فحينئذ وثبت إميليا كمن لسعته أفعى في صميم قلبه وصاحت بأعلى صوتها: يا ظالم، تخرب بيته وتميت زوجته وتهرب ابنته وتبيع منزله وتمحو أثره، ثم لا تكتفي بكل ذلك بل لا تزال تطارده بحقدك وبغضك فتهينه وتهين ابنته أمامنا الآن!
فغضب لوقا عند هذا الكلام، وقال: الوداع يا سادتي. وهم بالخروج، فوثب إليه كلدن وثبة الأسد، فأخذ بذراعه وقال بحدة: مستر لوقا، قبل أن تخرج من هنا، اجث واطلب الصفح من مسز كلدن ابنة الخواجه متى حاروم.
وإن القلم ليعجز عن وصف ما جرى حينئذ، وكيف استقبل لوقا هذه الصاعقة التي انقضت على رأسه.
ولكن لما انقضت دهشة لوقا وعلم خطارة موقفه وهوله جمع قواه وكبرياءه التي كانت قد فارقته، وبعد السكوت برهة قال: الآن فهمت يا سيدتي سبب ما جرى، فصار يجب علي تبرئة نفسي، لا للحصول على وكالة أشغال، بل حفظا لكرامتي لديك، فكل ما بلغك عني يا سيدتي كان معكوسا أو مبالغا فيه؛ إذ أي عمل عملته في معاملتي أباك ولا يعمله جميع الناس اليوم؟ والمستر كلدن زوجك المحترم لا يستطيع تكذيب كلامي، سليه إذا شئت كيف جمع ثروته الطائلة وملايينه العديدة، أما أفلست بنوك خصومه وقامت بنوكه؟! أما امتصت سككه الحديدية ثروة سكك أعدائه؟! أما خربت في الاحتكارات التي احتكرها ألوف من المحلات وأفلس في مضارباته ألوف من المضاربين؟! فما الحيلة إذا كانت هذه طبيعة التجارة نفسها؟ وكيف نستطيع جمع الثروة لننفع بها الناس إذا كنا نحذر من ضرر هذا ونخاف مزاحمة ذاك؟ فهذه سنة العالم، وقد قال جوت: «إلى الأمام إلى الأمام ولو فوق الجثث.»
فدهش المستر كلدن لثبات جأش الرجل بعد تضعضعه، وللطريقة التي حول بها الموضوع عن محوره، أما إميليا فقد خلعت عن نفسها - لدى هذا الكلام - ثوب الحاضر، وارتدت بثوب الماضي وأجابت بحدة: كل هذا الكلام يا سيدي لا يبرئ السرقة والاحتيال والدسائس والسلب والنهب، تقول: التجارة والأصول التجارية، ولكن أي تاجر شريف يزعم أن إله التجارة يطلب دائما ضحايا بشرية ودماء بشرية؟! أي تاجر خال من عواطف الشرف والإنسانية يرضى بأن يجمع ثروة من طعام الأطفال ودموع البنات وموت الأولاد وخراب البيوت؟! إذا وجد في العالم هذا التاجر فلا أسميه تاجرا، بل لصا وقاطع طريق، بل هو أدنى من اللصوص؛ لأن اللصوص يهاجمون الإنسان من وجهه، أما هو فإنه يغدر به، لأنه يباغته من وراء ويغمد خنجره في ظهره، كلا يا سيدي، ليست التجارة هي التي دفعتك إلى صنع ما صنعت، بل طمعك ورغبتك في الثروة بأية طريق كانت، وأنا الآن لست آسفة على ما ضاع من الأموال والأرزاق؛ لأن الله عوضني خيرا منها، وإنما أسفي على شيء واحد لا يعوض وهو فقد أبي.
وهنا ترقرق الدمع في عيني إميليا، فتأثر لوقا لهذه الدموع وهذا الكلام - وإن كان فيه إهانة له - لأنه رآه ممزوجا بشيء من العقل واللطف، لا سيما وأنه كان ينتظر أشد منه، ففكر قليلا ثم قال باسما: سيدتي، إنني أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة.
فرفعت إميليا حينئذ يديها وعينيها إلى السماء وصاحت بجنون: ماذا تقول؟ فقال الرجل: نعم، إنني أعرف مكان أبيك. فنهض حينئذ المستر كلدن مدهوشا وصاحت إميليا: أين؟ أين؟ فأملأ فاك درا، رده إلي فأنسى كل إساءاتك، وا أبتاه! وا أبتاه! أصحيح ما تقول؟ قل قل، ما لك لا تتكلم؟! متى نظرته؟ فأجاب لوقا: اليوم. فصاحت إميليا: اليوم؟! وأين ذلك؟ أين؟ فقال لوقا: هنا في الأرز.
الفصل السادس عشر
صوت الابنة الكريمة
يحيي العظام الرميمة
Bilinmeyen sayfa