مقومات النظام السياسي عندنا وما تنطوي عليه من مبادئ الجور
ولو أمعنا النظر لحظة في نظام الحكم في بلادنا، ولو باعتبار المشاكل الاجتماعية خاصة، لرأينا أن جميع الأسباب السياسية فيما لا نزال نقاومه من أنواع الظلم الاجتماعي راجعة إلى فساد الأصول العامة القائم عليها النظام السياسي في البلاد.
والأصل الأول الذي يقوم عليه هذا النظام السياسي هو كما تعلمون المبدأ الاستعماري، والاستعمار معناه تسخير القوى السياسية وهياكل الحكم في جميع أنواعه ومظاهره لخدمة رأس المال الأجنبي، ومصالح طبقة أجنبية من المحظوظين الذين جاءوا البلاد لاستثمارها من جميع النواحي. لذلك كان أول ما يبدأ به الاستعمار محاولة قتل السلطة الأهلية وإزالة الذات والشخصية والسيادة القومية، كذلك رأيناه يصنع بشقيقتنا الجزائر مثلا؛ فيمحو الذاتية القومية الجزائرية، ويجعل من التراب الجزائري العربي ترابا فرنسيا، ويحشر الجزائريين في الجنسية الفرنسية حشرا. أما في بلادنا، فالاستعمار حاول قتل الذاتية التونسية وإفناء السيادة التونسية بواسطة الإدارة المباشرة التي لم تبق لنا من السلطة إلا الألقاب الظاهرة والتصرف الصوري، وافتكت السلطة الحقيقية والنفوذ الواقعي، وهذا ما توصل به الاستعمار إلى أن شحن إدارتنا بالآلاف المؤلفة من الموظفين الأجانب، وإلى أن صير التونسي في إدارة بلاده أجنبيا عن الحكم والنفوذ الحقيقي وعن تدبير الشئون الجوهرية في حياة بلاده.
على أن الاستعمار لم يكتف بسلوك سبيل الإدارة المباشرة للاستبداد بالحكم والتصرف به وحده، بل زاد على ذلك أنه عزز هذا الحكم المباشر بإسناده إلى قوات احتلال عسكرية وجندرمة وشرطة يتصرف فيها وحده دون تدخل السيادة التونسية؛ لأنه لا يرمي إلى تدبير شئون الحياة والمصلحة القومية العامة، بل إلى فرض نظام سياسي يهدف إلى مصلحة خاصة، هي مصلحة الجالية الأجنبية التي يقال إنها حماية.
وبعد أن استبد الاستعمار بالحكم بواسطة الإدارة المباشرة، وبعد أن جعل ذلك الاستبداد استبدادا بالقوة واحتلالا عسكريا؛ زاد على ذلك كله أن جعله استبدادا ديكتاتوريا لا رائحة للديمقراطية أو لشبه الديمقراطية فيه، فالشعب في جميع شئونه خاضع لسياسة حكومة غير مسئولة يتصرف فيها مديرو الإدارات والوزراء كما يشاءون بدون أن يستطيع الشعب الدفاع عن مصالحه بواسطة أي منظمة نيابية تعبر عن آرائه ورغائبه، وقد استعمل الاستعمار هذه الوسيلة بصفة مستمرة في الماضي وهو يود أن يستمر على استعمالها في المستقبل. فأما مديرو الإدارات فهو لا يزال إلى الآن متشبثا بأن يكونوا من الأجانب، معاكسا في ذلك كل منطق وكل معقول وأبسط مبادئ الحق.
وهل من المنطق أو المعقول أو من الحق في شيء أن يكلف بالنظر في المصلحة القومية وتدبير الشئون الوطنية من هم أجانب عنا وعن وطننا؟! وأما الوزراء فإن الاستعمار كان يختارهم من بين ذوي الذمم التي تباع وتشترى بأبخس الأثمان، ينصبهم على كراسي الحكم ويغدق عليهم الأموال والنياشين والتشريفات، ويصرفهم بكل سهولة في خدمة مصالحه ضد المصلحة العامة بدون مراعاة استنكار الشعب ولفظه لهؤلاء العبيد والأذناب.
على أن الاستعمار لم يرد أن يكون حكمه الاستبدادي مكشوفا مفضوحا، فحاول أن يغطي على ذلك بالمغالطة والتمويه، فأحدث مجالس ادعاها نيابية وما هي بالنيابية، ولكنها مهازل فظيعة ومنكرات أشنع من الظلم المكشوف. أوجد الاستعمار المجلس الكبير ولكنه جعل نظامه النيابي على ما تعلمون من التشويه الممقوت ومن التمثيل الجائر، فأعطى لممثلي الأقلية الأجنبية نصف المجلس ولممثلي الأمة التونسية بأجمعها النصف الآخر، ثم زاد على ذلك أن جعل التمثيل فيه للمصالح الاقتصادية؛ أي للطبقات التي تتنافى مصلحتها الخاصة مع المصلحة العامة، أو التي تجد مصلحتها الخاصة في ممالأة مصلحة الأجانب والخروج عن المصلحة القومية، فإذا المتصرفون في ميزانية الدولة المقررون لوجوه صرف الأموال المأخوذة من جيوب الشعب، هم كبشة من ممثلي المستعمرين الذين اغتصبوا الأراضي والشركات الكبرى التي افتكت موارد الثروة القومية وأذناب الاستعمار ممن كسبوا ثروتهم بخدمة ركاب الأجانب وامتصاص دماء المواطنين.
وليكون هذا الحكم السياسي الدكتاتوري كاملا محكما، أضاف إليه نظام حالة الحصار الذي عاشت فيه تونس فوق الثلاثين سنة من أول الحماية، ولا تزال عائشة فيه منذ ثلاث عشر سنة باسترسال؛ أي من سنة 1938، أما الأوامر الزجرية الاستثنائية والتحجير للحركة السياسية الكفاحية الوطنية الحقة، فذلك ما لا يحتاج إلى تذكير.
النظام السياسي وعلاقته بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية
إن هذا النظام السياسي الذي لخصنا لكم خصائصه ومقوماته، أيها الإخوان، لم يأت على هذه الصورة إلا لأنه خاضع في عناصره إلى غايات معلومة، ولا تختلف أشكال النظام السياسي إلا باختلاف أغراضها وغاياتها، فما هي الغايات التي شكلت الحكم السياسي عندنا بشكله هذا؟
Bilinmeyen sayfa