التنقيب تحت عرش
ثم قال البرنس سناء الدين بصوت خافت، كأنه يريد أن يدخل في حديث يخشى عليه من كيد الجواسيس: وماذا عندك يا نامق من الأخبار الجديدة من جهة سان ريمو؟ - أهم أخباري من جهة أنقرة يا مولاي.
فاشرأب البرنس سناء الدين وقال: ماذا يا نامق. ماذا عندك من أخبار أنقرة؟ - إن زوبعة هائلة قادمة من أنقرة يا سيدي البرنس. فإذا لم تتأهبوا لها أطارتكم بين السماء والماء. - ويحك ماذا؟ هل ينوون خلع الخليفة عبد المجيد؟ - لو كانت الزوبعة تقتصر على خليفة فقط لكانت نعمة؛ لأنها قد تئول إلى تنصيبك أنت في عرش الخلافة. ولكنهم يتحدثون عن إلغاء الخلافة برمتها.
فانتفض سناء الدين في مكانه كأنه جالس على كرسي مكهرب، ثم قال: ويحهم من مجانين. كيف يكون ذلك! لا أظنهم يجنون هكذا يا نامق. لا تصدق كل ما تسمع. ربما كان بعض غلاة الجمهورية المتفرنجين يتحدثون به في مجالسهم. وأما مصطفى وعصمت وغيرهما فيستحيل أن يتهوروا إلى هذا الحد. - كذا أعتقد يا سيدي البرنس. ولكن ألا تعلم أن العجين يختمر كله من خميرة صغيرة؟ فإذا لم تقابل حركة الغلاة حركة مقاومة لها بشدة امتدت إلى نفوس العقلاء كمصطفى وعصمت وغيرهما. وكل فكرة ثورية ابتدأت أولا عند المتهورين المتهوسين. الفكرة الثورية لا تنشأ في رءوس المتعقلين المتبصرين ولا في رءوس الزعماء والقادة ولا في أدمغة أهل العلم والحنكة وأساطين الساسة. بل تبدأ في العصبيين المتهوسين من عامة الشعب، بل قل: في المجانين. ثم تسري في الجمهور سريان الداء في البدن، فتعدي الطبقة الوسطى ثم الخاصة ثم أهل الحنكة والسياسة. وثم تستنبت منهم زعماء وقادة للحركة.
وكان البرنس سناء مضطرب النفس يبدو اضطرابه في كلامه وجلسته وحركاته، فقال: يستحيل يا نامق، يستحيل. لا أعتقد أن مصطفى وأعوانه يجنون هذا الجنون ويتركون من يدهم قوة سياسية عظيمة كانت فيما مضى مصدر عز الدولة وصولتها وسؤددها، ولا تزال كذلك حتى هذه الساعة، بالرغم من فصل السلطة الزمنية عنها. لا تزال تركيا حتى هذه الساعة كلما هاجمتها الدول الغربية تتحرك لها الهند ومصر وتونس ومراكش وكل بلاد إسلامية في العالم. فلا أصدق أن هؤلاء المستفحلين المتغطرسين يجنون إلى حد أن يخسروا هذه القوة بلا ثمن أو عوض أعظم. - يعتقدون يا سيدي البرنس أنهم يستعيضون منها بالتمدن الغربي الذي لا مناص منه لكل أمة تريد السير في سبيل النجاح إلى جنب الأمم الغربية، وإلا هلكت. كذا يعتقدون. - ولكن الخلافة لا تقف في سبيل تقلد محاسن التمدن الغربي. ولا سيما لأن الحسن والجيد من التمدن الغربي مقتبس من تمدن شرقي سبقه. فنحن يمكننا أن نسترد كل محاسن التمدن الغربي الحاضر ونظل ضمن دائرة شريعتنا الغراء السمحاء. فإذا كانوا لهذا الغرض يريدون إلغاء الخلافة فلا ريب أنهم مجانين. يستحيل أن يرتكبوا هذا الضلال. - لا شيء مستحيل يا سيدي. إن لمصطفى وعصمت وغيرهما نظريات غير نظرياتنا.
فتململ البرنس سناء الدين وقال: لا يا نامق، لا تظن أن مصطفى كمال وعصمت وأعوانهم يجسرون أن يحملوا على رءوسهم نقمة ثلاثمائة مليون نسمة بسبب إلغاء الخلافة.
فضحك نامق بك وقال: لا ينقم عليهم أحد يا سيدي البرنس. بل جميع الأمم تسر بإلغاء الخلافة من تركيا؛ لأن إلغاءها منها ليس معناه إلغاء الخلافة من العالم الإسلامي كله. فإذا ألغوها من تركيا تنازعتها الأمم الإسلامية الأخرى.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: مهما يكن الأمر، فلا أظن أن مصطفى وعصمت يفاديان بقوة الخلافة العظمي لقاء أي فدية أخرى؛ إذ لا تعادلها قوة أخرى يمكن اكتسابها بإلغائها. فهل أنت واثق بصحة هذا الخبر؟ - نعم يا سيدي البرنس. إني واثق بأن الخبر آخذ شأنا بين بعض الأمراء الآن لأن مصدره وثيق. والظاهر أن الحركة تجاوزت المتهوسين إلى المتعقلين. وصار مصطفى وأعوانه يتباحثون فيها. - من هم الأمراء الذين تشير إليهم؟ - برهان الدين وفريد باشا الداماد ومحمد سيف الدين أفندي وعبد الكريم أفندي، وغيرهم. وهم يتحادثون الآن بعقد مؤتمر من جميع الأمراء يقررون فيه خطة السير مع الجمهورية، من غير أن يغض من مقام الخليفة أو حقوق الأسرة. وإلا فإن مصطفى وأعوانه يتمادون في اهتضام حقوق الأسرة وإضعاف نفوذ الخليفة.
فتململ سناء الدين وقال: إن المصيبة كلها أتت من قبل الخليفة عبد المجيد؛ لأنه ما صدق أن تربع في العرش من غير قيد ولا شرط كما يريد الكماليون، فضيع حقوق الخليفة وحقوق الأسرة جميعا. ولو جمعنا - نحن الأمراء - كلمتنا في ذلك الحين واتحدنا اتحادا متينا لأمكننا أن نحول دون خلع السلطان وحيد، وكان السلطان وحيد قد ثبت في عرشه لو وجد حوله معضدين ومناصرين. نعم، كان يبقى في العرش ولا يهرب ولو عرض نفسه للخطر. ولكننا نحن نهدم مصلحتنا بأنفسنا. فهل رجع هؤلاء الأمراء إلى رشدهم الآن وصاروا يودون أن يعقدوا مؤتمرا يوحدوا كلمتهم! لقد فات الوقت وضاعت الفرصة واستفحل الكماليون، فماذا يفعل الأمراء! - الظاهر أن فريد باشا الداماد يريد أن يجدد اتحاد الأمراء. والسلطان وحيد يوعز بالتعليمات. والمسألة آخذة الآن دورا اللهم من غير علم الخليفة عبد المجيد. - عجبا! ماذا علمت من هذا الدور؟ - لقد وفد إلى الآستانة منذ عهد قصير شخص ذو شأن يظهر أنه ذو اتصال بالسلطان وحيد، واسمه رجاء باشا راغب، ويقال: إن نسبه من جهة أمه يتصل بالأسرة العثمانية الكريمة. - رجاء باشا راغب؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل. - نعم، لم يكن معروفا لأنه قضى برهة طويلة في أوروبا. وقد اتصل أخيرا بالسلطان وحيد في سان ريمو وجاء برسالة منه إلى الداماد فريد باشا. وهو الآن يفاوض الأمراء ويأخذ رأيهم في عقد هذا المؤتمر قبل أن يتقرر عقده. - أخاف أن الكماليين يخنقون هذا المؤتمر وهو جنين يا نامق. - رجاء باشا يقول إنه يتحمل كل مسئولية، ولا سيما لأن الغرض من المؤتمر ليس مناهضة الكماليين بل الاتفاق معهم على كيفية معينة لمعاملة العيلة.
ثم قال نامق بصوت كالهمس: وأخيرا يمكن الاتفاق معهم على خلع عبد المجيد؛ لأنهم ليسوا مسرورين منه كثيرا، وإعادة السلطان وحيد الدين إلى العرش أو تعيين أمير آخر. ولماذا لا تتعين أنت يا سمو البرنس؟!
Bilinmeyen sayfa