وفهم بارون جلزلاند هذه العبارة على ظاهر معناها، وظن أن العربي قد عاش قرنا من الزمان، فنظر إلى الأسقف نظرة الشك والريبة، ورغم أن الأسقف كان خيرا منه فهما لما رمى إليه الحكيم، إلا أنه رد عليه نظرته بهز رأسه هزة الدهشة والتعجب؛ ثم استرد هيئة الجد وأعاد السؤال على «أدنبك» بصيغة الجزم والأمر، وطلب إليه أن يقدم الدليل على كفاءته في طبه.
فرد عليه الرجل الحكيم - وقد وضع يده على عمامته دليلا على الاحترام والتقدير - وقال: «إن لديك كلمة صلاح الدين العظيم، وهي كلمة لم يحنث فيها قط لعدو أو صديق، فهل تريد شيئا أكثر من ذلك أيها النصراني؟»
فقال البارون: «أريد منك دليلا على مهارتك أشهده بعيني، ولن تقرب سرير الملك رتشارد بغير ذلك.»
فقال العربي: «جزاء الطبيب شفاء المريض؛ انظر إلى هذا الجندي الذي جففت دماءه الحمى - وقد أصابت مخيمكم فبيضت أديمه بعظام الموتى - تلك الحمى التي وقف فن أطبائكم المسيحيين إزاءها كما تقف الصدرة الحريرية في وجه الرمح الصلب؛ انظر إلى أصابعه وذراعيه وقد هزلت وباتت كمخالب الكركي وعظام سوقه. والله لقد حلق الموت هذا الصباح فوق رأسه، ولكن لو أن عزرائيل بجانب سريره، وأنا بجانبه الآخر ، ما فارقت الروح منه الجسد؛ لا تزعجني بسؤال بعد هذا، وإنما تريث حتى تحل ساعة الفصل واشهد الخاتمة العجيبة وأنت صامت ذاهل.»
ثم لجأ الطبيب إلى الإسطرلاب، وهو مصدر الوحي للعلم في الشرق، ولبث يرقب بجد وإمعان، حتى إذا ما حان وقت صلاة العشاء، خر على ركبتيه ويمم وجهه شطر مكة، وصلى لله الصلاة التي يختتم بها المسلمون اليوم بعد العمل، فتبادل الأسقف والبارون الإنجليزي النظر، وعليهما أمارات الازدراء والحنق، ولكن أحدا منهما لم ير أن من اللياقة في ذلك أن يعترض الحكيم في صلواته مهما تكن في اعتبارهما خالية من كل تقديس.
ونهض العربي من الأرض التي خر عليها ساجدا، وولج الكوخ حيث كان العليل ممتدا على فراشه، ثم أخرج من صندوق صغير من الفضة اسفنجة مشربة بقطرات العطر، ووضعها على أنف النائم، فعطس وتيقظ، ثم تلفت حواليه هائجا مذعورا، وكان مرآه مروعا، وقد هب على سريره شبه عار، عظامه وغضاريفه ينم عنها ظاهر الجلد، كأنها لم تكتس يوما بلحم، ووجهه طويل، تشققه الغضون أخاديد، وكانت عيناه أول الأمر حائرتين، ولكنهما أخذتا تهدآن شيئا فشيئا، ويظهر أنه قد أحس بوجود زائريه ذوي المكانة الرفيعة، لأنه حاول - في دهشة - أن ينزع الغطاء عن رأسه احتراما لهما، وسأل عن سيده بصوت فيه ذلة وخضوع، فقال له لورد جلزلاند: «هل تعرفنا أيها التابع؟»
فأجابه التابع بصوت خافت: «لا أعرفكما حق المعرفة، إن سباتي كان طويلا ومليئا بالأحلام، ولكني أعرف أنك من كبار اللوردات الإنجليز، كما يدل على ذلك صليبك الأحمر؛ وصاحبك أسقف مقدس يتوق إلى بركاته آثم مسكين مثلي.»
فقال الأسقف: «لك مني البركات، وغفر الله لك.» ثم رسم علامة الصليب ولكنه لم يدن من فراش المريض.
فقال العربي: «ها أنت ذا تشهد بعينيك أن الحمى قد غلبت على أمرها وقهرت، وها هو ذا الرجل يتكلم في طمأنينة وروية، وخفقات قلبه هادئة كخفقات قلبك، وتستطيع أن تخبر نبضها بنفسك.»
فأبى الأسقف أن يقوم بهذه التجربة، ولكن توماس الجلزلاندي - وقد كان أشد إصرارا على هذا الاختبار - جس نبض المريض، واقتنع بأن الحمى قد أدبرت وتولت.
Bilinmeyen sayfa