ثم انفرد الغازي بمندوب السفارة الروسية في مكتبه الخاص، ونظر إلى رجاء الدين أفندي كأنه يسأله ماذا يريد أن يقول. فقال رجاء الدين: إن سعادة السفير يرجو من دولتكم الرفق بوليد بك، فهو أخف جرما من سواه.
فنظر فيه الغازي مستغربا كلامه وقال: أهذا ما لقنكه سعادة السفير؟ - نعم يا سيدي، هل فيه ما يسوءك؟ - كلا، وإنما لا أعرف من هو وليد بك. - عجبا! ألا تعرف وليد بك صاحب جريدة توحيد أفكار في الآستانة؟ - لعلي لا أعرفه، وإنما أعرف أن صاحب توحيد أفكار يسمى وليد بك. - حسنا. هو الذي يرجو السفير منك أن ترفق به؛ لأن ذنبه أخف من ذنوب آخرين.
فتململ الغازي وقال: إلى الآن لم أزل غير فاهم ما تقول. - عجبا! أما أمرت بالقبض على وليد بك؟ - كلا، لماذا نقبض عليه؟ - أولا أمرت بالقبض على سواه من الصحفيين في الآستانة؟ - لا. لا. - إذن لقد تأخرتم دولتكم عن القبض عليهم، ولا بد أن تفعلوا غدا. - ولكن لا أدري لماذا نقبض عليهم. - الله! أما بلغت إلى دولتكم رسالة علي أغا خان، النبيل الهندي؟
فاختلج الغازي مصطفى باشا مضطربا، وجعل عقرب القلق يلسع صدره، فقال: رسالة أغا خان الهندي؟ لا أعرف شيئا عن رسالة لأغا خان، فما هي هذه الرسالة؟
فتمايل رجاء الدين أفندي في خيلاء وقال: وي وي! رسالة أغا خان الموجهة إليكم وفيها يطلب منكم إعادة السلطة والنفوذ للخليفة، وإلا تضعضعت صولة الدولة التركية.
فانتفض الغازي وقال: ولهذا جئت من قبل سعادة السفير؟ - نعم، سل سعادته، إني لست حائدا عن موضوع المهمة التي وكل إلي سعادته قضاءها. - إن الحديث الذي ترويه يا هذا أشبه عندي بالتخيلات الشعرية منه بالحقائق.
فضحك رجاء الدين أفندي وقال: إذن لم تزل الصولة في الآستانة كما كانت يا مولاي، فلماذا لا تقيمون دولتكم في الآستانة.
فامتعض مصطفى باشا كمال من هذا الغمز وقال: لا تخرج عن دائرة مهمتك، قل ما تريد أن تقوله باختصار وصراحة.
فأجاب: أريد أن أقول لدولتكم: إن جرائد الآستانة تنشر الرسائل الواردة عليكم قبل وصولها إليكم. فنفوذ الدولة لا يكون في أنقرة بل في الآستانة. فحبذا أن تنقلوا العاصمة إلى الآستانة لكي تنقل السفارة معكم؛ لأني ضجرت من العيشة في أنقرة وميداني في الآستانة. عذرا يا دولة الغازي، كلامي الأخير هذا خارج عن دائرة مهمتي، وجل ما أريد أن أقوله لدولتكم: إن رسالة أغا خان المرسلة إليكم نشرتها صحف الآستانة اليوم، وبعضها علقت عليها تعليقات لا تسركم. فلا بد أن تقبضوا على تلك الأقلام التي علقت عليها. ولا بد أن يكون وليد بك من جملة المغضوب عليهم الضالين. فأرجو بلسان سعادة السفير أن ترأفوا به لأنه أقل إثما وأسلم نية من سائر الصحفيين. وسعادة السفير يود أن تتغاضوا عنه إكراما لخاطره.
أما الغازي مصطفى باشا كمال فلم يكن يسمع الكلام الأخير جيدا؛ لأن باله اشتغل قلقا لهذا الخبر الغريب، وقال: ويحك يا هذا، إن كان كلامك هذا إفكا فالويل لك! كيف عرفت كل هذا وكيف تثبته؟ هذا مستحيل.
Bilinmeyen sayfa