاحب السمو كان سيفتتح تشغيلها في غضون ساعة. وكان صاحب السمو وحاشيته لم يصلا بعد، لكن المبنى كان يعج بحشد من الضيوف المدعوين المتأنقين، الذين كانوا هم الأفضل في البلاد من حيث الشهرة والألقاب والثروة. وتحت المنصة الكبيرة التي من المقرر أن يقف عليها صاحب السمو والضيوف الرفيعو الشأن ليلقوا كلماتهم والتي منها سيضغط صاحب السمو زر التشغيل الكهربائي، كان برادلي يسير في الأرجاء مضطربا، وقد اعتلته النظرة نفسها التي كانت على وجهه في تلك الليلة التي فكر فيها أن يقفز في نهر التيمز. كانت المنصة من الأسفل عبارة عن شبكة كثيفة ومتداخلة من العوارض والدعامات. وكان صندوق الأدوات الخشبية الخاص ببرادلي موضوعا على الأرض بجوار أحد عروق الخشب. وقد أتى رئيس العمال وراح يضرب دعامة هنا أو عارضة هناك.
وقال مخاطبا برادلي: «كل شيء على ما يرام. لن تكون هناك مشكلة، حتى لو أن هذه المنصة نصبت على عجل، وعلى الرغم من الحمل الثقيل الذي ستحمله الليلة.»
لم يكن برادلي واثقا كثيرا بهذا الشأن، لكنه لم ينطق ببنت شفة. وحين تركه رئيس العمال وحده، فتح بحذر غطاء صندوق أداوته وأزاح مئزره الذي كان يغطي شيئا تحته. كان ذلك الشيء صندوقا صغيرا يحوي جهازا به ساعة ومطرقة صغيرة مرفوعة تتدلى على غطاء نحاسي صغير وكأنها سيف دموقليس. ألقى برادلي بالمئزر عليه مرة أخرى وأغلق غطاء الصندوق وجلس إلى أحد عروق الخشب وطوى ذراعيه منتظرا.
ثم سرعان ما جاء صوت هتاف هائل وبدأت الفرقة الموسيقية عزفها. قال برادلي في نفسه وهو يطبق شفتيه بإحكام أكبر: «إنه آت.» ثم صاح به رجل شرطة، وهو يطل برأسه من الباب الخشبي الصغير أسفل المنصة، قائلا: «أيها النجار، تعال إلى هنا بسرعة. يمكنك أن تحظى برؤية أوضح لصاحب السمو وهو يسير في الممر.» سار برادلي إلى الفتحة وحدق إلى الموكب المهيب وهو يتجه نحوه. ثم فجأة، أمسك بذراع الشرطي كالمنجل. «من هو ذلك الرجل الذي يتقدم الموكب في ردائه المميز؟» «ألا تعرفه؟ إنه صاحب السمو.»
راح برادلي يلهث. أدرك أن صاحب السمو هو الرجل الذي قابله عند ضفة النهر.
فقال لرجل الشرطة: «شكرا لك.» ونظر إليه الشرطي في فضول. ثم دلف إلى تحت المنصة الكبيرة بين الدعامات والعوارض واستند إلى أحد العروق الخشبية مقطبا جبينه.
وبعد لحظات قليلة خطا نحو صندوقه، وأزال المئزر وأخرج الآلة بحذر كبير. وبهزة سريعة أزال المطرقة الصغيرة وألقى بها بعيدا عنه. راحت الآلة تطن من الداخل للحظة وكأنها وقت يشارف على الانتهاء. ثم فتح الصندوق الصغير وهزه فأخرج منه على المئزر مادة وكأنها نشارة خشب جافة. ثم بدا متحيرا للحظة ما عساه أن يفعل بها. وأخيرا أخذها إلى الخارج ونثرها على تقاطع للسكة الحديد ينمو عليه العشب. ثم عاد برادلي إلى صندوق عدته وأخرج منه إزميلا وراح يتحسس حافته بإبهامه وهو متجهم. •••
أقر الجميع أن صاحب السمو لم يلق في حياته من قبل خطابا أبلغ من الذي ألقاه أثناء حدث افتتاح ذلك المعرض. كان صاحب السمو قد ألمح بقدر يسير إلى موضوع الرخاء المنقطع النظير في البلاد، الذي كانت إحدى دلالاته تلك المجموعة الفنية الرائعة التي تحويها تلك الجدران. كما أشار إلى جو الاطمئنان والرضا العام الذي ساد بين الطبقات التي يرجع الفضل إلى ما أنجزته أياديهم في تلك الأمثلة الرائعة المعروضة للمهارة البشرية. وقد عبر صاحب السمو عن امتنانه للسلام والطمأنينة التي سادت على الأرض السعيدة وعن أمله في استمرارهما. ثم كان هناك عدد لا بأس به من اللمسات الفكاهية في حديثه، ومثل هذه اللمسات تكون باعثة كثيرا على السرور حين تأتي من أناس يتقلدون مناصب رفيعة. وفي الواقع، قال رئيس الجلسة في الاجتماع الذي انعقد بعد ذلك (وانعقد سرا بالطبع) إن الرجل الذي كتب خطاب صاحب السمو قد تفوق على نفسه. •••
نشرت الصحف تقارير كاملة ومفصلة عن افتتاح المعرض في صباح اليوم التالي لذلك، وربما لأن تلك المقالات المصورة كانت تحتل مساحة كبيرة في الصحف، لم تكن هناك مساحة كبيرة للإعلان عن الرجل الذي انتحر. لم تقل الصحف أين وجدت الجثة، إلا أنها كانت بالقرب من مبنى المعرض، ولم يعرف صاحب السمو قط أنه ألقى بذلك الخطاب الرائع مباشرة على جثة رجل ميت.
تحول رينجامي
جلس السيد جون رينجامي - المؤلف - في مكتبته يحدق في تراخ وفتور إلى خارج النافذة. كان المنظر أمامه مبهجا للغاية وباعثا على السرور، وأبرزت شمس الصباح الباكر خضرة الأشجار الوارفة على نحو لافت للغاية. كان السيد رينجامي رجلا كثير الانشغال فيما مضى، أما الآن، فلعله يأخذ الحياة على محمل هين - إن هو أراد هذا؛ ذلك أن كتبا قليلة قد تناولت النجاح الباهر لآخر أعماله. كان السيد رينجامي يفكر في هذا الشأن حين فتح الباب ودخل من حجرة مكتبه الملحقة بالمكتبة شاب طويل البنية يبدو عليه أنه مثقف. وضع الشاب على الطاولة مجموعة من الخطابات كانت في يده، وبعد أن سحب كرسيا، فتح دفتر ملاحظات فارغا كان يحوي بين طياته قلما رصاصا كلا طرفيه مشحوذان.
قال المؤلف وهو يقرب كرسيه أيضا من الطاولة: «صباح الخير سيد سكريفر.» وقد تنهد المؤلف أثناء فعله ذلك؛ ذلك أن المشهد الربيعي الخلاب من نافذة المكتبة كان أكثر جاذبية من مهمة الرد على عدد كبير من المراسلات. «هل لدينا الكثير من الرسائل اليوم يا سكريفر؟!» «هناك الكثير فعلا يا سيدي. لكن أغلبها مجرد رسائل صغيرة تتطلب توقعيك.» «الطوابع مرفقة بها، أليس كذلك؟» «معظمها كذلك يا سيدي، وتلك التي لم يكن مرفقا بها الطوابع ألقيتها في سلة المهملات.» «أحسنت صنعا. أما عن التوقيعات، فيمكنك أن تعمل عليها بعد ظهر اليوم، إذا كان لديك متسع من الوقت.» «لقد عملت عليها بالفعل يا سيدي. فحتى أقرب أصدقائك لا يستطيع أن يفرق بين نسختي من توقيعك والنسخة الحقيقية منه، وهو أمر أمتدح نفسي بشأنه.»
وبينما كان يقول جملته تلك، دفع الشاب نحو المؤلف برسالة كتبها هو، فنظر إليها السيد رينجامي بعين ناقدة. «جيد جدا يا سكريفر، جيد جدا حقا. في الواقع، إن استدعيت إلى منصة الشهود فلست بواثق من قدرتي على القسم بأن هذا التوقيع ليس توقيعي. ما الذي ذكرته في متن الرسالة عن الأفكار والآراء الخاصة؟ آمل ألا تكتب عني رأيا خاصا. حذار يا فتى، فأنا لا أريد للصحف أن تحصل على أي شيء يمكن أن يحولوه إلى أضحوكة أو سخرية. إنهم يميلون كثيرا ليفعلوا ذلك إذا ما سنحت لهم نصف فرصة.»
قال الشاب: «أوه، أعتقد أنك ستجد أن لا بأس بذلك. إلا أنني فكرت أن من الأفضل أن أطرح الرسالة عليك قبل أن أرسلها. إن السيدة صاحبة الرسالة أنشأت «نادي رينجامي» في كالامازو، وهي تطلب منك أن تكتب لها رأيا خاصا أو فكرة خاصة بخط يدك حتى يمكن لهم أن يتخذوها شعارا لناديهم. ولذا، كتبت لها جملة «ينبغي لكل فئات العمال أن تحصل على أجور متساوية.» وإذا لم تكن هذه الجملة مناسبة لك، فيمكنني أن أغيرها بسهولة.» «أوه ، إنها تناسبني تماما، إنها ممتازة.» «إنها بالطبع هراء شنيع، لكنني ظننت أن العقلية الأنثوية ستسر بمثل هذه الجملة.» «شنيع، ماذا قلت يا سيد سكريفر؟» «حسن، إنه شيء على سبيل الترضية، إذا كان من الأنسب وصفه بذلك. أنت بالطبع لا تؤمن بأي من تلك التفاهات.»
عبس وجه السيد جونسون رينجامي وهو ينظر إلى سكرتيره.
ثم قال في النهاية: «لا أعتقد بأنني أفهمك.» «حسن، انظر يا سيد رينجامي، إنني لا أتحدث الآن بصفتي موظفا يتحدث إلى رب عمله، وإنما ...» «إنني لا أتحدث معك بهذه الصفة يا سكريفر. إن فكرة رب العمل وموظفه ليست مطروحة بيننا. ينبغي ألا تكون مثل هذه الفكرة مطروحة بين أي شخصين. فالبشر جميعا أحرار ومتساوون.» «إنهم كذلك نظريا، ومن وجهة نظري أيضا، كما يمكنني القول إذا أردت أن أجعل الجملة معبرة أكثر.» «يا سكريفر، لا يمكنني أن أحييك على لغتك المعبرة، إن جاز لي أن أسميها كذلك. لكننا نجنح عن حديثنا. كنت ستقول إنك تتحدث بصفتك ... حسن، أكمل.» «كنت سأقول إنني أتحدث إليك بصفتي رجلا عاقلا يتحدث إلى رجل عاقل مثله، من دون لغو أو تضليل، ألا تعتقد أنه محض هراء أن يعتقد المرء بأن كل فئات العمال ينبغي أن تحصل على أجور متساوية. أنتحدث بصراحة الآن؟»
أرجع المؤلف ظهره إلى الوراء في كرسيه وراح يحدق في سكرتيره. ثم قال في النهاية: «عزيزي سكريفر، لا يمكنك أن تعني حقا ما تقول. أنت تعلم أنني أومن أن كل فئات العمال ينبغي أن تحصل على أجور متساوية تماما. عامل المنجم، والحداد، والواعظ، وموظف البريد، والمؤلف، والناشر، وصاحب المطبعة ... أجل، ينبغي أن يحصل الرجل الذي ينظف المكتب أو الذي يلمع الأحذية على أجور متساوية إذا كان للعالم أن يسير بالطريقة التي ينبغي له أن يسير بها، أو التي سيسير بها فعلا. ومن المؤكد يا سكريفر أنك لم تقرأ كتابي ...» «أقرؤه؟ أحقا! لقد كتبته.» «هل كتبته؟ أحقا! لطالما كنت أعتقد أنني أنا المؤلف ...» «هذا صحيح فعلا. لكن ألم أدونه كله بالاختزال، وأضرب بجد على الآلة الكاتبة، ألم أراجع معك مسودة الطبع. ومع ذلك، تسألني إن كنت قد قرأت الكتاب؟!» «أوه، أجل، أنت محق تماما في هذا، أرى ما ترمي إليه. لكنك إذا أوليت اهتماما للحجج المذكورة في الكتاب بقدر ما أوليت إلى عملية نسخه الآلية، فأعتقد أنك لم تكن لتسأل إن كنت أعني حقا ما قلت.» «أعتقد بأنك - بطريقة ما - كنت تعني ذلك كله نظريا. ربما، لكن ...» «يا سيدي العزيز، اسمح لي أن أقول إن النظرية التي لا تتسم بأنها عملية ليست بنظرية من الأساس. إن النجاح الكبير لكتاب «النظر للأعلى» يعود إلى حقيقة أنه كتاب عملي للغاية. إن إضفاء الطابع القومي على كل شيء ليس مجرد شأن نظري وحسب. إن الأفكار التي ينادي بها الكتاب يمكن أن تراها واقعا أمامك في أي وقت. انظر إلى الجيش، وانظر إلى مكتب البريد.» «أوه، لا بأس بذلك، أن تنظر إلى الأشياء في مجملها. لكن لنتطرق إلى التفاصيل العملية. فالتفاصيل هي المحك الحقيقي لأي نظام. لنتناول كتاب «النظر للأعلى». هل لي أن أسألك كم جنيت من هذا الكتاب حتى هذه اللحظة؟» «أوه، لا أعرف تحديدا. في حدود 20 ألف جنيه إسترليني.» «جيد جدا. والآن لننظر إلى الطريقة التي أنتج بها هذا الكتاب. كنت تذرع هذه الغرفة جيئة وذهابا ويدك خلف ظهرك، وكنت تملي علي الفصل تلو الآخر، وجلست أنا إلى هذه الطاولة أدونه بالاختزال. ثم كنت تخرج أنت وتتنسم الهواء بينما كنت أضرب بجد على الآلة الكاتبة.» «أتمنى أن تتوقف عن قول «أضرب بجد» هذه يا سكريفر. لقد استخدمت هذه الكلمة مرتين حتى الآن.» «لا بأس، خطأ مطبعي ... ذلك أن «أضرب بجد» تفهم بأنها «أعمل بمهارة». ثم كنت تمر بعينيك سريعا على الصفحات المطبوعة على الآلة الكاتبة، وكنت أمسح أنا وأضيف إليها، ثم أخرج في النهاية بنسخة مثالية. والآن لقد عملت بجد مثلك - وربما أكثر منك - لكن نجاح هذا الكتاب يعود إليك وحدك، وليس لي شيء فيه. ولذا، من الإنصاف جدا أن تحصل أنت على مبلغ العشرين ألف جنيه إسترليني وأحصل أنا على جنيهين أسبوعيا. أليس كذلك؟ إنني أتحدث كرجل عاقل.» «وأنا أتحدث أيضا كرجل عاقل تماما وأقول إن هذا ليس من الإنصاف في شيء. لو كان العالم يسير بقواعد سليمة ومنصفة لكان أجر المؤلف هو مثل أجر سكرتيره بالضبط.»
أجابه السكرتير: «أوه، حسنا، الآن وقد تطرقت إلى هذا الأمر، فليس لدي ما أضيفه.»
ضحك المؤلف، وكرس الرجلان طاقاتهما ليفرغا من المراسلات. وحين انتهوا من المهمة، قال سكريفر: «أريد أن أحصل على إجازة لعدة أيام يا سيد رينجامي. فهناك أعمال خاصة علي أن أوليها اهتمامي.» «متى يمكنك أن تعود لتباشر العمل؟» «سأرسل إليك في صباح يوم الخميس.» «حسن إذن. لا تتأخر عن يوم الخميس. أعتقد بأنني سآخذ إجازة أنا أيضا لبضعة أيام.» •••
وفي صباح يوم الخميس، جلس السيد جونسون رينجامي في مكتبته وراح يطل من النافذة، لكن اليوم لم يكن باعثا على البهجة كآخر مرة نظر فيها إلى التلال والغابات والحقول الخضراء. ذلك أن عاصفة ربيعية هوجاء ضربت المظهر الطبيعي أمامه، وراحت قطرات المطر تضرب على النافذة. انتظر السيد رينجامي لبعض الوقت ثم فتح باب مكتبه ونظر بداخلها. كانت الغرفة الصغيرة خالية. دق الجرس، فحضرت إليه الخادمة. «ألم يجئ السيد سكريفر بعد؟» «لا يا سيدي، لم يجئ بعد.» «ربما منعه سقوط المطر.» «قال السيد سكريفر إنك حين تعود ستجد خطابا على الطاولة بانتظارك.» «آه، هذا هو إذن. شكرا لك. يمكنك الانصراف.»
فتح المؤلف الخطاب وقرأ التالي:
عزيزي السيد رينجامي، لقد أقنعتني تماما حجتك في ذلك اليوم بأنك محق، وأنني كنت مخطئا (تمتم المؤلف في نفسه: «آه! كنت أعرف أنها ستقنعك».) ومن ثم، فقد اتخذت خطوة نحو تطبيق نظرياتك ووضعها حيز التنفيذ. إن النظام يعد قديما في الحياة التجارية، لكنه لا يزال حديثا في تطبيقه الحالي، حتى إنني أخشى أن الأمر لن يجد نصيرا له سواك أنت، وأثق أنني الآن وأنا بعيد كل البعد (صاح المؤلف: «يا إلهي! ماذا يعني هذا؟») أنك ستبرهن لكل المشككين أنني تصرفت بناء على المبادئ التي ستحكم العالم حين توضع نظريات كتاب «النظر للأعلى» موضع التطبيق. وخشية أن الجميع لن يوافقوك الرأي في الوقت الراهن، فقد اتخذت الحيطة وذهبت إلى ذلك البلد غير المكتشف، الذي لا توجد فيه معاهدة تسليم مجرمين تجبر المسافر على العودة. لقد ذهبت إلى إسبانيا المشمسة. وقد قلت إنك لا تستطيع أن تفرق بين تقليدي لتوقيعك وتوقيعك الحقيقي. ولم يستطع صراف البنك حتى أن يفرق بينهما. لقد مكنني تقليدي الدقيق لتوقيعك من سحب مبلغ 10 آلاف جينه إسترليني من حسابك البنكي. إنها نصف الأرباح كما تعلم. ويمكنك أن ترسل المستحقات المتراكمة مستقبلا على عنوان بوست ريستانت، مدريد، إسبانيا؛ ذلك أن الكتاب سيواصل مبيعاته.
آدم سكريفر
وفي الحال وضع السيد رينجامي القضية بين أيدي المحققين، حيث لا تزال على حالها.
نزيل غامض
عندما نزل جون أرمسترونج من القطار في محطة يونيون في تورنتو بكندا وسار إلى خارجها، اقترب منه صبي صغير. «أتريد أن أحمل حقيبة سفرك عنك يا سيدي؟»
قال السيد أرمسترونج: «لا، شكرا لك.» «هل أحملها مقابل عشر سنتات يا سيدي؟» «لا.» «هل أحملها مقابل خمس سنتات يا سيدي؟» «هلا ابتعدت عن طريقي؟»
ابتعد الصبي عن طريقه، وحمل جون أرمسترونج حقيبة سفره بنفسه.
كان في الحقيبة نصف مليون دولار تقريبا؛ ولذا ظن السيد أرمسترونج أن من الأفضل أن يحمل هو الحقيبة لنفسه. •••
في نافذة بارزة لأحد أجمل البيوت في روتشستر بمدينة نيويورك، جلست الآنسة ألما تيمبل تنتظر والدها لدى عودته من البنك. كان السيد هوراس تيمبل أحد الرجال الأقوياء ماديا في روتشستر، وكان يعمل رئيس بنك تيمبل الوطني. ورغم أن الوقت كان لا يزال في بداية شهر ديسمبر، كان الشتاء ينذر بأنه سيكون هو الأقسى منذ عدة سنوات، فكان الجليد يغطي الشوارع بطبقات صلبة، لكنه لم يكن بالصلابة الكافية ليسمح للناس بالتنقل باستخدام زلاجة الجليد. كان الجو في غاية البرودة. وفجأة، ابتعدت الآنسة ألما عن النافذة وقد تورد وجهها سريعا، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن سببه مجيء والدها . كان هناك شاب أنيق يتقافز على الدرج في خفة، ثم ضغط الشاب على الزر الكهربائي عند الباب. وحين دخل الشاب إلى الحجرة بعد لحظة، كانت الآنسة ألما تجلس بالقرب من نيران المدفأة في رزانة. تقدم الشاب نحوها بسرعة، وأخذ كلتا يديها الممدودتين في يديه. ثم حياها برقة وحنان، وهو ينظر خفية في جميع أنحاء الغرفة، حياها بطريقة لا يرى راوي هذه الأحداث أنه ملزم بسرد تفاصيلها. لكن، ربما يكون جديرا بالذكر أن المقاومة التي ظنت الآنسة الشابة أنها ملائمة لهذا الموقف كانت مقاومة واهنة وغير ذات جدوى، وهكذا نفهم - منذ البداية - أن هذا الشاب وتلك الشابة كانا على درجة كبيرة من التفاهم فيما بينهما.
بدأ الشاب حديثه قائلا: «تبدين متفاجئة لرؤيتي.» «في الواقع يا والتر، لقد فهمت أنك غادرت آخر مرة بعد أن أفصحت عن عزمك في حماسة كبيرة بأن ظلك لن يطأ عتبتنا مرة أخرى.» «حسنا، أنت تعرفين يا عزيزتي أنني أكون متسرعا في بعض الأحيان؛ وفي الواقع، الطقس غائم كثيرا هذه الأيام، وبأي حال، لن يحدث ذلك فارقا إن أتيت ووطئ ظلي عتبة بابكم مرة أخرى، ففكرت أن آتي وأجازف بذلك.» «لكنني فهمت أيضا أن أبي جعلك تقطع وعدا، أو أنك قطعت الوعد من تلقاء نفسك، بألا تراني مرة أخرى من دون إذن منه؟» «ليس من تلقاء نفسي. بل كان الأمر بعيدا كل البعد عن ذلك. كنت مكرها، أؤكد لك. لكنني لم آت لكي أراك. أنت مخطئة في ذلك. إن رؤيتك الآن مجرد صدفة، وقد بذلت قصارى جهدي لكي أتجنب وقوعها. هذا حقيقي! لقد قالت الخادمة: «هلا دخلت إلى غرفة الصالون.» وهكذا فعلت بطبيعة الحال. ولم أكن أتوقع أن أجدك هنا. ظننت أنني رأيت سيدة شابة بجوار النافذة بينما كنت أصعد إلى هنا، لكن نظرتي كانت خاطفة حتى إنني اعتقدت أنني كنت مخطئا.» «إذن سأتركك ولن أقاطع ...» «لا تفعلي. إنني أرجوك الآن ألا تغادري بسببي يا ألما. تعلمين أنني ما كنت لأتسبب لك في أي مشكلة.» «أنت عطوف جدا يا سيد براون، أنا واثقة من هذا.» «بالفعل أنا كذلك آنسة تيمبل. وكل أصدقائي يقرون بهذا. لكن، بما أنك هنا الآن ... بالمناسبة، لقد جئت لرؤية السيد تيمبل. أهو بالمنزل؟» «إنني أتوقع وصوله في أي لحظة.» «أوه، حسنا، لقد خاب أملي، لكنني أعتقد بأني سأنتظره بعض الوقت ... حتى يصل إلى المنزل.» «كنت أعتقد أن آخر لقاء بينكما لم يكن سارا كثيرا بحيث تطلب لقاءه مرة أخرى بهذه السرعة.» «الحقيقة يا ألما أن كلينا فقد أعصابه بعض الشيء، ومردود هذا لا يكون جيدا أبدا. لا يمكن للمرء أن يبرم الصفقات في وقت الغضب كما تعلمين.» «أوه، إذن طلبك يد ابنته كان صفقة ... مجرد عرض عمل، أليس كذلك؟» «حسنا، أقر بأنه فسر الأمر على هذا النحو، وبقوة أيضا. وبالنسبة إلي كان الأمر سيخالطه السرور لو وافق، لكنه لم يوافق. اسمعي يا ألما، أخبريني بصراحة بوجه اعتراضه علي على أي حال (لقد حدثك والدك في هذا الأمر دون شك).» «أتصور أنك ترى نفسك شابا مرغوبا فيه كثيرا حتى إنه ليدهشك كثيرا حين يبدي أحد اعتراضا عليك؟» «أوه، بحقك يا ألما، لا تمعني في جرحي بينما أنا في موقف سيئ كهذا. إن زهوي بنفسي وخيلائي لا يزيدان عما لدى أي شاب عادي، لكن، على الجانب الآخر، لست بأحمق - على الرغم من ظاهر الأمر - لكيلا أعرف أن بعض الناس يرونني شخصا لديه مؤهلات ومرغوبا فيه. وفي رأيي أنني لا أتصف بصفات سيئة كثيرة. فأنا لا أعاقر الشراب؛ ولا ... أوه، يمكنني أن أصنع لك قائمة بالأشياء السيئة التي لا أفعلها.» «لا شك أنك صريح بما يكفي، أيها الشاب ذو المؤهلات. ومع ذلك، يجب ألا تنسى أن أبي يعد حموا ذا مؤهلات أيضا، إن كان الأمر يتعلق بذلك.» «بالطبع، أقر بذلك. كيف يمكن له ألا يكون كذلك وهو أب لابنة فاتنة مثلك؟» «تعرف أنني لا أقصد ذلك يا والتر. كنت تتحدث عن الثروة وكنت أقصد أنا ذلك. ربما من الأفضل أن نتطرق إلى موضوع آخر.» «بالمناسبة، هذا يذكرني بما أتيت لرؤيتك بشأنه. ماذا ...» «لرؤيتي؟ كنت أظن أنك أتيت لرؤية أبي.» «أوه، أجل ... بكل تأكيد ... أتيت لرؤيته، بالطبع، لكن في حالة أنني رأيتك، فكرت في أن أسألك عن المزيد من التفاصيل في القضية. لقد طرحت عليك السؤال لكنك راوغت في الإجابة. لم تخبريني لم هو متحيز ضدي. لماذا عاملني بطريقة فظة حين تحدثت إليه عن الأمر؟ إن طلب يد ابنة من أبيها ليس عملا إجراميا. أؤكد لك أنه ليس كذلك. لقد بحثت في القانون عن هذا الأمر، ويقول أحد أصدقائي - وهو يعمل محاميا - إن القضية المقدمة لا ينطبق عليها نص قانوني. فقانون ولاية نيويورك لا ينظر إلى فعلي على أنه ضد سلام الولاية وازدهارها. وفي الواقع، عاملني الرجل وكأنني ضبطت متلبسا في سرقة بنك. والآن أريد أن أعرف وجه اعتراضه. سأسمع ...» «صه! ها قد حضر أبي الآن.»
غادرت الآنسة ألما الحجرة ولقيت والدها في الردهة. ووقف السيد براون وقد وضع يده في جيبه وأعطى ظهره إلى المدفأة. وسمع صوت السيد تيمبل الفظ وهو يقول فيما بدا أنه رد على معلومات قالتها له ابنته: «أحقا؟ ماذا يريد؟»
ثم ساد الصمت لحظة، وبعدها قال الصوت نفسه: «حسن إذن، سألتقيه في غرفة المكتبة بعد بضع دقائق.»
وبطريقة ما تلاشت شجاعة السيد براون الشاب حين سمع صوت المصرفي، أما المعلومات التي كان قد قرر أن يطلبها في غرور وخيلاء؛ فقد رأى أنه قد يطلبها بلطف أكثر.
ثم أضاء وجه السيد براون حين انفتح الباب، لكن لم تكن الآنسة ألما هي من فتحته. قالت له الخادمة: «السيد تيمبل في غرفة المكتبة يا سيدي. فهلا تبعتني!»
تبعها الرجل ووجد السيد تيمبل جالسا إلى الطاولة في غرفة المكتبة والتي كان قد وضع عليها لتوه بعض الأوراق التي تبدو ذات صبغة قانونية، وكانت الأوراق مربوطة إلى بعضها برباط مطاطي سميك. كان من الواضح أن عمله في البنك لم ينته حين غادر البنك. ولاحظ براون الشاب أن السيد تيمبل بدا مهموما ومنهكا، وأن أسلوبه كان مختلفا كثيرا عما كان عليه في آخر لقاء بينهما. «طاب مساؤك سيد براون. يسرني حضورك. كنت أريد أن أكتب إليك، لكن موضوع حديثنا في تلك الليلة قد أنساني إياه انشغالي بأشياء أخرى أكثر أهمية.»
فكر السيد بروان الشاب على نحو يصعب قبوله أنه ينبغي ألا تكون هناك أمور مهمة لأي أب أكثر من سعادة ابنته، لكنه كان يتحلى بمنطق سليم يمنعه من قول ذلك. «لقد تحدثت إليك في تلك الليلة بأسلوب من الصعب تبريره، وأريد أن أعتذر منك على ذلك. كان من الممكن أن أقول ما قلت بأسلوب يراعي مشاعرك أكثر من ذلك.» «إذن، آمل يا سيد تيمبل أنك غيرت رأيك في ...» «لا يا سيدي. لا زلت ملتزما بما قلت حينها - بفحوى ما قلت وليس بطريقة قولي إياه.» «هل لي أن أسأل عن وجه اعتراضك علي؟» «بالطبع. اعتراضي عليك هو نفس اعتراضي على معظم الشباب في الوقت الحالي. إذا سألت عنك، فماذا سأجد؟ أنك مجدف بارز ... أنك بلا وظيفة ... وأن مميزاتك في الجامعة تنحصر في أنك كنت كابتن فريق كرة القدم، و...» «لا، لا، فريق البيسبول.» «الأمر سيان في رأيي.» «بل مختلف تماما، أؤكد لك يا سيد تيمبل.» «الأمر سيان بالنسبة إلي على أي حال. والآن، في زمني كان الشباب يواجهون صعابا أكثر، وكانوا يتغلبون عليها. إنني كما يقولون رجل عصامي، وربما كان حكمي على الشباب في هذا الوقت أقسى مما ينبغي. لكنني لو كان لدي ابن لسعيت أن أعلمه كيفية إنجاز شيء ما، ثم أتحرى أنه أتمه.» «إنني ممتن لك لأنك أبديت وجه اعتراضك يا سيد تيمبل. لقد تخرجت في كلية هارفرد للقانون، لكنني لم أزاول المهنة قط لأنني - كما قال الصبي الصغير - لست في حاجة إلى ذلك. ربما لو تحدث إلي أحدهم بالطريقة التي تحدثت بها إلي لكنت شمرت عن ساعدي وبدأت العمل. ولم يفت الأوان بعد. هلا منحتني الفرصة؟ بوظيفة الصراف في البنك لديك، على سبيل المثال؟»
كان وقع تلك الكلمات الساذجة في ظاهرها على السيد تيمبل مذهلا. فقد هب الرجل واقفا وهوى بقبضته على الطاولة في عنف مما جعل السيد براون الشاب ينتفض في مكانه. ثم صاح بنبرة حازمة قائلا: «ماذا تقصد يا سيد؟ ماذا تقصد بقولك هذا؟»
راح براون يتلعثم قائلا: «أنا ... أنا ... أقصد ...» لكنه لم ينطق بالمزيد. كان يعتقد أن الرجل العجوز قد فقد صوابه فجأة. كان الرجل يحدق إلى براون على الجانب الآخر من الطاولة وكأنه على وشك أن يطبق على رقبته في أي لحظة. ثم بدا الشحوب على وجهه مرة أخرى، ومرر يده على جبينه، ثم غاص في كرسيه وهو يغمغم.
قال براون وهو يقترب منه: «سيدي العزيز، ما الأمر؟ هل هناك شيء يمكنني ...»
أجابه المصرفي بنبرة حزينة: «اجلس من فضلك. آمل أن تتجاوز عن ذلك، إنني أعاني من مشكلة كبيرة. لم أرد أن أتحدث عن الأمر، لكني أدين لك بتفسير. في غضون شهر من الآن، وإذا كنت من النوع الذي عليه أكثرية أبناء جيلك، فلن ترغب في الزواج من ابنتي. فهناك احتمال كبير أن توصد أبواب بنكي في غضون تلك الفترة.» «أنت تدهشني يا سيدي. كنت أظن ...» «أجل، وهكذا يظن الجميع. إنني في حياتي قلما منحت ثقتي أناسا لا يستحقونها، لكنني وثقت في الشخص الخطأ هذه المرة، ويبدو أن هذا الخطأ سيمحو كل ما نجحت في تحقيقه طوال حياة مليئة بالعمل الجاد.» «إذا كنت أستطيع مساعدتك ماديا، فسيسرني هذا كثيرا.» «كم المبلغ؟» «في الواقع، لا أعلم ... خمسون ألف دولار ربما، أو ...» «لا بد أن يكون معي مائتان وخمسون ألف دولار قبل نهاية هذا الشهر.» «مائتان وخمسون ألفا!» «أجل يا سيدي. إن السيد ويليام إل ستيبلز - وهو صراف البنك لدي - موجود الآن في كندا ومعه نصف مليون من أموال البنك. ولا أحد يعلم بهذا إلا أنا واثنان من المديرين. ومن المعلوم عموما أنه ذهب إلى واشنطن لقضاء إجازة هناك.» «ألا يمكنك أن ترسل محققين في إثره؟» «بالطبع يمكنني. لكن حينها سيذاع أمر السرقة على الملأ في الحال. ستعج الصحف بأخبار عن ذلك. وربما يواجه البنك هروبا من المستثمرين، وسيتحتم علينا أن نغلق أبوابنا في اليوم التالي. إن إرسال المحققين في إثره لا يعني إلا أننا نجلب بالكارثة فوق رءوسنا. إن ستيبلز في مأمن كبير، وهو يعلم ذلك. وبفضل معاهدة دولية غبية، فإنه الآن حر طليق لا يخشى خطر القبض عليه في كندا، كما لا تخشى أنت القبض عليك هنا. ومن المستحيل تسليمه إلينا كمجرم متهم بالسرقة.» «لكن أظن أن هناك قانونا بشأن إدخال أموال مسروقة إلى كندا.» «ربما. لكن هذا لن يساعدنا في الوقت الراهن. لا بد أن ندخل في مساومة معه، إذا استطعنا أن نجده في الوقت المناسب. وحتى إذا أغلق البنك أبوابه، فإننا بالطبع سندفع كل الأموال حين يكون هناك وقت لتدارك الأمر. لكن ليست هذه هي المشكلة. هذا الأمر يعني وقوع كارثة ومواجهة متاعب كثيرة، وسيتسبب على الأرجح في إخفاقات أخرى، وكل هذا بسبب احتيال شخص واحد ونذالته.» «إذن لا يبقى سوى حل واحد. لا بد أن نجد ستيبلز في هدوء ونتفاوض معه. سيد تيمبل، دعني أتولى أمر إيجاده وأمر التفاوض معه أيضا، إذا أردت أن تضع ثقتك بي.» «أتعرفه؟» «لم ألتق به في حياتي.» «إليك صورته. من السهل أن تتعرف عليه من خلالها. لن تخطئ في التعرف عليه. من المرجح أنه يعيش في مونتريال تحت اسم مستعار. وربما يكون قد أبحر إلى أوروبا. أنت لن تخبر أحدا بهذا الأمر، أليس كذلك؟» «لن أفعل بكل تأكيد. سأغادر في قطار الليلة إلى مونتريال، أو في أول قطار يتجه إلى هناك.»
دس السيد براون الصورة في جبيه وسلم على المصرفي. وبشكل ما تسببت ثقته في نفسه وانتباهه الجيد في بث شعور بالأمل في نفس الرجل العجوز أكثر مما أظهر؛ ذلك أنه - بصفة عامة - كان يزدري الشباب العادي. «كم المدة التي يمكنك التكتم فيها على الأمر إذا ما لم يكتشف على الملأ؟» «شهرا على الأقل؛ وربما شهرين أو ثلاثة.» «إذن، لا تتوقع أن أراسلك قريبا. لن أخاطر بمراسلتك. وإذا كان هناك شيء لنتواصل بشأنه ، فسآتي بنفسي.» «إنه لكرم منك أن تحمل عبء مشاكلي على كاهلك بهذا الشكل. أنا ممتن لك كثيرا.»
فأجابه براون الشاب: «أنا لست بفاعل خير يا سيد تيمبل.» •••
وحين نزل السيد براون الشاب من القطار في المحطة المركزية في تورنتو، دنا منه صبي صغير وقال: «أتريد أن أحمل عنك حقيبة سفرك يا سيدي؟»
قال براون وهو يسلمها إليه: «بكل تأكيد.»
ثم سأله عندما وصلا إلى ردهة الفندق: «بكم أدين لك؟»
قال الصبي على الفور: «خمسة وعشرين سنتا.» ثم حصل على ما طلب.
سجل براون نفسه في سجلات الفندق تحت اسم جون إيه ووكر من مونتريال. •••
لم يحدث قط في حياته أن شعر السيد والتر براون من روتشستر بأنه مثبط العزيمة كما شعر في تلك اللحظة التي سجل فيها الكلمات «جون إيه ووكر من مونتريال.» في سجل الفندق. كان قد بحث في مدينة مونتريال من أقصاها إلى أقصاها، لكنه لم يجد أي أثر للرجل الذي كان يبحث عنه. ومع ذلك، من الغريب أن نقول إنه حين رفع عينيه عن السجل رأى وجه السيد ويليام إل ستيبلز الصراف السابق. كان من حظ براون أن ستيبلز كان ينظر إلى الكلمات التي كتبها، ولم يكن ينظر إليه هو، وإلا كان قد لاحظ نظرة الذهول التي بدت تلقائيا على وجه براون وتورد وجهه من السعادة. وكان من الغريب أيضا أن السيد براون كان قد رسم في ذهنه خططا كثيرة للتعرف على ستيبلز حين يلقاه، ومع ذلك فإن الخطوة الأولى كانت من جهة ستيبلز نفسه.
قال السيد ستيبلز، واسمه المستعار جون أرمسترونج: «أنت من مونتريال.»
قال السيد براون: «إنها مدينتي ومسقط رأسي.» «كيف هو ذلك المكان في الشتاء؟ أهو مفعم بالحيوية؟» «أوه، أجل. إن مونتريال مدينة شتوية بدرجة كبيرة. ماذا تبغي منها، عمل أم ترفيه وتسلية؟» «كلاهما في الواقع. وعموما، فحيثما يكون العمل يكون هناك الكثير من الترفيه والتسلية.»
قال براون مؤيدا حديثه: «أجل، هذا صحيح.» لم يرغب براون في أن يطيل المحادثة. فقد كانت لديه بعض الخطط التي عليه وضعها؛ ولذا تبع حقائبه حتى غرفته بالفندق. كان من الواضح أن عليه أن يتصرف سريعا. فقد كان ستيبلز قد بدأ يسأم من تورنتو.
وبعد يومين كان براون قد أتم وضع خططه. وقابل ستيبلز ذات مساء في غرفة المدخنين في الفندق.
سأله براون قائلا: «هل تفكر في الذهاب إلى مونتريال؟» «فكرت في ذلك فعلا. لكنني لست واثقا بعد. هل لديك أعمال تقوم بها هناك؟» «أجل. إنك إذا ما ذهبت إلى مونتريال فسأعطيك بعض خطابات التعريف للكثير من الأصدقاء الذين سيرشدونك إلى أماكن الترفيه والتسلية، هذا إذا كنت تحب السير بأحذية الثلج، أو التزحلق على الجليد، وما إلى ذلك.»
قال ستيبلز: «لم تستهوني الرياضات يوما.»
فرد عليه براون: «لا يستهويني أنا أيضا بذل الجهد. إنما آتي إلى هنا كل عام من أجل ركوب زوارق الجليد. تلك هي فكرتي عن اللهو والتسلية. إنني أمتلك أحد أسرع الزوارق الجليدية في هذه المنطقة. هل جربت الخروج على متن أحدها يوما؟» «لا، لم أفعل. لكنني رأيت مثلها كثيرا. سيكون الخروج في أحدها في مثل هذا الطقس صعبا للغاية، أليس كذلك؟» «لا أعتقد ذلك. أتحب الخروج معي في أحدها غدا؟» «حسنا، لا بأس بذلك.»
وفي اليوم التالي لذلك واليوم الذي يليه راحا يجوبان المنطقة على متن الزورق الجليدي. وحتى ستيبلز الذي بدا ضجرا من كل شيء تقريبا، راقت له سرعة الزورق وما شعر به على متنه من غبطة.
وفي ظهيرة أحد الأيام، دلف براون إلى المشرب الخاص بالفندق حيث وجد ستيبلز واقفا إليه.
صاح براون به وهو يربت على كتف الرجل: «اسمع يا أرمسترونج، أتود الخروج للهو قليلا؟ الليلة مقمرة ولطيفة، وسأخرج على متن الزورق إلى هاملتون للقاء بعض الرفاق، ويمكننا أن نعود على متنه أيضا، أو أن تظل أنت هناك ثم تعود على متن القطار إذا ما ارتأيت أن الوقت قد تأخر بك.» «إلى هاملتون؟ إنها تقع أعلى البحيرة، أليس كذلك؟» «بلى، إنها ليست ببعيدة عن هنا. هيا، فأنا أعول على حضورك.»
وبعد مرور ساعة كانا يتزلجان على سطح البحيرة المتجمد.
قال براون: «حاول أن تنعم ببعض الدفء بأردية جلد الثيران فهي مصنوعة لأجل ذلك. لا بد لي أن أوجه الزورق؛ ولذا يتحتم علي البقاء في الخارج. لو كنت مكانك لدثرت نفسي بتلك الأردية وخلدت إلى النوم. سأوقظك حين نصل إلى هناك.»
أجاب ستيبلز: «حسنا، هذه ليست بفكرة سيئة.»
قال براون الشاب في نفسه: «الجنرال جورج واشنطن! هذا قرار سريع وسهل في مجمله. سأقود به عبر البحيرة كحمل ساذج. وقبل أن يستيقظ من نومه سنكون قد عبرنا البحيرة المتجمدة، وسيجد نفسه في الولايات المتحدة مرة أخرى ما إن يفتح عينيه. الشيء الوحيد الذي علي تجنبه الآن هو الجيوب الهوائية والتلال الثلجية، وسيكون كل شيء على ما يرام.»
كان براون قد قطع هذا المسار من قبل وكان يعرف تماما ما يقع أمامه. كانت الرياح تهب بشدة من جهة أعلى البحيرة، وكان الزورق يتحرك في صمت، وفي سرعة أكبر من قطار سريع، فكان يبتعد عن كندا ويطوي المسافة نحو الشاطئ الأمريكي.
صاح ستيبلز وهو يوقظ نفسه وينشطها: «أخبرني عن حالك يا ووكر.» أجابه براون: «بأفضل ما يمكن. سرعان ما سنصل إلى هناك يا ستيبلز.»
كادت زلة لسانه المشئومة تلك تكلف السيد براون حياته. كان براون يفكر في أمر الرجل باسمه الحقيقي، وقد نطق به من دون وعي منه. ولم يلحظ براون أنه فعل ذلك في الوقت المناسب حتى يتدارك نفسه، وفي اللحظة التالية كان اللص قد اندفع نحوه وضغط برأسه على الذراع الحديدية المسئولة عن توجيه دفة القيادة، وقد فعل ذلك بقوة كبيرة حتى إن الدفة ظلت في مكانها وأكمل الزورق تقدمه السريع على طول الجليد من دون أن ينحرف.
زأر سارق البنك قائلا: «أيها المحتال! أهذه خطتك إذن؟ أقسم أنني سألقنك درسا قاسيا في أمور التحري!»
وعلى الرغم من أن براون الشاب كان قويا، فإن الهجوم المباغت وحقيقة أن ستيبلز كان يحكم كلتا قبضتيه حول رقبته ويرتكز بركبتيه على صدره، كل ذلك شل حركة براون وجعله عاجزا تماما. وحتى تلك اللحظة لم يدرك براون كيف خمن السارق ترتيبه.
لهث براون قائلا: «بالله عليك، دعني أنهض! سنخوض في جيب هوائي وسنغرق على الفور.» «سأخاطر بذلك أيها الكلب! حتى أجعلك تلفظ آخر أنفاسك.» تملص بروان برأسه بعيدا عن الذراع الحديدية، آملا أن يتسبب ذلك في انحراف الزورق، إلا إنه ظل محافظا على مساره. وأدرك أن عليه أن يتصرف بسرعة إذا أراد أن ينجو بحياته. شعر براون أن لسانه ينتفخ ويتورم في حلقه الجاف. خارت قواه وكانت رقبته في قبضة حديدية شريرة. فراح يضرب بقدميه بقوة وتسببت إحدى الركلات المواتية بتحريك الدفة بزوايا قائمة تقريبا.
وفي الحال انقلب الزورق وأصبح في مهب الريح. وحتى لو كان المرء مستعدا لحدث كهذا، فإن الأمر يتطلب كل قوة منه وصلابة لكي يظل على متن الزورق الجليدي. ولم يكن ستيبلز مستعدا. فطار برأسه أولا في الجو ثم راح ينزلق لمسافة طويلة على الجليد الصلب. وطار براون على الجليد أيضا ورقد في مكانه برهة ليلتقط أنفاسه. ثم استجمع براون نفسه ودس يده تحت معطفه وأخرج مسدسه الدوار. وقد ظن براون في البداية أن ستيبلز كان يتظاهر بأنه فاقد الوعي، لكنه حين فحصه عن قرب وجد أن سقوطه على الجليد أفقده وعيه.
كان هناك شيء واحد فقط كان السيد براون يتوق إلى معرفته. كان يريد أن يعرف مكان المال. وكان قد لعب دور المحقق الخاص في ترونتو بطريقة جيدة - بأفضل الطرق الفرنسية - وبحث في غرفة ستيبلز أثناء غيابه، لكنه كان يعرف جيدا أن المال لم يكن فيها ولا في حقيبة سفره. كما كان يعرف جيدا أن الأموال كانت في إحدى مؤسسات الإيداع التي تؤجر خزانات إيداع في المدينة، لكنه لم يستطع أن يكتشف مكانها تحديدا. وكان قد عقد العزم أيضا أن يلعب على مخاوف ستيبلز من دخول السجن بمجرد أن يتمكن من أخذه إلى الجانب الآخر آمنا. أما الآن، بما أن الرجل فقد وعيه، قال لنفسه إن الوقت موات ليجد ما إذا كان ستيبلز يمتلك في جيبه مفكرة يدون فيها مكان الإيداع. ولم يجد مثل هذه المفكرة في جيبه. لكنه سمع أثناء بحثه صوت خشخشة أوراق وكان من الواضح أن مصدرها بطانة معطفه. ثم لاحظ أن سمك بطانته كبير. وفي لحظة كان قد مزق بطانة المعطف، فنظر فيها فإذا بها مربوطة بوثاق. وكان المعطف والسترة التحتية كلاهما مبطنين بهذه الطريقة، كانت السترة التحتية ممتلئة بأوراق نقدية من بنك إنجلترا؛ ولذا كانت الاحتمالات تقول بأن ستيبلز قد جاب أوروبا في جولة. كان من الواضح أن السارق لا يثق في خزائن الإيداع ولا في البنوك. قلب براون اللص على وجهه، وبعد أن فك أزرار المعطف والسترة التحتية خلعهما عن ذراعيه. ثم خلع براون معطفه، وبصعوبة جعل الرجل الفاقد الوعي يرتديهما ثم ارتدى هو ملابس ذلك الرجل الجشع.
قال براون في نفسه: «هذا هو ما أسميه التقلب في الثراء.» ثم أقر بأنه يشعر بشعور أفضل كثيرا بعد أن غير ملابسه، وذلك رغم برودة الجو.
وبعد أن أغلق براون أزرار ملابسه على جسد الرجل المنبطح، وضع قارورة من الشراب على شفتيه وسرعان ما أعاده إلى وعيه. وجلس ستيبلز على الجليد مصابا بالدوار، ومسح جبهته بيده. وتحت بصيص ضوء القمر البارد وجد فوهة مسدس براون الدوار «تغشاه». «لقد انتهى كل شيء يا سيد ستيبلز. اصعد إلى متن الزورق الجليدي.» «إلى أين ستأخذني؟» «سأخلي سبيلك حين نصل إلى الشاطئ إذا أخبرتني عن مكان المال.»
قال السيد ستيبلز، وكان من الواضح أنه يريد بذلك أن يكسب بعض الوقت: «أنت تعلم أنك متهم بجريمة الاختطاف؛ ومن ثم فأنت تحت طائلة القانون الآن.» «هذه مسألة يمكن أن نناقشها فيما بعد. لقد أتيت بطوع إرادتك، لا تنس ذلك. أين المال؟» «إنه في خزينة إيداع في البنك التجاري.» «إذن، هاك ورقة وقلم، وإذا لم يكن الحبر قد تجمد ... لا، إنه على ما يرام ... فحرر شيكا بسرعة بالمبلغ يدفع إلى حامله. أسرع، وإلا تجمد الحبر.»
وكانت هناك ابتسامة تنم عن الارتياح على وجه ستيبلز وهو يحرر الشيك.
ثم قال في تنهيدة مزيفة: «هاك. ذلك هو المبلغ.»
كان الشيك محررا بمبلغ 480 ألف دولار.
وحين وصلا على مشارف الساحل الأمريكي، أمر براون راكبه أن ينزل عن الزورق. «يمكنك الوصول بسهولة إلى اليابسة من هنا، وسيفيدك السير في استعادة عافيتك. سأكمل طريقي أعلى البحيرة.»
وحين كاد ستيبلز يصل إلى اليابسة صدح صوته خلال جو الليل الصافي قائلا: «لا تنفق المال ببذخ حين تحصل عليه يا ووكر.»
فرد عليه براون الشاب وهو يصيح: «سأنتبه إليه يا ستيبلز.» •••
هرع السيد براون الشاب على درج منزل السيد تيمبل في مدينة روتشستر، وضغط على الزر الكهربائي.
ثم سأل الخادمة: «هل ذهب السيد تيمبل إلى البنك بعد؟» «لا يا سيدي. إنه في غرفة المكتبة.» «شكرا لك. لا تزعجي نفسك. أنا أعرف الطريق.»
التفت السيد تيمبل حين دخل الشاب الحجرة، وحين رآه، هب واقفا على قدميه وقد علت وجهه نظرة ترقب أليمة. قال السيد براون وهو يضع رزمة على الطاولة: «هذه هدية صغيرة لك. أربعمائة وثمانية وسبعون ألفا؛ أوراق مالية من بنك إنجلترا وسندات من الولايات المتحدة.» قبض الرجل العجوز أصابع يده وجاهد أن يتحدث، لكنه لم يقل شيئا. •••
تساءل الناس عن سبب ذهاب السيد والسيدة براون إلى تورنتو في رحلة زفافهما في أوج فصل الشتاء. كان أمرا غريبا جدا وغير مألوف، ألا تعرفون؟!
المقعد السادس
كانت هي جادة ومخلصة، ولم يكن هو كذلك. وفي ظل هذا الوضع القائم، يمكن أن يحدث أي شيء. ربما كان ما حدث اعتياديا، أو هزليا، أو مأساويا، يتوقف ذلك على طباع المرأة وخبراتها. وفي هذه الحالة، لم يكن ما حدث سوى لقاء بينهما، التزم كل منهما بحضوره.
جاء هيكتور ماكلين إلى باريس بقرار عصامي، ونظرية في الألوان، ومبلغ صغير من المال. وقد دمرت باريس كل ذلك. كان هيكتور خاطبا فتاة لطيفة في موطنه، وكانت تلك الفتاة تعتقد أن قدره أن يصبح رساما عظيما؛ وكان هذا وهما يشاركها هيكتور فيه.
دلف هيكتور إلى حياة طالب الفن الباريسي بروح معنوية عالية، لكن بطريقة ما لم تتساو خبرته بما كان لديه من توقعات. إن ما قرأه في الكتب - الشعري منها والنثري - كان قد صنع هالة حول الحي اللاتيني؛ ومن ثم كان يشعر بخيبة الأمل حين افتقد وجود تلك الهالة. كانت الهالة الرومانسية تتسم بالأنانية والجشع، وبعد أشهر قليلة من انغماسه فيها صار يتوق إلى شيء أفضل.
يمكنك أن تحصل على كل شيء تقريبا في باريس، عدا ذلك الشيء الأفضل. ومثل هذا الشيء موجود بالطبع، لكنه نادرا ما يصادف طلاب الفن المعدمين عادة. لكن ما حدث هو أن هيكتور وجد ذلك الشيء الأفضل حين تخلى عن البحث عنه؛ إذ لم يكن الحظ يقف ضد ذلك الشاب.
كانت نظرية ماكلين تفيد بأن الفن قد أصبح كئيبا للغاية. كان العالم بالنسبة إليه يهرع خلف الأشياء ذات الألوان الخافتة. كان يريد أن يمتلك القدرة على رسم الأشياء كما هي في الواقع، ولم تكن عزيمته تنثني إذا أطلقت صفة البهرجة على رسوماته. وقد حصل ماكلين على الإذن لأن يضع حامل الرسم الخاص به في كنيسة نوتردام، وفي ظل الضوء الخافت هناك، حاول أن ينقل على قماش الألوان الخاص به شيئا من زهاء الألوان التي كانت تتسلل عبر النافذة الضخمة التي كانت تعلوه بمسافة كبيرة وتتخذ شكل الوردة. شعر ماكلين بالإحباط حين رأى كيف أن الألوان على قماش الرسم كانت معتمة مقارنة بتدرجات الألوان الشفافة المنبعثة من النافذة الكبيرة. وبينما كان يتكئ بظهره إلى الخلف مطلقا تنهيدة تنم عن انهزامه، وقعت عيناه الحائرتان للحظة واحدة على شيء أكثر جمالا من الزجاج المعشق، وذلك حيث إن صنع الرب ينبغي أن يكون دوما أجمل من صنع الإنسان. كانت اللمحة العابرة لعينين رقيقتين داكنتين واضحتين، حين التقتا بعينيه احتجبتا على الفور، ثم أطال ماكلين النظر في الوجه المليح الذي تنتميان إليه. كان من الواضح أن الفتاة الشابة تكن إعجابا بعمله، وكان هذا أكثر مما يأمل الشاب في الحصول عليه من البروفيسور في مزاد جوليان.
لم يكن هناك من يعتبر - حتى ولو كان أعز أصدقائه - أن انعدام الأمان وافتقاد الطمأنينة من بين إخفاقات ماكلين. نهض ماكلين عن كرسي الرسم، وانحنى وسأل الفتاة إن كانت تمانع الجلوس لدقيقة؛ بحيث يتسنى لها أن ترى اللوحة على نحو أفضل بكثير. لم تجبه الفتاة، لكنها رمقته بنظرة خوف وهربت تحت جناح وصيفتها الراكعة، التي لم تكن قد انتهت من صلاتها بعد. لا شك أن صلاة الفتاة كانت أقصر من صلاة الوصيفة المسنة التي كانت تقوم على رعاية الفتاة. فالصلاة تقصر كلما اشتدت الضائقة. وحظي ماكلين بلمحة عابرة أخرى على تلكما العينين الداكنتين بينما كان يمسك بالباب المتأرجح مفتوحا لهما. ثم غادرت المرأة الكنيسة دون إدراك منها لما دار ومعها الفتاة التي عاشت كل ما جرى.
وهكذا كانت البداية.
كانت لوحة النافذة الملونة لكنيسة نوتردام تشغل كل الوقت المتاح لدى هيكتور ماكلين. وما من عمل عظيم يمكن إنجازه من دون التحلي بمثابرة لا تفتر. وكان من اللافت للنظر أن تلك الحقيقة تجلت إليه بمجرد أن قرر أن يهجر العمل على تلك المهمة. وقبل أن يسمح للباب المتأرجح أن ينغلق، كان قد قرر أن يستكمل دراسته للألوان. ومن ثم فقد تصادف أن رأى الفتاة الشابة مرة أخرى، في الساعة نفسها دائما، ومع المرأة نفسها التي تصطحبها. وذات مرة نجح - من دون أن تلحظه المرأة المسنة - أن يدس رسالة صغيرة في يد الفتاة، وقد شعر بالسعادة والإطراء حين رأى الفتاة تحتفظ برسالته وتخفيها. وذات يوم آخر حظي بمتعة التهامس معها بعدة كلمات في ظل أحد الأعمدة العملاقة. وبعد ذلك، كان إحراز التقدم سهلا نسبيا.
علم ماكلين أن اسمها إيفيت، وتعجب كثيرا حين عرف أن مخلوقة بريئة مثلها استطاعت بمهارة الخبراء أن تراوغ يقظة المرأة المسنة المسئولة عنها. وعادة ما كانت اللقاءات المختلسة بينهما تدور في الحديقة الصغيرة التي تقع خلف نوتردام. كانا يجلسان في تلك الحديقة في مواجهة النافورة، أو كانا يسيران جيئة وذهابا على الحصى المتهشم تحت الأشجار. وفي الظهيرة كانا يسيران في الجزء المنعزل من الحديقة ، تحت ظل الكنيسة الكبيرة. وكان من عادتها أن ترسل إليه رسائل صغيرة وأنيقة تخبره فيها متى ستذهب إلى الحديقة وتعطيه رقم المقعد؛ ذلك أنها لم يكن باستطاعتها أن تراوغ وصيفتها في بعض الأحيان، فكانت حينها تجلس إلى جانب إيفيت. وفي تلك المرات، كان على ماكلين أن يرضى بمجرد النظر إليها من بعيد.
كانت الفتاة جادة ومخلصة للغاية حتى إن الشعور بالقلق والاضطراب قد سيطر على ضمير ماكلين. فكر ماكلين في الفتاة اللطيفة في موطنه، وتمنى بصدق ألا يصل إلى مسامعها أي شيء عما يحدث. وبصرف النظر عن مدى الحذر الذي قد يتسم به المرء، فإن الصدفة غالبا ما تلعب حيلا دنيئة. تذكر ماكلين بعض اللحظات بينهما وشعر بالحزن لصغر هذا العالم. وفي بعض الأحيان كان جسد ماكلين يرتجف حين يصيح أحد المارة على الرصيف في الخارج لأحد معارفه بداخل الحديقة من خلال القضبان الحديدية. وطلاب الفن يعتادون عادة غير مريحة وهي التجول في كل مكان، وكانوا صاخبين حين ينادون على أحد يعرفونه. بالإضافة إلى ذلك، كان طلاب الفن يتحدثون كثيرا، وخاف ماكلين من أن تتحول علاقته بالفتاة إلى أضحوكة المدرسة. وفي أي لحظة، قد يذهب أحد طلاب الفن غير المرغوب فيهم إلى الحديقة ليرسم النافورة أو الممرضات والأطفال أو مؤخرة الكاتدرائية في أحد أطراف الحديقة أو حتى واجهة المشرحة المخيفة والكئيبة في الطرف الآخر لها.
كان ماكلين شابا لين العريكة، يكره المشكلات، وربما لأنه كان يعرف أن يوم الحساب المحتوم سيأتي لا محالة كان ضميره يستيقظ متأخرا نوعا ما.
وفكر في بعض الأحيان أنه قد يكون من الأفضل أن يغادر باريس من دون أي تفسير، لكنه تذكر أن الفتاة تعرف عنوانه في باريس - ذلك أنها كثيرا ما راسلته - وأنها بذهابها إلى المدرسة ستعرف عنوانه في موطنه بكل سهولة. ولذلك، إذا كان من المحتم أن تنفجر غضبا وتثور ثائرتها، فمن الأفضل كثيرا أن تكون في باريس، وليس في مكان سكناها.
وكثيرا ما شجع ماكلين نفسه ليقدم للفتاة تفسيره وينهي تلك العلاقة ، لكنه كان يؤجل الأمر كلما أتت اللحظة المنتظرة. لكن المحتوم يقع في النهاية. واجه ماكلين صعوبة في البداية في محاولة أن يجعلها تفهم الموقف بوضوح، لكنه حين نجح في ذلك في النهاية لم يكن هناك اعتراض من جانبها. ولم يكن منها سوى أنها ثبتت عينيها على الحصى وسحبت يدها في هدوء من يده. ولدهشته لم تبك الفتاة، ولم تجبه حتى، لكنها راحت تسير في صمت جيئة وذهابا وعينها مثبتة على ظل الكنيسة. قال ماكلين بأن أحدا لن يحتل المكانة التي احتلتها هي في قلبه. كان خاطبا للفتاة الأخرى، لكنه لم يعرف معنى الحب حتى التقى بإيفيت. وكان مرتبطا بالفتاة الأخرى بخيوط لا يستطيع هو أن يقطعها - وكان هذا صحيحا - لأن الفتاة اللطيفة كانت ابنة رجل غني. ثم رسم لها صورة بائسة عن الحياة الخالية من الحب التي سوف يحياها في المستقبل، فخالجه شعور غامر بالشفقة على الذات حتى اهتز صوته أثناء حديثه. وشعر ماكلين بالاستياء حين رضيت الفتاة بالافتراق بتلك الطريقة غير العاطفية. فحين يحصل المرء على منتهى مبتغاه يظل شعور بعدم الرضا يلازمه. كانت تلك بالضبط هي الطريقة التي أمل أن تتقبل بها الأمر.
ولكل شيء نهاية، حتى التبريرات.
قال ماكلين وهو يمد يده: «إذن، الوداع يا إيفيت.» ترددت هي لحظة، ثم من دون أن ترفع نظرها، وضعت كفها الصغير في كفه.
وقفا على هذه الحال برهة تحت الأشجار، بينما راحت النافورة بجانبهما تقطر وتهدر بصوت موسيقي. وكان ظل الكنيسة يزحف نحوهما في بطء على الحصى. وكانت الحديقة مهجورة إلا من وجودهما. حاولت الفتاة أن تسحب يدها من يده برقة، لكنه ظل ممسكا بها.
سألها ماكلين وفي صوته نبرة من العتاب: «أليس لديك ما تقولينه لي يا إيفيت؟»
لم تجبه. أمسك بأصابعها وكانت تنسل من قبضته، ولامس الظل قدميها. «إيفيت، هلا قبلتني قبلة الوداع على الأقل؟»
سحبت يدها سريعا من يده، وهزت رأسها واستدارت مبتعدة.
راح يرقبها حتى ابتعدت عن الأنظار، ثم سار ببطء نحو منزله في بوليفارد سان جيرمان. لم يكن في أفكاره ما يواسيه. كان قد خاب أمله في إيفيت. كانت الفتاة ماهرة للغاية وذكية، وكان يتوقع أنها ستقول شيئا جارحا وهو يعرف أنه يستحق ذلك. لكن لم تكن لديه أدنى فكرة أنها قد تكون متحجرة القلب على هذا النحو. ثم تحولت أفكاره نحو الفتاة اللطيفة في موطنه. كانت تلك الفتاة أيضا تمتلك صفات في شخصيتها تذهل شابا صادقا مثله. وكانت خطاباتها ولفترة طويلة غير منتظمة وغير مرضية. لم يكن من الممكن أن يكون قد تناهى إلى سمعها أي شيء. لكن، ليس هناك شيء أسهل من الإنكار التام، وسينظر هو في هذا الأمر حين يصل إلى وطنه.
وكان هناك تفسير لذلك ينتظره في حجرته في بوليفارد. كان هناك طابع أجنبي على مظروف الخطاب، وكان الخطاب من الفتاة اللطيفة. كتبت إليه أنه كان هناك خطأ ما، لكنها سعيدة باكتشافه سريعا قبل فوات الأوان. وأخذت تلوم نفسها في مرارة على مدى ثلاث صفحات، وفي الصفحة الرابعة فهم أنها ستكون قد تزوجت بحلول الوقت الذي سيصله فيه الخطاب. بدا أنه ليس هناك شك في أن الفتاة اللطيفة أدركت تماما كيف أنها عاملت بدناءة شابا موهوبا كادا في عمله وطموحا وواثقا في نفسه، لكن إدراك ذلك لم يؤجل أجراس الزفاف ولو لثانية واحدة.
جعد ماكلين الشاب الخطاب في يده وتلفظ بكلمات بذيئة، وكان في ذلك محقا. وأطلق ضحكة جادة عالية على ما تتمتع به المرأة من شيم الغدر. ثم تحولت أفكاره نحو إيفيت. لم تكن الفتاة ثرية يا للأسف! لقد أدرك ماكلين مثل الكثير من الرجال النبلاء الموهوبين أنه لا يستطيع أن يتزوج امرأة فقيرة. ثم فكر في أن إيفيت يمكن ألا تكون فقيرة. وكلما أطال التفكير في الأمر ازداد ذهوله لكونه قد أخذ فقرها كشيء مسلم به. كانت الفتاة ترتدي ملابسها كالأثرياء، وتلك الملابس تكلف الكثير من المال في باريس. وتذكر أنها كانت ترتدي ساعة مرصعة بالجواهر في تلك المرة التي رآها فيها للحظة واحدة. تمنى ماكلين لو أنه أجل تبريره لها يوما واحدا، لكن ذلك شيء يمكن علاجه بسهولة. سيقول لها إنه تخلى عن الفتاة الأخرى لأجلها. وآلمه فجأة أنه تذكر أنه لا يعرف عنوانها ولا حتى اسم عائلتها. لكن كان من المؤكد أنها ستأتي إلى الحديقة مرة أخرى، وأنه سيمكث في تلك الحديقة حتى تأتي. كما أن مكوثه في الحديقة سيزيد من مصداقية حبه المتفاني. على أي حال، لا شيء يمكن أن يفعله هذه الليلة.
وفي الصباح كان مسرورا للغاية حين تسلم خطابا من إيفيت، وكان مسرورا أكثر حين قرأ ما تحويه. كانت في خطابها تطلب أن تقابله للمرة الأخيرة خلف الكنيسة.
لم أستطع اليوم أن أعبر لك عن كل ما شعرت به. ستعرف بذلك غدا، إذا ما قابلتني. لا تخش أن ألومك. ستتلقى هذا الخطاب في الصباح. وبحلول الثانية عشرة سأكون بانتظارك على المقعد السادس في الصف الواقع جنوبي النافورة ... المقعد السادس ... وهو الأبعد عن الكنيسة.
إيفيت
ابتهج ماكلين كثيرا وغمره شعور بالسعادة لحظه الحسن. وشعر بأنه لا يستحق حسن حظه هذا. ذهب ماكلين إلى المكان مبكرا، وجلس على آخر مقعد في الصف المواجه للنافورة. لم تكن إيفيت قد وصلت بعد، لكن كانت لا تزال هناك نصف ساعة قبل حلول موعد اللقاء. قرأ ماكلين جريدة الصباح وجلس ينتظر. وفي النهاية، دقت جميع الأجراس حوله معلنة عن تمام الساعة الثانية عشرة. لكنها لم تصل. كان هذا غريبا، لكنه كان محتملا. ربما لم تفلح في التملص من وصيفتها. مرت ربع ساعة ثم نصف ساعة قبل أن يدرك ماكلين أنه كان ضحية مزحة سيئة. صرف عن باله تلك الفكرة؛ فمثل هذا الأمر ليس من شيمها أبدا. راح يسير في أرجاء الحديقة الصغيرة، آملا أن يكون قد أخطأ في صف المقاعد. لكنها لم تكن قد أتت. قرأ ماكلين الخطاب مرة أخرى. كان واضحا بما يكفي أنه المقعد السادس. راح يعد المقاعد وبدأ بأقربها إلى الكنيسة. واحد ... اثنان ... ثلاثة ... أربعة ... خمسة. كان هناك خمسة مقاعد في الصف.
وبينما كان يحدق في المقعد في بلاهة قال له رجل بجانبه: «هذا هو المقعد يا سيدي.»
صاح ماكلين وهو يستدير نحوه وقد تملكه الذهول من تعليقه: «ماذا تقصد؟» «عثر في ذلك المقعد على الفتاة الشابة ميتة هذا الصباح ... يقولون إنها ماتت مسمومة.»
حدق إليه ماكلين ثم قال بصوت أجش: «من ... من هي؟» «لا أحد يعلم بعد. لكننا سرعان ما سنعرف، ذلك أن الجميع يذهبون إلى المشرحة كما تعرف. إنها الوحيدة على المقعد اليوم. ومن الأفضل أن أذهب قبل أن يزداد الحشد. لقد دخلت مرتين.»
غاص ماكلين في مقعده ومسح جبهته بيده.
كان يعلم أنها تنتظره في المقعد السادس ... الأبعد عن الكنيسة!
Bilinmeyen sayfa