كانت رحلة كئيبة وحزينة، وكان الزوجان قد قضيا وقتا طويلا ينفضان عن نفسيهما أغلال المدينة الكبيرة التي كانت تلفهما وكأنها أقدام أخطبوط، والتي كانت في كل عام تمتد أكثر وأكثر وتزحف على الريف، وكأن المدينة كانت تعيش على استهلاك الحقول الخضراء وإبادتها. مضى موريس والصبي على ظهره، وتبعته زوجته. لم يتحدث أي منهما ولم يتذمر الصبي المريض. وبينما كانا يقتربان من إحدى القرى، تدلت رأس الصبي على كتف أبيه. أسرعت الأم في مشيتها حتى اقتربت منهما وراحت تقلب رأس ابنها النائم. وفجأة، أطلقت صرخة مكتومة وأخذت الصبي بين ذراعيها.
سألها موريس وهو يلتفت نحوها: «ما الأمر؟»
لم تجبه، لكنها جلست على جانب الطريق وابنها على حجرها، وراحت تؤرجح جسدها ذهابا وإيابا على الصبي، وكانت في أثناء ذلك تعول وتنوح. لم يكن موريس في حاجة إلى ردها. وقف على الطريق وقد تجمدت ملامحه، ونظر إلى زوجته وابنه من دون أن ينبس ببنت شفة.
تدبر أهالي القرية الكرماء أمر جنازة الصغير، وحين انتهت وقف جاك موريس وزوجته مرة أخرى على الطريق.
فتوسلت إليه قائلة: «جاك، يا عزيزي. لا تعد إلى ذلك المكان المريع. نحن ننتمي إلى الريف، والمدينة قاسية ومتحجرة.» «سأعود أنا، ولك أن تفعلي ما تشائين.» ثم أضاف بعد أن لان قليلا: «لم أجلب لك الكثير من حسن الحظ يا فتاتي.»
كانت تعلم أن زوجها رجل عنيد، وانطلق هو في طريقه؛ ولذا من دون أن تبدي اعتراضا، تبعته عائدة كما كانت قد تبعته خارجة، وتعثرت مرارا؛ ذلك أن عينيها لم تكونا تبصران الطريق في كثير من الأحيان. وهكذا عاد الزوجان إلى منزلهما الخاوي.
ذهب جاك موريس للبحث عن عمل في حانة ريد لايون. وهناك التقى برفيقه الكريم جو هولندز، الذي كان قد صلح حاله، كما كان قد ارتد عن الطريق القويم مرتين منذ تقابل هو وجاك من قبل. ولكن كان من المنصف أن يعترف جو أنه لم يكن متفائلا يوما بشأن صلاح أمره، لكن بما أنه كان رجلا محبا للمساعدة حتى حين كان غير ثمل، فقد كان على استعداد لأن يعطي الرابطة الاجتماعية كل فرصة ممكنة. وكان جاك شديد الحزن على وفاة ولده، رغم أنه لم ينطق بكلمة لزوجته تظهر مدى حزنه. ومن ثم، تطلب الأمر أن يعاقر كمية شراب أكثر من المعتاد ليصل إلى درجة الثمالة التي تسيطر على كل رفقائه في حانة ريد لايون. وحين غادر موريس وجو الحانة في تلك الليلة، كان الأمر يتطلب خبيرا لتحديد أيهما أكثر ثمالة من الآخر. كان الرجلان في حالة متأهبة للشجار، وفي حالة مزاجية دفعتهما إلى الدعابة والعربدة في الشارع. أما رجال الشرطة الذين اعتقدوا أن جو كان وحده، فقد تفاجئوا بوجود عنصر جديد في الشجار، الأمر الذي لم يفسد حساباتهم العددية فحسب، وإنما أصابهم أيضا بالانزعاج. وكان انتصار الثملين مجيدا، وعندما لاذا بالفرار في أحد الشوارع الجانبية، حث موريس هولندز لكي يأتي معه؛ ذلك أن ممثلي القانون والنظام دائما يتلقون تعزيزات من شأنها غالبا أن تحول النصر إلى هزيمة نكراء.
قال هولندز وهو يلهث: «لا يمكنني أن آتي معك. لقد آذاني أولئك الأوغاد.» «تعال معي، أعرف مكانا حيث سنكون آمنين.»
ورغم كونه في غاية الثمالة، استطاع جاك أن يجد فجوة في الجدار جعلته يعبر إلى بقعة شاغرة خلف مصنع الصناديق. ورقد هولندز في مكانه وهو يتأوه، وهناك غط موريس في النوم لما كان عليه من ثمالة. وفي النهاية، ثأرت الشرطة لنفسها أخيرا.
حين استيقظ موريس على ضوء النهار الباهت وإدراكه مشوش لا يعرف أين يكون، وجد رفيقه ميتا بجواره. كان يغشاه خوف من أن يحاكم بتهمة القتل، لكن لم يحدث ذلك. فمنذ اللحظة التي سقط فيها هولندز وضرب رأسه على الرصيف، تخلت عنه العناية الإلهية التي تعتني بالسكارى.
Bilinmeyen sayfa