في إبان هذا الانهماك جاء رجاء أفندي وقال: لا تعلق يا باشا أهمية البتة على رامي القنبلة، واعتبر الحادثة كأنها لم تكن. - ويحك يا رجاء أفندي. إننا نحسبها من أمهات البينات والبراهين. فكيف تقول هكذا؟ - أقول؛ لأني تأكدت أن الرجل فعل فعلته من تلقاء نفسه، وليس له شركاء ولا هو عضو في جمعية فدائية، ولا شريك في مؤامرة بتاتا. - إذن، ماذا غرضه؟ - مدفوع من جراء حب جنوني لعشيقة! - إذن يجب أن نقبض على العشيقة. - هذا مستحيل؛ لأنه لا يقر عنها. - إذن، هل تعرف شيئا عنها؟ - قد أعرف، سأبحث. وإنما لا تعلق أهمية على التحقيق معها. - لماذا؟ ألا تكون تلك العشيقة متصلة بجمعية سرية أو مؤامرة؟ - لا لا. بل أظن أن لها ثأرا خاصا على الأرجح. سأتحقق كل شيء وأخبرك. وإنما ثق أن حادثة القنبلة مهما حققت فيها فلا تكشف لك مؤامرة. دعها فتستفيد من غموضها أكثر من وضوحها.
فنظر فيه مصطفى باشا كمال مستغربا وقال: إذن كيف نستطيع أن نعزز قضيتنا في المجلس الوطني؟ صرت ميالا إلى العدول عن المشروع؛ لأن حججنا واهية كما تعلم.
فقال رجاء: الذنب ذنبك؛ لأنك متسرع. لقد أنذرتك قبلا فما استفدت من إنذاري. نعم، إن المؤامرة كانت مفتعلة كأنها دور تمثيل فقط، ولكنك لو تركتها حتى تنضج لكان ممكنا أن تصبح حقيقة وتكون وثائقك ذات قيمة. وربما صار بعضها حقيقيا حينئذ.
فتجهم مصطفى باشا كمال وقال: لقد تحرج موقفنا وكدنا نكون مجازفين. أظن أننا سنضطر إلى تلطيف المشروع.
فاعتدل رجاء في مكانه وقال: كيف؟ - نعدل عن إلغاء الخلافة الآن ونكتفي بخلع الخليفة. - ما ظننتك ضعيفا بالسياسة هكذا. أنت الجراح الماهر وستشق البطن على كل حال لأجل عملية واحدة، فاعمل العمليتين معا بشق واحد، اخلع والغ واطرد أيضا.
ففكر كمال باشا وقلبه يكاد يثب إلى دماغه من شدة إغراقه في التفكير، ثم قال: إذن نلغي الخلافة بلا خلع، فيكون الخلع حادثا من تلقاء نفسه. ونبقي الأمراء في مكانهم مهددين.
فصاح رجاء: بل تطرد الأمراء أولا وإلا بقي الدرن في مكان العملية. - هذا صعب. لا أفعله. - إذن لا أدعك تستفيد شيئا من الوثائق التي في يدك.
فصاح كمال: ويحك! تتهددني؟ - بلا شك. إني اشتغلت لعرشك مجانا، ولا أطمع بأمر سوى طرد الأمراء كلهم، وإلا فإني أسترد خدمتي. - ويلك! كيف تسترد خدمتك؟ - أفضح الدسيسة كلها وأفسد مشروعكم وأحبط آمالكم.
فازداد الباشا تجهما وقال: إذا كنت ترد الدوقة الروسية أو مدموزال دلزل لقبضتي لكي أستعين بشهادتها، أطرد الخليفة والأمراء. - دع الدوقة؛ لأن شهادتها تضرك أكثر مما تنفعك. اعتمد على ما معك من الأوراق والوثائق مهما كانت. لا تتهم الأمراء رسميا حتى لا تضطر إلى القبض عليهم. بل اتهمهم أمام النواب بأسلوب غير رسمي، واجعل التغاضي عنهم شفقة عليهم وسترا لخيانتهم. كذا يتوهم النواب أن الأمراء خونة يستحقون الطرد. اقترح المشروع على المجلس الوطني حالا؛ لأن الأفكار ثائرة الآن ومستعدة للتأثر من فصاحة الخطباء وبلاغتهم. استشهد بحادثة القنبلة ولكن لا تحقق بها. أسرع أسرع. جازف وأقدم ولا تخف، وإلا خسرت العرش يا جلالة الإمبراطور مصطفى! وداعا الآن.
ثم هز رجاء يد الغازي مصطفى وتركه في مثل بحران من شدة التفكير. •••
Bilinmeyen sayfa