فقالت إميليا مبتسمة: دعنا من هذه الذكرى. فقال: لا، بل دعيني أتكلم بحياتك، فقد خرجت في ذلك اليوم لأعمل (نهار كلدن) ومعي المستر كرنيجي كاتم أسراري، فبعد أن ذهب نصف ما في جيوبي من الأوراق وصلت إلى الساحة القريبة من دار الحكومة، فوجدتك سائرة في طريقك مع إحدى بنات جنسك، فمددت يدي إليك بورقة قيمتها خمسمائة دولار، وقد فعلت في عيناك ما لا يفعله السحر؛ ذلك أنكم أنتم الشرقيين لا تعرفون مبلغ التأثير الذي يؤثره فينا الجمال الشرقي الخاص بكم، فكان جوابك أنك رفعت يدك ولطمتني على وجهي لطمة أرتني (نجوم الظهر) كما يقولون في لغتك؛ لأنك ظننت أنني رجل بذيء يقصد إغواءك بماله؛ فكبر قدرك منذ ذلك الحين في عيني، وأريتني بهذا الفعل جمالك الأدبي بعد أن رأيت في وجهك جمالك الأنثوي، وأنت تعرفين التتمة، فبالله خبريني كيف اجترأت على لطم رجل قوي مثلي قادر على سحقك بقبضة واحدة؟
فقالت إميليا: تعلمت ذلك من معلمتي في المدرسة، فإنها قصت علينا يوما أن أحد الوقحين عرض عليها في سوق نيويورك مالا فجاوبته بلطمة على وجهه ففر كالهر المطرود. فقال كلدن حينئذ رافعا رأسه افتخارا: هل من ينكر بعد هذا فضل مدارسنا في الشرق؟!
وقد سر المستر كلدن من أجوبة زوجته؛ لأنه قدر بذلك على صرف أفكارها عن موضوعها الأول، ولم يعد يسألها لماذا كانت تكره الإقامة في بيروت والسفر إلى صور وصيدا.
الفصل الثامن
الفلسفة والمكاري بطرس
قصة أمين
وبينما كان كلدن وزوجته صاعدين مع حاشيتهما إلى الحدث كان سليم وكليم يتأهبان للسفر منها إلى الأرز؛ لأن أصدقاءهما في أهدن سافروا إلى الأرز وبعثوا يستعجلونهما، فقال لرفيقه: سنتعرف بالمستر كلدن بالأرز، فهلم بنا نسافر؛ لأن الإقامة هناك تحت ظل الأرز العظيم أفضل من الإقامة هنا.
ولما دخل سليم وكليم لتوديع صديقهما أمين ظهر الحزن في وجهه، وكان قد ازداد ضعفا وهزالا، فودعهما وهو يقول: أظن هذا الوداع هو الوداع الأخير. فقال كليم متأثرا: لم نعهد قلبك ضعيفا أيها الصديق، فعلام الخوف وأنت متقدم إلى الصحة إن شاء الله؟! فهز أمين رأسه وقال: هل تظن أنني أخاف الموت؟ كلا، فإن الموت راحة لمن كان مثلي، وإنما أتأسف لأمر واحد. قال ذلك وانحدرت الدموع من عينيه، فترقرق الدمع في عيني سليم وكليم، وقال كليم: ما هو هذا الشيء؟ فقال أمين: هو أن أخرج من هذه الحياة قبل أن أنتقم من الظالمين.
ففهم كليم مراد أمين في الحال وأجابه: كن على ثقة أيها الصديق أنك ستشفى وتنتقم لنفسك، فإن الله أعدل من أن يسحق المظلومين ويرفع الظالمين، وإذا افترضنا المحال وقويت عليك علتك لعدم مداراتك نفسك، فاعلم أن الظالم سيسقط من نفسه؛ لأن كل ما يبنى على الظلم فهو مهدوم، والبغي مصرعه وخيم.
فهز أمين رأسه وقال: وا أسفاه! إنني لا أرى هذا الأمر واضحا كل الوضوح في الحوادث البشرية. ثم انطرح على فراشه يفكر والدموع ملء عينيه، وكان منظره حينئذ كمنظر جندي سقط قتيلا في ساحة العراك في آخر النهار.
Bilinmeyen sayfa