تقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
ملحق بالمقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثامن والعشرون
تقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
ملحق بالمقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Bilinmeyen sayfa
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
Bilinmeyen sayfa
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الطلسم
الطلسم
تأليف
والتر سكوت
ترجمة
محمود محمود
تقدمة المعرب
كان من أثر الثورة الفرنسية أن تحرر الفكر الأوروبي، وانطلق من قيوده، وظهرت الحركة الرومانتيكية في الأدب الغربي، وأخذ أتباع هذا المذهب الجديد ينادون بحرية اللفظ وإطلاق الخيال من أسر التقليد.
Bilinmeyen sayfa
ومن زعماء هذه الحركة في الأدب الإنجليزي «السير والتر سكوت
Sir Walter Scott » صاحب هذه الرواية التي نحن بصدد نقلها إلى قراء العربية. بدأ حياته الأدبية بكتابة الأغاني الشعبية، التي سرعان ما ترددت على كل لسان، وذاعت بين الناس جميعا؛ وكان يسوق في هذه الأغاني طرفا من القصص التاريخي القديم، مشيدا بذكر الأبطال الأقدمين، وما وقع في سالف الأيام؛ ولكنه لم يلتزم الصدق والدقة في رواية التاريخ، بل كثيرا ما كان يطلق لخياله العنان، فيخلق شخوصا من العدم، ويذكر أحداثا لم تقع؛ وكانت أحب فترات التاريخ إلى نفسه العصور الوسطى. كان يستهويه منها روح الفروسية، وميولها العسكرية وحروبها التي لم تنقطع.
وظل «سكوت» في أعين الجمهور زعيم الشعراء، حتى ظهر اللورد بيرن، وبزه، واجتذب منه كثيرا من المعجبين بأناشيده الشعبية، فانصرف سكوت من الشعر إلى النثر، وهجر الأغاني إلى الرواية؛ وكان في قصصه الروائي - كما كان في شعره - يعمد إلى إحياء التاريخ الأوسط، ويرى فيه مجالا واسعا لإرسال الخيال وابتداع القصص. ومن بين القصص التاريخية العديدة التي كتب، قصة «الطلسم» التي نقدمها اليوم إلى القراء الناطقين بالضاد، وقد وقع اختيارنا عليها دون غيرها؛ لأن موضوعها يتصل بالقارئ الشرقي، ويتناول موقفا من المواقف المشهورة في الحروب الصليبية بين رتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وصلاح الدين الأيوبي. والقصة تبسط لنا كثيرا من مميزات العصور الوسطى، وتبين كيف كان أبناء الغرب من المسيحيين ينظرون إلى أهل الشرق من المسلمين، كما تبين الروح العسكري السائد في تلك العصور، والاستماتة في الدفاع عن الدين، والاعتقاد في الخرافة والسحر، وطرفا من حياة الرهبان المسيحيين وقسوتهم على أنفسهم في أسلوب توبتهم إلى الله وتكفيرهم عن ذنوبهم.
وترى في الرواية كذلك لونين متباينين من الحب؛ لونا شهوانيا مجردا يعزوه «سكوت» إلى أهل الشرق عامة، وآخر أفلاطونيا عذريا، ويعزوه إلى الغربيين في ذلك الزمان، وهو حب لا يمس العاشق فيه معشوقته، ويكاد يسجد لها من دون الله.
ولعل أدق ما ترويه لنا الرواية تحليل مفصل لشخص رتشارد وصلاح الدين. يعرض لنا «سكوت» «رتشارد» رجلا قوي البنية، غليظ الطبع، شديد النفوذ على أتباع الصليب جميعا، سريع الغضب، سليم الطوية، صريح العبارة، لا يعرف إلى المداراة أو التواء المقصد سبيلا. أما صلاح الدين فيمثل المكر والدهاء، والصبر وطول الأناة؛ يعرضه لنا المؤلف في مستهل القصة متخفيا في شخص مقاتل من المقاتلين المسلمين، مقداما شجاعا، لا يتهيب ولا يخاف، ثم يخلع عنه زي المحارب، ويأتي لنا به ثانية متنكرا في لباس الطبيب أو «الحكيم»، كما يحب «سكوت» أن يسميه عامدا، لأنه يريد أن يومئ إلى أن العرب كانت تخلط بين «حكمة» الطب و«حكمة» الفلسفة ورواية الحكم والأمثال؛ وفي مختتم القصة ينزع صلاح الدين كل معالم التنكر ويبرز لنا في شخصه الحر الكريم، جوادا، سياسيا محنكا، وحكما عدلا بين الصليبيين.
وكما أن «سكوت» يعتذر لنا في مقدمة الرواية عن مسخه لحقائق التاريخ وتغييره وتبديله فيها، ويقول إن في ذلك الفارق بين القصص التاريخي وعلم التاريخ؛ فنحن نعتذر إلى القارئ المسلم عما قد يجد في القصة مما يسيئه ونلتمس ل «سكوت» المعذرة في ذلك، لأنه يكتب عن حرب دينية بين الصليب والهلال وعن عصر كان التعصب الديني فيه على أشده، فمن الطبيعي أن يسخر المسيحي من دين المسلم وأن يهزأ المسلم بعقيدة المسيحي.
والآن أنتقل بالقارئ إلى ما كتب «سكوت»، آملا أن يجد في القصة لذة ومتعة؛ وأن يتسامح في شرود المؤلف وهفوات المعرب.
المعرب
نوفمبر سنة 1937م
مقدمة المؤلف
Bilinmeyen sayfa
لم ترق قصة «المخطوبة» كثيرا لصديق أو صديقين، وظنا أنها لا تتلاءم كل الملاءمة وما أخرجنا أخيرا من قصص تحت عنوان «الصليبيين»، وأكدا لي أن هذا العنوان: «قصص الصليبيين»
1
دون الإشارة المباشرة إلى أخلاق قبائل الشرق، وإلى الخصومات الخيالية في ذلك العهد، يكون بمثابة اللوحة تعلن عن مأساة «هاملت» ولا تذكر شخصية أمير الدنمارك.
2
ولكني، من ناحية أخرى، أدركت المشقة في رسم صورة حية لجزء من العالم أجهله كل الجهل، وليس لدي عنه إلا ذكريات باكرة لقصص ألف ليلة وليلة؛ ولست أعاني من قصور الجهل فحسب، ذلك الجهل الذي أحاطت بي غيومه كثيفة فيما يتعلق بأخلاق الشرق، كما تحيط الغيوم بالمصري، ولكن هناك كثيرا من معاصري على بينة من الموضوع كأنهم من أهل أرض «جوشن» المكرمة؛ فلقد تغلغل حب الأسفار بين جميع الطبقات، ودفع بأبناء بريطانيا إلى أنحاء العالم طرا، وتطلعت عيون البريطانيين في العهد الأخير إلى بلاد اليونان، التي تجذب النظر بما فيها من آثار الفنون، وبجهادها في سبيل الحرية في وجه حاكم مسلم طاغية، بل وباسمها ذاته، حيث لكل عين أسطورتها القديمة، كما تطلعت إلى فلسطين التي تحببها إلى الخيال ذكريات أكثر من هذه قداسة، والتي وصفها الرحالة في العصر الحديث. ولذا فإني لو حاولت هذا العمل الشاق: وهو أن أبدل بأساليب من بنات خيالي أزياء الشرق الحقيقية، فإن كل رحالة ألاقي ممن ضربوا في الأسفار إلى وراء ما كان يعرف قديما ب «الرحلة العظمى»، يحق له بشهادة العين أن يأخذ علي ما زعمت لنفسي، وكل عضو من أعضاء «نادي الرحالة» يزعم أنه وطأ بقدميه أرض «آدم» له أن يقف مني موقف الناقد الشرعي ويراجعني فيما أقول. ولما كان مؤلف «أناستاسيوس»، وكاتب «الحاج بابا»، قد وصفا عادات الأمم الشرقية ورذائلها وصفا صادقا صحيحا، تمازجه فكاهة «لي ساج» ومقدرة «فيلدنج» على إثارة الضحك، فقد عن لي أن رجلا كمثلي، الموضوع غريب عنه كل الغرابة، لن يصدر، وهو راغم، إلا عما يباينهما مباينة غير مستساغة. أضف إلى هذا أن شاعر البلاط في قصته الفاتنة «ثلبا» قد بين لنا كيف أن رجلا عليما موهوبا مثله يستطيع أن يبلغ في بحثه بطريقة الاستقراء وحدها شأوا بعيدا في معرفة العقائد القديمة وتاريخ الشرق وعاداته، وبلاد الشرق هي المجال الذي ينبغي لنا أن نبحث فيه عن مهد الإنسان. وسار «مور» على الدرب عينه موفقا في كتابه «للا روخ» كما سار «بيرون» وضم تجاريب مشاهداته إلى واسع اطلاعه؛ وكتب بعضا من قصائده الخلابة الفاتنة. وقصارى الكلم أن موضوعات الشرق قد عالجها من قبل علاجا ناجحا أناس أقر لهم بالبراعة في هذا الفن، فبت أستحي من المحاولة في هذه السبيل.
كانت هذه العقبات شديدة علي، ولما أمسيت أفكر في الأمر جادا لم تفتر ولم تهن؛ ولكني قهرتها في نهاية الأمر؛ وما أملت أن أباري من ذكرت من المعاصرين، ولكني رأيت، من ناحية أخرى، أن أخلص من الأمر الذي شغل خاطري زمنا، دون أن أدخل مع أحد في ميدان المنافسة.
واستقر بي الرأي أخيرا على تلك الفترة التي تتصل بالحروب الصليبية اتصالا وثيقا، والتي التقى فيها صلاح الدين برتشارد الأول، ذلك الملك المقاتل، ذلك الرجل الساذج الكريم، ذلك المثال الصادق للفروسية بكل ما فيها من إسراف الفضائل، وما فيها من رذائل لا تقل عنها إسرافا ؛ وقد أظهر الملك المسيحي الإنجليزي كل قسوة وعنف، وهما من صفات السلطان الشرقي، بينما أبان صلاح الدين عن الحكمة والسياسة البعيدة، وهما من مميزات الملك الأوروبي؛ وتباريا أيهما يفضل الآخر في صفات الفروسية والشجاعة والكرم. هذا التباين الفريد بين الرجلين أمد المؤلف، كما يظن، بالمادة التي ينسج منها قصة خيالية لها لذة فائقة. وكان من الشخصيات الثانوية التي أدخلت على الرواية، فتاة زعموا أنها من ذوات قربى رتشارد قلب الأسد، فكان في ذلك مسخ لحقائق التاريخ استاء له المستر «ملز» مؤلف «تاريخ الفروسية والحروب الصليبية»، وما نحسب إلا أنه لا يدري أن القصص الخيالي له، بطبيعة الحال، أن يبتدع مثل هذا الابتداع، وإنها حقا لضرورة من ضرورات الفن.
وضمت قصتي كذلك الأمير «داود الاسكتلندي» الذي التحق بالجيش فعلا، والذي لعب دور البطولة في بعض المغامرات الخيالية وهو في طريق العودة إلى وطنه، وقد جعلت منه شخصية من شخصيات الرواية.
وحقا لقد أنزلت من قبل قلب الأسد إلى ميدان القصص، ولكني عرضت فيما مضى لصفاته الخاصة أكثر مما عرضت هنا في «الطلسم». كان في القصص السالفة فارسا متنكرا، أما هنا فهو بصفته الصريحة، صفة الملك الغازي؛ ولذا فما تسرب إلي الشك في أن اسما كاسم الملك رتشارد الأول، عزيزا على الإنجليز، ربما عمل على إدخال السرور إلى نفوسهم أكثر من مرة.
وعالجت كل ما كان يعتقد القدماء، من صدق ومن خرافة، بشأن هذا المقاتل العظيم الذي كان أكبر فخر لأوروبا وفرسانها، والذي ألف العرب - حسب ما يقول مؤرخ من بلادهم - أن يسبوا خيولهم إذا ذعرت، باسمه المخوف، فكانوا يقولون: «هل تحسبين أن الملك رتشارد في طريقك فتحيدين عنها آبدة؟!» وأعجب سجل لتاريخ رتشارد الملك قصة خيالية قديمة ترجمت عن أصل نورماندي، وقد كانت أول أمرها أقرب ما تكون إلى رواية عمل من أعمال الفروسية، ولكنها حشيت فيما بعد بأعجب الأساطير وأشدها فزعا، وربما لم تتوارد على الأيام قصة خيالية منظومة يختلط فيها التاريخ الحق العجيب بحادثات أكثر من هذه مبالغة وأشد عبثا؛ ولقد سقنا في ملحق بهذه المقدمة عبارة القصة التي يظهر فيها رتشارد بمظهر الغول يأكل بالفعل لحم البشر.
Bilinmeyen sayfa
ومن الأحداث الهامة بالقصة ذلك الحدث الذي استمددنا منه العنوان، ولربما كان الفرس من بين جميع الأمم التي عاشت أكثرها شهرة بعقيدتهم التي لا تتزعزع في التمائم والرقى وما إليها من التعاويذ، التي كانت تؤلف، كما قيل، تحت تأثير كواكب خاصة، وكانت لها قدرة طبية فائقة، كما كانت الوسيلة التي تسيطر على جدود الرجال؛ وكثيرا ما ترددت في غرب اسكتلندا أقصوصة من هذا الضرب، تتعلق بمحارب صليبي من المحاربين المبرزين، وما يزال الطلسم الذي يشار إليه موجودا، بل وما يزال له احترام وتقديس.
وكان السير «سيمن لكهارت» صاحب «لي» و«كلارتلاند»، شخصية لها وزنها أيام حكم «روبرت بروس» وابنه «داود»، وكان أحد زعماء تلك العصابة الاسكتلندية من الفرسان التي صحبت «جيمس» أو اللورد «دوجلاس» الطيب، في حملته على الأرض المقدسة مؤيدا من الملك «روبرت بروس»، وكان «دوجلاس» يتعجل الفتك بالعرب، فاشتبك في حرب مع أهل إسبانيا ولاقى حتفه هناك، أما «لكهارت» فقد استأنف مسيره إلى الأرض المقدسة مع من نجا من الفرسان الاسكتلنديين مما أصاب قائدهم، واشترك مدة من الزمن في الحروب المشتعلة ضد العرب.
وتواتر الخبر على أنه اشتبك في المغامرة التالية: أسر يوما في الحرب أميرا ذا ثروة طائلة ونفوذ كبير، فأتت إلى معسكر المسيحيين أم الأسير العجوز كي تخلص ابنها من أسره، وحدد «لكهارت»، كما قيل، قدرا ما لفداء السجين، فأخرجت السيدة كيسا كبيرا مطرزا وشرعت تعد نقد الفدية، كأم لا تقيم للذهب إلى حرية ابنها وزنا. وإذ هي كذلك، سقط من الكيس حجر موثوق بقطعة من النقد، يقال إنه من العالم السفلي، فأظهرت الأم العربية عجلة شديدة في التقاطه، مما جعل الفارس الاسكتلندي يعتقد في نفاسته وعلو قيمته، إذا قيس بالذهب أو بالفضة، فقال: «إني لن أرضى بإطلاق سراح ابنك إلا إن ضممت إلى فديته هذا الحرز.» فقبلت السيدة، بل وشرحت للسير «سيمن لكهارت» فضائل التميمة وطريقة استخدامها، وقالت إنها إذا غمست في ماء استحال الماء دواء يوقف نزيف الدم، ويخفف الحمى، وأصبحت له خصائص أخرى كثيرة كتميمة طبية.
وبعدما اختبر السير «سيمن لكهارت» العجائب الكثيرة التي تفعلها هذه التميمة، أتى بها إلى بلده، وتركها لورثته، فميزوها، هم وأبناء «كليدزديل» عامة، وما يزالون يميزونها باسم «لي بني» نسبة إلى وطنه «لي».
وربما كان أعجب فصل في تاريخها أنها نجت خاصة من النقمة، حينما أرادت الكنيسة في اسكتلندا أن تصب سخطها على كثير غيرها من أسباب العلاج، التي كانت لها صفة الإعجاز وفعل السحر، وأنكرت الكنيسة على الناس الالتجاء إليها جميعا «ما خلا التميمة المعروفة باسم «لي بني»؛ فقد أراد الله أن يخصها ببعض فضائل الشفاء التي لا تزعم تحريمها الكنيسة»، وهي، كما قيل، ما تزال موجودة، ويلوذ بسلطانها الناس أحيانا؛ وأخيرا انحصر فعلها خاصة في علاج من يعضه كلب مسعور. ولما كان المرض في مثل هذه الأحوال كثيرا ما ينشأ عن الوهم، فليس ثمت ما يدعو إلى الشك في أن الماء بعد أن يصب على «لي بني»، تصير له قوة العلاج الناجع.
هذا ما تواترت به الأخبار عن التميمة (أو الطلسم)، وقد استباح المؤلف لنفسه الحرية في تحويره، وهو يستخدمه في أغراضه الخاصة.
واستبحنا لأنفسنا كذلك كثيرا من الحرية في حقائق التاريخ فيما يخص حياة «كنراد منتسرا» ومماته؛ أما أن «كنراد» كان عدوا لرتشارد فهو ما يتفق عليه التاريخ وقصص الخيال. وتستطيع أن تقدر العقيدة التي سادت بين الناس بشأن ما كان بينهما من صلة، من الاقتراح الذي تقوم به العرب، وذلك أن يولى «مركيز منتسرا» على أنحاء معينة من سوريا تنازلوا عنها للمسيحيين، ولكن رتشارد، كما جاء في القصة الخيالية التي تحمل اسمه «لم يستطع بعد هذا أن يكتم غضبه، فقال إن المركيز خائن اغتصب من فرسان «الاسبتارية» ستين ألف دينار، وهي عطية من أبيه هنري، وقال إنه مرتد، نجم عن غدره ضياع «عكا»، وختم حديثه بيمين غليظة أقسمها ليمزقنه إربا إربا بالخيول الآبدة، لو أنه اجترأ يوما على تدنيس معسكر المسيحيين بمثوله هناك. وحاول «فيليب» أن يتوسط لجانب «المركيز» فرمى بقفازه وقدم نفسه رهينة لإخلاصه للمسيحيين، ولكن هذا العرض لم ينل قبولا، واضطر «فيليب» إلى أن يخلي السبيل لرتشارد وسورته» (من «تاريخ الفروسية»).
و«كنراد منتسرا» شخصية هامة في هذه الحروب، وقد ألحق به الموت في آخر الأمر، واحد من أتباع «الشيخ»، رجل الجبل العجوز، ولكن رتشارد لم يخل من ريبة الناس في الإيعاز إليه بالقتل.
ويمكننا على الجملة أن نقول إن أكثر الحوادث المساقة في القصة التالية هي من خلق الخيال، وأن الحقيقة، حيثما توجد؛ لا أثر لها إلا في أشخاص الرواية.
أول يوليو سنة 1832م
Bilinmeyen sayfa
ملحق بالمقدمة
أصيب رتشارد بالحمى وهو يحارب في الأرض المقدسة، وعجز خير أطباء المعسكر عن وصف الدواء الناجع لعلته، بل لقد كان دعاء الجيش له أنجع علاجا فنقه من مرضه، وكانت أولى علائم شفائه رغبة شديدة في أكل الخنزير، ولكن لحم الخنزير لم يكن من الميسور أن يتوفر في بلد أهله يمقتونه. «ولو استمات رجاله لم يجدوا في هذا البلد لحم الخنزير، ولو وجدوه لشروه بالذهب والفضة والمال، ولحملوه إلى رتشارد الملك، فيأكل منه ما تيسر. وكان يقيم مع رتشارد فارس عجوز، لما نما إليه هذا الخبر، وعرف أن رغبة الملك لم تجب، قال للحاجب سرا؛ لقد اشتد المرض بمولانا الملك، وأنا أعلم أنه يتوق إلى لحم الخنزير، ولكنك لن تجده هنا فتشريه، وليس من بين الرجال من تبلغ به الشجاعة أن يخبره بهذا، ولئن فعل، لكان في قوله حتفه، والآن ينبغي لكم أن تفعلوا كما أقول لكم، ولكن بربكم لا تخبروه بشيء منه: خذوا عربيا شابا سمينا، وتعجلوا بقتله، وافتحوا جوفه، واسلخوا جلده، واسلقوه بأسره سريعا بالدقيق والتوابل، وبالزعفران الزاهي، فإذا ما اشتم الملك نكهته فستزول عنه الحمى ويثوب إلى رشده، وإذا ما استساغ الطعام وأكل أكلة طيبة وتعشى بالحساء ثم استغرق في النوم وابتل بالعرق، فإنه بعون الله، وبمشورتي، سوف ينتعش عما قريب ويشفى. وإليك صدق ما تم في موجز من اللفظ: قتل الكافر الزنيم، ثم سلق وجيء به إلى المليك، وقال له رجاله؛ مولانا، لقد أتيناك بلحم الخنزير، فكل واطعم من حلو الحساء، وبفضل الله وبركته ليكونن لك فيه الشفاء. وقبل أن يشرع رتشارد الملك، شرح اللحم فارس، وأخذ يلتهمه التهاما، وأكل الملك اللحم، وقرض العظام، ثم أدمن في الشراب ساعة، وبعدما تناول ما أشبعه، خلفه قومه، وأخذوا يتضاحكون، ثم استلقى ساكنا، وجذب إليه ذراعه، ولفه حاجبه وأدفأه، ثم رقد ونام، وتصبب منه العرق، ودبت فيه الصحة والعافية، ثم ارتدى ملبسه، وهب من مرقده، وأخذ يمشي هنا وهناك فيما جاوره.»
1
ا.ه.
ودحر رتشارد بنفسه جماعة من الأعراب أتوا مهاجمين. وتروي لنا الأسطر التالية ما انتهت إليه المعركة: «استراح الملك قليلا، ثم شرع أحد الفرسان ينزع عنه أسلحته، كي يريحه ويلهيه، ثم جيء له بنقيع النبيذ، وأمر طاهيه قائلا: هات لي رأس ذلك الخنزير عينه الذي أكلت منه! فإني ضعيف واهن مجنون، وإني الآن لفي خوف من آثامي. قدم لي ذلك الرأس مع طعام العشاء! فقال الطاهي: «ليس عندي هذا الرأس.» فقال الملك، رحماك اللهم! إني أرى رأس ذلك الخنزير، فهاته وإلا فتالله لتفقدن رأسك!» ولم ير الطاهي من مطلب المليك مهربا فأعد الرأس، وقدمه إليه، فخر على ركبتيه وصاح: «هيا، هيا! هذا هو الرأس! رحماك رباه!»
2
ولا مراء في أن الطاهي كان له بعض المعذرة في خوفه من سيده؛ يصعق ذعرا لو عرف حقيقة الأكلة المروعة التي يدين لها بشفائه، ولكن سرعان ما تقشعت مخاوفه. «ولما رأى الملك الوجه الأسود، ولحيته السوداء، وأسنانه البيض، وكيف تجهم وانفرجت شفتاه صاح: «أي شيطان هذا؟» وشرع يضحك كعادته ثم قال: «ماذا! هل لحم الأعراب لذيذ هكذا؟ والله ما عرفت من قبل هذا! أقسم بقضاء الله وقدره إنا لن نموت قط جوعا، ما دمنا كلما هجمنا استطعنا أن نقتل العرب، ونأخذ لحمهم؛ ونطهيه ونشويه، ونجففه ونقرض لحمه حتى العظام! والآن وقد جربته مرة فلآكلن وقومي منه مزيدا ، ونسد رمق الجوع قبل أن يقتلنا.»
3
وتقدم المحاصرون يسلمون ويشرطون تأمين أهل البلاد، وقدموا للظافرين ثروة الجمهور بأسرها، والآلات الحربية والأسلحة، وفدية قيمتها مائة ألف بيزنط. وبعد التسليم وقع الحادث الغريب الذي نرويه فيما يلي، وسوف نسوقه إليك في أسلوب «جورج أليس» الفكه المحبوب، وهو جامع هذه القصص الخرافية وناشرها. «أخلصت الحامية في تنفيذ شروط الاتفاق جميعا، إلا أنها عجزت عن رد الصليب، إذ إنه لم يكن بحيازتها، فأغلظ لها المسيحيون في المعاملة، ونمت إلى صلاح الدين الأنباء كل يوم عما يكابد مقاتلوه. ولما كان الكثير منهم رجالا ذوي مكانة عالية، فقد بعث ملكهم، نزولا عند رجاء أصدقائهم، بالرسل إلى الملك رتشارد، ومعهم جليل الهدايا التي قدمها فداء للأسرى. وكان السفراء رجالا ذوي هيبة ووقار، سنا ومرتبة وفصاحة، فبلغوا رسالتهم بكل آيات الخضوع، ولم يتهموا عدالة الظافر في معاملته الخشنة لبني جلدتهم، وإنما اكتفوا بالتوسل إليه كي يحدد لهذه الشدة أجلا، ووضعوا لدى قدميه الكنوز التي كانت أمانة في أعناقهم، وقدموا أنفسهم وزعيمهم رهائن لأي مبلغ آخر يريده الملك ثمنا لرحمته.» «فقال الملك رتشارد بعذب اللفظ: كيف لي أن آخذ الذهب؟ رحماك اللهم! قسموا بينكم كل ما حملتم، فلقد أتيت معي في السفن والمراكب بذهب وفضة أكثر مما يملك زعيمكم وثلاثة من أمثاله. ما بي إلى كنوزه حاجة! لكن آمركم حبا لي أن تقيموا معي زمنا، ثم أخبركم بعد هذا بنبأ، وأجيبكم برأي سديد، وأقول لكم بأية رسالة تعودون إلى مولاكم.»
4 «فقبل الوفد الدعوة شاكرا، وأصدر رتشارد في ذات الوقت أمرا سريا إلى قائده بأن يتوجه إلى السجن، وينتقي عددا محدودا من خير الأسرى، وبعدما يسجل أسماءهم بعناية في سجل من الورق، يأمر بحز رقابهم فورا، ثم تسلم رءوسهم إلى الطاهي، ويؤمر بأن يزيل شعورهم. وبعدما يغلي رءوسهم في دست، يوزعها على صحاف عديدة، ويقدم لكل ضيف صحفة، ويربط على جبين كل رأس قطعة من الورق تبين اسم صاحبه وقبيلته.» «وهات
Bilinmeyen sayfa
5
لي قبلهم جميعا رأسا حارا، كأني دفعت له ثمنا عاليا، ولآكلن منه التهاما، كأنه فرخ طري، ثم أرى ماذا يفعل الآخرون.» «ونفذ هذا الأمر المروع في حينه، وفي منتصف النهار دعي الضيوف ليغتسلوا على أنغام الموسيقى يعزف بها الخدم، ثم اتخذ الملك له مقعدا، وتبعه كبار ضباط بلاطه، عند المائدة العليا، واصطفت بقية الحشد لدى مائدة طويلة دونه؛ وعلى كساء الموائد وضعت مقادير من الملح على الأبعاد المألوفة، ولم يكن هناك خبز ولا نبيذ ولا ماء، فدهش السفراء لهذا النقص، ولكنهم ما برحوا من الخوف خليين، ولبثوا يرتقبون في صمت تقديم الغداء، وقد أعلنت مقدمه أصوات المزامير والأبواق والدفوف. ولشد ما كان رعبهم وفزعهم حينما رأوا وليمة غير معهودة يقدمها شيخ الحجاب وضباطه، وغلبهم التشوف، فثارت مشاعرهم بالتقزز والاشمئزاز، كما لبثت مخاوفهم مكبوتة فترة من الزمن، ووجهوا نحو الملك أبصارهم، وما تغيرت ملامحه قيد شعرة وهو يبتلع اللقمات متلهفا، كلما شرح الفارس قطعة وقدمها إليه.» «فتغامز
6
الرجال وقالوا إن هذا إلا أخو الشيطان، يقتل رجالنا ويأكلهم كما نرى!» «ثم وجهوا بعد هذا انتباههم مكرهين إلى الرءوس التي قدمت إليهم، وقد تصاعد منها الدخان؛ وأرادوا أن يتعرفوا من ملامح الوجوه المنتفخة المشوهة علائم الشبه بصديق لهم أو قريب حميم، فعرفوا من العبارات التي كانت تصحب الأطباق ما أكد لهم أن هذا الشبه لم يكن وهما ولا خيالا، فعرتهم الكآبة وجلسوا في صمت وجمود يترقبون قضاءهم، كما قضي على بني وطنهم من قبل، بينما كان مضيفهم الضاري، والغضب ملء عينيه، والظرف على شفتيه، يسيء إليهم بالإلحاح في دعوتهم إلى اللهو والمرح؛ وبعد لأي أزيل هذا السماط الأول، وجيء مكانه بلحم الغزال والكراكي، وغيرها مما لذ وطاب، مصحوبا بأطيب الخمور، واعتذر لهم الملك عما فات، وعزاه إلى جهله بذوقهم، وأكد لهم احترامه الديني لأشخاصهم كسفراء، واستعداده لأن يمدهم بمرشد يهديهم في عودتهم وهم آمنون، وكانت هذه المنحة هي كل ما رغبوا إذ ذاك في طلبه.» «ثم قال
7
الملك رتشارد إلى رجل عجوز، امض نحو بلدك إلى سلطانك وخفف من أحزانه، وقل له إنك جئتنا متأخرا، وإنك أخطأت تقدير الزمن فأبطأت، وإنا، قبل أن تأتينا، كنا قد طهينا اللحم، وأعده الرجال ليقدموه لي ولصحابي في منتصف النهار. قل له أن ليس وراء مسعاه من جدوى، حتى وإن حبس عنا طعامنا من خبز وخمر وسمك ولحم وحوت سليمان وثعابين البحر، فإن أحدا منا لن يموت جوعا ما دمنا نستطيع أن نسير إلى الحروب ونقتل الأعراب تقتيلا، فنطهو لحومهم، ونشوي رءوسهم. إني بعربي واحد أستطيع أن أطعم تسعة أو عشرة من خيار رجالي المسيحيين وأشبعهم. إن الملك رتشارد يشهد أن ليس هناك لحم من حجل أو قطقاط أو مالك الحزين أو الإوز العراقي، أو الأبقار والثيرة، أو الأغنام والخنازير، أكثر تغذية للرجل الإنجليزي من رأس العربي، فإنه سمين طري، ورجالي هزيلون نحيلون. ما دام فوق سوريا هذه عربي واحد حي فإنا لن نفكر في اللحوم، فعليه لننقضن سريعا، وكل يوم نأكل منه بقدر ما نستطيع، ولن نعود إلى إنجلترا حتى نأكلهم جميعا واحدا بعد الآخر» (من كتاب «أليس»، «أمثلة من القصص الخيالية الإنجليزية القديمة المنظومة»، الجزء الثاني، صفحة 236).
وربما تشوق القارئ إلى معرفة الظروف التي أدت إلى أن يختلط هذا الخيال الجامح - الذي يعزو أكل اللحوم البشرية إلى ملك إنجلترا - بتاريخ الملك. ويظهر أن المستر «جيمس»، الذي نحن مدينون له بالكثير مما هو عجيب غريب، قد وصل إلى أصل هذه الإشاعة العجيبة.
يقول هذا المؤلف «... وكان مع جيش الصليب كذلك جمهور من الرجال لا عمل لهم إلا الإفلاس، يسيرون حفاة ولا يحملون سلاحا، بل ويسبقون دواب الحمل في المسير، ويعيشون على الجذور والأعشاب، ويظهرون بمظهر تشمئز له النفوس وتشفق منه.» «واعتزم رجل نورماندي كان - كما روى - شريف النسب، ولكنه أضاع جواده فتابع المسير كجندي من المشاة، أن يضع نفسه على رأس هذه الشرذمة من المتشردين الذين رضوا به ملكا عليهم عن طواعية، وبات هؤلاء الرجال يعرفون بين الأعراب باسم «الظافرين» (ويترجمها جويبرت إلى
Trudentes )، وكانوا ينظرون إليهم برعب شديد، لأنهم كانوا جميعا يميلون إلى الاعتقاد بأنهم يعيشون على جثث أعدائهم، وهو نبأ كان يتحقق الحين بعد الآخر، وكان ملك «الظافرين» يعنى بتشجيعه، وهذا الملك المبجل كثيرا ما تعود أن يصف أتباعه واحدا بعد الآخر في خط واحد ضيق، ثم يأمر بالبحث فيما يحملون بحثا دقيقا، خشية أن يكون بحيازتهم ولو قليل من المال، فلا يجدر بهم أن يكونوا من رعيته، وإذا ألفى مع أحدهم دانقا واحدا أبعده في الحال عن مخالطة أبناء قبيله، وأمره بازدراء أن يشتري السلاح ويشترك في القتال.» «وهذه الكتيبة لم تكن بأية حال من عراقيل الجيش، بل لقد كانت خدماتها لا تعد؛ فهم يحملون الأثقال، ويأتون بالكلأ والمئونة والخراج، ويسيرون الآلات وقت الحصار، وفوق كل هذا، كانوا ينشرون الرعب بين الأتراك، وكان هؤلاء يخشون الموت من رماح الفرسان أقل مما يخشون هذا الفناء الشامل تحت أسنان «الظافرين».»
8
Bilinmeyen sayfa
ومن اليسير أن نتصور أن منشدا جاهلا يجد أذواق هذه الطائفة وضراوتها مسجلة في روايات تاريخ الحروب المقدسة فينسب أعمالها ونزواتها إلى ملك إنجلترا الذي كانت شراسته من الموضوعات التي تجوز فيها المبالغة كما تجوز في شجاعته وإقدامه.
الفصل الأول
وأووا هم كذلك إلى القفر، ولكنهم كانوا مسلحين.
1
الفردوس المردود
لم تكن الشمس المحرقة في سوريا قد بلغت كبد السماء، حينما كان فارس من فرسان الصليب الأحمر - وقد ترك بلاده النائية في الشمال، والتحق بجماعة الصليبيين في فلسطين - يسير الهوينى في الصحراء الرملية التي تقع على ضفاف البحر الميت (أو بحيرة «أسفلت» كما يطلق عليه أحيانا) حيث تتدفق أمواج الأردن في ذلك البحر الداخلي الذي ليس لمائه مخرج.
وفي الصباح الباكر كان هذا الحاج المجاهد يكافح الجروف والمنحدرات، ثم لما تبين الضحى انطلق من هذه الأودية الصخرية الخطرة، ودخل في ذلك السهل الفسيح، حيث المدائن اللعينة التي أنزل الله عليها من عنده نقمة مروعة شديدة في سالف الأيام.
وتذكر مسافرنا تلك الطامة الكبرى التي نزلت بوادي «سدوم» اليانع الخصيب، الذي كانت تتخلله الأنهار كأنه جنة الخلد، فأحالته يبابا بلقعا كئيبا، وصيرته أرضا جرداء مجدبة لا زهر فيها ولا شجر، وكأن الله قد أصابها بالإمحال أبد الآبدين. تذكر ذلك فنسي ما أصابه من إجهاد وعطش وما كان يحوطه من مخاطر الطريق.
ولما رأى المياه المظلمة يعج عجاجها، وهي في لونها وطبيعتها تختلف عن مياه البحيرات جميعا، رسم علامة الصليب على نفسه، وانتابته رعدة حينما تذكر أن تحت تلك الأمواج التي تتكسر في هدوء، تندثر مدن الوادي التي كانت تتيه يوما بعزها، فأنزل عليها ربك الصواعق من السماء، ونفث فيها من باطن الأرض نارا حامية فدكها دكا، ولم تبق منها إلا أطلال طمرها هذا البحر الذي ليس في جوفه سمك ولا على سطحه سفين، ولا يجود - كما يجود غيره من البحار - بقطرة ماء على المحيطات، كأن مياهه الكئيبة لن تستقر إلا في قاعة الموحش. وكل ما جاوره من يابس «كبريت وملح، أرض لا زرع فيها ولا ثمر ولا يكسوها عشب»
2
Bilinmeyen sayfa
كما كانت في عهد موسى. وتستطيع أن تسمي ذلك اليابس «ميتا» كذلك، كما تسمي البحر، فهو لا ينبت زرعا ولا شبه زرع، والهواء ذاته يخلو من كل ذات جناح، كأن الطيور قد نفرت من رائحة القار والكبريت، التي كانت تبعثها الشمس المحرقة من مياه البحيرة، فتنتشر في سحاب متكاثف كثيرا ما ينعقد على شكل الميازيب، كما كانت كسف من المادة الكبريتية الغرينية، التي تعرف بالنفط، تطفو مسترخية فوق الأمواج الهادئة الموحشة، وتمد تلك السحب المتدفعة بأبخرة جديدة، فتشهد شهادة قوية على صدق قصة موسى.
على هذا المكان المهجور أشرقت الشمس تتوهج توهجا لا يكاد يحتمل، وكأن كل كائن حي قد توارى عن أشعتها، اللهم إلا ذلك الشبح الذي كان يسير وحده يشق الرمال السوافي بخطى وئيدة، ويبدو كأنه المخلوق الفريد الذي يتنفس على سطح هذا الوادي الفسيح؛ وكان لباس هذا الفارس الراكب ومعدات جواده لا تليق البتة بالمسافر في مثل تلك البلاد. كان يرتدي سترة من حلق الحديد، طويلة أكمامها، وقفازا براقا، وصدرة من الحديد الصلب؛ ولم يكتف بهذا التسليح، بل كان يعلق كذلك على رقبته درعا ثلاثيا، ويحمل على رأسه خوذة من قضبان الصلب. يغطيها بقلنسوة وبنيقة من الحديد، يلف بها حلقه وكتفيه، وتشغل ما بين لباس رأسه وسترته؛ وكان يستر أطرافه السفلى، كما كان يستر جذعه، بحلق من الحديد سهل الالتواء. وهكذا كان يقي ساقيه وفخذيه، بينما كان يلبس على قدميه حذاء من المعدن اللامع، ينسجم مع شكله مع القفاز، وعلى أحد جانبيه سيف طويل عريض. مستقيم ذو حدين، له مقبض على هيئة الصليب، يتسق وخنجر غليظ على جنبه الآخر؛ وكان هذا الفارس يحمل كذلك رمحا طويلا، رأسه من الصلب، يرتكز على سرجه، ويستقر أحد طرفيه على ركابه، وهذا الرمح هو سلاحه السديد، يهزه إلى الخلف وهو ممتط صهوة الجواد، فيعرض العلم الصغير المعلق بطرفه، ويرفرف العلم مع النسيم العليل، أو يتدلى في السكون المميت. وفوق هذا الزي العسكري المعقد، كان صاحبنا يرتدي عباءة من القماش المزركش، نحل وبرها وبدت عليها آثار القدم، ولكنها كانت مع ذلك عظيمة النفع، إذ كانت تحمي سلاحه من أشعة الشمس، ولولا ذلك لشق عليه حمل السلاح من حرارة الشمس. وفي هذه العباءة كان الفارس يعلق هنا وهناك أسلحة تشوه ظاهرها، ومنها سلاح «النمر الرابض» وعليه هذا الشعار «إنني نائم فلا توقظني»، وعلى الدرع آثار من هذه العبارة عينها، ولكنها كادت تمحى من كثرة الطعان؛ أما خوذته الأسطوانية الثقيلة فكان سطحها مستويا، لا يجمله زخرف أو ريش، وكأن الصليبيين من أهل الشمال - باحتفاظهم بهذا السلاح القوي يدفعون به عن أنفسهم - كانوا يتحدون طبيعة المناخ والإقليم الذي جاءوا ينشبون فيه القتال.
ولم تكن عدة الجواد أقل صلابة أو قوة من زي راكبه، فلقد كان يحمل سرجا ثقيلا عليه طلاء من الصلب، يلتقي في مقدمته بدرع من الحديد، وفي مؤخرته سلاح يتقي به ويستر به خاصرته؛ ويتعلق بالسرج شيء كالفأس أو المطرقة أو العصا، والزمام موثوق بما يشبه السلاسل، ومقدمة العنان من الصلب المطلي، وبه خروق يطل منها الجواد بعينيه وأنفه، وفي وسطه شوكة قصيرة حادة، تبرز من جبهة الجواد كقرن الثور الوحشي المعروف في قصص الخيال.
ولكن هذا الفارس وجواده المقدام كانا قد تعودا حمل هذا السلاح الثقيل، حتى أضحت هذه العادة لهما طبيعة ثانية. نعم إن عددا عديدا من المحاربين من أهل الغرب، الذين خفوا إلى فلسطين، قد هلكوا قبل أن يعتادوا هذا الجو الملتهب، ولكن هناك قوما آخرين، بات هذا الجو خفيفا عليهم، مألوفا لديهم، ومن بين هذا العدد المجدود كان هذا الخيال، الذي كان حينئذ يقطع حدود البحر الميت فريدا؛ فإن الطبيعة التي صبت أعضاءه في قالب من القوة غير مألوف، وأعدته لأن يرتدي تلك السترة المصنوعة من حلق الحديد دون عناء - وكأن عيونها قد حيكت من نسيج العنكبوت - قد جادت عليه كذلك ببنية قوية كأطرافه، تتحدى كل تقلبات المناخ، وتقف دون الكلال وشظف العيش على مختلف الضروب؛ وكان له طبع يتصف بعض الشيء ببعض صفاته هيكله الجثماني، فكما أن لجسمه قوة عظيمة وقدرة على الاحتمال ممزوجة بالقدرة على الإجهاد العنيف، فإن في طبعه - تحت ستار الهدوء والاستقرار - الشيء الكثير من الحرارة والحماسة لحب المجد، وهما من أبرز صفات أبناء النورمان المعروفين، التي جعلتهم ملوكا في كل زاوية من زوايا أوروبا شهروا فيها سيوفهم الباترة.
ولكن الجد لم يجد بمثل هذا الجزاء الوافر
3
على كل أبناء هذا الجنس، ولم يكن حظ فارسنا هذا الفريد إبان السنتين اللتين قضاهما غازيا في فلسطين غير ذكر في هذه الدنيا، ومزايا روحية نشأ على الاعتقاد فيها؛ وكان حظه الضئيل من المال في ذلك الوقت قد تبدد، ولكنه - رغم ذلك - لم يعمد إلى الوسائل التي كان يلجأ إليها غيره من أتباع الصليبيين، الذين كانوا يعوضون ما نقص من أموالهم على حساب أهل فلسطين، فلم يبتز العطايا من الأهالي البائسين كي يطمئنهم على أملاكهم حينما كانوا يشتبكون مع العرب في الحروب، ولم يحاول أن يقتنص الفرصة ويجمع الثروة بفرض الجزية على الأسرى. وكانت تتبعه حاشية ضئيلة من مواطنيه، أخذت تتناقص شيئا فشيئا كلما قلت الموارد الضرورية للعيش، ولم يبق له إلا خادم واحد، كان إذ ذاك طريح الفراش، لا يستطيع أن يقوم بخدمة سيده، الذي كان يسير - كما رأينا - وحيدا فريدا. ولكن فارسنا الصليبي لم يأبه لذلك كثيرا، فلقد تعود أن يرى في مهنده الكريم خير حارس، وفي عقيدته في الله خير رفيق.
ولكن للطبيعة ضروراتها، فهي تتطلب الراحة والغذاء لكل جسم - حتى وإن كان من الحديد - ولكل طبع، حتى وإن صيغ من الصبر كما صيغ هذا الفارس، «فارس النمر الرابض»؛ ففي الظهيرة، والبحر الميت لما يزل بعيدا عن يمينه، استبشر الفارس بمرأى نخلتين أو ثلاث نمت على حافة بئر أراد أن يتخذه محطا له في منتصف ذلك النهار؛ وكذلك جواده الكريم، بعد أن كان يسير قدما بصبر وطيد كصبر صاحبه، رفع الآن رأسه، ومد أنفه، وسارع في خببه، كأنه اشتم على بعد ماء الحياة، حيث الدعة والانتعاش، ولكن الله قدر للجواد وراكبه أن يصيبهما بالعناء، ويحوطهما بالمخاطر، قبل أن يبلغا ذلك المكان الرغيب.
وذلك أن فارس النمر الرابض، الذي لم يفتأ يحدق، ويعير التفاته إلى جماعة النخل النائية، بدا له كأن شبحا يتحرك خلالها؛ ثم انفصل ذلك الشبح النائي عن تلك الأشجار التي كانت تخفي مسيره بعض الخفاء، وتقدم نحو الفارس مسارعا، وتبدى عن خيال على ظهر الجواد. ولما اقترب دلت عمامته وحربته الطويلة وقفطانه الأخضر الذي يرفرف مع الريح، على أنه فارس عربي؛ ويقول المثل الشرقي: «لا يلاقي الرجل صديقا في الصحراء.» ولم يأبه الصليبي البتة إن كان ذلك الكافر - وقد أقبل على حصان عداء، كأنه ولد على جناح نسر - عدوا أو صديقا، بل لعله، وهو بطل من الأبطال، الذين أقسموا يمين الولاء للصليب، ود لو أنه كان عدوا، فاستل رمحه من سرجه وأمسكه بيمينه ولبث به، وسنانه مرفوع إلى نصفه؛ وجمع العنان بيساره، واستحث همة الجواد بمهمازه، واستعد للقاء هذا الغريب بنفس مطمئنة، لا يملكها إلا رجل حداه الظفر في كثير من المعارك.
وأقبل العربي يعدو، كما يعدو الفرسان من بني جنسه، مالكا زمام جواده بأطرافه وبكل جسمه، غير معتمد على العنان الذي أرسله مرتخيا في يسراه بحيث يتسنى له أن يحرك درعه المستدير الرقيق المصنوع من جلد وحيد القرن المحلى بخيوط من الفضة، الذي كان يحمله على ذراعه ويلوح به كأنه يريد أن يصد به، على خفته، ما قد يصوبه نحوه ذلك الفارس الغربي من طعنات مروعة. أما نصله الطويل فلم يكن مسددا ولا مستقرا كنصل عدوه، وإنما كان يقبض عليه من سوطه بيمينه، ويهز به فوق رأسه على قيد ذراع. وهرول هذا الفارس العربي نحو عدوه، ولما دنا منه، كان يرتقب من فارس النمر أن يهم بجواده للنضال، ولكن الفارس المسيحي، وهو جد عليم بعادات جنود الشرق، لم يرض أن ينهك جواده الكريم بعناء لا طائل تحته، فوقف بغتة، وهو على يقين أن في سلاحه وفي عدة جوادة القوي ما يكفل له الغلبة - دون أن يسارع في عدوه - على العدو إن تقدم فعلا للنضال. وأحس الفارس العربي باحتمال هذه العاقبة، وأدركها كما أدركها زميله، فاقترب من المسيحي حتى لم يكن بينهما إلا قاب قوسين أو أدنى، واستدار بجواده يسارا بحذق لا يفوقه حذق، ودار حول عدوه دورتين، فالتفت الفارس الغربي وهو في مكانه، وجابه عدوه فخيب رجاءه، إذ كان يحاول أن يطعنه من الخلف، وحينئذ ود العربي لو أنه دار بجواده ورجع القهقرى إلى بعد مائة ذراع. ثم حاول الهجوم مرة أخرى وأقبل كالبازي على مالك الحزين، واضطر للمرة الثانية أن يتقهقر دون سجال؛ ثم اقترب ثالثة مهاجما كما هاجم في المرتين السابقتين، فأمسك الفارس المسيحي توا بمطرقته المعلقة بسرجه، وأراد أن ينتهي من هذه المراوغة التي قد ينهكه العدو فيها بحركاته، فصوب المطرقة بيد من حديد، وهدف لا يحيد، إلى رأس العدو الذي لم يخله إلا أميرا أو أرفع من أمير، وأدرك العربي هذه الضربة المروعة التي قصد بها فرفع درعه الرقيق وحال بين المطرقة وبين رأسه، ولكن الضربة كانت شديدة الوقع فهوت بالدرع على عمامته، وقد خففت العمامة من حدة الضربة، ولكن الرجل سقط عن جواده مغلوبا . وقبل أن ينتفع المسيحي من هذا الخذلان، خف عدوه وهب من مصرعه وجذب جواده - وقد خف إلى جواره - وامتطى صهوته دون أن يمس الركاب، واسترد كل ميزة حاول فارس النمر أن يسلبه إياها، ولكن الفارس كان بدوره قد تملك من مطرقته ثانية، فحاول الرجل الشرقي - وقد تذكر قوة عدوه وحذقه في إصابة هدفه - أن يأخذ لنفسه حذرها ويظل بمنأى عن منال المطرقة التي أحس بوقعها منذ حين، وأبان عن رغبته في المقاتلة عن بعد برمي السهام، فدك نصله الطويل في الرمال بعيدا عن ساحة الوغى، وشد بقوة قوسا قصيرة كانت إلى ظهره، ثم ركض بجواده ودار به دورتين أو ثلاثا أوسع مدى من دوراته السالفة، وفي خلالها أطلق النشاب ستا على المسيحي بمهارة لا تخطئ، ولولا زي متين يقي به المسيحي نفسه ما كان له أن ينجو من جراح ستة من طعن السهام، ثم أطلق العربي سهما سابعا فصادف من لباس العدو مكانا كان أقل من غيره صلابة، فسقط المسيحي سقطة شديدة من فوق الجواد. ولشد ما كانت دهشة العربي حينما نزل يتفرس حال صريعه فألفى نفسه على حين غرة في قبضة ذلك الأوروبي، الذي ما لجأ إلى تلك الحيلة إلا لكي يأتي بعدوه تحت مناله؛ ولكن العربي، وهو في هذه القبضة المميتة، استطاع أن ينجو بخفته وسرعة خاطره، فخلص نطاق سيفه من قبضة فارس النمر وأفلت من تلك اليد القاضية، وامتطى جواده الذي كان يرقب حركاته بذكاء كذكاء الإنسان، ثم انصرف؛ ولكنه فقد في هذه المعركة الأخيرة سيفه وجعبة سهامه، وكلاهما معلق بنطاقه الذي اضطر أن يخلفه وراءه، وفقد كذلك عمامته أثناء النضال، فرغبت هذه الخسارة هذا الرجل المسلم في المهادنة، فقارب المسيحي ومد إليه يمناه مسالما لا متهددا.
Bilinmeyen sayfa
وباللغة الفرنجية التي كانت تستخدم عادة للتفاهم مع الصليبيين قال العربي: «إن بين أمتينا هدنة عن القتال، فلماذا ينشب بيني وبينك النضال، هلا عقدنا بيننا صلحا؟»
فأجاب فارس النمر الرابض وقال: «لقد رضيت، ولكن كيف تكفل لي رعايتك للهدنة حقها ؟»
فأجاب الأمير وقال: «نحن أتباع النبي لا نحنث في العهود؛ إنما ينبغي لي أنا، أيها النصراني الشجاع، أن أطلب إليك الضمان، غير أني أعترف أن الخيانة والشجاعة قلما يجتمعان.»
فأحس الصليبي حينئذ بأن ثقة المسلم فيه قد أخجلته من الشكوك التي ساورته.
وأمسك بمقبض سيفه وقال: «وحق هذا الصليب لأكونن لك رفيقا مخلصا أيها العربي ما كتب علينا أن نبقى متلازمين.»
فأجاب عدوه قائلا: «أقسم بمحمد رسول الله وبرب محمد أن ليس لك في قلبي خيانة، فهلم بنا إلى تلك العين، فوقت الراحة قد وجب، وما كاد الماء يمس شفتي حتى اضطررت أن أنازلك حينما اقتربت.»
فأجاب فارس النمر الرابض توا بالرضا والقبول، وسار العدوان جنبا إلى جنب، قاصدين مكان النخيل، لا يبدو عليهما غضب، ولا تلمس فيهما أثرا من شك.
الفصل الثاني
كثيرا ما تتخلل الأزمان العصيبة فترات يسود فيها الأمن وتصفو فيها النفوس. ولقد كانت الحال كذلك بنوع خاص في عهود الأقطاع القديمة حينما كان السائد بين الناس أن الحرب يجب أن تكون للبشرية شغلها الشاغل وعملها المجيد، فكان لفترات الصلح أو الهدنة لذة دونها أي لذة، يستمتع بها على قلتها المحاربون في تلك العصور؛ بل إن الظروف عينها إذ ذاك، التي كانت تجعل هذه الفترات عرضا زائلا، كانت تحببها إلى النفوس؛ وكان البطل يرى أن من بذل الوقت في غير طائل أن يكن في قلبه ضغينة لعدوه - وقد التقى به في القتال يوما، وقد يلتقي به في معركة حامية الوطيس في صبيحة اليوم التالي - وكان الرجال يعرفون أن في عهدهم، وفي ظروفهم، مجالا تنفجر فيه عواطفهم الملتهبة، فكانوا يستمتعون بكل ما أوتوا من قوة، بصحبة بعضهم بعضا في الفترات القصيرة التي كانت تتيح لهم أن يتحادثوا آمنين، على قدر ما تسمح لهم تلك الأوقات العصيبة، اللهم إلا إذا احتدم النزاع بين الرجل وعدوه، أو أثارت نفسيهما ذكرى إحن خاصة لا تتعلق بغيرهما.
وكان يفل من حدة الفروق الدينية، بل والعصبية الشديدة، التي كانت تستفز أتباع الصليب وأتباع الهلال على السواء، شعور سام، هو من طبيعة أمثال هؤلاء المحاربين، شعور كانت تلهبه وتقويه روح الفروسية حينذاك؛ وهذا الدافع القوي أخذ يمتد أثره شيئا فشيئا من المسيحيين إلى أعدائهم الألداء من العرب من أهل إسبانيا أو فلسطين، ولم يعد عرب فلسطين، كما كانوا من قبل، أولئك المتوحشين المتهوسين الذين هبوا من وسط صحراء العرب بالقرآن في اليمين، والسيف في اليسار، يعرضون الإسلام أو القتال، أو الجزية والرق، على كل من تحدثه نفسه أن يقف في وجه دين محمد نبي مكة؛
Bilinmeyen sayfa
1
وقد عرضوا ذلك على أهل الشام وأهل اليونان، وهم قوم غير محاربين؛ ولكنهم حينما التحموا بمسيحيي الغرب - الذين كانت قلوبهم تشتعل حماسة للدين، لا تقل عن حماسة العرب أنفسهم، والذين يتصفون بالإقدام والشجاعة التي لا تقهر، والذين إذا طعنوا أصابوا - أخذوا عنهم شيئا من أخلاقهم، وحذوا حذوهم خاصة في تقاليد الفروسية الكريمة التي كانت متأصلة في النفوس تأصلا استهوى عقول أولئك القوم الغزاة الشامخين؛ وهذا فضلا عن أن العرب كان لهم سجالهم، وكانت لهم ألعابهم في عرض الفروسية، بل وكان منهم «الفوارس» أو ما يشبههم في علو المرتبة، وكانوا إلى ذلك يراعون حدود دينهم مراعاة يخجل من دقتها أناس كأهل الغرب، لا يخلون بالهدنة إذا عقدوها بينهم وبين أمة غير أمتهم، أو بين بعضهم وبعض؛ وهكذا كانت الحرب - على أنها ربما كانت في ذاتها أعظم الشرور - تهيئ الفرصة لإظهار روح الإخلاص، وكرم الخلق والرأفة، بل وتبادل الود بين القلوب، مما لا يتوفر في فترات الهدوء، حينما تكمن في الصدور زمنا إحن الرجال الذين لاقوا المهانة، أو اشتبكوا في نزاع لم ينحسم في حينه وبلغ بهم نكد الطالع أن وقعوا فريسة لتلك الإحن.
أحس المسيحي والعربي بهذه العواطف الرقيقة التي تخفف من وطأة الحروب، وانطلقا بعدما سعى كل منهما جهده كي يقضي على أخيه، وسارا راكبين بخطى وئيدة نحو العين التي ينبت حولها النخيل، والتي كان يقصدها فارس النمر الرابض حينما باغته في مسيره ذلك العدو، الذي جاءه مسارعا والشرر يتطاير من عينيه، واسترسل كلاهما زمنا، كل في تأملاته، يتنفس الصعداء بعد نضال كاد أن يقضي على أحدهما أو كليهما؛ وكأن جواديهما لم يكونا أقل منهما استمتاعا بذلك الهدوء الذي ساد بينهما. أما جواد العربي فلم تبد عليه علامات الإعياء كما بدت على جواد الفارس الأوروبي، رغم أنه أجهد بالحركة إجهادا أوسع مدى وأشد عنفا، وتصبب العرق من أضلع جواد الفارس الغربي، بينما كان جواد العربي الكريم قد جف عرقه أثناء مسيره في تلك الفترة الهادئة، ولم يبق منه إلا أثر ضئيل كان يبدو على عنانه وعدته؛ وكانت الأرض التي وطئها الجوادان لينة، فازداد جواد المسيحي شقاء على شقاء؛ إذ إنه كان يئن تحت عبء عدته الثقيلة وعبء راكبه؛ فاضطر الفارس أن يقفز من فوقه ويقوده في تلك الأرض المتربة التي يغطيها الغرين، والتي أحرقتها الشمس فصيرتها أشد لينا من أدق الرمال؛ وهكذا استرد الجواد نشاطه على حساب صاحبه، لأن الفارس، لكثرة ما عليه من لبس الحديد، كان يتعثر في حذائه الصلب في كل خطوة، وهو يمشي فوق تلك الأرض الرقيقة التي لا تحتمل المقاومة.
ومذ انعقدت الهدنة بين العربي والمسيحي لم ينبس أحدهما ببنت شفة حتى قال العربي لصاحبه: «نعم ما فعلت، فإن جوادك القوي يستحق منك العناية، ولكن ماذا أنت فاعل به في الصحراء وهو يسيخ بأقدامه في كل خطوة، كأنه يريد أن يغرسها في باطن الأرض كجذور النخيل؟»
فأجاب الفارس المسيحي، وهو غير مطمئن إلى نغمة السخرية التي تحدث بها العربي عن جواده المحبوب، وقال: «حقا ما قلت أيها العربي، ولقد أصبت بمقدار ما لديك من علم وملاحظة، ولكن اعلم أن جوادي هذا قد حملني قبل اليوم في بلادي فوق بحيرة لا تقل سعة عن تلك التي خلفناها وراءنا، ومع ذلك، فلم تبتل منه شعرة واحدة فوق حوافره.»
فنظر إليه العربي مبديا شيئا من الدهشة على قدر ما يسمح به تأدبه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة خفيفة لم تكد تهز شاربه الكثيف العريض الذي كان يغطي شفته العليا؛ ولكنه سرعان ما استرد نظرة الجد التي لم تفارقه، ثم قال: «حقا ما قيل، إذا أصخت إلى الفرنجي لم تسمع إلا هراء.»
فأجاب الصليبي: «ليس هذا من حسن الذوق في شيء أيها المنافق، أفترتاب في كلمة ينطق بها فارس نال مرتبة الشرف؟ تالله لولا أنك تصدر عن جهل لا عن سوء طوية، لكانت هذه الآونة آخر ما بيننا من مهادنة، ولما يمض عليها إلا أمد قصير؛ أفتظن أنني أكذبك إذ أقول لك إنني أحد خمسمائة فارس مدججين بالسلاح؛ قطعت بجوادي الفراسخ فوق ماء كالبلور صلابة، ولكنه أقل من البلور هشاشة عشر مرات؟»
فأجاب المسلم قائلا: «ماذا تقول؟ إن ذلك البحر الداخلي الذي تشير إليه له خصيصة عجيبة، وذلك أن الله قد صب عليه جام غضبه، فهو لا يحتمل جسما يغيض في موجه، إنما يقذفه بعيدا ويرمي به على شطآنه؛ ومع ذلك فإن هذا البحر الميت عينه، بل والمحيطات السبعة التي تحوط الأرض، لا تحتمل وقع أقدام الخيل على سطحها أكثر مما احتمل البحر الأحمر مسير فرعون وجنوده.»
فأجاب الفارس المسيحي: «هذا هو الحق فيما تعلم أيها العربي؛ ولكن صدقني، إنني لا أحدثك حديث خرافة؛ في مناخكم هذا تتحول الأرض بفعل الحرارة إلى شيء كالماء غير مستقر؛ أما في بلادنا فالبرودة كثيرا ما تحول الماء إلى جسم كالصخر في صلابته؛ ولكن دعنا من هذا، فإن ذكر البحار في الشتاء، بهدوئها وصفائها ونقاء زرقتها، ليزايد من مفازع هذه الصحراء الحارة، حيث يخيل لي أن الهواء الذي نستنشقه إن هو إلا بخار يتصاعد من أتون، ماؤه يغلي كالحميم.»
فالتفت العربي حينئذ إلى صاحبه متنبها، وكأنه يريد أن يستوضحه ما يعني من قوله هذا، الذي ما إخال إلا أنه قد نزل من نفسه منزل السر الغامض أو الخداع؛ ولكنه اطمأن أخيرا إلى كلام رفيقه وعرف كيف يتلقاه فقال: «إنك من قوم يحبون الضحك، تتحدثون بالمستحيل وبما لم يقع في الحسبان، مازحين مع بعضكم بعضا أو مع غيركم؛ أنت أحد فرسان فرنسا الذين يتبارون في الخيال وأعمال الجن لاهين لاعبين، ولقد أخطأت يا صديقي إذ عارضتك في حديثك، فإن الزهو بالباطل أقرب إلى طبيعة نفسك من رواية الحق.»
Bilinmeyen sayfa
فأجاب الفارس وقال: «إني من بلاد غير هذه البلاد، ومن قوم غير هؤلاء الذين يزهون - كما تقول - بما لا يستطيعون، أو بما لا يتقنون إذا استطاعوا، ولكنني، أيها العربي الجسور، فيما قلت لك، كنت أحذو حذوهم في المزاح، وأظنني ما كنت في عينيك إلا رجلا دعيا وأنا أحدثك بحديث لا تستطيع أن تدركه، حتى حينما كنت أنطق عن صدق وسذاجة، ولذا فلندعها تذهب.»
وفي تلك الآونة بلغ صاحبانا مكان النخيل، وبدت العين فوارة يتألق ماؤها الغزير تحت ظليهما.
ويذكر القارئ أننا تحدثنا عن برهة سادت فيها الهدنة وسط القتال؛ وكذلك كان هذا الموضع الذي بلغاه مكانا جميلا وسط صحراء مجدبة، عزيزا على النفس كالهدنة، ولم يكن المكان ليستوقف النظر لو أنه كان في غير ذلك الموضع، ولكنه كان هنا محلا فريدا في فضاء لا يبلغ مداه البصر، يمد المسافر بالظل الظليل والماء النمير، وهما من نعم الله، لا يقدرهما المرء حق قدرهما إن توفرا، ولكنهما هنا قد أحالا العين وما جاورها جنة صغيرة من جنان الخلد. وقبل أن تبدأ أيام فلسطين المظلمة في التاريخ، امتدت يد محسنة كريمة إلى تلك العين فأقامت حولها سياجا، وفوقها سقيفة، كي لا تبتلعها الأرض، أو يغطيها التراب، الذي يثور في سحب متدافعة تنطلق في مسيرها، كلما هبت نسمة من ريح، فتغطي سطح الصحراء؛ أما السقيفة فكانت إذ ذاك محطمة؛ وقد تهشم جانب منها، ولكنها كانت مع ذلك تظلل العين وتحمي مياهها من وهج الشمس، حتى إن الماء ليبدو هادئا مطمئنا يسر العين والخاطر؛ لا يمسه شعاع من شمس، بينما كان كل ما حوله متألقا وهاجا. وانسل صاحبانا من تحت السقيفة فقابلا أول ما قابلا إناء من المرمر شائه الوجه، ولكنه يجذب النظر، لأنه يدل بهيئته تلك على أن المكان كان في قديم الزمان محطا، وأن يد الإنسان قد لعبت هناك ، وأن المرء كان - ولو إلى حد - يرعى لنفسه حقها من الراحة والإيواء؛ وكان المسافر العربي يلهث من الإعياء والعطش، فلما رأى تلك الأمارات، تذكر أن هناك غيره من الناس ممن تعرضوا لمثل ما تعرض له من مشاق فأووا حيث أوى، ولا شك في أنهم خلصوا بأنفسهم آمنين إلى حيث الخصب والنماء؛ وكان يتسرب من الإناء تيار خفيف من الماء، يكاد يحتجب عن الرائي، ويغذي تلك الأشجار القليلة التي كانت تحوط العين، وإذا ما غاص ذلك التيار تحت الثرى واختفى عن البصر، دل على وجوده بساط من سندس أخضر يسر الناظرين.
في هذا المكان اليانع حط المحاربان رحالهما، ثم أخذ كل منهما - على نهجه الخاص - يخلص جواده من عبء السرج والعنان وطرف الزمام، ويهيئ له السبيل إلى الشراب من الإناء، قبل أن يرتوي من العين التي كانت تتفجر تحت القباء، ثم خليا سبيل جواديهما، وكأنهما على يقين أنهما لن يبعدا عن هذا الماء الصافي وذلك العشب الأخضر لحاجتهما إليهما، ولما عهدا فيهما من طباع مستأنسة.
ثم جلس العربي والمسيحي فوق العشب، وأخرج كل منهما زاده الضئيل الذي كان يحمله ليتبلغ به، ولكنهما قبل أن يشرعا في تناول هذا الطعام الزهيد، تبادلا النظر بطلعة أثارها في نفسيهما ذلك الشجار الذي نشب بينهما منذ حين، وملأ قلبيهما شكا وريبة؛ وكان كل منهما يود لو يستطيع أن يسبر غور غريمه المروع، ويقدر خلقه ولو إلى حد، وقد اضطر كل منهما أن يقر بأنه لو سقط مغلوبا في ذلك النضال لكان ذلك بيد كريمة شريفة.
وكان الفارسان على طرفي نقيض في شخصيهما وملامحهما، وكلاهما يصلح مثالا دقيقا لأمته. كان الفرنجي رجلا قويا كالقوط الأقدمين في هيئته، شعره أحمر اللون أدكنه، بدا لما رفع خوذته عن رأسه مجعدا كثيفا غزيرا، وقد لفحت وجهه حرارة الشمس فصيرته أشد سمرة من بعض رقبته التي لم تتعرض للفحة الشمس، وما تنم عنه عيناه الزرقاوان المنفرجتان ولون شعره وشاربه الذي كان يظلل شفته العليا، ولم تكن له لحية على مثال النورمان، أنفه إغريقي جميل الصورة، وثغره واسع الانفراج يكشف عن أسنان ناصعة البياض، متينة جميلة الترتيب، له رأس صغير يرتكز فوق رقبته في أنفة وعظمة، لا يزيد عن الثلاثين في عمره، ولكنك إذا حسبت للعناء والجد حسابهما، علمت أنه قد ينقص عن ذلك ثلاث سنوات أو أربع، طويل القامة، قوي البنية كأنه من هواة الرياضة البدنية، يشبه أن يكون رجلا قد تقدمت به السن فلم يعد له سلطان على قوته، بعد أن كانت تلك القوة ممزوجة بالخفة والنشاط؛ خلع القفاز الحديدي فإذا يدان طويلتان بيضاوان في تناسق جميل، وإذا عظام معصميه قوية كبيرة، وذراعاه مفتولتا العضلات جميلتا التكوين، يتميز في كلامه وحركاته بعنف حربي واستهتار وصراحة في التعبير، في صوته رنة الآمر لا ذلة الخاضع، وكأنه تعود أن يعبر عن عواطفه بصوت مرتفع وبأس شديد كلما اقتضت الضرورة أن يفصح عنها.
أما الأمير العربي فكان على نقيض هذا الصليبي الغربي؛ قامته فوق متوسط الرجال، ولكنه كان أقصر من الفارس الأوروبي بما لا يقل عن ثلاث بوصات؛ إذ كان الأخير يقرب أن يكون عملاقا؛ أطرافه دقيقة، ويداه وذراعاه طويلة رقيقة، تتسق حجما وجسمه، وتتناسب وطلعته، ولكنها لا تدل لأول وهلة على القوة والليونة اللتين أظهرهما الأمير قبل ذلك بقليل؛ ولكنك إن أمعنت في النظر، رأيت ما بدا من أطرافه خفيفا لا يكسوه لحم، وكأنه لم يبق منه إلا عظام وعضل مفتول وعروق؛ رجل كأن الله قد أعده بهيئته هذه للعناء والإجهاد، ليس البتة بالفارس البدين تتعادل قوته وحجمه مع وزنه وقد أنهكه الإعياء؛ وكان هذا العربي بطبيعة الحال يشبه في طلعته إجمالا قبائل الشرق التي هو من أبنائها، وما كان أبعده عن تلك المبالغات التي كان يرددها المغنون في ذلك العهد في وصف فرسان العرب؛ وعن تلك الصورة الخيالية التي ما زال الفن الشقيق
2
يعرضها على اللوحات على أنها تمثل رأس العربي. كان دقيق الملامح، جميل التكوين، رقيقا، تعلوه سمرة شديدة من أثر شمس الشرق المحرقة، له لحية مرسلة سوداء متموجة الشعر، عني بتشذيب أطرافها، وأنف مستو مستقيم، وعينان حادتان، سوداوان براقتان؛ وأسنانه تنافس في جمالها وبياضها عاج الصحراء؛ وقصارى الوصف، كان العربي وهو يتمطى بجسمه فوق العشب، إذا قيس بمنازله القوي البنية، كمهنده البراق ذي الشكل الهلالي والحد الضيق الرقيق، اللامع الدمشقي الباتر، إذا قورن بالسيف الطويل القوطي الثقيل، الذي خلعه صاحبه وألقاه فوق الأديم. وكان الأمير في زهرة العمر، ولولا ضيق جبهته، ورقة ملامحه وحدتها - أو لعلها كانت كذلك من حيث تقدير الأوروبيين للجمال - لعد آية في الجمال.
كان المحارب الشرقي في معاملته جادا متعاليا شديد المراعاة للتقاليد، يدل بسلوكه من بعض النواحي على ما فطر عليه أولئك القوم - الذين عرفوا بحدة المزاج وحرارته - من حرص يستمسكون به كي يقوا أنفسهم ما جبلوا عليه من حدة الطبع، كما يدل على إحساسه بكرامة كانت تضطر صاحبها إلى أن يرتبط في مسلكه ببعض القيود.
Bilinmeyen sayfa
هذا الشعور السامي بعلو النفس كان يحس به كذلك زميله الأوروبي، ولكنه كان يختلف عنه في مسلكه، فبينما كان هذا الإحساس يملي على الفارس المسيحي الجرأة والإقدام، بل وعدم الاكتراث، وكأنه لفرط إحساسه بعلو مكانته لا يأبه برأي غير رأيه، كان يرسم للعربي نوعا من المجاملة يجعله شديد المراعاة لآداب المعاشرة. نعم لقد كان كل منهما يجامل الآخر، ولكن مجاملة المسيحي كانت تصدر عن روح التفكه الظريف بما يجب عليه نحو غيره، بينما كان المسلم في مجاملته يصدر عن إحساس قوي بما كان غيره يرتقب منه.
وتبلغ الرجلان بطعام خفيف؛ ولكن طعام العربي كان جد زهيد، فحفنة من تمر، ولقمة من خبز الشعير الخشن كانت تكفي لأن تسد رمق جوعه، إذ إنه نشأ على تقشف الصحراء، وذلك رغم أن بساطة العيش العربي كثيرا ما غلب عليها، مذ فتح سوريا، البذخ الوافر الذي ليس له حد؛ ثم اختتم وجبته بقطرات قليلة من ماء العين الجميلة التي أوى وصاحبه إليها. أما طعام المسيحي فكان شهيا رغم خشونته، وكان أهم ما يتألف منه لحم الخنزير المقدد، الذي يحرمه المسلمون على أنفسهم، ثم أخرج قنينة من الجلد وصب منها شرابا خيرا من الماء الصافي، وهكذا أخذ يتناول طعامه بنفس مقبلة، ويستقي وعليه أمارات الرضا، ولا كذلك العربي الذي كان يرى أن ليس من اللياقة أن يتظاهر المرء وهو يقضي حاجة من حاجات الجسم الدنيئة؛ ولا ريب أن كلا منهما كان في دخيلة نفسه يهزأ من زميله كيف يتبع دينا باطلا؛ وزاد من هذا الشعور ذلك الفارق الكبير بين مسلكيهما وطعاميهما؛ لكن اثنيهما قد أحسا كل بثقل ذراع صاحبه، فكان من أثر ذلك النضال العنيف الذي نشب بينهما أن يتبادلا التقدير وأخفيا كل اعتبار دونه، ولكن العربي مع ذلك لم يسعه إلا أن يشير بكلمة إلى ما لم يرقه من خلق المسيحي ومسلكه، وبعد أن تطلع مدة - دون أن ينبس ببنت شفة - إلى شهية الفارس القوية التي مدت من وجبته طويلا بعد أن فرغ هو من طعامه، وجه إليه الخطاب وقال: «أيها النصراني الجسور! هل يليق بالمرء يقاتل كالرجال أن يكون حين تناول الطعام كالكلاب أو الذئاب؟ والله إني لأظن أنه حتى اليهودي الكافر ليقشعر بدنه إذا رآك وأنت تأكل بشهية كأنك تتناول من ثمر أشجار الجنة.»
فالتفت المسيحي متعجبا من تلك التهمة التي ألقيت عليه دون أن يترقبها، ثم قال: «أيها العربي الجسور! اعلم أني إنما أستمتع بالحرية المسيحية، وأن لي أن آتي ما لم يستطعه اليهود الذين يرزحون تحت نير ملة موسى البالية. ولتعلم أيها العربي أننا نخضع لشريعة سامية؛ حياك الله يا مريم! إنا لله شاكرون!» واختتم حديثه بعبارة لاتينية قصيرة، ثم احتسى جرعة كبيرة من القنينة الجلدية كأنه يتحدى ما يساور زميله من وسواس.
فقال العربي: «أفهذا أيضا في اعتبارك جزء من حريتك؟ إنك إذ تطعم كالوحوش الضواري، وإذ تحتسي هذا الشراب السام، الذي تأباه البهائم، إنما تهبط بنفسك إلى حضيض الحيوان.»
فأجاب المسيحي دون تردد: «اعلم أيها العربي الغافل أنك إنما تلعن ما أسبغ الله علينا من نعم. إن عصير العنب حلال لمن كان حكيما في تناوله ، فهو ينعش القلب بعد عناء العمل، ويرطب فؤاد المرء في مرضه، ويخفف عنه وطأة الحزن. من يستمتع بالخمر يحمد ربه على الكأس كما يحمده على قوت يومه، ومن يدمن في الشراب فليس في إدمانه بأقل منك غفلة في تحريمك الخمر.»
وأدرك العربي هذه السخرية فتطاير الشرر من عينيه، وامتدت يده إلى مقبض خنجره، ولكنه لم يكن إلا خاطرا طارئا، لم يلبث أن هدأ ثائره لما ذكر قوة منازله حينما بطش به، واستوثق منه في قبضته، ولم يبق له من أمل في الحياة، تلك القبضة التي لم يزل أثرها ينبض في أطرافه وعروقه، فاكتفى العربي - إذ استعاد ذلك إلى ذاكرته - بأن يواصل النزاع شفاها؛ فإن ذلك آمن له في ذلك الحين.
فقال: «والله أيها النصراني إن كلماتك هذه لتبعث الغضب، لولا أنك بجهالتك تستثير الرحمة؛ أفلا ترى - وكيف ترى وأنت أشد عمى من أولئك الذين يقفون بأبواب المساجد يسألون الصدقات - أن هذه الحرية التي تفخر بها لم تمتد إلى بيتك وإلى أنفس ما في سعادة الإنسان، فإن شريعتكم - إذا اتبعتموها - فرضت على الرجل منكم أن لا ينكح غير زوجة واحدة، يرتبط بها في صحتها وفي مرضها، ولودا كانت أو عاقرا، وسواء فاضت على مأكله ومبيته بالدعة والسرور أو بالمنازعة والشحناء؛ تالله إن هذا أيها النصراني إلا الرق عينه. انظر إلى دين المسلمين؛ لقد جاء النبي للمؤمنين في الأرض بملة أبينا إبراهيم القديمة وملة سليمان أحكم بني الإنسان فأحل لنا في الدنيا تعدد النساء الجميلات كيفما شئنا، ووعدنا في الآخرة بالحور العين.»
فأجاب المسيحي وقال: «والذي أقدس في السماء فوق كل شيء، وبالتي أعبد في الأرض أكثر من كل شيء، إن أنت إلا كافر عميت بصيرته وضل هداه؛ انظر إلى جوهرة هذا الخاتم الذي تلبس في إصبعك؛ ألا تظن أن قيمتها تفوق كل تقدير؟»
فأجاب العربي: «أجل، وليس في البصرة أو بغداد ما يشبهها، ولكن ما شأن هذه الجوهرة وما نحن فيه؟»
فأجاب الفرنجي: «شأنها كبير، وستشهد بذلك أنت نفسك الآن. خذ فأسي هذه وهشم هذا الحجر الكريم إلى عشرين شظية، ثم خبرني إن كنت تظن أن لكل شظية وحدها ما كان للجوهرة بأسرها من قيمة، أو أن الشظايا كلها مجتمعة لها عشر ما كان لها من ثمن؟»
Bilinmeyen sayfa
فقال العربي: «هذا سؤال صبياني. إن جزيئات هذا الحجر لن تعادل عشر معشار الجوهر سليما».
فأجاب الفارس المسيحي: «كذلك، أيها العربي، الحب الذي يحمله الفارس الحق لامرأة واحدة جميلة مخلصة، هو كهذه اللؤلؤة سليمة، أما الحب الذي توزعه بين أزواجك اللائي تستعبدهن، وإمائك اللائي تنظر إليهن كأنصاف أزواج، فما هو إلا بمثابة تلك الشظايا المتفرقة من هذا الجوهر الحر.»
فقال الأمير: «ورب الكعبة المقدسة إنك لمجنون، لا تفرق بين الذهب والحديد، أمعن في النظر تجد أن هذه الجوهرة الكبرى وسط تلك اللآلئ الزرية هي التي تكسب الخاتم جلاله وتعطيه قيمته، ولولاها لما كان له نصف جماله؛ هذا الجوهر الأوسط هو الرجل في عزمه وكماله، لا يستمد قيمته إلا من نفسه، وأما هذه الحلقة من الجواهر الدنيا فهي النساء تستمد بريقها من بريقه، يرسله عليهن كما يشاء ويهوى؛ انزع الحجر الأوسط من الخاتم يبق له قدره ويهبط ما دونه من اللآلئ في قيمته؛ وإنما هكذا يجب أن تفهم التشبيه الذي أتيت به. ولقد قال المنصور الشاعر ما معناه: «إنما جمال المرأة ورقتها من فضل الرجل، فلولا ضياء الشمس ما تألق في البحار ماء.»
فأجاب الصليبي قائلا: «أيها العربي، إنك إنما تتكلم كرجل لم يقع بصره يوما على امرأة جديرة بحب أبناء الحروب، صدقني أنك لو شهدت بنات أوروبا - اللائي لهن علينا بعد الله حق الإخلاص والولاء - لما بقي في قلبك ذرة من حب لهاتيك الشهويات المسكينات اللائي يتألف منهن «حريمك». إن جمال نسائنا يدبب حرابنا ويحد سيوفنا؛ كلمتهن لنا شريعة؛ وكما أن المصباح لا ينير إذا انطفأ لهيبه، فكذلك الفارس إذا برز في القتال ولم تكن له فتاة يوليها حبه.»
قال الأمير: «لقد نما إلي هذا الخبل الذي يعتور فرسان الغرب، وكنت دائما أعده عرضا من أعراض ذلك الجنون الذي يدفعكم إلى هذه البلاد كي تستولوا على قبر أجوف، ولكني - مع ذلك - مع فرط ما سمعت من الفرنجة الذين التقيت بهم من الثناء يكيلونه كيلا على نسائهم، أود لو رأيت بعيني رأسي أولئك الساحرات الفاتنات اللائي يجعلن من هؤلاء المحاربين أدوات لما يردن، كي تطمئن نفسي ويرضى فؤادي.»
فأجاب الفارس: «أيها العربي الجسور، والله لولا أني أقصد الحج إلى القبر المقدس لكان فخرا لي أن أقودك آمنا إلى مخيم رتشارد ملك إنجلترا، الذي يعرف أكثر من كل من عداه كيف يعامل بالحسنى عدوا كريما؛ وإنك قد تراني مسكينا لا تكلؤني عين برعاية، ولكني مع ذلك قمين بأن أكفل لك، ولأمثالك، كل أمن وتقدير وإجلال. هنالك ترى كثيرا من آيات الجمال الفرنسي والإنجليزي مجتمعات في حلقة صغيرة، يشع منها نور يفوق في بريقه ولمعانه المناجم المترعة بمثل تلك اللآلئ التي تملك عشرة آلاف مرة.»
فقال العربي: «وركن الكعبة، لو أنك بقيت على عهدك لألبين دعوتك طائعا، كما وهبتنيها طائعا، وصدقني، أيها النصراني الجسور، لقد كان خيرا لك أن تيمم جوادك شطر مخيم قومك، فإن مسيرك إلى بيت المقدس بغير جواز إن هو إلا تعريض بحياتك لا مبرر له.»
فأخرج الفارس ورقة ثم قال: «ها هو ذا جوازي عليه توقيع من صلاح الدين بيده وخاتمه.»
فعرف العربي خاتم سلطان مصر وسوريا وخط يده، ذلك الحاكم الذي طبق صيته الآفاق، فانحنى برأسه نحو الأرض، ثم لثم الورقة بكل تبجيل، ومس بها جبينه، ثم ردها إلى المسيحي قائلا: «أيها الفرنجي، لقد اندفعت في تصرفك وأسأت إلى دمي ودمك، إذ لم تطلعني على هذه الورقة حينما التقينا.»
فقال الفارس: «لقد آتيتني رافعا سنانك، ولو أن ثلة من جنود الأعراب هاجمتني لكان من شرف النفس أن أظهر جواز السلطان، أما وأنت رجل واحد فقد أبت كرامتي ذلك.»
Bilinmeyen sayfa
فأجاب العربي بكبرياء وعظمة وقال: «ولكن رجلا واحدا قد استطاع أن يعترض سبيلك.»
فأجاب المسيحي: «صدقت أيها المسلم الجريء، ولكن كم من الناس كمثلك ؟ إن البزاة لا تطير في الأسراب، وإذا أقبلت سربا لن تنقض جماعة على واحد مفرد.»
ولا ريب أن العربي قد سر من هذا الثناء، بعد أن كان قد انجرح في عزته حينما كان الأوروبي يفخر بنفسه ويحقر من شأن صاحبه تلميحا، ثم قال: «هذا صواب وعدل، وما كان لي أن أسيء إليك؛ إنني كنت مجدودا حقا إذ لم أصبك بضربتي وشخصك في حمى ملك الملوك، ولو أنني جندلتك لحقت علي النقمة جزاء هذا الجرم، ولأصابني حد السيف.»
فقال الفارس: «يسرني أن أسمع أن الأمر قد انتهى بما ينفعني، فلقد بلغني أن الطريق موبوءة بالكثير من قطاعها الذين لا يترددون في السلب إذا تهيأت لهم فرصته.»
قال العربي: «لقد صدقتك فيما خبرتك به، أيها المسيحي الجسور، ولكني أقسم لك بالنبي الكريم أنك لو سقطت في أيدي هؤلاء الأشرار لأخذت على نفسي الانتقام لك بخمسة آلاف جواد، ولقتلتهم جميعا وأرسلت نساءهم أسيرات إلى مكان ناء، ولن تسمع لتلك القبيلة بعد ذلك اسما يذكر في حدود خمسمائة فرسخ حول دمشق، ولنشرت الموت في جذور بلادهم فلن ترى فيها كائنا حيا من بعد.»
فأجاب الفارس قائلا: «أيها الأمير النبيل، ليت هذه المشقة التي تأخذها على نفسك كانت في سبيل الانتقام لشخص آخر أعلى مني مكانة، إنما أنا أمري بيد الله، إن أراد بي خيرا فخير، وإن أراد بي شرا فشر، وإنني لمدين لك حقا لهدايتك إياي الطريق إلى مكان أستريح فيه هذا المساء.»
فقال العربي: «ستجد راحتك في خباء أبي تحت قبائه الأسود.»
فأجاب المسيحي: «إنما ينبغي لي أن أقضي هذا المساء مصليا مستغفرا مع رجل قديس اسمه تيودوريك «بعين جدة» يسكن هذا القفر ويقضي العمر في عبادة الله.»
فقال العربي: «لا أقل من أن أبلغك هذا المكان آمنا.»
فأجاب المسيحي: «نعم الحارس، ولكن ألا تدري أنه قد يكون في ذلك خطر على ذلك الأب الطيب في مستقبل سلامته، فكم من مرة امتدت فيها أيدي قومك القساة إلى أتباع السيد المسيح، وتلطخت بدمائهم، ولذا فنحن لا نقصد هذه البلاد إلا مسلحين بالسيوف والحراب كي نفتح الطريق إلى القبر المقدس، ونحمي القديسين الأخيار والرهبان الذين يقطنون هذه الأرض، أرض الأمل والمعجزات.»
Bilinmeyen sayfa