وكأن الفارس المتنكر قد وقع بصره على الرسالة عفوا إذ ذاك، فحدق فيها معتذرا بها عن إطالة بقائه، فاختطفت الفتاة الرسالة، وقالت بلهجة التهكم والازدراء: «أجل لقد نسيت؛ إن العبد الطائع ينتظر ردا على رسالته - ما هذا - أهي رسالة من السلطان!»
وتصفحت فحوى الرسالة على عجل، وكانت مكتوبة بالعربية والفرنسية، وما إن فرغت من قراءتها حتى ضحكت ضحك الغضب المرير.
ثم قالت: «إن هذا لفوق ما يبلغ الخيال، ما أظن أن هناك مشعوذا يستطيع أن يرينا مثل هذه الألاعيب الحاذقة! قد يستطيع بحيلته أن يحيل نقد تركيا وبيزنطة إلى نقد هولندا وإسبانيا، ولكنه لا يستطيع بفنه أن يقلب الفارس المسيحي - الذي كان أبدا موضع التقدير بين أشجع الشجعان في الحرب الصليبية المقدسة - إلى عبد يلثم الأديم للسلطان المشرك، وإلى رجل يحمل الخطبة من مسلم وقح إلى فتاة مسيحية، كلا بل وينسى قواعد الفروسية الشريفة وقواعد الدين! ولكن ماذا عسى أن يجدي الحديث مع عبد مخلص لكلب مشرك؟ قل لمولاك، حينما يحل بسوطه عقدة لسانك، ما رأيتني أفعل.» وما إن أتمت حديثها حتى رمت برسالة السلطان فوق الأرض، وداستها بقدميها ثم قالت: «وقل له إن أديث بلانتاجنت تزدري ولاء مسلم لم يعتنق دين المسيح.»
وأوشكت بعد هذه الكلمات أن تنطلق من الفارس، ولكنه جثا لدى قدميها، وهو يعاني مرارة الألم، ثم استجمع جرأته، ووضع يده على ثوبها معترضا رحيلها عنه.
فقالت: وقد التفتت إليه التفاتة يسيرة، وتكلمت بلهجة التأكيد «أفلم تسمع ما قلت لك أيها العبد الغبي؟ قل للسلطان المنافق مولاك إني أزدري خطبته، كما أحتقر انكباب رجل زري خرج على الدين والفروسية؛ ارتد عن الله وعن حبيبة قلبه!»
وما إن فرغت من كلامها حتى فصلت عنه وتمزق ثوبها من قبضته، ثم خلفت الفسطاط.
وآنئذ علا صوت نفيل من الخارج يستدعي صاحبه، فخرج الفارس البائس وتبع البارون الإنجليزي، وهو يتعثر في مشيته منهوكا مسترخيا من المحنة التي كابد عناءها خلال المقابلة التي ما خلص منها إلا بعد أن حنث في العهد الذي أخذ على نفسه أمام الملك رتشارد، وهكذا سار الرجلان معا حتى بلغا السرادق الملكي، وكانت أمامه جماعة من الخيالة نزلت عن ظهور الجياد، وكان داخل الفسطاط ضياء وحركة. ولما دخل نفيل وتابعه المتنكر ألفيا الملك وكثيرا من النبلاء مشتغلين بالترحيب بالقادمين.
الفصل السادس والعشرون
«لأذرفن الدمع دهر الداهرين،
فإني ما أبكي عاشقا غائبا؛
Bilinmeyen sayfa