إن الشيء الذي يجب أن نؤمن به إيمانا راسخا هو أن الأجنبي لا تقوم سياسته إلا على مبدأ المنفعة المادية، والتفوق الجنسي والمعنوي، فالاستعمار عندنا وليد النظام الاقتصادي العصري السائد في غربي أوروبا، وهذا النظام الرأسمالي قائم على أن المنفعة المالية هي الغرض من كل شيء، وأن المال هو أول ما يرسم في سلم القيم، وأن الرغبة في المال والنهم العادي لا يقفان عند حد، وأنه إذا حصلت ثروة كبرى وجب الطموح إلى ثروة أخرى أكبر منها، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.
ذلك هو - أيها الإخوان - المبدأ الذي تقوم عليه نفسية الاستعمار ومذهب الاستعماريين في نشاطهم أينما كانوا. بل انظروا إلى الميدان الاقتصادي في البلاد، تجدوا أن معظم الثروة القومية الوطنية قد اغتصبها الاستعمار، فثروة المناجم بأنواعها في أيدي الشركات الرأسمالية الكبرى، والعمال بمثابة الأدوات أو الآلات المستعملة في استثمار تلك الثروة لا يعتبر فيهم إلا رخص النفقة ومقدار الإنتاج، كما أن الآلة تكون أحسن ما تكون إذا كانت رخيصة الثمن غزيرة الإنتاج. وجميع الأراضي الخصبة في أيدي الشركات الفلاحية الأجنبية وكبار المعمرين الذين حصلوا عليها بالقوة الغاشمة أو بالخدعة والحيلة.
ومعظم الثروة القومية مما ينتج عن استثمار لا يزال موجها إلى خارج الوطن؛ لأنه نتيجة عمل رءوس أموال أجنبية. وهكذا تعم الفاقة والفقر العباد والبلاد، فالفلاح يضيع أرضه أو تتغلب عليه قوة الفلاحة الكبرى، والعامل تمتص جهوده، والوطن تتناقص ثروته الاقتصادية بما يخرج منها إلى الخارج.
هذا في الميدان الاقتصادي، أما في الميدان الاجتماعي فأجلى ما يظهر للعيان هو البؤس المادي والأدبي الذي هو نتيجة التفقير الاقتصادي والضغط السياسي، والطبقة الشغيلة التونسية أعلم بذلك، فلا الأجور تقدم حسب الحاجيات الطبيعية ومستوى الأسعار، ولا الحقوق الاجتماعية كاملة ولا محترمة، فلئن حصل عمال المصانع والمناجم على بعض حقوقهم؛ فإن إخواننا عمال الفلاحة لا يزالون يرزحون تحت أعباء نظام قانوني جائر لا يضمن لهم عشر ما هو مضمون لغيرهم من العمال. ولولا كفاحهم العجيب وما أظهروه من بسالة وشجاعة أدهشت الخصم نفسه، وكانت آية لنا جميعا، لما حصلوا على شيء. زد على ذلك أن هذه الحقوق الاجتماعية الموجودة قانونا لا يحترمها الاستعمار، بل لا يزال يدوسها بقدميه، ولا يزال يحاول إبطالها بشتى الوسائل، ولا يزال يقاوم الحركة النقابية الكفاحية بالقتل وبالتعذيب بالتتبعات العدلية وبالسجن والنفي ... إلى غير ذلك. كل ذلك والطبقات الشعبية في بؤسها المادي، مشردة الأطفال، مهددة في صحتها، لا من يسهر عليها ولا من يفكر في إيجاد نظام ضمان اجتماعي يتكفل القضاء على الأمراض والعاهات والنكبات والبطالة، ولا من يفكر في إيجاد وسائل الاستخدام الكامل لإزالة التشرد والتسول والبطالة والتدهور، ولا من يفكر في شأن الطفولة وما يهددها من الجهالة والسقوط الأخلاقي والأمراض والإجرام، وآخر ما يريده الاستعمار بعد أن استبد عليها سياسيا وأفقرها اقتصاديا وظلمها وأهملها اجتماعيا: هو قتلها معنويا؛ فهو يقاوم حركة التعليم ويقتر عليها المدارس تقتيرا، وهو يحاول أن يقتل لغتها القومية وأن يجنسها لغويا ويدمجها عقليا حتى لا تبقى لها شخصية تشعر بها ولا ذاتية تدافع عنها، بل تبقى جاهلة لا تعرف حقوقها ولا تشعر بها ولا تقدر على الدفاع عنها، أو تتعلم تعلما أجنبيا فتنسى قوميتها وذاتيتها وتنسلخ عن طبيعتها وتفنى فناء معنويا.
ما يستنتج من الكلام السابق: خدمة القضية القومية واجبنا الأول
وهذا كله أيها الإخوان، هل تظنون أنه يمكن لولا أن نظام الحكم السياسي مسخر له موجه إلى أغراضه؟ فالغرض الاقتصادي والاجتماعي من الاستعمار الرامي إلى جلب المنفعة المادية إلى المستعمرين دون غيرهم، هو الذي اقتضى أن يكون النظام السياسي على ما هو عليه. فالغاية أن يستثمر الأجانب جميع موارد البلاد، فوجب أن يكون حكم البلاد في غير أيدي أبنائها وأن تغتصب سيادتها، وأن يحتكر الأجانب الإدارة والنفوذ. والغاية التصرف في ثروة البلاد بأجمعها، فوجب أن لا يشارك الشعب في تسيير شئون البلاد وأن لا يكون هناك نظام نيابي ديمقراطي صحيح. والغاية امتصاص دماء البلاد والعباد، فوجب أن تكون القوة المسلحة مسلطة على كل مكافح وأن لا تكون هناك حريات عامة حتى لا يستعملها الشعب للمقاومة والكفاح. والغاية افتكاك كل ما يملك هذا الشعب من أراض وموارد طبيعية، فوجب أن يثقل هذا الشعب اقتصاديا وأن يحرم من الحقوق الاجتماعية وأن يبقى جاهلا فقيرا، حتى لا تكون له قوة مادية ولا معنوية يزاحم بها الأجنبي أو يدافع بها عن ملكه وحقه.
وهكذا نرى الاستعمار يتلخص في أنه نظام سياسي أغراضه الاقتصادية والاجتماعية ووسائله العملية القانونية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، أغراض ووسائل منافية للمصلحة القومية التونسية منافاة جوهرية، ولا سبيل إلى الطمع في تحسين الحالة الاجتماعية وقلب الوضع الاجتماعي إلا بقلب الوضع الاقتصادي والوضع السياسي المتولد عنه، أي لا سبيل إلى الوصول إلى هدف واحد من أهدافنا النقابية، إلا إذا بدلنا النظام السياسي الاستعماري المنافي للمصلحة القومية بنظام اقتصادي وسياسي قومي بحت.
لقد كانت الطبقة العاملة التونسية ولا تزال، ولن تزال إلى يوم النصر والاستقلال وبعده، في مقدمة الكفاح القومي العام مؤازرة بدون تستر أو خفاء للحركة القومية التحريرية التونسية عاملة على نصرتها والانتصار بها ومعها.
ذلك أن الطبقة العاملة التونسية مؤمنة بأن حركتها ثورية انقلابية، لكنها ثورية لا على معنى العنف وانقلابية لا على معنى الفوضى.
بل هي حركة ثورية وانقلابية بمعنى أنها تريد أن يسود الحياة العاملة للمجتمع التونسي مبادئ سامية، وسلم من القيم العالية غير ما جاءنا به وفرضه علينا الاستعمار.
Bilinmeyen sayfa