فتبرم مصطفى باشا وقال: إن هذا التحقيق السري الذي تتصوره يفضح المسألة قبل أن نستفيد منها. فإذا لم نغنم هذه الفرصة الآن لضرب الضربة القاضية. لا تتسنى لنا فرصة أخرى. يجب ألا نضيع الفرصة. - لا بأس لا نضيعها. وإنما نخاف أن تضيعنا؛ ولهذا أود أن نحتاط كل الاحتياط. - كيف نحتاط؟
فضرب عصمت بيده على المكتب وقال: إذا قبضنا عليهم وجب أن نحاكمهم جهرا. وكيف نستطيع أن نثبت عليهم جهارا تهمة يمكن أن تكون غير صحيحة؟ ولكن إذا حققنا سرا كان عندنا مجال للاحتياط أكثر. إلى الآن لسنا على ثقة أننا نستطيع أن ننفذ مشروعي خلع الخليفة وإلغاء الخلافة من غير خطر، إذ ليس في أيدينا من الحجج ما يبرر هذا العمل الخطير الشأن. فالتحقيق السري يرينا إن كنا نستطيع أن نظهر للعالم ما يبرر عملنا أو لا يبرره.
وطالت المناقشة بين مصطفى وعصمت على هذا النحو، حتى اتفقا على تحقيق سري أو شبه سري يتولاه نور الدين بك من غير جلبة ولا ضوضاء، وأن يتولى عصمت بك عجم أعواد النواب ليعلم قدر استعدادهم للموافقة على إلغاء الخلافة وخلع الخليفة ونفي الأمراء.
الفصل الحادي عشر
واشرح هواك فكلنا عشاق
نعود إلى السجين الذي رمى القنبلة على فخامة الغازي في أزمير ولم تنفجر. وقد نقل إلى أنقرة ووضع في سجن انفرادي، فضجر وابتأس وتمنى النهاية الفاصلة، فعزت عليه. وقد عاوده المحققون مرارا فلم يأخذوا منه حقا ولا باطلا. وأحيانا كانوا يهينونه ويتهددونه بالعذاب لكي يقر بما يعلمه عن المؤامرة، فلم يقل شيئا. ثم أعيد إلى سجن أزمير ثانية .
وفي ذات يوم وهو في سجن أزمير أدخلوا إلى غرفته سجينا آخر وهو ينحب ويتضرع ويستغيث ويقول إنه مظلوم بريء. ولكن ليس من يرثى ولا من يرحم. وبقي يندب حظه ويعول ويولول حتى تضايق منه السجين الأول، وسخط به قائلا: ويحك! هل أنت خلو من أخلاق الرجال تولول كالنساء والعيال وتنحب كالأطفال! لقد أزهقت روحي. إني أرى فيك شكل الرجل، أفلا تخجل أن تبكي هكذا؟
فأجاب السجين الثاني: والله يا صاح ضقت ذرعا. فكل يوم يأخذونني لدى الضابط فيحقق معي ثم يردونني. وبعد أيام قليلة يأخذوني لدى ضابط آخر فيستجوبني فأعيد نفس الكلام فيردونني إلى السجن، وهلم جرا. ولم أعلم إلى الآن متى تكون نهاية هذه الرواية؟ زهقت روحي، ضاق خلقي. حرت كيف أقنعهم أني بري؟ في أيام عبد الحميد ما ذاق الناس مثلما أذوق. - بماذا يتهمونك؟ - والله يا سيدي إلى الآن لا أدري. - إذن بأي حالة قبضوا عليك؟ - كنت في ذات يوم سائرا في الطريق، فإذا بي أرى أوتوموبيل الغازي مسرعا ثم توقف بغتة، وسمعت بعض المارة يقولون: «قنبلة»! فأسرعت هاربا من تلك الناحية، ولكن ما ركضت عشر خطوات حتى كان أحد الناس قد قبض علي وطوق صدري بذراعين كأنهما كلاب من حديد. ثم ساقوني إلى المخفر. - وهل أصيب أحد بأذى من القنبلة؟ - كلا؛ لأن القنبلة لم تنفجر. - إذن أنت متهم برمي القنبلة؟ - كلا البتة. بل قالوا لي: إنهم قبضوا على رامي القنبلة. - إذن لماذا قبضوا عليك؟ - لأني هربت خوفا من القنبلة ومن عواقب المسألة. قلت لهم كذلك فقالوا: بل هربت؛ لأنك شريك رامي القنبلة ولك شركاء. فأقسمت لهم بكل إله ونبي أني لا أعرف رامي القنبلة ولا رأيته. ولكنهم أصروا على أني شريك الجاني وأن لنا شركاء. - قل لهم عن شركائك. - عمن أقول؟ ومن أظلم؟ وأي شخص أساء إلي حتى أرميه بهذ المصيبة. لا يا سيدي، لا أريد أن أظلم أحدا. - خفف من غمك يا صاح، إن الدنيا مملوءة مصائب ومظالم. - أظن حضرتك مثلي متهم بريء. - بل أنا مجرم وما أنكرت جرمي. أنا رامي القنبلة الذي قبضوا عليه متلبسا بالجريمة. - ويحك! إذن ... بربك قل لهم إنك لا تعرفني ولا علاقة لك بي. هل تقابلنا يا سيدي غير اليوم! بربك خلصني بكلمة أنا مظلوم. - أعدك أني أقول إن كانوا يصدقون. - أحمد الله أني وجدت رفيقا في هذا السجن أستأنس به. لقد قضيت أياما وحدي في سجن آخر فكدت أجن من العزلة. - من أي بلد أنت؟ - من أزمير. - وماذا تشتغل فيها؟ - أستاذ في المدرسة العليا، أدرس الطبيعة والرياضيات. ولي كتاب في كل منهما. - إذن كان يجب أن تكون طويل البال؛ لأن حرفة التعليم تعود المرء على طول البال والصبر. - إني يا سيدي طويل البال، إلا في السجن.
وما انقضى يوم حتى ائتلف السجينان واستأنسا، وشعر السجين الثاني الدخيل أن رفيقه ليس ضعيفا إنما هو ذو عواطف رقيقة يتأثر لأقل شيء. فقد استشف من أحاديثه أنه على ذكاء وعلم وأخلاق. وفي خلال الحديث سأله: إلى الآن لم تشرفني باسم حضرتك أيها الزميل. - هذا ما يريد المستنطق أن يعرفه. - هل حضرتك من أزمير أيضا؟ - وهذا ما يود المستنطق أن يفهمه أيضا. - عجبا! وماذا يصير لو أخبرتني اسمك وبلدك و... - كل هذا يدفع ثمنه المستنطق غاليا. - يا أخي نحن صديقان. - المستنطق أقدم عهدا بصداقتي منك. فقد اجتمع بي إلى الآن عشر مرات. وأما أنت فمنذ أمس فقط. - إذا كان يضرك أن تقول اسمك وبلدك وحرفتك فلا تقل؛ لأن معرفة هذه الأمور لا تزيدني اعتبارا لشخصك. فقد فهمتك ذا نبل. ولعل لك عذرا فيما فعلت.
فبقي السجين الأول ساكتا. ثم قال الثاني: يلوح لي أنك شاعر أو تحب الشعر، لأني أراك تزج في حديثك أشعارا. - لا أنظم الشعر وإنما أحبه. - أظنك عاشقا. - ومن لا يعشق؟ أما عشقت أنت؟ - أنا الآن عاشق. وما صعب علي إلا أن عشيقتي تندب حظي الآن. آه لا أود الحياة إلا لأجلها! - يلوح لي أنك لم تتلوع في الحب قبل الآن. - كيف يكون التلوع في الحب؟ - اعني أنك لم تقع في حب خليلة كانت تتيه عليك أو أعرضت عنك أو خانتك مثلا؟
Bilinmeyen sayfa