وبعد ذلك خطاب من مرأة كانت خادمة لها، تقول لها إنها تود مقابلتها لأمر. ثم دخلت ورأتني أقرأ الخطاب. فاستاءت جدا؛ لأني اطلعت على الخطاب. وبالغت بالاعتذار لها. ولكن الاعتذار لم يجد؛ لأن اطلاعي على الخطاب كان كاشفا لسرها، ولم يعد ممكنا إخفاء السر عني. منذ ذلك الحين فهمت لماذا لم تشأ أن تتزوجني؟ أجازت لنفسها أن تعيش كسائر الناس وهي في الظاهر من عامة الناس، وإنما حسبت حساب أن تعرف بعدئذ دوقة أو أن تود أن تعود إلى طبقة الأريستوقراط. فرامت أن تبقى مطلقة الحرية.
وكان السجين الثاني قد سمع منصتا مستغربا، فقال: يا عزيزي عفوا، لقد كنت فضوليا في أن تقرأ خطابا لها وهي ليست زوجتك.
فلطم السجين الأول خديه، وقال: أي نعم، كنت فضوليا، وقد كلفني هذا الفضول كل سعادتي. في اليوم التالي اختفت من الوجود. بحثت عنها فلم أجدها لا في سماء ولا في أرض. - يالله! كيف استطاعت أن تختفي عنك؟ أين الحب؟ أين الدهاء؟ أما استطاع فؤادك أن يطير وراءها حيثما كانت؟
فتنهد السجين الأول - رامي القنبلة - ملء صدره، وأن وقال: أجل، طار قلبي شعاعا. طفت المدينة العظيمة كلها. ثم انتقلت إلى مدن أخرى. ولكن هل إذا طفت العالم كله باحثا عنها أجدها؟ هذا شبه المستحيل. فوكلت أمري للقدر والقدر خدمني.
فاشرأب السجين الثاني قائلا: وجدتها؟ - حلمك. دخلت ذات يوم إلى ملعب كبير فخم أنيق، بغية أن أسري عن نفسي؛ لأني كدت أذوب غما. وفي الفصل الثاني ظهرت على المسرح امرأة آية في الجمال والأبهة، وجعلت تغني غناء شجيا. فحدثتني نفسي أن تكون هذه المرأة دوقتي. الملامح ملامحها بيد أنها ازدادت أبهة وجمالا. والعينان عيناها بيد أنهما أشد بريقا. والقامة قامتها على أنها أرق خصرا. وما غالطت نفسي قط؛ لأن الصوت صوتها وقد ازداد شجوا. لم يبق عندي ريب في أنها هي. فطار لبي شعاعا وهاج قلبي خفوقا، وخفت أن يستخفني الطيش فأثب إلى المسرح؛ لأني لم أكن بعيدا عنه. ما صدقت أن انتهى الفصل حتى خرجت وقصدت توا إلى جناح الممثلين في الملعب، وطلبت مقابلة «كوكب المسرح» مقدما بطاقتي. فقال حارس الباب: إنها لا تقبل زوارا هنا بتاتا. فقلت: لا بأس أعطها هذه البطاقة وانظر ماذا تقول؟
فعاد بالبطاقة وقال: إنها لا تقبل بطاقات.
فقال السجين الثاني: ألا تشعر أنك أخطأت بتقديم بطاقتك لها وهي نافرة منك؟ أما كان يجب أن تباغتها مباغتة في منزلها مثلا؟ - نعم. نعم. كذا كان يجب أن أفعل. وقد ندمت بعدئذ على تسرعي هذا. سألت عن منزلها فأنكر الحارس أنه يعرفه. فصبرت حتى انتهى التمثيل وترصدتها عند باب الجناح الخلفي في أوتوموبيل. فإذا بها خارجة يختصرها شخص، فهمت حينئذ أنه من العظماء؛ لأن الذين كانوا وقوفا هناك أعظموا قدره في التحية. فاعترضت في طريقهما لكي أكلمها، فانتهرني ذلك الرجل العظيم قائلا: «يا لقلة الذوق والأدب!» فخجلت وارتددت وأنا أقول بصوت خافت تسمعه هي: أهكذا تعاملين فلانا يا فلانة؟ - وماذا بدا منها حين رأتك أو سمعت كلامك؟ - تصرفت كأنها تجهلني بتاتا. فذبت غيظا ووجدا. وركبت أتوموبيلا مع ذلك الرجل العظيم. فتبعتهما في أوتوموبيلي وراءهما إلى أن وقف أوتوموبيلهما لدى قصر فخم، فحسبته قصر ذلك العظيم. ولكن لما دخلا فيه ترجلت من أوتوموبيلي وسألت البواب عن صاحب القصر، فقال: هذا قصر الممثلة فلانة. فاستغربت ذلك كل الاستغراب، وقدمت بطاقتي للبواب وطلبت إليه أن يقدمه لها في الحال؛ لأني أود أن أقابلها لأمر ذي شأن.
فعاد البواب بالبطاقة يقول: إنها لا تقابل أحدا قط. فكدت أجن من شدة الغيظ. وعدت أفكر ماذا أفعل لكي أحصل على لقاء بها؟ ففي تلك الليلة كتبت كتابا مسهبا لها أشرح فيه ما قاسيته من العذاب لهجرانها. وبالغت في الاستغفار منها والاعتذار عن فضولي، وفي الاستعطاف والتذلل والترجي والتمني والتوسل، إلى غير ذلك مما يمكن أن يحرك قلب المعشوقة عطفا على العاشق. وفي صباح اليوم التالي أخذت هذه الرسالة وأعطيتها لبواب القصر لكي يقدمها لها. فما لبث أن عاد وردها لي مختومة كما أخذها وقال: إنها رفضت قبولها ولا تريد أن تأتي ثانية. ثم قال البواب من نفسه: أرجو يا هذا ألا تعود ثانية إلى هنا؛ لأني لن أدخل بطاقتك ولا رسالتك إليها لكيلا أسمع كلاما باردا كما سمعت الآن.
ثم أرسلت الرسالة في البريد مسجلة. وصرت أحضر التمثيل وأنا أتقلى على مثل الجمر. وكلما ظهرت في المسرح وغنت كانت تهيج كل بلابلي. ومتى خرجت أتبعها إلى دراها والبواب يزجرني قائلا: حاذر أن تدنو من هنا. فبقيت أحوم حول ذلك القصر وأنا أستغرب كيف أنها تعيش في قصر عظيم كهذا؟ فمن أين لها المال حتى تدفع أجرته وتفرشه وتنفق هذه النفقات الوافرة؟ هل تكسب ما يوازي هذه النفقة؟ وهل ينفق عليها هذا العظيم الذي يرافقها إلى منزلها؟ بيد أني فهمت أنه ليس غنيا كثيرا. وبقيت بعد ذلك أسبوعين على هذا الحال: أحضر التمثيل في الملعب، ثم أتبعها إلى منزلها، وأحوم حول قصرها حتى يتولاني الكلال والملال، فأعود حزينا وأكتب لها متضرعا فلا تجيب. ثم كتبت لها ذات يوم مهددا أن أفعل كل منكر إذا لم تسمح بمقابلتي. فأوعزت للبواب أن يسمح لي بالدخول، فدخلت إلى مجلسها فإذا عندها رجل. فقالت: إلى متى هذا الجنون؟ ما هذه الخطابات التي ترسلها إلي؟ وما هذه الحكايات التي تلفقها؟ متى عرفتك ومتى التقيت بك؟
فقلت لها: إن الذين يعرفوننا معا كثيرون يا فلانة، فأستغرب أن تتجاسري على الإنكار.
Bilinmeyen sayfa